بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

التعذيب بين محاكم التفتيش والإجهاض الأمني



التعذيب بين محاكم التفتيش .. والإجهاض الأمني .

د.عصمت سيف الدولة .

 حوالي عام 1000 بعد الميلاد امتد الى غرب أوروبا مذهب في الديانة المسيحية وافد بعضه من الشرق متأثرا بالديانة السائدة هناك ، ووافد بعضه من الأندلس متأثرا بالفلسفة العقلانية السائدة . من أهم مقولات ذلك المذهب أنه كان يشكك في صحة أغلب ما جاء من قصص في العهد القديم ( التوراة ) وينكر ألوهية السيد المسيح ويعتبره رسولا روحانيا الى البشر يهديهم الى سبيل الخلاص ولا يخلصهم بنفسه . وبالتالي ينكر قصة عذاب المسيح وصلبه . وظل هذا المذهب ينتشر عن طريق الدعوة والتبشير والحوار والإقناع ، وظلت الكنيسة الكاثوليكية تحاربه بالدعوة والتبشير والحوار والإقناع أيضا . كان الطرفان يأخذان بالقاعدة التي كان قد أرساها أحد الرموز التاريخية القديس كلارفو وهي :" يجب أن يكون الإيمان ثمرة الإعتقاد ولا يجوز أن يفرض بالقوة . إن التغلب على الهرقطة يكون عن طريق الحوار وليس عن طريق السلاح ".

وقد أدى التزام قاعدة التسامح الديني هذه الى أن أصبح للمذهب الجديد كنيسة ذات رئاسة مستقلة انتشرت فروعها في غرب أوربا . وكان مركز نشاطها في مقاطعة " ألبى " بفرنسا ، التي يبدو أن سكانها جميعا قد تحولوا الى المذهب الجديد . الى أن تولى عرش  الكنيسة الكاثوليكية في روما البابا انوسنت الثالث . وكان قد أصبح من تقاليد النشاط البابوي حشد الرعايا تحت قيادة الملوك والأمراء لشن حروب يقال لها " صليبية "  بينما هي لم تكن الا تنفيذا مستمرا لأمر البابا أربان الثاني الذي جمع أمراء الإقطاع وقال لهم:" ان الأرض التي تقيمون عليها لا تكاد تنتج ما يكفى لغذاء الفلاحين وهذا هو سبب اقتتالكم فانطلقوا الى الأماكن المقدسة وهناك ستكون ممالك الشرق جميعا بين أيديكم " . هكذا بدأت الحروب المسماة صليبية واستمرت نحو قرن ( 1096 ـ 1192 ) حتى أدركت البابا انوسنت الثالث أو حتى أدركها . فجهز حملة اسميت " صليبية " أيضا ولكن ضد المسيحيين . لم تتجه الى الشرق بل اتجهت الى منطقة " ألبى " في فرنسا وهناك أبادت السكان رجالا ونساء وأطفالا وقتلت حتى الحيوانات بتهمة " الهرطقة " ومن يومها اشتق اسم " جريمة إبادة الشعوب " البيجنز من اسم " ألبى " .

في ظل ذلك التاريخ الدموي وبمناسبته ابتكرت وسيلتان لقهر الناس مازالتا مستعملتين تحت أسماء أخرى في العصر الحديث وخاصة في بلاد العالم الثالث ومنها مصر .

2 ـ الوسيلة الأولى اقتحام ضمائر الناس أو التسلل اليها لمعرفة أفكارهم وأحلامهم وآمالهم ونواياهم التي لا يعرفون عنها عادة الا من يثقون فيه ثقة خاصة . وكثيرا ما يكون مجرد التعبير عنها كافيا لإرضائهم وجبر آلامهم عن طريق التفتيش عنها فلا يحولون نواياهم الى أفعال اكتفاء بعزاء التعبير عنها . فابتكر البابا انوسنت الثالث هذه الوسيلة للتجسس على ما في الضمائر والكشف عما تكنه الصدور والاطلاع على أسرار البشر باستغلال طقوس " الاعتراف " المعروفة في الدين المسيحي . حيث يفضي المؤمن الى أحد رجال الدين بهمومه وما يقلقه وما يكون قد ارتكبه من ذنوب أو ما يريد ارتكابه . فيتلقى منه الرأي والنصيحة والهداية . محرم تماما على من يتلقى الاعتراف افشاءه ، ولكن البابا انوسنت الثالث أفتى بأن اسرار الاعتراف محرم افشاؤها لغير الكنيسة لأن الاعتراف يكون للكنيسة ذاتها ممثلة في أحد رجالها . ثم طلب الى رجاله التابعين له أن يوافوه بتقارير منتظمة عما يتلقونه من اعترافات يشتبه في أن تكون ذات صلة بالهرطقة ، وحتى لا يكف الناس عن طقوس الاعتراف أصدر أمرا بابويا بأن على كل مؤمن أن " يعترف " مرة على الأقل كل عام . وأصبحت الاعترافات طريقا الى محاكم التفتيش .

 الوسيلة الثانية هي ما يعرف في التاريخ باسم " محاكم التفتيش " . لا تتميز محاكم التفتيش بما عرف عنها واشتهرت به من انتزاع الاعترافات من المتهمين بأكثر السبل وحشية ، بل تتميز أساسا بأنها محاكمة على النوايا والأفكار المختلسة عن طريق التجسس قبل أن يقع أي فعل خارجي من قول أو تصرف يكون دليلا على أن أصحاب النوايا والأفكار قد نفذوها أو بدأوا في تنفيذها . ولما كانت " الجريمة " أفكارا أو نوايا لم يكتب لها التنفيذ ، وقد يكون صاحبها قد عدل عنها ، لا يكون أمام القائمين على تجميع الأدلة إلا أن يحصلوا من المتهم نفسه على إقرار يؤكد ما ينسبونه إليه . فإذا لم يكن يعرف شيئا مما ينسبونه إليه فهو " مقاوح وعنيد " وأسهل الطرق للتعامل معه أن يلقنوه ما يجب أن يعترف به ، وأن يحفظه ويردده كما هو أمام المحكمة . ومن هنا جاء اسم " التفتيش " كإجراء للتعامل مع المتهمين . فأصلها اللاتيني يعني "البحث في الداخل " . البحث في داخل الإنسان عن أدلة اتهامه . وإذ تكون الإدانة أو البراءة متوقفة على " الإعتراف " لانعدام أي دليل آخر ، يصبح التعذيب إجراء ضروريا لانتزاعه وإلا انهارت " القضية ".

نريد أن نقول أن التعذيب من أجل الحصول على اعتراف المتهم ليس تعبيرا عن نزعة إجرامية متأصلة فيمن يقومون به ، ولا هو انتقام لعداوة شخصية . بينهم وبين المتهمين ، ولكنه ضرورة تفرضها نظرية خاصة في التجريم والتحقيق والعقاب هي تجريم النوايا ، وإثباتها بالإقرار ، والعقاب عليها قبل أن يقع أي فعل خارجي يجسد تلك النوايا ويضعها موضع التنفيذ . هذه النظرية ، نظرية محاكم التفتيش هي التي يطلق عليها الآن " الإجهاض الأمني " ، أدخلها في مصر وتفاخر بها وزير الداخلية السابق النبوي إسماعيل وما يزال دفاعه عنها مسجلا في مضابط مجلس الشعب وقال تبريرا لها أكثر من مرة ما معناه أنه ليس مطلوبا من أجهزة الأمن أن تظل ساكنة إلى أن يبدأ المتهمين في تنفيذ ما انتووه من نشاط  بل على أجهزة الأمن أن تحول بينهم وبين " البدء في التنفيذ " بأن تتهمهم بما كانوا ينتوون ارتكابه وتقدمهم إلي سلطة التحقيق مصحوبين بالدليل عن اعترافاتهم بنواياهم ، وقد قيل مرة ـ أكثر من مرة ـ بصيغة أرق من صيغة النبوي  أن في ذلك حماية للمتهمين أنفسهم ، وهم شباب عادة ، من أن يصلوا الى بداية التنفيذ ومخاطره الجسيمة عليهم … يا سلام !! . 

4 ـ وقد بلغ تأثير الإجهاض حدا أخذ ينعكس بصورة متزايدة في تحقيقات النيابة نفسها ، فالأصل في القانون أنه لا يجوز الأمر بالقبض على أي إنسان إلا من أجل تحقيق مفتوح في جريمة محددة مسندة إليه يتعين أن يواجه بها وبأدلتها . وقد كان العمل يجرى ـ وما يزال يجرى في أغلب النيابات ـ على أنه حين يتقدم رجال الأمن ببلاغاتهم التي تبدأ دائما بقولهم " دلت التحريات ومصادر المعلومات المؤكدة على أن فلان …….. " تحقق النيابة هذا البلاغ أولا بأن تسأل مقدم البلاغ من رجال الأمن عن مصادره ومعلوماته وما يؤكدها وتطلب منه أن يدلل عليها ـ فإذا وجدت النيابة أن في هذا التحقيق ما يصلح دليلا على اتهام الشخص المعني استدعته ، فإذا لم يحضر أمرت بالقبض عليه وحققت معه وواجهته بما هو مسند إليه فإما أن يقر به أو ينفيه تماما . . 

هذا هو الأصل . ولكن حدث مرة أن قضت محكمة النقض بأن يجوز صدور أمر القبض بناء على التحريات " إذا " اقتنع وكيل النيابة المحقق بأنها تنطوي على دلائل حيوية . فإنها والسياج الذي كان يحول دون القبض على الناس قبل تحقيق ما هو منسوب إليهم . وانفتح تقدير بعض النيابات وثيقة الصلة بالأمن لتأثيرات نظرية الإجهاض . وهكذا نرى أن جميع أوامر القبض التي تصدرها نيابة أمن الدولة مثلا تصدر بتأشيرة على البلاغ المقدم إليها من مباحث أمن الدولة وبدون أن تسأل مبلغه عن مصدر معلوماته والأدلة على جديتها ودون أن تواجه بها المتهم قبل أن تقبض عليه . وبهذا أصبح ميسورا لنظرية الإجهاض أن توضع موضع التنفيذ الفعلي بالقبض على الناس من  أجل نواياهم وقبل أن يرتكبوا أي فعل خارجي ، ثم الحصول على ما يريدون من اعترافات من الإنسان المعزول في زنزانته المذهول ـ ربما ـ لأنه لا يعرف لماذا انتزع من أسرته أو لماذا انتزعت حريته .

   ولما كان المقصود من التعذيب هو الحصول على أدلة وليس مجرد التشفي أو الانتقام أو إرضاء نزعات إجرامية فقد يستغني عن اعتراف متهم " سلبي " لا يجدي فيه التعذيب ، أو غائب  بتزوير محاضر التحريات التي يحررها رجال الأمن بأن ينسبوا الى أحد غير الشخص المقصود أنه يعرف أن المتهم قد فعل كذا وكذا أو ينوى أن يفعله . أي يحولون بعض الأفراد الى شهود بدون تعذيب اكتفاء بالتزوير . في إحدى الجنايات المنظورة حاليا كانت " النية " متجهة الى اتهام بعض الجماعات بأحداث متوقعة . فما إن بدأت تلك الأحداث حتى راح بعض ضباط الأمن يحررون محاضر سماع أقوال بعض المصابين وينسبون الى كل منهم أن الذي أصابه أو الذين أصابوه هم من أفراد تلك الجماعات ، ثم " يوقع على المحضر " بعدها بأسبوع تقريبا عرضت تلك المحاضر على النيابة لإعادة سؤال المصابين فإذا بهم يؤكدون أنهم لم يسألوا أصلا ولم يقولوا ما هو ثابت في المحاضر . أغرب من هذا أن وكيل النيابة المحقق قد سأل ثمانية من بينهم أن يوقعوا على أقوالهم أمامه ثم أثبت في محضره أن قد تبين أنهم أميون لا يقرأون ولا يكتبون " ويبصم " كل منهم على محضر النيابة بصمة لا تمت بصلة الى التوقيع بالخط الجميل على محاضر البوليس ، وكانت فضيحة أمام القضاء .

 هل يسمح القانون بالتعذيب أو التزوير أو القبض على الناس من أجل منع وقوع الجرائم أو إجهاضها كما يقولون ؟.. أبدا . فقد انقضت منذ قرون طويلة عهود محاكم التفتيش ، ولم تعد النوايا مما يعاقب عليه بل حتى لو تجاوز الشخص حدود النية وأخذ يحضر ويعد الأدوات اللازمة لارتكاب جريمة ثم توقف لا عقاب عليه . هذا ما تنص عليه المادة 45 من قانون العقوبات عندنا إذ تقول :" الشروع هو البدء في تنفيذ فعل بقصد ارتكاب جناية أو جنحة " ثم تضيف " لا يعتبر شروعا في الجناية أو الجنحة مجرد العزم على ارتكابها ولا الأعمال التحضيرية لذلك ".
  
أما عن دور رجال الأمن فسلطة تعرضهم لحريات البشر وحرمات المنازل مستمدة من أنهم من " مأموري الضبط القضائي " . وليس لهم أن يمارسوا تلك السلطة إلا في أحوال التلبس بالجنايات والجنح " ( المادة 34 إجراءات ) ، والجناية أو الجنحة لا تكون متلبسا بها إلا " حال ارتكابها أو عقب ارتكابها ببرهة يسيرة "( المادة 30 إجراءات ) . أما البحث عن الجرائم ومرتكبيها وجمع الاستدلالات ( أي التحريات ) فهي سلطة مقصورة على ما " يلزم للتحقيق في الدعوى " كما يقول القانون بصريح العبارة في المادة 21 إجراءات ، أي لا بد أن يكون ثمة تحقيق قائم في فعل يشك في أنه جريمة أو جريمة لا يعرف فاعلها .. ومن هنا نعرف أن كل تلك السلطات في التحري والتجسس وتجميع المعلومات قبل أن يقع أي فعل يمكن أن يكون جريمة لا علاقة له بالقانون . إنما علاقته بنظرية "الإجهاض الأمني " . لا يسمح القانون لرجال الأمن بالتعرض لحريات البشر وحرمات المنازل إلا في حالة واحدة : الدفاع عن المواطنين ضد خطر داهم يهدد أنفسهم أو أموالهم بشرط أن يكون ذلك الخطر غير مشروع أي الاستجابة إلي الاستغاثة . كل ماعدا ذلك غير مباح لهم ولا يدخل في سلطانهم .

7ـ ومع ذلك ، أو بالرغم من ذلك ، فإن كل هذا يكاد يجرى مجرى العادة المعترف بها  بدون إنكار وبقليل من الاستنكار . ول قليلا من الاستنكار بالرغم من المحاولات الجادة التي تقوم بها الصحف في بعض الأوقات ، والمحامون في كثير من الأوقات دفاعا عن بعض المواطنين الذين يتعرضون للتعذيب . ولكني لا أستطيع أن أنكر أن كل هذه الجهود تبذل وتملأ الدنيا استنكارا ـ بحق ـ حيث تصل " نظرية الإجهاض " إلى المساس بالمثقفين أو الساسة أو النشطين في حقل العمل العام . ولكننا نحن أبناء الفلاحين نعرف معرفة اليقين أن الحبس غير المشروع والتعذيب المجنون والاهانات البالغة والإذلال القاسي يرتكب كل يوم بل ربما كل ساعة في نقط الشرطة ومراكزها حيث يكون ضحاياه من أفراد "الشعب " الذين لا يثير الإعتداء عليهم انتباه الصحف ومنابر السياسة. ويعلم الاستاذ ممتاز نصار ( ونحن بلديات ) كما يعلم كثير من أعضاء مجلس الشعب الحالي من أبناء الريف طريقة إجهاض حمل السلاح بدون ترخيص وما يحدث من مآس قريبة الشبه بأيام محاكم التفتيش ، فيفترض رجالا الأمن هناك في الصعيد أن كل صعيدي لا بد أن يكون محرزا أسلحة غير مرخصة أو ينوى أن يحرزها عندما يتيسر الحال ، فتوزع على ممثلي الأسر والعائلات قوائم بأنواع الأسلحة " المطلوب ضبطها " من أفراد كل عائلة أو أسرة ، ويعطوا مهلة نحو أسبوع لتقديمها . . ويتم هذا وديا بدون مناقشة ، ولكن الوعد يتلاشى اذا لم تستطع أية أسرة أن تقدم ما طلب منها ، حينئذ تخرج من مقابر التاريخ كل الوسائل الوحشية التي عرفتها محاكم التفتيش ، ولقد قدمت عن ذلك عدة طلبات إحاطة أو ربما استجوابات .. لا أذكر تماما ـ ولكن كل الصعايدة يعرفونها على أي حال ـ أما ما الذي تحققه فهو ليس عقابا على النوايا ، ولكن تحريم مجرد التفكير في إحراز أسلحة .

 المهم على أي حال أن ندرك ان ساسة أمنية شاملة ، قائمة على نظرية " الإجهاض " تعبر عن ذاتها في ارتكاب جرائم كثيرة من بينها جريمة التعذيب بقصد الحيلولة دون ارتكاب أية أفعال متوقعة أو متوهمة بالتدخل الايجابي لاكتشاف النوايا والأفكار وتطبيق الإجراءات التي وضعها القانون لمواجهة جرائم وقعت أو بُدئ في تنفيذها على أصحاب تلك النوايا والأفكار ، وأن هذه النظرية أو السياسة تجعل مسألة التعذيب وخلافه ضرورية لإكمال ما ينقص الجرائم من أدلة .

ضرورية لمن ؟..

للضباط الذين يقومون بالتعذيب وخلافه وينتزعون الاعترافات ويزورون الأدلة . والواقع أن هؤلاء الضباط ضحايا نظرية الإجهاض وسياستها الأمنية . فهم جميعا من صغار الضباط خريجي كلية الشرطة بع أن أضيف إلي منهاج الدراسة فيها القانون وإجراءاته . وهم جميعا يعلمون علم اليقين أن التعذيب جناية ، وأن التزوير جناية . هذا من ناحية ومن ناحية أخرى لا يمكن أن يسند إليهم عقلا أن بينهم وبين المواطنين ثارات قديمة أو حديثة . كما لا يمكن أن يسند اليهم أن لهم عند المتهمين أو عند غير غيرهم مصالح خاصة يريدون الوصول اليها . بل أنهم جميعا يعلمون أن هذا الذي يرتكبونه يفسد التحقيقات ويفتح في القضايا ثغرات ينفذ منها الدفاع وتنفذ منها العدالة الى حيث تهدر كل جهودهم التي بذلوها ويحكم بالبراءة ولو كانت الاعترافات صحيحة . ذلك لأن الإعتراف ولو كان صحيحا لا يؤخذ به أمام القضاء مادام قد تم الحصول عليه بطريقة غير مشروعة .

ولسنا نستطيع أن نصدق أن أولئك الضباط يقامرون بمستقبلهم ويعانون عذاب ضمائرهم على ما ترتكب أيديهم إلا أن يكونوا مكرهين من ناحية وضامنين عدم المسئولية من ناحية أخرى ، ومكلفون "بالإجهاض" من ناحية ثالثة . من الذي يكرههم ومن الذي يضمن عدم مسئوليتهم ومن الذي يحميهم ومن الذي يكلفهم " بالاجهاض " ؟.. أصحاب نظرية الإجهاض الأمني الذين اتخذوها سياسة أمنية يجهرون بها ويفاخرون .

من هنا نستطيع أن نقول أن ما أعلنه السيد وزير الداخلية من إنكار لوقائع التعذيب قد يكون محدود بعلمه الخاص . أي نستطيع أن نصدق أنه لم يأمر بتعذيب أحد من المحتجزين في السجون ، ولم يبلغه أحد بحدوث هذا التعذيب ، ولم يطلع على تقارير الطب الشرعي ، ولم يحقق في أسباب انتقال بعض المتهمين من السجون الى المستشفيات ولم يلتفت الى دلالة ما قاله الاستاذ المحامى العام المترافع في إحدى الجنايات المنظورة من أن التعذيب قد يكون راجعا الى " غضب " رجال الأمن ما لاقاه زملاؤهم ، فليكن . وما كتبنا كل هذا إلا لنوضح البديهية التي تقول أن بين السبب ونتائجه علاقة حتمية وأن " نظرية الإجهاض " التي يعلن سيادته تمسكه بها كسياسة لإدارة الأمن في مصر ، تؤدى حتما الى ارتكاب جرائم التعذيب وخلافه مما يشكو منه الناس وسواء أمر سيادته أو علم بهذه الجرائم أو لم يأمر ولم يعلم ، وبالتالي فإنه عليه أن يتخلى عن هذه النظرية وسياستها ، ويبقى في حدود ما يسمح به القانون من نظريات وسياسات ، ولن يكون مسئولا عن أية نتيجة لا ترضيه ويكون سببها قصور في القانون . حينئذ لن يشكو أحد من التعذيب لأنه لن يقع تعذيب لأن القانون لا يسمح به وليس ضباط الشرطة مرضى بالسادية التي يجعل صاحبها يتلذذ بتعذيب الناس .

وقد أضيف مالا بد لوزير الداخلية أن يعلمه علم اليقين . أعني النتائج التي أسفر عنها هذا الأسلوب : أسلوب التحريات والمعلومات والمصادر والسجلات .. ما عليه إن لم يكن يعلم إلا أن يطلب إحصائية بعدد الذين ألغت ضدهم مباحث أمن الدولة في الخمس سنوات الأخيرة وقبض عليهم ، وعدد الذين أفرجت النيابة عنهم  بعد حبسهم والتحقيق معهم لعدم صحة التحريات ، وعدد الذين حكمت المحاكم ببراءتهم لعدم صحة الوقائع فسيرى أن كل الجهود التي يبذلها جهاز مباحث أمن الدولة تسفر عما يقارب الصفر بعد أن يكون الناس قد قضوا في السجون أشهر طويلة أو قصيرة . ولقد عن لي يوما أن أقدم هذا الإحصاء الى محكمة الجنايات التي كانت تنظر إحدى القضايا الكبرى عام 1980 . قدمتها عن السنين من 1974 الى 1977 عن الاتهام بجريمة تنظيم غير مشروع . وقد تبين أن المبلغ ضدهم وقبض عليهم 698 وأن الذين قدموا الى المحاكمة منهم 194 والذين حكم القضاء ببراءتهم 504 أي بنسبة 72% في عشر قضايا متتابعة . من بينها قضايا كانت نسبة الحكم بالبراءة 100% بعد أن قضى أصحابها أشهرا طويلة في زنازين السجون بناء على بلاغات إدارة مباحث أمن الدولة . فلم يكن غريبا أن تصدر المحكمة حكما ببراءة 148 متهما من 176 وتقول بصريح العبارة " ان تحريات مباحث أمن الدولة لا ترقى حتى الى مستوى القرائن ولا يعتد بها "..

أليس هذا سببا كافيا لإعادة النظر في سياسة إدارة الأمن والتخلص من نظرية الإجهاض المسيطرة عليها ، ما فائدة التعذيب والإكراه وغيره إذا كان القضاء يبطل أقوالهم إذا كان الحصول عليها قد تم عن طريق الغش أو الإكراه ، ولو كان الإكراه لم يزد عن أن يكون " بتهديد المتهم بالضرب ( وليس ضربه فعلا ) أمر بالقبض على زوجته أو والدته أو على أي شخص عزيز عليه أو بحرمانه من الطعام والسجاير أو قص شاربه أو البصق في وجهه أو طلاء وجهه أو جسمه بطلاء أو الإمساك بملابسه بشدة وتمزيقها أو دفعه بالقوة أو حرمانه من الاتصال بأهله أو وضعه في زنزانة مظلمة بمفرده لعدة أيام قبل التحقيق ".. كما يقول القضاء وشرّاح القانون ؟..

ما جدوى هذه القسوة إذا كانت النتيجة براءة المتهم بسبب تعرضه لها وقد لا يكون لأي سبب آخر . إلا إذا كان المقصود هو " معاقبة " بعض الناس بالحبس والسجن والضرب تحت غطاء اتهام معلوم مقدما أن المحاكم لن تعاقبه عليه . إنه إذن اغتصاب لسلطة القضاء لأنهم حكم ينفذ قبل أن يصدر من سلطته الدستورية .

بقى أن نعترف نحن بأنه بالرغم من ثبوت التعذيب على أجساد ضحاياه وبالرغم من ثبوت التزوير في المحاضر ، فإن أحدا من الذين ارتكبوه لا يقدم الى المحاكمة ، أو يعاقب ، وقد حيرتني مدة طويلة معرفة السبب في هذا . ما الذي يمنع المحكمة حين يبطل الاعتراف للتعذيب أن ترفع الدعوى العمومية على من قام به وتأمر بالقبض عليه وهي سلطة مخولة لها في القانون . ما الذي يمنع رجل النيابة المحقق حين يرى بين أيديه محضرا رسميا مزورا تزويرا فاضحا أن يأمر بضبط محرره ويتخذ ضده الإجراءات التي يأخذها عادة ضد بقية خلق الله من غير ضباط الشرطة . أعتقد أن السبب هو جسامة العقوبة . فما يعتبر جريمة ضرب عادية عقوبتها الحبس والغرامة تصبح جناية عقوبتها الأشغال الشاقة . وعقوبة تزوير الأوراق الرسمية الأشغال الشاقة أيضا . فما أن تظهر واقعة مسندة الى أحد الضباط حتى تتداعى إنسانيا صورة هذا الضابط الشاب "المأمور" ومصيره بالغ التعاسة فيما لو اتخذت ضده الإجراءات القانونية . فيسانده أشخاص كثيرون من زملائه ورؤسائه ومرؤوسيه لحمايته من المصير التعس . وليس هذا غريبا ، فكل العاملين في حقل الأمن أو القضاء أو المحاماة يعرفون أنه منذ تشديد عقوبة جلب المخدرات الى حد الإعدام كثرت أحكام البراءة .

على أي حال هذه قضية أخرى تتصل بسياسة التجريم وليس بسياسة الأمن . الذي يشغلنا ويشغل الناس الآن ، ولا بد أن يشغل السيد وزير الداخلية هو أن نتائج سياسة الإجهاض قد أثبتت فشلها أمنيا وأساءت حتى الى أجهزة الأمن وأنه لا بد من العدول عنها ليسود القانون .
والله الموفق ……

28/9/1983 .






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق