الدكتور/ عصمت سيف الدولة .
نشرت الصحف يوم 16 ابريل 1984 خبرا يقول ان الرئيس الامريكى رونالد ريجان قد اصدر تعليمات بشن غارات انتقامية ضد الجماعات الارهابية فى خارج الولايات المتحدة الامريكية وتوجيه ضربات وقائية اليها باستخدام القوة قبل ان تقع اي احداث وان هذه التعليمات قد جاءت كرد فعل للهجوم الانتحارى الذي تعرضت له قيادة قوات مشاة الاسطول الامريكي في بيروت فى اكتوبر الماضى . وقالت الصحف ان تلك التعليمات تتضمن تشكيل وتدريب فصائل شبه عسكرية تابعة لوكالة المخابرات المركزية ( س . أي . ايه ) ولمكتب التحقيقات الفيدرالي الامريكي (مباحث امن الدولة ) ووحدات كوماندوز تابعة لوزارة الدفاع الامريكية ( قوات مسلحة ) وستزود بقائمة بمواقع الارهابيين فى العالم من اجل التحرك بسرعة لتوجيه ضربات اجهاض اليها او شن هجمات انتقامية ضدها .
هذا هو الخبر الذي اعلن . و مادام قد اعلن فهو ليس تعبيرا عن نوايا تهديدية ، ولكنه اعلان عن بدء تنفيذ مخططات سبقت دراستها وتجهيزها للتنفيذ . ذلك لأن رؤساء الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة الامريكية . لا يصدرون اوامر لدراسة امكانية تنفيذها ، بل يصدرونها للتنفيذ بعد ن تكون كل عناصر التحضير لها قد انتهت واصبحت قابلة للتنفيذ الفعلي .
اذن فان الولايات المتحدة الامريكية قد انتهت من تكوين قوات خاصة أو " جيشا رابعا " بالإضافة الى الجيوش البرية والبحرية والجوية تتوافر لها عناصر الخفاء والسرية والتمويه على طريقة المخابرات المركزية ، والكفاءة القتالية على أعلى مستوى في القوات المسلحة الامريكية وأصدرت لها الاوامر بأن تغادر الولايات المتحدة الامريكية الى خارجها بدون أن تسمي جهة معينة أي الى أي مكان في الأرض في أية دولة لتوجيه ضربات وقائية للجماعات الارهابية باستخدام القوة .
اما الضربات الوقائية للإجهاض فتعني تصفية الجماعات الارهابية قبل بدء تنفيذ اي نشاط ارهابي .
ومعنى ذلك ان الهوية الارهابية لجماعة لن تتحدد طبقا لممارسة فعلية ايا كان قدرها ، بل تشمل الجماعات التي تدين بمبادئ او تتبنى سياسات او تروج افكارا او تلتقي في احزاب او منظمات تعتبرها الولايات المتحدة الامريكية مبادئ وسياسات وأفكارا ارهابية او تؤدي الى الارهاب قياسا على مبادئ وسياسة وأفكار الحكومة الامريكية ذاتها . وبالتالى فان الجماعات المستهدفة ليست معينة على سبيل الحصر جغرافيا فقد تكون في أية دولة .. وليست معينة على سبيل ما تعتبره الحكومة الامريكية ذاتها ارهابية الآن او ما تعتبرها ارهابية في المستقبل قياسا على ما يحدث من تغيير مبادئ وسياسة وافكار الحكومة الامريكية ذاتها في المستقبل .
صحيح ان الخبر المنشور يشير الى قوى الثورة الوطنية في لبنان ، وصحيح ان الولايات المتحدة لم تكف منذ سنين عن وصف مقاتلي وكوادر وقادة الثورة الفلسطينية بأنهم ارهابيون وهو ما يعني ان الحرب التي اعلنتها امريكا قد اعلنت ضد العرب اولا ولكن هذا لا يعنى اننا نحن المستهدفون وحدنا في مكاننا من وطننا العربي بل سيضاف الينا أو قد اضيف فعلا ، كل الاحرار وكل الثوار في العالم كله . الذين ترشحهم افكارهم واهدافهم ليكونوا ارهابيين في المستقبل طبقا لمقاييس امريكا . وسيضاف الى هؤلاء أو قد اضيف اليهم ، كل الفلاسفة والكتاب والفنانين والصحفيين والطلاب الذين يؤيدون ثورات التحرر الوطني ويعادون المبادئ والسياسات والافكار الامريكية لانهم قياسا على تلك المبادئ والسياسات والافكار شركاء بالتحريض والمساعدة مع الارهابيين . وما لم تجهض افكارهم من الآن ستولد ارهابيين فى المستقبل .
ولست اشك لحظة واحدة فى أن كل الحكومات الجادة في دول العالم قد بدأت منذ 16 ابريل 1984 تدرس على أعلى مستوى قيادي مدني وعسكري وتضع خططا قتالية معقدة وتنشئ مراكز تدريب سرية ، وتجند افرادا مختارين طبقا لمقاييس خاصة . للدفاع عن حرمة اوطانها واستقلالها الخارجى وامنها الداخلي ، ضد القوات الامريكية الغازية خفية التي ستعبر الحدود في شكل طلبة وسائحين وفنانين وأدباء ورجال أعمال وأصحاب أموال بجوازات سفر مزورة الى اوكار أعدت خفية تحت لافتات بريئة براءة مراكز البحوث العلمية وجمعيات الدفاع عن حقوق الانسان والتدريس في الجامعات حيث يجد كل واحد سلاحه الذى سبق تهريبه واوامر صريحة بأن يقتل ويدمر .. هذا " الفلان " أو ذلك " المكان " لاجهاض مخططات الارهابيين .. لاشك في هذا لأنه لا توجد حكومة جادة في دولة مستقلة تقبل بأن تغزوها جيوش القتل والتدمير الامريكية بحجة ان الولايات المتحدة تريد اجهاض نشاط الارهابيين على ارضها بدلا من ان تتلقى من امريكا اخطارا بأن لديها معلومات بأن على أرضها ارهابيين ثم تترك لها ممارسة سيادتها على أرضها احتراما لهذه السيادة .
وهكذا ستبدأ كل حكومة جادة في دولة مستقلة ، أو قد بدأت فعلا تكوين جيشها " الرابع " لحماية الوطن واستقلاله وامنه ضد غزو جيش القتلة والمدمرين الامريكي . وكما ان كل مواطن او مقيم في أية دولة قد يكون في نظر الحكومة الامريكية وطبقا لمقاييسها الخفية ارهابيا الان أو مرشحا طبقا لافكاره أن يكون ارهابيا في المستقبل وبالتالي هو هدف للانتقام أو للاجهاض فان كل دولة ستعتبر كل امريكي من ذكر أو انثى يعبر حدودها مشتبها في ان يكون جنديا فى الجيش الرابع الامريكي وسيتعرض لما يتعرض له المشتبه فيهم والخطرين على الأمن من رقابة مستترة وتفتيش خفى واجراءات وقائية ضد نشاطه المحتمل .
كما انني لا أشك لحظة في ان كل الاحرار وكل الثوار وكل الوطنيين فى العالم قد اصبحوا على يقين من انهم افرادا وجماعات قد اصبحوا اهدافا للقتل الامريكي ، أو قد يصبحون اهدافا وجب قتلهم طبقا لمقاييس أمريكية خفية وقوائم سرية ، وأنه قد يكون من بين جند الجيش الرابع الامريكي المكلفين بقتلهم أينما كانوا اولئك الزملاء في المعاهد والملاعب والمشاة في الطرقات ورفاق السفر في القطارات أو قد يكون من بينهم تلكم الصديقات اللعوبات الفاتنات أو اولئك الاساتذة الوقورون .
باختصار لقد أصبح من حقهم أن يشكوا في كل امريكي ، أو في كل عميل نصير لامريكا ، خوفا من أن يكون هو الذى تلقى أوامر الرئيس الامريكي بتنفيذ عملية " الاجهاض " القاتل ، وقد يبلغ بهم الشك الى حد المبادرة الى اجهاض الاجهاض .
وهكذا أعلن الرئيس الامريكي يوم 16 ابريل 1984 بدء حرب الاشباح حيث يطارد مجهولين في أماكن مجهولة في أوقات مجهولة . حيث سيكون السلاح الخنق بالأيدي أو التسمم في الطعام أو الطعن بالخناجر أو الدهس بالسيارات أو تفجير القطارات أو اشعال النار في المنازل أو الغابات حيث سيلجأ كل واحد الى وقاية نفسه ضد ( الضربة الوقائية الامريكية ) بأن يحرز السلاح ويتدرب عليه ويتعلم بنفسه أو يعلمه غيره أن الهجوم خير وسائل الدفاع فينقل المعركة الخفية الى قلب الولايات المتحدة الامريكية حتى تبقى دائرة هناك ولا تنتقل الى خارجها . وهناك ستهزم الولايات المتحدة الامريكية لأنها قد اختارت ـ بغباء تاريخى ـ ان تخوض حربا لا تجدي فيها القنابل الذرية ولا الطائرات ولا الدبابات ولا الاساطيل ، اختارت ان تعلن حربا ينتصر فيها الوطنيون اصحاب العقائد التحررية والثورية ويطبقون من تكلفتها ما يكفي لثمن تذكرة سفر وشراء مسدس أو حتى خنجر أو ما هو اقل من ذلك ثمنا .
كل البشر ، في كل مكان ، لن يلبثوا حتى يجدوا انفسهم اما قاتلين أو مقتولين في المخادع والمنازل والطرقات والشوارع ودور اللهو ومعاهد العلم . لن يتم هذا دفعة واحدة ولكنه قد بدأ ، وعلى مدى سنين ستمتد هذه الحرب الجبانة من خلال أفعال وردود أفعال ، ارهاب وإرهاب مضاد الى ان تشمل البشر جميعا . واني لأرجو مخلصا ان تلتفت البشرية الى مخاطر الحرب التي اعلنها رئيس الولايات المتحدة الامريكية ، والا يكون الجهل بمبرراتها أو قواتها أو أسلحتها وساحاتها أو ضحاياها مبررا لتجاهل انها هي هي الحرب العالمية الثالثة التي طال انتظارها .
لقد كانت الحرب العالمية الثالثة متوقعة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية . كان المتوقع أن تكون حربا ذرية حتى تعادلت القوة الذرية او تفوقت على ما تملكه الولايات المتحدة الامريكية فحال التوازن الذري دون أن تكون الذرة سلاحا فتأجلت . وعادت الولايات المتحدة الامريكية الى الحروب التقليدية التي لم تنقطع منذ نهاية الحرب العالمية الثانية واستطاعت في ظلها ان تفرض هيمنتها على أغلب دول العالم بالقوة المسلحة : بقوة الاقتصاد الذي تغذيه المتاجرة في الاسلحة وبسلاح أكثر فتكا من سلاح هو عجز الشعوب المقهورة عن المقاومة بالقوة نتيجة عجزها عن تحمل تكلفة اعداد الجيوش المتكافئة تسليحا وهكذا تعيش كل الشعوب والامم فى كل انحاء الأرض ـ منذ الحرب العالمية الثانية ـ كمواطنين من الدرجة الثانية أو دونها حتى في اوطانهم ، بينما يحظى بحق المواطنة الكاملة شعبان أو ثلاثة ، هم أعضاء نادي السادة لانهم أصحاب القوة الظاهرة .
وما كان يمكن أن يستمر هذا الاذلال العالمى لأغلبية الأمم والشعوب كان لابد من اعادة المساواة بين البشر بتجريد المتسلطين من قوة القهر . هذا هو السبب الموضوعي الذى جعل الحرب العالمية الثالثة متوقعة . الشئ الذي كان مجهولا هو متى وكيف ومن الذي يشعلها أولا . وفي سبيل الاجابة على هذه الاسئلة لم تكف الدول القادرة القاهرة وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية عن ابتكار الاسلحة ، وشن حرب يقال محدودة لمجرد اختبار فاعليتها ، وتحولت الارض الى كوكب مسلح برا وجوا ليلا ونهارا ، واصبح التجسس علنيا بواسطة الاقمار الصناعية وأدوات التصنت بعيدة المدى .. الخ ولم تقم الحرب العالمية الثالثة التي تتوقعها وتعد لها كل القوى في العالم ..
الى أن كان اكتوبر 1984 فى بيروت شابان عربيان مجهولان ، لا يملك كل منهم الا قضيته وشجاعته وسيارة ملغومة . يدخلان معركة قصيرة ضد القوات الامريكية البرية والبحرية والجوية في لبنان ، فيهزمان تلك القوات وتضطر الى الانسحاب ، فيلتفت العالم كله ، وعلى رأسه الدولة المهزومة في موقعة بيروت الى القوة العائدة من الماضي . قوة الفرسان . قوة الافراد المسلح كل منهم بقضية وشجاعة وأبسط أدوات التدمير . ويتذكرون تلك المعارك التي دارت بهذا الاسلوب منذ بضع سنين في الطائرات والسيارات والمنازل التي هزم فيها افراد لا يملكون الا قضية و شجاعة أعتى الدول وأجبروها على أن تنفذ ارادتهم . فتجمعت كل هذه الخبرة لتسقط القنابل الذرية والطائرات والدبابات والمدافع والجيوش من حلبات الحرب القادمة : الحرب العالمية الثالثة. فتنشئ الولايات المتحدة الامريكية جيشها الرابع ويتلقى في 16 ابريل 1984 أمر الرئيس الامريكى ببدء الحرب خارج الحدود ضد من يسميهم الارهابيين ، ويزودهم بالاسماء بدون اعلان وبالمواقع وبدون تحديد دولة ، وهكذا قلنا ونقول أن الحرب العالمية الثالثة قد بدأت بعد أن حددت الظروف العالمية اسلوبها انه اسلوب المقهورين الفقراء للانتصار على البغاة الاقوياء ..
ومن يعتقد أن ما نقوله خيالا عليه أن يتفكر في ايهما أكثر واقعية . أن تكون الحرب العالمية الثالثة قد بدأت باسلوب فرضته الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي سادت العالم منذ الحرب العالمية الثانية ، أم أن تعلن دولة كبرى مثل الولايات المتحدة الامريكية انها قد أعدت قوات مقاتلة وأمرتها بانتهاك حرمة كل الاوطان خفية ، وقتل من تريد قتلهم ، بدون اقامة وزن لحرمة الأوطان واستقلال الدول وسيادة الشعوب واحكام القانون . ان اى انسان يعيش بفكره في النصف الثاني من القرن العشرين يدرك أن ما أعلنه الرئيس الامريكي وما تمارسه الولايات المتحدة الامريكية يتجاوز الخيال الى مستوى الجنون ، فلا يبقى الا قبول الواقع كما هو ، والواقع أن الرئيس الامريكي قد أعلن الحرب العالمية الثالثة ، وعلى الشعوب والأمم في انحاء الارض جميعا أن تعد نفسها لمواجهة حرب الاشباح التي ستدوم سنين طويلة من الرعب الشامل يموت خلالها الناس فرادى وجماعات اغتيالا أو خوفا من الاغتيال فيتمنى الاحياء منهم لو كانت حربا ذرية .
*****
ذهاب الى صفحة عصمت سيف الدولة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق