التعسّف في استعمال حقوق الانسان
د.عصمت سيف الدولة .
1 – كان جوزيف جوبلز ـ وزير الدعاية والاعلام في المانيا النازية ، يحرّض المواطنين الالمان على فتح نوافذ المساكن والأماكن حتى اخر مداها ، ورفع صوت المذياع حتى اقصى درجاته لكي تستطيع الأفكار التي يبثها عن طريق الإذاعة الوصول الى اذان كل الماني واختراقها سواء كان راغبا في الاستماع أو راغبا عنه . من الممكن تصور أن كثيرا من الناس في ألمانيا لم يكونوا يرون فيما يحرص عليه جوبلز الا نوعا من الازعاج الذي يؤذي السمع ويقلق الراحة ، أما سيرجي تشاخوتين الكاتب التقدمي الألماني ، فقد كان يرى غير ما يراه الكثير من مواطنيه ، فذهب يتابع ما يذاع ويرصده ويجمعه ويدرسه . ذلك لأنه التفت منذ البداية الى أن جوبلز يصنع شيئا غير مسبوق في تاريخ البشرية بذلك الجهاز العبقري حديث النشأة : المذياع . كان يصنع ويصطنع ويصوغ مبادئ وأفكار وقيم أمة كاملة لتماثل مبادئه وأفكاره وقيمه . ليضع أقدام الملايين من أبنائها على الطريق الذي حدده . لتندفع عليه متقدمة الى الغاية التي أرادها . كل هذا بدون أن يُعنى أقل عناية بالحوار المباشر مع أي فرد أو مجموعة من الافراد من أولئك الملايين . وبدون أن يقيم وزنا ، أي وزن لما ينفرد به كل منهم من مبادئ وأفكار وامال والام بحكم تفرد كل واحد منهم بملكاته الخاصة وموقفه الاجتماعي الخاص . وبدون أن يتوقف لحظة ليسألهم أو ليسال أيا منهم عما يريدون . كان قد أراد لهم "واختار" ، وكانت مهمته أن يحملهم على ان يريدوا لأنفسهم ويختارون ما أراده هو نفسه واختاره .
ولقد صاحب سيرجي تشاخوتين تلك التجربة التاريخية المثيرة ورأى كيف افلح جوبلز في صياغة ، أو إعادة صياغة ، أفكار أمة كثيفة العدد ، عريقة التاريخ متقدمة الحضارة ، متفوقة العلم ، على ما يريد الحزب النازي لتندفع كتلة واحدة تحت قيادة أدولف هتلر على طريق الحرب التي انتهت بهزيمتها ودمارها وانتحار قائدها . ويبدو أن جوبلز كان يدرك أن مسؤوليته عما أصاب الامة الألمانية أكبر من مسؤولية قائدها فلم يكفه قتل نفسه ، بل قتل أطفاله الخمسة ثم قتلت زوجته نفسها قبل أن يقتل هو نفسه يوم أول مايو 1945 .
2 – في عام 1938 ، أي قبل أن تبدأ الحرب الأوروبية الثانية (1939-1945) ويشهد أهوالها كان سيرجي تشاخوتين قد أنشأ مما رصد وتابع وجمع ودرس كتابا (نشر عام 1939 خارج المانيا) أعطاه عنوانا ذا دلالة مقززة :"اغتصاب العقول" . ولا يخفى ما في كلمة اغتصاب من دلالة الهتك القصري لحرمة العقل والتلوث المهين لطهارة الفكر . والاستغلال البهيمي لملكات الناس .
3 – ولقد استطاع الكاتب الفرنسي جان ماري دوميناش في كتابه "الدعاية السياسية" (1959) أن يستخلص من كتاب سيرجي تشاخوتين وما كتب عنه قوانين ما اسماه القهر الدعائي فهي خمسة . أولها التركيز على مقولة بسيطة . مبدأ أو شعار (ألمانيا فوق الجميع كما فعل جوبلز مثلا) تبثه أجهزة الاعلام وتكرر بثه وتدعو اليه بدون تشتيت انتباه الجماهير الى فرعياته أو تطبيقاته أو اثاره حتى يصبح جزءا لصيقا بالعقل الواعي أو العقل الباطن ، بحيث أن مجرد ذكره يضع المتأثر به في وضع نفسي عصبي وفسيولوجي معين يجعله قابلا للتصرف المستهدف كما اكتشف بافلوف في نظريته عن الفعل المنعكس الشرطي . أما عن الفرعيات والتطبيقات والاثار التي لا بد أن تتوقع الجماهير الواعية الحديث عنها فتنصب – طبقا للقانون الثاني – على المبادئ أو الشعارات المضادة . فيختار القهر الدعائي ، ويجسم ، ويبالغ في ابراز ما لا بد أن يكون فيها من قصور فكري أو ما صادفها من فشل تطبيقي ولو كان فشلا انيا أو مرحليا أو جزئيا . وهكذا يبقى المبدأ - الهدف امنا بعيدا عن أي حوار جماهيري وتنصرف ملكات الجماهير في الحوار الى ما هو ضده . ولما كان الحوار ذاته يعني أن موضوعه ما يزال محل خلاف وبالتالي أنه ما يزال غير يقيني الثبوت أو الصحة فان عوامل الشك تتجمع حوله الى أن يحسم ، وتنحسر في الوقت ذاته عن "الشعار – المبدأ" الذي أراد القهر الدعائي عن طريق ابعاده عن دائرة الحوار تحويله الى مقولة مسلمة . ثم يأتي القانون الثالث ليحاصر عقول الجماهير ويحصرها في ثنائية "الشعار وضدّه" فلا يسمح لها ، بكل وسائل الاغواء والاغراء الفكري والفني ، بان تلتفت الى قضايا او مبادئ أو شعارات أو مشكلات أو حتى امال أخرى قد يؤدي الالتفات اليها الى الإفلات من الحصر والحصار الثنائي .. ولما كانت المبادئ أو الأفكار المراد تلقيح عقول الجماهير بها لا تُقذف في فراغ بل ترد الى رحم مليء بتراث تاريخي متراكم من المعتقدات والتقاليد والخبرات فان جهد القهر الدعائي يجب أن يتجه – طبقا للقانون الرابع – الى تفكيك المكوّنات الحضارية بالتشكيك في صحة المعتقدات وملاءمة التقاليد وصدق الخبرات التي تسد نوافذ العقول دون الطارئ الجديد . وليس أسهل من قياس الواقع الماضي على الامل المستقبل ليصبح كل ما مضى مدينا . وأخيرا يأتي القانون الخامس وهو توجيه الدعاية بدون التعرض – لا سلبا ولا إيجابا – لما قد يكون بين الافراد والجماعات من فروق روحية أو فكرية أو مادية أو اجتماعية لإخفاء واقع التمايز والتمييز بين الافراد والجماعات وما قد يثيره من خلاف أو صراع . اخفاؤه في جوف كتلة هائلة من افراد نمطيين مجردين من واقعهم الاجتماعي فملتقين بالضرورة عندما يتوفر في كل منهم بالتساوي وهو الحد الأدنى من الوعي بالإضافة الى ما يصدق على كل منهم من انه "انسان" . حينئذ ستبدو محاولات طرح المشكلات الاجتماعية الواقعية خروجا على "الجماهير" يستحق الرد باسم "الجماهير" أو تنكرا مشينا لحقوق الانسان .
4 – لم يكن جوبلز يملك من وسائل القهر الدعائي الا الصحف والمذياع . ومع ذلك نجح جوبلز في ان يقنع ثمانين مليونا من الالمان بان المانيا فوق الجميع ، وبان الجنس الاري أرقى أجناس الأرض وبأن أوروبا الشرقية هي المجال الحيوي لدول الرايخ الثالث (الاسم الرسمي لألمانيا النازية) وبان ادولف هتلر قائد ملهم لا يخط ، وبان انتصار المانيا هو عين اليقين . وورث الغرب المنتصر بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية كل ثمار عبقرية الشعب الألماني المنهزم تحت قيادة النازية وكان من بين ما ورث علم صياغة عقول الجماهير وقوانينه الأساسية الذي اسمي علم "الدعاية" أو "الاعلام" ، فلم يلبث حتى تعممت جذوره وامتدت فروعه واينع وازدهر واثمر وانشئت من أجله الجامعات والمعاهد المتخصصة وتفرغ لدراسته وتدريسه مئات الألوف ، وربما الملايين ، من خلاصة الفلاسفة وعلماء الاجتماع ، وعلماء النفس ، والمفكرين ، والكتاب . وأصبحت له في كل دولة وزارة أو إدارة أو نظام أو منظمات . وزُوّد التقدم العلمي بأدوات بالغة الكفاءة وبأسلحة خرافية المضاء . وزوّده التقدم الفني بكل ذي جاذبية من أسباب الاغراء والاغواء ، فألغى المسافات ، ووحد اللغات واختصر الأزمنة حتى أحال الأرض الى قرية على حد تعبير الماريشال ماك لوهان فيما كتبه عن "الاعلام" في كتابه "قرية الأرض" ، وبدأت ظاهرة عالمية ليس للبشرية بها عهد . ظاهرة مطاردة عقول البشر أيا كانوا لاغتصابها بالكتب والنشرات والملصقات والمحاضرات والصحف والمجلات والإذاعة والتلفزيون ووسائل نقلها خرافية السرعة السلكية وغير السلكية ووسائطها العجيبة من الأقمار الصناعية . وحلت الجماعات والجمعيات والأحزاب التي تلبس ملابس وطنية محل بعثات التبشير التي انتشرت في الأرض خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بدون أن تخفي ملابسها الكهنوتية . وبلغ الأمر حدا قال فيه ج.دوينكو في كتابه "الدعاية قوة سياسية جديدة" ان سيادة الدعاية في هذا العصر حقيقة واقعية . انها مميزا لحضارة جديدة . ان المؤرخين سيقولون في المستقبل ان القرن العشرين كان قرن الدعاية .
5 – في نطاق هذا التقدم المذهل في علم "الدعاية" موضوعا وأساليب اكتشف ثلاثة من الأمريكيين هم لازار سفيلد ، وبريسلون ، وجوديت في دراستهم المشتركة "اختيار الشعب" ، اكتشفوا أعمق أساليب الدعاية أثرا في صياغة أفكار الجماهير وهو ما أطلقوا عليه اسم "قادة الرأي" . وقادة الراي هؤلاء هم أشخاص يتمتعون في محيطهم بمراكز اجتماعية تضفي عليهم مقدرة خاصة على التأثير في صياغة اراء وتحديد اتجاهات مواطنيهم . اما عن طريق التوجيه أو عن طريق التقليد . انهم ان يُجمعوا على أن يقودوا الناس الى حيث يريدون ينقاد الناس لهم طائعين . كيف يجتمع هؤلاء ولماذا يجتمعون ؟ .. يقول لوي بوكيت في كتابه (مقدمة علم النفس 1977) انهم يجمعون . فوراء كل جماعة من قادة الراي قد تكون جماعة أقل عددا وأقل مقدرة على التأثير ولكن أكثر تصميما على اغتصاب عقول الجماهير تقود "قادة الراي" وتؤثر فيهم بوسائل قد لا تجدي مع الجماهير . يستأجرونهم في مقابل مادي ليقوموا بالنيابة عنهم ولحسابهم ، بعملية التلقيح ، وهذي هي فكرة تأسيس تلك الجماعات المفضوحة في الولايات المتحدة الأمريكية التي يسمونها "اللوبي" ، ولكنها غير مقصورة على الولايات المتحدة الامريكية ، بل هي أكثر انتشارا في مجتمعات العالم الثالث تنشط تحت أسماء غير مفضوحة وترفع شعارات قد تصل في طهارتها اللفظية حد شعار "الثورة" .
6 – يقول فرانسيس بال عميد المعهد الفرنسي للصحافة والأستاذ في جامعة باريس ، في دراسة كتبها للجمعية الفرنسية للقانون الدولي نشرت عام 1978 أنه منذ زمن طويل ودول العالم الثالث تشعر بالخطر المسلط على شعوبها من خلال وسائل الدعاية والاعلام التي تملكها وتوجهها القوى الاستعمارية بقصد الحفاظ على الهيمنة الامبريالية . وكان على رأس قائمة المخاطر تشويه حقيقة مجتمعات العالم الثالث وتفكيك مكوّناتها الحضارية التاريخية وإعادة بناء ثقافتها وأفكارها وتقاليدها وقيمها لتكون على ما يتفق مع مصالح دول الغرب مستغلة عدم التكافؤ بين مقدرتها الاقتصادية والتكنولوجية على غزو عقول شعوب العالم الثالث وبين التخلف الاقتصادي والتكنولوجي الذي بين دول تلك الشعوب وبين الدفاع الدعائي لتحصين عقول الشعب أو لتحصينها .
والواقع أن فزع العالم الثالث من هذا الخطر الحديث قد عم فأصبح ادراكه جماعيا . ولقد كان الوطن العربي مركز أول حشد لمقاومة هذا الخطر . ففي الجزائر انعقد المؤتمر الرابع لدول عدم الانحياز في سبتمبر 1973 ، وكان خطر الغزو الغربي لعقول الشعوب أحد الموضوعات الأساسية التي ناقشها المؤتمر وأوصى في إعلانه الختامي بتعاون الدول غير المنحازة في ميدان النشاط الإعلامي "لوضع حد لمحاولة اهدار خصائصهم الحضارية والثقافية " . وفي تونس انعقد عام 1976 مؤتمر من خبراء الاعلام العرب والأفارقة استجابة لدعوة مؤتمر وزراء خارجية دول عدم الانحياز الذي انعقد عام 1975 . وقد جاء في قرارات المؤتمر أن دول عدم الانحياز تعاني من هيمنة الدول المتقدمة على وسائل الاتصال بالجماهير بحكم احتكارها لأغلب وسائل الاتصال في العالم واستغلالها هذه الهيمنة للتدخل في شؤون الدول الأخرى الداخلية بقصد تحقيق أهداف النزوع الامبريالي والاستعماري الجديد . وفي يوليو 1976 انعقد في نيودلهي بالهند مؤتمر وزراء الاعلام في الدول غير المنحازة وفيه عبرت السيدة انديرا غاندي رئيس وزراء الهند عما تقوم به الدول الاحتكارية من تزييف حقيقة العالم الثالث عن طريق الدعاية والاعلام بالكلام والأقلام والأفلام ثم قالت بمرارة : " اننا نريد أن نستمع الى ما يقوله الافريقيون عن الاحداث في افريقيا وأن نقدم التفسير الهندي لما يحدث في الهند" ؟ .
وفي نوفمبر 1976 انعقد المؤتمر العام لمنظمة "يونيسكو" في نيروبي وفيه عبر ممثلو دول العالم الثالث عن ادانتهم لهيمنة الدول المتقدمة على مقدرات الدول النامية ومصائر شعوبها عن طريق الاعلام بقصد إحلال الثقافة الغربية محل الثقافة الوطنية . ويشهد فرانسيس بال في كتابه "الاعلام والمجتمع" أن تألق في حلبة الدفاع عن عقول الجماهير في الدول النامية ، خلال هذا المؤتمر الوزير العربي مصطفى سعودي الذي كان يمثل تونس العربية .
7 – بل ان الفزع قد ارتدّ الى مصدّريه . فترى رئيس جمهورية فرنسا ، مهد اعلان حقوق الانسان ، يصدر في 4 نوفمبر 1974 قرارا جمهوريا بتكليف وزير الداخلية بان : "يقترح على الحكومة في خلال مدة لا تزيد عن ستة اشهر التدابير الكفيلة بضمان ألا يؤدي تقدم وسائل الاعلام في القطاع العام والمشترك والخاص الى ما يمس حرمة الحياة الخاصة ، والحريات الفردية والحريات العامة (أي حقوق الانسان ذاتها) " . وقد شكل وزير الداخلية لجنة برئاسة نائب رئيس مجلس الدولة تتبعها مجموعات عمل متخصصة وقدمت تقريرها في 27 نوفمبر 1975 . خلاصة التقرير – فيما يعنينا – أن خطر اغتصاب عقول الجماهير الفرنسية وحقوقهم لم يقع بعد ولكن مقدماته تُنبئ بانه وشيك الوقوع مما يقتضي أن تتخذ الدولة إجراءات وقائية تحول دون وقوعه . واقترحت اللجنة ما شاءت من إجراءات ملأت كتابا مستقلا عام 1967 ..
الى اخره ..
8 – أقول قولي هذا لأنني اريد أن أحذر بكل ما استطيع من قوة ، شعبنا العربي عامة ، والجيل الجديد منه خاصة ، مما في الحديث عن "حقوق الانسان" من غواية أو اغراء . أو مما يمكن أن يكون وراءه من أهداف وغايات . ذلك لأنه منذ جوبلز حتى مخاطر تزييف الحقائق التاريخية الحضارية للدول النامية التي استفزت هذه الدول فعقدت المؤتمرات لترى كيف تحمي عقول جماهيرها من الغزو أو الاغتصاب . كان الغزاة والمغتصبون يمارسون واحدا من تلك الحقوق التي يسمونها "حقوق الانسان" ويقولون أنها مقدسة وغير قابلة للسقوط أو التعطيل .
انه "الحق" الذي نصت عليه المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر من هيئة الأمم المتحدة يوم 10 ديسمبر 1948 . يقول النص : " لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير ، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون تدخل ، واستقاء وتلقي وإذاعة الانباء والأفكار دون تقيد بالحدود الجغرافية وبأية وسيلة كانت " .
9 – أرايتم ؟ .. يمكن اذن أن تغتصب العقول وتشوه الأفكار وتفرض الثقافة باسم "حقوق الانسان" وليست "حقوق الانسان" الا مثلا . ان مئات من الكلمات المجردة ذوات الدلالات النبيلة وهي مجردة ، قد تتحوّل عن "انسان" واقعي قاهر الى أداة سحق "انسان" واقعي مقهور . من قبل قالت فرنسية تخطو الى المقصلة : "ايه ايتها الحرية كم من جرائم ارتكبت باسمك" . أما الشعب العربي فقد لمس ، ويلمس كل يوم ، بدون حاجة الى قول كيف تكرس جريمة تجزئة الوطن الواحد باسم الاستقلال ، وكيف تجتث جذور الحضارة باسم المعاصرة ، وكيف يتحوّل بعض المسلمين الى "كهنة" باسم الدين ، وكيف يستسلم أصحاب الحق المغتصب باسم السلام ، وكيف يقهر المستضعفون باسم الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي . ولا يشك أحد ، ونحن لا نشك ، في نبل دلالة كلمات الاستقلال ، والمعاصرة ، والدين ، والسلام ، والوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي مجردة وطالما بقيت مجردة ، أما دلالتها الواقعية في الزمان والمكان فلا يمكن التأكد من نبلها أو خبثها الا بعد معرفة من هو قائلها ، ومتى قالها وأين قالها ، ولماذا قالها ، وكيف قالها . فالحذر لا يعني الرفض بدون معرفة . كذلك يكون الموقف من مقولة حقوق الانسان .
10 – لماذا قيل عن "حقوق الانسان" انها حقوق مقدّسة ؟ انه وصف اصطنعه أصحاب مصلحة فيه تُناقض جل ما قيل أنه من حقوق الانسان . فلنحرّض الشباب العربي على أن ينضووا عن عقولهم هيبة القدسية التي اضافها أصحابها على أفكارهم واسموها "حقوق الانسان" . كلمات الله وحدها هي المقدّسة أما كلمات البشر فقابلة دائما للمناقشة والمعارضة والمناقضة .. وعندما نفقد القدرة على مناقشة أو معارضة أو مناقضة الأفكار التي يريد لها أصحابها أن تكون مقدّسة تكون عقولنا قد اغتُصبت على وجه اليقين .
فلا "يتهوش" الشباب العربي (اصلها هاش أي اضطرب) من مواجهة الكلمات الكبيرة التي يصوغها الفلاسفة ويردّدها المثقفون والمتثاقفون وينشرها المؤلفون في كتبهم ، ويتلوها الأساتذة على منابر الجامعات . وقد تتخذ منها الدول عناوين لمواثيقها . و"حقوق الانسان" من تلك الكلمات الكبيرة التي قد تصبح على لسان قوى معينة في مجتمع معين في زمان معين من الكلمات الكبائر . وقد أنكرها كثير من فلاسفة أوروبا نفسها . أما في العالم الثالث الذي ننتمي اليه فيكفي أن نضرب مثلا من المؤتمر الذي انعقد في كابول ، عاصمة أفغانستان ، ما بين 12 و 14 مايو 1964 لدراسة "حقوق الانسان" في الدول النامية حيث كاد الاجتماع أن ينعقد على أن المفهوم المجرّد لحقوق الانسان كما تردّدها المواثيق الأوروبية يمثل على المستوى التطبيقي "ترفا" لا تستطيع أن تحققه الا الدول المتقدمة . أما الدول النامية فهي في حاجة الى دولة "راعية" و "مسؤولة" عن توظيف مواردها المادية والبشرية لتحقيق التنمية اللازمة ليكون الانسان انسانا (الانسان لا يكون انسانا اذا أخضعه الفقر والمرض والجهل لما تخضع له البهائم من قوانين غريزية) . والدولة الراعية المسؤولة لا بد لها من أن تتمتع بالسلطات اللازمة للوفاء بتلك المسؤولية حتى لو أدى ذلك الى المساس بما يسمى حقوق الانسان .
10 / 12 / 1984 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق