بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

نظرية الثورة العربية : الاسلوب .

pdf



الاسلوب .


66 ـ مشكلة الاسلوب :  

قد لايختلف اثنان من التقدميين في الوطن العربي على الغاية التي انتهينا اليها : دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية . ولكنهما يختلفان ، ويختلف كثير غيرهم ، في الاجابة على السؤال : كيف تتحقق ؟ وهذه هي ” الثغرة القاتلة ” تفتك بأمل الشعب العربي في إقامة دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية وتبقيها شعاراً من كلمات مرصوصة تتعثر خطوات الذين يريدون أن يحققوه في الواقع العربي لأنهم لا يتفقون على كيف ” يتحقق . وهي ثغرة قاتلة على المستوى الفكري وعلى مستوى الممارسة كليهما .
فعلى المستوى الفكري نجد في الوطن العربي ” أساتذة ” في فلسفة الحرية ، وأساتذة في النظريات القومية ، وأساتذة فيالمذاهب الاشتراكية ، يستطيع كل منهم ـ وقد استطاعوا فعلاً ـ أن يكسبوا ” لدولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية ” ـ كغاية ـ قبول أعرض الجماهير العربية الواعية . واستطاعوا ـ فعلاً ـ أن يملأوا المكتبة العربية الى حد التخمة بدراسات عن التحرر وعن القومية وعن الاشتراكية برروا بها دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية بكل حجة ، وأكدوا ضرورتها بكل منطق . واستطاعوا ـ فعلاً ـ أن فرضوا في مواجهة أي شعار آخر سيادة الشعار المثلث الذي يرمز الى دولة دولة المستقبل . فهو يتردد في كل مكان من الوطن العربي ، وترفعه قوى كثيرة من الشعب العربي . ومع هذا أو بالرغم من هذا ، فليس في الفكر القومي دراسات كافية أو وافية تجيب على السؤال : كيف تقوم دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية في الوطن العربي .
وقد عرفنا مصدر هذه الثغرة القاتلة عند حديثنا عن الخطر الحقيقي لأزمة ” المنهج ” في الفكر القومي وقلنا أنهيتمثل فيما يسببه القصور في الفكر القومي من اضطراب داخل الحركة القومية ذاتها . حيث تؤدي غيبة المنهج في الفكر القومي التقدمي الى عجزه عن توحيد القوى العريضة التي تتبناه وترفع شعاراته وتتحرك على هديه . فنرى الناس ، أغلب الناس ان لم نقل كلهم تقريباً متفقين على ان غايتهم الحرية والوحدة والاشتراكية او أياً ما كان ترتيب الكلمات ما دامت تعني معاً اقامة دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية في الوطن العربي . فإذا ما تحاوروا مع غيرهم ، أو فيما بينهم ، نرى الكلمات الواحدة وقد أصبحت ذات دلالات مختلفة . فلا يتفقون على مفهوم الحرية ولا على الطريق اليها . ولا يتفقون على الطريق الى الوحدة ولا على بنائها الدستوري . ولا يتفقون على مضمون موحد للاشتراكية ولا على كيفية بنائها في الوطن العربي . ولا يعنون ـ حتى مجرد عناية ـ بالاتفاق على فهم واحد لتلك المشكلة بالغة الخطر والخطورة ونعني بها مشكلة الديموقراطية . ثم ، وهذا أخطر ما في الأمر ، لا يتفقون على العلاقة بين الحرية والوحدة والاشتراكية ، لا على المستوى الفكري ولا على المستوى التطبيقي . كل هذا وهم يتحركون في اتجاه الحرية والوحدة والاشتراكية كما يفهمها كل فريق منهم فإذا بهم عاجزون عن ان يلتقوا في قوة مناضلة واحدة أو حتى على أن يجنبوا قواهم الصدام والصراع فيما بينهم لأن غيبة المنهج في الفكر القومي التقدمي الذي يرفعون ـ جميعاً ـ شعاراته تحول دون أن يلتقوا على نظرية قومية تقدمية واحدة يحتكمون اليها فعلاً يختلفون فلا يبقى إلا ان يحتكم كل فريق الىنظريته ” الخاصة ويحاكم بها رفاقه . فنرى القوميين التقدميين في الوطن العربي فرقاً موحدة الغايات موحدة الشعارات ممزقة الصفوف ” (فقرة 16)  .
ان غيبة المنهج اذن هي التي حالت دون أن يستكمل الفكر القومي التقدمي بناءه بنظرية في الاسلوب . لأننا عندما لانعرف كيف وصلنا الى الغايات فكرياً لا نعرف كيف نحققها في الواقع . إذ المنهج هو منطق فهم الواقع والتعامل معه .
أما على مستوى الممارسة فإن مشكلة الاسلوب تكاد تشوه الغايات العظيمة التي يناضل من اجلها الشعب العربي . فتحت شعار الحرية والوحدة والاشتراكية ، أو الحرية والاشتراكية والوحدة ، او الحرية والوحدة والاشتراكية … أو اياً ما كان ترتيب الكلمات ـ وهو ترتيب يفضح الاختلاف في الاسلوب كما سنرى ـ يقدم الشعب العربي منذ عشرين عاماً تضحيات هائلة من وقته وجهده وماله وحياة أبنائه فيثبت بهذا استعداده للبذل في سبيل غاياته ومقدرته الفذة على احتمال متاعب الطريق اليها . ومع هذا ، او بالرغم من هذا ، لا يتقدم الى تلك الغايات بالقدر المتكافيء مع تضحياته . ان المثل الصارخ لهذا هو ما قدمه الشعب العربي من تضحيات حية في معاركه ضد الصهيونية . من قبل سنة 1948 ومنذ سنة      1948 استشهد عشرات الالوف من الشباب العربي وتشرد الملايين بدون ان تتحقق غايتهم العادلة النبيلة . الغاية واضحة والتضحيات بطولية ، مرجع الفشل اذن الى الاسلوب . وفي غير ساحة فلسطين يرى الشعب العربي مأساته اليومية المتكررة في مشكلة الاسلوب . النضال من أجل التحرر باسلوب الاستبداد في المناضلين حتى يكاد الناس يكرهون تلك الحرية التي يتذرع بها المستبدون . النضال من أجل الوحدة باسلوب الاقليمية المستغلة حتى يكاد الناس يكرهون تلك الوحدة التي يفرضها الاقليميون . النضال من اجل الاشتراكية باسلوب القهر الديكتاتوري حتى يكاد الناس يكرهون تلك الاشتراكية التي تفرض عليهم قهر الحاكمين . النضال من اجل دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية باساليب شلل واحزاب لا هي واحدة ولا هي ديموقراطية ولا هي اشتراكية حتى يكاد الناس يكفرون بدولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية .
ويكاد كل هذا ان يؤدي بالشعب العربي الى ردة يائسة عن تلك الغايات العظيمة التي جنى عليها الاسلوب واختلط بها فشوهها . والاسلوب كالقبضة الملوثة تترك بصماتها الشائهة على ما هو نقي فتشوه نقاءه . والشعب العربي معذور . في أن يكره التحرر المختلط بقبضة الاستبداد . وان يكره الوحدة المختلطة بقبضة الاستغلال . وان يكره الاشتراكية المختلطة بقبضة الديكتاتورية . لأن غاية الشعب العربي ـ كأي شعب آخر ـ ان يتحرر من قيود الماضي ليصبح حراً في بناء المستقبل . فما الذي يجنيه من ثمار تضحياته في كسر قيود الاستعمار الخارجي اذا كبل بقيود الاستعمار الداخلي ؟
وماالذي يجنيه من فك حصار الاقليمية اذا حاصر ، الاستغلال في دولة الوحدة ؟ .. وما الذي يجنيه من ثمار تضحياته في تصفية الاقطاع والرأسمالية اذا عادت تقهره وتستغله الديكتاتورية ؟ … لا يجني شيئاً . وعندما نرى الشعب العربي ” لايبالي ” بوعود الحرية من أفواه المستبدين ، ووعود الوحدة من أفواه الاقليميين ووعود الاشتراكية من أفواه دعاة الديكتاتورية ، فلا ينبغي ان نتهم ذكاؤه . انه في لا مبالاته اذكى من الواعدين واذكى من الذين يصدقونهم . انه معذور ولكن الردة خطأ خطر .
خطأ لأن الرد الصحيح على الخطأ هو التصحيح . وإذا كان اسلوب الاستبداد يشوه هدف التحرر فليسقط الاستبداد من أجل التحرر . وإذا كان اسلوب الاقليمية يشوه هدف الوحدة فلتسقط الاقليمية من اجل الوحدة . واذا كان اسلوب الديكتاتورية يشوه هدف الاشتراكية فلتسقط الديكتاتورية من اجل الاشتراكية . ومن يدري . ربما كانت الغاية الخفية لمن يشوهون التحرر بالاستبداد أن يرتد الناس عن الوحدة . ربما كانت الغاية الخفية للديكتاتورية أن يرتد الناس عن الاشتراكية . ربما كانت غاياتهم جميعاً أن ترتد الجماهير عن غاياتها فهم يخلطونها بأساليبهم الرديئة ليرتد الناس عنها لا أكثر . ولعل أعدى أعداء ” الحرية والوحدة والاشتراكية ” هم الذين يرفعون الشعار ليختلطوا بأصحاب المصلحة فيه ثم يدسون عليه أساليبهم ليحولوه الى شعار للفشل . إن العدوان الشرس الذي تشده قوى عاتية ضد الأمة العربية وأساليبها بالغة الخفاء والالتواء في هزيمة هدف الوحدة الديموقراطية الاشتراكية ليثير في أذهاننا هذا الظن وبعض الظن اثم ولكنه ليس اثماً كله . على أي حال فإن الردة ليست خطأ فقط بل هي خطر ذو آثار مدمرة . إذ أن الساحة العربية ليست خالية من القوى التي تريد وتعمل ولا تيأس او ترتد عن فرض سيطرتها على الشعب العربي ومصادرة مستقبله لحسابها . وعندما تتراجع قدم عربية تقدمية عن موقع كسبته لن يبقى الموقع خالياً بل ستحتله قوى معادية متربصة . إن تتراجع عن موقع كسبته على الطريق الى التحرر تحتله القوى الصهيونية والاستعمارية . وان تتراجع عن موقع كسبته على الطريق الى الوحدة تحتله القوى الاقليمية . وان تتراجع عن موقع كسبته على الطريق الى الاشتراكية تحتله القوى الرجعية . والتراجع اشد خطراً من التوقف . التوقف عجز عن التقدم أما التراجع عن الغاية فهو انهزام نسلم به المستقبل العربي الى اعداء الأمة العربية .
ثم لماذا اليأس أو التراجع أو حتى التوقف ؟ . إننا لسنا اول شعب في التاريخ يناضل من أجل تقدمه . وإذا كنا قد فشلنا فمن قبلنا فشلت شعوب كثيرة قبل ان تتعلم كيف تتقدم . وإذا كنا نريد ان ننجح فمن قبلنا نجحت شعوب كثيرة فتقدمت . ثم انه لا حيلة لنا – مثل كل الشعوبفي حتمية التقدم . إن اليأس او التراجع لن ينهي مشكلاتنا الاجتماعية . نحن نهرب وتظل هي قائمة إلى أن تضيق بنا ، أو بأبنائنا ، الحياة في المهرب ، فنضطر أو يضطرون الى العودة لمواجهة ذات المشكلات بعد أن تكون قد أصبحت أكثر تعقيداً . فإذا كنا نفتقد معرفة الاسلوب الذي نتقدم به الى غايتنا العظيمة ، دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية ، فلنضاعف جهودنا لمعرفته . وعندما نعرفه نلتزمه . عندئذ لا نيأس فنرتد ، ولا نعجز فنتوقف ، بل نتقدم أبداً . ولو فعلنا لتبين لنا أن نظرية الاسلوب تكاد تبلغ من فرط بساطتها حد البدهية ، وان كل ما نحن مطالبون به هو ان نقبل التعامل مع القوانين الموضوعية التي تضبط – حتماًحركة الاشياء والظواهر . وهو ما يقتضي – قبل كل شيء – أن نكف عن المحاولات المثالية لفرض أهوائنا على الواقع الموضوعي . وان يكون لنا منهج فنلتزمه .
ولقد عرفنا من قبل أثر غيبة المنهج في الممارسة . وقلنا : ” ان الحساب الختامي لأية مسيرة غير عقائدية خسارة فادحة . وانه ما دامت حركة المجتمعات منضبطة بقوانين حتمية معروفة او تمكن معرفتها ، وان معرفة تلك القوانين وشروط فعاليتها لازمة لامكان تغيير الواقع الاجتماعي ، فإذا كنا قد فشلنا مرة ، ومرة ، ومرات فإن هذا لا يعني أن نصر على التجريب في حياة الناس ، بل يعني أن علينا ان نبذل جهداً اكبر في معرفة كيف نغيّر واقعنا ، وان المصدر الأساسي للفشل لم يكن خطأ في الممارسة وخطأ في القومية أو خطأ في الاشتراكية ولكن مرجعه أن الفهم الليبرالي للقومية لا يعلمنا العلاقة بين الوحدة والاشتراكية فيبقى الموقف القومي من الاشتراكية مفتقداً أساسه الفكري . وان المنهج التجريبي في الاشتراكية لا يعلمنا العلاقة بين الاشتراكية والقومية فيبقى الموقف الاشتراكي من الوحدة مفتقداً أساسه الفكري . وان هذا القصور في النظرية قد سمح بان تختلط بالقوى القومية التقدمية ، داخل الحركة القومية ، قوى رأسمالية متراجعة أو لا قومية متراجعة أو انتهازية ترفع جميعاً شعارات واحدة وتحتفظ كل منها بفهم خاص وتفسير خاص للشعارات الموحدة . فإذا بالحركة القومية المنتفخة بقواها غير قادرة على تحقيق شعاراتها أو حتى على أن تجمع في قوة واحدة جماهيرها العريضة . وان الفشل المتكرر يعني أن ثمة خطأ ما في المسيرة كلها لا يكفي لتصحيحه مجرد الجمع في شعار واحد بين الحرية والوحدة والاشتراكية . فلا بد لنا من نظرية لتغيير الواقع أكثر وضوحاً وأكثر بلورة وأكثر مقدرة على فرز القوى المختلطة في داخل الحركة القومية . نظرية نلتقي بها في قوة واحدة ولوكانت أقل عدداً . ونلتزم فيها بخطة واحدة ولوكانت أطول مدى . وتقود خطانا ولو كانت أبطأ حركة . فإننا حينئذ سنتقدم تقدماً مطرداً بدلاً من ان نقفز الى الأمام لتعود فنقفز الى الخلف و لا نتقدم إلا قليلاً . وان علينا ان نهتدي الى هذه النظرية ولو اقتضى هذا أن نراجع كل ما نعرف عن القومية وكل ما نعرف عن الاشتراكية . وما دمنا نريد أن نغير واقعنا العربي المجزأ سياسياً المتخلف اقتصادياً فلا ينبغي لنا أن نسلم بنظرية في القومية لا تعلمنا كيف نحقق الاشتراكية أو نظرية في الاشتراكية لا تعلمنا كيف نحقق الوحدة . وغذا اقتضى الأمر نبحث في مستوى أعمق من هذا لعلنا نعرف لماذا تفشل تلك النظريات في تعليمنا كيف نغير واقعنا العربي فتفشل مسيرتنا بالرغم مما نبذل من جهد وما نقدم من تضحيات .  واول ما يجب ان نعرفه هو كيف عرف أصحاب تلك النظريات في القومية أو في الاشتراكية أن القومية أو الاشتراكية هي – حقيقة – على الوجه الذي قالوه وتعلمناه منهم . فعلّنا نعرف من حقيقة القومية أو الاشتراكية غير ما يعرفون . أي علينا ان نعرف ونختبر مناهجهم قبل أن نقبل أو نرفض نظرياتهم وقبل أن نمارسها أو نجربها في تغيير الواقع العربي ” ( فقرة 6 )  .
وهكذا كانت غيبة نظرية في الاسلوب على المستوى الفكري وفشل الاسلوب التجريبي على مستوى الممارسة هو الذي حملنا على تلك المراجعة لمنطلقاتنا وغاياتنا وعلى ان نعود فنبدأ من جديد بحثاً عن المنهج . فكأن كل ما قلنا كان بحثاً عن حل لمشكلة الاسلوب . ولقد بدأنا بذلك المنهج بسيط الكلمات ( جدل الانسان ) وحملناه معنا في كل سطر من فقرة وفي كل فقرة من موضوع فحددنا به منطلقاتنا وحددنا به غاياتنا وأجبنا به على كل الاسئلة التي خطرت لنا خلال الحديث . غير ان هذا كله أصبح معلقاً على صحة الاجابة على السؤال الذي يصل الفكر بالواقع وتتحول به الغايات الى حياة : كيف نحقق دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية في الوطن العربي . ولقد أعدنا كل هذا لنعرف أمراً على جانب كبير من الأهمية : ان الاسلوب ليس متروكاً للاجتهاد الفردي في ساحة الممارسة ولكنه جزء من النظرية التي نلتقي عليها ونلتزم بها ونحتكم اليها . وعلى اساس الالتزام بالمنطلقات والغايات والاسلوب معاً تفرز ” القوى ” كل يلتقي على نظريته ويلتزم بها ويعمل على تحقيقها في الواقع باسلوبها . وعندما تفرز ” القوى ” تكون كل واحدة منها أقدر بذاتها على تحقيق غاياتها منها وهي مختلطة بغيرها تحت ستار وحدة الحلول الصحيحة للمشكلات الاجتماعية . وهذا الفرز هو اول خطوة في سبيل حل مشكلة الاسلوب .
كيف ؟

67  ـ لتفرز القوى :

عرفنا منذ بداية الحديث انه ” مهما يكن مضمون التغيير الذي نريد أن نحدثه في الواقع فهو اضافة غير قابلة للتحقق بدون عمل الانسان ” ( فقرة 2 ) . ولن نعرف كيف تحل مشكلة الاسلوب حلاً صحيحاً إذا نسينا لحظة واحدة هذه القاعدة التي ترمز إليها دائماً بشعارها : ” الانسان أولاً ” . أي لن نعرف كيف تحل مشكلة الاسلوب حلاً صحيحاً إلا إذا تحررنا نهائياً من تأثير الفكر المادي الذي يرجع حركة التطور الاجتماعي الى عوامل مادية فيوحي الينا بأن التغييرات المادية تخلق ـ عن طريق الانعكاس ـ البشر على صورتها ، فيخلط بين التغييرات التلقائية في حركة المجتمعات وبين حركة تطويرها من منطلق معين الى غاية محددة بفعل وعي الانسان ومقدرته على العمل ، ثم لما أن طبقنا تلك القاعدة على المجتمعات عرفنا أن ” الناس هم أداة التطور الاجتماعي ولا يتم التطور الاجتماعي إلا إذا ، وبقدر ما ، شارك الناس في طرح المشكلات الاجتماعية ومناقشتها ومحاولة معرفة حلولها الصحيحة والمساهمة في العمل اللازم والمناسب لحلها ” ( فقرة 18  ) .  لقد عرفنا في هذا قانون التطور الاجتماعي ” المعرفة المشتركة بالمشكلات الاجتماعية والرأي المشترك في حلها والعمل المشترك تنفيذاً للحل في الواقع الاجتماعي فتتحقق به اضافة تحل بها المشكلات الاجتماعية وتثور بها مشكلات جديدة فتحل وهكذا ” ( فقرة 18 ) . ولن نعرف كيف تحل مشكلة الاسلوب حلاً صحيحاً اذا نسينا لحظة واحدة هذا القانون الذي نسميه ” الجدل الاجتماعي ” . أي لن نعرف كيف نحل مشكلة الاسلوب حلاً صحيحاً إلا إذا تطهرنا نهائياً من رواسب الفكر الليبرالي الذي علمنا دهراً أنالمبادرات الفردية ” هي أسلوب التطور الاجتماعي اتكالاً على ان مصلحة المجتمع ككل ستتحقق تلقائياً عن طريق تحقيق كل واحد مصلحته ( فقرة 5 )  . ولعل هذه الرواسب الليبرالية هي التي حرمت الفكر القومي التقدمي من دراسات في الاسلوب مساوية أو مقاربة لزحمة الدراسات في القومية وفي الاشتراكية . ذلك لأن لكل ” ليبرالي ” اسلوبه الخاص فهو لايرى ضرورة لدراسة مشكلة اسلوب تحقيق الغايات الاجتماعية ونستطيع أن نقطع بأن تلك الرواسب الليبرالية هي التي تستغني عن التزام اسلوب محدد من قبل بالثقة في ” شطارة ” القادة في حل مشكلات الممارسة . على أي حال فإنه طبقاً لنظريتنا يتم التطور الاجتماعي عن طريق ” النشاط الجماعي المشترك ” ولا يتم إلا عن طريق ” النشاط الجماعي المشترك ” .

مشترك بين من ؟

مشترك بين كل الناس في أي مجتمع . ” إذ لا وجود في المجتمع لما يسمى المشكلات الخاصة ، ان كل المشكلات التي يواجهها أي انسان في حياته هي مشكلات اجتماعية في حقيقتها الموضوعية  ( فقرة 18 ) . فكل انسان في المجتمع شريك في صنع مستقبل مجتمعه . وليست هذه دعوة الى الناس ليشتركوا في حل مشكلاتهم الاجتماعية لأنهم مشاركون فعلاً ولا يستطيعون إلا أن يشاركوا . لأن ” الناس في أي مجتمع بحكم أنهم بشر ( بحكم قانونهم النوعي ) لا يكفون ولا يستطيعون ان يكفوا عن معاناة مشكلاتهم حتى لو لم يعرفوا حقيقتها الاجتماعية . ولا يكفون ولا يستطيعون أن يكفوا عن محاولات اكتشاف حلولها الصحيحة حتى لو كانوا عاجزين عن اكتشافها . ولا يكفون ولا يستطيعون ان يكفوا عن العمل الذهني أو المادي ، الايجابي أو السلبي ، الذي يعتقدون انه يحل مشكلاتهم حتى لو لم يكن هو العمل المناسب لحل تلك المشكلات . اشتراك الناس اذن في محاولات تغيير الواقع الاجتماعي حتمية لا يستطيعون ان يكفوا انفسهم عنها ولا يستطيع أحد ان يكفهم عنها . وإنما المسألة هي ما اذا كان هذا النشاط الذي يقوم به الناس يؤدي الى حل مشكلاتهم فعلاً أم انه يبدد طاقاتهم في محاولات فاشلة لحلها ” ( فقرة 18 )  .

هذه هي المسألة ، وفيها عقدة مشكلة الاسلوب ونظرية حلها معاً . مشاركة الشعب في حل مشكلاته الاجتماعية قائمة ولا يمكن الغائها فكيف يمكن أن تؤدي هذه المشاركة القائمة الى حل المشكلات الاجتماعية فعلاً فلا تهدر طاقات الناس بدون ثمرة يجنونها ؟ .

نحن نعرف انه ” مادام الواقع الاجتماعي محدداً موضوعياً فإن الحل الصحيح لأية مشكلة اجتماعية محدد موضوعياً .. مؤدى هذا ان كل مشكلة اجتماعية لها حقيقة واحدة مهما اختلف فهم الناس فيها وبصرف النظر عن مدى ادراك صاحبها لحقيقتها . وان اية مشكلة اجتماعية ليس لها إلا حل صحيح واحد في واقع اجتماعي معين في وقت معين ” ( فقرة 18 ) . وعندما يتفق ” كل ” الناس على حقيقة المشكلات الاجتماعية وحلولها الصحيحة يكون ” الجدل الاجتماعي ” في أوج فعاليته . ولكنهم ـ في أي مجتمع ـ لايتفقون ، ولا يمكن ان يتفقوا على ” كل ” المشكلات وحلولها الصحيحة . أما انهم لا يتفقون فلأنهم لا يستوون مقدرة على الجدل بالرغم من أنهم جميعاً جدليون . يختلفون في المقدرة على ادراك المشكلات الاجتماعية . ويختلفون في المقدرة على معرفة حلولها الصحيحة . ويختلفون في المقدرة على العمل المناسب لحلها . والذين يدركون المشكلات الاجتماعية قد لا يعرفون حلولها الصحيحة . والذين يعرفون حلولها الصحيحة قد لا يستطيعون تنفيذها في الواقع . ولما كان التناقض الجدلي بين الواقع وارادة الانسان يثور في الانسان نفسه ” فلا ” يستطيع أي انسان ان يستهدف من نشاطه غير التحرر من حاجته كما يعرفها في ذاته ” ( جدل الانسان ) ، فإن كل فرد من الشعب يعي حلول المشكلات الاجتماعية على ضوء وعيه حاجاته ( وعيه مصلحته ) . ولا يستطيع أي انسان أن يفعل غير هذا . وفي الحاجات لا يستوي الناس كما لا يستوون في العلم أو الثقافة أو المقدرة على العمل ، فهم لا يتفقون . اما انهم لا يمكن ان يتفقوا على ” كل ” المشكلات الاجتماعية وحلولها الصحيحة فلآن المشكلات الاجتماعية ليست محدودة ولا ثابتة بل هي متعددة ومتغيرة ومتجددة ابداً ، وما أن تحل مشكلة حتى تثور مشكلة أخرى تحتاج الى وعي جديد وعلم جديد وجهد جديد . ومهما كثرت المشكلات التي يتفق الناس على حلولها في مجتمع معين في وقت معين فإن التطور الذي لا يتوقف يطرح عليهم في كل يوم مشكلات جديدة تكون بينهم محل خلاف الى ان يتفقوا ليختلفوا في مشكلات جديدة … وهكذا . ثم ان حاجات كل انسان هي الاخرى متعددة ومتغيرة ومتجددة فقد يتفق ولو مع واحد على واحدة منها ويتفق مع آخر على واحدة أخرى ويظل مختلفاً معهما على مشكلات من نوع آخر وهكذا .

واضح ان هذا الاختلاف بين الناس يعوق فعالية الجدل الاجتماعي في حل المشكلات التي يختلفون فيها . ولكن الجدل الاجتماعي قانون حتمي يعوق الاختلاف بين الناس فعاليته ولكن لا يلغيه . وفي قلب هذه الاختلافات بين الافراد يفرض الجدل الاجتماعي حتميته على الجدل الفردي ليحوله الى جدل جماعي الى أن يصبح جدلياً اجتماعياً . وتظل حركة التطور في تقدمها منوطة بهذا الانتقال . تزداد سرعة واطراداً كلما انتقل الجدل من مستواه الفردي الى مستواه الاجتماعي . فيلتقي افراد عن طريق المعرفة المشتركة والرأي المشترك والعمل المشترك ، ( أي عن طريق الجدل الاجتماعي فيما بينهم ) ليتحولوا الى ” جماعة ” تتميز وتتعدد تبعاً للمضمون الذي التقت عليه ، ولو كان لقاؤها من أجل تحقيق غاية اجتماعية تبرعاً ( جمعية خيرية ) أو غاية ثقافية ( جمعية علمية ) أو غاية مهنية ( نقابة )  . الخ . أو كان لقاؤها على رأي واحد في مشكلات التطور الاجتماعي وحلولها الصحيحة . انها كلها ” جماعات ” مفرزة ومتميزة بمعرفة موحدة للمشكلات الاجتماعية أو لبعضها ورأي موحد في حلولها الصحيحة ، وعمل موحد في سبيل تنفيذ هذه الحلول في الواقع الاجتماعي . فهي كلها ” قوى جماهيرية ” . جماهير تحولت الى ” قوة ” من خلال العمل الجماعي لتنفيذ غاية مشتركة . هذا بينما يبقى أكثر الأفراد تخلفاً في العلم أو في الثقافة أو في المقدرة على العمل الجماعي عاجزين عن ان يتحولوا الى ” قوة جماهيرية ” . يبقون أفراداً ، يتأملون أو يفكرون أو يكتبون أو يؤدون اعمالهم الفردية . يشاركون في حل المشكلات الاجتماعية باسلوب فردي ما ، فهم يشاركون في حركة التطور الاجتماعي ولكنهم لا يقودونها وان حاولوا قيادتها يفشلون .

كأننا نريد ان نقول ان قيادة حركة التطور الاجتماعي منوطة ” بالقوى الجماهيرية المنظمة ” . لا . نريد أن نقول أكثر من هذا . نريد ان نقول : أولاً ـ ان التطور الاجتماعي يتم عن طريق الجدل الاجتماعي ( الجدل المشترك ) ولا يتم إلا عن هذا الطريق . لا حيلة لأحد في هذا . ثانياً : ان كل الناس في أي مجتمع يشاركون في محاولة التطور الاجتماعي ويختلفون في مواقفهم تبعاً لوعيهم أو علمهم او مقدرتهم على العمل المناسب بالرغم من وحدة الحلول الصحيحة لمشكلات التطور الاجتماعي . لا حيلة لأحد في هذا . ثالثاً : انه عن طريق العلم او عن طريق معاناة الفشل في الممارسة تتاح للناس فرصة الوعي على قوانين التطور الاجتماعي والتزامها . لا حيلة لأحد في هذا . رابعاً : انه بينما يقف أكثر الناس تخلفاً في العلم او الثقافة أو في المقدرة على العمل . سلبيين من الجدل المشترك تتكون ” قوة جماهيرية ” واعية . ان الاختلاف في الرأي لا يعني تعدد الحلول الصحيحة وان النشاط الجماعي المنظم هو اسلوب حل المشكلات الاجتماعية فتلتقي وتعمل معاً من أجل غاية اجتماعية واحدة . لا حيلة لأحد في هذا . خامساً : ان أكثر هذه القوى الجماهيرية وعياً بالحقيقة الاجتماعية للمشكلات الاجتماعية وتاثيرها المتبادل ووحدة حلولها في مجتمع معين تلتقي على رأي واحد في تطوير ” المجتمع ” ككل . سادساً : أن كل هذه القوى الجماهيرية ، اياً كانت غاية نشاطها ، تحاول ان تنفذ في الواقع الاجتماعي ما التقت عليه والتزمت بتنفيذه فهي تؤثر في حركة التطور الاجتماعي . لا حيلة لأحد في هذا أيضاً .

كل هذا قبل ان نقول :

سابعاً : ان تلك القوى الجماهيرية الملتقية على رأي واحد تلتزمه في تطوير المجتمع ” ككل ” هي أقرب القوى الى معرفة الحقيقة الموضوعية لمشكلات التطور ، وأكثرها اتفاقاً مع قانون الجدل الاجتماعي ، وبالتالي اقدرها على قيادة حركة التطور الاجتماعي . لا حيلة لأحد في هذا .

وهي التي يسمونها أحزاباً .

نرجو ان يكون واضحاً من قولنا المتكرر ” لا حيلة لأحد في هذا ” ما نعنيه من تأكيد موضوعية ما تدل عليه تلك المقولات من حقائق اجتماعية . موضوعيتها بمعنى انها لا تصطنع وإذا وجدت لايجدي انكارها ، لأنها ليست أكثر من تجسيد لفاعلية قوانين موضوعية في الواقع الموضوعي . كما نرجو أن يكون واضحاً كذلك اننا لا نفاضل بين اشكال القوى الجماهيرية . انما تقاس قيمة كل منها بالغاية التي تقوم عليها . فلا تغني الجمعيات الخيرية عن النقابات المهنية ، ولا تغني النقابات المهنية عن الأحزاب السياسية ، ولا يغني كل هذا عن المؤسسات الدستورية والمنظمات الشعبية التي هي اجزاء من الدولة .

وعلى كل اصحاب غاية اجتماعية ان يختاروا شكل القوة الجماهيرية القادرة على تحقيق غايتهم . ولا سبيل امام الذين يريدون تغيير الواقع العربي لإقامة دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية إلا أن يلتقوا في ” حزب ” . وهكذا نواجه ـ عند اول خطوة على طريق حل مشكلة الاسلوب ـ  مشكلة الاحزاب .

68  ـ مشكلة الاحزاب :

الحزب ، مؤسسة جماهيرية ملتقية على رأي واحد في مشكلات التطور الاجتماعي وحلولها ( نظرية ) تعمل معاً ( منظمة)) من أجل تنفيذ رأيها ( نظريتها ) في الواقع الاجتماعي . ولما كان التنفيذ في مجتمع منظم ( دولة ) يتم عن طريق صياغة العلاقات الاجتماعية في قوانين عامة وملزمة تصدرها السلطة التشريعية وتنفذها ولو بالاكراه فإن غاية كل حزب ان يتولى السلطة ليترجم نظريته الى قانون . اما ممن يتكون الحزب فمن كل الذين يلتقون على نظريته ويلتزمون بها في الممارسة ويحتكمون اليها عند الاختلاف . وهو ما يعني ان الحزب مؤسسة جماهيرية ذات وجود مستقل عن أي عضو فيها . تلزمه عند الاختلاف رأيها أو تفصله . وما دامت ذات وجود مستقل عن أي عضو فيها فلا بد لها ـ لتبقى حزباً ـ من ان تكون ديموقراطية في نظامها الداخلي ، ينفذ رأي أغلبية اعضائها على رأي الاقلية عند الاحتكام الى النظرية . وإلا فإنها تتحول الى مؤسسة ” فرد ” او ” شلة ” فتفقد اول ما تفقد سمتها ” كقوة جماهيرية ” وتصبح جماهير في خدمة فرد او شلة . ولا يهم في الانتماء الى الحزب مصدر الوعي على صحة نظريته والالتزام بها . صحيح ان كل حزب يزعم ان نظريته تمثل الحل الصحيح المحدد موضوعياً للمشكلات الاجتماعية . ولكن الانتماء اليه لا يكفي فيه اتفاق مصلحة أي فرد مع نظريته ، إذ يتعين أولاً ان يعي هذا الفرد ذلك الاتفاق فيقبل النظرية والالتزام بها وينتمي الى حزبه . وعندما ينتمي تصبح مصلحته في تحقيق نظرية حزبه في الواقع الاجتماعي وعندئذ يلتقي على هذه ” المصلحة الواحدة ” مع كل الذين اكتشفوا في نظرية الحزب الحل الصحيح لمشكلات التطور الاجتماعي . وقد يضحون عندئذ بكل مصالحهم الشخصية او حتى بحياتهم من اجل ان تحل مشكلات مجتمعهم على الوجه الذي يعتقدون انه الحل الصحيح . والحزب المنظم على هذا الوجه قادر دائماً على ان يحجب عضويته عن الذين يطلبونها مخاتلة على اساس تقديره لمدى وعيهم الفكري أو صدقهم في الالتزام والمقدرة على الوفاء به ويدخل في تقديره ظروفهم الشخصية وما يؤثر فيهم ويتاثرون به من مصالح وعلاقات .

ويقال ويتردد ان كل حزب هو حزبطبقة ” . ويكاد هذا القول أن يكون مقبولاً حتى من الذين لايأخذون بالصراع الطبقي . وهو قول موروث من التراث الماركسي له في تاريخ الماركسية جذور تاريخية ، يوم أن كانت دعوة ” الطبقة ” العاملة الى الالتقاء في حزب سياسي دعوة مقابلة ومضادة لدعوة أخرى ترى اقتصار كفاح العمال ضد الرأسماليين على النشاط النقابي . وكأية مقولة تقطع من جذورها تفقد دلالتها الأصيلة وتصبح مباحة الاستعمال للدلالة على مفاهيم مختلفة أو لا تكون لها دلالة على الاطلاق . والقول بأن كل حزب هو حزب طبقة لا دلالة له . ذلك لأن الحزب كقوة جماهيرية منظمة ملتقية على نظرية في التطور الاجتماعي تعمل على تنفيذها في الواقع لا يمكن ولم يحدث قط ان كان الانتماء اليها مقصوراً على الذين يجمعهم موقع واحد من علاقات الانتاج . لم يحدث قط في التاريخ ، ولا يمكن أن يحدث ، ان وجد حزب يقصر عضويته على من يكون عاملاً أو على من يكون رأسمالياً ، وعندما توجد مثل تلك المؤسسة تصبح ” نقابة ” تلتقي على مشكلات العمل المهني الذي ينتمي اليه اعضاؤها وهي مشكلات اجتماعية ولكنها ليست مشكلة تطور المجتمع كله . ولا يؤثر في هذا ان تعمل النقابات بالسياسة إذ انها ستكتشف من خلال محاولة حل مشكلات العمل التأثير المتبادل بينها وبين المشكلات الاجتماعية الأخرى . إنما الذي يميز هويتها النقابية هو تركيبها البشري . اقتصاره على اصحاب مهنة واحدة وهذا ما لا وجود له في الأحزاب السياسية ، حتى لو كانت أحزاباً بدأت تاريخها كنقابات ( حزب العمال في انكلترا ) . وإن كان قد يحدث العكس فتقوم الاحزاب السياسية بإنشاء النقابات ( الحزب الوطني في مصر ) . كما لا يؤثر فيه ان تكون القاعدة العريضة من المنتمين الى الحزب يقومون بعمل واحد ( عمال أو فلاحين أو رأسماليين مثلاً ) وهو النموذج السائد في الأحزاب السياسية ، ولكنه لن يكون حزب طبقتهم ما دام الانتماء اليه مباحاً لكل من يلتزم نظريته بصرف النظر عن موقعه من علاقات الانتاج . ويبدو هذا واضحاً إذا لاحظنا أن قادة الاحزاب وكوادرها هي دائماً من المثقفين . والمثقفون ليسوا طبقة بل هم أفراد متميزون بثقافتهم بصرف النظر عن نوع العمل الذي يمارسونه . لهذا يقال أن كل حزب هو حزب ” طبقة ” لا من حيث تركيبه البشري ولكن من حيث نظريته ( ايدلوجية ) فلكل طبقة ايديولوجية والحزب الذي يلتقي على تلك الايديولوجية ويناضل من اجلها هو حزب طبقتها بصرف النظر عن تركيبه البشري . ويقدمون هذا تبريراً لكون التركيب البشري لأحزاب الطبقة العاملة ، أي للأحزاب التي تلتزم ايديولوجية الطبقة العاملة ، تنتمي اليه وتقوده عناصر من غير العاملين .

ويتوقف الرأي في كل هذا على الموقف من نظرية الطبقات والصراع الطبقي . وقد سبق ان عرضنا رأياً فيها ( فقرة 28 ) ففرقنا فيه بين المواقف على أساس موقف كل واحد من الحل الصحيح المحدد موضوعياً بالواقع الاجتماعي ذاته . وهو حل واحد . وقلنا أن مواقف القوى من هذا الحل لا تستوي فالرجعيون يدافعون عن مصالحهم الخاصة ضد الحل التقدمي الصحيح ولكن التقدميين الملتقين على الحل التقدمي الصحيح لمشكلات التطور لا يناضلون من أجل مصالحهم الخاصة فقط بل يناضلون من أجل تقدم مجتمعهم كله بما فيه هم ، ولكن بما فيه كثيرون آخرون لا يشاركونهم مواقعهم المهنية وقد لا يشاركونهم الرأي أوالنضال . انهم طليعة الشعب كله في حركة تطويره ضد القوى الرجعية التي تقف عقبة في سبيل تطويره . وعندما ينتصرون لا ينتصرون لأنفسهم بل للشعب كله . والذي يحدث في مجتمع معين في مرحلة تاريخية معينة في ظروف اجتماعية معينة أن يدور الصراع بين التقدميين من ناحية وبين القوى الرجعية حول أكثر المشكلات حدة فيبدو كما لو كان الذين تمسهم المشكلات مباشرة هم وحدهم أصحاب المصلحة في حلها التقدمي ، وان هذا الحل هوايديولوجيتهم ” الخاصة ( الطبقة ) . ولكن الصراع لا يلبث أن يكشف العلاقة الموضوعية والتأثير المتبادل بين تلك المشكلات الحادة وباقي المشكلات الاجتماعية فيستقطب الصراع قوى اخرى فإذا بالفرز قائم على أساس الصراع بين الرجعيين والتقدميين . أي يكتشف الناس في المجتمع ان ما كان يبدوايديولوجية ” قطاع مهني محدود قد كانت منذ البداية الايديولجية الصحيحة لتقدم المجتمع كله . وعندما يكون هذا متجسداً في قوى جماهيرية منظمة ( احزاب ) ينفضح زيف المقولة الاولى ” ان كل حزب هو حزب طبقة ” لأن التقدميين جميعاً ، أياً كانت مواقعهم المهنية ، سيلتقون في الحزب التقدمي ويلتزمون نظريته معبرين بذلك عن كونه حزبهم وكونها نظريتهم بالرغم من اختلاف مهنهم . والاحزاب الاشتراكية في كل العالم نماذج نقية لهذا الذي نقول . حينئذ يصبح التمسك بالكلمة الكبيرة المركبة ” ان كل حزب هو حزب طبقة ليس الا تخريباً معوقاً للنضال التقدمي ، لأن تجسده ” العيني ” في الواقع هو تقسيم القوى الملتقية على نظرية واحدة في التطور الاجتماعي ، والملتزمة بتحقيقها في الواقع ، الى اقسام داخلية ، تمهيداً للزعم بان تلك النظرية هي نظرية قسم بعينه دون الآخرين ، وان النضال من اجل تحقيقها في الواقع الاجتماعي هو ” بالدرجة الاولى ” لمصلحة ذلك القسم ، وبالتالي يجب ان تكون له القيادة ، فلا يؤدي إلا إلى اضعاف وحدة النضال واختلاف تناقضات لا يمكن ان توجد بين الذين يلتقون على نظرية واحدة في مشكلات التطور الاجتماعي ويلتزمون بها . وقد تنشأ تناقضات في مرحلة تاريخية لاحقة ، ويؤدي هذا الى الاختلاف بعد الاتفاق ، فيبقى في الحزب من يبقى ويخرج من يخرج ، وقد ينشق الحزب ذاته الى حزبين او اكثر ، ولكن ما دام الحزب قائماً فهو حزب المنتمين اليه ( من حيث تركيبه البشري ) وهو إما حزب تقدمي فهو حزب الشعب كله ( من حيث ايديولوجيته ) وإما حزب رجعي فهو حزب أصحابه . وفي جميع الحالات لا يكون حزباً إذا كان مقصوراً على من يجمعهم موقف واحد من علاقات العمل ( طبقة ) ، وعندما يكون كذلك يكون ” نقابة ” ولو أسمى ذاته حزباً . وستكون النقابة دائماً أقل مقدرة من الحزب على حل المشكلات الاجتماعية ، بما فيها مشكلات المنتمين اليها ، فهي لا تغني عنه .

هذا هو الحزب .

وعندما تختلف ” القوى الجماهيريةالمنظمة على هذا الوجه في نظرياتها التي تلتقي عليها وتلتزم بها وتحتكم اليها تتعدد الاحزاب في المجتمع الواحد . وبالتالي تتعدد قيادات حركة التطور الاجتماعي ، ويعوق هذا التعدد مقدرة كل منها على قيادة حركة التطور . هل معنى هذا ان الحزب الواحد ” أفضل ” من تعدد الأحزاب ؟ .

هذا سؤال متردد ولكنه سؤال سخيف . لأن الأحزاب لا تصطنع بل يفرزها الواقع الاجتماعي كما هو . ان كان الشعب مختلفاً في مشكلات التطور الاجتماعي وحلولها الى فريقين ، أو ثلاثة ، أو حتى مائة ، ولكل فريق نظرية متميزة يلتقي عليها ويلتزم بها ويحتكم اليها فهو حزبان او ثلاثة أو حتى مائة . ان هذا لن يدل إلا على ان الواقع الاجتماعي بالغ التخلف ، وقد تكون تلك مأساة ، ولكن الخروج من المأساة لا يكون بإنكارها بل يكون بتغيرها طبقاً للقوانين التي تحكم حركة المجتمعات . هذا مع معرفتنا انه ” ما دام الواقع الاجتماعي محدداً موضوعياً ... فإن الحل الصحيح لأية مشكلة محدد موضوعياً … مؤدى هذا ان كل مشكلة اجتماعية لها حقيقة واحدة مهما اختلف فهم الناس لها وبصرف النظر عن مدى ادراك صاحبها لحقيقتها . وان أية مشكلة اجتماعية ليس لها إلا حل صحيح واحد في واقع اجتماعي معين في وقت معين ” ( فقرة 18 ) . معنى هذا انه مهما تعددت الاحزاب ونظرياتها فإنها اما ان تكون كلها خاطئة ، واما أن يكون من بينها حزب واحد تتفق نظريته مع الحل الصحيح للمشكلات الاجتماعية . ولا يمكن ان تكون جميعاً احزاباً صحيحة النظريات . لا تصح في أي مجتمع الا نظرية واحدة لتطويره وبالتالي لا ينجح في تطويره إلا حزب واحد . ولكن المسألة هي : أي الاحزاب ملتق على النظرية الصحيحة . لو وجهنا هذا السؤال الى حزب لقال أنا . وإذا لم لم يقل ذلك فإنه حزب المنافقين . إذ يستحيل على غير المنافقين أن يقولوا ان رأيهم صحيح وان الرأي المخالف صحيح أيضاً . كل حزب اذن لابد من أن يكون مقتنعاً ، بل مؤمناً ، بأن نظريته صحيحة ، وانها النظرية الصحيحة الوحيدة ، وان الاحزاب الأخرى لا تفعل شيئاً إلا حرمان المجتمع من الحلول الصحيحة التي تتضمنها نظريته وان يكون أحد أهدافه الاساسية تصفية الاحزاب الأخرى ليصبح هو الحزب الوحيد . كل حزب إذن هو من انصار الحزب الواحد . وكل حزب لا يكف عن محاولة الغاء وجود الاحزاب الأخرى ، وإنما تختلف الاساليب تبعاً لقوة كل حزب وللظروف الاجتماعية التي ينشط فيها ، فإما ان يقبل المباراة الديموقراطية بقصد الغاء وجود الاحزاب الأخرى عن طريق امتصاص الناس فيها ، واما بالعنف . وسنتحدث عن هذا فيما بعد ( فقرة 72 )  .

إنما الذي نريد ان نستطرد اليه هنا هو الدفاع عن الاحزاب والحزبية ضد مواقف ” مثالية ” قائمة في الوطن العربي على أساس التمجيد المطلق أو الادانة المطلقة . وهي مثالية لأنها تمجد أو تدين بدون اجابة عن ، أية أحزاب ؟ ومتى ؟ وأين ؟ ولماذا ؟ … تلك الاسئلة التي تعلمنا من جدل الانسان ألا نفهم شيئاً أو نقيّمه أو نأخذ منه موقفاً الا بعد أن نجيب عليها .

فالغريب في الوطن العربي ، وكم في الوطن العربي من غرائب ، إن ” المنظمات الجماهيرية ” تملأ الأرض وتنشط نشاطاً جماعياً من أجل غايات تافهة أو حتى مشبوهة فلا يكاد أي حزب في الوطن العربي أن يبلغ في انضباطه التنظيمي وسعة انتشاره ” المنظمة الماسونية ” . ولا احد يتهم أو يدين العمل الجماعي المنظم وفي الوطن العربي آلاف منالمنظمات الجماهيرية ” تنشط نشاطاً جماعياً في المجالات الرياضية ، والثقافية ، والشبابية ، والطلابية ، والنسائية . ولا أحد يتهم أو يدين العمل الجماعي المنظم . هذا مع ان كل هذا النشاط الجماعي المنظم يؤثر بقوة في حركة التطور الاجتماعي سلبياً أو ايجابياً . فهو نشاط تتعدى آثاره مصالح النشطين فيه . وهو مقبول لأنه ” الاسلوب العلمي ” للقضاء على مرض الفردية وممارسة النشاط الاجتماعي . فإذا ما تجاوز العمل الجماعي المنظم تلك الغايات المحدودة ليقوم على غايات شاملة المجتمع كله ( سياسية ) تتصل بتطوره ونظام تطويره نفزع ونجزع ونتهمه بكل تهمة لأنه عندئذ ” حزب ” .

وتحت تأثير هذا الفزع يكاد الفكر العربي يقف مشلولاً من خوف الحديث عن مشكلة الاحزاب والحزبية . وقد بلغ الخوف حد خداع النفس . ففي الوطن العربي تمجيد انشائي دعائي ” للنضال الجماهيري ” لا يتضمن كلمة دفاع عن الحزبية . وفي الوطن العربي زحام منالمنظمات الجماهيرية ” السياسية تخاف أن تقول انها احزاب فتسمي نفسها حركات أو جبهات أو منظمات .. الخ . ولا شك أن لهذا الخوف أسباباً تاريخية . اذ أن الحزبية في الوطن العربي قد اقترنت غالباً بالفشل . ان الاحزاب ” سيئة السمعة ” فلا يريد أحد أن يسيء الى ” منظمته ” فيسميها حزباً . ان تكن جبهة أفضل مع انه من بين كل الذين يسمون أنفسهم جبهة الآن ( يونيو . حزيران . 1970 ) لا توجد جبهة واحدة . ومع أن كلمة ” حزب ” هي الكلمة العربية الاصيلة التي تدل دلالة صحيحة على ما تدعيه لنفسها تلك المنظمات إن صدقت فيما تدعي . ومع أن ” الاحزاب ” تملأ العالم بدون أن تجد في اسمها سبباً للخوف أو للتشاؤم . ومع أن الذين أسموا أنفسهم حركات أو جبهات أو منظمات في الوطن العربي لم يكونوا أكثر توفيقاً من الاحزاب الفاشلة . إن دل كل هذا على شيء فعلى أن الفكر العربي لم يتجاوز بعد مرحلة طفولته فهو يخاف من الحقائق أو يتشاءم . والواقع أن كل جماعة منظمة تزعم انها ملتقية على غاية سياسية ملتزمة بتحقيقها وتعمل من اجل تحقيقها هي ” حزب ” أياً ما كان الاسم الذي تطلقه على نفسها ، ومهما كان عددها . ولما كان تطوير المجتمع المنظم في دولة يتم عن طريق صياغة العلاقات الاجتماعية فيه بقوانين عامة وملزمة تصدرها وتنفذها السلطة ، فإن غاية كل حزب أن يصل الى الحكم في الدولة ليستطيع ان يترجم غايته الاجتماعية عن طريق التشريع الى واقع اجتماعي ، مهما يكن نصيبه من الأمل في أن يصل الى الحكم . وليس في هذا ما يسيء الى أحد . نريد ان نقول ان محاولة الاحزاب تحقيق غاياتها الاجتماعية عن طريق تولي السلطة ليست تهمة فكرية أو سياسية أو اخلاقية . إنما التهمة الحقيقية هي ” النفاق ” الذي يزعم به أي ” حزب ” ( ولو أنكر اسمه ) انه منظم من اجل تحقيق غاية سياسية ولكنه ” يعف ” عن طلب الحكم لتحقيقها . انها الثعالب التي لم تدرك العنب فزعمت انه فاسد . وابعد ما يكون عن الامانة الفكرية أو السياسية أو الاخلاقية أن يتصدى الذين لا يملكون إلا أفكارهم الخاصة التي لا يشاركهم فيها احد ، العاجزون ـ بالتالي ـ عن أن ينتظموا في حزب ، لإدانة الاحزاب والحزبية بحجة انها تسعى الىالحكم ” .  أولئك هم ” المستقلون ” . المستقلون بذواتهم عن الشعب . الذين يعرضون انفسهم عرضاً دائماً ، تحت لافتات شهاداتهم ” العالية ” ، وفي سوق عدم الالتزام بغاية اجتماعية ، ليكونوا خدماً لأي حاكم يشتري كفاءاتهم ” ، منفذين أية غاية تستهدفها اية حكومة . وينتقلون من سيد الى سيد ، ومن مبدأ إلى مبدأ ، طليقين من أي التزام فكري أو سياسي ، بعيداً عن ” الاحزاب ” التي كانت كفيلة بأن تلزمهم ـ أمام الشعب ـ موقفاً محدداً فكرياً وسياسياً فتعلمهم كيف تكون مسؤولية الحكم . وعندما يصلون الى مقاعد الحكم يدينون الاحزاب لأنها تسعى الى الحكم . وهي نكتة .

ان ” السمعة السيئة ” التي اقترنت بالأحزاب في التاريخ العربي الحديث لم يكن مرجعها الى انها كانت ” احزاباًبل كان مرجعها ـ قبل كل شيء ـ الى انها لم تكن ” أحزاباً ” . كانت تجمعات جماهيرية غير منظمة داخلياً حول قيادات غير ملتزمة فكرياً التقت في ملعب السياسة من اجل الاستيلاء على الحكم ” لتوزيع ” الغنائم أو لتؤجر نفسها رديفاً لمن يستزلي عليه في مقابل بعض ما يغنم . تردد الشعارات البراقة وتلوك الكلمات الكبيرة وتلفق الافكار وتتحدث عن الجماهير كثيراً بدون أن تعرف الجماهير من كل ما تقول ما الذي ستفعله على وجه التحديد فيما لو وصلت الى الحكم . كيف ـ على وجه التحديد ـ تترجم افكارها العامة الى قوانين محددة . وما هي ضمانات تنفيذ ما تقول . ان العمل والضمان منوطان بأشخاص القيادة الواعية ، الصلبة ، المخلصة ، المؤمنة … الى آخر هذا الكلام الرخيص المباح لكل قادر على الكلام . وهي قيادات لم تخترها قواعدها بل هي التي اختارتهم . وهي قواعد لا تملك من أمرها إلا حق الطاعة . وهم جميعاً لا يملكون ما يحتمون اليه فيما بينهم إلا ” الزعيم ” الذي يحكم على كل منهم بقدر إخلاصه لشخصه العظيم . تلك هي التي أسماها أصحابها أحزاباً ، كما ينشئونها يحلونها ثم يعيدون انشاءها مرة أخرى . وتنتقل شعاراتها من النقيض الى النقيض اذا انقض واحد على واحد فتغيرت القيادة ، أو إذا وقعت قيادتهاالعبقرية ” على كتاب حديث ، أو اهتدت الى ممول مليء ، أو رضي عنها حاكم قوي ، أو واجهت ” الفضيحة ” التي تستحقها . فعّن لها ـ بعيداً بعيداً عن القواعد ـ أن تغير أفكارها أو اصدقاءها أو حلفاءها أو موقفها من النقيض الى النقيض ، وتخفي سوءتها بشعار أكبر . وتنشق القواعد وتتمزق كلما انشقت وتمزقت ” الشلة ” التي أسمت نفسها قيادة لأنهم جميعاً ليسوا إلا شلة كبيرة أو صغيرة . لا يهم المهم أنهم ليسوا حزباً . فهل من اجل تلك ” البثور” المرضية التي انتشرت على جسم الأمة العربية الحي تدان الأحزاب والحزبية ؟ .

ثم أن الوطن العربي عرف في تاريخه الحديث أسوأ انواع الأحزاب لأنه عرف الأحزاب الليبرالية . وكل التهم التي تدان بها الحزبية : التضليل والمناورة والخداع وطلب الحكم بأي ثمن .. الخ . هي قواعد لعبة الأحزاب الليبرالية . إذ كيف يمكن أن يصل الحزب الليبرالي الحكم إلا عن طريق ” المنافسة الحرة ” التي هي قانون التطور ” الطبيعي ” الذي يقدسه الليبراليون ؟ .. وكيف يقوم حزب ليبرالي على مبدأ في حين أن مبدأه أن يربح سباق المنافسة الحرة الى ” الحكم ” الذي يمثل في سوق السياسة ” الربح ” الذي من اجله يتنافسون في سوق التجارة ؟ يكفي ان نتأمل الحزب الليبرالي لنعرف كيف أنه مؤسسة جماهيرية منظمة لتكذب حتى تربح . تكذب على نفسها وتكذب على الشعب لتربح الحكم . فالحزب الليبرالي يدخل لعبة السياسة ” بقائمة ” من الوعود يقدمها الى الشعب حلاً لمشكلاته الاجتماعية . ويطلب من الشعب أن يختاره لتولي السلطة حتى يستطيع ان يحقق ما وعد . ولكنه ـ من حيث هو ليبرالي ـ يكون مبدأه ( نظريته ) عدم تدخل السلطة في النشاط الفردي وترك كل واحد من الشعب يحل مشكلاته الخاصة كيفما يريد وبقدر ما يستطيع . و ” البقاء للأصلح ” . أي أن الحزب الليبرالي ـ بحكم نظريته ـ لا يملك إلا ان يعد الشعب بعدم التدخل في شؤونه الاجتماعية فيما لو وصل الى مقاعد الحكم . وهو إذ يعد بأكثر من عدم التدخل لا يفعل إلا أن يكذب . يكذب على نفسه لأنه يعد بما لا يتفق مع مبادئه . ويكذب على الشعب لأنه يعد بما ينوي الوفاء به . وعندما تتم اللعبة ويصل الى الحكم تكون الوعود الكاذبة قد أدت غايتها فانقضت فينساها الى ان يعد بشيء جديد في جولة جديدة . أما الحزب الليبرالي من الداخل فمؤسسة من أفراد غير ملتزمين إلا بالاحترام المتبادل لآرائهم الفردية . ان التزامهم بتحقيق غاية اجتماعية موضوعية يلتقون عليها ويحتكمون اليها مستحيل . لأن الحزب من حيث هو ليبرالي لا بد له من ان يحتكم ، أو يترك الحكم ، في أي خلاف بين أعضائه للقواعد الخالدة المستقرة في ضمائر هؤلاء الاعضاء بحكم القانون الطبيعي الذي يقود خطا الأفراد بدون أن يدروا . فإن تدخل الحزب لإلزام بعض أعضائه غاية اجتماعية يكون قد ” مس ” الحرية الفردية المقدسة واهدر حق المعارضة ” المقدس ” . ومن هنا لا يقوم الحزب الليبرالي ولا يبقى إلا بذلك القدر الذي يصل اليه ” التلفيق ” بين الآراء الفردية المختلفة داخله . وإلا ، أنشق ثم أنشق ثم انفرط ليعود افراداً ليبراليين حقاً . وهو لا ينشق عادة . بل ان الحزب الليبرالي من أكثر الأحزاب تماسكاً . ذلك لأن الخلاف العقائدي داخله غير محتمل بحكم المذهب الفردي الذي يقوم عليه . ولأن الانضمام الى الحزب والبقاء فيه لا يتضمن التزاماً بشيء ـ بعد دفع الاشتراك المالي ـ سوى الوصول بالحزب الى مقاعد الحكم . ولأن الخروج عليه ضياع لفرصة المشاركة في غنائمه . ولما كان الوصول الى الحكم هو الهدف الأول والأخير المطلوب لذاته ، وفي هذا يتفق كل الليبراليون ، فإن الخروج على الأحزاب الليبرالية يبدأ بعد خروجه من الحكم ، ولكنه لا يلبث ان يعوض الخارجين أضعافاً من الذين يتزاحمون على عضويته أملاً في أن يصيبوا شيئاً من وراء عضويته وهو في الحكم ( وظائف حكومية عادة ) . ويسمح كل هذا الفراغ العقائدي بأن يعيش الحزب الليبرالي طويلاً كما يسمح بأن تتحول قيادته إلىزعامة ” فردية ، يعوضون استحالة الالتقاء الفكري بالالتقاء حول الزعيم ويقدمون الزعيم ” بديلاً عن النظرية . فيصبح الحزب الليبرالي ـ في الواقع ـ حزب القيادة فرداً كان أو جماعة من الأفراد . تلك هي الاحزاب الليبرالية . انها مؤسسات شكلية . ان تكن غير ذات مباديء اجتماعية فلأن مبادئها الليبرالية تلزمها بألا تكون ذات مباديء . ليس العيب اذن في الأحزاب والحزبية بل العيب في الليبرالية . فهل من أجل الأحزاب الليبرالية تدان الأحزاب والحزبية ؟ .

من الذي يستطيع أن يحول بين الناس وبين ان يتجمعوا في ” أحزاب ” ذات غايات اجتماعية تريد ان تحققها في المجتمع ؟ … من الذي يدينها بانها أسلوب فاشل في الممارسة السياسية ؟ … انه حزب آخر . انهم جماعة كبيرة او صغيرة منظمة ملتقية على غاية اجتماعية وملتزمة تحقيقها وتحتكم اليها فيما بينها عندما تختلف ، حتى لو كانت هذه الغاية هي الغاء الاحزاب . جماعة من الناس يرون الغاء الاحزاب لأن الحزبية اسلوب ” فاشل ” في الممارسة السياسية يجدون ان ” أنجح ” اسلوب يحقق غايتهم هو ان يلتقوا في حزب ، التناقض واضح . لأن نجاحهم ذاته يقدم دليلاً منهم أنفسهم على أن ” الحزب ” هو أفضل أداة لتحقيق الغايات الاجتماعية .

اذن ، ففي أي مجتمع يختلف الناس حول مشكلات التطور الاجتماعي ، وهو واقع يكتشف ولكن لا يصطنع ، وعندما يكتشف لا يجدي تجاهله شيئاً ، ستتكون من الشعب جماعات ملتقية على رأي موحد في حل مشكلات محدودة او على رأي موحد في حل مشكلات التطور الاجتماعي عامة . وعندما نلتقي ” تصبح قوى جماهيرية ” مفرزة عن غيرها بما التقت عليه . وستنشط في تحقيق ما تريد لا يستطيع احد ان يمنعها ، وإنما تختلف وسائل نشاطها تبعاً للظروف التي تنشط فيها . والقوى الجماهيرية المنظمة من اجل حل مشكلات التطور الاجتماعي عامة ، طبقاً لنظرية تلتقي عليها وتلتزم بها وتحتكم اليها ، هي ” الاحزاب ” . وفي مواجهة السلبية الفردية بالنسبة الى العمل الجماعي تقوم الاحزاب بقيادة حركة الجدل الاجتماعي وتتوقف على مدى نشاطها تحقيق الحلول التي تراها لمشكلات التطور .

ومن هنا فإن قيمتها الاجتماعية تتوقف على مدى ما يتوافر في كل حزب من مقدرة على تحقيق الحلول الصحيحة لمشكلات التطور الاجتماعي كما هي محددة موضوعياً بواقع اجتماعي معين في مرحلة تاريخية معينة . وهي مقدرة تتوقف على أمرين : أولهما مدى صحة نظريته والثاني مدى ملاءمة تكوينه لاداء ما تلزمه به النظرية . الأول بمعنى ان يكون حزباً تقدمياً والثاني يعني أن يكون تكوينه متفقاً مع الوجود الموضوعي لمجتمعه .  

69 ـ ولكن ما هي التقدمية :

انه سؤال دقيق لأن فيه نواجه كثيراً من التعبيرات المتداولة في الفكر السياسي العربي مثل ” التقدمية ” و ” اليسار ” …

ولنبدأ بالتقدمية . انها تبدو في الوطن العربي تعبيراً غامضاً . لأن عدد الزاعمين التقدمية أكثر بكثير من عدد الزاعمين القومية أو الديموقراطية أو حتى الاشتراكية . فلا يكاد واحد لا يعتبر نفسه تقدمياً لأن أحداً لا يقبل تهمة الرجعية . فما هي التقدمية ومن هم التقدميون في الوطن العربي ؟ … من أجل مزيد من الوضوح سنتقدم في الاجابة خطوة خطوة .

تقوم ” التقدمية ” على قاعدة اولى هي أن المجتمعات تتطور خلال حركتها ، فهي كظاهرة متغيرة متحركة أبداً ( فقرة 18 ) وعلى هذا لايكون للتقدمية أي معنى عند أصحاب شعار ” لا جديد تحت الشمس ” الذين يأخذون بفكرة الثبات والخلود الاجتماعي . وآية هذه الفكرة الجامدة المواقف السلبية أو محاولة ايقاف حركة التطور الاجتماعي زعماً بأنها افتعال غير لازم ، أو توهماً بأنه من الممكن ايقافها . هؤلاء لا يمكن ـ على أي وجه ـ ان يكونوا تقدميين مهما رفعوا من شعارات ومهما اتخذوا من مواقف انتهازية .

هذه خطوة اولى .

ثم في نطاق الوعي بحتمية التطور لا يكون للتقدمية معنى إلا على أساس النظريات القائلة بان المجتمعات تتطور خلال حركتها من الماضي الى المستقبل تطوراً جدلياً أي عن طريق النمو والاضافة ( فقرة 18 ) . وبهذا تفقد ” التقدمية ” أي معنى عند مدرسة التاريخ يعيد نفسه ” التي تسلم بالحركة والتغير ولكنها تنكر أن التطور ذو اتجاه يتقدم دائماً ولا يعود الى الوراء أبداً . عند الذين يشاركون في الحركة الاجتماعية ويسعون الى التغيير لأنهم يؤمنون بحتمية التغير ولكنهم يستهدفون من حركتهم اعادة الماضي كما كان . ذلك لأن حركة بدون اتجاه تتميز بدايته عن غايته لا يمكن أن نقيس عليها تقدم أو تراجع الذين يتحركون فيها . ومن أمثلة هؤلاء في الوطن العربي الذين يفتشون في التراث عن نموذج للحياة يريدون تكراره في غير تاريخه .

وهذه خطوة ثانية .

ثم في نطاق حتمية التطور الاجتماعي خلال النمو والاضافة في حركة تتجه من الماضي الى المستقبل يتحدد مفهوم التقدمية تبعاً لكل فترة زمنية . أي لا يكون للتقدمية معنى إلا إذا نسبت الى مرحلة تاريخية معينة من التطور الاجتماعي ( فقرة 18 ) . أو بصيغة أخرى وربما أدق : ليس للتقدمية مفهوم مطلق يصلح مقياساً للحركة في كل زمان . انها عندئذ تتحول الى فكرة ثابتة . وبهذا تفقد التقدمية أي معنى عند المثاليين الذين يشاركون في الحركة الاجتماعية ويطلبون التغيير ويرفضون العودة الى الماضي لأنهم يؤمنون بحتمية التطور واتجاهه التقدمي ولكنهم يستهدفون من حركتهم تحقيق مستقبل يتجاوز المرحلة التاريخية التي يتحركون فيها . ومن أمثلة هؤلاء في الوطن العربي الذين يدعون الى ” الشيوعية ” أو إلى نماذج الحياة الأوروبية .

وهذه خطوة ثالثة .

ثم في نطاق حتمية التطور في مرحلة تاريخية معينة يتحدد مفهوم التقدمية تبعاً لكل واقع اجتماعي معين ( فقرة 18 )  . أي لايكون للتقدمية معنى إلا إذا نسبت الى مجتمع معين . أو بصيغة أخرى وربما ادق : ليس للتقدمية مفهوم مجرد يصلح مقياساً للحركة في كل مكان . انها عندئذ تتحول الى فكرة غير ذات مضمون . وبهذا تفقد التقدمية أي معنى عند الطوباويين الذين يشاركون في الحركة الاجتماعية ويطلبون التغيير ويرفضون العودة الى الماضي ويلتزمون مرحلتهم التاريخية ولكنهم يستهدفون من حركتهم تحقيق غايات مستعارة من غير المجتمعات التي يتحركون فيها أو ليست حلاً للمشكلات التي تطرحها ظروف مجتمعاتهم . ومن أمثلة هؤلاء في الوطن العربي كل ” اللا قوميين ” الذين يتجاهلون وجود الأمة العربية فيقيمون دعوتهم على أسس مجتمعات بديلة تتجاوزها ( الاممية والاسلامية والافريقية ) أو تقصر دونها ( الاقليمية والشعوبية والطائفية .. )  .

وهذه خطوة رابعة .

إذا صح – وهو عندنا صحيح – فمؤداه انه لا يمكن أن يكون ” للتقدمية ” في أي مجتمع معين في زمن معين إلا مفهوم موضوعي واحد بحكم أن الحل الصحيح لمشكلات التطور في مجتمع معين في وقت معين محددة موضوعياً بالواقع الاجتماعي ذاته ( فقرة 18 ) . والتزام هذا الحل هو المقياس الموضوعي للتقدمية . فإذا اختلف الناس في مجتمع محدد في زمن محدد حول الموقف التقدمي فلا بد ان يكون هذا راجعاً الى اختلافهم في مدى صحة المعرفة بحقيقة المشكلات التي تطرحها ظروفهم او صحة الحلول التي يتصورونها لتلك المشكلات . ولكن هذا الاختلاف في ” المعرفة ” الذي يؤدي الى تعدد المواقف التي تدعي القومية لا يعني ان الحقيقة الموضوعية معدومة أو غير قابلة للمعرفة وبالتالي لا يعني أن التقدمية موقف ” ذاتي ” وليس موضوعياً .. بل قد يعني اننا في حاجة الى مزيد من المعرفة العلمية بظروفنا والحوار الديموقراطي حتى نكتشف معاً حقيقة المشكلات التي نواجهها والحلول الصحيحة لها ، أي حتى نكتشف معاً المقياس الموضوعي للتقدمية .

فالتقدمية موقف من الواقع في مجتمع معين يستهدف تطويره عن طيق حل المشكلات التي تطرحها ظروفه في مرحلة تاريخية معينة . والقوى التقدمية هي الجماهير التي تلتزم وتناضل من اجل حل تلك المشكلات . وعندما تختلف على الحلول فيدعي كل فريق انه تقدمي فتتعدد القوى التي تزعم التقدمية ، لا يعني هذا الزعم انها جميعاً قوى تقدمية . إذ لا يمكن بحكم وحدة الواقع الاجتماعي إلا أن يكون فريق واحد هو التقدمي أو لا يكون ثمة تقدميون على الاطلاق . وطبيعي ان كل فريق سيحتكم في ذلك الى نظريته كما نفعل نحن . وهذا مفهوم تماماً . إنما غير المفهوم أن يتبادل المختلفون في فهم مشكلات التطور وحلولها ، أن يتبادلوا الاعتراف بالتقدمية فيشيعوا بذلك وهم ” تعدد ” القوى التقدمية المختلفة في غاياتها . وقد كان هذا الوهم سبباً في البلبلة التي أثارتها ـ وتثيرها ـ في الوطن العربي الدعوة الى وحدة القوى التقدمية . فبينما كان القوميون التقدميون يفهمون هذه الدعوة على أنها موجهة الى القوى القومية التقدمية المزعة في تنظيمات عدة تستهدف غاية واحدة وترفع شعاراً واحداً : الحرية والوحدة والاشتراكية ، بقصد التقائها في تنظيم واحد يجسد التقاءها على غاية واحدة : دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية ، كان البعض يفهمها على انها دعوة موجهة الى القوى التي تناهض الاستعمار والاستبداد ولو رفضت الوحدة الاشتراكية . أو القوى التي تناهض التجزئة وتستهدف الوحدة ولو رفضت الاشتراكية والديموقراطية . أو القوى التي تناهض الاستغلال وتستهدف الوحدة ولو رفضت الديموقراطية . وكثيرون في الوطن العربي يعتقدون انهم تقدميون لمجرد انهم تحرريون او لمجرد انهم وحدويون او لمجرد انهم اشتراكيون ويشاركون في الحديث عن التقدمية ووحدة القوى التقدمية وهم يعنون وحدة القوى التحررية ، أو وحدة القوى الوحدوية ، او وحدة القوى الاشتراكية ، فلا يفعلون بهذا الحديث شيئاً سوى اشاعة الاضطراب في مفهوم التقدمية . ذلك لأنهم ينسون او يتناسون او يجهلون ان التقدمية ليست موقفاً من احدى المشكلات التي يطرحها واقع اجتماعي معين ، بل هي موقف من تطور ذلك الواقع الاجتماعي المعين عن طريق حل المشكلات التي يطرحها حلاً صحيحاً .

ونحن نعرف ان الحل الصحيح المحدد موضوعياً بالواقع العربي لمشكلات تطور امتنا هو دولة الوحدة الديموقراطية . وعليه فالقوى التقدمية في الوطن العربي في هذا النصف الثاني من القرن العشرين هو القوى التي تناضل من اجل إقامة دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية . ولا يوجد خارجها أي تقدمي واحد .

ثم وقفة قصيرة لنرى عبث اليمين واليسار .

نحن لا ننكر اننا منذ قرون ونحن نتلقى من الفكر الأوروبي أكثر مما نعطيه وإن كنا قد أعطيناه قروناً لم يكن يملك فيها شيئاً ليعطيه . وعلى هذا فإننا نعتقد اننا ننتحر اختناقاً فكرياً لو أغلقنا عقولنا دون التراث الفكري الأوروبي أو الانساني . بل اننا نعتقد أن من مصلحتنا نحن ان نسعى الى هذا الفكر ونبذل الجهد الحاد في دراسته واستيعابه . ونزيد فنعتقد بأننا لا نضر إلا أنفسنا لو أقمنا مصفاة تعزل عنا بعض الفكر الانساني وان علينا ان نلتقي به كما هو بدون خوف أو تعصب . من هنا ليس ثمة فائدة في اثارة معارك فكرية حول كثير من التعبيرات التي تلقيناها من الفكر الأوروبي واخذت اماكنها في لغاتنا الثقافية بالرغم من معرفتنا ان تلك تعبيرات فاسدة الدلالة ، يقيناً منا باننا عندما نسترد كامل أصالتنا الفكرية سنكون قادرين ـ بدون معارك ـ على فرز ما نتلقى طبقاً لمقياس أصيل .

ومن بين تلك التعبيرات الدارجة الفاسدة معاً تعبير اليمين واليسار في الفكر او في السياسة . والأصل التاريخي لهذا التعبير معروف . فقد وقفت ” الطائفة الثالثة ” على يسار مقعد رئيس الجمعية الوطنية الفرنسية تعبيراً عن موقفها المعارض للملكية قبيل الثورة الفرنسية . وأصبح تقليداً غالباً أن يجلس ممثلو المعارضة في مقاعد اليسار من قاعات ” البرلمانات ” معبرين بمواقعهم المكانية عن مواقفهم السياسية من الحكومة القائمة . فإن تغيرت الحكومة بدّلوا مقاعدهم فأصبح اليسار يميناً واصبح اليمين يساراً بدون ان يبدل أحد أفكاره . وهكذا كان أقصى ما يدل عليه الموقف اليساري هو الرغبة في التغيير . تغيير الحكومة . ثم انتقل التعبير للدلالة على التغيير الاقتصادي والاجتماعي . ولما كانت النظم الاجتماعية أكثر ثباتاً وأطول عمراً فإن الموقف اليساري من النظم القائمة لم يعد يرتبط بتغير الحكومات مع بقاء النظام الاجتماعي بدون تغيير . وقد كان النظام الرأسمالي هو السائد في أوروبا فأصبح اليسار يطلق على التيار الاشتراكي الذي بدأ في النصف الأول من القرن التاسع عشر ولا يزال يطلق عليه حتى الآن أينما كان النظام الرأسمالي هو النظام السائد . ومع التسليم بأن الاشتراكية أكثر تقدمية من الرأسمالية أصبح الموقف الاشتراكي هو التعبير عن الموقف التقدمي ، وهو اليسار في ذات الوقت من حيث هو يسعى الى تغيير النظام الرأسمالي القائم . وكان كل هذا قابلاً للفهم في ظل المجتمعات الأوروبية المتحررة الموحدة الصناعية التي لا تواجه من المشكلات الاساسية سوى مشكلة توزيع الرخاء المتاح .

ومع أن كل هذه قضايا فاسدة لأن اليسار واليمين لا بد ان ينسبا الى اتجاه ثابت فهذا على يساره وذلك على يمينه كما كانت مواقع المعارضة تنسب الى منصة رئاسة المجالس إلا أنه لم يكن ثمة ضرر في استعمالها على دلالتها الدارجة . فالاشتراكيون يسار تقدمي والرأسماليون يمين رجعي . ولكن العبث اللفظي لم يلبث أن اصبح غطاء للعبث السياسي عندما انقطعت صلة اليسار بالتقدمية . وقد انقطعت تلك الصلة في موضعين : الموضع الأول عندما اصبح اليسار بالنسبة لمشكلة محدودة هو اليسار بالنسبة للواقع الاجتماعي ككل . فاليسار الفرنسي مثلاً ظل يساراً حتى وهو يشن علينا في مصر والجزائر حرباً استعمارية . واليسار الشيوعي ظل يساراً حتى وهو يناهض الوحدة . وفي عدد خاص من مجلة ” الازمنة الحديثة ” جمع سارتر كلاماً كثيراً ممن قيل أنهم يمثلون اليسار العربي واليسار الاسرائيلي ، فأصبح بعض الاسرائيليين يساراً على الأرض التي اغتصبوها أو شردوا أهلها . الموضع الثاني : عندما أصبح اليسار لا يحدد موقف القوى من الواقع الاجتماعي ولكن يحدد مواقفها فيما بينها . فتعدد اليسار وتعدد اليمين واصبح لكل يسار يمين ويسار ، ولكن يمين ويسار ويمين .. الخ . وقد قرأنا في هذا قولاً عجباً . ففي رسالة دكتوراه قدمت اخيراً الى جامعة باريس عن الحركة السياسية في الوطن العربي ما يفيد ان الشيوعيين الموالين للخط الصيني هم يسار الشيوعيين العرب ، الذين هم يسار الاشتراكيين العرب ، الذين هم يسار الوحدويين العرب ، الذين هم يسار العرب القوميين الذين هم يسار الحركة العربية الحديثة التي تقع على اليسار من الحركة التحررية في العالم الثالث … وطبيعي ان يكون الفوضويون على يسار الشيوعيين العرب وان تقف بعض النظم العربية في اقصى اليمين كل هذا في رسالة علمية . ولكن انصافاً للسيدة العربية النابهة التي قدمتها نقول انها كانت تنقل فيها ما يدعيه كل امرىء لنفسه في الوطن العربي والمسألة ان كل من أراد يستطيع ان يدعي لنفسه اليسارية ما دام يجد ـ ولا بد له من ان يجد ـ من يقف على يمينه . وعندما تصبح اليسارية على هذا  الوجه مقطوع الصلة بالمشكلات الموضوعية المباح لكل من يدعيه تفقد اليسارية أي دلالة خاصة ويصبح استعمالها عبثاً . والعبث باليسار ليس ظاهرة عربية ، فمن قبل خمسين عاماً تقدمت الى انتخابات الجمعية التأسيسية في بتروغراد ( ليننجراد ) ـ التي تمت في ظل ثورة اكتوبر 1917 ـ إحدى عشر منظمة سياسية تدعي كلها اليسار بالاضافة الى البلاشفة أنفسهم الذين لم يلبثوا حتى تكوّن منهم جناح يساري . وقد صفت ثورة اكتوبر كل ذلك العبث باسم اليسار .

وعلى أي حال ما كان هذا العبث باليسار يستحق الحديث عنه لولا انه يتضمن عبثاً بمفهوم التقدمية في الوطن العربي للعلاقة التاريخية بين تعبير اليسارية وتعبير التقدمية . ومن هنا قد أصبح لزاماً أن ندافع عن حق الجماهير في ان تعرف ماذا يعنيه المتحدثون عن اليسارية وهم يعنون بها التقدمية . ولسنا نريد من هذا الدفاع أن نبتكر لليسارية مفهوماً جديداً في الوطن العربي . ولكن نقول انه ما دامت اليسارية بدلالتها التاريخية الدارجة تعني التقدمية ، فإنه لايوجد يساري تقدمي في الوطن العربي إلا الذين يناضلون من أجل إقامة دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية . على يمينهم تقف الرجعية وعلى يسارهم يقفاليسار الطفولي  .  

70  ـ الحزب القومي :

ان دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية هي الحل الصحيح المحدد موضوعياً بالواقع العربي ذاته لمشكلات التطور في الأمة العربية ” . ومن اجل أن تقوم دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية يجب :

استرداد ” الأرض العربية المغتصبة .

تحرير ” الأمة العربية من الاستعمار

الغاء ” التجزئة الاقليمية

تصفية ” الاقطاع والرأسمالية

فرض ” سيطرة الشعب على وسائل الانتاج .

” … … … الخ الخ .

هكذا نقول . هكذا يقول ويردد كثيرون من ابناء الأمة العربية . فنوجب على الواقع العربي ” فعلاً ” أو أكثركأسلوب ” لحل مشكلات التطور في الأمة العربية . كاسلوب لاقامة دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية . ثم ننسى انها افعال ولا بد لكل فعل من فاعل . استرداد من يسترد فمن الذي يسترد ؟ .. تحرير من يحرر فمن الذي يحرر ؟ … الغاء من يلغي فمن الذي يلغي ؟ … الخ . إن كانت الاجابة : الشعب العربي . فان الشعب العربي مائة مليون تقريباً . كثير منهم من لا يرى رأينا في أن دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية هي الحل الصحيح لمشكلات التطور في الوطن العربي . بل كثير منهم يرون ان ذلك هو أكثر الحلول خطأ . فيتمنون او يريدون أو يعملون فعلاً على منع قيام دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية . وكما نقول انهم جهلة أو مخربون أوعملاء . يقولون عنا الشيء ذاته وأكثر . وبينما نرفع شعار الحرية والوحدة والاشتراكية ” ، اعلاناً لغاياتنا يرفعون شعاراتهم المضادة اعلاناً لغاياتهم . هذا بالاضافة الى ما عرفناه من قبل : ” ليس الاستعمار والتجزئة والاستغلال هي المشكلات الوحيدة التي يعانيها الشعب العربي فعلاً . وليست الحرية والوحدة والاشتراكية هي الغايات الوحيدة التي يريدها الشعب العربي حقاً . بل اننا نستطيع ان نقول ان كثيرين من ابناء الأمة العربية تستغرقهم مشكلات الحفاظ على الحياة ، مجرد الحفاظ على الحياة ، من مخاطر الجوع والمرض والعري والتشرد فلا يجدون في رؤوسهم مكاناً يستقبلون فيه الحديث عن مشكلات الاستعمار والتجزئة والاستغلال . ولا يجدون في اوقاتهم متسعاً للتفكير في الحرية والوحدة والاشتراكية . وكثيرون من ابناء الأمة العربية ، ملايين ، عشرات الملايين ، يعرفون مشكلات الاستعمار والتجزئة والاستغلال ويريدون الحرية والوحدة والاشتراكية ولكن مشكلات الحياة اليومية تستنفذ طاقاتهم فلا يجدون فائضاً منها يبذلون في سبيل الحرية والوحدة والاشتراكية ” ( فقرة 37 )  .

الشعب العربي اذن ليس موحد المعرفة بمشكلات التطور العربي وليس موحد الرأي على دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية . فهو منقسم الى ” قوى جماهيرية ” مفرزة في مواقفها من دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية . والذين يناهضون هذه الغاية هم من الشعب العربي مثل الذين يريدون تحقيقها تماماً حتى لو أنكروا الانتماء اليه ، وجماهير كثيرة من الشعب العربي لا تناهض ولا تريد لأنها غير قادرة بحكم ظروفها الاجتماعية على أن تناهض أو تريد . ان الحديث عن الشعب العربي كما لو كان قوة واحدة ملتقية على دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية ملتزمة بتحقيقها هروب فاشل من التعامل مع الواقع الاجتماعي كما هو ، فمن الذي يسترد ، ويحرر ، ويلغي ؟ … الخ من الذي يقيم دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية في الوطن العربي ؟ .

ان كانت الاجابة : نحن . فمن نحن ؟

ان الاجابة على : من نحن ؟ … ليست ألف باء نظرية الاسلوب . بل هي الالف التي تسبق الباء . وهي حقيقة بسيطة تائهة في صخب الحديث عن النضال من أجل دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية . يقولون نحن القوميون التقدميون ، او القوميون الاشتراكيون … وهي كلمات كبيرة تدل على واقع غير منكور هو ان في الوطن العربي مئات الألوف منالأفراد ” يتمنى كل منهم او يريد أو حتى يعمل من أجل دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية . ومع اغتباطنا الشديد بعددهم الكثيف ، واحترامنا العظيم لمشاعرهم القومية ، وتقديرنا الكبير لما يبذل كل منهم من جهد في سبيل خدمة الغاية التقدمية لأمته العربية ، نقول : انهم لا شيء ما داموا افراداً . ان الفردية ليست فقط موقفاً مناقضاً لأفكار صاحبه ان كان صاحبه قومياً حقاً ( فقرة 32 ) بل هي اسلوب فاشل في حل مشكلات التطور الاجتماعي سواء كان صاحبه قومياً أو مناهضاً للقومية . يستويان بالفردية فشلاً . اننحن ” ليست هي وهو وانت وانا متفرقين ، ولكنها التعبير على وحدة المتعددين  . ومن هنا تكون مفرغة من أية دلالة ، تكون مجرد لفظ غير ذي مضمون ، اذا لم تكن دالة على ” قوة جماهيرية ” ملتقية على هدف الوحدة الديموقراطية الاشتراكية ملتزمة بتحقيقها تعمل معاً لاقامتها في الوطن العربي ، ننتمي اليها فنقول ” نحن ” وتكون للكلمة عندئذ دلالة ومضمون . وهو ما يعني ان العلاقة بين دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية كغاية وبين القوميين التقدميين كبشر ، لا تقوم بمجرد تمنيها أو إرادتها او حتى العمل من اجلها ، بل تقوم عندما يتحول القوميون التقدميون في الوطن العربي الىحزب ” ملتق عليها كحل صحيح لمشكلات التطور في الوطن العربي ، ملتزم بتحقيقها كغاية ، مناضل من اجلها الى ان تقوم .

ألا يفعلون ؟

أليس الوطن العربي مليئاً ” بقوى جماهيرية ” تسمي نفسها أحزاباً أو حركات او منظمات … لا يهم اسمها ، ملتقية كل منها على هدف دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية ، معلنة غايتها ، رافعة شعارها ، ملتزمة بتحقيقها ، تناضل من اجل ان تقوم ؟ … بلى . وما كان يمكن ان يكون الأمر غير ذلك . ما كان يمكن ان تكون أعرض الجماهير العربية الواعية مدركة بمشكلات الاستعمار والتجزئة والاستغلال وان حلها الصحيح هو دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية بدون ان تتحول الى ” قوى جماهيريةملتقية في احزاب وحركات ومنظمات … الخ تنشط فعلاً من اجل ان تقوم في الوطن العربي دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية . هذا لو كانت قد اختلطت بهاقوى جماهيرية ” منظمة تحمل شعاراتها وتعمل على هزيمة غايتها . ولكن المشكلة هي انها لا تتقدم نحو غايتها . فلماذا ؟ .

لأنها وقد حققت اول قاعدة من نظرية الاسلوب عندما التقت أحزاباً لم تلتزم القاعدة الثانية . تجاوزت الألف ووقفت دون الباء . والقاعدة الثانية هي : ” مناسبة الاداة للغاية ” . وهي بدهية يعرفها الفلاحون الذين لا يحرثون الأرض بأصابعهم بل بالمحاريث ، والحدادون الذين لا يحركون الجمرات بأيديهم بل بأدوات لا تحترق … ومع ذلك فإن ” القوى الجماهيرية ” المنظمة في الوطن العربي المناضلة من اجل إقامة دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية تريد ان تبلغ غايتها اتكالاً على مجرد انها ” تريد ان تبلغها ” فلا تفطن الى القصور في ذاتها عن بلوغ تلك الغاية . لا تفطن الى بدهيات نظرية الاسلوب ولا تلتزمها . ولو فعلت لعرفت ان الحزب ليس غاية مطلوبة لذاتها بل هو اداة مطلوبة لتحقيق غاية ، وانه لا بد من ان يكون مناسباً لغايته حتى يستطيع ان يحققها ، وان دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية لا يستطيع أن يحققها إلا حزب قومي ديموقراطي اشتراكي .

ولقد عرفنا عند حديثنا عنالمؤسسات الاقليمية ” ( فقرة 30 ) بعض خصائص التنظيم القومي فخلصنا إلى انتجسيد المصير القومي في التزام عقائدي بتحقيق دولة الوحدة لازم لتكون المؤسسة الحزبية تنظيماً قومياً ، ولكنه لا يكفي للتمييز بينها وبين المؤسسات الحزبية الاقليمية التي تدعيه . وتجسيد وحدة الشعب العربي في التنظيم على مستوى الوطن العربي كله لازم لتكون المؤسسة الحزبية تنظيماً قومياً ، ولكنه لا يكفي للتمييز بينها وبين المؤسسات الحزبية الاقليمية التي قد تحاوله . ماذا بقي ؟  بقي تجسيد الوجود القومي ذاته . تجسيد الأمة العربية في الحقيقة الداخلية للحزب ذاته . فإن كان الحزب هو الأمة العربية مبلورة ” فهو حزب قومي وإن لم تمتد قواعده إلى اكثر من اقليم . وإن كان الحزب هو الدولة الاقليمية ” مصغرة ” فهو حزب اقليمي وان امتدت قواعده الى كل الاقاليم . ونعرف هذا عادة من تركيبه الداخلي ، فحيث تمتد الفروع ، وتشكل القيادات ، متبعة في هذا التمثيل على طريقة ” الجامعة العربية ” تقوم شبهة قوية على اننا في مواجهة جماعات اقليمية ملتقية في مؤسسة مشتركة ذات شكل قومي . نقول شبهة قوية ، ولا نجزم بالاقليمية ، لأنه من الممكن ان يحتج بان ذلك مبرر بضرورات ” عملية ” وان الشكل هو الاقليمي اما المضمون فلا يزال قومياً . وهو احتجاج إن صح يكون مقبولاً . لأن العبرة ليست بالشكل ولكن بالمضمون . ونكون في حاجة ـ حتى نجزم ـ الى معرفة العلاقة التي تحكم هذاالتركيب الداخلي . علاقة الحزب ( الأمة العربية مبلورة ) ممثلاً في قيادته القومية بأحد فروعه ( الاقليمية مصغرة ) ممثلاً في قيادته الفرعية . فإن كان الحزب هو القائد فذاك الحزب القومي ينشط في الاقاليم من خلال فروعه وإن كان الفرع هو القائد فذاك الحزب الاقليمي ينشط خارج الاقليم تحت غطاء قومي .. الخ ” .

ومنذ ذلك الحديث عرفنا أن القومية ديموقراطية ( فقرة 52 ) اشتراكية ( فقرة 62 ) . وان الحل الصحيح للمشكلات القومية في هذا النصف الثاني من القرن العشرين هو دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية ( فقرة 65 ) . فيكمل هذا معرفتنا بخصائص التنظيم القومي . فهو قوة جماهيرية منظمة ومفرزة على اساس التقائها على نظرية في حل مشكلات التطور الاجتماعي للأمة العربية ( بدون اعتداد بالانتماء السياسي الى الدول العربية ) تحدد لها دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية غاية تلتزم بها في الممارسة في أي مكان من الوطن العربي ( بدون اعتداد بالتجزئة وتحتكم اليها عند الاختلاف ديموقراطياً ( بدون اعتداد بالمواقف الفردية )  .

ما اسمه ؟ .. لا يهم . حتى لو لم يسم حزباً واسمي الحركة العربية الواحدة .

غير ان اصدق الاسماء دلالة على طبيعته سيكون ” الطليعة العربية ” انه اسم يصف ماهيته . فهو طليعة من حيث هو جزء غير منفصل عن الشعب العربي يشق امامه الطريق الى التقدم . وهو طليعته على الطريق الى الحرية فهو طليعة تحريره . وهو طليعته على الطريق الى الوحدة فهو طليعة وحدوية . وهو طليعته على الطريق الى الاشتراكية فهو طليعة اشتراكية . وقد كسب هذه الجوانب المتعددة من مواقعه ، العربي متعدد المشكلات ، ولكنه طليعة واحدة ، فيكفي للدلالة على وحدته في مواجهة واقعه بان يكون طليعة عربية .

قياساً على هذا نستطيع أن نقول واثقين انه لا يوجد في الوطن العربي الان ( يونيو ـ حزيران ـ 1970 ) حزب قومي تحت أي اسم . نقوله استناداً الى نظريتنا . وهل يستطيع احد ان يحتكم إلا إلى نظريته ؟ ان الموجود هي منظمات ” اقليمية ” ولو كانت ملتقية على الالتزام بإقامة دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية . واسوأ ما في الأمر أنها لا تعي انها ” اقليمية ” وتاخذ من غايتها القومية المعلنة دليلاً على انها ” مؤسسات حزبية قومية ” تأخذ من المستقبل الذي لم تحققه دليلاً على واقعها المتحقق . وتنسى انه كما ان كل مشكلة في الوطن هي مشكلة قومية فإن كل من يتصدى لحل أية مشكلة اجتماعية يستطيع ان يحتج بوحدة المشكلات الاجتماعية ، وبوحدة المصير القومي ، فيقول انه قومي من حيث هو يبني جسراً في إحدى قرى الوطن العربي . ولا يستطيع أي قومي إلا ان يقبل حجته . وتتجاهل انها إذ تحدد غايتها القومية المعلنة بانها : دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية ، تكون ملتزمة قبل ان تلغي الاقليمية خارجها بان تلغي الاقليمية داخلها ، وقبل ان تؤسس الدولة الديموقراطية ان تكون هي ديموقراطية ، وقبل ان تبني نظاماً اشتراكياً ان تكون هي اشتراكية . تنسى انها إذ تعد الشعب العربي بمستقبل معين تقوم هي تجسيداً عينياً للمستقبل الذي تعد به ، وإذا لم تجسده ناقض واقعها ما تعد به فلا يصدقها احد ولا تستطيع هي ان تصدق فيما وعدت .

ان على هذه المنظمات والحركات والاحزاب .. القائمة في الوطن العربي تعلن عن غايتها دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية ولا تتوافر لها واحدة او اكثر من خصائص الحزب القومي ، إما لأنها لاتملك نظرية تبرر غايتها فهي تتبع أفكار قادتها الذين قد لايكون ثمة شك في مقدرتهم الفكرية ، واما لأنها غير ديموقراطية فيتحكم فيها قادتها الذين قد لا يكون ثمة شك في مقدرتهم النضالية ، واما لأنها مفرزة اقليمياً بحكم ظروف نشأتها التاريخية التي قد لا يكون ثمة شك في الرغبة في التحرر منها … أو لأي سبب آخر ولو كان تخريبها من داخلها أو قهراً من خارجها … ، على هذه المنظمات والحركات والاحزاب ان تعرف وتعترف بأنها اقليمية التكوين بالرغم من غاياتها القومية ، وان تتحرر من عقدة الذنب وهي تجد نفسها غير قادرة على الوفاء بمتطلبات غايتها . انها إذ تتحرر من هذا الشعور المدمر تكف ـ كما نأمل ـ عن محاولاتها العقيمة في الدفاع عن وجودها وحبس الشباب العربي فيها عن الالتقاء في حزب قومي . أو عن محاولاتها الساذجة لفرض وجودها على هذا الحزب للتدليل على براءتها من تهمة الاقليمية . أو إعادة محاولاتها الفاشلة لتحقيق غايتها المعلنة : دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية .

انها إن كانت صادقة في غايتها المعلنة فيكفيها انها قد حاولت ونجحت في ان يبقى شعار المستقبل العربي التقدمي مرفوعاً و سيداً على كل شعار مضاد ولو بدون تحقق ، وان تبقى القومية التقدمية متجمعة ولو بدون وحدة ، وان تنتصر الحركة العربية في معارك كثيرة ولو كانت قد انهزمت كثيراً . ان كل هذا لم يتحقق تلقائياً بدون جماهير قومية تقدمية منظمة ناضلت فعلاً من اجل تحقيقه . وان كانت قد فشلت في تحقيق دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية فليس من اللازم أن يكون مرجع هذا الفشل الى تقصير في استخدام قواها المتاحة بل لعل مرجعه الى ان قواها المتاحة قاصرة بطبيعتها على ان توفي متطلبات الغاية العظيمة . واهم اوجه قصورها انها ليست ” مؤسسات ” قومية ولو كان الذين التقوا فيها قوميين التزموا بتحقيق غاية قومية . فهي تنطوي في ذاتها على التناقض العميق بين ارادة اعضائها وواقع تكوينها . وكل مؤسسة منها تجاهلت مشكلة التكوين الكامنة في ذاتها ، وحاولت أن تحقق غايتها بواقعها التنظيمي ، مزقها التناقض فيها . فلا حققت غايتها ولا احتفلت بوحدتها . وكان الشباب القومي التقدمي ، القواعد البريئة ، هم الضحايا في كل مرة . فلا يحاولن احد أن يكرر اخطاء من سبقه فيزعم انه اكثر مقدرة على ان يتحدى الحقائق الموضوعية . وليكف الذين لم يخطئوا بعد عن محاولة الخطأ . فغن كفوا عن المحاولة والخطأ واعترفوا بان مؤسساتهم اقليمية فإنهم يقدمون الدليل على انهم قوميون تقدميون يعانون من مأزق انتمائهم التاريخي الى مؤسسات اقليمية . وتكون مشكلتهم هي كيفية الخروج من هذا المأزق عندئذ يتبينون ان الحزب القومي هو المنقذ لهم من مأزقهم .

لستم مذنبين اذن ان كنتم صادقين . بل أحزابكم أدوات غير مناسبة لغايتها . وتلك مسؤولية تاريخية . ولكن لماذا يكون الحزب القومي الديموقراطي الاشتراكي هو الاداة المناسبة لتحقيق دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية ، فتكون الاحزاب الاقليمية التي تستهدف ذات الغاية ادوات قاصرة ؟ ..

71  ـ لماذا حزب قومي :

من الواقع الذي يدور فيه النشاط السياسي الى الغاية التي تحددها النظرية فترة زمانية تطول او تقصر . ولكنها في كل الحالات يجب أن تكون مغطاة بخطة حركة تصل بين ما هو كائن وما يجب أن يكون . انها ” الاستراتيجية ” أي المخطط الذي يربط بين النشاط السياسي والغاية التي يستهدفها مقسماً في المواقع على مراحل زمانية تتفاوت طولاً أو قصراً طبقاً لظروف كل مرحلة وطبيعة الانجازات المحددة فيها . إنها تقابل التخطيط الاقتصادي الشامل الذي عرفنا إنه الاسلوب العلمي للتحكم في القوانين الاقتصادية . ومنه تستمد الاشتراكية صفتها العلمية ( فقرة 57 )  . والاستراتيجية هي التخطيط الشامل الذي يتحكم به الحزب في النشاط السياسي ويحقق من خلال التزامه غايته . وكما أن الالتزام بغاية بدون استراتيجية لا يعدو أن يكون ثقافة فكرية مجردة فإن الالتزام باسترتيجية بدون غاية لا يعدو أن يكون التزاماً شكلياً غير ذي مضمون لا يمكن متابعته ولا يتحرج أحد في الخروج عليه .
على أساس النظرية ، وفي داخل اطار الاستراتيجية ، يتحول العمل السياسي الى ما لاحصر له من العمليات المتنوعة في طبيعتها ، المتفرقة في مواقع التنفيذ ، المقسمة على القوى العاملة في الحقل السياسي .. أي تتحول الاستراتيجية الى مهمات تكتيكية . وعلى هذا المستوى ( مستوى التكتيك ) يتعرض العمل السياسي كله لاختبار الممارسة إذ هي المحك الذي لا يخطىء في كشف فاعلية النشاط السياسي . ولكنه يتعرض أيضاً لمخاطر الممارسة . ذلك لأن ثبات الخط الاستراتيجي من ناحية ، والتغيرات التي تطرأ على ظروف المعارك من ناحية ثانية ونشاط القوى المضادة من ناحية ثالثة ، يستلزم أن يتوافر للعمل السياسي على مستوى الممارسة قدر غير قليل من المرونة والمقدرة على المناورة . ولما كانت المواجهة الفعلية للقوى المضادة تتم على هذا المستوى ، كما تتحقق عليه المكاسب او الخسائر ، الانتصارات أو الهزائم ، فإن الخطر يكمن فيه ايضاً . ومصدر الخطر أن تفلت الممارسة السياسية على المستوى التكتيكي من الالتزام بالخط الاستراتيجي ، أي يترك العمل السياسي لاهواء ونزعات القائمين به بدون ارتباط بالخطة العامة . ان هذا يشبه ـ مع الفارق ـ ان تتلقى ادارة إحدى مؤسسات الانتاج صورة من الخطة الاقتصادية ثم تضعها في أحد الادراج ، وتقبع في مكاتبها ، تاركة لكل عامل ان ينتج ما يشاء بالمواصفات التي يريدها . وكما انه مهما عظمت الجهود التي يبذلها العاملون ، ومهما صدقت رغباتهم في انجاح المشروع الاقتصادي الذي يعملون فيه ، فإنهم سيفشلون نتيجة للأسلوب غير العلمي الذي يسود نشاطهم ، كذلك تفشل الجهود السياسية التكتيكية في تحقيق غاياتها مهما حسنت نوايا القائمين بها وحتى لو كانوا أبطالاً ، لأنهم لايلتزمون استراتيجية العمل السياسي فكيف تتسق المواقف والتحركات السياسية في الممارسة الفعلية مع الاستراتيجية العامة للعمل السياسي ولا تنحرف او تتعارض أو تضعف الحركة نحو الغايات التي تحددها النظرية ؟
بوحدة التنظيم . إذ مع تحول الاستراتيجية الى عدد لا حصر له من المهمات متنوعة الطبيعة ( نشاط ثقافي ـ نشاط دعائي ـ استقطاب جماهيري ـ عمل ثوري .. الخ ) تقوم بها اعداد كثيفة من الاشخاص متنوعي الكفاءات ومتفاوتي المقدرة ، بحيث يختص كل منهم بجزئية محدودة من العمل السياسي ، يكون من الحتمي انتماءهم جميعاً الى تنظيم واحد ذي قيادة واحدة قادرة على تفريغ المراحل الاستراتيجية في جداول عمل نوعية ، وتقسيم العمل على القائمين به كل حسب كفاءته ومقدرته ، ومتابعة جهودهم ، والتنسيق بينها على وجه يحفظها داخل اطار الخطة الاستراتيجية ، وتنقية صفوفهم من المنحرفين قبل أن يتحول الانحراف الى انقسام وتمزق ، ثم مراقبة المحصلة النهائية لمجموع العمل اليومي في المواقع التكتيكية بحيث تتفق مع التخطيط السياسي من حيث النوع ومن حيث التاريخ المحدد للانجاز  .

كل هذا بصرف النظر عما اذا كانت الخطة الاستراتيجية معلنة لغير الملتزمين بها ام لا . ذلك لأنه بينما تكون الغاية معلنة في أغلب الاوقات ، قد تلجأ بعض المنظمات الجماهيرية الى حجب استراتيجية عملها عن القوى المضادة لتتيح أكبر قدر من الأمن للذين يتحركون على مستوى الممارسة التكتيكية . ومعنى هذا ألا علاقة للاسلوب العلمي في السياسة بالديماغوجية السياسية ، بل أن اطراد النجاح أو الفشل ، وامكان توقعهما ، هو الذي يأتي كاشفاً ، على وجه لا تجدي معه الاعذار عما إذا كان العمل السياسي الذي انتهى به علمياً أو غير علمي  .

والسؤال الذي يوجه الى كل المنظمات والاحزاب والحركات اقليمية التكوين التي تستهدف ـ فيما تعلن ـ إقامة دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية هو : هل يمكن ان يكون لأي منها خطة استراتيجية لتحقيق دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية ؟ . لا نقصد السؤال عما إذا كان يمكنها ان تضع على الورق خطة استراتيجية ، بل نقصد السؤال عما إذا كان يمكنها ان تقود النضال الجماهيري على المستوى التكتيكي في الوطن العربي طبقاً لخطة استراتيجية واحدة ؟ . وحتى لا يتسرع أحد في الرد بالايجاب نقدم اليهم نماذج من النضال التكتيكي من أجل إقامة دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية : انه قتال مسلح ضد الصهيونية ، والقوى الاستعمارية الظاهرة وقواعدها في كل مكان من الوطن العربي ، وتدمير لمصالحها الاقتصادية ، وتصفية لعملائها حيث توجد تلك المصالح وحيث يوجد العملاء ، وفي سبيل هذا تحالف مرحلي مع عديد من القوى التي تقاتل الصهيونية وتناهض الاستعمار ، مع التحضير لمعركة الوحدة والتحرر والحيلولة دون ان يتم التحرر لحساب الاقليمية ، وهو النضال ضد الاقليمية والانفصال من اجل الوحدة والتحالف مرحلياً مع عديد من القوى التي تناهضهما ، والنضال في الوقت ذاته من اجل التحول الاشتراكي في الاقاليم المتحررة مع الحيلولة دون ان تتم الوحدة لحساب الرجعية . وهو النضال من اجل الديموقراطية في كل دولة مع التحضير لإلغاء الدولة لحساب الوحدة . وهو الصراع ضد التخلف والاستغلال من اجل الاشتراكية العربية والتحالف مرحلياً مع عديد من القوى الاشتراكية مع الحيلولة دون ان يكون التحول لحساب الاشتراكية الاقليمية . وفي سبيل هذا يناضل ألوف من القوميين التقدميين في قلب الدول الاقليمية في ظل عديد من نظم الحكم فقتال مسلح في الاقاليم المحتلة والمغتصبة وصراع سري في ظل الحكومات المستبدة ، وصراع علني حيث تمكن العلانية مع التحوط ضد غدر الاقليمية . هي التقدم من كل المواقع المتنوعة في الوطن العربي ضد كل القوى المعادية على كل الجبهات في الوقت نفسه الى غاية واحدة ، وتنسيق خطا هذا التقدم على وجه تظل به في خدمة الغاية القومية بدون ان تنحرف بها الممارسة ثم متابعة التقدم ، ومراقبة قواه ، وردع المنحرفين .. الخ . فهل يمكن لقوة جماهيرية منظمة ( حزب ) ان تقود النضال على هذا المستوى القومي العريض المجزأ متنوع المشكلات ؟ . نعم . اذا كانت حزباً قومياً من جماهير مناضلة في كل المواقع تحت قيادة طبقاً لاستراتيجية واحدة . فماذا لو قامت على تنفيذ ذات الغاية طبقاً لذات الاستراتيجية قوة جماهيرية منظمة اقليمياً ( حزب اقليمي التكوين ) ؟ انه ذات السؤال ـ بصيغة اخرى ـ الموجه الى كل المنظمات والاحزاب والحركات اقليمية التكوين التي تستهدف اقامة دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية بعد افتراض صدق النوايا وصلابة الاداة ووحدة الاستراتيجية أي بدون اتهام لها بقصور فكري او تنظيمي او علمي  .

والاجابة : ان كل هذا لا يجديها شيئاً لأنها لا تملك خارج حدودها الاقليمية من تستطيع به أن تنفذ استراتيجيتها القومية . فهي ادوات قاصرة عن الوفاء بمتطلبات غايتها وبحكم قصورها تفشل في تحقيقها.
ولهذا الفشل تاريخ في تاريخنا فهل نعتبر ؟ .
ففي سنة 1963 استطاعت منظمات حزبية ، تعلن جميعاً ان غايتها الوحدة ، ان تصل الى الحكم في العراق وسورية ، فالتقت في القاهرة بالرئيس جمال عبد الناصر لاقامة وحدة ثلاثية . ودارت المباحثات وطالت وتشعبت خلال شهر ابريل ( نيسان ) 1963 . وتميزت المباحثات بطابع غير مسبوق كانت وراءه ـ بلا شك ـ خبرة فشل وحدة 1958 . فقبل ان تدور حول الشكل الدستوري للوحدة دارت حول ضرورة ” وحدة القوى ” الحاكمة في الاقطار الثلاثة . واستنفذوا اغلب الوقت والجهد في حوار حول مفهوم الحرية والوحدة والاشتراكية بقصد الوصول الى وحدة فكرية تؤدي الى وحدة تنظيمية تقيم وتحمي الوحدة الثلاثية . وانتهت المباحثات الى اتفاق كامل في وثائق ثلاث . أولها ميثاق فكري . وثانيها خطة لتحقيق ” وحدة القوى ” على هذا الميثاق . وثالثها ـ وآخرها ـ دستور للوحدة الثلاثية . وبرغم كل هذا لم تتم الوحدة الثلاثية ، لأنه لم تتم ” وحدة القوى ” مع انها متفقة على الغايات التي تضمنها الميثاق الذي قبلته كل منها ووقعت عليه واعلنت التزامها به على الشعب العربي . فلماذا ؟ .. لأسباب عدة تجتمع كلها في سبب واحد هو انها كانت قوى اقليمية التكوين بالرغم من اتفاقها المعلن على الغاية القومية . والقوى الاقليمية لا تستطيع حتى لو ارادت ان تلتزم استراتيجية واحدة بسبب تعدد القيادة فيها وان كانت قد تقف ـ تكتيكياً ـ موقفاً واحداً فهي ادوات قاصرة عن الوفاء بمتطلبات تحقيق دولة الوحدة . وسيكون جمال عبد الناصر هو الوحيد من جميع الاطراف الذي يدرك السبب الموضوعي للفشل فيعلن في خريف سنة 1963 ان ” الحركة العربية الواحدةقد اصبحت ضرورة تاريخية . ويكون مدركاً ان مركزه كرئيس دولة اقليمية لا يسمح له بالوفاء بمتطلبات انشاء حركة قومية فيدعو الجماهير العربية الى الوفاء بمسؤولية انشائها . و ” الحركة العربية الواحدة ” هو التعبير الذي اطلق في ذلك الوقت على ” الحزب القومي ” وما يزال يطلق للدلالة عليه .  ومنذ ذلك التاريخ والقوميون التقدميون عاجزون عن ان يجيبوا على السؤال : كيف تقوم الحركة العربية الواحدة . انه ذات القصور في معرفة الاسلوب  .

72  ـ وحدة القوى العربية التقدمية :

كان طبيعياً أن يتيح ذلك العجز فرصاً لدعوات التراجع . ونسي كثيرون ان دعوة الحركة العربية الواحدة كانت خلاصة الدروس المستفادة من تجارب المعارك القومية بكل ما فيها من انتصارات وانتكاسات ، فاتخذوا من الصعوبات التي قامت في طريقها ، ومن تردد القوى القومية أمام تلك الصعوبات ، سبباً لادانتها بدلاً من ان يتخذوا من الصعوبات سبباً لمزيد من الجهد لتحقيقها . والى أن حلت بنا هزيمة 5 يونيو ( حزيران ) 1967 كانت الجماهير العربية تتأمل بعجب لا اعجاب فيه فيضاً من الصيغ المبتكرة لوحدة النضال الجماهيري في الوطن العربي . من اول الالتقاءالأخوي ” وتبادل النشرات الثقافية بين المنظمات الاقليمية الى جبهة عربية بين القوى التقدمية ، الى وحدة القوى الاشتراكية ، الى وحدة القوى العربية التقدمية .

على اي حال فليست العبرة بالكلمات والعناوين ، ولكن العبرة بما نعنيه بالكلمات التي نستعملها . إذ بالرغم من اننا نتكلم لغة واحدة فإننا نتحدث كثيراً ثم لا نتفق بدليل ان كل الذين ابتكروا الصيغ التي دعوا اليها لم يستطيعوا ان يتقدموا خطوة الى تحقيقها . هل معنى هذا اننا لو حددنا معاني للكلمات ، ولو بإنشاء قاموس سياسي ” عربي ـ عربي ” نستطيع ان نحقق أياً من هذه الصيغ ؟ .. لا ، لأن الاختلاف على دلالة الكلمات قد يكون جهلاً في بعض الاوقات ولكنه في اغلب الاوقات افتعال عامد بقصد فرض مضامين فكرية أو اجتماعية أو سياسية خاصة على الحركة القومية . ان الحوار الذي لا يلتقي يعبر عن صراع لا لقاء فيه . فمثلاً لا يمكن ان يختلف اثنان في دلالة كلمة ” الوحدة ” على الاقل فيما تعنيه من نفس التعدد . ومع هذا فنحن نتحدث حديثاً طويلاً عن ” وحدة القوىيعني انه حديث عن تجاوز التعدد الى الوحدة فان هذا أمر غير مسلم من الجميع . فكثيرون لا يفهمون من وحدة القوى إلا أنها تحرك قوى متعددة في اتجاه واحد .

على أي حال ماذا تعني ” الوحدة ” بالنسبة الى القوى العربية التقدمية ؟

طبيعي أن يكون لكل متحدث تصور خاص لهذه الوحدة . ولسنا نريد أن ننكر على احد تصوره أو ان نفرض عليه تصوراً خاصاً بشرط ألا يحاول أحد أن يفرض تصوره علينا . وقد يبدو من المبالغة أن نقول أن هذا هو مفتاح الموقف كله . مفتاح الديموقراطية الذهبي . ومع هذا فإنا لا نشك لحظة في أن كل شيء متوقف عليه ، أي على قبول كل منا أن يحاور لا أن يملي ، أن يبحث عن الاتفاق لا أن يفرض شروطه . لو قبلنا هذا لوجدنا أنفسنا ملزمين بأن نبحث عن مقياس موضوعي لصيغة الوحدة ، أي مقياس لا يتوقف على أهوائنا . عندئذ تبدو المشكلة في منتهى البساطة . لأننا إذا كنا نبحث عن صيغة ” لوحدة ” القوى العربية التقدمية فإنا لانبحث عنها اعتباطاً بل لأن امتنا العربية في حاجة اليها . أي أن ” الوحدة ” مطلوبة لتحقيق غاية . ولما كانت مناسبة الاداة لتحقيق الغاية المستهدفة من ورائها مسألة موضوعية ، فإن مصدر الاجابة الصحيحة على السؤال : كيف تكون وحدة القوى العربية التقدمية هي الاجابة على السؤال : لماذا وحدة القوى العربية التقدمية ولسنا نعتقد ان هناك محكاً ” للاخلاص ” في البحث عن صيغة الوحدة أكثر صدقاً من هذا المقياس . من أجل هذا طرحنا السؤال ” لماذا ” الحزب القومي ؟ ووصلنا فيه الى اجابة مستمدة من اكثر تجاربنا مرارة : ان ثمة ” ثغرة ” تحول بين القوى القومية التقدمية وبين أن تتكامل لها عناصر الاسلوب العلمي في مواجهة القوى المعادية . وإن تلك الثغرة هي انعدام وحدة الاستراتيجية . وعرفنا ان وحدة الاستراتيجية المفتقدة لا تتوافر إلا بوحدة التنظيم ووحدة القيادة . اذن فنحن نبحث عن صيغة لوحدة النضال الجماهيري توفر لنضال الجماهير العربية وحدة الاستراتيجية . وقد عرفنا ان هذا يتطلب وحدة التنظيم ووحدة القيادة . وهكذا نرى ان الاجابة على ” كيف ” يجب ان تكون وحدة القوى العربية التقدمية اجابة بسيطة . تكون بقيام تنظيم قومي ذي قيادة عربية واحدة يضم كل القوميين التقدميين ويقود حركتهم على المستوى التكتيكي طبقاً لاستراتيجية نضال قومي تصل بين واقع الأمة العربية وغايتها البعيدة ، ويدير المعارك ضد كل القوى التي تقف عقبة سلبية او إيجابية على الطريق الى تلك الغاية .

فلماذا تغيب هذه الاجابة البسيطة عن كثير من الذين يبحثون ـ جادين ـ عن الصيغة الصحيحة لوحدة القوى العربية التقدمية ؟

ثمة عوامل كثيرة ، منها ما يتصل بالصيغة ذاتها ومنها ما يتصل بمضمونها . تختلط جميعاً بفكرة الحزب القومي وتثير حوله كثيراً من الضباب فلا يهتدي اليه الباحثون . اما عن العوامل التي تتصل بالمضمون فسنتحدث فيها بعد قليل . ونتحدث الآن عما يتصل بالصيغة .

يقال ان ” وحدة ” القوى العربية التقدمية تتم على مستويين . أولهما الوحدة الوطنية للقوى التقدمية ثم ـ ثانيهما ـ الالتقاء او التنسيق أو التحالف بين تلك القوى على المستوى العربي . عظيم . فلن يسيء أي قومي ان يرى اليوم الذي تدفن فيه تلك ” الشللالتي تسمي نفسها حركات أو أحزاباً أو قوى وان يرى الجماهير العربية في كل قطر موحدة على أهدافها . ولكن ما الذي سينتج عن الوحدة الجماهيرية في أي اقليم ؛ أو ما تسمى ” الوحدة الوطنية ” . انها لن تزيد عن ان تكون تنظيماً للقاعدة الشعبية في الدولة الاقليمية ، أي تنظيماً اقليمياً ولو كان تنظيماً واحداً . وهكذا تنشأ اسيرة الاطار الاقليمي يحول بينها وبين وحدة الاستراتيجية . انها تستطيع أن تلتقي وان تتبادل الخبرات والنشرات وان تتزاور وان تنسق بين مواقفها التكتيكية ، ولكنها ستظل في مواجهة بعضها البعض منظمات مستقلة القوى مستقلة القيادة مستقلة الاستراتيجية مستقلة الغايات ولو كان ثمة قدر مشترك من غاياتها . وسيظل التقاؤها وتعاونها وتنسيقها متوقفاً على ارادة كل منظمة على حدة وبالتالي لن تستطيع المنظمات الاقليمية أن تحقق فيما بينها وحدة الاستراتيجية ولو رغبت في هذا ، لأن أحداً منها لا يستطيع أن يلزم أحداً حتى الوفاء بما التزم به . انها ” الجامعة العربية ” الشعبية .

ان كل ما يمكن الرد به على هذا هو أن يتهم أحد الاطراف الاخرى بأنهم غير قوميين وهو أمر تردده عن غيرها كلالشلل ” ولا نقول المنظمات في أغلب البلاد العربية . وحرصاً منا على ان يبقى الحديث في حدوده فإنا لن نقول لهم ان كنتم حقاً قوميين فكيف قبلتم الحصر الاقليمي واتخذتم من الحدود الاقليمية حدوداً لمنظماتكم . وما الذي تفعلونه خارج تلك الحدود تنفيذاً للالتزامات القومية التي تعلنونها . وما هو التجسيد العيني الذي تمارسونه لهذا اللالتزام ما دمتم تأخذون من التجزئة حدوداً لالتزاماتكم . وتقصرون مسؤوليتكم على جماهير اقليمكم وتقبلون أن يكون آخرون مسئولين في كل اقليم عن جماهيره وعندما تلتقون يتحدث كل منكم باعتباره ممثلاً لاقليمه وتتبادلون الاعتراف بالتجزئة ؟ بل نقول لهم : ما الذي في طاقتكم ـ اقصى طاقتكم أن تفعلوه ؟ ما هي المحصلة النهائية لذلك النشاط اليومي الذي تدعون الجماهير اليه ؟ وما هو النصر الذي يمثل غاية مخططاتكم الاقليمية ؟ أليس هو الاستيلاء على السلطة في الدولة الاقليمية ، ان تصبحوا حكاماً ؟ عندئذ ستسيرون ، وتمثلون الدولة الاقليمية ـ أي أن اقصى نجاح تحققه منظمة اقليمية جماهيرية هو أن تتحول الى حكومة تمثل دولة اقليمية .

وحتى لا يغضب بعض الذين يسمون أنفسهم قوى اقليمية ، ويقدمون من صدق نواياهم ضماناً للأمة العربية ، نقول انكم غير متهمين فيما تعتقدون . والواقع ان تلك القواعد الجماهيرية الممزقة الى شلل ومنظمات اقليمية تكوّن القدر الكبير من القواعد الجماهيرية القومية فلا نستطيع ان نتهم اخلاصها القومي . ولكن المشكلة ليست مشكلة اخلاص أو خيانة ، بقدر ما هي مشكلة معطيات موضوعية لا تجدي حياً لها مجرد النوايا . ومن تلك المعطيات ان الحركات والتنظيمات والاحزاب الاقليمية ليست أكثر من قواعد الدولة الاقليمية . وهي عادة اضعفهن قيادة الدولة لانها ـ عادة ايضاً ـ ممزقة . ولكن وحدتها ” الوطنية ” لن تمنحها مقدرة نضالية اقوى من الدولة الاقليمية . لأنها عندما تصل الى ان تكون أقوى من قيادة الدولة تستولي على السلطة فتصبح هي قيادة الدولة الاقليمية ذاتها . وكل تلك معارك ” داخلية ” اذا انتهت الى ان يتولى بعض القوميين الحكم في الدولة الاقليمية قد تصبح أقل اضراراً بالقضية القومية ولكن هذا لا يغير من الأمر الذي نتحدث عنه شيئاً استحالة وحدة الاستراتيجية عن طريق الالتقاء بين المنظمات السياسية الاقليمية .

هل هذا كل شيء بالنسبة لصيغة اللقاء بين المنظمات الاقليمية ؟

لا . ذلك لأن التقاءها وتعاونهاالخ سلاح ذو حدين . حده الايجابي انه يساعد على اضعاف العزلة بين الجماهير العربية وبالتالي يخلخل الرواسب الاقليمية ويضعف مقاومة عوامل الانفصال . اما حده السلبي ـ الخطير ـ فهو انه يعوق الوحدة الجماهيرية القومية بما يفتعله من آمال ” وحدوية ” يعلقها على حده الايجابي . نريد أن نقول أن خطر الالتقاء والتقارب بين المنظمات الاقليمية يكمن في تقديمه الى الجماهير العربية كبديل عن الحزب القومي . ولأن المنظمات الجماهيرية الاقليمية تستطيع وهي بعيدة عن مركز السلطة اي عن الالتزام المباشر بالاطار الدستوري للدولة الاقليمية ان تتحدث بألفاظ كبيرة عن القومية وعن الوحدة ، فإنها تثير قدراً كبيراً من الضباب الذي يحجب عن الجماهير رؤية طريقها الصحيح ، وتثير قدراً كبيراً من الضجيج ” القوميالذي يسهم مساهمة بالغة في تجريد الحديث عن ” وحدة القوى ” من الوضوح فلا يفهم أحد ما يقول الآخر فلا يلتقيان .

كل هذا ونحن لا نتهم أحداً في نواياه ، ولا ننكر على احد ما يزعمه من أنه قومي تقدمي يسعى ” بكل اخلاصالى وحدة القوى العربية التقدمية . فلنختبر هذا الادعاء اختباراً رقيقاً . معروف أن الحزب القومي سيكون موحداً لقيادة متعددة الفروع من الاقاليم . أي ان التنظيم القومي لن يلغي وحدة الجماهير في أي اقليم عربي . ومن هنا فهو لا يناقض هذه الوحدة . ان الوضع التنظيمي للقواعد الجماهيرية في أي بلد عربي لن يتغير كثيراً عندما تكون منتمية الى تنظيم قومي بدلاً من انتمائها الى منظمة اقليمية . والمهمات الحركية حتى داخل التنظيم القومي ستكون مقسمة على القواعد الجماهيرية في مواقعها حيث تكون . أي ان التنظيم القومي لن يسحب القوميين التقدميين من مواقعهم النضالية في الاقاليم ولن يضعف مقدرتهم على مواجهة المشكلات الاجتماعية التي يناضلون من أجل حلها . بالعكس انه يضيف الى هذه المقدرة لانه سيكون بقوته المضاعفة في خدمة قواه في كل موقع . كل ما في الأمر انه يربط النضال في كل موقع باستراتيجية واحدة حتى لا يتناقض فيضعف بعضه بعضاً . ولكي ينتهي الى غاية واحدة . من اين ـ اذن ـ يأتي” مبرر ” الابقاء على المنظمات الاقليمية ؟ من نقطة واحدة . ان كل المنظمات الاقليمية ذات قيادات و ” الحزب ” القومي لا يسمح بتعدد القيادات . وهكذا تتبلور المسألة كلها في ان مجموعة من اكثر الناس كلاماً عن القومية والاخلاص  الخ .. لايريدون ان يفقدوا مراكزهم القيادية في ” شللهم ” أو ” أحزابهم ” بالرغم من اشتراكهم النشيط في الدعوة الى وحدة القوى العربية القومية ، انهم عندما يواجهون بالحل الصحيح ( الحزب القومي ) لا ينكرونه ولكنهم لا يكفون عن ابتكار الاعذار للابقاء على التمزق الجماهيري ليبقوا ” زعماء ” كما يعتقدون في أنفسهم . وعندما يلتقون في حوار مشترك حول وحدة القوى العربية التقدمية أو الحركة العربية الواحدة ، او التنظيم القومي يتحدث كل منهم منطلقاً من افتراض يخيفه هو ان مركزه القيادي في الصيغة الجديدة ليس محل حديث . وطبيعي أن تنظيم قومي لن تتسع قيادته لكل الطامعين فيها ومن هنا لا يلتقون . ولما كانت أسباب الخلاف مواقف شخصية غير معلنة ، فإن تبريرها يتحول الى سباب شخصي في جلسات خاصة .

فماذا عن الجبهة ؟

73  ـ الجبهة ام الحزب ؟

صيغة الجبهة صيغة تقليدية في النضال الجماهيري وهي كفيلة بأن توفر أكبر قدر من التعاون المرحلي بين القوى المتعددة . وهي تحل مشكلة ” الزعامة ” لأنها تضمن عادة ” قيادة مشتركة ” او لجنة اتصال ” تضم ممثلين لكل من المنظمات المتحالفة بدون المساس بالوجود المستقل لكل منظمة وقيادتها . ولأن الجبهة صيغة تقليدية فإن لها ” تقاليدأرستها ممارسة النشاط الجماهيري على المستوى الاقليمي وعلى المستوى القومي وعلى المستوى العالمي جميعاً . وليس المطلوب من الذين يدعون الى وحدة القوى العربية التقدمية في جبهة إلا ان يعترفوا بهذه التقاليد التي تشكل قوانين العمل الجبهوي . أهم هذه القوانين هو ما يعرف بالصراع عن طريق الوحدة ، وهو قائم على أساس أن أية منظمة جماهيرية جادة لها هدف ثابت هو استقطاب الجماهير الى جانب الغايات التي تقوم على النضال من اجلها . وهذا يعني ان ثمة معركة اساسية بين كل المنظمات التي تعمل في حقل اجتماعي واحد من أجل تصفية المنظمات الاخرى عن طريق استقطاب قواعدها الجماهيرية . فهي في صراع يبرر وجودها ذاته فلا تستطيع ان تتنازل عنه . ولكن يحدث ان تواجه المنظمات المتصارعة عدواً مشتركاً وتجد ان مصلحتها جميعاً في ان توحد جهودها لرد هذا الخطر . عندئذ تقدم لها صيغة العمل الجبهوي أكبر امكانيات النصر المشترك . ومن هنا تبرز القوانين الثلاثة التي تحكم العمل خلال جبهة :

أولها ، ان الجبهة لا تقوم الا مرحلياً ، أي تنطوي على اتفاق ضمني على العودة الى الفرقة . ثانيهما ان كل طرف في الجبهة يجهز نفسه لاستئناف الصراع بعد تحقيق النصر المشترك . ثالثهما : ان نشاط كل طرف في الجبهة يدور على محورين : محور التعاون ضد العدو المشترك ، ومحور النمو على حساب الاطراف الأخرى بحيث يكون قادراً على أن يضيف النصر الذي حققته الجبهة الى رصيده الشعبي الخاص . أي ان كل طرف يسعى حتى في ساحة النضال المشتركة الى تصفية الاطراف الاخرى لحسابه .

لم يحدث قط أن افلت أي عمل جبهوي من حكم هذه القوانين . وكل المنظمات المتمرسة بالنضال الجماهيري تسعى إلى تكوين جبهات مع القوى الاخرى لتضرب أكثر من عصفور بحجر واحد : تستكمل بالتحالف مقدرتها على تحقيق الغاية المشتركة ، وتستكمل عن طريق التحالف مقدرتها على تصفية القوى الاخرى . غير ان هذا يتوقف بطبيعة الحال على قوتها النسبية . لهذا يكون النصر النهائي في كل جبهة عادة لإحدى المنظمات المتحالفة ، وعلى وجه التحديد لأكثرها علماً بقوانين الصراع من خلال التحالف . وكثيراً ما تشعر بعض المنظمات المتحالفة في جبهة بما يدبر ضدها على مستوى القواعد فتنفصل . والذين لا ينتبهون اليه تتم تصفيتهم عن طريق امتصاص قواعدهم فتنفصل القيادات بعد ان تكون فقدت أغلب قواعدها . وفي كل الحالات يخوض المؤتلفون في جبهة صراعاً مريراً بعضهم ضد البعض الآخر إما بعد الانفصال أو بعد تحقيق النصر المرحلي ضد العدو المشترك . عندئذ ـ وحتى اثناء قيام الجبهة ـ لاتكف الاطراف الضعيفة عن اتهام الرفاق الجبهويين بالانتهازية والغدر والحزبية … الخ . وهو اتهام يدل على أن تلك الاطراف الغاضبة قد دخلت تجربة أكبر من مستوى علمها بقوانين الصراع الجماهيري . أي يدل على انها ” تستحق ” ان تصفى فعلاً .

في هذه الحدود ليس هناك ما يمنع من ان تقوم جبهة بين كثير من المنظمات الجماهيرية في الوطن العربي . بالعكس ان تنوع المعارك التي تدور على الأرض العربية والخطر الاستعماري والصهيوني الذي يهدد الجميع يبرران التقاء تلك المنظمات في جبهة واحدة .

ولكن الخطأ يأتي عندما نتصور أن تلك الصيغة هي البديل عن الحزب القومي أو أنها طريق الى تذويب كل المنظمات في منظمة قومية واحدة . ذلك لأننا عندئذ نتجاهل قوانين العمل الجبهوي وضرورة أن تتم تصفية الصيغة الجبهوية لحساب أحد اطرافها ( هذا ـ طبعاً ـ مع افتراض انها منظمات حزبية مكتملة العناصر الفكرية والتنظيمية ، اما إن كانت شللاً فإنها تتجمع وتنفض تبعاً لأمزجة قادتها . وقواعدها قابلة دائماً لأن تذوب في تنظيم بمجرد ان تتحرر من القيادة ) . ومن وجهة نظر قومية لا مانع من التقاء الحزب القومي في جبهة مع كل القوى التي تتفق معه مرحلياً في كل موقع ضد عدو مشترك . وهو ما يعني أن يكون ذلك الحزب قائماً من قبل . ولا شك في أن التقاء القوميين التقدميين في حزب قومي سيمكنهم من الالتقاء في جبهات نضالية ضد الاستعمار مع الذين يريدون التحرر في معارك التحرر ، ومع الذين يريدون الاشتراكية في معارك الغاء الاستغلال ، ومع الذين يريدون الوحدة في المعارك ضد الاقليميين ، حتى لو كانت تلك القوى تقصر أهدافها على اي من تلك الاهداف الجزئية فهو لقاء في جبهة مؤقتة ضد عدو مشترك . ولكن لاشك أيضاً في أن الحزب القومي سيلتزم قوانين العمل الجبهوي فلن يسمح لأحد بأن يصفيه تحت ستار النضال المشترك ، وستكون له مواقفه التكتيكية المناسبة بالنسبة الى كل القوى التي تقف معه او تقف ضده طبقاً لاستراتيجيته القومية .

من هنا نرى بوضوح ـ كما نأمل ـ أن صيغة الجبهة ، بالرغم من فائدتها في مواجهة مواقف مرحلية محدودة ، لا تصلح أن تكون بديلاً عن حزب قومي واحد ذي قيادة واحدة ، لأن طبيعتها المرحلية ـ من ناحية ـ لا تسمح بالتزام استراتيجي واحد وهو ما نبحث عن صيغة تحققه ، ولأن تعدد أطرافها والصراع بينها على أهداف مختلفة لا يوفر لها ـ من ناحية ثانية ـ وحدة النظرية التي لا تقوم الوحدة الاستراتيجية بدونها . انها باختصار الصيغة الجماهيرية المقابلة لاتفاقيات الدفاع المشترك على المستوى الرسمي .  

74  ـ الحزب ام الدولة :

عرفنا فيما سبق الاجابة الأولى عن السؤال : لماذا حزب قومي ؟ .. وخلاصة الاجابة : حتى تكون الاداة مناسية للغاية . حتى لا نفشل . لأن الأداة ” الاقليمية ” تفشل حتماً في تغيير الواقع العربي المحتل المتخلف المجزأ على وجه يؤدي في النهاية الى دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية ، لاستحالة إلتزامها استراتيجية واحدة ، حتى لو التقت في جبهة مع أدوات اقليمية أخرى . فهل تغني الدولة عن الحزب القومي ؟ نريد ان نسأل : هل يستطيع القوميون التقدميون تحقيق دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية عن طريق استيلائهم على السلطة في دولة اقليمية او اكثر ؟

ان اي غموض أو تردد في الإجابة على هذا السؤال سينعكس على الموقف من الحزب القومي فيحيله الى موقف غامض أو متردد . وهو واقع . فلنحاول ان تكون الإجابة واضحة وحاسمة .

الدولة هي التنظيم القانوني ( الحقوقي ) للمجتمع ، فتتحدد قدراتها بما تبيحه أو تمنعه قواعد القوانين التي تتكون منها ، ويهمنا منها القانون الاساسي ( الدستور ) الذي يحدد عناصر الدولة : الشعب والرض والسيادة . وفي الدولة تقوم اجهزة متنوعة بممارسة السلطة . وهي تمارسها في حدود مقدرة الدولة لا تتجاوزها . تمارسها بالنسبة الى الشعب كما يحدده الدستور ولا تستطيع ان تتجاوزها الى ما يمس سيادة شعب آخر على ارضه . كل ممارسة خارج هذه الحدود تكون بالنسبة الى الدولة ذاتها ممارسة غير دستورية ، بمعنى انها تتم بالمخالفة للتنظيم القانوني للمجتمع الذي هو الدولة ذاتها . أو بمعنى اوضح يتم عن غير طريق الدولة . وبمعنى أكثر وضوحاً ان السلطة في الدولة ، أية سلطة في أية دولة لا تملك ولا تستطيع ان تستخدم قوى الدولة فيما يتجاوز وجود الدولة ذاتها كما هو محدد بشعب معين وارض معينة ، فان استخدمتها بنجاح او بفشل ـ لايهم ـ يكون استخدامها قد تم خارج نطاق الدولة وبالمخالفة لمقتضيات وجودها فهوتجاهل ” ـ على الأقل ان لم يكن إلغاء ـ للدولة ذاتها .

هذه قاعدة اولى اساسية .

غير ان كثيراً من السلطات في كثير من الدول تستخدم قوى الدولة ( العسكرية والاقتصادية ، والمالية ، والدعائية ، والبشرية .. الخ ) في تحقيق غايات تتجاوز وجود الدولة شعباً وارضاً وسيادة ، ومثاله القائم هو النشاط الاستعماري الظاهر او الخفي الذي يولد بدوره رد فعل دفاعي تستخدم فيه قوى كثير من الدول في احباط الاعتداء عليها عسكرياً او اقتصادياً او مالياً او دعائياً … الخ ولو استدعى الأمر ان تتجاوز وجودها شعباً وأرضاً وسيادة فتنتقل المعارك الى الدولة المعتدية أو الى حيث توجد مصالحها أو لمساندة حلفاء لها ضد عدو مشترك . وهو صراع قائم على قدم وساق على مستوى العالم جميعاً تحركه وتقوده الدول الاستعمارية وهي المسؤولة عنه . هذا بالرغم من اتفاق جميع الدول على أن استخدام قوى الدولة لتحقيق آيات تتجاوز وجودها ” غير مشروع ” . غير مشروع بالنسبة الى الدولة ذاتها لأن الدولة ، أية دولة لا تملك حق استخدام قواها خارج نطاق وجودها . وغير مشروع بالنسبة الى المجتمع الدولي لأن قواعد القانون الدولي وميثاق هيئة الامم المتحدة والفقه الدولي تحرّم جميعاً تدخل أية دولة في شئون اية دولة أخرى ، أي تحرّم عليها استخدام قواها خارج نطاق وجودها . وتتضمن هيئة الأمم المتحدة أجهزة متخصصة لمنع أو ردع هذا التدخل ( مجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية والجمعية العامة والبوليس الدولي .. )  .

كيف إذن تبرر الدول استخدام قواها خارج نطاق وجودها ؟ .

ان الاجابة على هذا السؤال بالغة الاهمية لوضوح المعرفة بحقيقة الموضوع الذي تتحدث فيه . انها جميعاً تبرر هذا الاستخدام ” بحق الدفاع الشرعي ” عن الدولة ، عن ارضها او شعبها او سيادتها ، او عن ارض او شعب او سيادة دولة أخرى فهي تحالفها في عمل مشروع . حق الدفاع الشرعي ، اذن ، هو الحالة الوحيدة التي يتم فيها استخدام قوى الدولة خارج نطاق وجودها استخداماً مشروعاً . وحق الدفاع الشرعي معلق على شرط متفق عليه هو قيام خطر حال يهدد الدولة المعتدى عليها . والصراع بين الدول قائم كله ـ من حيث الشرعية ـ من مزاعم كل طرف بان الطرف الآخر هو الذي يمثل الخطر الحال ، وانه هو لا يفعل إلا دفع الخطر الذي يهدده . وطبيعي ألا يكون جميع الاطراف صادقين . وعندئذ يحدد كل واحد موقفه من الصراع تبعاً لرأيه فيمن هو المعتدي ومن هو المعتدى عليه . كيف يحدده ؟ .. طبقاً ” لنظريته ” في وجود الدول ونوع العلاقات التي يجب ان تسود فيما بينها . ولكنه في كل الحالات ، وقبل أن يحدد موقفاً من الصراع ، أو قبل ان يدخل حليفاً لإحدى قوى الصراع ، لا بد له من أن يجيب على السؤال : من المعتدي ؟ وان يعامله على انه معتدي . بعد هذا فقط يمكنه ان يستخدم ما لديه من قوى للدفاع الشرعي عن نفسه أو عن الغير ، وعندئذ فقط . يصبح استخدام تلك القوى مشروعاً داخلياً ودولياً .

وهذه قاعدة ثانية أساسية .

ونتوقف هنا لنطبق هاتين القاعدتين على مدى مقدرة دولة عربية ما ، أو عدة دول ، على تحقيق دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية في الوطن العربي . نريد أن نقول مدى مقدرة السلطة في دولة عربية ما ، او عدة دول عربية ، على استخدام قوى الدولة العسكرية ، او الاقتصادية ، أو المالية ، او الدعائية ، أو البشرية … في تحقيق دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية في الوطن العربي . ونحن نطبقهما طبقاً لنظريتنا القومية مع التزامنا بألا تكون لنا ـ أبداً ـ نظريتان في موقف واحد . نتذكر هذا الالتزام لأن نظريتنا القومية ـ كما لابد نذكر ـ تحملنا على أن ندين ونقف ضد كل عدوان عسكري أو اقتصادي او مالي أو دعائي او بشري . وبالتالي فليست أحلاماً قومية ـ طبقاً لنظريتنا في القومية ـ ان تقوم إحدى الدول العربية أو عدة دول عربية متحالفة بغزو الدول العربية الاخرى وإقامة دولة واحدة في الوطن العربي . وليست احلاماً قومية ـ طبقاً لنظريتنا في القومية ـ ان تقوم دولة عربية أو عدة دول عربية بفرض هذه الوحدة على الدول العربية الاخرى بالقوة الاقتصادية أو المالية أو الدعائية أو البشرية … لا يمكن أن ندين هذا عندما تحاوله إحدى القوى الاجنبية لتستولي أو لتضم اليها جزءاً من الوطن العربي ، ثم نبيحه لدولة عربية عندما تحاوله لتستولي او لتضم اليها دولة عربية اخرى ولو باسم الوحدة . ان كل هذه الاساليب العدوانية ينقصها مبررالعدوان الذي يكون رده دفاعاً شرعياً . وليس في وجود أية دولة اقليمية في الوطن العربي اعتداء على أية دولة اقليمية اخرى فكل اعتداء من دولة اقليمية ضد دولة اقليمية هو اعتداء غير مشروع أول ما يهمنا منه ألا يقترن بالقومية او الوحدة . إنه يشوه قضيتنا في حين أن منطلقاته لا بد أن تكون منطلقات غير قومية ، وان غاياته لابد ان تكون غايات غير وحدوية ، مهما كانت الشعارات المرفوعة إستغلالاً للقومية والوحدة . ثم انه – في النهاية – اسلوب فاشل إذ لن يلبث طابعه العدواني أن يحرض ضده كل القوى التحررية فتهزمه ، هذا إذا لم تستطيع هيئة الامم المتحدة وأجهزتها ان تردعه منذ البداية . هذا بالاضافة الى ما في الدولة ذاتها من قوى لاتصبر كثيراً على استخدام قوى الدولة في مغامرات غير مبررة ” دستورياً ” فتشكل داخل الدولة طابوراً خامساً مدمراً للأحلام المغامرة .

ولسنا نعتقد أن كل هذا يثير أي خلاف جدي في الوطن العربي . فالدول الاقليمية تتبادل الاعتراف وتمنع كل منها من التدخل في شئون الدول الاخرى . وميثاق جامعتها العربية يلزمها الاحترام المتبادل لاستقلالها ، وميثاق الدار البيضاء يلزمها التعاون ضد أي نشاط في الوطن العربي يمس هذا الاستقلال أو يهدده الى حد انه يحرم على أي منها أن تأوي اليها أي شخص هارب حتى من الاستبداد في دولة أخرى … الخ .

ولكن الخلاف واللبس يأتيان عندما تتولى السلطة في إحدى الدول الاقليمية فصائل ملتزمة عقائدياً وجماهيرياً بان تحقق دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية ، أو تعلن من موقع السلطة انها ملتزمة بان تحقق هذه الغاية العظيمة . عندئذ يقال : مادام القوميون التقدميون قد وصلوا الى السلطة فلا مبرر للحزب القومي لأنهم يملكون في الدولة قوة عليهم ان يستخدموها في الغاء التجربة واقامة دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية . وينطوي هذا القول على ثلاثة مواقف كلها فاشلة ومدمرة . الموقف الأول : اقتناع الجماهير العربية به وما يترتب على هذا من تأجيل التحامها في حزب قومي انتظاراً للمعجزات التي يحققها القوميون التقدميون الحاكمون في إحدى الدول العربية أو بعضها . وهو موقف فاشل لأنه أياً كان موقف القوميين التقدميين الحاكمين تبقى مسؤولية تحقيق دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية مسئولية الجماهير ذاتها ، متحالفة أو غير متحالفة ، مع الحاكمين ، فيكون تخليها عن مسئوليتها اتكالاً على فصائل محدودة منها ، فشلاً في الوفاء بتلك المسئولية . وهو موقف مدمر لأن تلك الجماهير العربية المنفرطة اما ان تضيع في متاهات السلبية المنتظرة او أن تستقطبها قوى الصراع الاقليمي الدائر في الوطن العربي فتفتك بمقدرتها على ان توفي بمسؤوليتها القومية . انه مدمر لوحدة القوى القومية التقدمية . والموقف الثاني هو تحميل الفصائل القومية التقدمية التي تحكم احدى الدول العربية أو بعضها مسئوليات لا يستطيعون بحكم التزامهم الدستورية والدولية الوفاء بها . وهو موقف فاشل لأنه سلبي وهو موقف مدمر لأنه لن يلبث أن يمزق العلاقات التي يجب ان تظل قائمة وثيقة بين القوميين التقدميين في مواقع السلطة والجماهير القومية التقدمية خارج السلطة . يمزقها لأن هذا الموقف السلبي المدمر سيدين القوميين التقدميين الحاكمين ، ويتهمهم بالردة او بالخيانة ، لا لأنهم لم يوفوا بالمسئوليات القومية التي هم قادرون عليها ، ولكن لأنهم لم يوفوا بالمسئوليات المستحيلة التي حملهم اياها . أن كثيراً من اسباب القطيعة التي حدثت وتحدث بين الفصائل القومية التقدمية بعد ان يتولى بعضها الحكم مرجعه الى ان الذين ما يزالون متحررين من قيود الدولة الاقليمية لا يتفهمون طبيعة القيود الدستورية والدولية التي وضعت في ايدي رفاقهم عندما أصبحوا حكاماً فيتهمونهم في ولائهم القومي أو يتبادلون الاتهام . الموقف الثالث من المواقف الفاشلة المدمرة هو الا يتفهم القوميون التقدميون الحاكمون طبيعة تلك القيود فيحاولون فعلاً استخدام قوى الدولة ، أو الدول ، التي يحكمونها في تحقيق املهم الكبير : دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية . وهو موقف فاشل لأن السلطة التي يستمدونها من دولهم لا تمتد خارج حدودها ، فلا يستطيعون ان يسخروا قواها لتحرير الشعب العربي من القهر أو من الاستغلال خارج تلك الحدود ، ومن باب أولى لا يستطيعون أن يسخروها في الغاء الدول ليضموها اليهم ، ولو حاولوا لردعتهم الدول المعنية أو الدول العربية في جامعتها أو لردعهم مجلس الأمن ذاته . أما أنه مدمر فلأنه يقرن حكم القوميين التقدميين بالفشل فيسيء الى القومية ذاتها في اذهان الجماهير العربية وبالتالي يتيح للقوى المعادية للقومية وللوحدة فرصة التشهير بها وعزل القوى القومية التقدمية .

ان كل هذا واضحاً فثمة اعتراضات عليه لا تقل وضوحاً .

الاعتراض الأول هو : اننا نحتج على القوميين التقدميين الذين يتولون السلطة في دولة اقليمية أو أكثر بشرعية الدولة الاقليمية ذاتها فنقيم من دستورها قيوداً على حركتهم ونتجاهل انهم ، من حيث هم قوميون تقدميون ، لا يعترفون بالتجزئة ويستهدفون الغاءها فهي عندهم تجزئة غير مشروعة . اعتراض وجيه لو كان خالياً من التناقض . وهو متناقض الى حد التهافت والسقوط . لأن الدولة التي لا تعترف بالتجزئة يكون عليها أن تترجم هذا في ذاتها أولاً . فمن ناحية لا تعترف دولياً بأية دولة عربية قائمة على تجزئة الوطن العربي ، ثم تعترف دستورياً بأنها دولة الشعب العربي كله . على الوجه الأول تسحب اعترافها من كل الدول العربية الاخرى وتدعوها الى الوحدة سلبياً ثم تفرض عليها الوحدة بالوسائل المناسبة على أساس أن قيام تلك الدول على أساس التجزئة هو عدوان على وحدة الأمة العربية لابد من ان يرد ، عندئذ يكون موقفها مشروعاً ويكون من حقها ان تعامل كل الدول الاخرى على اساس الاعتراف او عدم الاعتراف بالتجزئة . وهي لا تستطيع أن تفعل هذا الا اذا جسدت في ذاتها ـ على الوجه الثاني ـ وحدة الأمة العربية التي تدافع عنها فكان دستورها وقوانينها تعتبر كل الشعب العربي من رعاياها ولو لم يكونوا مقيمين فيها ، تمكنهم من ممارسة حقوقهم ( الاقامة ، والعمل ، وحمل الهوية ” الجنسية ” وممارسة الحقوق السياسية والالتحاق بالقوات المسلحة … الخ ) ، وتلزمهم واجباتهم ( دفع الضرائب ، والتجنيد ، واحترام القوانين الجزائية والمدنية ، والخضوع لأحكام القضاء … الخ ) . حينئذ لن يكون الاعتراض قد صح بل يكون قد سقط ، لأن الدولة حينئذ لن تكون دولة اقليمية بل تكون دولة قومية . تكون دولة الوحدة النواة . دولة الشعب العربي النواة التي تقف من تجزئة الأمة العربية شعباً ووطناً الموقف الذي عرضناه . أما ان يحتفظ القوميون التقدميون الحاكمون بالطبيعة الاقليمية للدولة فيعترفون بالدول الاقليمية الاخرى ، ويتبادلون معها التمثيل الدبلوماسي ، ويعتبرون رعاياها من الشعب العربي اجانب ، ويعقدون معها المواثيق الدولية … ثم نطلب او نتوقع منهم ألا يقيموا وزناً للدول الاقليمية ونغضب فنتهمهم بالردة ، أو يستهينوا هم بالقيود التي تفرضها عليهم دولهم فتلك احلام مثالية فاشلة دائماً ومدمرة في كثير من الحالات .

الاعتراض الثاني هو : بالرغم مما يبدو في كل هذا من منطق محكم فإن الممارسة تجري ، أو يمكن ان تجري على غير هذا . فقد استطاع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر أن يستخدم قوى دولته في معارك التحرر العربي في كل مكان من الوطن العربي من اليمن الى العراق الى سورية الى السودان الى الجزائر الى المغرب ، وحتى الى ابعد من هذا ولم يجد في دولته عقبة في سبيل ما أملته عليه مسئوليته القومية . هذا من ناحية . ومن ناحية ثانية ففي سنة 1958 استطاع الحاكمون في سورية وفي مصر أن يلغوا الدولتين ويقيموا دولة واحدة بدون أن تكون الدولة عقبة في سبيل الوحدة . ومن ناحية ثالثة فإن ثلاث دول عربية ( الجمهورية العربية المتحدة ، والجمهورية العربية الليبية ، والجمهورية العربية السورية ) يعلن رؤسائها ويؤكدون انتماءهم الى القوى القومية التقدمية قد ابرموا في بني غازي ( ابريل 1971 ) مجموعة من الوثائق تلزمهم باقامة اتحاد فيما بينهم يكون خطوة الى الوحدة الشاملة ولم يجد أي منهم في دولته عقبة في سبيل هذا الالتزام .

فنناقش هذا الاعتراض الثلاثي بدون انفعال .

أما عن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر فقد استخدم القوى العسكرية والاقتصادية والمالية والدعائية والبشرية من دولته على اوسع نطاق في معارك التحرر العربي ، ولكنه في كل هذا كان إما في موقف الدفاع عن الشعب العربي ضد قوى معتدية من الخارج وحلفائها في الداخل ، وإما في حالة دفاع عن سلطة ثورية قامت فعلاً وطلبت المعونة منه فوقف معها بكل قوته . ولم يحدث أبداً أن كان في موقف الاعتداء على أية دولة عربية بقصد إلغاء وجودها او الاستيلاء عليها أو ضمها مثلاً . هذا بدون انكار للآثار الايجابية التي كانت تحققها الجماهير العربية في دولها تحت القيادة ” غير المنظمة ” لجمال عبد الناصر . ومرجع هذا الى أن الجماهير العربية كانت تعتبر جمال عبد الناصر قائدها . وهو لم يكن قائدها بحكم وظيفته كرئيس لاحدى الدول العربية بل كان قائدها بحكم تصديه للدفاع عنها في معاركها التحررية .

اما عن وحدة 1958 ، فأجدى من مناقشة الوقائع التاريخية ان نقول : اننا عندما نتحدث عن الدولة الاقليمية وقيودها التي تعوق مقدرة حكامها عن ان يتجاوزوا حدود وجودها شعباً ووطناً وسيادة ، نفترض أن ثمة دولة ذات وجود قادر على ان يفرض ذاته حتى على حكامه . وفي الوطن العربي كثير جداً من دول ” الورق ” تحمل اسم الدولة ، ولها مقاعد في هيئة الامم ، ولها شعب وحدود وعلم وحكومة … الخ . ولكنها واقعياً دول صورية بحكم بنيتها او بحكم نظامها او بحكم حداثتها . وهي  صورية ـ قبل كل شيء ـ بالنسبة الى حكامها يستطيعون بقرار أن يلغوها أو يبقوها . هذا الضعف الكامن في وجود كثير من الدول العربية ظرف عارض على الدولة ، لا شك في ان القوميين التقدميين يستطيعون من مواقع السلطة فيها استخدامه في الغاء دولة الورق ـ الملغاة موضوعياً ـ لحساب الوحدة . وتفيدنا هذه الملحوظة في الانتباه الى ما ينتظر القوميين التقدميين الذين يحكمون تلك الدول . انهم يستطيعون ان يلغوها لحساب الوحدة بحكم ضعفها من ناحية ، ولكنهم من ناحية اخرى ، وبحكم انهم قوميون تقدميون لا يكفون لحظة ، ولا يدخرون جهداً في سبيل اعطاء دولهم مضامينها الايجابية التقدمية عن طريق بنائها عسكرياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً . انهم ـ في انتظار الوحدة ـ يحولون دولة الورق الى دولة حقيقية . اما النتيجة المحتومة فهي واحدة من اثنتين : اما ان تدركهم الوحدة قبل ان يتم بناء دولهم اقليمياً واما ان تلفظهم الدولة الاقليمية التي بنوها . انهم في سباق مع ذات انفسهم . سباق بين نظريتهم وممارستهم . ولعل كل هذا ان يكون اكثر وضوحاً عندما نلاحظ آثار الضعفالطارىء ” على الدولة عندما تضعها الظروف في موضع العاجز عن الدفاع عن وجوده ، اي عندما تثبت الظروف ان وجودها لا يجد ما يبرره . حتى عتاة الاقليميين يصبحون ـ حينئذ ـ على استعداد للتنازل عن دولتهم إذا كانت الوحدة قادرة على الدفاع عنهم . هنا تكون الدولة ، التي كانت يوماً دولة قادرة ، قد اصبحت مباحة لمن يستطيع ان يستولي عليها ، فيكف الاقليميون عن عنادهم وتتاح فرصة اخرى لينجز القوميون التقدميون ما وعدوا به : الوحدة . التي تبدو حينئذ ـ حتى للاقليميين ـ البديل الأفضل من السيطرة الاجنبية . لهذا ليس غريباً أن نرى صعود التيار الوحدوي اثر كل هزيمة تصيب الدول العربية . ان القيمة الحقيقية للدول الاقليمية تنكشف فيكتشف حتى أكثر الاقليميين قصراً في الرؤية ان السلامة في الوحدة . ولقد كانت وحدة 1958 حالة من هذه الحالات الاخيرة . إذ كانت المخاطر التي تهدد سورية من البر والبحر ، خارجياً وداخلياً ، هي التي اقنعت الاقليميين بان يتنازلوا عن دولتهم فاستطاعت القوى الاقليمية ان تحقق الوحدة . وتفيدنا هذه الملحوظة في ألا ننخدع في الضعف القائم أو الطاريء على الدولة الاقليمية . أن تشتد في الحالة الأولى تحمي ذاتها الاقليمية . وان تنقذ في الحالة الثانية تجنح الى استرداد ذاتها الاقليمية بالانفصال . على أي حال فما يحققه القوميون التقدميون في كل الحالات لا يكون استخداماً للدولة الاقليمية فيما يتجاوز وجودها شعباً وأرضاً وسيادة ، بل يكون تجاوزاً لدولة لا وجود لها في الواقع الموضوعي .

أما عن اتفاق بني غازي فقياساً على ما قلناه فيما سبق توافرت كل الظروف الموضوعية التي تضعف الدول الاقليمية في الدول الثلاث ، فوراءه هزيمة 1967 ، ووراءه الرغبة الملحة في الخروج من النكسة ، وصلته بالهزيمة والرغبة في النصر واضحة في المبررات التي تضمنتها الوثائق  .  ان عجز الدول الاقليمية عن أن تدافع عن وجودها والرغبة في استرداد ما ضاع هو ظرف موضوعي اضعف اقليمية الدولة فجاء اتفاق بني غازي متضمناً الاعتراف بقصور الدولة الاقليمية في الدفاع عن وجودها ذاته ومحاولة لتجاوزها . ومع ذلك فإن اتفاق بني غازي لم يعد بأكثر مما تسمح به الدول الأعضاء في الاتحاد المرتقب فإن الاتحاد ( التعاهدي ) بين الدول لايمس استقلالها بعضها عن بعض بل هو تعاون متبادل على ما يدعم هذا الاستقلال . أما ما تضمنته الوثائق من ان ذلك الاتحاد سيكون خطوة الى الوحدة الشاملة فلا شك انه يعبر عن نوايا الرؤساء ولكن المستقبل لا يتوقف عن النوايا . ولسنا نشك في ان مجرد الاصرار على تنفيذ هذه النوايا سيكون مدخلاً واقعياً يكتشف من خلاله كل من يعنيه الأمر ان تحول الاتحاد الى وحدة شاملة يتطلب فوق كل شيء قيام الحزب القومي الذي قلنا انه الاداة الوحيدة المناسبة لتحقيق الوحدة الاشتراكية الديموقراطية ” الشاملة ” .

ولايضاح هذا نترك الدول الثلاث ، ونفترض ان القادة فيها سيذهبون في اصرارهم على النصر في المعركة القائمة الى حد الوحدة الفيدرالية . وسيذهبون في الوفاء بوعد الغاء التجزئة الى إقامة مؤسسة جماهيرية واحدة في الاقاليم الثلاثة . ثم ماذا ؟ .. كيف يتم الوفاء بوعد الوحدة الشاملة ؟ وفاء دولة الاتحاد او الوحدة الثلاثية . نقول هذا لأن ترك أمر الوحدة الشاملة للظروف التلقائية عن طريق تعليقها على رغبة دول أخرى في الانضمام ليس وفاء من دولة الاتحاد بمسؤولية تحقيق الوحدة الشاملة . الوفاء يعني ان ثمة دوراً تقوم به دولة الاتحاد حتى لوكان وضع الدول الأخرى في ظروف موضوعية تحملها على طلب الانضمام . وهذا الدور ـ بحكم واقع التجزئة ـ يقع خارج نطاق دولة الاتحاد أرضاً وشعباً وسيادة . حينئذ تواجه دولة الاتحاد كل العقبات التي تواجه أية دولة تحاول ان تمس وجود دولة اخرى واستقلالها . الا ـ طبعاً ـ اذا تحولت دولة الاتحاد الى دولة قومية . دولة الوحدة النواة . وهي مرحلة في الطريق الى الوحدة لا بد ان تحسب حساباتها بدقة . اذ الدولة هنا ستكون ملزمة باسترداد باقي الارض العربية وما يعنيه هذا من مواجهة كل الدول القائمة عليها وحلفائها ، والدخول ضدها في معركة تحرير ضارية تدور خارج حدودها . حينئذ سيكون النصر او الهزيمة في تلك المعركة متوقفاً على ما يكون قد انجزه وما يستطيع ان ينجزه في الارض العربية حزب قومي لابد له من ان يكون موجوداً في قاعدته القومية وممتداً الى الأرض العربية التي يجب ان تتحرر قبل ان تبدأ معركة التحرير . ونستطيع ان نقول اكثر من هذا . نستطيع ان نقول ان مصير الاتحاد ذاته ، وحمايته من ردة انفصالية سيكون متوقفاً على وجود حزب قومي في داخله يصفي على المستوى الجماهيري كل القوى الاقليمية والمناهضة للوحدة . انها خلاصة تجربة الوحدة والانفصال بين مصر وسورية . ولا شك في أن هذا كله كان حاضراً في اذهان رؤساء الدول الثلاث عندما اقروا في وثائق بني غازي بان ” الحركة العربية الواحدة ” ( وهو الاسم المتداول للدلالة على الحزب القومي ) غير قائمة في اي دولة فيها ، وانه الى ان تقوم يمتنع على اية مؤسسة سياسية في أية دولة ان تنشط في الدول الأخرى ( أي تبقى اقليمية ) ثم تلتقي معاً في جبهة ( مؤقتة ) غايتها ان تهييء المناخ الملائم لقيام الحركة العربية الواحدة . وهكذا لأول مرة في الوطن العربي تكسب الدعوة الى الحزب القومي شرعية دستورية في أكثر من دولة ، ويصبح قيامه مشروعاً وعندما تتحول هذه الشرعية الى واقع مشروع سيدخل التاريخ العربي مرحلة جديدة تماماً ، إذ تكون قد توافرت للشعب العربي لأول مرة اداته الجماهيرية المناسبة لتحقيق دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية .

الاعتراض الثالث هو :ان تأكيد عجز القوميين التقدميين الحاكمين عن تجاوز الوجود الاقليمي للدول التي يتولون السلطة فيها ، أو قصور الدولة الاقليمية عن ان تكون اداة لتحقيق دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية هو دعوة مثالية الى أن يمتنع القوميون التقدميون في كل دولة عربية عن تولي السلطة فيها الى ان تقوم دولة الوحدة ، وهو ما يعني تماماً ترك الشعب العربي في تلك الدولة تحت رحمة القوى الاقليمية الرجعية .

انه اعتراض لا يصدر إلا من مثالي يتصور ان دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية لا تقوم الا بقرار من سلطة حاكمة في إحدى الدول العربية . أو انها تقوم بضربة واحدة ولو من بضعة دول عربية متحالفة . وهذه اوهام . انما تقوم دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية كخاتمة لنضال القوميين التقدميين في ظل التجزئة في ساحات متفرقة ضد قوى متباينة من اجل غايات جزئية ومرحلية لا حصر لها . كلها مهما يكن مضمونها ومهما تكن ضآلة اثرها خطوات على الطريق الى الغاية العظيمة . ومن أعمق هذه الخطوات أثراً انتزاع سلطة الدولة من ايدي الاقليميين والرجعيين واستخدام قواها في انجاز مزيد من الخطوات على الطريق الى دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية . استخدامها فيما هي قادرة عليه وما هي اداة مناسبة لتحقيقه . مثلاً : المساهمة عن طريق المشاركة والدعم والتأييد لقوى التحرر دفاعاً عن الوطن العربي والتحالف مع كل قوى التحرر من الاستعمار في العالم . اضعاف الآثار الاجتماعية للعزلة التي فرضتها التجزئة على الشعب العربي على مستوى الانتقال والعمل والثقافة والتعاون مع الدول العربية الاخرى على كل ما من شأنه إذابة رواسب الغربة على المستوى الفكري ومستوى الممارسة . حتى جامعة الدول العربية يمكن أن تكون أداة يستخدمها القوميون في تحقيق ما هي قادرة على تحقيقه وخاصة على المستوى الاعلامي . أما في الداخل فثمة المجال الأولي والمرحلة لترجمة النظرية القومية الى واقع حي بقدر ما تطيق الدولة ولكن بكل ما تطيق : تحرير الشعب العربي من كافة اشكال القهر السياسي والاقتصادي المفروضة عليه ، وتصفية القوى الرجعية تصفية شاملة وكاملة . تحرير الشعب العربي من سيطرة الفكر المعادي للقومية والوحدة وتصفية القوى الاقليمية تصفية شاملة كاملة . فرض سيطرة الشعب العربي على كل وسائل الانتاج والغاء الملكية الخاصة للأرض ولكل وسائل الانتاج الاساسية وتوظيف كافة الموارد وعناصر الانتاج باقصى قدر ممكن من الكفاءة طبقاً لخطة اقتصادية شاملة ، بحيث تخضع كل موارد الانتاج وادواته وقواه المادية والبشرية ، واياً كان الشكل القانوني لها ، للقرار الاقتصادي الذي تتضمنه الخطة وتصفية كافة القوى المعادية للاشتراكية تصفية شاملة كاملة . حماية الشعب من الديكتاتورية والبيروقراطية بإتاحة أكبر امكانيات الممارسة الديموقراطية للشعب ، فلا قيود على المعرفة ولا قيود على الرأي ولا قيود على العمل الجماعي المنظم من اجل مزيد من التقدم الاجتماعي ، والانتباه الى مشكلة التخلف الموروث في الممارسة الديموقراطية بالتشجيع عليها ولو صاحبها الخطأ ، وتقديم امكانيات ممارستها ولو تعثرت ، والصبر على الشعب العربي حتى يتجاوز تخلفه المورث . ثم يبقى اخطرها جميعاً لأنه هو الذي سيحسم السباق الرهيب بين النظرية القومية التي يلتزمها القوميون التقدميون وهم في مواقع السلطة ، وبين الممارسة الاقليمية التي يبنون بها دولهم مادياً وثقافياً : إباحة وتشجيع ودعم وتأييد وحماية الحزب القومي الذي يتحمل وحده مسؤولية مواجهة العوائق الدستورية والدولية في سبيل الوحدة بنضاله المنظم على المستوى العربي كله بدون قيد دستوري او دولي بقصد الغاء الدول العربية واقامة دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية . نقول وحده لا لإعادة تأكيد انه وحده القادر فهو وحده المسؤول ، ولكن للتأكيد على ضرورة عدم اقحام الدولة في مسؤولية نشاط الحزب القومي خارجها ، وذلك بان تكون غير مسؤولة عن وجوده داخلها ولو كانت تبيحه وتشجعه وتدعمه وتأيده وتحميه . اذ أن الدولة قادرة على ان تؤدي كل هذا من موقف ” الحليف ” وليس من موقف المتبوع . ان الحزب القومي اذ يقوم تابعاً للدولة ـ وهو ما يغري به اللقاء الفكري على نظريته بينه وبين القوميين التقدميين الذين يحملون مسؤولية الحكم ـ لن يؤدي الا الى واحد من امرين : الأول : شل مقدرة الحزب القومي لتظل في حدود القيود الدستورية والدولية التي تفرضها عليه تبعيته للدولة فيفشل فيما لا تستطيعه الدولة ذاتها . والثاني : اقحام الدولة في نشاط خارج حدود وجودها فتفشل فيما لا يستطيعه الا حزب قومي ينشط بدون قيود . اما ان تكون السلطة في الدولة تابعة للحزب القومي وتحت قيادته فذلك ما يتفق مع العلاقة السوية بينه وبين الدولة ، وهو عندئذ لن يستخدم الدولة إلا فيما هي قادرة عليه . غير ان هذا يقتضي أولاً أن يوجد حزب قومي قادر على ان يقدم للشعب العربي في الدولة قادة من بين صفوفه يستخدمون الدولة فيما يتفق مع طبيعتها ثم يبقى هو حراً في أن يستخدم قواه فيما هي قادرة عليه بطبيعتها الى ان يستولي على السلطة في دولة اخرى ، ولكن – في هذه المرة الثانية وما يليها من مرات – لا ليقدم لها قادة من بين صفوفه ولكن ليلغي الدولتين كخطوة في سبيل الوحدة الاشتراكية الديموقراطية . كل هذا بدون ان يغفل لحظة واحدة عن واحدة من اهم قاعد الاسلوب : ملاءمة الاداة للغاية .

ومرة اخرى نعود الى الرئيس جمال عبد الناصر . من موقع قيادته لحركة التحرر العربي اطلق النداء الى الحركة العربية الواحدة سنة 1963 . ولكنه في الوقت ذاته ، من موقع رئاسة الجمهورية العربية المتحدة ، أعلن انه ليس مسؤولاً عن قيام الحركة العربية الواحدة وانها مسؤولية الجماهير العربية . فهل كان عبد الناصر متخلياً عن مسؤولية الاسهام في اقامة الحركة العربية الواحدة أم كان واعياً ضرورة ان تظل الدولة تحت قيادته متحررة من المسؤولية عن نشاط لا يتفق مع طبيعتها وان تنشأ الحركة العربية الواحدة متحررة من قيود تبعيتها للدولة ؟  ..  لقد أجاب نفسه بما يؤكد وعيه الصحيح على عدم مناسبة الدولة لاداء الغايات المنوطة بمسؤولية تحقيقها بالحركة العربية الواحدة . فهل ثمة من يستطيع ان يحقق ـ في هذا المجال ـ ما لم يستطع جمال عبد الناصر ان يحققه بالرغم من انه كان قائد الجماهير العربية في معارك التحرر بدون منازع وكانت الجماهير تعتبره قائدها بدون شريك ، ولكن بدون ان يلتقي القائد وجماهيره في حزب واحد ؟

اذا كان ثمة من يستطيع فليفعل .

اما نحن فنقول ان الدولة تحت حكم فصائل القوميين التقدميين تستطيع ان تحقق مالا حصر له من منجزات هي لبنات في بناء الوحدة الاشتراكية الديموقراطية ، اما ضمان ان تكون تلك المنجزات لبنات في البناء والمحافظة عليها وتنميتها وتحديد موقعها من البناء الشامل في الوطن العربي كله ، واكمال هذا البناء فلا يستطيعه الا حزب قومي يجمع كل القوميين التقدميين في الوطن العربي ويقود الجماهير العربية في كل المواقع ضد كل القوى الى ان يقيم دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية .   

75  ـ حزب واحد ام أحزاب متعددة ؟

ان السؤال القديم المتردد . ولكنه هنا ذو مبرر واقعي . اذ ان بعض الناس قد فهموا الدعوة الى حركة عربيةواحدة ” على انها قرار صادر ” باحتكار ” قيادة الجماهير العربية او الوصاية عليها . وهي دعوة أكثر واقعية وعلمية من هذه الاوهام . ان الدعوة الىحركة عربية واحدة ” دعوة لتجاوز ” تجزئة ” القوى القومية التقدمية الى وحدتها القومية . فهي دعوة قومية ضد الاقليمية . ولكنها ليست أمراً الى القوى القومية بالا تختلف في مشكلات التطور القومي . فإن كانت مختلفة ، وهو واقع اجتماعي ان كان قائماً فلا حيلة لأحد في أن تقوم في الوطن حركات أو أحزاب او منظمات … قومية بمعنى انها غير مجزاة اقليمياً وان اختلفت في فهمها للقومية . وستدعي كل منها انها الحركة القومية التقدمية الصحيحة وبالتالي تحاول ان تكون هي الحركة ” الوحيدة ” ولن تصح من بين كل ما يمكن ان يقوم من حركات الا حركة واحدة او لاتصح جميعاً . والممارسة هي المحك الذي سيكشف صحة او خطأ ما يدعيه كل منها . نريد ان نقول أن ليس من حق أية حركة عربية واحدة أن تصادر ـ لا ندري كيف ـ  حق أية جماعة من الشعب العربي في ان يختاروا لأمتهم . ان من حقها ان تكشف للشعب العربي ان ما اختارته تلك الجماعات كان خاطئاً . والممارسة النضالية هي المحك الأخير . اما الأمر الموجه الى الشعب العربي من بعض ابنائه : ان انتظروا لا تفعلوا شيئاً الى ان توجد لكم الحركة العربية الواحدة وعندما توجد اقبلوها لانها هي الحركة العربية الوحيدة ، فإن أقل ما يقال فيه انه امر غير قابل للطاعة . اجدى منه وأكثر جدية أن نقبل الأمر الواقع لنغيّره وان نتعامل مع الواقع كما هو لنطورّه . وهو ما يعني ان تجاوز العدد بين الحركات العربية الواحدة ـ بمعنى غير المجزأة اقليمياً ـ الى حركة عربية وحيدة هواية لابد ان نشق اليها طريقاً طويلاً يبدأ بالتعدد ذاته . وهو طريق لن ينتهي . فحتى في ظل دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية ، حيث تكون كل شروط الفعالية الكاملة للجدل الاجتماعي قد توافرت ، وحيث تكون كل الجهود معبأة نحو غاية واحدة هي الاشباع الثقافي والمادي لحاجات الشعب العربي المتجددة ابداً ، ستوجد الحركات العربية أو الاحزاب العربية التي تختلف في أفضل وسيلة لتحقيق التقدم والرخاء للشعب العربي كله ، وتحتكم في هذا الى الشعب العربي في دولته الديموقراطية .

لقد سألنا أنفسنا من قبل : لماذا نختار ” نحن ” غايات نلزم أنفسنا بتحقيقها في الواقع العربي ؟ ما هو مصدر حقنا في ان نختار غايات لتطور الأمة العربية كلها ؟ .. واجبنا : … ” ما دمنا ننتمي الى الأمة العربية ، وهي مجتمعنا الذي يتحدد مصيرنا في مصيره ، فإننا لا نستطيع إلا أن نختار للأمة العربية كلها غايات نلتزم نحن بتحقيقها ومن حقنا أن نختار لأمتنا العربية كلها لأن الاختيار لأنفسنا دون الأمة العربية التي ننتمي اليها مستحيل . ثم نضيف اننا إذ نرفض الاعتراض على حقنا نحن في ان نختار لأمتنا العربية كلها غايات نلتزم نحن بتحقيقها لأن الاختيار لأنفسنا مستحيل فإنه من المستحيل علينا ، بحكم نظريتنا ذاتها ، ان نعترض على حق غيرنا من ابناء الأمة العربية في ان يختاروا لأمتهم ما يشاءون من غايات يلزمون أنفسهم بتحقيقها مهما تكن تلك الغايات مختلفة عن غاياتنا . هذا مع اننا نعلم علم اليقين انهم عندما اختاروا بأنفسهم ما اختاروا لأمتهم قد اختاروا لنا أنفسنا إذ نحن بعض أبناء الأمة العربية . ان هذا حقهم بحكم وحدة المصير القومي التي هي مصدر حقنا ” ( فقرة 35 )  .

يوشك الأمر ان يتحول الى فوضى . فنحن ندافع عن الأحزاب والحزبية ، ونعترف لكل جماعة ملتقية على ما يسمى نظرية أن تختار للمجتمع كله ما تريد كأن المجتمع مباح لكل مدع ان له رأياً في مشكلاته ، ولكل قادر على أن يغيره . كأن المجتمع مجتمع فوضوي ليس فيه دولة تنظمه ، وليس فيه حكومة مسئولة ، وليس فيه قوانين ومحاكم وسجون ومشانق غايتها جميعاً أن تضبط سلوك الأفراد والجماعات وتلزمهم ” المصلحة العامةولو بالاكراه . لا . أبداً . وإنما المسألة هي ان الدولة تنظم المجتمع ولكنها لا تختلقه ( فقرة 20 ) . والمجتمع يخضع في حركته لقوانين موضوعية يمكن اكتشافها ولا يجدي الدولة شيئاً تجاهلها ( فقرة 18 ) . وقد أردنا ان نعرض للمجتمع وقوانين حركته الموضوعية أولاً ، حتى نعرف بعد ذلك كيفية استخدام تلك القوانين في مجتمع منظم في دولة فيه حكومة وقوانين ملزمة ، وكيف تؤثر وتتأثر بفعالية تلك القوانين الموضوعية ، على أساس أنه لا يمكن أن نطالب الدولة ، أية دولة ، او نتوقع منها ، أن تسمح بالفوضى داخلها .

عندما يختلف الناس في المجتمع يفرزون قوى جماهيرية كل منها تحاول أن تحقق غايتها التي اختارتها . هذا قانون . وعندما تختار أية قوة جماهيرية غاية تريد ان تحققها تكون قد اختارت للمجتمع كله . وهذا تطبيق للقانون . وهو على وجه التحديد مصدر حق المجتمع المنظم بألا يسمح بالفوضى داخله . إذ في المجتمع المنظم تكون كلمة ” أنا حر أفعل ما اريد ” كلمة غريبة عن الحياة الاجتماعية . وهنا يأتي دور الدولة كنظام قانوني للمجتمع فتحدد موقفها من كلنشاط فيها فتبيح وتحرم . ولكن هذه الاباحة وذاك التحريم لا يغيران سيئاً من حقيقة الاختلاف بين الناس ومن انهم يحاولون علناً أو خفية تحقيق ما يريدون . وإنما تتغير صفته القانونية . المباح مشروع والمحرّم غير مشروع . ويكون على كل صاحب غاية غير مشروعة ان يقارن بينها وبين الجزاء عليها ويختار . هكذا يكون الأمر في الدولة وهكذا تفعل الدولة ، كل دولة ، مهما يكن نظامها الداخلي . لا توجد ولا يمكن أن توجد دولة ” فوضوية ” إنما تختلف مواقف ” القوى ” بعضها من بعض داخل الدولة تبعاً للغايات الاجتماعية التي تريد ان تحققها . والحكومة في الدولة هي واحدة من تلك القوى . وقد يكون الاختلاف حول الدولة ذاتها . وكل يحدد موقفه من كل طبقاً لنظريته هو ، ويقيس غايات القوى الأخرى على غاياته هو . فيقبل أو يدين على أساس موقفه . وعندما يكون في الحكم يبيح او يحرم ما يتفق مع غايته او ما يتناقض معها .

ولا نستطيع نحن أن نفعل غير هذا . بمعنى انه مع اعترافنا بالواقع الموضوعي الذي يفرز القوى احزاباً من ناحية وباستحالة اباحة الفوضى في الدولة من ناحية اخرى ، نحدد مواقفنا من الاحزاب الأخرى ومن الدولة ذاتها طبقاً لنظريتنا نحن ونقيس غاياتها على غايتنا نحن . ونتحمل مسئولية هذه المواقف ، ثم نرفض وندين ونحتقر المدللين الليبراليين الذين يدافعون عن الأحزاب والحزبية ويدعون الى التعدد ثم يطلبون من القوى القومية أن تحافظ علىاحزابهم فلا تصفيها ، ويطلبون من الدولة ان تعفيهم من ضريبة النضال فتحميهم من التصفية . لقد قلنا أن من حقهم ان يختاروا لأمتهم غايات يلزمون انفسهم بتحقيقها ولم نقل يلزموننا نحن بان نحققها لهم أو بأن ندعهم يحققوها إنما الذي يلزمنا نحن هو ما اخترناه نحن لأمتنا ، ونحدد موقفنا من كل القوى الأخرى جماعات أو أحزاباً أو حكومات طبقاً لموقف تلك القوى من غايتنا فنبقى عليها او نحالفها أو نصارعها او نصفيها على قدر اتفاقها او عدائها لتلك الغاية . ولها ان تفعل بنا الشيء ذاته ان استطاعت ، فنحن لا نهرب من مسئولية تحقيق مانريد والدفاع عنه .

وموقفنا من كل هذا بسيط .

فنحن نتحدث عن الدولة والاحزاب والعلاقة بينهما في مجتمع . وهو ما يستلزم ابتداء ان يكون مجتمعاً خالصاً لأبنائه ليصنع مصيره ، متعاوناً مع باقي المجتمعات ولكن ليس تابعاً لأي منها . ومن هنا فإن القوانين التي تتضمن تنازلاً او اعترافاً به عن جزء من الوطن أو من الشعب لأية دولة أخرى والقوانين التي تضع المجتمع أو جزء منه موضع التبعية الفكرية أو السياسية أو الاقتصادية لأي مجتمع آخر او تحمي هذه التبعية هي قوانين غير مشروعة . وبالمقابل فإن الاحزاب ” العميلة ” هي ايضاً أحزاب غير مشروعة . كل الأحزاب التابعة فكرياً أو سياسياً أو اقتصادياً لقوى خارج المجتمع أو التي تقبل بحكم مبادئها أو مواقفها التبعية الفكرية أو السياسية أو الاقتصادية لقوى أجنبية هي أحزاب غير مشروعة . إنها تأخذ من إباحة النشاط الحزبي والممارسة الديموقراطية وسيلة للحكم ليكون أول ما تفعله أن تبيع المجتمع كله أو جزءاً منه . فهي خائنة للشعب منذ البداية فلا تؤتمن على مصيره .

هذه قاعدة اولى .

والدولة هي النظام القانوني للمجتمع فهي الصيغة القانونية للحلول الصحيحة للمشكلات الاجتماعية . والقانون هو الأمر ” بعمل ” أو النهي عنه . فهو الأداة الملزمة التي تتحول بها آخر حركات الجدل ” العمل ” الى الواقع أما كيف يصل الناس في المجتمع الى تحديد ماهية هذا العمل الذي يتحول الى قانون ملزم ، فمن خلال الجدل الاجتماعي الذي عرفنا أن الديموقراطية هي صيغته القانونية ( فقرة 52 ) . ففي الدولة الديموقراطية تكون وظيفة الاحزاب ان تعرض المشكلات الاجتماعية وتكتشف حلولها الصحيحة . بينما تكون وظيفة الدولة ان تصوغ رأي الأغلبية في قانون عام وملزم . فالقوانين التي تحرم النشاط الحزبي هي قوانين غير مشروعة لأنها تعوق حركة الجدل الاجتماعي ( الممارسة الديموقراطية ) . وبالمقابل فإن الأحزاب غير الديموقراطية هي ايضاً غير مشروعة . كل الأحزاب التي لانقبل بحكم مبادئها أو بحكم موقفها الاحتكام الى الشعب والالتزام برأي أغلبيته ولو كان مناقضاً لرأيها هي أحزاب غير مشروعة .انها قد تأخذ من إباحة النشاط الحزبي والممارسة الديموقراطية وسيلة الى الحكم ليكون اول ما تفعله إلغاء النشاط الحزبي والنظام الديموقراطي جملة . انها تدلس منذ البداية على الشعب فلا تؤتمن على مصيره .

هذه قاعدة ثانية .

ولما كان الاحتكام الى الشعب وقبول الالتزام برأي الاغلبية يستلزم ان تكون آراء الاحزاب من المشكلات الاجتماعية وحلولها متاحة للشعب ويكون الشعب حراً في الاختيار بينها ، فإن الغاء المقدرة الاقتصادية على تزييف المشكلات أو حجبها عن الشعب وتحرر الشعب من القهر الاقتصادي شرطان أوليان للممارسة الديموقراطية ( فقرة 55 )  . وبناء عليه فإن القوانين التي تبيح السيطرة الاقتصادية للأفراد أو الجماعات وتسمح بقهر الشعب اقتصادياً هي قوانين غير مشروعة لأنها تعوق حركة الجدل الاجتماعي ( الممارسة الديموقراطية ) . وبالمقابل فإن الاحزاب الليبرالية هي أيضاً غير مشروعة . كل الأحزاب التي لا تقبل بحكم مبادئها او بحكم مواقفها النظام الاشتراكي غير مشروعة . انهاتأخذ من اباحة النشاط الحزبي والممارسة الديموقراطية وسيلة للوصول الى الحكم ليكون أول ما تفعله فرض القهر الاقتصادي على الشعب وإحالة الديموقراطية الى لعبة شكلية . انها ضد الشعب منذ البداية فلا تؤتمن على مصيره .

هذه قاعدة ثالثة .

ولما كان قبول الالتزام برأي أغلبية الشعب يستلزم عرفة عدد الشعب الذي تنسب اليه الأغلبية في الدولة الديموقراطية الاشتراكية ، فإن كل القوانين التي تجزيء الشعب وتحرم جزءاً منه أو اكثر من الممارسة الديموقراطية هي قوانين غير مشروعة لأنها تعوق حركة الجدل الاجتماعي ( الممارسة الديموقراطية ) . وبالمقابل فإن الاحزاب الانفصالية أو الاقليمية هي أيضاً غير مشروعة . كل الاحزاب التي لا تقبل مبادئها أو بحكم مواقفها الاحتكام الى اغلبية الشعب كله ولو قبلت الاحتكام الى أغلبية جزء منه ، أو التي تريد بحكم مبادئها أو مواقفها تجزئة الشعب لتكون لها الأغلبية في جزء منه هي أحزاب غير مشروعة . انها تأخذ من اباحة النشاط الحزبي والممارسة الديموقراطية وسيلة للحكم ليكون اول ما تفعله تمزيق المجتمع او الابقاء عليه ممزقاً . فهي اقلية متمردة على وحدة الشعب منذ البداية فلا تؤتمن على مصيره .

وهذه قاعدة رابعة .

في ظل الدولة الواحدة الديموقراطية الاشتراكية يبقى الخلاف بين الناس ، وهذا ما لا حيلة لأحد فيه . ويفرزون كل منهم على رأي موحد . وهو ما لا حيلة لأحد فيه . فهم أحزاب متميز كل منها بنظريته في حل المشكلات الاجتماعية لإقناع شعب متحرر برأيه ليكون له من الأغلبية سنداً يصل به الى الحكم فيترجم نظريته الى واقع اجتماعي عن طريق القانون . ولكن الخلاف بين الاحزاب يدور هذه المرة حول ماهية المشكلات الاجتماعية ، وأيها اكثر حدة ، واولويات حلها بالنسبة الى الموارد المتاحة ، وكيفية تنمية الموارد ، وافضل وسيلة لتوظيفها .. وفي هذا تلعب الاحزاب التي لابد ان تكون قليلة ، او حتى لوكانت كثيرة ، دورها في إبقاء سيطرة الشعب على الدولة دائماً ، وردع الحكام عن الانحراف ، والحيلولة دون الاستغلال البيروقراطي في ظل النظام الاشتراكي ، والتربية الشعبية على ممارسة التطور الاجتماعي ، وتخريج اجيال من القادرين على قيادة حركة التطور ، وانضاج المعرفة بالمشكلات الاجتماعية ، واكتشاف أفضل الحلول لها ، وتصبح كلها احزاباً مشروعة في دولة مشروعة تحتكم الى شعب متحرر . وتصبح حرية النشاط الحزبي متفقة مع القوانين الموضوعية التي تحكم حركة التطور الاجتماعي ، إذ ليس للحرية مفهوم الا المقدرة على التطور ( فقرة 39 )  .

وهذه قاعدة خامسة واخيرة .

هذا هو موقفنا من الاحزاب وتعددها وعلاقتها بالدولة ، ومن الدولة وعلاقتها بالأحزاب المتعددة . على ان نتذكر ان هذا الموقف لا يلزم احداً غيرنا . فإن كان ثمة من يخالف موقفنا جملة أو في قاعدة او اكثر فلا بد لنا من ان نحدد موقفنا منه على اساس موقفه منها . ولا بد لنا من ان يكون لنا موقف من اية قوة او حزب او دولة في الوطن العربي . ان معرفة القوى وموقفها وتحديد موقف من كل منها يمثل القاعدة الثالثة في نظرية الاسلوب . لا ينبغي للحزب القومي الديموقراطي الاشتراكي ان يغفل عن اية قوة في الوطن العربي أو ان يقف منها موقفاً سلبياً ، ليكون قادراً في كل موقع وفي كل مرحلة أن يفرق بين الحلفاء والاعداء . وتفيدنا القواعد الخمس السابقة في فرز القوى وتحديد الموقف الصحيح منها على الوجه الآتي :

أولاً : فنحن بحسم قاطع ضد كل القوى والدول المغتصبة ارضنا والمحتلة جزءاً من وطننا والتي تفرض علينا التبعية الثقافية او السياسية او الاقتصادية وضد كل الحكومات والحزاب في الوطن العربي التابعة لقوى اجنبية فكرياً او سياسياً او اقتصادياً او التي تروج وتدعو او تعمل لمثل هذه التبعية . ان كل هؤلاء اعداء امتنا ووظيفتنا أن نسحقهم سحقاً بدون تردد او مهادنة أو مساومة او رحمة . وبدون ان نقبل اعذاراً أو اعتذاراً في أي ظرف ومهما كانت الظروف . نحن ضد الخيانة والتبعية خيانة . لا تبررها حتى النوايا الحسنة . فنحن لا نقبل الاعتداء على أمتنا او تبعيتها لأي مجتمع آخر ، لا باسم السلام ، ولا باسم التحرر ، ولا باسم الوحدة ، ولا باسم الديموقراطية ، ولا باسم الاشتراكية ، ولا باسم التنمية ، ولا باسم الرخاء . ولا نقبل حتى مجرد الحوار مع القوى المعتدية والقوى العميلة الخائنة .

ثانياً : ونحن في داخل كل دولة عربية ضد الاستبداد والديكتاتورية ، وضد كل الاحزاب التي تروج او تدعوا وتعمل لفرض الاستبداد والديكتاتورية أو لمساندة القوى المستبدة والديكتاتورية . نحن مع سيادة القانون وحرية العلم وحرية الرأي بدون قيود ومع الاحتكام الى الشعب والالتزام برأي اغلبيته . ومع الممارسة الديموقراطية على اوسع نطاق . مع حرية الاجتماع وحرية تكوين النقابات والنشاط الحزبي نحن باختصار مع الديموقراطية .

ثالثاً : ونحن في داخل كل دولة عربية ضد القهر الاقتصادي والاستغلال والرأسمالية . وضد كل الاحزاب الليبرالية . ضد الليبرالية منهجاً وفلسفة وفكراً ومسلكاً وضد الليبرالية فرادى وجماعات وجمعيات .

رابعاً : ونحن في كل الدول العربية ضد الاقليمية . ضد كل الجماعات والأحزاب التي تروج أو تدعو أو تعمل للابقاء على التجزئة الاقليمية للأمة العربية فكراً أو حركة . وضد الدولة الاقليمية ذاتها .

خامساً : ونحن في دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية ضد كل القوى العميلة والمستبدة والليبرالية ونحتكم للشعب العربي ديموقراطياً فيما نراه حلاً صحيحاً لمشكلات تطوره ونقبل المباراة الديموقراطية مع كل الاحزاب التقدمية ونلتزم رأي الاغلبية .

وبعد ، فإن كانت هذه المواقف المتعددة تبدو متداخلة على الوجه الذي قد يوحي بان فيما بينها اختلاطاً لا يسمح بمعرفة الموقف الصحيح منها ، فإن هذا الايحاء يزول بمجرد ان نتذكر اننا نحدد موقفنا من واقع مجزأ غير مستوفي نموه الاقتصادي بعضه مغتصب وبعضه محتل وبعضه تابع وبعضه متحرر وبعضه راسمالي وبعضه يتحول اشتراكياً ، والقوى الحليفة والمعادية موزعة عليه تخوض معارك متنوعة في كل موقع . ومن هنا فإن الموقف الذي ذكرنا نقاطه الخمس سيكون موزعاً على ساحات المعارك حيث نختار في كل ساحة معركة الموقف الصحيح تبعاً لنوع المعركة واهدافها المحلية والمرحلية والقوى المعادية فيها والقوى الحليفة . وبينما يبقى الحزب القومي الديموقراطي الاشتراكي ملتزماً نظريته تحدد له نظريته الموقف الصحيح مهما اختلفت الظروف في الواقع العربي المعقد ، وما كان لنظرية غيرها ، بسيطة في تجريدها ، تلزم اصحابها موقفاً نمطياً واحداً في مواجهة ظروف معقدة ، لتنجح في الحفاظ على وحدة قواها في الوطن العربي . وما كان لأية نظرية ولو قومية ديموقراطية اشتراكية تسمح لأصحابها باختيار المواقف المختلفة من كل واقع مختلف ، لتنجح في الوصول بقواها الى غاية واحدة بدون ان تكون تلك القوى في كل موقع ملتزمة في معاركها المتنوعة استراتيجية واحدة . ولا يمكن ان تكون ثمة استراتيجية واحدة إلا لحزب واحد .

 76  ـ الاستراتيجية :

أول ما يجب على الحزب القومي الديموقراطي الاشتراكي هو ان يبرر وجوده . ذلك لأن القوميين التقدميين لا يلتقون في حزب قومي ديموقراطي اشتراكي ليفرحوا به . انه غير مطلوب لذاته فهو ليس غاية . بل هو أداة لتحقيق غاية . انه لازم ليوفر للقوميين التقدميين المقدرة على انتهاج الاسلوب العلمي في تحقيق دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية . ويكون ذلك بالتخطيط الشامل . إنه اذن ليس التنظيم الذي يهرب اليه المناضلون من مواجهة المشكلات الاجتماعية في مواقعهم ليتجمعوا فيه يتبادلون الحديث عن الحرية والوحدة والاشتراكية ، ولعنة أعداء الأمة العربية ، بل هو التنظيم الذي يلزمهم في مواقعهم أن يواجهوا أن يواجهوا المشكلات الاجتماعية طبقاً لخطة واحدة . طبقاً لاستراتيجية واحدة . وعندما يعجز الحزب عن وضع هذه الاستراتيجية يكون قد حكم على نفسه ـ مقدماً ـ بالفشل وبالتالي فقد مبرر وجوده . ولن تحول أية قوة في الأرض دون ان يفشل وان يتمزق . إذ ” الاستراتيجية ” هي القاعدة الرابعة من نظرية الاسلوب . وقد عرفنا أساسها الفكري عندما عرفنا في بداية الحديث انه ” مهما يكن مضمون التغيير الذي نريد ان نحدثه في الواقع فهو إضافة ليست قابلة للتحقق تلقائياً بدون عمل انسان … فهي قطع للاستمرار التلقائي للواقع … ومن هنا نكتشف انه مهما يكن ما نريد أن نحققه فإنه لا يتحقق إلا في المستقبل … بهذا الاكتشاف لعنصر الزمان في الحركة نلتقي باول واخطر شروط التغيير … ” فقرة (2) . والاستراتيجية ليست مجرد خطة لاستخدام القوى من اجل غايتنا ، بل هي قبل كل شيء ، اسلوب ادخال عنصر الزمان في نضالنا واستخدامه لتحقيق غايتنا . ومن هنا فإن وضع الاستراتيجية يتطلب أمرين معاً : النظرية التي تحدد الغاية ، والمعرفة بالواقع الاجتماعي الذي تصلنا فيه بغايتنا . والاعتماد على أي منهما لوضع خطة استراتيجية لمن يؤدي إلا إلى الفشل . المثقفون الذين يجيدون معرفة النظريات يستطيعون أنيؤلفوا ” استراتيجية على أساس تصورهم للواقع . اما الذين يعيشون الواقع بدون نظرية فهم عاجزون عن حتى مجرد التصور الاستراتيجي . وكلاهما يستويان فشلاً . الافكار المجردة تظل بعيدة عن الواقع ولو كانت محكمة الصياغة والممارسة تظل خاضعة للصدفة آناً تصيب وآناً تخيب ، ان هذا يحدد لنا اسلوب اكتشاف الحل الصحيح لمشكلة الاستراتيجية في الحزب القومي الديموقراطي الاشتراكي . انه اسلوب اكتشاف الحلول الصحيحة ( الجدل الاجتماعي ) . في داخل الحزب يعرفون جميعاً الغاية لأنهم يلتزمون جميعاً نظرية واحدة . ولكن كل واحد منهم لا يعرف ولا يمكن أن يعرف كل الواقع . لهذا فلا طريقة لوضع استراتيجية صحيحة إلا بتبادل المعرفة بالواقع ومشكلاته وتبادل الرأي في أفضل استراتيجية لمواجهته والاحتكام عند الاختلاف في تقييم الواقع للنظرية ثم قبول الاقلية الالتزام برأي الأغلبية . انها الديموقراطية داخل الحزب او الصيغة التنظيمية للجدل الاجتماعي داخله . انه بهذا يلتزم القوانين الموضوعية التي تحكم حركة المجتمعات من حيث هو مجتمع صغير . بها يطوّر نفسه باكتشاف الحلول الصحيحة للمشكلات التي تواجهه واولها واخطرها مشكلة استراتيجية الحزب . وهذا يفرض مرة أخرى أن يكون الحزب ديموقراطياً في علاقاته الداخلية . يفرضه حتى لا يفشل . بعد ان فرضه ليكون قومياً ( فقرة 52 ) . وتفرض النظرية صحتها من حيث هي تقدم لنا منطلقات وغايات وأساليب متسقة . هذا بدون احتجاج بان الذين سينفذون الخطة الاستراتيجية ويضحون من اجلها ويتحملون مخاطر الخطأ فيها هم قواعد الحزب وبالتالي فغن من حقهم ان يشاركوا في وضع الخطة التي سينفذون ويضحون من اجلها ويتحملون مخاطر ما قد يكون فيها من اخطاء . ولكن – في كل الظروف – لا يكتمل الاسلوب للحزب القومي الديموقراطي الاشتراكي ، ولا لأي حزب ، إلا بان يصل بين واقعه وغايته بخطة استراتيجية . وبدون خطة استراتيجية يضعها الحزب ديموقراطياً لن يستطيع ان يحقق غايته إذ سيظل عاجزاً عن ادخال عنصر الزمان في حركته والسيطرة عليه واستخدامه . ولهذا نتيجتان ملزمتان لكل الجادين في رغبتهم ان تقوم في الوطن العربي دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية .

الأولى : ان يعفوا أنفسهم ويعفوا الشعب العربي من عناء التصورات الاستراتيجية للنضال من اجل الوحدة الديموقراطية الاشتراكية قبل ان يقوم الحزب القومي الديموقاطي الاشتراكي او خارج دائرة الحوار الديموقراطي داخله . ان كثيرين من الشباب العربي يحملون انفسهم مجهودات فردية لوضع استراتيجيات للمستقبل العربي . ولو كان الأمر مقصوراً على مجرد التصور لما كان ضاراً لأنه ـ على الأقل ـ مران ذهني على فهم مشكلات الاستراتيجية . إلا ان الاستراتيجية تتضمن مواقف محددة من الواقع العربي وقواه وحركته والتصور الفردي لاستراتيجية تحقيق دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية ، السابق على قيام الحزب القومي الديموقراطي الاشتراكي ، لا يلبث أن يتحول الى مواقف محددة من الواقع وقواه وحركته . تصبح لكل واحد استراتيجية خاصة بناها على أساس نظريته الخاصة وحدد بها لنفسه مواقف خاصة من غيره . ولما كان بمفرده عاجزاً حتى عن تنفيذ ” استراتيجية ” في الواقع الاجتماعي فإنه ينفذها بما هو قادر عليه : الكلام . ومع تعدد الافراد وتعدد الاستراتيجيات الفردية وتصدي كل واحد لمسؤولية تحقيق دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية بمفرده طبقاً لاستراتيجيته ينقلب ” النضال ” الى معارك كلامية . ولسنا نشك لحظة في ان السبب الاساسي للخلافات التي تمزق الشباب العربي الذين لاشك في اخلاصهم لهدف دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية ، هو أن كل منهم يحدد موقفه من الآخر طبقاً ” لاستراتيجية ” خاصة يتصورها . وعندما نعرف ان وضع الخطة الاستراتيجية لتحقيق دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية هو جزء من نظرية كاملة ومتكاملة في الاسلوب تحتم ان يكون الحزب القومي الديموقراطي الاشتراكي هو واضع الخطة والمسؤول عن وضعها نؤجل كل خلاف بين تصوراتنا لاستراتيجيته الى ان نطرحها داخلها ونتحاور فيها ديموقراطياً . نريد ان نقول ان عدم الالتقاء لسبب الخلاف في المنطلقات او في الغايات مفهوم وهو يحول دون الالتقاء في حزب واحد فلا مبرر للخلاف حول الاستراتيجية فسيلتزم كل واحد استراتيجية حزبه . وعندما نكون متفقين في المنطلقات والغايات والاسلوب بما فيه ضرورة التقائنا في حزب له استراتيجية فإن الخلاف حول ماهية الاستراتيجية يجب ان يؤجل الى ان نلتقي في الحزب فنحتكم فيه ديموقراطياً أما إذا كان الواقع العربي يضغط على اعصابنا ، ويثير فينا تصورات للمستقبل واستراتيجية مواجهته ـ وهو امر انساني ـ فعلينا ان نفلت بانفسنا من هذا الضغط وتلك التصورات بان نبادر الى الالتقاء في تنظيم يحوّل تصوراتنا الى خطة استراتيجية أو نعرف فيه خطة استراتيجية افضل من تصوراتنا ، لأنها اوثق في تحقيق غاياتنا المشتركة .

النتيجة الثانية مترتبة على الأولى ومؤكدة لها . وهي ان نستعد لما لا بد منه ، وهو انه في ظل العمل الجماعي المنظم ، في داخل الحزب القومي الديموقراطي الاشتراكي ، سنقبل ونلتزم استراتيجية الحزب التي شاركنا في وضعها ديموقراطياً حتى لو كان منا من يعتقد انها خاطئة ، ما دام النظام الديموقراطي داخل الحزب سيسمح بان يواصل الحوار الفكري لإقناع رفاقه بما يرى . عندما نلتقي في حزب سيطرح كل واحد تصوراته في داخله مهما تكن تلك التصورات . وسيدي من الآراء ما شاء ويدافع عنها كما يريد ، ولكنه سيتركها جميعاً داخله ليخرج ملتزماً بتنفيذ رأي الحزب الذي تحدد ديموقراطياً . ولهذا نحذر من ان يحدد كل قومي تقدمي موقفه من استراتيجية النضال من اجل دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية ، تحديداً نهائياً ، قبل الحزب القومي الديموقراطي الاشتراكي أو خارجه على وجه يعزله عنه لأنه يبدو كما لو كان يفرض رأياً مقدماً ولا يقبل الالتزام الديموقراطي فيشكك في صدق وعيه القومي وفي مقدرته على العمل الجماعي المنظم ، وهما شرطان اوليان ليقبل غيره ان يلتقي معه فكرياً او حركياً .

باختصار علىالذين من مواقفهم يتصورون استراتيجية خاصة لتحقيق دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية الا يأخذوا من اختلافهم سبباً لتمزقهم ، ولا يفرضوا استراتيجياتهم شروطاً للانتماء الى الحزب القومي الديموقراطي الاشتراكي ، لأن الحزب وحده هو صاحب الحق في وضع استراتيجية والمسؤول وحده عن وضعها وإلزام كل فرد فيه تنفيذها وردعه إن حاد عنها .

التزاماً بهذا فالمفروض ان نتوقف عن الحديث عند هذا الحد حتى لا نسبق الحزب القومي الديموقراطي الاشتراكي فنصادر حقه وهو ما لا حق لنا فيه ، أو ان نتحمل عنه مسؤوليته ولسنا مسئولين عنها ، ولنكون دائماً على استعداد للالتقاء فيه مع كل الذين نشترك معهم في المنطلقات وفي الغايات وفي الاسلوب . أي الذين نلتقي معهم على النظرية . لهذا سنتقصر فيما تبقى من حديث على بيان خصائص الاستراتيجية كما تحتمها المنطلقات والغايات استكمالاً لنظرية الاسلوب  . وهي خصائص بسيطة .

أولاها : أن تكون استراتيجية قومية . تتحدد ـ من ناحية ـ طبقاً لمصلحة الأمة العربية ككل في مواجهة الدول الاجنبية . نشارك في الصراع الدولي ونحالف ونعادي ، ولكن طبقاً لمصلحة امتنا . ان الحياد الايجابي ، او عدم الانحياز ، بالمفهوم الذي يعبر عنه شعاره ” نعادي من يعادينا ونسالم من يسالمنا ” ، هو تعبير عن الموقف القومي في العلاقات الدولية . وتكون ـ من ناحية أخرى ـ شاملة الوطن العربي كله . لا يجوز للحزب القومي الديموقراطي الاشتراكي على ان يوجه ومهما تكن العقبات ان يستثني من نشاطه اي شبر من الوطن العربي او ان يحجب عضويته عن اي فرد عربي يستأهل عضويته ، وبالتالي فإن استراتيجيته يجب ان تكون شاملة كل الوطن العربي بدون استثناء ، سواء كانت ثمة قوى متاحة لتنفيذها ام لم تكن . يجب ان تكون جاهزة للتنفيذ بمجرد وجود القوى في المواقع التي لم يمتد اليها نشاطه الفعلي . ان هذا يعبر عن حقه القومي ومسئوليته القومية معاً ، ورفضه ان يتحول بإرادته ، او ان تحوله اية قوة الى حزب اقليمي ، وسيكون اقليمياً ويفقد هويته القومية لو قبل بإرادته او خضع لأي قوة فاستثنى من حقه ومسئوليته شبراً واحداً من الوطن العربي ، بصرف النظر عما اذا كان قادراً مرحلياً ام غير قادر على الممارسة الفعلية لحقه او الوفاء الفعلي بمسئوليته .

الثانية : أن تكون استراتيجية هجومية . ان استراتيجية الدفاع هي خطة المحافظة على الواقع . ودولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية ليست واقعاً في الوطن العربي  . من هنا فان استراتيجية تحقيقها لا بد لها من ان تكون هجومية . لا هدنة ولا سلام بين الحزب القومي الديموقراطي الاشتراكي وبين القوى التي تقف عقبة في سبيل غايته . حتى لو كفت هي عن الحركة المعادية فلا بد من مهاجمتها حتى تصفى . حتى لو انهزمت فتراجعت لابد من مطاردتها الى ان تصفى . حتى لو توقفنا نحن فلنعيد حشد قوانا ثم نبدأ الهجوم . حتى لو انهزمنا فتراجعنا نعيد تنظيم قوانا لنعود الى الهجوم . لا ينبغي ابداً ان يكون نضال الحزب القومي الديموقراطي الاشتراكي رد فعل للقوى المعادية لغايته . ان هجمت يدافع وان توقفت يتوقف وان هادنت يهادن . وان ساومت يساوم . ابداً . إذ ان مهمته أن يصفي نهائياً ـ بالوسائل المناسبة ـ دولة اسرائيل والاستعمار الامبريالي والتبعية والرجعية والديكتاتورية والاقليمية ليقيم دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية فلا بد من أن تكون استراتيجيته مهاجمة كل هذه القوى حيث تكون وعدم التوقف عن النضال ضدها الى ان تصفى نهائياً . الوسائل هي ادوات المعارك التكتيكية . ولكن الهجوم موقف استراتيجي . ويبدو هذا اكثر وضوحاً لو ضربنا له مثلاً معركتنا ضد الصهيونية . ان الغاية الاستراتيجية هي استرداد أرض فلسطين لدولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية . والمرحلة الأولى منها استرداد ارض فلسطين من قبضة الصهيونية المغتصبة بإزالة دولتها : اسرائيل . ولا يمكن حصر الوسائل التي تؤدي الى إزالة دولة اسرائيل . إنها وسائل كثيرة تتعاون معاً على تحقيق غايتها طبقاً للقوى المتاحة لنا والقوى المتاحة للعدو . ولكن الموقف القومي من مشكلة فلسطين يحتم ان نهاجم اسرائيل دائماً بكل وسيلة وبدون توقف لا من خارج الأرض المغتصبة فقط ولكن من داخلها . إذ ان الدولة ـ كما عرفنا ـ نظام قانوني فهو كما يتحطم من الخارج يتحطم من الداخل . وتنبهنا نظريتنا القومية تنبيهاً خاصاً ومركزاً الى اهمية استمرار مهاجمتها من الداخل . فقد قلنا من قبل : ” ان الصهيونية تحاول منذ 1948 ان تصنع امة من اشتاتها القبلية بان تستحوذ على ارض خاصة بها . ولا بد لكي تنجح من ان تستقر على الأرض وتختص بها … ولو سمح الشعب العربي للصهاينة الاستقرار على الأرض حتى تكون خاصة بهم وبنوا عليها حضارة خاصة فإنهم سيصبحون امة شاء الشعب العربي ام لم يشأ … ويوم يصبح للصهاينة أمة في فلسطين لن يستطيع احد أن ينتزعها منهم مرة أخرى . لعل هذا ان يكون واضحاً فإنه يحدد لنا إلتزامات عينية داخل الأرض المغتصبة وخارجها حتى قبل ان تزول دولة اسرائيل ” ( فقرة 42 ) . هكذا قلنا وها نحن نعود لمواجهة هذه الالتزامات العينية . ان دولة اسرائيل هي نظام قانوني ينظم محاولة الصهيونية الاختصاص بأرض فلسطين المغتصبة وان يوفر لهذا الاختصاص الاستقرار لفترة زمانية كافية ليتحول الصهاينة إلى امة . ان الشعب العربي المقيم على ارضه في دولة اسرائيل هو القوة الأولى في الوطن العربي التي تحول فعلاً دون ان يختص الصهاينة بأرض فلسطين . وهو قادر على ان يكمل دوره التاريخي في الإلغاء الموضوعي لدولة اسرائيل بأن يحيلها من نظام قانوني إلى حبر على ورق ، وذلك بان يحطم القانون . أي قانون من اول القوانين التي تحرم العنف الى آخر قوانين الاقامة والمرور . ان كل من يحطم قاعدة قانونية في الأرض المحتلة يجرد دولة اسرائيل ولو من جزء بسيط من مقدرتها على البقاء . ولو تحول العرب فيها الى مثل ابطال غزة الشجعان لانهارت دولة اسرائيل من الداخل . ان هذا الدور البطولي ينتظر كل قادر من الشباب العربي . هناك في الأرض المحتلة يمكن تحويل دولة اسرائيل الى خرافة واقناع الصهاينة بكل وسيلة مناسبة بأن مشروع دولتهم مشروع فاشل . ولكن الأرض المحتلة ليست هي الساحة الوحيدة لتحطيم دولة اسرائيل . ففي كل مكان وفي كل مجال تنشط فيه اسرائيل كدولة يمكن ان توجه اليها الضربات لتتحول الى دولة فاشلة . المهم هنا هو مهاجمة دولة اسرائيل في كل مجال وفي أي مكان داخلها أو خارجها ، في الوطن العربي او في أطراف الأرض جميعاً ، وبأية وسيلة من الكلمة الى المدفع بدون توقف . ” بدون توقف ” هذا هو العنصر الاستراتيجي الحاسم في النهاية . على الشعب العربي ان يحرم الصهاينة مهما تكن الظروف من امرين : أولهما الاعتراف ثانيهما الأمن . انالدول العربية قادرة على ان تحرم الصهاينة من الاعتراف . ولكن الدول العربية قد لا تستطيع أن تحرم الصهاينة من الأمن . والأمن اكثر لزوماً لبقاء دولة اسرائيل من الاعتراف . وهنا يبرز دور القوة الجماهيرية المتحررة من قيود الدولة القادرة على ان تحرم اسرائيل من الأمن من ناحية وقادرة ـ إذا لزم الأمر ـ ان تردع اية دولة عربية تعترف بإسرائيل . إن هذه القوة الجماهيرية المقاتلة التي عرفت بعد هزيمة يونيو ( حزيران ) سنة 1967 باسم المقاومة هي الوسيلة الأولى المناسبة لإلغاء وجود دولة اسرائيل في فلسطين . وهي قادرة تماماً على ان تؤدي دورها داخل الأرض المحتلة وخارجها بما يتوافر لها من حرية في اختيار مواقع ضرباتها ووسائل توجيه تلك الضربات بشرط أن يتوافر لها أمران : الأول المقدرة على الاستمرار . الثاني الحماية ضد الدول العربية التي ترى في نشاط المقاومة ما يمس وجودها كدولة : شعب وأرض وسيادة فتحتج باستقلالها او بالتزاماتها الدولية لطعن المقاومة من الخلف او تصفيتها . لو توافر الأمران للقوة الجماهيرية المقاتلة ( المقاومة ) لبدأ الصهاينة انفسهم في التخطيط لتصفية دولتهم ، لأنهم سيكونون حينئذ على يقين من المصير الذي ينتظر تلك الدولة . والدول العربية جميعاً لا تستطيع بحكم طبيعتها الاقليمية وفيما لو تركت وشأنها أن توفر للمقاومة هذين الأمرين . وأكثر منها عجزاً المشردون في الوطن العربي من ابناء فلسطين . إنما يتوافر الأمران ويتحدد بهما المصير النهائي لدولة اسرائيل عندما تكون المقاومة هي القوة الضاربة لحزب قومي يستمد مقدرته من مقدرة الجماهير العربية على الاستمرار في النضال من اجل استرداد الأرض المحتلة ومقدرتها على ردع أية حكومة عربية ويعفي المقاومة من ان تعتمد على الدول العربية فيجنبها مخاطر الغدر ويؤمن وجودها ويوفر لها العمق الاستراتيجي اللازم للنصر في المعركة .

وما فلسطين إلا مثلاً لتاكيد ما تحتمه نظريتنا من ان تكون استراتيجية الحزب القومي التقدمي الاشتراكي استراتيجية هجومية . وهو ما يعني انها تضيف الى خصائص الحزب القومي ما يجعله صالحاً لتنفيذ استراتيجيته وهو ان يكون ذا قوة ضاربة هجومية لمواجهة متطلبات النصر في الواقع العربي .

الثالثة : ان تكون استراتيجية مرنة . ان استراتيجية تبدأ من واقع مجزأ غير مستوى النمو الاقتصادي ، بعضه مغتصب وبعضه محتل وبعضه تابع وبعضه متحرر وبعضه رأسمالي وبعضه يتحول اشتراكياً ، والقوى المعادية موزعة عليه لها في كل موقع قوة ، وكل قوة ذات غايات تكتيكية مختلفة وتستعمل وسائل مختلفة ، لابد لها ـ لكي لاتجمد قواها ـ من أن تحتفظ للقوى في كل موقع بأكبر قدر من المرونة في اختيار الخطط التكتيكية المناسبة لخوض معاركها في مواقعها واختيار اساليب الصراع ضد عدوها لتنفيذ الغاية الاستراتيجية المحدد لها .

الرابعة : ان تكون استراتيجية ثورية . وهذه تحتاج الى ايضاح .

77 ـ لماذا الثورة العربية :

ثمة مبررات في الوطن العربي تقتضي تحديد مفهوم الثورة تحديداً علمياً دقيقاً . من هذه المبررات شيوع استعمال المعنى “المجازي ” للثورة حيث تعني ضخامة الجهد أو ضخامة الأثر . ولقد أدى هذا الشيوع إلى أن اصبحت الثورة تطلق على اداء الواجبات اليومية ولا تزيد عن هذا الا قليلاً . ومنها اساءة استعمال كلمة الثورة لتغطية اعمال لا تمت الى الثورة بصلة ومنها غموض المضامين التي تنسب الى الثورة فالثورة التي هي تغيير جذري في المجتمع تجرنا الى السؤال عما هو الجذري . والجذري الذي هو الاساسي يحتاج الى معرفة ما هو الاساسي .. وهكذا . كل هذا يفتح الباب واسعاً لادعاء الثورية والتضليل باسم الثورة .

لهذا ينبغي أن تكون الثورة بمعناها الحقيقي معروفة لنا حتى لا نضل أو نضلل . والمعنى الحقيقي للثورة هو تغيير النظام في المجتمع على وجه يحقق ارادة الشعب ، أو اغلبه ، من غير الطريق الذي يرسمه النظام القانوني السائد فيه . ذلك لأنه في أي مجتمع مضامين اقتصادية واجتماعية وسياسية ، تكون معاً مضمون علاقات الناس أنفسهم . وفي كل مجتمع تصاغ علاقات الناس حول هذه المضامين في عديد من القواعد والقوانين العادية و الدستورية تكون معاً النظام القانوني للمجتمع وكل نظام قانوني يتضمن طريقة قانونية أيضاً ، او مشروعة كما يقولون ، لتعديله او تغييره . ويفرض ـ في الوقت ذاته ـ جزءاً رادعاً على محاولة تغيير العلاقات التي يحميها من غير الطريق الذي رسمه ، وينشيء أدوات الردع اللازمة لتنفيذ أحكامه .

ولما كان النظام القانوني في أي مجتمع نظاماً عاماً ، وبمعنى انه للجميع ويخضع له الجميع طبقاً للشروط التي يتضمنها ، فإن مشروعيته قائمة على فرض ان المضامين والعلاقات التي صاغها فحماها تتفق مع ما تريده الجماهير التي تعيش في ظله او اغلبها .

إلا أنه يحدث أن يكون هذا الفرض غير صحيح . أما لأنه نظام قانوني مفروض على إرادة الجماهير منذ مولده كتلك النظم التي يفرضها الاستعمار على الشعوب التي يستعمرها ، فيرسم لها حدودها ، ويضع لها دساتيرها ، ويعين لها سلطاتها ويسن لها قوانينها ، ليوفر الحماية لمصالحه تحت ستار الشرعية ، واما لأن المضامين الاجتماعية قد تجاوزت عن طريق النمو والتطور اطارها القانوني الثابت نسبياً ، فتصبح مصالح الشعب أو أغلبيته ، مجردة من الحماية القانونية ، وخارج اطار الصيغة التي يمثلها النظام القانوني القائم .

عندما يسقط افتراض ماهية النظام القانوني لمصالح الجماهير التي تكوّن الاغلبية ، يتجرد من الشرعية ويبقى عدواناً على الشعب مصوغاً في شكل قانوني ، ويصبح تغييره مشروعاً . هنا ينقسم الناس عادة قسمين ، قلة رجعية لا يزال النظام القانوني المتخلف يوفر الحماية لمصالحها فتقف ضد أي تغيير فيه . وكثرة تقدمية تريد ان تغيّره على وجه يكفل حماية مصالح اغلبية الشعب . ثم يفترق التقدميون أنفسهم حول اسلوب التغيير ، فمنهم الاصلاحيون الذين يرون أن يلتمسوا التغيير عن طريق ذات الاسلوب الذي رسمه النظام القانوني الذي يريدون تغييره ، يعدلون لائحة هنا ، ويضيفون نصاً الى قانون هناك ، ليلائموا بين النظام القانوني ومصلحة الجماهير وتلك وسيلة ناجحة عندما تكون الجماهير قادرة فعلاً على تغيير النظام القانوني ، أي في ظل الديموقراطية ، عندما تكون القوانين من صنع الشعب وخاضعة في وجودها والغائها لارادة الشعب فعلاً . ولكنها وسيلة فاشلة تماماً عندما يكون النظام القانوني ذاته قد جرد الجماهير ، اقتصادياً أو سياسياً أو اجتماعياً ، من المقدرة على تغييره .

هنا تكون قد توافرت الظروف الموضوعية للثورة .

وهنا تكون محاولة التزام احكام النظام القانوني السائد لتحقيق غايات الجماهير التزاماً مثالياً عقيماً ، ولا تبقى الا الثورة اسلوباً يلتزمه التقدميون الذين يسمون عندئذ ” ثوريينوتكون مهمتهم توعية الجماهير المقهورة وتنظيمها وقيادتها لاسقاط أسس النظام القانوني المتخلف واعادة صياغته طبقاً لمصلحة الجماهير ذاتها أي تمكين الجماهير عن طريق النضال الجماعي المنظم من استرداد مقدرتها على التغيير ، وتحقيق غايتها ، خارج اطار الاصلاح القانوني .

لهذا فإن الثورة ليست رغبة جامحة ، ولكنها حل حتمي لمشكلة موضوعية خلقها النظام القانوني القائم فحيث تسلب الجماهير المقدرة على تحقيق ارادتها ديموقراطياً ، لا يكون امامها إلا طريق الثورة . ولهذا حق ما يقال من ان الثورة تعني دائماً انها شعبية وتقدمية . وتخرج بذلك من عداد الثورات الانقلابات التي يلجأ اليها البعض لمجرد الوصول الى السلطة ولو عن طريق العنف . انها مجرد مخالفات دستورية ولو كانت عنيفة . كما تخرج اعمال العنف التي تلجأ اليها الرجعية ضد الثوريين للابقاء علىالنظم غير المشروعة ، وهذا ما يسمى عادة ” الثورة المضادة ” انه ارهاب .

ومن المهم ان نفطن هنا الى ان العنف ليس شرطاً للثورة . وإن وقع فليس الثوريون مسئولين عنه . ان العنف الذي قد يلجأ إليه الثوار اجراء مشروع لتجريد أعداء الثورة من المقدرة العنيفة على تثبيت نظام قانوني يجب ان يسقط لمصلحة الجماهير . ولما كان ذلك النظام القانوني ذاته يبيح العنف ضد الذين يحاولون اسقاطه ، فإنه اعتداء قائم ، والرد عليه يمثل اسلوبه العنيف دفاع مشروع .

تلك هي الثورة .

بمجرد التزام المنطلق القومي التقدمي ، وطبقاً لهذا المفهوم المحدد للثورة ، يتضح أن الثورة هي الطريق الوحيد إلى دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية .

ذلك لأن الوجود الموضوعي للأمة العربية كمجتمع قومي واحد يعني ان مقياس الضرورة الثورية هو مدى ما يبيحه النظام القانوني في الوطن العربي ككل من سبل ديموقراطية لتحقيق ارادة الجماهير العربية ككل . فقد قلنا ان الثورة هي البديل الحتمي عندما تسلب الجماهير مقدرتها على التغيير ديموقراطياً .

والواقع من النظام القانوني في الوطن العربي انه مجموعة عديدة من الدساتير والقوانين ـ حيث توجد دساتير وقوانين ـ تجزىء الوطن الواحد إلى دول عدة ، وتجسد هذه التجزئة وتحميها . وهي لا تحميها بقوة الاقناع بل بالزجر الرادع من اول القتل شنقاً الى النفي خارج الحدود ، ومع ان بعض دساتير الدول العربية تنص على ان شعوبها اجزاء من الأمة العربية فليس في أي دستور في أية دولة عربية نص على وحدة الوطن العربي ، أو نص لا يعتبر الأرض العربية خارج حدود الدولة أرضاً أجنبية ، أو نص لا يعتبر العرب الوافدين إلى الدولة أجانب قادمين اليها أو مقيمين فيها عرضاً إلى أن يعودوا الى “أوطانهم الأصلية .

لا توجد مثل هذه النصوص ، ولا يمكن ان توجد .

والمهم أن نعرف لماذا لا يمكن ان توجد حتى لانتوهم ان النوايا الحسنة قادرة على ايجادها ، ولنعرف تماماً أن هذه الدساتير عقبة على طريق الوحدة . والأمر بسيط . فالدساتير تنظم طريقة تعديلها ، ولكنها لا يمكن ان تبيح وتنظم طريقة الغائها . ولا يوجد في أية دولة في العالم دستور يبيح لأية قوة ان تلغيه او ينظم طريقة هذا الالغاء . لأنه لايوجد اي دستور لأية دولة يتخلى عن وظيفته : دعم وحماية الكيان السياسي الذي يمثله .. ويوم ان يبيح أي دستور الغاءه يكون قد زال كدستور . ويوم ان تستطيع أية قوة الغاءه حتى لو كانت هي التي تحكم تكون قد قامت بثورة ضد الدولة من مواقع السلطة فيها .

لهذا لا يمكن الغاء ” الدول ” إلا بالثورة من الداخل والقوة من الخارج أي بتحطيم القاعدة الدستورية التي يقوم عليها وجودها السياسي . ولا طريق غير هذا .

ولما كانت الدساتير هي الاساس بالنسبة لكافة القوانين الأخرى التي تكون بمجموعها النظام القانوني في أي مجتمع ذي دولة ، فإن كل تلك القوانين تبيح ما تبيح وتمنع ما تمنع في نطاق ما يبيحه الدستور ويمنعه ، ولا يمكنها ان تخرج عن هذا النطاق لأن شرعية القانون تتوقف على دستوريته كما يقول رجال القانون . لهذا ليس غريباً ان تخلوا كل القوانين في كل الدول العربية من تنظيم طريقة ” مشروعة ” لتحقيق الوحدة . فمع ان كل القوانين السائدة في الدول العربية – إن وجدت – لا تعاقب الذين يلجأون الى العنف دفاعاً عن انفسهم أو الذين يستردون ما يملكون خلسة ، فليس في أي قانون في اية دولة عربية نص يبيح تحقيق الوحدة أو حتى الشروع في تحقيقها . تعاقب القوانين على ما يمس الاعتبار الشخصي من كلام لا يليق أو ما يخدش الحياء ، ولكن مباح في احكامها ان يشوه الوجود القومي ويهان ، ولا عقاب لمن يعادي الوحدة العربية قولاً وفعلاً . وهكذا تمرح خيانة القومية في الوطن العربي بدون ردع ، ويردع الذين يتخطون الحدود الى باقي وطنهم الكبير ولو كان سعياً في سبيل الرزق او الحرية . ذلك لأن هذه القوانين في اية دولة عربية جزء من النظام القانوني الذي يحمي التجزئة ، فهي عقبة في سبيل الوحدة لا تبين واضحة إلا إذا نظرنا اليها من المنطلق القومي . فمن المنطلق القومي يبدو هذا النظام القانوني بدساتيره وقوانينه ولوائحه سلسلة ثقيلة ومتعددة الحلقات تشل مقدرة الجماهير العربية على تحقيق ارادتها ديموقراطياً ، وتغلق اي باب غير ثوري لتنفذ منه الجماهير الى الوحدة العربية ، حتى باب الالتقاء البسيط ، وتبادل الرأي ، والتعبير عنه ، وذلك بما تفرضه بينها من حدود ـ وقيود ـ دستورية وقانونية .

لهذا فإن “الثورة” ليست الطريق الذي يختاره ” الذين يستهدفون الوحدة من منطلقهم القومي من بين طرق متاحة . ولكنه الطريق الوحيد الذي فرضته طبيعة التجزئة . انه الحل الموضوعي لمشكلة واقعية فهو الحل الصحيح ، وبالتالي لا تتوقف صحته على أهواء الذين يريدونه او الذين لا يريدونه . والهرب منه هرب من مواجهة المشكلة وتخل عن الغاية التي لا منفذ اليها إلا منه . ولا يجدي في هذا افتعال الحكمة والعقل والهدوء وعدم التهور .. الخ ، كما لا تجدي السفسطة او المغالطة .

ومن المغالطة ما يقال من أن النظم القانونية في بعض الدول العربية تتضمن كلاماً مكتوباً عن حق الجماهير في الاقاليم في التعبير عن ارادتها ، وتيسر الكفاح الديموقراطي ولو في سبيل الوحدة تحركاً جماهيرياً يغطي الوطن العربي كله ، حيث تواجه الجماهير العربية ككل النظام القانوني في الوطن العربي ككل . أي ان الثورة  كحل وحيد وحتمي وليدة المنطلق القومي ذاته ، وليست ضرورة موضوعية ولهذا فهي تصور مثالي للطريق الى الوحدة لأنه يتجاهل الواقع في الاقاليم ويعمم احكامه على وجه تجريدي لا يعبر عن الحقيقة الواقعية . والحقيقة من الواقع ـ هكذا يقال ـ أن امكانيات التحرك الجماهيري ديموقراطياً . متوافرة في بعض الاقاليم ، وإن كانت غير متحققة في أقاليم أخرى . وان الجماهير العربية في بعض تلك الاقاليم قد تحررت سياسياً واقتصادياً ، وأصبحت قادرة على ان تحقق المصير الذي تريده بدون حاجة الى الثورة  . وعلى هذا فإن تحرير الجماهير في الاقاليم يغني عن الثورة كطريق الى الوحدة . وعندما تكسب الجماهير العربية حريتها في اقليمين تتم الوحدة بينهما ، وكلما تحررت الجماهير في اقليم انضمت الى دولة الوحدة … وهكذا . ذلك هو الطريق الديموقراطي الى الوحدة ، وحيث يمكن تحقيق الوحدة ديموقراطياً لا يقوم مبرر الثورة ، فلا مبرر لكل هذا الانفعال ، خاصة وأن الوحدة لا تفرض على الجماهير باسم الثورة ، إذ كيف تكون ثورة وهي تفرض ارادتها على الجماهير … الخ .

لنأخذ بداية الطريق : وحدة بين اقليمين ( وحدة جزئية )  .

ولنسلم اولاً بأن الوحدة لا تفرض على الجماهير العربية ، ولا ينبغي أن تفرض ، ويجب ألا تفرض ، لا باسم الثورة ولا بأي اسم مبتكر ولو كان أكثر يسراً واغراء من الثورة . ولكن النتائج التي تترتب على هذا الذي سلمنا به تتوقف على ما تعنيه بالجماهير العربية التي تحررت ـ  فرضاً ـ في ـ لنقل ـ اقليمين .

اذا كنا نعني أن الجماهير في الاقليمين قد تحررت ثم عبرت عن ارادتها في الوحدة وأصبح تعبيرها من القوة بحيث حققت الوحدة فإن الوحدة هنا ثمرة واقع ثوري موضوعي ( رفض الجماهير لدولتها ) وليست ثمرة ممارسة لحقوق سياسة ديموقراطية في الاقليمين إذ  عندما تصل الجماهير الى أول موقف وحدوي تجد نفسها في مواجهة التجزئة . وعندما تسقط التجزئة نتيجة الضغط الجماهيري ، تسقط عن غير الطريق الذي رسمته نظم القوانين التي تحميها ، أي تنهار تلك النظم تحت الضغط الثوري للجماهير . وهذا أحد أساليب الثورة العربية في تحقيق غايتها العظيمة ، ولعله أن يكون الاسلوب الأكثر ملاءمة للقضاء على التجزئة في بعض الاقاليم ولكنه ليس الاسلوب الوحيد للثورة المهم انه اسلوب “الثورة” وليس اسلوب الديموقراطية الاقليمية .

فليكن ، ما دامت النتيجة واحدة ، فما قيمة التسمية ؟

لا ، النتيجة ليست واحدة ، والتنمية هنا كالحد القاطع ، وان كان دقيقاً . وهو ما يعني أن علينا أن تنتبه اليه جيداً ، إذ عندما تدق الحدود ، تتاح الفرص للتسلل وتشيع المغالطات .

ذلك لأننا لو كنا نعني بالجماهير العربية التي تحررت في الاقليمين ـ فرضاً ـ كتلتين جماهيرتين لكل منهما وجود متميز ، وهذا ما يعنيه الاقليميون ، فمعنى هذا أن مصير الوحدة العربية متوقف على قبولها من سكان كل دولة وإمارة أو مشيخة … الخ . على حدة ، وان طريقها دائماً استفتاء الناس في كل اقليم ليختاروا بين الوحدة والتجزئة ، ولو بصيغة : الوحدة : لا أو نعم . ومع اننا لا نعرف كيف يمكن استفتاء الناس في أية دولة أو إمارة او مشيخة … الخ على إلغاء وجودها السياسي طبقاً لذات النظام القانوني الذي يمثل هذا الوجود ويحميه ، أي داخل إطاره بدون تحطيمه ، إلا ان الذي يعنينا هنا – بوجه خاص – هو الاستفتاء الاقليمي كطريق الى الوحدة .

الاستفتاء يعني أسلوب الاختيار الحر بين الوحدة والتجزئة . وهو لايكون حراً إلا إذا كانت ” الدولة ” بكل ما يمثله وبكل من يمثلها بعيدة عن معركة الاختيار بين وجودها وإلغائها أي أن تكون قد قبلت فعلاً أن يكون ” وجودها ” موضع استفتاء . وهو ما يعني تماماً أن وجودها كان قد ألغي موضوعياً وثورياً قبل الاستفتاء ، وان ما يسفر عنه الاستفتاء هو ثمرة ثورة وحدوية ان اختارت الجماهير الوحدة ، أو ثورة مضادة ان اختارت التجزئة . أي انه في الحالتين ثمة وضع ثوري غير متوقف على وجود الدولة او على الاستفتاء الذي يجري فيها .

فإن تدخلت ” الدولة ” في الاستفتاء ، فإن الحديث عن الديموقراطية وإرادة الجماهير ، وحريتها … الخ يصبح هزلاً .

فالدولة التي تتدخل في الاستفتاء تأييداً للوحدة أي تاييداً لإلغاء وجودها ، إنما تبحث عن وثيقة شكلية تستعملها كفناً لها بعد ان يكون وجودها ذاته كدولة قد انتهى وهو لا ينتهي إلا بعمل ثوري . وتستوي وثيقتها تلك وجوداً وعدماً بالنسبة الى مصيرها الذي حدده الواقع الثوري .

والدولة التي تتدخل في الاستفتاء ضد الوحدة ، انما تزيف وثيقة شكلية تبرر بها وجودها . وتستوي وثيقتها تلك وجوداً وعدماً بالنسبة الى واقع التجزئة المفروضة على الجماهير . إذن فعندما تستطيع الجماهير المتحررة في اقليمين ( أو أكثر ) أن تحقق الوحدة بينهما ، تكون الوحدة هنا ثمرة وضع ثوري خلقته الجماهير التي استردت بالتحرر مقدرتها على فرض إرادتها ولم تكن ثمرة استفتاء ديموقراطي فيما يقولون . ويكون الاستفتاء شكلياً فهو غير لازم لتحقيق الوحدة وهي غير متوقفة عليه .

فليكن استفتاء شكلياً . ما الضرر ؟ . على الأقل سترتبط الوحدة الديموقراطية في أذهان الجماهير العربية ولو كان ارتباطاً شكلياً ، ونتجنب ما يثيره أعداء الوحدة من اتهامات .

الضرر المدمر هو ان ترتبط الوحدة العربية بالديموقراطية إرتباطاً ” شكلياً ” . إذ من مصلحة الجماهير العربية أن تظل على وعيها ـ أو أن تعي تماماً ـ أن الوحدة العربية هي التي تدخر لها الفرصة الكاملة لتعرف المعنى الحقيقي للديموقراطية . إن الديموقراطية في ظل الاقليمية مقدرة على الحركة لا أكثر ، ولكن الديموقراطية في ظل الوحدة حياة حرة . والفرق بينهما أن الثانية تتضمن في ذاتها حصانة تحول دون الاستبداد . فلن يكون أحداً قادراً على ان يستبد بحياة مائة مليون عربي ، لهذا يجب ان تظل الرابطة الموضوعية بين الوحدة والديموقراطية ثابتة في أذهان الجماهير العربية بدون تزييف .

الضرر المدمر هو ان تركن الجماهير العربية الى الاستفتاء طريقاً سهلاً الى الوحدة العربية ، فتعلق مصيرها على أهواء كل بضعة آلاف أو بضعة ملايين محصورة في أحد الاقاليم ، وننتظر أن يهتدوا الى الوحدة فيختاروها استفتاء . إذ من مصلحة الجماهير العربية أن تواجه مصيرها مواجهة واضحة ، وأن تعرف الطريق اليه على حقيقته ، لتستطيع ان تعد العدة اللازمة لانتصارها ضد قطاع الطريق الذين يحيطون بمسيرتها من كل جانب . ولا يجوز تخديرها بأفيون من الاستفتاءات الشكلية ولو كان مغلفاً بالديموقراطية .

الضرر المدمر أن تفتح طرق ـ حقيقية وليست شكلية ـ للانفصال . إذ لا يمكن الهرب من منطق الاقليمية : الوحدة التي يقررها الاستفتاء الاقليمي ، يمكن أن تنفصل باستفتاء اقليمي جديد . ولكل منطق أحكامه التي لا تجدي معها المغالطات الشكلية . ومنطق الاستفتاءطريق الوحدة ” يقتضي ان يستفتى الناس في اقليم على الوحدة دورياً أو كلما تغير نظام الحكم في دولة الوحدة ، أو كلما طلبت نسبة معينة من ” ممثلي الشعب ” هذا الاستفتاء . وكما يكون مقبولاً أن يكون الاستفتاء غطاء شكلياً لوحدة تحققها الثورة العربية ، يكون الاستفتاء غطاء شكلياً لانفصال تحققه الثورة المضادة فهل هذا مقبول ؟

الضرر المدمر ان تتسلل الاقليمية لدعم التجزئة من خلال ” الشكل ” الديموقراطي  . إذ ان الاقليميين لا يعترفون بان الاستفتاء على الوحدة شكلي فغير لازم . بل يقدمونه كبديل عن الثورة وبالتالي يحاولون ايهام الناس بأن خلق وضع ثوري وحدوي غير لازم لتتحقق الوحدة بالاستفتاء .

أي يمهدون لاستفتاءات قد تسفر عن دعم التجزئة . يحاولون الحصول على وثائق لرفض الوحدة عليها بصمات الجماهير . كما يخفون انه استفتاء شكلي ليكون لازماً باسم الحرية والديموقراطية . وهل هناك من يجرؤ على رفض طريق تفرضه الحرية ؟ وعندما يستقر هذا التضليل في الأذهان تصبح الوحدة متوقفة على إرادة الفئة الحاكمة في كل اقليم . وما على الذين يريدون الافلات من الوحدة إلا أن يجعلوا الاستفتاء مستحيلاً في أقاليمهم استحالة مادية أو قانونية . وعندما يكون الاستفتاء مستحيلاً لا يتحقق الشرط اللازم للوحدة فتبقى التجزئة .

كل هذا لأن البعض يريدون أن ” يقالان الوحدة قد تمت ديموقراطياً عن طريق الاستفتاء الشعبي . مجرد قول يصوغونه هم أنفسهم – ان كانوا قد أسهموا في إلغاء التجزئة – حتى تتجنب الثورة العربية ما يثيره أعداء الوحدة من اتهامات . ولا بأس في أن تخدعهم الثورة العربية بإجراء شكلي ، ثم تواصل مسيرتها على طريقها الوحيد : الثورة .

الذين يرون هذا لا يخدعون أعداء الوحدة بل يخدعون انفسهم .

إذ لايهم أعداء الوحدة العربية كيف تحكم الجماهير في الاقاليم ، ومدى مقدرتها على تحقيق ارادتها . مشكلة الحرية والديموقراطية في الاقاليم لا تهم إلا القوميين الذين ولاؤهم لهذه الجماهير . أما أعداء الوحدة فيعتبرون أنفسهم غرباء عن الجماهير خارج أقاليمهم ، فما الذي يعنيهم من ” كيفية ” تحقيق الوحدة ؟ لا يعنيهم شيء . ولا تنطوي اتهاماتهم على أي إشفاق على الجماهير أو إخلاص للوحدة حتى يكون لهم رأي يعبّرون عنه إسهاماً في كيف تتحقق الوحدة ولو كانوا مخلصين لتبينوا بيسر أن ليست الديموقراطية طريق الوحدة بقدر ما الوحدة طريق الديموقراطية . انهم ببساطة يشهرون بالوحدة ولو تمت الوحدة العربية قضاء وقدراً لا يعرف لها صانع من البشر لاتهموا القضاء والقدر . فهل يمكن تجنب هذا التشهير بالاستفتاءات الشكلية ؟ . أبداً بل هي تغذية . فليس ثمة تشهير أكثر دوياً من كشف ما يحاول البعض إخفاءه : شكلية الاستفتاء .

الثورة ، إذن ، هي الطريق الوحيد الى الوحدة العربية .

والثورة هي ، أيضاً ، الطريق الوحيد الى الاشتراكية . والسبب هنا أكثر وضوحاً . ذلك لأن الاشتراكيين يشقون طريقهم الى النظام الاشتراكي في قلب النظم الاستغلالية حيث تكون الجماهير مقهورة اقتصادياً وبالتالي مسلوبة المقدرة على ان تختار ما تريد . ولهذا قلنا من قبل أن النظام الاشتراكي هو شرط اولي وأساسي للديموقراطية . في ظله وحده يمكن ان نحتكم الى الجماهير ديموقراطياً ونقبل الالتزام برأي الأغلبية ، لأننا في ظله نكون على يقين من ان الجماهير قد عبرت عما تريده فعلاً . أما استفتاء الجماهير المقهورة في ظل النظم الاستغلالية فهو احتكام الى من نعرف ـ مقدماً ـ انه لن يعبر إلا عن رأي قاهريه ومستغليه . انها اذن لعبة شكلية يراد بها اضفاء الشرعية على ما يريده المستغلون . لهذا عندما نقول ان الثورة هي الطريق الوحيد الى الاشتراكية لا نختار الثورة بحثاً عن المتاعب أو للتنفيس عن حقد مقيم أو لأننا ضد الديموقراطية . أبداً  . ان الاشتراكيين ـ وحدهم ـ هم انصار الديموقراطية . وهم على استعداد في كل وقت لقبول حكم الجماهير . ولكن اية جماهير ؟ .. انها الجماهير المتحررة من الخوف ومن القهر ومن الاستغلال . الجماهير التي عندما تقول ” نعم ” يكون قولها حاسماً لأنها كانت قادرة على ان تقول ” لا” وهي لا تكون متحررة إلا في ظل نظام اشتراكي . فالاشتراكية اذن شرط سابق لابد له من ان يتحقق ليمكن الاحتجاج بما تقوله الجماهير والاحتكام اليها ديموقراطياً . فهل يقبل المستغلون أن يتخلوا عن مقدرتهم الاقتصادية على ارهاب الناخبين وتضليلهم وشراء اصواتهم ؟ … ان قبلوا فنحن نقبل الاحتكام الى الجماهير ديموقراطياً حتى على النظام الاشتراكي ذاته . ولكنهم لايقبلون ولا يمكن ان يقبلوا ومن هنا يسدون الطريق الديموقراطي ويفرضون على الاشتراكيين طريق للثورة من اجل تجريدهم من مقدرتهم على القهر وتحرير الجماهير من الاستغلال تمهيداً لبناء النظام الاشتراكي ديموقراطياً . انهم المسؤولون عن الثورة وما قد يصاحبها من عنف . أما الاشتراكيون ، اولئك الذين يحبون الانسان ويناضلون من اجل تحريره ، فلا يمكن أن يختاروا الثورة أو يختاروا العنف إلا لأن الرجعيين يستعملون العنف في شكل نظام قانوني يقهرون به ضحاياهم . والثورة هي تحطيم هذا النظام القانوني.

ثم تأتي أكذوبة الطريق الديموقراطي الى التحرر ، الذي عرف بمبدأ تقرير المصير . استفتاء الشعوب التي فرض عليها الاستعمار ، وفي ظل الاستعمار ذاته ، فيما إذا كانت تريد أن تبقى في ظله أم تختار الحرية . استفتاء الشعب العربي الذي طرد من فلسطين – مثلاً – فيما إذا كان يريد العودة أم التعويض . يريدون ان يأخذوا من رأي الجوعى المشردين حجة على مصير وطنهم المغتصب . ألا نستطيع اذن ان نقول بدون اية مبالغة أن مبدأ تقرير المصير هو ” مبدأ النفاق الدولي ” ؟ هو أكذوبة قانونية صاغها المستعمرون وأضافوها الى قواعد القانون الدولي تحت عنوان ” مبدأ تقرير المصير ” ليحولوا فعلاً دون ان تحقق الأمم مصيرها ؟ . بلى . هو كذلك .

في البدء كان ” حق ” تقرير المصير نظرية مؤاداها أن لكل ” أمة ” الحق في أن تكون لها دولة قومية . على هذا الوجه ناقشها لينين في رده تحت عنوان ” حق الأمم في تقرير مصيرها ” على دراسة روزا الكسمبورج الماركسية تحت عنوان ” المسألة القومية والاستقلال ” . الحديث كله كان يدور اثباتاً ونفياً عن علاقة الأمة بالدولة . أما على مستوى القانون الدولي فقد كان هناك ما يسمى ” حق الفتح ” . وبمقتضاه تؤول ملكية الشعب المغلوب الى الدولة الغالبة في الحروب الاستعمارية . وكان كل ذلك مشروعاً ومصدراً للشرعية . وكانت الانتخابات والبرلمانات والاحزاب … في ظل الاستعمار تسمى ” ديموقراطية ” وفي سنة 1915 ، اثناء الصراع بين الرأسماليين في حربهم الأولى أراد “الحلفاء” أن يكسبوا شعوب المستعمرات ، فأعلن ولسون رئيس الولايات المتحدة الامريكية حق كل شعب في اختيار حكامه وأسمى ذلك مبدأ تقرير المصير كما أعلن أن حق الفتح يتعارض مع حق الشعوب في تقرير مصيرها . وهكذا ولد مبدأ النفاق الدولي من مخاض الحرب الاستعمارية الأولى . وجرى العمل منذ ذلك الوقت على اعطاء حق تقرير المصير للجماعات التي يرغب المجتمع الدولي في الاعتراف بها كأمم مستقلة . تكرر : يرغب المجتمع الدولي ، والمجتمع الدولي تمثله مؤسساته الدولية : عصبة الأمم أولاً وهيئة الأمم ثانياً . وكلتاهما واقعة تماماً في قبضة القوى الاستعمارية ذاتها . وهكذا كانت الترجمة الفعلية لحق تقرير المصير هي : حق الدول الاستعمارية في ان تقرر مصير المستعمرات . ولم يحدث أبداً أن قررت لها هذا الحق إلا مكرهة بالثورة أو لتغيير شكل الاستعمار ذاته وامتصاص المد الثوري في المستعمرات أو لتفادي ثورة متوقعة . وعندما تقرر ان شعباً ما يستحق الاستقلال تستفتيه ليقول ما إذا كان يقبل قرارها أم يقبل بقاءها .

هذا هو مبدأ تقرير المصير في القانون الدولي . وطبقاً له استطاع شعب من الذين خانوا أممهم فهجروها ان يصبحوا دولة في فلسطين تحت اسم ” اسرائيل ” وان يحصلوا على مقعد في الأمم المتحدة تظله حماية الولايات المتحدة الامريكية .

فهل هذا هو الطريق الديموقراطي الى التحرر العربي ؟

لقد سبق أن رددنا على كل هذا العبث بحق تقرير المصير ، أو سبق أن أرسينا أسس الرد عليه . فنحن نعرف الآن ان الأمة تكوين تاريخي يختص به شعب معين بأرض معينة . وانها ما دامت أمة فهي تقدم بهذا وحده دليلاً لا ينقض على وحدة المصير القومي سواء عرف الناس هذا ام لم يعرفوه . من هنا يكون لكل أمة حق في التحرر مصدره وجودها الاجتماعي ذاته فالمعنى الوحيد لحق تقرير المصير ـ عندنا ـ هو حق كل أمة في ان تتحرر ـ أرضاً وبشراً ـ من التبعية الظاهرة أو الخفية ، بدون شروط ، بدون استفتاء ، بدون اتفاق ، بدون معاهدة ، بدون قرار من أية دولة ومن أية هيئة دولية . ” على الاستعمار أن يحمل عصاه ويرحل أو يدافع عن وجوده حتى الموت ” ( جمال عبد الناصر ) وهو لايرحل الا مكرهاً . وهو يدافع بمجموعة من القرارات والاوامر أو القوانين التي يفرضها على الشعب المقهور ، يصوغها لحماية وجوده الذي يجسده بالقوة الظاهرة أو بالتبعية الخفية أو بهما معاً . والتحرر هو الغاء هذا الوجود بتحطيم قواه ومصالحه ومعها كل الشكل القانوني الذي يحميها  . وتلك هي الثورة .

الثورة ـ إذن ـ هي الطريق الوحيد الى التحرر .

وهكذا يبدو واضحاً ـ كما نأمل ـ اننا من اية طريق أردنا أن نتقدم الى دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية وجدنا انفسنا ـ بحكم الواقع الذي يفرضه علينا المحتلون والمستعمرون والاقليميون والمستغلون ـ اننا لا نستطيع ان نتقدم إلا بالثورة لا لأننا نريد ذلك ولكن لأن القوى المعادية لمصيرنا التقدمي تحول دون تطور الأمة العربية بما تقيمه من نظم وما تصدره من قوانين وتنشئه من محاكم وتبنيه من سجون وتنصبه من مشانق . انها تدافع عن وجودها بالقوة ونحن لابد ان نهاجم دائماً لتضطرنا الى الثورة .

ونحن نقبل التحدي ولا نتراجع لا تهوراً وبحثاً عن المتاعب ولكن لأنه ” عندما تحول أية قوة ، لأي سبب ، دون التطور الاجتماعي يصبح الصراع الاجتماعي حتمياً . وتكون غايته تصفية القوى المضادة للتطور ليستأنف التطور الاجتماعي مسيرته بدون صراع . ” ( فقرة 18 )  . ولأنالقوى الرجعية تقف عقبة في سبيل التقدم فيكون لازماً على القوى التقدمية أن تصفي الرجعية لتشق طريقها الى التقدم بدون صراع أي للقضاء على الصراع الاجتماعي ذاته ، بدون انكار لما يسببه الصراع الاجتماعي من تعويق للتقدم بقدر ما يستنفذه من جهد ووقت القوى القومية التقدمية في تصفية القوى الرجعية ، وبدون انكار لحتمية الصراع الاجتماعي ضد كل القوى التي تقف في سبيل التطور . فالصراع الاجتماعي مفروض على التقدميين . الرجعيون هم الذين يفرضونه بما يضعونه في طريق التقدميين من عقبات . ومن هنا يصبح فرضاً على التقدميين أن يخوضوه بكل قواهم . والا يقبلوا فيه مساومة بقصد تصفية الصراع الاجتماعي ذاته عن طريق تصفية أسبابه وقواه معاً للتفرغ بعد هذا لبناء الحياة الأفضل للجماهير ” ( فقرة 28 )  . ولأننا منذ البداية عرفنا في الاغتصاب والاستعمار والتجزئة والاستغلال عوائق تحول دون أن يتطور الشعب العربي بقدر ما يستطيع فعرفنا الحل : دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية واخترناها لأمتنا العربية ” لم نخترها لأننا نريد دولة كبرى ندخل بها سباق القوة فنصبح أقوى دولة ، أو لأننا نريد بها وفيها فرض الوصاية على الشعب العربي ، بل اخترناها من أجل تحقيق غاية في مستوى تواضع وواقعية الفلاح العربي : المقدرة على الحياة بما هو متاح في الأرض ” ( فقرة 38 ) . فهل يحتاج الأمر الى استفتاء لنعرف ما إذا كان الشعب العربي يريد ان يكون قادراً على الحياة بما هو متاح في الأرض أم لا ؟ .. لسنا في حاجة الى استفتاء . اننا نكون في حاجة الى استفتاء لمعرفة ما الذي يريد أن يفعله بحياته في أرضه ، ولكنا نعرف من مجرد أن الشعب العربي بشر أن كل واحد فيه يخضع لقانونه الحتمي فهو يريد الحرية ( فقرة 18 )  . وبالتالي فنحن في غير حاجة الى استفتاء لنعرف أن اعداء دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية ، كلهم ، قوى رجعية وانهم يفرضون علينا وجودهم بالقوة التي صوغوها في اتفاقات ودول وقوانين فيفرضون علينا أن نحطم هذا الوجود . فلا حيلة لنا في أن نختار الثورة . ولا حيلة للحزب القومي التقدمي في ان تكون استراتيجيته ثورية . بمعنى انه يضعها بدون خضوع لأي قانون في الوطن العربي يقف عقبة في سبيل تنفيذها . ثم يترك لأصحاب القانون انفسهم تحمل مسؤولية الصراع أو التراجع .

ولا تحسبن ان التراجع سيكون صعباً فيكون الحزب القومي الديموقراطي الاشتراكي مضطراً الى استعمال العنف . ابداً . فالواقع ان الاستعمار ينحسر تحت ضغط حركات التحرر في العالم وتفادياً لخسائر مواجهة القوى الثورية . ولم تبق الا الولايات المتحدة الامريكية التي تستفزها الآن ثورات التحرر في انحاء العالم جميعاً . والواقع أن المستغلين في الوطن العربي قلة معزولة وهزيلة قد تغامر بتحدي الثورة ولكنها اضعف من ان تصمد طويلاً للعنف الثوري . والواقع ان كثيراً من الدول العربية ، أغلب الدول العربية ، دول على الورق لا حيلة لها إلا ما يستطيع حكامها . وكثير منها دول ناشئة لم تمتد لها جذور يصعب اقتلاعها بدون عنف . نريد ان نقول أن اغلبية الدول العربية  تستمد بقائها من حكامها ، وعندما يتولى السلطة فيها قوميون تقدميون يستطيعون بقرارات بسيطة ـ غير دستورية طبعاً ـ إلغاءها . إنهم بذلك يحققون خطوة ثورية على الطريق الى : دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية بإلغاء تلك الدول الاقليمية الهشة التي لا يندم عليها احد ولا يحزن عليها إلا الذين كانوا قد أقاموها ليحكموا بها . ولكن ليس هذا هو الوضع في بعض الدول العربية الأخرى ذات القوى الاقليمية العميلة أو العاتية . ان ثورة الغائها قد تصل الى حد العنف الذي لن يكون ثمة مفر منه ما دامت الرجعية فيها تفرضه . والواقع من الأمر ان الاختلاف هو في مجرد الوسائل التي تستعملها الثورة والتي تتحدد طبقاً لمقدرة القوى المعادية . ولكنها الثورة هنا وهناك . في الدول الشكلية والناشئة حيث تكون المقاومة اقليمية ضعيفة يكفي قرار ” ثوريمن مواقع السلطة ” بقبول الوحدة أو ضغط جماهيري ” ثوري ” علىالسلطة لتقبل الوحدة . وهو ثوري في الحالتين لأنه لا يستمد فعاليته من قانون سابق يبيحه . إنه يتم وينفذ خارج نطاق الشرعية الاقليمية وضدها . بل انه في مرحلة متقدمة من الثورة عندما يقتنع الرجعيون أن معركتهم خاسرة قد يهربون تاركين دولهم لتنضم الى دولة الوحدة النواة الزاحفة أو حتى يؤثرون السلامة فيسمحون للثورة أن تحقق ارادتها في دولهم . ولن يكون كل هذا إلا أثراً من فعالية الثورة ونجاح استراتيجيتها . وهو ما يجب ان تعرفه قواها وكل القوى المعادية من الآن . تعرفه قوى الثورة لتعدّ له ما تستطيع من قوة ويعرفه اعداؤها لتتبدد من سماء الوطن العربي أوهام التوقف عن النضال دون دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية أو المساومة عليها .

78  ـ التكتيك :

التكتيك هو الموقف أو الحركة المرحلية او المحلية الي يتم على مستواها الاشتباك ( التعرض ) بالقوى المعادية . وهي كما تكون موحدة اقليمياً تكون متنوعة من مكان الى مكان . وكما تكون هجومية تكون دفاعية . وكما تكون عنيفة تكون سلمية . وتختلف تبعاً لموقف وحركة القوى المعادية المشتبكة معها . وتستخدم فيها الوسائل الكافية لشل مقدرة القوى المعادية على الحركة ثم تصفيتها ، وبالتالي لا يمكن حصر لا المواقف ولا الحركات ولا الوسائل التكتيكية ، كل ماهو مطلوب في التكتيك ان يكون في خدمة الاستراتيجية وفي نطاق الالتزام بها . وهذا بالغ الأهمية وإلا انهار الأسلوب كله . فمثلاً ، التحالف او التعاهد أو التعاون مع القوى الاقليمية ( جبهة بين القوى الجماهيرية ، إو إتحاداً بين الدول ) تنفيذاً لاستراتيجية قومية يكون خطوة تكتيكية الى الوحدة . ولكنه إذ يتم بعيداً عن هذا الالتزام يكون خطوة اقليمية معادية للوحدة . ومثلاً ، التوقف أو التراجع تنفيذاً لاستراتيجية هجومية يكون خطوة تكتيكية الى الهجوم . ولكنه إذ يتم بعيداً عن هذا الالتزام يكون خطوة انهزامية . ومثلاً المرونة في المناورة في مواقع التعرض ( الاشتباك ) تنفيذاً لاستراتيجية واحدة يكون خطوة تكتيكية الى النصر . ولكنها إذ تتم بعيداً عن هذا الالتزام تكون مغامرة منحرفة . ومثلاً ، الدعوة السلمية والممارسة الديموقراطية في الدول الاقليمية تنفيذاً لاستراتيجية ثورية تكون خطوة تكتيكية الى الثورة ( إلغاء الدولة ) . ولكنها إذ تتم بعيداً عن هذا الالتزام تكون قبولاً للتجزئة … وهكذا .
ومن هنا فإن الانضباط الحديدي في الحزب القومي الديموقراطي الاشتراكي ومركزية القيادة فيه ومقدرته دائماً على المحاكمة الديموقراطية وتوقيع الجزاء الرادع على الذين يأخذون من الممارسة التكتيكية وسيلة للخروج على استراتيجيته مسألة حياة او موت بالنسبة الى الحزب . ان الحزب القومي الديموقراطي الاشتراكي يجب ان يكون قادراً على ردع اي فرد فيه مهما يكن موقعه منه والزام جميع أعضائه في مواقفهم استراتيجية نضاله ، وإلا هلك .
ويقع في نطاق دراسته التكتيك وعلاقته بالاستراتيجية ، ذلك الترتيب المفتعل لشعار الثورة العربية .

79 ـ ايها اولاً ؟ ..

شعار المستقبل العربي مرفوع في أماكن كثيرة . ومع هذا فإن الذين يرفعونه لا يتفقون على ترتيب الفاظه الثلاثة . فهو ” وحدة وحرية واشتراكية ” وهو ” حرية واشتراكية ووحدة ” أو هو ” حرية ووحدة واشتراكية ” … الخ . ويجري الشعار في حديثنا هكذا : الحرية والوحدة والاشتراكية . وقد خفنا مظنة تعدد الغايات فحددنا دلالته في غاية واحدة ليستقر في الاذهان اننا نعبر به عن مستقبل عربي واحد لأمة عربية واحدة متحررة موحدة اشتراكية معاً أي دولة واحدة ديموقراطية اشتراكية .

ومع هذا فثمة سؤال : ايها اولاً ؟ ..

والسؤال يبحث عن إجابة تتصل بالطريق الى المستقبل . وقد اصبح الاصرار على ترتيب خاص للشعار الموحد ـ في السنين الأخيرة ـ ذا دلالة سياسية غير خافية ، فلم يعد من المفيد تجاهله بل لابد من مواجهته خاصة ونحن نحاول ان نحدد اسلوب اقامة دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية .

ولنبدأ اولاً بالحرية إذ الحرية أولاً أمر متفق عليه إلا في ذلك الشعار القديم الذي طرح في مرحلة تجاوزها الواقع العربي . مرحلة السيطرة الاستعمارية الشاملة حيث كان يظن ان الوحدة حتى في ظل السيطرة الاستعمارية مقدمة لازمة لتعبئة الجماهير والتحامها من اجل التحرر . وعندما تجاوز الواقع العربي هذه المرحلة بتحرر كثير من الاقاليم العربية أصبح التحرر شرطاً لازماً للوحدة ، إذ الوحدة بين اقليم محرر واقليم مستعمر ردة الى العبودية . وهكذا لم يعد شعار ” الوحدة والحرية والاشتراكية ” يعني اي شيء على الاطلاق في الوطن العربي اذا كنا نبحث له عن دلالة استراتيجية أو تكتيكية . هذا إذا افترضنا ان صيغتهعلى هذا الوجه كانت اختياراً واعياً وليست عفواً غير مقصود .

بهذا بقي الأمر محصوراً في الوحدة والاشتراكية ايهما اولاً .

فبعض الذين تحرروا وبدأوا التحول الاشتراكي يرفعون شعار الاشتراكية أولاً ثم الوحدة . يقصدون بذلك ـ ان كانوا يقصدون شيئاً ـ ان على الاقاليم التي ترغب في الوحدة ان تنجز ـ كل منها على حدة ـ مهمة البناء الاشتراكي قبل الوحدة . وهو قصد ينطوي على اعتقاد خاطيء بان الاقاليم المتحررة قادرة في ظل التجزئة على البناء الاشتراكي . هذا ونحن نتحدث عن خطأ القصد في ظل حسن النية . غير ان فئة واعية تستعير الشعار وتركز على ان يتم البناء الاشتراكي قبل الوحدة تعبيراً عن موقف معاد للوحدة العربية . ويتضح هذا تماماً من موقفهم حيال الوحدة بين الاقطار التي استوت تحرراً وتحولاً . فهنا تحقق الشرط وسقط العذر ومع هذا لا وحدة . لماذا ؟ لأن اشتراط انجاز البناء الاشتراكي في الاقطار قبل الوحدة يعني تأجيل الوحدة الى ما لانهاية . إذ لانهاية لمستقبل البناء الاشتراكي فهو حياة مفتوحة على المستقبل بلا حدود . وهكذا تنكشف غاية بعض الذين يرتبون الوحدة والاشتراكية ترتيباً ميكانيكياً فيشترطون أن يتم انجاز الاشتراكية قبل الوحدة .

وبعض الذين تحرروا ولا يريدون الاشتراكية يرفعون شعار الوحدة اولاً ثم الاشتراكية . يقصدون بهذا ـ ان كانوا يقصدون شيئاً ـ ان على الاقاليم المتحررة ان توقف ـ او ترتد ـ عن التحول الاشتراكي حتى تتم الوحدة . وهو قصد ينطوي على اعتقاد خاطىء بأن التطور يمكن أن يتوقف أو يرتد . هذا ونحن نتحدث عن خطأ القصد في ظل حسن النية . غير ان فئة واعية تستعير الشعار وتركز على ان تتم الوحدة قبل الاشتراكية تعبيراً عن موقف معاد للوحدة العربية أيضاً . ويتضح هذا تماماً عندما نلاحظ انه بعد ان بدأ التحول في الجمهورية العربية المتحدة ـ حيث ثلث الأمة العربية ـ لم يعد من الممكن إلا ان يكون المد الوحدوي مداً اشتراكياً . لهذا فإن الاشتراكيين العرب لا يطرحون شروطاً للوحدة علماً منهم بان الوحدة تعني اسقاط الرجعية المستغلة في ظل دولة الوحدة الاشتراكية . إنما الرجعية المستغلة هي التي تطرح شروطاً لأنها تعرف تماماً ان الوحدة الفورية تعني سقوطها فوراً . وان الوحدة غير المشروطة تعني سقوطها بدون شروطه . إذ الوحدة السياسية تنفي ازدواج النظم الاجتماعية داخلها او تعددها . وعندما تشترط الرجعية انجاز الوحدة قبل الاشتراكية تعلق الوحدة على شرط مستحيل إذ يستحيل أن يعود التطور الى الوراء فتلغى الاشتراكية ليتحقق شرط الوحدة كما يريدونها . وهكذا تنكشف غاية بعض الذين يرتبون الوحدة والاشتراكية ترتيباً ميكانيكياً فيشترطون ان يتم انجاز الوحدة قبل الاشتراكية .

لماذا يتفق الذين يرتبون الشعار العربي ترتيباً ميكانيكياً ، لا تبدأ فيه مرحلة إلا بعد ان تتم مرحلة ، في موقفهم المعادي للوحدة مع اختلافهم في الترتيب ؟

لأن هذا الترتيب الميكانيكي يستند الى نظرة اقليمية الى المستقبل العربي . ان كل فئة منهم تنطلق من واقعها الاقليمي باعتبار ان التجزئة هي الأصل الثابت أما الوحدة فإضافة الى الاقليم تقبل أو ترفض بقدر ما تتفق مع الشروط التي يفرضها هذا الاقليم أو ذاك . لهذا فإن الترتيب المقصود بين الوحدة والاشتراكية ليس أكثر من شرط للوحدة موجه لباقي الاقليم يتوقف عليه قبول الوحدة أو رفضها وهو شرط يستند الى حماية الدولة الاقليمية دائماً ويعبر دائماً عن موقف اقليمي .

ويختلف الأمر كله لو نظرنا اليه من المنطلق القومي . فمن هنا ننظر الى الأمة العربية ككل . عندئذ نرى انها امة مجزأة دولاً . وان أجزاء منها محتلة . وأجزاء مغتصبة . وأجزاء نامية . هذا واقع قومي . وبالمنطق القومي يحدد الواقع القومي طريق النضال القومي الى المستقبل القومي : فمن المنطلق القومي تبدو ” الحرية والوحدة والاشتراكيةكشعار للثورة العربية أبعاداً ثلاثة لمستقبل واحد لا يرد عليه ترتيب ولا يقبله انه تعبير عن الأمة العربية كما نريدها : مطهرة من الاحتلال والاغتصاب والاستبداد فهي أمة حرة أرضاً وبشراً . مطهرة من التجزئة والانفصال فهي امة موحدة سياسياً . مطهرة من التخلف والاستغلال فهي امة اشتراكية . وبالمنطلق القومي لا بد من ان يتم كل هذا لتكون الثورة العربية الواحدة قد حققت غايتها الواحدة ذات الابعاد الثلاثة . دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية .

ومن المنطلق القومي ، حيث نبدأ مسيرة الثورة العربية الواحدة ، في كل مكان من الوطن العربي ضد كل القوى المعادية للمستقبل العربي ، يكون على قوى الثورة العربية أن تخوض معارك التحرر او الوحدة او الاشتراكية أينما ، وحيثما ، وجدت قوى الاستعمار أو التجزئة أو الاستغلال . لهذا لا يمكن ـ اذا نظرنا الى الأمة العربية ككل ـ ترتيب معاركها الشاملة ترتيباً زمنياً ميكانيكياً . اذ في الاقطار المحتلة معركة من أجل التحرر . وفي كل الاقطار المتحررة معركة من اجل الوحدة . وفي داخل كل قطر متحرر معركة من أجل الاشتراكية العربية . وكلها تدور معاً في وقت واحد على ارض وطن واحد من اجل مستقبل عربي واحد . وتشتبك الثورة فيها جميعاً جبهات متنوعة لثورة واحدة . ذلك حكم المنطق القومي .

لماذا قلنا ـ اذن ـ الحرية والوحدة والاشتراكية ما دامت النظرة القومية تنفي الترتيب في البداية كما تنفيه في الغاية ؟

لأن الأمة العربية ككل تبدأ نضالها من اجل التحرر والوحدة والاشتراكية معاً ن في وقت واحد ، طبقاً لمقتضيات المعارك كما يطرحها واقعها المجزأ على الوجه الذي ذكرناه ، ولكن انجاز هذه المهمات المتنوعة لن يتحقق بالنسبة الى الأمة العربية ككل في وقت واحد . فالوحدة الشاملة لن تتحقق في الوطن العربي إلا بعد ان تكون الثورة العربية قد حققت التحرر الشامل لكل أجزاء الوطن العربي . وعندما تتحقق الوحدة العربية الشاملة لا تكون الأمة العربية ككل قد انجزت البناء الاشتراكي إذ لانهاية للنضال من اجل الاشتراكية . وهكذا يظل النضال من أجل الاشتراكية قائماً في الوطن العربي بعد تحقيق وحدته السياسية .

فهي الحرية والوحدة والاشتراكية .

ان هذه الصيغة مستمدة من الطبيعة المقارنة لأهداف النضال العربي ، وعلى وجه خاص من قابلية الوحدة العربية للتحقق في زمان محدد ، وعدم قابلية المستقبل الاشتراكي للتحديد الزماني . فهي صيغة تعبر عن المراحل التاريخية لمستقبل الأمة العربية كما تحددها طبيعة الأهداف التي تكافح من اجلها جميعاً . حيث تتجاوز بالتحرر الشامل مرحلة الاحتلال ، وتتجاوز بالوحدة الشاملة مرحلة التجزئة ، ثم تستمر الحياة الاشتراكية فيها ممتدة الى ما لا نهاية .

ولا شأن لكل هذا باستراتيجية وتكتيك النضال العربي من اجل الحرية والوحدة والاشتراكية . إذ ان مسائل الاستراتيجية والتكتيك ليست قضايا فكرية مجردة ، بل هي خطط نضال تهدف الى مواجهة مشكلات الواقع العربي وحلها لمصلحة المستقبل العربي ، وهي تتحدد على ضوء الواقع ذاته ، ومواقع القوى المعادية ، وخططها ، وامكانيات النصر وتتأثر تاثراً مباشراً بالظروف الاقليمية والقومية والدولية وبقوى الثورة العربية وقوى اعدائها .. الخ . وبقدر ما تتغير الظروف الاقليمية أو القومية او الدولية وبقدر ما تتغير خطط القوى المعادية للثورة العربية ، تتغير استراتيجية النضال العربي وتكتيكه مع الاحتفاظ دائماً بعنايته : الحرية والوحدة والاشتراكية معاً .

لهذا يكون من السذاجة محاولة تثبيت الاستراتيجية العربية في ترتيب ثابت لالفاظ الشعار العربي . هذا إذا جاء الترتيب من جانب القوميين . أما الترتيب الذي يصر عليه الاقليميون فهو أبعد ما يكون عن السذاجة بل هو تشبث واع بالاقليمية .

ولا بأس هنا في ان نضيف انه عندما صاغ الرئيس جمال عبد الناصر شعار ” الحرية والاشتراكية والوحدة ” كان يصوغ شعار الموقف ” تكتيكي ” من القوى التي تآمرت على وحدة سنة 1958 أو قبلت الانفصال بعد شهرين من صدور قوانين التحول الاشتراكي في دولة الوحدة ( يوليو ” تموز “ 1961 ) ، تأكيداً لعلاقة الوحدة بالاشتراكية وإدانة المتآمرين بالردة أو الرجعية . وقد كشف عن هذا في مباحثات الوحدة الثلاثية في ابريل ” نيسان ” 1963 . وكانت تلك المباحثات ذاتها دليلاً على انه لم يكن يقصد أن يصوغ استراتيجية النضال من اجل الوحدة في شعار تمثل كلماته المتتالية مراحل استراتيجية متتالية . فقد كان يبذل جهده ، في تلك المباحثات لتحقيق الوحدة بين الاقطار الثلاثة بدون ان يكون قد تغير النظام الاجتماعي في سورية أو في العراق . وكانت الوحدة الثلاثية هي اداة تغييره لهذا انصب اهتمامه في حوار طويل على الاتفاق الفكري على التحول الاشتراكي ” بعد ” الوحدة . ولم يتغير موقفه بعد ذلك بل لم يلبث أن قطع من واقع خبرته بأن ” التقدم الاجتماعي لا يمكن ان يقوم على أساس التجزئة ” . وهو ما يعني أن على القوى التقدمية ان تحقق الوحدة من اجل التقدم الاجتماعي ، تأكيداً لدورها ورفضاً ـ في الوقت ذاته ـ للوحدة تحققها القوى الرجعية . وقد حسم الموقف في  22 فبراير ( شباط ) 1967 فقال : ” فالحرية السياسية والحرية الاجتماعية مقدمات ضرورية للوحدة ، ولكن معنى هذا انه سيتعين علينا الانتظار حتى يتحقق ذلك كله تماماً في كل ارض عربية ثم نبدأ الحديث او العمل من اجل الوحدة . فإهداف النضال تعطي لبعضها وتأخذ من بعضها أو تفرز إحداها الاخرى وتتعزز بها  .

على أي حال ، انه القصور في نظرية الاسلوب الذي يسمح بالخلط بين المواقف التكتيكية والخطط الاستراتيجية فيعطي الكلمات المرتبة دلالة استراتيجية .

80  ـ عود على بدء :

لقد كان كل ما سبق من حديث بياناً لنظرية الثورة العربية من اجل تحقيق دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية . وقد حددت لنا النظرية دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية غاية تثور من اجل تحقيقها لحل مشكلة التخلف : عجز الشعب العربي عن توظيف كل الامكانيات المتاحة في امته العربية من اجل اشباع حاجاته الثقافية والمادية المتجددة ابداً . ولكن ذات النظرية قد ألزمتنا غايات اخرى نعيدها هنا ليتصل آخر النظرية بأولها فتكون بناء فكرياً واحداً متماسكاً ، يقبل كله او يرفض كله .

إن حل مشكلات التنمية هو الأصل لأن التطور هو الأصل في حركة المجتمعات بحكم حتمية القوانين الموضوعية التي تضبط حركتها من الماضي الى المستقبل . فهي مشكلات مستمرة ومتجددة ومن حلولها المستمرة المتجددة تنمو المجتمعات وتتقدم . اما مشكلات التخلف فطارئة وبالتالي مؤقته وهي تعوق التطور ولكنها عندما تحل تطرّد حركة التطور التقدمي من خلال الحلول الجدلية لمشكلات التنمية . ومن هنا فإن وجود التناقضات التي تثير مشكلات التخلف في المجتمع لا تلغي نهائياً حركة التطور الحتمية إنما تضعفها . ففي ظل مشكلات التخلف تظل مشكلات التنمية قائمة ومتجددة يحلها الناس ولكن بما هو متاح في مجتمعهم ” ( فقرة 36 ) . و ” هنا وهناك ” على امتداد الوطن العربي ، في مواقع العمل أو في مواقع البطالة توجد ملايين المشكلات الاجتماعية التي يثيرها التناقض بين الواقع الاجتماعي وما يريده الشعب العربي . وهي كلها مشكلات تقدم وتنمية . فيها يحاول العاملون من ابناء الأمة العربية ان يغيروا بالانتاج واقعهم ليشبعوا حاجات الشعب العربي المتغيرة المتنوعة المتجددة ابداً . في ظل الاستعمار وفي ظل الحرية ، في ظل الاقليمية وفي ظل الوحدة ، في ظل الاستغلال وفي ظل الاشتراكية ، لا تتوقف محاولة التطور ولا يكف الانسان العربي عن محاولة حل مشكلاته عن طريق تغيير واقعه ليشبع حاجاته  . ليحقق ارادته . ليتطور . ليبني . ليضيف . ليتقدم … فلنعش مع الشعب العربي في مواقع العمل أو في مواقع البطالة ولنعرف ما هي مشكلاته ولنكتشف حلولها الصحيحة ثم نحولها الى خطط انتاج يومي ننفذها في الواقع … ” ( فقرة 37  )  .

تلك هي الغاية الصيلة للحزب القومي التقدمي الديموقراطي الاشتراكي . وذلك هو الميدان الأصيل الذي يعبر به عن ولائه لأمته العربية عن طريق معايشته الشعب العربي وحل مشكلاته اليومية .

ولكننا عندما نحاول انجازها في ظل الاحتلال او الاستعمار او التجزئة او الاستقلال سنكتشف ان ثمة في الواقع العربي ما يحول بين ارادتنا التقدم وبين التقدم . ما يحول بين ارادتنا التطور وبين الامكانيات المادية والبشرية المتاحة في امتنا العربية … ” ( فقرة 37 )  . عندئذ لن ينسى الحزب القومي الديموقراطي الاشتراكي لماذا يثور من اجل دولة الوحدة الديموقراطية الاشتراكية ، وتصبح معاناته اليومية لحل مشكلات الشعب العربي غذاء يومياً لمقدرته الثورية . ومهما تعقدت المشكلات واختلطت الأمور فإن المدخل الى الموقف الصحيح :

حتم على الانسان ان يستهدف دائماً حريته .  

 

     ذهاب الى صفحة عصمت سيف الدولة 

              

 

           

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق