بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 30 سبتمبر 2016

نظرية الثورة العربية / عرض وتعليق حبيب عيسى .

د .عصمت سيف الدولة

عرض وتعليق حبيب عيسى .


الدولة القومية طريق العرب إلى التقدم ..
التجزئة تؤدي إلى التخلف فتضعف الأمة وتتعرض لموجات الغزو ..
بعد ” 400 ” عام من الاحتلال العثماني ، وجد الوطن العربي نفسه تحت رحمة الاستعمار الأوروبي ، الأكثر ذكاء ، وخبرة ومقدرة .
وفي الربع الثاني من هذا القرن بدأت الارهاصات الأولى لحركة الثورة العربية المعاصرة في  واقع يحاصرها ، ويحاول اجهاضها بكل ما فيه من الماضي السحيق ، وما أضيف إليه من التراث الاستعماري الحديث .
فالاحتلال العثماني كان قد خلف وراءه أمة عربية فرض عليها الجهل ، وعدم المعرفة ، والاغراق في التخلف ، والقهر ، والفقر ، والاحتلال الأوروبي حمل إلى هذه الأمة كل مستحضراته العصرية في احتلال الأرض ، وقهرالأمم ، فرسم حدوداً على الأرض العربية تحمي مصالحه ، وتحقق أهدافه ، و شارك في بناء حركات إقليمية لتحمي تلك الحدود ، وزرع الصهيونية في القلب العربي لتحمي كل ذلك .  
أمام هذا الواقع ، ودفعة واحدة ، وجدت الثورة العربية نفسها وجهاً لوجه أمام المستعمر مباشرة في بعض المواقع ، أو أمام تركته في مواقع أخرى بالاضافة إلى عوامل التخلف الأخرى المزروعة في الواقع العربي.
وطرح الثوارالعرب على أنفسهم السؤال :
• كيف ننتصر ، والقوى المعادية للثورة بهذه القوة .. ؟ !
– الأولى تمثلت في الإجابة التي قدمتها الحركات الاقليمية العربية بألوانها المتعددة كله والتي ارتضت الحدود التي رسمها المستعمر ، ووافقت أن تكون حركتها سجينة لتلك الحدود ، وانحرفت بذلك  عن مسيرة الثورة العريية وأهدافها .
– الثانية وتمثلت في الجواب الذي قدمته فصائل الثورة العربية برفع هدف بناء دولة العرب الوحدوية الاشتراكية الديمقراطية ، وهذا الجواب مبرر تاريخياً ، وعلمياً واجتماعياً وحضارياً … غير أن تحقيق هذا الهدف ليس بالأمرالسهل ، والعادي . فحركة الثورة العربية مطالبة أن تخوض معارك قاسية ، وغير عادية حتى تعبر الطريق الطويل … الممتد بين التجزئة العربية ، والوحدة العربية  .
وحتى تنتصرهذه الثورة في تحقيق هدفها الكبير لابد أن تمتلك سمات أساسية – تمكنها من مجابهة الصعاب ، والسير على الطريق الشائك – من اول امتلاك وحدة في التفكير ، وفهم الظواهر ، والأحداث ، إلى آخر بناء كوادر منظمة للثورة العربية تعرف أهدافها ، وتفهم طبيعة الصراع الدائر ، وتعرف بالتالي الطريق الذي يؤهلها من فعل كل ذلك بنجاح .
وهكذا وجد الثوار أنفسهم مرة أخرى أمام السؤال الملح !
• ما هو المنهج العلمي الثوري الذي يجب ان تمتلكه حركة الثورة العربية .. ؟ !
وكان ثمة إجابات عديدة ومختلفة على هذا السؤال ، ورغم ان هذا الحديث ليس مطالباً  بدراسة هذه المناهج وتقويمها ومتابعة حركتها في الواقع العربي ، فإنه يمكننا القول وباختصار شديد أن هذه الإجابات لم تحل المشكلة ، إن لم نقل أنها زادتها تعقيداً .
ان هذا الحديث  سيحاول بقدر ما يستطيع أن يقترب من محاولة أخرى لها سمات خاصة ، مميزة ، ومتميزة قدمها لنا الدكتورعصمت سيف الدولة لحل أزمة المنهج ، والنظرية في الفكر الثوري المعاصر .
يقع كتاب ” نظرية الثورة العربية ” في -667 - صفحة من الحجم الكبير ، وقد صدر عن دار الفكر في بيروت عام ” 1971 ″ . ويتألف من قسمين أساسيين :
• والثاني في النظرية .
يعالج الدكتور عصمت سيف الدولة في هذا القسم من الكتاب مشكلة المنهج . لكن ، وحتى نضع هذا البحث في مكانه الطبيعي  لا بد من القول : ان الحديث الموجود في كتاب ” نظرية الثورة العربية ” عن المنهج جاء تتويجاً لدراسة طويلة ، واسعة بدأها الدكتور سيف الدولة منذ عام 1963 عندما ظهر كتابه الأول ” أسس الاشتراكية العربية ” .
لقد كان ذلك الكتاب كله مخصصاً لطرح “جدل الانسان” – وللمرة الأولى – كمنهج واختبار صحته في عديد من القضايا : الحرية ، الديمقراطية ، حركة التاريخ ، الاشتراكية ، الأمة ، القومية ،  الوحدة ، التنظيم .. الخ . وكان من بين وسائل اختباره الاحتكام إليه ثم إلى ” الجدلية المادية ” في فهم بعض تلك القضايا لمعرفة أيهما يصدق مع حصيلة الممارسة .
ومنذ ذلك الحين – أي منذ عام 1963 – وحتى ظهور كتابه الأخير ”  نظرية الثورة العربية ”  صدر للدكتور عصمت سيف الدولة مؤلفات عديدة حاول فيها متابعة الحوارمع المناهج  السائدة ، ذلك الحوار الذي بدأه في ” أسس الاشتراكية العربية ” لإثبات صحة المنهج الجدلي الإنساني ، كما حاول ان يفسر الظواهرالطبيعية ، والمشاكل الاجتماعية ، وقضية تطور الإنسان على أسس جدلية الإنسان ، وأولويته في قيادة حركة التطور .
وحاول الدكتور سيف الدولة بعد ذلك أن يدرس الواقع العربي ، ويحلل مشاكله ، ويقدم حلولاً صحيحة لهذه المشاكل على أساس الجدلية الانسانية نفسها في مؤلفاته ” الطريق إلى الاشتراكية العربية ” و ” الطريق إلى الوحدة العربية ” و ” وحدة القوى العربية التقدمية ” و ” ما العمل ؟ ” و ” الطريق إلى الديمقراطية ” . بالإضافة إلى مقالات ومحاضرات أخرى نشرها الدكتور سيف الدولة في مجلات : الطليعة ، والكاتب ، والفكر المعاصر ، والآداب ، وغيرها .
وهكذا يمكن القول : ان عصمت سيف الدولة بقي حوالي عشرة أعوام يختبر صحة منهجه ” جدل الانسان ” ويدرس ، ويناقش ، ويحلل ، قبل ان يبدأ ببناء نظرية مقترحة للثورة العربية على أساسه .

وفي القسم الأول من كتاب ” نظرية الثورة العربية” يحدد الدكتو سيف الدولة موقفاً واضحاً من مشكلة المنهج ، والمنهج الليبرالي ، ومناهج التطور ، والمنهج الاسلامي ، والمحاولات التلفيقية بين المناهج ، ويتابع المؤلف حركة هذه المناهج في الوطن العربي ، والفشل الذي منيت به ، والذي تستحقه .
ثم يصل بعد ذلك إلى دراسة أزمة الفكر القومي فيقول :
” ان الذي يعنينا هو الفكو المسمى قومياً تقدمياً أو ما ينسب إليه وهو كثير . وأزمة المنهج فيه واضحة. ففيه يتحدثا الكنيرون عن الأمة العربية والقومية العربية ، وعن الوحدة العربية وعما يجب أو لا يجب في الوطن العربي .. دون أن نستطيع معرفة كيف  توصلوا إلى ما يتحدثون فيه ، إلا أن يكون ترجمة لشعورهم بالانتماء القومي ، والشعور بالانتماء القومي قد يكون ذا دلالة صحيحة على وجود امة ينتمي إليها المتحدث ، ولكنه لا يصلح مصدراً لمعرفة منطلقات تطوير الواقع القومي وغايته وأسلوبه .
ويقول : ان الوحدة الفكرية بين القوميين التقدميين متوقفة على حل مشكلة المنهج في الفكرالقومي التقدمي .. اننا في حاجة إلى معرفة كيف يكون الوجود القومي الذي هو محصلة تاريخ ماض ضابطاً لحركة تصنع المستقبل . كيف يكون الانتماء القومي السلبي التزاماً حركياً ايجابياً ، ونحن لا نعرف هذا إلا إذا عرفنا القوانين التي تضبط حركة المجتمعات من الماضي إلى المستقبل ، ومن معرفة مفتقرة في أكثر الاجتهادات التي تنسب الى الفكر القومي التقدمي .
ويضيف : لقا عرفنا من حصيلة الممارسة على هدي مناهج عدة أن تحرر الانسان شرط أولي لإمكان تغيير الواقع الاجتماعي ، إلا أن التطور الاجتماعي لا يحدث تلقائياً نتيجة ممارسة الحرية الفردية”الليبرالية” وأن انتظار ان تتغير المجتمعات ليدخل الانسان في سياق حركتها  التاريخية لاتؤدي إلى تطويرها “الماركسية ”  بل على الناس إن أرادوا التقدم الاجتماعي أن يتصدوا ايجابياً لحركة مجتمعاتهم ليقطعوا مسيرتها التلقائية ويطوروها إلى ما يريدون حتى  تتطور .
ان عصمت سيف الدولة يأخذ قوانين الجدل – كما وضعها هيغل و طبقهاعلى ” الفكر المجرد ” ثم أخذها عنه ماركس  وطبقها على ” المادة الصماء ”  ليطبقها على الانسان باعتباره ظاهرة نوعية تنفرد بأنها ” وحدة من الذكاء والمادة ” . وبذلك يقوم ” جدل الانسان ” على القواعد التالية :
• إن كل الأشياء والظواهر منضبطة حركتها من الماضي إلى المستقبل بقوانين حتمية معروفة ، أوتمكن معرفتها ، وان الإنسان نفسه لا تفلت حركته من هذا الانضباط .
• كل الأشياء والظواهر يؤثو بعضها في بعض خلال حركتها التي لاتتوقف فتلحقها تغيرات مستمرة ، وهذا قانون كلي يضبط  حركة كل الأشياء والظواهر بما فيها الانسان .
• في نطاق القوانين الكلية السابقة ” التأثير المتبادل ” ، والحركة ، والتغير ” تخضع حركة كل شيء لقوانينه النوعية .
• ينفرد الانسان بالجدل قانوناً نوعياً ”  لتطوره ” وذلك لأن الجدل قانون تطور الإنسان وحده ، والمجتمعات البشرية وحدها تتطور ، أما الأشياء والظواهو الطبيعية الأخرى فهي ” تتحول ” وبذلك نصل إلى النتيجة القائلة : ان ” التغيرات ” التي تصيب الأشياء والظواهرعامة تتضمن نوعين :
– أولهما : ” التحول ” وهو ما يصيب كل الأشياء والظواهر من تغيرات تلقائية بفعل التأثير المتبادل فيما بينها خلال حركتها التي لاتتوقف.
وثانيهما : ” التطور” وهو اضافة للأشياء والظواهرما ~ن لها أن في
تلقائيا بفعل التاثير المتبادل بين الأشياء والظواهر خلال حركتها التي لا تتوقف إلا بتدخل ” واع ”  بفعالية القوانين التي تضبط  حركة الأشياء ، والظواهر و ” قادر” على استخدامها لتغيير الأشياء والظواهر الى ما ”  يريد ” .
وبذلك يمكن القول : ان ” التحول ” يصيب المادة في كل جزئياتها وأنواعها من أول  الذرات إلى آخرالمجرات .. أما ” التطور” فلا يصيب إلا الظواهرالانسانية حيث تخضع حركة الانسان وحده لقانون ” الجدل ”  بالاضافة إلى خضوعه للقوانين الأخرى .
ان اعظم دروس الجدل على الاطلاق هو : ” أولوية الانسان ” لا بأي مفهوم ميتافيزيقي أومثالي أو اخلاقى ، ولكن في حركة التطور الاجتماعي  يعتبر الانسان وحده ، هو أداة تغيير واقعه وأن الناس وحدهم ، هم أداة الخلق في التطور الاجتماعي وبذلك نقول : يتوقف التطور الاجتماعي من حيث مضمونه واتجاهه ، ومعدل سرعته ، ونصيبه من النجاح أو الفشل على العنصرالبشري في أي مجتمع ، و كل ما عداه من قوى الطبيعة وموادها فهي امكانيات متاحة ، والبشر وحدهم قادرون على استخدام كل القوى والمواد في صنع التطور الاجتماعي .
اما كيف يسير قانون الجدل في الانسان .. ؟ فيقول :
” في الانسان نفسه يتناقضر الماضي والمستقبل ويتولى الإنسان نفسه حل التناقض بالعمل اضافة فيهما من الماضي والمستقبل ولكن تتجاوزهما إلى خلق جديد .
و ” النقيضان في جدل الانسان هما الماضي والمستقبل اللذان يتبع أحدهما الآخر ، ويلغيه ، ولا يلتقي به قط  ، ومع هذا يجمعهما الإنسان ويضعهما وجهاً لوجه في ذاته ” . 
وعندها نرد الفرد ” الانسان ” الى مجتمعه لنرى ما يؤثر في فعالية قانونه وما يتأثر بها نجد : أن الواقع الاجتماعي هو محصلة تطور تاريخي  ، وهو الذي يسهم في إثارة المشكلات ، وهو محدّد موضوعياً ، لذلك فإن الحل الصحيح لأية مشكلة اجتماعية محددة موضوعياً ، والانسان يشق طريقه الحتمي الى الحرية بقدر ما يكتشف ذلك الحل الصحيح وينفذه ، ويفشل في تحقيق الحرية بقدر ما يجهل ذلك الحل الصحيح فلا ينفذه بالعمل ، ويهتدي الناس في مجتمع معين الى الحل الصحيح بالجدل المشترك أو ما نسميه بـ ”  الجدل الاجتماعي ” أي المعرفة المشتركة بالمشكلات المشتركة ، والرأي المشترك في حلها ، والعمل المشترك تنفيذا للحل . فتتحقق به اضافة تحل بها المشكلات الاجتماعية وتثور بها مشكلات اجتماعية جديدة فتحل … وهكذا .. ! فالمجتمعات تتطورمن خلال حل مشكلات الناس فيها .
وبما أن الناس يختلفون في درجة معرفتهم ، وفي تقديم الحلول الصحيحة لمشاكلهم فإنه ينشب بينهم صراع اجتماعي ، و”  الصراع الاجتماعي ” يكون حتمياً لإزاحة أي عقبة تقف في سببل الجدل الاجتماعي ، ويتوقف التطور الاجتماعي بقدر ما يستنفذ ” الصراع الاجتماعي”  من قوة إلى أن تزاح العقبة التي أقامها موقف الذين حاولوا تعويقه .
ان التطور الاجتماعي يبدأ من الواقع الاجتماعي كما هو ، بالمجتمع كما هو ، بالبشر في واقعهم المعين المشترك كماهم ، ولا يتم التطور إلا بقدر ما يشارك الناس في طرح المشكلات الاجتماعية ومناقشتها ومحاولة معرفة حلولها الصحيحة ، والمساهمة في العمل المناسب لحلها .
بعد كل ذلك يمكن تحديد صيغة واحدة لقانون التطورالاجتماعي كما يلي :
في الكل الشامل للطبيعة والانسان كل شيء مؤثر في غيره متأثر به ، وكل شيء في
حركة دائمة  ، و كل شىء في تغير مستمر . و في هذا الاطار الشامل يتحول كل شىء طبقاً لقانونه النوعي، وينفرد الانسان بالجدل قانوناً نوعياً لتطوره، وفي الانسان نفسه يتناقض الماضي والمستقبل ، ويتولى الانسان نفسه حل التناقض بالعمل ، اضافة فيها من الماضي ومن المستقبل ، ولكن تتجاوزهما إلى خلق جديد”.
ويختتم المؤلف هذا القسم من كتاب ” نظرية الثورة العربية ”  بالقول وبوضوح تام :
” طبقاً لجدل الانسان ” طبقاً  لمنطق التطور الاجتماعي سنجتهد فيما يلي لنصيغ نظرية تغيير واقعنا.. ان كان هذا المنهج خاطئاً فكل ما سنقوله سيكون خطأ ، ولن يصح مما نقول الا بقدر ماهو صحيح في المنهج ، أما إذا كان ” جدل الانسان ” صحيحاً فإن أي خطأ في النظرية يكون مرجعه الى قصور في معرفة واقعنا معرفة صحيحة  ، وهو خطأ يمكن تصحيحه طبقاً لجدل الانسان ذاته ” .
ان أية محاولة ” لتغيير الواقع ” على ضوء التسليم بأن الانسان هو العامل الاساسي في عملية التغيير تفرض علينا أن نبدأ بتحديا واقعنا البشري من خلال الاجابة على السؤال :
من نحن .. ؟  نحن مجتمع من البشر . اذن :  فما هو مجتمعنا ؟ وعندما نعرف من نحن وما هو مجتمعنا لن تكون عملية التغيير تجريداً .
يناقش المؤلف في هذا الفصل منطلقات النضال العربي وأسسه تحت العناوين التالية : الوجود القومي ، وحدة الوجود القومي ، وحدة المصير القومي ، وحدة الدولة القومية ، القومية ، القومية والانسانية ، القومية والاسلام ، القومية والأممية ، الأمة والطبقة ، القومية والاقليمية ، المؤسساتا الاقليمية ، الأمة والأقليات ، القومية والفردية ، مصير الأمة .
ينطلق المؤلف في بحثه لكل الفصول السابقة من دراسة تطورالجماعات البشرية حتى تكونت الأمم ، ويقول أن لكل امة ابعاداً ثلاثة هي :
– البعد الأول يحددها من حيث علاقتها بالجماعات البشرية الخارجة عنها .
– البعد الثاني يحددها من حيث علاقتها بالجماعات الانسانية الداخلة فيها .
– البعد الثالث يحددها من حيث مسيرتها كأمة .
بالاضافة إلى حدها الرابع ” الحد الزماني ” الذي هو الواقع الاجتماعي للأمة في وقت معين .
وبما اننا أمة عربية ” مكتملة التكوين ” منذ زمن بعيد فإن منطلقاتنا هي الغاء آثار  المستعمرين على أرضنا ، وبناء دولة الوحدة القومية ، ويدين المؤلف بشدة الحركات الاقليمية في الوطن العربي ويقول :
لما كانت ”  الاقليمية ” قائمة على أساس استقلال كل اقليم بذاته ومصيره فإن الاقليميين لا يتفقون في تبرير موقفهم الموحد ضد الوحدة العربية ، فلا يجمعهم إلا رفض الوحدة العربية ، فهم قوة واحدة في مواجهة القوى القومية ، ولكنهم فيما يتجاوزون هذا مختلفون فكراً وحركة اختلافاً قد يصل الى حد الصراع العنيف فمنهم :
– الشعوبيون : الذين يقبلون دولتهم الاقليمية لأنها تجسد – فيما يقولون –  الشعب العريق الذي كان موجوداً منذ آلاف السنين وما يزال موجوداً فيهم ، وبذلك  يريدون الغاء ثلاثة عشر قرناً أو أكثر من التاريخ ليعودوا الى شعوبهم العريقة .
– ومن الاقليميين من يبررون موقفهم من دولهم الاقليمية بقدرما تجسد روابطهم العشائرية أوالقبلية أوالطائفية .
– ومنهم الرأسماليون الذين يتبعون مصالحهم التي تمت على أساس التجزئة  .
ومنهم ذلك البعض من دعاة ” الاشتراكية ” الذين تجمدوا على رفض  القومية وأعماهم التعصب الفكري عن أن يروا في التجزئة آثار صنعة الامبريالية التي يزعمون أنهم ابطال النضال ضدها . وكلهم سواء في موقفهم ضد الوحدة .
والاقليمية رابطة تضم كل الاقليميين وتضعهم جميعاً في مواجهة الشعب العربي في موقف مضاد لوحدته القومية ، ويجسد الاقليميون موقفهم هذا في مجالات واشكال عديدة من أول كتابة التاريخ العربي مجزأ إلى آخر محاولات الصعود باللهجات المحلية الى مستوى اللغة العربية .
على النظرية أن تعين للجهد الانساني غايات على قدرمن الوضوح والواقعية تصلح به أن تكون محلا للالتقاء عليها بين متعددين والالتزام بها في الممارسة والاحتكام اليها عند الاختلاف .
ان الأمة العربية هي ” الشعب ´” العربي  ، والوطن العربي ” الأرض ” وفيهما تتمثل الامكانيات المتاحة للتطور العربي ، ويمثل الشعب العربي بما يملكه من قوة العمل اليدوي والذهني الامكانيات البشرية المتاحة ، ويمثل الوطن العربي بما فيه من مصادر الثروة الامكانيات المادية المتاحة ، ويتم التطور بأن يتولى الشعب العربي بما يملكه من قوة العمل اليدوي والذهني تحويل ما في الوطن العربى من مصادرالثروة الى ثروة متاحة .
وعندما نعرف ان الاستعمار والتجزئة والاستغلال تمثل معاً ذلك الواقع المسؤول عن عجز أمتنا عن التقدم الاجتماعي الممكن موضوعياً ، نعرف لماذا نختار لأمتنا العربية : دولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية . فنعرف أننا لم نخترها لأننا نريد دولة كبرى ندخل بها سباق القوة فنصبح أقوى دولة ، أو لأننا نريد بها وفيها فرض الوصاية على الشعب العربي ، بل اخترناها من أجل تحقيق غاية في مستوى تواضع وواقعية الفلاح العربي : المقدرة على الحياة بما هو متاح في الأرض .
وبعد أن يجيب المؤلف على الأسئلة الثلاثة : أين ؟ ومتى ؟  ولماذا ؟ يجب ان نخوض نضالاً شاقاً ومريراً لقهر التجزئة والاستغلال والاستعمار ، ويدرس مشكلات التطور ، والتنمية  ، والتخلف يحدد أهداف النضال العربي بالأهداف الثلاثة التالية :
يدرس المؤلف تحت عنوان ” الحرية ” مشكلات التحرر العربي  ، ومشكلة فلسطين ، والموقف القومي ، والموقف الصهيوني ، والحل القومي ، ومشكلة الاستعمار، المعركة والقائد .
ويقول بعد ذلك  : أن قضية الحرية في الوطن العربي هي استرداد الأرض العربية للشعب العربي ، كل الأرض العربية لكل الشعب العربي ، ونحن نعوف ان مجتمعنا هو الأمة العربية ، وانه ارضاً وبشراً ، ذو حدود تاريخية وان الاستعمار والصهيونية والاقليمية المستغلة سلبوا كل أو بعض امكانيات الشعب العربي لتسخيرها لأغراضهم الخاصة .
ان التجزئة في كل الظروف هي مشكلة تخلف في الأمة العربية ، والدولة الوحيدة التي تتفق مع اشتراك الشعب في وطنه ، وتجسد وحدة الوجود القومي هي الدولة الواحدة ، دولة واحدة لشعب واحد ، ووطن واحد لأمة واحدة .
ثم يناقش المؤلف قضايا الوحدة تحت العناوين التالية : الوحدة والتحرر مشكلة التجزئة ، التجزئة والبطالة ، التعاون أم الوحدة  ، دولة الوحدة العربية ، مشكلة الديمقراطية ، دولة العرب الديمقراطية .
” ان وحدة الدولة القومية شرط لازم لإمكان معرفة حقيقة المشكلات الاجتماعية في المجتمع القومي وحلولها الصحيحة المحددة موضوعياً بالواقع الاجتماعي ذاته وتنفيذ تلك الحلول في الواقع . ان هذا لا يعني ان الناس في الدولة القومية سيعرفون حتماً حقيقة المشكلات الاجتماعية وحلولها الصحيحة أو انهم سيحلونها فعلاً ، انما يعني ان كل هذا سيكون متاحا .
ان الاشتراكية التي بدأت فكرا منذ أكثر من قرن ، وطبقت نظاماً منذ أكثر من نصف قرن ، ومنها في كل مجتمع معاصر قدر نام من الفكر والتطبيق ، وتقوم خبرة الاتحاد السوفياتي فيها دليلا ، ليس وحيداً ، على التقدم لمن يريد أن يتقدم ، لا يمكن ان تكون ” لغزاً ” تختلف في حله كل هذه الشلل التي تملأ الوطن العربي ضجيجاً باسم الاشتراكية ، لا يمكن ان تكون المضامين الاشتراكية ، بعد خبرة الشعوب الكثيرة قبلنا ، غامضة الى الحد الذي يجعل الحديث عنها في الوطن العربي حديثاً  ” بابلياً ” وان كان يدور بلغة واحدة تستعمل فيها ذات الالفاظ للدلالة على مفاهيم مختلفة .
ثم يناقش المؤلف قضايا الاشتراكية في الوطن العربي تحت العناوين التالية : لماذا الاشتراكية ؟ الاشتراكية والديمقراطية ، سيطرة الشعب على وسائل الانتاج ، التخطيط الاقتصادي ، الملكية الخاصة والاشتراكية ، الملكية الاشتراكية ، ما هو الاستغلال ؟ الاستغلال بين الرأسمالية والاشتراكية ، الاشتراكية العربية ، القومية والاشتراكية ، الملكية القومية للأرض ، دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية .
عندما يتحدث اللاقوميون الاقليميون عن الاشتراكية ، أو يرفعون شعار تعدد التجارب الاشتراكية في الوطن العربي لا يعني هذا أكثر من تكريس الانفصال وستر التجزئة بلافتات اشتراكية زائفة .
قد لا يختلف اثنان من التقدميين في الوطن العربي على الغاية التي انتهينا اليها : دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية ، ولكنهما يختلفان ، ويختلف كثير غيرهم في الاجابة على السؤال : كيف تتحقق ؟ وهذه هي الثغرة القاتلة التي تفتك بأمل الشعب العربي في  اقامته دولته الوحدوية الديمقراطية الاشتراكية ، ومصدر هذه الثغرة يتمثل فيما يسببه القصور في الفكر القومي التقدمي من اضطراب داخل الحركة القومية ذاتها . حيث تؤدي  غيبة المنهج في الفكرالقومي التقدمي الى عجزه عن توحيد القوى العريضة التي تتبناه وترفع شعاراته .
ثم يناقش المؤلف قضايا ” الاسلوب ” تحت العناوين التالية : مشكلة الاسلوب ، لتفرز القوى ، مشكلة الأحزاب ، ولكن ما هي التقدمية ، الحزب القومي ، لماذا حزب قومي ؟ وحدة القوى العربية التقدمية ، الجبهة أم الحزب ، الحزب أم الدولة ، حزب واحد أم أحزاب متعددة ، الاستراتيجية ، لماذا الثورة العربية.. ؟ التكتيك ،  أيهما أولاً . 
ويختتم المؤلف كتابه بالقول : هنا  وهناك على امتداد الوطن العربي في مواقع العمل أو في مواقع البطالة توجد ملايين المشكلات الاجتماعية التي يثيرها التناقض بين الواقع العربي وما يريده الشعب العربي. وهي كلها مشكلات تقدم .. تلك هي الغاية الاصيلة للحزب القومي الديمقراطي الاشتراكي ،  وذلك هو الميدان الأصيل الذي يعبر به عن ولائه لأمته العربية عن طريق معايشة الشعب العربي وحل مشكلاته اليومية .
”  حتم على الانسان أن يستهدف دائماً حريته ” .
كان ما تقدم عرضاً سريعاً لكتاب ” نظرية الثورة العربية ”  للدكتورعصمت سيف الدولة ، وهذا العرض السريع لا يمكن أن يغني عن قراءة الكتاب فهو ضخم ليس في حجمه فقط ، وانما بمحتواه ايضاً .
واذا كان لابد من كلمة أخيرة تعليقا على هذا الكتاب فإنني اقول وباختصارشديد :
• إن الكتاب محاولة جادة ، ومتماسكة فكرياً ومنهجياً ، ونظرياً لحل أزمة المنهج والنظرية في الفكر الثوري القومي العربي المعاصر .
• الكتاب بمحتواه الفكري ، كسائر مؤلفات الدكتور سيف الدولة منسجم تماماً مع المنهج الجدلي الانساني ، وما يترتب على ذلك من منطلقات قومية اشتراكية ديمقواطية واضحة ، ومحددة المعالم والأسس والغايات والاسلوب .
• إني لا أملك الحق بالحكم على ما وود في كتاب الدكتولا سيف الدولة من حيث الصواب والخطأ  فهذا يحتاج إلى نقاش جاد بين جماهير الشباب العربي  المعنيون بمستقبل الثورة في الوطن العربي ، لكنني استطيع ومن وجهة نظرشخصية القول : ان عصمت سيف الدولة اعاد مشكلة التطور الى مكانها الطبيعي الى الانسان المسؤول عن التقدم والتخلف في المجتمعات البشرية .
• كل هذه الأموروغيرها كثير .. تجعل من محاوللأ الدكتور عصمت سيف الدولة محاولة فذة تستحق كل تقدير ، وتجعل الحوار معها ودراستها من  كل الجوانب بعقل علمي منهجي قادر على التقييم الصحيح أمراً مفيداً وضرورياً للشباب العربي المطالب بشق طريقه الى دولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية وسط ملايين المشكلات الموروثة والمزروعة والمضافة على أرضنا .

                                          الذهاب الى صفحة عصمت سيف الدولة .


الخميس، 29 سبتمبر 2016

جمال عبد الناصر، من الديموقراطية الليبرالية الى الديموقراطية الاشتراكية


جمال عبد الناصر، من الديموقراطية الليبرالية الى الديموقراطية الاشتراكية
                                   دراسة في اقواله.
                                  د.عصمت سيف الدولة .
مقدمة  :
 1- في يوم 21 مايو 1962 قدم الرئيس الراحل جمال عبد الناصرالى المؤتمر الوطني للقوى الشعبية ” ميثاق ” العمل الوطنى . قدمه بقوله : ” الميثاق عبارة عن مبادىء عامة واطار للعمل او للخطة. نتج عن ايه ؟.. نتج عن تجربة وممارسة لمدة عشر سنوات .. العشر سنوات اللى فاتت كانت فترة تجربة ، فترة تجربة، فترة ممارسه .. كانت فترة مشينا فيها بالتجربة والخطأ “. ولم تكن تلك هى المناسبة الوحيدة التي ذكر فيها الرئيس الراحل انتقاد الثورة حين قامت عام 1952 نظرية وانتهاجها التجربة والخطأ اسلوبا للممارسة . تجرب فتخطىء فتصحح . وقد اسند الرئيس جمال عبد الناصر تلك الظاهرة، اعني الاسلوب التجريبى ، الى اسبابها التاريخية وظروف قيام  ثورة 1952 ذاتها . قال: ناس كتير بيقولوا ما عندناش نظرية . بدنا والله تقول لنا نظرية . فين النظرية اللي احنا ماشيين عليها ؟ .. بيقول اشتراكية ديموقراطية تعاونية . ايه هى النظرية ؟ ايه هي حدود النطرية . أنا باسأل ، ايه هى أهداف النظرية ؟.. أنا باقول اني ماكنش مطلوب مني ابدا في يوم 23 يوليو اني اطلع يوم 23 يوليو معايا كتاب مطبوع واقول ان هذا الكتاب هو النظرية . مستحيل . لو كنا قعدنا نعمل الكتاب ده قبل 23 يوليو ماكناش عملنا 23 يوليو لان ماكناش نقدر نممل العمليتين مع بعض ” (25 نوفمبر 1961) . وهكذا، مع الاعتراف بغيبة النظرية ، طرح الرئيس جمال عبد الناصر المثسكلة الفكرية. طرحا يتضمن الاشارة الى سباق بين الفكر الذي لا بد له من ان يستنفد كل الوقت اللازم والكافى لنضجه وبلورته، وهو وقت قد يمستغرق حياة جيل او اجيال ، وبين موقف مصر المتردي بسرعة متزايدة ، قبل 1952 مما كان يستوجب الانقاذ بالممكن بدون انتظار لما يجب ان يكون . وكان الممكن هو ما عرف باسم المبادىء الستة للثورة ومن بينها اقامة ديموقراطية سليمة . قال جمال عبد الناصر يوم 7 ابريل 1963 : ” بالنسبة لنا .. تجربتنا قابلتنا اسئلة كثيرة بهذا الشكل . وكان لا بد ان نوضحها . من اول يوم لم يكن عندنا منهج .. لم يكن عندنا نظرية ولم يكن عندنا منظمة شعبية ولكن كان عندنا المبادىء الستة ” . ومع ذلك فان الرئيس جمال عبد الناصر حين قال ما قال ، في 25 نوفمبر 1961، كانت قد انقضت على قيام الثورة تسع سنوات تقريبا ، وبالتالي فان الاسباب التاريخية التي اسند اليها ، غيبة النظرية كانت قد استنفدت حجيتها في التدليل ، وابقت وراءها سؤالا يمكن ان يقول : لماذا لم تستكمل الثورة تكوينها الفكري بعد ان قامت ونجحت وخلال تسع سنوات منذ قيامها ونجاحها ؟ . ولقد رد قاثد الثورة على هذا السؤال في ذات الخطاب الذي ألقاه يوم 25 نونمبر 1961. قال : ” ما نقدرش نقول ان احنا عملنا نظرية . ويا جمال عبد الناصر اعمل لنا نظرية . انتم اللى عليكم تعملوا النظرية . المثقفين هم اللي عليهم يعملوا نظرية . يوم ما لاقي فيه كتاب طالع عن الاقتصاد بتاعنا والتجربة بتاعتنا وايه اللي يجب ان يحصل فيها باشعر ان هذا الكتاب هو جزء كبير من النظرية ”   .
على هذا الوجه حدد الرئيس الراحل مسئولية البناء النظري للثورة واسلوب هذا البناء . فمسئوليته تقع على عاتق المثقفين . والواقع أن هذا بديهي . ففي مصر وفي غير مصر لا يمتلك المقدرة اللازمة للبناء الفكري الا المثقفون . بل انهم يتميزون بصفتهم هذه تمييزا لمقدرتهم تلك .  غير انه ينبغي الانتباه هنا الى ما يعنيه جمال عبد الناصر بالمثقفين . في الحوار الذي دار يوم 9 ابريل 1963 فى الاجتماع الخامس لمباحثات الوحدة الثلاثية بين مصر والعراق وسورية اقترح احد اعضاء الوفد السوري التفرقة بين المثقفين الثوريين والمثقفين غير الثوريين . فرد الرئيس جمال عبد الناصر تلك التفرقة وقال : ” فيه فرق بين المثقفين والمتعلمين . يعني ممكن واحد متعلم يبقى بورجوازي .. ده مااقدرش اقول عليه انه مثقف .. انا باقول عليه انه متعلم واستاذ كبير في أي فرع من فروع العلم .. يمكن.. لكن المفروض بالمثقف انه مثقف اجتماعياً … زي ما بتقول مثقف اجتماعيا . لكن اذا أطلقنا تعبير المثقفين على كل المتعلمين يبقى تعبيرنا بالنسبة لهذه العملية غلط .. لاننا حنيجي في المتعلمين حنلاقيهم  طبقات .. فيه طبقة بورجوازية.. فاما بتيجي بتقول المثقفين البورجوازيين .. انت قصدك تقول المتعلمين البورجوازيين لان المتعلم البورجوازي مش حيبقى مثقف اجتماعيا ابدا .. يعني يمكن واحد استاذ كبير ودكتور كبير وعنده شهادة كبيرة لكن فى نفس الوقت رأسمالي .. ده بأقول عليه بورجوازي على طول وادخله ضمن البورجوازيين “. اذن ، فالمثقف كما يعنيه عبد الناصر هو المثقف اجتماعيا ـ غير ” الراسمالي ” اساسا ، وبذلك ربط عبد الناصر بين الثقافة والاشتراكية فلا يعتبر عنده مثقفا الا التقدميون . ولكن لا يشترط في المثقف ، بالضرورة ، أن يكون ثورياً اذ الثورية مقدرة على الثورة قد يقتقدها بعض المثقفين . قال في خلال الحوار ذاته : ” هو في الحقيقة الثوريين هم الطليعة هنا … الثوريين … الثوريين هنا الطليعةالعمال الثوريين هم الطليعة … والفلاحين الثوريين هم الطليعة … والطليعة واجبها أن تقود الكل . والمثقفين الثوريين هم الطليعة … لكن ضمن تحالف قوى الشعب العاملة ” . خلاصة هذا أن عبد الناصر كان يرى أن عبء البناء النظري للثورة يقع على عاتق المثقفين الاشتراكيين .  اما عن اسلوب البناء النظري فهو دراسة وتأصيل وتطوير ” التجربة بتاعتنا ” ولو من خلال الدراسات المتخصصة المقصورة كل منها على احد المجالات أو بعضها . وهو يقول في الميثاق ان ” الثورة العربية وهي تواجه هذا العالم لا بد لها ان تواجهه بفكر جديد لا تحبس نفسها في نظريات مغلقة يقيد بهـا طاقته وان كان في نفس الوقت لا ينعزل عن التجارب الغنية التي حصلت عليها الشعوب المناضلة بكفاحها .  ويقول : ” أن التسليم بوجود قوانين طبيعية للعمل الاجتماعى ليس معناه القبول بالنظريات الجاهزة والاستغناء بها عن التجربة الوطنية . ان الحلول الحقيقية لمثساكل أي شعب لا يمكن استيرادها من تجارب شعوب غيره … ان التجربة الوطنية لا تفترض مقدما تخطئة جميع النظريات السابقة عليها او تقطع برفض الحلول التى توصل اليها غيرها فان ذلك تعصب لا تقدر ان تتحمل تبعاته ، خصوصا وان ارادة التغيير الاجتماعى في بداية ممارستها لمسئولياتها تجتاز فترة اشبه بالمراهقة الفكرية تحتاج خلالها الى كل زاد فكري . لكنها في حاجة الى أن تهضم كل زاد تحصل عليه وأن تمزجه بالعصارات الناتجة من خلاياها “. وهو صريح في ان البناء الفكري للثورة لا يكون بالانكفاء على ” التجربة بتاعتنا ” والرفض المتعصب للتراث الفكري العالمي، ولا يكون باستعارة اسس فكرية غريبة عن تجربتنا لنسند اليها تلك التجربة ، ولكن باستيعاب التراث الفكري العالمي والتجربة الخاصة مقدمة لابداع فكري يكون خلاصة تفاعلهما الجدلي .
كان جمال عبد الناصر، اذن ، مثقفا ينتهج التجربة والخطأ اسلوبا. لم يكن مثقفا يملك كل الوقت اللازم للاجتهاد الفكري المجرد ويملك ـ بشكل خاص - ان يحجب افكاره او يراجعها او يغيرها قبل ان يطرحها على الناس ، ذلك لانه كان قائد ثورة مهمته الاولى ان يغير ويطور وينفذ ويصحح في الواقع الاجتماعي ما يحمله من افكار. من هنا تكون دراسة عبد الناصر المفكر شيئا اكثر لزوما وفائدة وصعوبة من دراسة اي مفكر اخر لم يتحمل بنفسه عبء وضع افكاره موضع التنفيذ . وتكون دراسة عبد الناصر الثائر شيئا اكثر لزوما وفائدة وصعوبة من دراسة أي ثائر كان قصارى دوره أن يغير ويطور وينفذ نظرية التزم بها من قبل . ففي حياة عبد الناصر امتزج النمو الفكري بالتقدم العملي . أعطى التجربة أفكاره واسترد من التجربة أفكاراً أكثر نمواً فعاد وأعطاها للتجربة واسترد منها … وهكذا في عملية نمو فكري ثوري خصيبة ماتزال في حاجة الى دراسات مطولة . وفيما يلي نحاول محاولة أولية في تتبع مفهوم الديموقراطية لديه منذ 1952 حتى 1962 لنعرف – بقدر ما تتسع له هذه الدراسة المختصرة – نموه وتطوره من خلال التجربة  .
على اننا قبل ان نبدأ ينبغي ان نؤكد ما أكده عبد الناصر نفسه في لقائه مع وفود المعلمين بالقاهرة يوم 26 يونيو 1956. قال ” ولكني اقول لكم اذا اخطأت في المستقبل فانما يكون هذا الخطأ عن يقين وتأكد من أن العمل في مصلحة مصر وفي مصلحة ابناء مصر ” . نؤكد هذا لان الخطأ في التجربة، نتيجة لقصور في المنهج والنظرية مرجعه الى اسباب تاريخية ، لا يمكن أن ينال على أي وجه من ان جمال عبد الناصر قد عاش ومات ابنا بارا بمصر ومخلصا اخلاصا مطلقا لشعبه وامته . ويكفيه نبلا انه لم يدع في اي وقت انه يملك اكثر مما يملك فعلا وهو كثير وانه لم يخطىء قط الا واعترف بالخطأ وبادر الى تصحيحه. فلقد كان ـ عليه رحمة الله ـ اكثر الناس صدقا مع نفسه وهي قمة الفضائل في الحاكمين  . 
مرحلة الليبرالية :
2-  قال عبد الناصر يوم 23 فبراير 1953 يصف مرحلة ما قبل الثورة : ” كان الظلم الاجتماعى يتجسم في كابوس الاقطاع البغيض . فقد ورثنا طبقة من الحكام والاشراف ترفعوا عن الشعب وراحوا يستمتعون بنفوذهم واموالهم . وانقسمت البلاد الى فئتين كل منهما تكره الاخرى ، وهم من طينة واحدة ، معسكر العبيد وطائفة الاسياد ”. وقال يوم 16 سبتمبر1953 : ” لقد حكمتم زهاء ربع قرن في ظل دستور يضارع ارقى الدساتير وفي برلمانات متعددة جاءت وليدة انتخابات متتالية. حكمتم باسم الديموقراطية ولكنكم باسم الديموقراطية المزيفة لم تنالوا حقوقكم ولم تنالوا استقلالكم . ولم تنعموا يوما واحدا بالحرية والكرامة التي لم يكفلها الدستور في عهودهم الا لهم من دون الشعب . فخسرتم كل شيء وكسبوا كل شىء حتى ثرتم على هذه الاوضاع فحطمتموها فمن منا يمكن أن يقبل أن تسلم الثورة أمر الشعب باسم الديموقراطية الزائفة باسم الدستور الخلاب وباسم البرلمان المزيف الى تلك الفئة من المخادعين ؟ هؤلاء الذين عاشوا لتحقيق شهواتهم ومطامعهم من دماء هذا الشعب جيلا بعد جيل هؤلاء القوم الذين ثرتم من أجل تصرفاتهم ومظالمهم واستغلالهم .
على هذا الوجه كان جمال عبد الناصر يرى ، حين قامت الثورة ، ان مشكلة الديموقراطية في مصر تنحصر في أن لفيفاً من المصريين قد زيفوا الحياة الديموقراطية بالرغم من ان الدستور ( دستور 1923 )  كان يضارع ارقى الدساتير وان الحياة البرلمانية والانتخابات المتتالية كان من الممكن ان تتيح للثسعب حياة ديموقراطية سليمة لولا اولئك المفسدين . ولهذا فهو مع ذات النظام الديموقراطي الذي كان قائما من قبل بعد تطهيرها ممن افسدوه . قال يوم 15 نوفمبر 1952 فى ذكرى الشهداء : ” واني لا اود ان اغادر هذا المكان قبل ان اقول لكم ان حركة الجيش ما قامت الا لتحرير الوطن واعادة الحياة الدستورية السليمة للبلاد ” . وفي اجتماع حاشد في ميدان التحرير يوم 26 نوفمبر 1953 اكد بقوة ان الهدف الاول للثورة هو الديموقراطية وان اسلوب تحقيقها هي ان يحرر الناس أنفسهم من الخوف . قال ” واني اعلنها صريحة ان هذه الثورة كان هدفها الاول هو الديموقراطية لأننا نؤمن بارادة الشعب وقوته. ولكن لن تكون للشعب قوة ولن تكون له ارادة الا اذا احس بالديموقراطية . اننا ايها المواطنون لم نفكر لحظة واحدة فى الديكتاتورية لاننا لم نؤمن بها ابدا فهى تسلب الشعب قوته وارادته ولن نتمكن من ان نفعل شيئا الا بقوة الشعب وارادته . هذا ايها المواطنون هو هدف الثورة الأول فانها ثورة ديموقراطية تعمل لكم ومن اجلكم ليشعر كل انسان انه مصري وانه مصر كلها .. اننا ما قمنا بهذه الثورة التي تدعو الى الحرية لنتحكم فيكم او نستبد بكم . ولكننا لا نريد الديموقراطية الزائفة . نريد ديموقراطية تعمل لكم ومن اجلكم ، ليثسعر كل انسان انه مصري ومتساو والفرص متساوية امامه فى هذا الوطن . ولذلك فاني اقول لكم ان واجبكم اكبر مما تتصورون ، فانتم يا ابناء مصر- وليس مجلس الثورة - انتم الذين سترسمون الطريق الذي سنسير فيه ، ويقرر مصير الوطن اجيالا طويلة ولذلك فانى اوجه حديثي الى كل فرد واقول له انت مسئول عن مصير وطنك وبلادك . ولن نتواكل ولن نسمع وعودا كاذبة كما كنا نفعل في الماضي  فطالما وعدنا وغرر بنا فاذا اردنا ان نبني وطنا قويا عزيزا ونحقق الحرية التى نؤمن بها جميعا فيجب ان نتبصر ونعرف طريقنا فالماضي يختلط بالحاضر والحاضر يرسم الطريق للمستقبل . يجب ان نتحرر من الخوف .. يجب ان نتحرر من الفزع .. يجب ان يحرر كل منا نفسه وان نتخلص من السياسة التي رسمت في الماضي فقد كانوا يخلقون من كل مواطن طاغية  .
 3- غير أن هذا لا يعني أن قائد الثورة لم يكن يعرف أين موطن الفساد والافساد . كلا . فان الثورة كانت قد حددت في أهدافها الستة هدفين .أولهما : القضاء على الاقطاع وثانيهما : القضاء على سيطرة رأس المال على الحكم . الهدف الأول كان يعني تحرير الفلاحين من التبعية للملاك ، والهدف الثاني كان يعني أن يكون الحكم في خدمة الشعب وليس تحت سيطرة رأس المال . وكلاهما هدف ديموقراطي يواجه واقعاً اجتماعياً اقتصادياً سياسياً كان سائداً في مصر قبل 1952  .
- 4 كان الهدف الاول ، الاكثر وضوحا، هو تحرير الفلاحين . ومن أجله صدر قانون الاصلاح الزراعي يوم 9 سبتمبر1952 اى بعد شهر ونصف فقط من قيام الثورة . ولقد تضمن تحديد الملكية بمائتي فدان لكل فرد . ولم يكن ذلك ذا اثر ديموقراطي كبير في مصر حيث الرقعة الزراعية ضيقة وحيث الطلب على الانتفاع بالارض كثيف ، وبالتالي كانت السيطرة على الفلاحين مكفولة واقعيا حتى لمن يملك خمسين فدانا . الجانب الديموقراطى في الاصلاح الزراعي هو ما انصب على  علاقة المستأجرين بالملاك عامة سواء كانوا اقطاعيين او غير اقطاعيين . فقد حددت الثورة القيمة الايجارية ومنعت طرد الفلاحين ، ومدت عقود الايجار، واشترطت ان تكون بالكتابة وانشأت الجمعيات التعاونية الزراعية لتؤدي الى الفلاحين الخدمات الزراعية التي كانوا يتكلون في الحصول عليها على الملاك وحدت من نظام الزراعة وبذلك أخرجت الانتفاع بالارض من نطاق المضاربة على احتياجات الفلاحين ووفرت لهم قدرا كبيرا من التحرر في مواجهة الملاك ايا كانت حدود ملكياتهم . ولم يركز عبد الناصر قط على المبرر الاقتصادي للاصلاح الزراعي ولكنه برره دائما تبريرا تحرريا ديموقراطيا ، وهو ما يعني ان الاصلاح الزراعي كان مرتبطا فى ذهنه بمفهومه للديموقراطية .
قال يوم 13 ابريل 1954 : ” ماذا يعنون بالحرية التى ينشدونها والبرلمان الذي يريدونه؟ انهم يعنون بذلك الاستغلال في ابعد حدوده ، والاحتماء في الاستعمار من أجل مصالحهم في القرى و في الاراضي الزراعية وفي البنوك وفي كل شيء برغم ان الفلاحين يمثلون الاغلبية العظمى اذ يبلغ عددهم 18 مليون نسمة يعيشون وقد حرموهم الثسعور بالحرية والعزة والحرية الاجتماعية ولقمة العيش .. حرموهم وحرموا اخوانهم في الريف ومن بدرت منه بادرة الدفاع عن حق مثسروع كان له اجراء خاص فماذا كان يحدث لهم ايها الاخوان وماذا كانوا يذوقون على ايدي سادة مصر المنحلين في العهود الغابرة ؟  انا اعرف جيداً وانتم  تعرنون كذلك ان اصحاب الاقطاع الذين يتحكمون فيكم كانوا يخرجون الرجل من الارض بعائلته واولاده شريدا لا يجد لقمة العيش هل هذه هي الحرية التى ينادون بها ؟ لقد قامت الثورة لتحرير الشعب من الاستعباد والاحتكار وقد حققنا الحرية للمواطنين جميعاً “  .
وفي يوم 15 ابريل 1954 : ” وانتم أدرى الناس بالاقطاع وكيف كان يؤثر في الحياة السياسية . ان طلبنا الرئيسي لم يكن اقتصاداً وانما هو تحرير الفلاح من سيطرة السيد وانتم كرجال اتيحت لكم الفرصة لكي تأخذوا حظكم من العلم ولكن هناك 18 مليوناً لم ينالوا هذا الحظ ويجب أن ننظر الى اولئك الذين لم تتح لهم الفرصة لنأخذ بيدهم . لا بد أن ننظر لبلدنا كمجموعة واحدة ولن يتحقق ذلك إلا إذا  ارتفعنا بأهل الوطن جميعا وهذا الطريق هو الذي يحقق لنا حياة سعيدة كريمة خصوصا ان امكانيات البلد محدودة . فلن نصل الى القوة والعظمة الا اذا عمل الجميع وشعروا بالحرية والمساواة .
وقال يوم 19 ابريل 1954 ضمن خطبة القيت في وفود الفلاحين : ” الحقيقة يا اخواني اننا اذا تكلمنا عن تحديد الملكية واذا تكلمنا عن الاصلاح الزراعى واذا تكلمنا عن توزيع الارض وعن تمليك الارض، اذا تكلمنا عن هذا كله فيجب ان نفهم ما هو المعنى الاساسي لهذه التمليك وما مغزاه .. ان اهم شيء فى تحديد الملكية، هذا التحديد الذي خلصنا من الاقطاع الذي استمر سنين طويلة، انه يعبر عن معنيين اساسيين : الاول هو الحرية السياسية والثاني هو التخلص من الاستبداد السياسى . فقد كانت الارض التي يملكها الاقطاعي والتى يعمل فيها الفلاح هي العامل الاول الذي كان يستغل دائما في التوجيه السياسي، العامل الذي كان يستغل دائما في التحكم في مصير الفلاح وفي مورد رزقه ولا يترك له فرصة للتخلص من الاتجاه السياسي الذي كان يدفعه اليه صاحب الاقطاع وكانت النتيجة هى تحكم الاقطاع فى الحكم وفي سياسة الدولة ولذلك استمر اصحاب الاقطاع طوال السنين الماضية يتحكمون في مصيرنا .
وقال يوم 2 مايو 1954 في قرية بلتاج بمناسبة حفل توزيع الاراضى المستردة على الفلاحين : ” فلما قامت الثورة وجدت ان الفلاح الذي يعتبر الدعامة الاولى في هذا البلد يجب ان يتحرر وانه لن ينال هذه الحرية بالكلام  وحده ولكن ينالها بالعمل ولهذا بدأنا تحديد الملكية الزراعية لنحرر الفلاح من الاستعباد ونحرره من الاستغلال فإن الهدف الاول لهذه الثورة كان مركزا في كلمة واحدة هي : الحرية .
وقال في حفل توزيع الاراضي المستردة على الفلاحين في نجع حمادى يوم 3 يوليو 1955 : ” ولكن تحرير الارض يحرر الفرد من كل انواع الذل والاستعباد والاقطاع  لكن كيف يتحرر هذا الفلاح الذى يعمل عند الاقطاعى ويشعر انه تحت رحمته يستطيع أن يخرجه متى شاء هو واولاده ومعنى هذا أنه لن يطمئن على حريته ولن تتحقق حرية الفلاح اذا كان مهددا في رزقه وفي حياته واذا كانت الحرية كلاما وخداعا فاننا لا نوافق على الخداع لاننا نؤمن ان حرية الوطن لا يمكن ان تتم اذا لم يتحرر الفرد وكيف يتحرر الوطن والغالبية العظمى لم تتحرر. ”
هذه نماذج مما قال معبراً عن معنى واحد هو أن الحرية والديموقراطية لا يمكن أن تتحققا بالنسبة الى الفلاحين الا بعد تحريرهم من سيطرة الاقطاعيين والملاك . هذا المعنى الذي يربط بين الواقع الاقتصادي والاجتماعي وبين الحرية والديموقراطية كان يتضمن ـ كما لا شك نلاحظ ـ بذور المفهوم الاشتراكي للديموقراطية التس ستنبت ثم تنمو ثم تثمر الميثاق بعد عشر سنوات من تلك الرؤية الجنينية  .
كما ينبغي ان نلاحظ ايضا أثر النشأة الريفية في فكر عبد الناصر . فلا شك انه بحكم انتمائه الاسري الى قرية من افقر قرى مصر ( بنى مر ) كان يختزن تجارب عينية مريرة لمعاناة الفلاحين . ولعل هذا أن ينطبق على اغلب اعضاء مجلس قيادة الثورة عام 1952. لهذا كانت الرؤية بالنسبة لعلاقة الحرية والديموقراطية بالوضع الاقتصادي للفلاحين أكثر وضوحا عندهم منها بالنسبة لعلاقات العمل في المؤسسات التجارية والصناعية والمالية .
سيطرة راس المال :
5-  نعتقد انه مما يؤيد ما قلناه عن وضوح الرؤية بالنسبة لعلاقة الحرية والديموقراطية بالوضع الاقتصادي للفلاحين ان الثورة لم تقدم للعمال في المجالات الاخرى ـ في الفترة التى نتحدث عنها- مكاسب مساوية او حتى مقاربة لما كسبه الفلاحون . فمن كل التشريعات التي صدرت ابتداء من 1952 حتى 1959 لا نجد الا مبادرة مبكرة ( 1953) صدر بها قانون يمنع الفصل التعسفي وقرارا يمنع توقيع جزائين عن المخالفة الواحدة ، وقانون انشاء سجل للعاطلين وتنظيم طريقة تشغيلهم . ثم اضافة حدثت بالقانون رقم 91 لسنة 1959الذي اباح لنقابات العمال ان تكون اتحادا عاما بعد ان كانت مجزأة الى اتحادات نقابية متنوعة ومنفصلة. وحتى قانون منع الفصل التعسفي لم يكن - فى حقيقته - يمنع الفصل بقدر ما كان يعطي العامل المفصول الحق فى الالتجاء الى القضاء المستعجل ليحصل على راتبه لمدة لا تزيد على ثلاثة اشهر الى ان يقضي في استحقاقه اوعدم استحقاقه لتعويض .
وقد كانت تلك المكتسبات المتواضعة كافية لاقناع العمال ، فى ازمة مارس 1954 الشهيرة ، بالوقوف مع الثورة . ولقد كانت ازمة مارس في حقيقتها صراعا في القمة وفي الشارع بين الذين يريدون للثورة ان تستمر وبين الذين يريدون العودة الى ما قبل 1952 وتسليم الحكم للمدنيين وعلى رأسهم حزب الوفد. هذا من حيث القوى . أما من حيث المضمون فقد كان الصراع قائماً بين المفهوم الليبرالي للديموقراطية ( عدم تدخل الدولة ) وبين مفهوم ليبرالي ايضاً ولكنه يحمل في طياته رؤية اجتماعية تقدمية لم تكتمل بعد فهو حريص على بقاء الثورة وتدخلها الايجابي في الحركة الاجتماعية .. وكانت تلك الرؤية الاجتماعية التقدمية غير المكتملة هي التي اقنعت العمال برفض الحرية الليبرالية والهتاف بسقوطها في مواجهة الذين كانوا يرفعون الويتها . وبعد عثسر سنوات تقريبا سيعود جمال عبد الناصر الى ازمة مارس 1954 فيصف حقيقة الصراع فيقول فى 7 ابريل  1963 : ” في مصر احنا اجتزنا عقبات كثيرة قوي وقابلنا مراحل ارادت الرجعية فيها ان تستولي على السلطة وكانت اقرب ما يكون ان تستولى على السلطة سنة 1954 .
التوجه الى الشعب :
6-  انتهت فترة الصراع الاولى مع الرأسماليين واحزابهم الليبرالية الى اكتشاف ان مشكلة الديموقراطية ليست مشكلة اشخاص فاسدين بل مشكلة نظام . ولما لم يكن المفهوم الجديد للديموقراطية حاضرا او ناضجا ليقوم عليه نظام جديد فقد الغت الثورة النظام القديم ( الدستور والاحزاب والبرلمان) واخذت السلطة كلها فى يدها واعطت نفسها مهلة اسمتها فترة انتقال لمدة ثلاث سنوات ابتداء من 16 يناير 1953 بعد أن قررت تشكيل لجنة لوضع دستور دائم يطبق في نهاية الانتقال . ويقول جمال عبد الناصر في اسباب هذا الموقف يوم 26 يوليو 1955 ” قلنا لهم ان الحرية هي حرية الفلاح .. الفلاح في مزرعته والعامل في مصنعه والموظف في عمله والتاجر فى متجره ان الحرية هي حرية الفرد ولن تكون هناك حرية فردية.. واذا استطعنا ان نحقق الحرية الفردية بالقضاء على الاقطاع  والقضاء على سيطرة رأس المال على الحكم والقضاء على الفساد والقضاء على الاستعباد والقضاء على الاستبداد اذ ذاك يا اخواني نستطيع ان نقول ان في مصر حرية حقيقية … لا حرية محتكرة لفئة قليلة من الناس تخدعنا بها وتضللنا بها لتتحكم فينا وتستغلنا وتستبد بنا . قلنا لهم هذا منذ اول يوم من أيام الثورة وقلنا لهم : اذا اردتم فعلا ان تحققوا الحرية التي طالما طالبتم بها وناديتم بها لهذا الشعب . هذا الشعب الطيب الذي خدعتموه تحت اسم الحرية .. فلتوافقوا ولتعلنوا معنا القضاء على الاقطاع ولتعلنوا تحديد الملكية .
وقال يوم 29 نوفمبر 1961 متحدثاً عن نفس الفترة وما تلاها : ” اعطيتكم امثلة في أول الثورة وكيف حاولنا احضار الاقطاعيين لنتفاهم معهم على القضاء على الاقطاع ولم يمكن وبعد تحديد الملكية ادخلناهم في الاتحاد القومي انا اعرف اناسا كانوا من اشد الناس تحمسا وايماناً في المظهر. ولم اكن استطيع ان اعرف ان هذا نفاق و غير نفاق وبعد ذلك في سنة 1954 انزلوا اليفط ورفعوا اليفط وعلقوا اليفط ونزلوا اليفط ورفعوا الصور وانزلوا الصور هذا الكلام نعرفه جميعا ونعرف لماذا حصل نفاق طبعا . من يستطيع معرفة السريرة ؟ لكن أحكم بالادلة .
7-  ولا شك فى ان جمع السلطات التشريعية والتنفيذية في يد مجلس قيادة الثورة ومجلس الوزراء كان ديكتاتورية ساحقة ضد الاقطاعيين والرأسماليين والليبراليين الذين سدت في وجوههم بحسم  فرصة العودة الى الحكم والسيطرة . اما بالنسبة الى الشعب الذي لم يخسر شيئا كان له من قبل فقد كان الموقف يمثل املا غامضا في نوايا الثورة وموقفها منه. ولكن الثورة ، وقائدها، لم تلبث ان اتجهت بقوة نحو الشعب تنسج معه خيوط اتصاله مباشرة . وكان اسلوبها في ذلك هو انشاء ” هيئة التحرير” . وقد عرف جمال عبد الناصر ” هيئة التحرير بقوله : ” ان هيئة التحرير ليست حزبا سياسيا يجر المغانم على الاعضاء او يستهدف شهوة الحكم والسلطان وانما هي اداة لتنظيم قوى الشعب واعادة بناء مجتمعه على اسس جديدة وصالحة . اساسها الفرد ، فنحن نؤمن بأن أي نهضة لا يمكن ان تقوم  الا اذا آمن الفرد ببلده وقدرته وان اعادة بناء الوطن لن تتم الا اذا قام كل فرد بواجبه ، فلن نستطيع وحدنا ان نقيم هذا البناء، وان الفساد الذي عم جميع مرافق البلاد طوال عشرات السنين ليحتم علينا ان نعمل كل في اتجاهه من اجل ازالته والقضاء عليه واعلموا ان الطريق طويل وشاق فعلينا ان نتذرع بالصبر فالارادة التي لا تعرف اليأس لا يقف امامها عائق وسنصل باذن الله وسننتصر ” ( 9 ابريل 1953)  .
ولقد حمل جمال عبد الناصر العبء الاكبر في الجانب الفكري لهيئة التحرير. وكان عام 1953 بالنسبة اليه طوافا متصلا بين المدن والقرى والكفور على طول ارض مصر وعرضها ومن جماع مئات الخطب التي القاها فى كل مكان تقريبا نستطيع ان نستخلص مفهومه للديموقراطية في تلك المرحلة من خلال تحديده لوظيفة هيئة التحرير ودورها  :
قال في منيا القمح يوم 20 نوفمبر 1953 : ” اننا نهتف دائما بالحرية ونهتف بالعزة كلاما او هتافا وليست الحرية اوهاما ينادى بها بلا وعي . ولكن الحرية هي التحرر من العبودية ومن الخوف ومن الفزع ، افرادا وجماعات . لقد عشنا سنين طويلة تحدثنا فيها طويلا عن الحرية ولم نحقق منها شيئا . فقد كانت الحرية وعودا وكلاما وصياحا اما اليوم فإذا قلنا الحرية فنحن نؤمن حرية القلوب وحرية النفوس وحرية العقول وهى كلها تتلخص في التحرر من الخوف الا من الله الذي خلق العالمين .
وقال فى المؤتمر الوطنى بجامعة القاهرة يوم 3 ديسمبر 1953 : ” ان العامل الاول للحرية هو التجرد التام من روح الاستعباد وروح الخوف والفزع  ويجب ان يكون الحكم والشعب قوتين متعادلتين فاذا لم يكن الشعب قويا فان الحكم لا يكون عادلا ولكي يكون الشعب قويا يجب أن يكره الاستبداد وينفر من الاستعباد ، ولا يعرف للخوف والفزع معنى .
وقال في فرع هيئة التحرير بالوايلي يوم 7 ديسمبر 1953 : ” اننا الان نلقي جميع الاوزار على الحكام  السابقين وحدهم واريد ان اقول ان اي حاكم اذا ترك وحده لن يستطيع ان يتغلب على نزعات نفسه والنفس أمارة بالسوء ولهذا يجب أن يكون الشعب متيقظا متسلحا بالمعرفة ولكنا نعرف اننا نحكم حكما ديموقراطيا له برلمان وكان له دستور ووثيقة تقول : الامة مصدر السلطات ، وهذه الامة كانت ضحية السلطات اننا نريد اليوم لهذه الامة ان تكون مصدر السلطات وهذا لن يتأتى الا بالمعرفة والتيقظ ومعرفة كل فرد حقوقه وواجباته .
وقال في حفل كلية اركان الحرب يوم 29 نوفمبر  1954 : ” ان العزة والكرامة كانتا دائما جزءا من الشعب واننا اذ نقول ان هذه الثورة اقامت العزة واقامت الكرامة فانما نعني ان هذه الثورة ثبتت العزة والكرامة وجعلتهما حقيقة واقعة لان هذا الشعب كافح طويلا من اجل عزته ومن اجل كرامته واستشرد منه من استشهد وشرد منه من شرد من اجل مذه الكرامة التي كنا نراها دائما في الصدور وكنا نراها دائما في النفوس التي كانت تتمثل دائما تمثيلا خفيا او ظاهرا في كل فرد من ابناء هذا الوطن .
8 ـ  من كل ما سبق ، وامثاله كثيرة ، يتضح بجلاء ان الديموقراطية كانت، في مفهوم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر فى تلك المرحلة، مقدرة ذاتية قابلة للاكتساب بالوعى ومغالبة النفس حتى تتحرر من الخوف والفزع . وان الجماهير لا تنقصها الا التعبئة والتوعية والثقة بالنفس ، بعد ان قضي على الاقطاع وسيطرة رأس المال على الحكم ، حتى تسترد عافيتها الديموقراطية وتفرض ارادتها. وانها الى حد كبير كانت مسئولة عن الاستبداد بها وهي ـ حينئذ ـ مسئولة عن أن تأخذ بيدها زمام أمرها فلا تسمح بالاستبداد من جديد . وأن وظيفة هيئة التحرير كانت ـ على وجه التحديد ـ تنظيم الشعب وتعبئته وحشده وتوعيته ودفعه بعيداً عن السلبية والركود السابق وتحريضه على أن يحرر نفسه من الخوف والفزع . وبالرغن من أن تلك كانت خطوة تقدمية على طريق الديموقراطية في شعب كان – فعلاً – قد لاذ بالسلبية وخرج من نطاق الاهتمام بالمسائل العامة . الا أنه لا يمكن تجاهـل الرؤية المثالية لمشكلة الديموقراطية التي كانت تواكب، وتتغلب في كثير من الاوقات ، على الرؤية الاجتماعية ، كأثر من اثار المفهوم الليبرالي العام للديموقراطية فى تلك المرحلة .
9-  آية هذا ، كما نعتقد ، انه ما ان انتهت فترة الانتقال في 16 يناير 1956حتى اصدر جمال عبد الناصر دستور 1956.. وفي ذلك الدستور اجتمع المفهوم الليبرالى للديموقراطية مع اتجاه شعبي واضح  .
ولقد قلنا من قبل ان الثورة كانت قد أصدرت يوم 13 يناير 1953 قرارا بتشكيل لجنة تضع مشروع دستور ليطبق بعد فترة الانتقال . ولقد وضعته اللجنة فعلا وقدمته الى مجلس الوزراء في 17 يناير 1955 ولكن الرئيس جمال عبد الناصر لم  يقبله لانه ” نيابى اكثر مما يجب والنظام  النيابي البحت يقصر دور الشعب على مهمة انتخاب نوابه في فترات معينة من الزمن دون ان يفسح مجالا ليمارس الشعب بعض سلطاته بنفسه اثناء هذه الفترات ”. فجاء دستور 1956 متضمنا اولا تحويل هيئة الناخبين الى منظمة شعبية دائمة الانعقاد ولها حق الترشيح لمجلس الامة اسماها ” الاتحاد القومي ” وجعل للشعب حق انتخاب رئيس الجمهورية وادخل الاستفتاء الشعبي على المسائل الهامة فى اسلوب الحكم . غير ان الاتجاه الشعبى الاكثر بروزا كان في قانون الانتخاب فقد حرره من كل قيد تقريبا، خفض سن الناخب الى 18 سنة واعطى النساء حق الانتخاب ، والعسكريين أيضا، وجعله اجبارياً، وبالتالي تضاعف عدد المصريين الذين لهم حق ممارسة الحريات السياسية . وفيما عدا ذلك بقي دستور 1956 ليبراليا برلمانيا في أساسه  .
 10- اهم من هذا دلالة على سيادة المفهوم الليبرالي للديموقراطية ان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عبر - في تلك المرحلة - وفي عديد من خطبه عما يمكن ان يفهم منه ان مشكلة الديموقراطية قد حلت- تقريبا- بما صدر من تشريعات وباصدار دستور 1956
قال في الاحتفال باعلان الدستور يوم 16 يناير 1956 : ” استعطنا يا اخواني في خلال هذه السنوات الثلاث ان نقضى على الاحتكار وان نقضى على سيطرة رأس المال على الحكم وان نقيم حكما نظيفا ينبثق من ضمير هذا الشعب وينبثق من نفسية هذا الشعب وينبثق من امال هذا الشعب .. كافحنا وعملنا من اجل اقامة هذه الحياة الديموقراطية فقابلتنا صعاب كبرى قابلتنا مشاكل عظمى فجابهناها. جابهناها بقوة وجابهناها بعزم لانا كنا نؤمن بحقنا في الحياة وكنا نؤمن بحقنا في الحرية وكنا نستلهم من الماضى عظة وعبرة وقلنا لن ننخدع ابدا ولن نثق ولن ننخدع ابدا بالوثائق والعهود ، لن ننخدع بهذا كله كما انخدعنا في الماضي .. واستطعنا فى هذه السنين الثلاث ان نهدم كل اثار الرجعية تقريبا وان نهدم كل اثار الاستغلال تقريبا وان نهدم كل اثار الاستبداد .. كانت فترة السنين الثلاث الماضية فترة هدم وفترة تصفية للرجعية والاستعمار ولاعوان الاستعمار ولكنا اليوم نعلن ان هذا الدستور هو بداية الكفاح من اجل العمل والبناء .. ان الدستور لم  يكن هدفنا ولكن الدستور يرسم الطريق الى غرضنا الاكبر. ان الدستور هو تعبئة كاملة لابناء هذا الشعب . ان الدستور الذي نعلنه اليوم ليس وثيقة تكتب ولا وثيقة للخداع ولا وثيقة للتضليل لاننا نعلنه نحن الشعب … لا يعلنه فرد من الافراد ولا سلطان ولا صاحب سلطة ان الدستور الذي نعلنه اليوم يبين خطة الكفاح لا نهاية الكفاح .. ان الدستور الذي نعلنه اليوم يبين وسيلة الكفاح ويرسم وسيلة الكفاح .. ايها المواطنون : ان الثورة الحقيقية تبدأ اليوم ثورة من اجل العمل. ثورة من اجل البناء ثورة يمارسها الشعب . ثورة يحرسها الشعب . تحرسونها انتم جميعا ويحرسها اولادكم من بعدكم ويحرسها احفادكم . ان الدستور الذي نعلنه اليوم يجمع الوطن جميعاً، كلنا سنكون مجلس الثورة الاكبر … كلنا سنكون مجلس الثورة الاعلى ، كل هذا الشعب ، كل ابناء هذا الشعب ، سيكونون مجلس الثورة .
وقال مخاطبا وفود الفلاحين يوم 17 يناير 1956 : ” لقد زالت دولة الاقطاع وقامت دولة الاحرار وانتهت دولة الاسياد والعبيد وقامت دولة المساواة كلنا في هذه الارض احرار نشعر بالفرص المتساوية المتكافئة كلنا نشعر بالتضامن الاجتماعي والتكاتف ، كلنا ننظر الى المستقبل بايمان من اجل ابنائنا واخواننا حتى يتمكنوا من ان يحصلوا على ما لم يحصل عليه الاباء والاجداد . عليكم بالعمل فبالعمل وحده نستطيع ان نحقق العزة والكرامة والحرية .. كل من سينهض بعمله وكل فلاح سيعمل في حقله لزيادة الانتاج هذا هو عملكم . وهذا هو واجبكم حتى تحفظوا حقكم فى الحرية والحياة والله يوفقكم والسلام عليكم  ورحمة الله .
وقال في المؤتمر الاول للغرف التجارية يوم 30 يناير 1956 : ” لقد عملت الثورة على تحرير الاقتصاد من سيطرة رأس المال على الحكم وانتم جميعا كنتم تشعرون بمدى سيطرة رأس المال على الحكم فقد كان الحكم احتكارا لطبقة من الناس وهذه الطبقة كانت تعمل على الا تكون هناك عدالة واليوم وقد اعلنت الثورة انها قضت على الاقطاع  وعلى سيطرة رأس المال على الحكم فانها تعني بذلك ان تؤمن الشعب بجميع طبقاته لتؤمنكم انتم لانكم انتم التجار اول من نادى بضرورة التخلص من الاحتكار. واذا قالت الثورة انها تعني التخلص من سيطرة رأس المال فانها تعني ان الحكومة لن تكون لفئة من الفئات ولن تكون الحكومة مطلقا تحت سيطرة رأس مال كبير او صغير لانها لو خضعت لذلك فلن تكون هناك عدالة ” .
11-  والاية الثانية على سيادة المفهوم الليبرالي للديموقراطية في تلك المرحلة ان المعنى المتكرر في خطب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر هو التسوية الحيادية بين المواطنين . وهو مفهوم ليبرالي ، لان المضمون الجوهري لليبرالية هو التجريد وانكار الواقع الاجتماعي . الشعب في الليبرالية هو مجموعة مواطنين . وكل واحد من الشعب مواطن مثله مثل اي واحد غيره . وهو ما يعنى ان كل افراد الشعب سواء . ولما كان الواقع ان الناس في اي مجتمع يختلف بعضهم عن بعض طبقا لظروف كل واحد منهم وحصته من عائد وطنه فان صفة المواطن لا تكون لها دلالة الا وحدة الانتماء الى الوطن . ثم - فيما عدا ذلك- يختلف الناس اختلافا كبيرا . منهم الحاكمون والمحكومون ، الاذكياء والاغبياء ، الاصحاء والمرضى .. الى اخره . ويتدرجون فيما بين تلك الحدود فلا يكاد يوجد مواطن اشبه بمواطن. وتصبح مشكلة اي حكم وطني غير ليبرالي هي كيفية ازالة الفوارق بين البشر أو تخفيضها على قدر ما تطيق موارد الوطن الواحد، ويكون الحياد موقفا ليبراليا فاشلا. نعني حياد الدولة وحياد القوى ايضا .
ولقد كان الاتجاه العام لخطب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في تلك المرحلة ليبراليا. كما لو كان قد كفى الشعب استبداد الاقطاعيين وسيطرة الرأسماليين واصدر لهم دستورا ثم نظر اليهم نظرة واحدة تدعوهم الى الوحدة والمحبة والتعاون في سبيل الوطن  .
قال يوم 7 ديسمبر 1953 : ” نحن لا نؤمن بالديكتاتورية ونعرف جيدا أنها اذا عاشت سنة او سنتين فلن تستمر، سيأتي اليوم الذى يظهر فيه فسادها وينكشف امرها وتكون الديكتاتورية وبالا على الوطن وعلى المواطنين . يجب ان يعرف كل مواطن ان عليه واجبا وانه كفرد من ابناء هذه الامة يهدف الى تحقيق الحرية وللحرية حدود، وانها تنتهي حيث تبدأ حرية الاخرين ـ ان الحرية شيء والفوضى شيء اخر”. وقال مخاطبا عمال القاهرة وضواحيها يوم 12 ديسمبر 1953 : ” ان هناك فرقا كبيرا بين الفوضى والحرية وان حرية صاحب العمل تبدأ عندما تنتهي حرية العامل وحرية العامل تبدأ عندما  تنتهى حرية صاحب العمل .. ان هذه الحكومة كانت أول حكومة تحمي العامل في  حدود رعاية حق العمل ورسالتها التوفيق بين العامل وصاحب العمل فمن اشترط من الفريقين فقد هدم بناء التضامن الذي يقوم عليه مجد مصر .
وقال يوم 13 ديمسمبر 1953 : ”اننا لا نود ان نقدم مطالب طائفة على اخرى ولا ان نرفع طائفة على مستوى الطوائف الاخرى وذلك حتى لا يرتفع ستواها الاجتماعي على حساب طوائف اخرى ، واننا نود ان نقوم بحل المثسكلة العامة لا المشاكل الخاصة فهناك عمال متعطلون يريدون العمل ونحن بدورنا نعمل على ايجاد عمل لهم ونعمل على حماية العامل من اصحاب العمل ونحمى اصحاب العمل فنكون حكاما بين العامل وصاحب العمل .
وقال في شبرا الخيمة يوم 20 ديسمبر  1953 : ” واني اؤكد لكم انه لا يوجد شخص الان يستطيع ان يستغل الحكم في سبيل مصلحته الخاصة نحن الان نعمل في سبيل صاحب العمل في سبيل العامل لان مصالحهما مشتركة . يا اخواني : اننا نتجه الى المحافظة على مصلحة العامل ، وعلى مصلحة صاحب العمل الى بناء عهد جديد من الصناعة وهذا العهد هو الذي سيمكننا من ايجاد عمل للعمال المتعطلين .
وقال مخاطبا منظمات الشباب يوم 2  يناير 1954 : ” ان الرسالة التي ادعوكم اليها هى التعاون في الخير وليكن كل منكم عطوفا على الاخرين فنكون كتلة واحدة متحابة متآخية فلا تجاهروا بالعدوان ولا تكونوا معتدين وأذا خرج واحد من الصف فانصحوه واثيبوه الى رشده فلا نكون كما كانت الحال في الماضي شيعا واحزابا كونوا على الدوام رسلا للوحدة والمحبة والتعاون فنحافظ على قوة الوطن المعنوية والمادية .
وقال في وفود عمال المحلة مساء يوم 3 ابريل 1954 : ” انتم اليوم  مسئولون عن هذا التطور فيجب أن تحافظوا على وحدة ابنائه من اجل وطنكم وعائلاتكم وان تتعاونوا مع جميع طبقات الامة تعاونا وثيقا حتى تؤدي الثورة رسالتها كاملة واوصيكم ان تعتصموا بالصبر. كما احذركم من شائعات المضـللين الذين يندسون بينكم بالوعود الخلابة والكلام الزائف . ولست بحاجة الى ان اقول ان بلادنا تجتاز الان اولى مراحلها نحو التصنيع ولهذا يلزم ان تحافظوا على الثقة التي يجب ان تتوفر بين العمال واصحاب العمل ونحن الان فى دور بناء لنهضتنا وسنصل بلا شك الى الاستقرار الصناعى قريبا جدا .
وقال مخاطبا ممثلي المحافظات في قاعة مجلس النواب يوم 23 اكتوبر 1954: ”  يا اخواني . يجب ان يشعر كل فرد بان عزة المواطن الاخر تتمثل في عزته وبان كرامته جزء من كرامة اخيه . لان كرامتكم جزء من كرامتي وعزتكم جزء من عزتي وبهذا يا اخوانى اذا دافعتم عن عزة الاخرين وكرامتهم وحريتهم فانما تدافعون عن عزتكم وكرامتكم .
وقال مخاطبا وفود الوجه البحري والقنال يوم 24 اكتوبر1954 : ” ان مصر التي تطهرت اليوم من الاستعباد والاستغلال لتهيب بكم ان تناصروها . ان مصر تريد منكم ان تنكروا ذواتكم من اجلها ومن اجل ابنائكم واحفادكم لتعملوا على المحافظة على ما وهبنا الله من عزة وكرامة وبهذا نستطيع ان نسير في الطريق الذي نهدف اليه طريق العزة والحرية والاستقلال ولنعمل على المحافظة على ذلك وتحقيق هذه الاهداف فمصر تنتظر منكم عملا دائما واتحادا وتآلفا متناسين الخلافات والاحقاد سائرين فى طريق تحقيق الهدف الاعظم وهو بناء مصر بناء شامخاً عزيزا وايجاد عدالة اجتماعية صحيحة والسلام عليكم ورحمة الله .
وتكرر هذا المعنى في خطبه في جامعة الاسكندرية يوم 26 اكتوبر 1954 ، وفي مؤتمر العمال بميدان الجمهورية يوم 29 اكتوبر 1954 وفي افتتاح اول وحدة مجمعة في برنشت يوم 13 يوليو 1955 وفي القاهرة  يوم 22 يوليو 1955.. ثم انه تحدث فى المؤتمر التعاوني الثاني يوم اول يونيو 1956 عن ” الاتحاد القومى ” فقال ” قلنا نعمل اتحادا قوميا وهذا الاتحاد القومي عبارة عن جبهة وطنية تجمع ابناء هذا الشعب ما عدا الرجعيين وما عدا الانتهازيين وما عدا اعوان الاستعمار لان الرجعيين واعوان الاستعمار والانتهازيين هم الذين تحكموا فينا وسلمنا لهم واعطيناهم الفرصة ليمارسوا حريتهم في الماضي فخانوا هذه ألامانة التي حملها لهم هذا الشعب واليوم عندما نقول هناك اتحاد قومي لا نستطيع اعطاء الفرصة للرجعية او الانتهازية ولا لأعوان الاستعمار ابدا الفرصة ستكون للشعب الاغلبية العظمى من هذا الشعب الناس الذين حرموا من حريتهم ايام كانت هناك برلمانات زائفة كنا كلنا نشكو منها ونعرف انها لا تحقق رغباتنا ولا تعمل لصالحنا ولكنها تعمل لمصلحة فئة قليلة من المستغلين او من الاقطاعيين او من الحاكمين الذين يريدون حكما وشهوة وسلطانا . هذا الكلام كان في الماضي واليوم في هذه المرحلة الجديدة فلن تكون هناك حرية سياسية للانتهازيين او الرجعيين او اعوان الاستعمار اذن الاتحاد القومي يشمل جميع ابناء هذه الامة.. هذا هو الاتحاد القومي كما اتصوره كيف سيكون هذا الاتحاد القومي ؟ انه سيستغرق وقتا طويلا ولا اقدر ابدا يوم  الاستفتاء على الدستور يوم 23 يونيو ان اقول : ان هذا هو الاتحاد القومي . هذا الاتحاد القومي الذي يعبر عن هذه الاهداف يجب ان تتمثل فيه جميع العناصر الخيرة في هذا الوطن جميع العناصر العاملة وجميع العناصر البناءة في هذا الوطن ، الاتحاد القومي لم يتكون حتى الان ولن يعلن تكوينه يوم 23 يونيو او 25 يونيو بالكامل . لان هذا الشعب يجب ان يأخذ الفرصة ليعمل ونتيجة عمله هي السبب الوحيد الذي يدخله الاتحاد القومي . كيف تدخله كعضو عامل له واجب عملي في الاتحاد القومي ـ اننا حتى الان نعتبر ان الامة كلها تمثل الاتحاد القومي .
ويكرر هذا المعنى في خطابه في الاحتفال بالجلاء يوم 19 يونيو 1956 ويربط بين الاتحاد القومي والديموقراطية السليمة، احد الاهداف الستة للثورة ، فيقول . ” وكان الهدف السادس من اهداف الثورة هو اقامة حياة ديموقراطية سليمة ولم نقل حياة ديموقراطية فحسب . فقد كئا نعيش جميعا تحت اسم الديموقراطية وتحت اسم البرلمان والبرلمانية ولكنا لم نكن نتمتع من الديموقراطية الا باسمها ولكن معناها واصولها وجذورها كانت مفتقدة كنا لا نحس بها ولا نشعر بها وكنا نشعر أن هذه الديموقراطية ليست لنا ولكنها كانت علينا من اجل فئة من الناس . فقدت الديموقراطية معناها وروحها واسبابها . وتحت اسم الديموقراطية تحكم فينا الرجعيون والمستغلون والانتهازيون تحكمت فئات قليلة كانت تتاجر بالديموقراطية وكان الشعب ينظر ويكتشف ويعرف ويعلم . ونحن كشعب قاسينا طويلا ، نستطيع ان نعرف الخديعة والخداع والتضليل . تحت اسم الديموقراطية يا اخوانى قاسينا كثيرا ، وكانت الديموقراطية كفاحا من اجل الحكم وكفاحا من اجل السيطرة والاستغلال والثراء والسلطة والسلطان . ولهذا حينما كتبنا هذه المبادىء قبل الثورة كنا نعبر عن احساس هذا الشعب وعن امال هذا الشعب . كتبنا الهدف السادس من اهداف الثورة وهو اقامة حياة ديموقراطية سليمة نتلافى بهـا ما فات . لا نكتفي منها بالبرلمانية ولا بالاسم ولكن بحياة ديموقراطية من اجل ابناء هذا الشعب جميعا. من اجل الاغلبية العظمى من هذا الشعب ، لا من اجل الاقلية ولا من اجل المستغلين والمستبدين . كانت هذه هي اهدافنا وكانت هذه هي اهداف الشعب .
في هذه النصوص نرى ان عبد الناصر يعود الى الحديث عن الرجعيين والانتهازيين واعوان الاستعمار ومنعهم من الدخول في الاتحاد القومي وهو ما قد يوحى بأن المفهوم الاجتماعي للديموقراطية قد بدأ يتصاعد على حساب المفهوم الليبرالي . وهو غير صحيح . فالواقع ان اولئك الذين كان جمال عبد الناصر يمنيهم كانوا معروفين ومحددين سلفا وهم الذين ناهضوا الثورة في مطلعها. الدليل على هذا ان عضوية الاتحاد القومي ابيحت لكل من له حق الانتخاب والممارسة السياسية بدون تفرقة. اي انه بعد استبعاد الذين ناهضوا الثورة والاقطاعيين - بقيت نظرة عبد الناصر الى الباقين نظرة حيادية فكلهم عنده ” الامة “. وفي 14 يناير 1958 يعود الى الاتجاه العام فيقول في بني سويف بعد أن كان قد نشأ الاتحاد القومي في 14 نوفمبر 1957 : ” هذا هو الاتحاد القومي .. اتحاد يجمع بين ابناء الوطن العربي الواحد .. لا انحراف الى اليمين ولا انحراف الى اليسار لا تفرقة لا تنابذ وانما جمع كلمة من أجل رفعة هذا البلد ، جمع الكلمة من أجل رفع راية القومية العربية التي قامت طويلا .. استطعنا بالاتحاد ان ننتصر وسنستطيع ايضا بالاتحاد ان نحقق الامال الكبار وان ننتصر أيضا بعون الله .
ويقول في الاسكندرية يوم 26 يوليو 1959: ” وفي نفس الوقت أعلنا اننا جميعا أمة واحدة لا حزبية ولا بغضاء ولا فرتة ولا احقاد .. قلنا اننا نكون اتحاد قومي يجمع بين ابناء هذه الجمهورية العربية المتحدة نبنى تحت راية هذا الاتحاد وطننا ونبني تحت راية هذا الاتحاد عزتنا ونبني تحت راية هذا الاتحاد مجدنا ونقيم تحت راية هذا الاتحاد المجتمع  الذي نتمناه والمجتمع الذي نعمل من أجله المجتمع الاشتراكي الديموقراطي التعاوني .
وقد وصل حد هذه الرؤية المرحلية لمفهوم الديموقراطية عند جمال عبد الناصر انه في حديث له مع الصحفي الهندي كرانجيا يوم 10 مارس 1957 عبر عن احتمال قيام احزاب بعد مرحلة الجبهة التي يمثلها الاتحاد القومي . قال : ” انني أريد قبل كل شيء أن اوفر للشعب وخاصة الفلاح والعامل حرية اجتماعية واقتصادية لان الديموقراطية السياسية دون هذه الاحتياجات الجوهرية لن تؤدي الا الى التضليل وقد اعد دستور 16 يناير سنة 1956 ووافق الشعب عليه في استفتاء عام في يونيو الماضي وهذا الدستور قائم على اساس جبهة متحدة تمثل الوحدة الوطنية التي كانت ضرورية لسلامة الثورة وكنا نستعد لافتتاح البرلمان في نوفمبر الماضي فأجلت أزمة القناة والحرب خططنا وسينفذ الدستور وينتخب البرلمان حينما تعود الاوضاع الطبيعية.. واستطرد الرئيس فأعرب عن ثقته أن الزعماء الوطنيين المخلصين سينتخبون وان البرلمان ستقوم فيه تكتلات ومجموعات وربما تكون فيه معارضة في المدى الطبيعي للاحداث كما تبرز بعد ذلك طبعا قوى سياسية جديدة ومن المحتمل أن تكون هناك احزاب .
التنمية الرأسمالية :
12-  نحن نعرف أن الديموقراطية الليبرالية ليست الا الوجه الثاني للعملة التي تحمل على وجهها الاول النظام الرأسمالي . القانون الاساسي في كل منهما واحد وهو المنافسة الحرة . وهما لا ينفصلان . فحيث تقوم الليبرالية سياسيا تقوم  الرأسمالية اقتصاديا والعكس بالعكس . ولما كان المفهوم الليبرالي للديموقراطية عند عبد الناصر يختلط ـ منذ البداية - بمفاهيم شعبية واجتماعية بحيث ان غلبة المفهوم .  الليبرالي للديموقراطية قد لا تكون حاسمة او محسومة خاصة في الخطب التي كان يرتجلها عادة فنعتقد أن الاقتراب من مفهومه للديموقراطية عن طريق مفهومه للنظام الاقتصادي ـ في تلك المرحلة- قد يكون اكثر وثوقا . ويساعدنا على هذا الاقتراب أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كان مدركا ادراكا عميقا اهمية مشكلة التخلف الاقتصادي في مصر ومهتما اهتماما بالغا، فكرا وممارسة، بحلها. وهذا واضح تماما من النص السابق الذي نشره الصحفي كارنجيا والذي يقول فيه الرئيس : ” انني اريد قبل كل شيء ان اوفر للشعب وخامة الفلاح والعامل حرية اجتماعية واقتصادية “.. وقوله يوم أول اغسطس 1953 : ” لقد بدأنا بالقضاء على الاقطاع  حتى نضمن للفلاحين حقوقهم ونحن نسعى لزيادة الانتاج حتى يستطيع ابناءنا في الستقبل ان يعيشوا حياة اسعد من التي عشناها “. وقوله يوم 28 مارس 1955 : ” ولما كانت الديموقراطية تقضي بأن الدولة مسؤولة عن الوطن والمجموع بدأنا في دراسة المشكلة وقابلتنا في سبيل ذلك مشاكل منها مشكلة التخطيط وكيفية التخطيط فبحثنا ووجدنا ان هذه العملية تستغرق وقتا طويلا جدا وانتهينا من اعداد مشروع السنوات الخمس الاولى وستبدأ السنوات الخمس الثانية فوجدنا أن هذا التوجيه يحتاج الى دراسة واحصاءات فبدأنا بتنمية الانتاج القومي وبدأنا في المشروعات التي قيل انها غير مجدية ومستحيلة وبدأ مجلس الانتاج في توفير النقد الاجنبي والدخل القومي يصل الى 700 مليون جئيه 700 نستورد بها بحوالى 400 مليون جنيه من الخارج ” . وقوله يوم 4 اغسطس 1959 : ” والوطن لازم نبنيه على التعاون وعلى المحبة بين الذين وجدوا الفرصة والذين لم يجدوا الفرصة كل واحد وجد الفرصة يشعر ان عليه مسؤولية تجاه هؤلاء الذين لم يجدوا الفرصة ليصلوا الى ما وصلنا اليه.. نطور مجتمعنا ونعيش في مجتمع سعيد فعلا لان المجتمع لا يمكن أن يكون سعيدا اذا كانت اقليته تشعر بالسعادة واغلبيته تشعر بعبء الحياة وصعوبة الحياة .
13-  بدا اذن انتباه جمال عبد الناصر الى ضرورة التنمية الاقتصادية منذ بداية الثورة. ولكنه حين اختار اسلوب التنمية اختار الاسلوب الرأسمالي . وبدأت منذ 20 يوليو 1952 حتى 20 يوليو  1961 سلسلة متتابعة من التشريعات بالقرارات كانت كلها تستهدف منح تسهيلات وتشجيعات ودعم مالي وقانونى للرأسمالية الاجنبية والمصرية بقصد جذبها الى الوفاء بمتطلبات التنمية الاقتصادية . ليس اقل تلك التشريعات القانون رقم 156 لسنة 1953 الذي منح رؤوس الاموال الاجنبية تسهيلات كبيرة ، ولا القانون رقم 26 لسنة 1954 الخاص بالشركات والذي صدر خصيصا لتشجيع رؤوس الاموال المصرية، بالاضافة الى الدعم المالي الذي كانت تقدمه الثورة للرأسماليين في صورة ضمان مؤسساتها فيما تعقد من قروض . وفي عام 1956 على أثر العدوان الثلاثي، قررت الثورة تمصير المؤسسات الاجنبية للدول المعتدية ثم البلجيك والاوستراليين واليونانيين وبذلك حررت الرأسمال المصري من السيطرة أو المنافسة الاجنبية وعولت عليه كثيرا في شأن التنمية بل أن الرئيس جمال عبد الناصر تولى الدفاع عن دور الرأسمالية في التنمية في خطب علنية عام 1957. ففي خطبة مطولة القيت في الاسكندرية يوم 26 يوليو 1957. قال : ” ومعركة الانتخابات ظهرت فيها بعض الاتجاهات كلنا لابد أن نعرف ما هي الاتجاهات وما هي مصلحتها، ظهر اتجاه يميني يشكك في عملية التمصير وكان يقول اننا نحن المصريين لن نستطيع أن نقوم باقتصادنا بأنفسنا ولا نقدر ابدا ان نمضي في طريقنا الا معتمدين على الاجانب واثبتت الايام ان هذا الاتجاه خاطىء لاننا كمصريين عندنا القدرة أن نعمل اي  شيء استطعنا ان ندير قناة السويس و نسير فيها الملاحة وكانوا يقولون انه لا يمكن للمصريين ان يديروا قناة السويس . واستطعنا ان ندير الاقتصاد والبنوك والشركات الممصرة ولكن الفرق بين اليوم وبين ما مضى أن الاوامر في الماضي كانت تأتي من الخارج واليوم تسير مع الثورة واهداف مصر لمصلحتك ومصلحة اخيك، لمصلحة هذا الشعب كمجموعة طبعا الذين كانوا ينادون بهذه الاتجاهات اليمينية لعلهم كانوا يدافعون عن مصالحهم الثسخصية لانهم كانوا يستفيدون دائما من هذه المؤسسات . كانت هذه المؤسسات تعطيهم مكانات لاجل ان تكسب تأييدهم . وظهرت في اثناء المعركة اتجاهات يسارية ظهرت اتجاهات من اجل تحديد الملكية وتحديد الارض مرة ثانية ومن اجل الاستيلاء على رأس المال الوطني وبعض الصناعات المصرية وأنا غير موافق على هذه الاتجاهات لاننا كثورة اجتماعية وكثورة سياسية لابد أن تكون ملكية الشعب كله متناسقة .. اليوم حددنا الملكية بـ 300 فدان تظهر اتجاهات لتحديد الملكية بـ 150 فدانا بدلا من أن ننادي بهذه الاتجاهات ننادي بزيادة الارض المزروعة اننا في تحديد الملكية كنا نقضي على الاقطاع وكان هدفنا من القضاء على الاقطاع تحرير الفرد وكان هدفنا من تحرير الفرد حياة ديموقراطية ، الفرد يشعر أن عيشته سليمة ويشعر بأنه مطمئن على مستقبله واعتقد أن هذه الانتخابات اثبتت لكم ان كل فرد كان مطمئنا على مستقبله كل واحد دخل واعطى صوته بحرية وطبق الورقة ووضعها في الصندوق بحرص ولم يهدده احد في حريته ولا في رزقه . اثبتت هذه الانتخابات ان الشعب يستطيع ان ينتخب من يريد بدون النظر الى الفوارق وبدون النظر الى الطبقات “. ” طبعا رأس المال الوطني اردنا ان نحافظ عليه لانه خاص بي وبك وبكل واحد عنده قرش في هذا البلد. هدفنا هو تنمية رأس المال الوطني ، ولكنا نتبع سياسة رأس المال الموجه، رأس المال كما قال الدستور يستخدم في خدمة الشعب ولا يستخدم في اغراض تضر بمصالح الشعب ولكن الاتجاهات لا تتمشى مع أهدافنا وقد قلنا دائما اننا نهدف الى اقامة مجتمع تعاوني تتعاون فيه جميع الطبقات كل طبقة تعمل على أن ترفع مستواها وتعمل على ان تكون لها حقوقها وفي نفس الوقت تقوم بواجباتها . هذه الثورة لن تقضي على الانتهازية الا اذا قام فيها مجتمع تعاوني يتعاون فيه العامل مع صاحب العمل ويتعاون الفلاح في أرضه مع اخيه تقوم جمعيات تعاونية للفلاحين من أجل أن يقدروا ان يقوموا بعملهم ، كل واحد يبحث عن مصلحه نفسه وفي نفس الوقت يبحث عن مصلحة اخيه هذا هو السبيل ايها الاخوة وهو الهدف ، حياة ديموقراطية سليمة وهو الهدف السادس من اهداف الثورة  .
 ”وهذا هو السبب الذي من أجله اقمنا الاتحاد القومي وقلنا ان المواطنين جميعا يكونون الاتحاد القومى من اجل بناء هذا الوطن اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا لقد مرت بنا خمس سنين الى الان ونحن نحتاج الى تدعيم لنقضي على الانتهازية وننتهي الى اقامة الحياة الديموقراطية السليمة.. “
وفي ختام ذلك العام القى في المرتمر التعاوني المنعقد فى جامعة القاهرة يوم 5 ديسمبر 1957 خطابا قال فيه ” يتضح من هذا كله اننا كدولة نهدف الى القضاء على الاستغلال والقضاء على الفردية والانتهازية ولكننا نسعى لاقامة رأسمالية الدولة، الدولة تشترك مع الشعب ونعتبر ان لها الولاية وهذه الولاية تضعها موضع حماية مصالح صغار الرأسماليين وصغار المدخرين مع الرأسماليين الاخرين . ولا نترك صغار المدخرين حتى يقعوا في ايدي المستغلين وحتى يستغلوا او يستخدموا لتحقيق مصالح خاصة لقلة معينه او لفئة من الناس .. لكن في نفس الوقت نحن لا نريد أن تكون رأسمالية الدولة بل نعتبر ان رأس المال الوطني ضرورة لازمة في هذا الوقت من أجل تطور الاقتصاد القومي ولكنا يجب ان نلاحظ دائما ان رأس المال هذا لا يتحكم في الحكم ولا يسيطر على الحكم من أجل استغلال الاغلبية العظمى لهذا الشعب “  .
وفي نفس الخطاب عقد مقارنة مثيرة بين موقفه من الاقطاع وموقفه من الرأسمالية ولخص - تقريبا - رؤيته لعلاقة كل منهما بالديموقراطية. قال : ” وكيف نطبق ؟ . طبقناه في القضاء على الاقطاع .. لقد بدأنا الاصلاح الزراعي للقضاء على الاقطاع وكان هدفنا ايضا اقامة مجتمع ديموقراطى اشتراكي تعاوني ولم يكن هدفنا ابدا ان نقضي على الملكية . الدستور يقول ان الملكية الخاصة مصونة ولكن كان هدفنا ان نحول اجراء الارض إلى ملاك : الناس الذين اشتغلوا في هذه الارض مدة طويلة واباؤهم واجدادهم اشتغلوا فيها كذلك كنا نهدف الى تحويل هؤلاء الاجراء الى ملاك وبهذا نستطيع ان نقيم عدالة اجتماعية ونقرب الفوارق بين الطبقات .. هذه كانت طريقتنا في معالجة الاقطاع .. لم نكن نهدف الى تحويل ملاك الارض الى اجراء ولكنا كنا نهدف الى تحويل الاجراء الى ملاك .. وبهذا يكون هناك مجتمع اشتراكي ديموقراطي تعاوني .. ولما تدخلت الدولة في الصناعة لم تكن أبدا ترى أن تكون الرأسمالي الوحيد … كما قلت لكم .. اننا نعتبر ان الرأسمالية الوطنية ضرورة لازمة لتقويم اقتصادنا وللتنمية وللوصول الى تحقيق الاستقلال الاقتصادي . ولكن الدولة كانت تدخل لانها تعتبر ان لها الولاية وانها مسؤولة عن حماية الغالبية العظمى من ابناء الشعب ضد استغلال عدد معين وضد الاستغلال الاقتصادي الذي كان مسيطرا علينا قبل ذلك وضد الاستغلال الصناعي الاجتماعي الذي كان مسيطرا علينا في الماضى . تدخلت الدولة في الصناعة لا لتكون هي الرأسمالى الوحيد ولكن لتقضي على الاستغلال ولتعطي الفرصة لكل مواطن مدخر ليشترك في الصناعة وهو مطمئن الى أن أمواله هذه في أيد أمينة والى انه لن يكون هناك استغلال اقتصادي بأية طريقة من الطرق وبأية وسيلة من الوسائل وكان الغرض هو عدم تمكين رأس المال لان يسيطر على الحكم مرة اخرى ويفسده كما سيطر عليه وافسده في الماضي  .  هل الهدف هو القضاء على الشخصية الفردية ؟ عندما نقول اننا نريد أن نقض على الفردية الانتهازية شيء وعندما نقول اننا نريد ان نقضي على الفردية شيء اخر. لم نقل اننا نريد القضاء على الفردية اننا نؤمن بالفرد وبحرية الفرد وشخصية الفرد وحقه في العمل وحقه في الحركة ما دام هذا يتمشى مع الدستور و مصالح الشعب ولكن لا نؤمن ابدا بالفردية الانتهازية او الفردية المستغلة والنظام الاشتراكي الديموقراطي التعاونى يعمل على الحد من الفردية الانتهازية وتشجيع الفردية الوطنية التي تتعاون من اجل خير الشعب ومن اجل مصلحة المجتمع   .
 14- ان استعمال الرئيس عبد الناصر لتعبير الفرد والفردية وحق الفرد في العمل وحقه في الحركة مؤشر لا يخطىء على المفهوم الليبرالي للتنمية الاقتصادية . وبالتالي يكمل هذا المؤشر دلالة ما أوردناه من قبل كمؤثرات على المفهوم الليبرالي للديموقراطية. وفيما بعد سيهاجم الرئيس عبد الناصر نفسه هذه المفاهيم حين يكشف الخطأ الكامن فيها. يهاجمه باسلوب يدخل في نطاقالنقد الذاتي ” كما سنرى  .
النكوص :
15-  قلنا من قبل ان جمال عبد الناصر كان يعطى التجربة افكاره ثم يستردها اكثر نماء ونضجا ليعيد ردها الى ساحة التجربة . وقد كان من الممكن ان نتوقع مصادفة مرحلة تنمية رأسمالية في مصر توضع فيها افكاره السابقة موضع التنفيذ. ولكن الواقع أن تلك التجربة لم تتم لان الرأسمالية المصرية التي كانت تشغل موقعا ايجابيا في فكر عبد الناصر خذلته ووقفت موقفا سلبيا من التجربة ، اي حالت حتى دون تنفيذ فكر قائد المرحلة. ولكن هذا النكوص كان أخصب تجارب عبد الناصر واكثرها تطويرا لافكاره. ومع أن النكوص كان في المـجال الاقتصادي فان جمال عبد الناصر لم يلبث ان أدرك الموقف على ابعاده جميعا وخاصة ابعاده السياسية . فلم يتخذ موقفا اكثر تقدما بالنسبة للتنمية الاقتصادية فقط بل أعاد النظر في موقفه الفكري من الديموقراطية مبدأ ونظاما .  وبينما كان الرأسماليون ينكصون على اعقابهم تاركين الاقتصاد الوطني عاجزا عن التقدم ويحتمون في الوقت ذاته بالاتحاد القومي ، واجههم عبد الناصر في الساحتين الاقتصادية والسياسية وكانت تلك هى أول قطيعة بينه وبين الليبرالية سياسة واقتصادا.
خلاصة قصة النكوص كما يرويها الدكتور اسماعيل صبري عبد الله في كتابهكتابات سياسية ” انه : ” منذ 1955 بدأت الدولة في انشاء اجهزة التخطيط وبالذات ” لجنة التخطيط القومي “. ثم تلا ذلك انشاء منصب وزير دولة للتخطيط . واخذت هذه الاجهزة في أجراء الابحاث والدراسات والاعداد للتخطيط الشامل وفي سنه 1959 بدا انه من الضروري ومن الممكن البدء فيه . وفي اغسطس 1959 صدر قرار رئيس الجمهورية باعتماد الخطة العامة للدولة للسنوات الخمس 1959 ـ 1960 ـ 1964 ـ  1965كمرحلة اولى في خطة عشرية تستهدف مضاعفة الدخل القومي عن طريق تنمية مناسبة في جميع القطاعات مع عناية خاصة للتصنيع  .
 ” ولكن ما كادت الخطة الخمسية الاولى تأخذ طريقها الى التنفيذ حتى اتضحت بعض الامور الهامة التي استخلصت منها القيادة الثورية انه لا يمكن تحقيق اهداف التنمية بدون تغيير عميق في الهيكل الاقتصادي المصري وفي العلاقات الاجتماعية السائدة فيه . فقد افسحت الخطة الخمسية الاولى في الاصل مكانا رحيبا للقطاع الخاص وعولت عليه في تنفيذ جزء هام من مشروعاتها مبقية للقطاع العام عبء المشروعات الضخمة قليلة الربح المباشر ( السد العالي ، استصلاح الاراضي ، التعدين والبترول .. الخ ) والحجم الذي يمكنه من أن يلعب دوره في توجيه اقتصاد قومى عماده القطاع الخاص . ولكن الرأسمالية الكبيرة احجمت عن تنفيذ ما ورد بالخطة وأخذت منها موقفا سلبيا وعملت على حجب مواردها الضخمة في تمويل التنمية بل انه يمكن ان نقول أن موقف الرأسمالية الكبيرة من التنمية قد زاد سوءا عما قبل . فاجراءات التمصير ونمو القطاع العام  حملت اجزاء منها على اهمال التجديدات العادية ناهيك عن التوسع وتمويل المشروعات الجديدة ، (صفحة327)  .
ونلاحظ في هذا النص ان مكان القيادة في الخطة الخمسية الاولى كان محجوزا للقطاع الخاص وليس للقطاع العام ، وهو ما يتسق مع ما أوردناه من قبل في بيان الرؤية الرأسمالية للتنمية الاقتصادية التى كانت تسود فكر عبد الناصر الى ذلك الحين . وفي ذلك يقول عبد الناصر يوم 22 يوليو 1959: ”   طبعا في هذا أرى أن راس المال الخاص اعطي له الحرية وراس المال العام الذي هو قطاع الدولة يدخل لموازنة رأس المال الخاص ولمنعه من السيطرة على الحكم في نفس الوقت ، الدولة لها ولاية ومسؤولة انا احمي الصناعة ومنع استيراد المصنوعات الخارجية اذن لازم  احمي المستهلك واعرض واوجد ربحا لصاحب رأس المال ثم احدد ربح التاجر الذي يوزع وبهذا الدولة بدخل فيها اساهم فيها بالعمل في هذا الموضوع وفي الخطة الجاية الدولة داخلة في مشروعات الانتاج ومشروعات التنمية بحوالي 70% واكثر من 70% من الاموال اللازمة للاستثمار ستكون قطاعا عاما وهذا طبعا موضوع ليس بالسهل لان الناس عندما يشتغلون في القطاع العام يشتغلون في شركات الحكومة نريد رقابة لازم تحدث انحرافات واحد طلع ووجد أمامه الفرصة عايز طبعا يعمل له قرشين بسرعة أو يحقق لنفسه دخلا كبيرا او يرفع ماهيته طبعا لا يمكن أن نتغلب على هذه النوازع البشرية ولكن السبيل الوحيد هو الرقابة بالنسبة للصناعة وبالنسبة للتجارة .
ويقول في المحلة الكبرى يوم 8 اغسطس 1959 : ” هذا هو السبيل لتحقيق الاشتراكية الديموقراطية التعاونية في الصناعة مشاركة الحكومة ورأس المال الخاص سويا او كل على حدة لوضع الخطة الصناعية موضع التنفيذ ، البدء بالصناعات الثقيلة والعمل على التوسع في الصناعات الخفيفة وفي نفس الوقت البدء في الصناعة في جميع فروع الصناعة المختلفة وبهذا نكون فعلا حققنا ما نتمناه ونكون قد عملنا على القضاء على الاحتكار وعلى سيطرة راس المال على الحكم .
فلما تحقق عبد الناصر من نكوص الراسماليين عن واجبهم الوطنى كما كان يتصوره بدأ يواجه الموقف جزئيا فاصدر في عام 1960 قرارا بتأميم بنكي مصر والاهلي وفي يوليو 1961 بدات سلسلة قواعد التحول الإشتراكي ولكن التجربة كانت ذات تأثر اكثر عمقا في تفكيره .. قال في خطابه الموجه الى الشعب يوم 16 اكتوبر 1961: ” لقد قضيت الايام الاخيرة كلها افكر وكنت بمشاعري مع شعبنا العظيم في كل مكان في القرى وفي المصانع في الجامعات وفي المعامل في المواقع الامامية في خط النار المواجه للعدو مع جنودنا وفي البيوت الصغيرة المضيئة بالامل في مستقبل افضل ، كنت مع هؤلاء جميعا مع الفلاحين والعمال والمثقفين والضباط والجنود احاول أن اتحسس مشاعرهم وان اتفاعل بفكري مع فكرهم . كانت اصابعي على نبض هذه الامة صانعة الحضارة صانعة التاريخ صانعة المستقبل . وكانت اذناي على دقات قلبها الذي نبض دائما بالحق والخير والسلام . كنت أريد ان يكون اختياري صدى لاختيارها وكنت أريد ان يكون موقفي تعبيرا عن ضميرها واقول لكم الان - ايها المواطنون لقد اخترت باسم الله ، باسم الامة ، باسم امالها، باسم مثلها الاعلى باسم كل المعاني التي حاربتها باسم هذا كله كان قراري وكان اختياري : أن طريق الثورة هو طريقنا . ان الاندفاع بكل طاقة الى العمل الثوري هو المفتاح الوحيد لكل مطالب نضالها الشعبي وهو الوفاء الامين بكل احتياجات جماهيرنا المؤمنة المصممة على الحرية بكل صورها الاجتماعية و السياسية .
وكانت تلك الخطبة مقدمة لاصدار الميثاق الذي بلور فيه افكاره عن الديموقراطية الاشتراكية على أن كثيرا من أحكام الميثاق كان قد تنفذ في الواتع الاقتصادي منذ يوليو  1961 .
النقد و النقد الذاتي  :
16-  بدأ عبد الناصر نقد التجربة والافكار التي مهدت لها منذ 22 يوليو 1959، اي في ذات التاريخ الذي كانت الخطة الخمسية الاولى جاهزة فيه للتنفيذ ونكصت فيه الرأسمالية عن القيام بدورها . وامتد نقده للتجربة على جميع ابعادها كما قلنا ، فكرا وممارسة اقتصادا وسياسة . ويفصح ذلك النقد عن التطور الذي انتقل بعبد الناصر من مرحلة الديموقراطية الليبرالية الى الديموقراطية الاشتراكية . وفيما يلي نورد نماذج من خطبه ، باسهاب لابد منه ، لان تلك كانت فترة التحول العظيم في حياة القائد وحياة الشعب معا .
قال في الاحتفال بالعيد السابع للثورة يوم 22 يوليو 1959 : ” كلنا نعرف وكلنا قاسينا من هذا وسيقابلنا كذلك في الاتحاد القومى انتهازية ولكن علينا وعليكم انتم الواجب ان تطهروا الاتحاد القومي من الانتهازيين وواجب الرقابة .. الاتحاد القومي في معناه وفي انتخاباته كان عبارة عن تمثيل لهذا الشعب . الاتحاد القومى في نتيجته كان عبارة عن تمثيل للشعب فيه المثقفون وفيه العمال وفيه الفلاحون وفيه الموظفون وفيه الذين في المعاشات وفيه كل حاجة بيمثلنا كلنا .. وكما قلت ان الاتحاد القومي هذا هو عبارة عن الوسيلة التي بواسطتها نريد أن يحقق المجتمع الا شتراكي الديموقراطي التعاوني والذي بواسطتها نقدر أن نحمي اهدافنا في اقامة هذا المجتمع وسنستطيع ان نحقق تطورنا بدون حرب اهلية وبدون مذابح ولا تصبح حرب طبقات او حقد طبقات بالمحبة او بالاخوة الى اخر هذا الكلام .
وقال في خطابه الى عمال المصانع في بور سعيد يوم 23 ديسمبر 1960 : ” ليس الغرض ان احنا نكون في الاتحاد القومي ، ان احنا نتعين في مجالس المحافظات او نتعين في المنصب الفلانى . دا دليل على أن فيه ناس لا زالت رواسب الماضي متعلقة بيهم . في الاتحاد القومي أو في الحكومة أو في كل منصب من المناصب العامة ، كل واحد فينا بيادي دوره في الخدمة العامة من اجل بناء مجتمع ترفرف عليه الرفاهية والشخص اللي يؤمن بأن عليه دور يؤديه .. بيقدر يأديه في اي مكان وفي اي منصب .. اما الشخص اللي بيعتقد انه ليست هناك وسيلة أو ليس هذا الا سبيل ، بحيث انه يتنطط من حتة لحتة يبقى بيفكر في نفسه وبينسى ان هو عضو في المجتمع وعليه ان يعمل من اجل رفاهية هذا المـجتمع .. وده امل الشعب طبعا في الاتحاد القومي وامال الشعب في الحكم المحلي لان الشعب اللي انتخب الاتحاد القومي واللي أيد فكرة الحكم المحلي واللي أيد الاتحاد القومي و عمل على تدعيمه واقامته يؤيده  لاسباب أنه بيعتبر ان اماله ستحقق عن هذا الطريق .
وقال في 21 فبراير 1961 : ” قلنا سنضاعف الدخل القومي في عشر سنوات . قلنا سنقيم مصانع ومسنصلح الارض سوف نخلق لكل واحد عمـلا شريفا ونخلق لكل واحد فرصة بحيث انه يزيد دخله. ولكن هل أرضى هذا طبقة المستغلين وطبقة الانتهازيين . هل يرضى ان البلد دي تكون لكل ابنائها وكل واحد فيها ياخذ الفرصة وكل واحد فيها يجد العمل الشريف وكل واحد فيها يكون سيد نفسه طبعا لا ترضى طبقة المستغلين الا أن تستغل ولا ترضى طبقة الانتهازيين الا أن تجد الفرصة لتنتهزها لمصلحتها .
وقال في الاسكندرية يوم 26 يوليو 1961 : ” قلنا نقضي على الاقطاع ، هل قضينا على الاقطاع ؟ الاسرة التى بقي لها 200 فدان و 50 لكل ولد من اولادهم كتلوا هذه الارض وانا اعرف مناطق فيها 3000 فدان ملكية لعيلة واحدة ولا زالوا يعتبرون انفسهم أسياد البلد كما كانوا قبل الثورة ولا زالوا ينظرون الى الفلاحين كعبيد . هل نقبل هذا في عهد الثورة ؟.. هل تبقى هناك ثورة وهذا الكلام مستمر ؟ لتكون هناك ثورة تسير في الطريق السياسي وتسير في الطريق الاجتماعى لتحقق لهذا البلد كل ما تصبو اليه من امال لنقف ونقول الثورة انتهت وخلصت ونحن سرنا في الناحية السياسية فقط اما الثورة الاجتماعية لا . يقولون لنا ان هذا يؤثر على كفاية الانتاج وكفاية التنمية- واتركوا ما فات كما هو- لا يمكن كيف تكون هناك عدالة ؟.. كيف تكون هناك مساواة ؟.. كيف تكون هناك حرية ؟ هل الحرية ممكنة أو مستطاعة اذا كانت الاموال في يد 5 % من الناس والباقي محرومين؟ هل يمكن ان تكون هناك مساواة أو تكون هناك عدالة أو تكون هناك ديموقراطية اذا كان هتاك 95% من الشعب يشتغلون عند 5% من الشعب ؟ طبعا لا يمكن أبدا “  .
وقال في خطابه الى الشعب يوم 16 اكتوبر 1961 : ” لقد وقعنا ضحية وهم خطير قادتنا اليه ثقة متزايدة بالنفس وبالغير. لقد كنا دائما نرفض المصالحة مع الاستعمار ولكنا وقعنا في خطأ المصالحة مع الرجعية لقد تصورنا انه مهما كان من خلاف بيننا وبين العناصر الرجعية فانهم ابناء نفس الوطن وشركاء نفس المصير ولكن التجربة اثبتت لنا خطأ ما كنا نتوهمه اثبتت التجربة ان الرجعية وهي من ركائز الاستعمار لا تتورع عن الارتكاز عليه بدورها لتسلب النضال الشعبي تراثه الاجتماعي . اثبتت التجربة أن الرجعية على استعداد للتحالف مع الاستعمار ذاته لتستعيد مراكزها الممتازة التي تتمكن بها من مباشرة استغلالها حتى ولو ادى ذلك الى ان تمكن له من التحكم في مقدرات الشعوب التي تنتمي اليها. ولقد غير الاستعمار طريقة تسلله الى أرضنا في حين اننا لم نغير طريقة مواجهتنا له. وكنا وما نزال نقاوم احلافه العسكرية وقواعده بينما كان هو يتوارى وراء الرجعية وفي قصورها العالية المشيدة من استغلال الجماهير .
وقال في نفس الخطاب ” ويتصل بهذا الوهم وهو تصور امكان المصالحة مع الرجعية على أسس وطنية ذلك اننا في الوقت الذي اعلنا فيه ايماننا بامكانية ازالة التناقضات الطبقية سلميا داخل اطار من الوحدة الوطنية كانت الرجعية تمشي في طريق اخر معاكس ، لم تكن القوى الرجعية بمثل طيبة الجماهير وسماحتها ونبلها ولقد رأينا في سوريا كيف تكتلت الرأسمالية والاقطاع والانتهازية مع الاستعمار للقضاء على مكاسب الجماهير ولضرب الثورة الاشتراكية ولاسترداد جميع امتيازاتها ولو بالقوة المسلحة ولو باراقة الدماء .
وقال في نفس الخطاب ” لقد وقعنا في خطهأ كبيرلا يقل اثرا عن الوهم الخطر الذي نسينا انفمسنا فيه هذا الخطاً هو عدم كفاية التنظيم الشعبى . في هذا الوقت كله لم تشعر الرجعية بذرة من العرفان تجاه هذه الحرية التي تركت لها من غير استحقاق وانما العكس كان موقفها فلقد استعملت هذه الحرية لتضرب الشعب ولتخرب ولتدمر ولتنقلب على اهدافه وخططه واحلامه وتشعل فيها النار جميعا لا تهتم ولا تبالى .. وكان خطؤنا اننا فتحنا لها الطريق الى الاتحاد القومي تمكنت من شل فاعلياته الثورية وحولته الى مجرد واجهة تنظيمية لا تحركها قوى الجماهير ومطالبهما الحقيقية .
وقار يوم 25 نوفمبر 1961 : ” واضح كل الوضوح ان الرجعية اقلمت نفسها والرجعية مشيت في الاتحاد القومى وبعدين مابقيناش نقول ده رجعي .. كئا بنقول والله راجل طيب وماشي . العملية مش فلان رجل طيب لان هو في العملية دي بيستغل مثلا عشرة الاف جنيه ويعمل غدا ويوم الجمعة يعمل فول نابت وشوية عيش بخمسة جنيه ويلم الناس وكل الناس قولوا ان فلان الفلاني ده راجل طيب . يعني العملية هي استغلال وتغطية للاستغلال . او يدبح دبيحة كل شهر أو شهرين ويجيب الناس اللي هو واخد فلوسهم وواخد عرق جبينهم ويوكلهم اكلة ويقولوا الله الراجل ده طيب دبح لنا دبيحة العملية مش عملية سنة ولا عملية صدقة بأي حال من الاحوال العملية عملية حقوق وعملية واجبات . والله بكل أسف احنا برضه فكرنا في هذه الطريقة وانضحك علينا تمام زي ما انضحك على الفلاحين اللى بيدبحوا لهم الدبايح كل جمعة وبيغدوهم أو بيعشوهم وقلنا والله فلان ده راجل طيب وفلان ده راجل فيه شيء لله .
ثم قال عن السنين القليلة التي سبقت : ” بعد سنة 1957 رفع الرجعيون يفط اشتراكيتهم وفعلا هم اصلهم بيكسبوا من زيادة الانتاج واحد رجعي او رأسمالي مستغل او اصلا اقطاعي نلاقيه عامل جوابات ومعلق يفط في الاشتراكية وكلام .. ليه؟ طالما الاشتراكية يفط  بس هم مبسوطين طالما الاشتراكية شعارات بس هم زعلانين ليه ؟  ده هم عايزين كده .. مستعدين يحطوا شعراء في الاشتراكية اد اللي بنقولها عشرين مرة بس ما نحطش الاشتراكية موضع التنفيذ وما نطبقهاش “ . ”  في سنة 1960 انا كنت اشعر ان احنا يمكن الدفع الثوري غير قائم الثورة بدأت تتعثر الرأسمالية المستغلة بدأت تنفذ وبدأت تتهرب وتتسلل الى الصف . والامثلة كانت امامي واضحة وكانت امامي باينة كل الخطر في ايه ؟ في الرأسمالية المستغلة والرجعية توشك ان تجند الوطنية أو تلم الثورة لحسابها الخاص “. ” في سنة 60 انا كنت تملي اتكلم واقول سيطرة رأس المال على الحكم سنة 1960 أنا ابتدأت أشعر بالخوف أو الخطر من سيطرة رأس المال على الحكم زي ما قلت لكم مش معنى سيطرة رأس المال على الحكم انى أجيب اللي بيبقوا الرأسماليين والمليونيرات ويكونوا وزارة بأي حال من الاحوال . لا. ولكن دول كانوا زمان بيروحوا للوزراء ومعروف انهم بتتعمل وزارة ده من شركة فلان وده من شركة علان ابتدأوا دلوقتى ينفذوا الى كبار الموظفين . اللى حصلت مثلا في مديرية التحرير دي تبين فعلا ان فيه خطورة من سيطرة رأس المال على الحكم . لانه كان اللي في الوزارة اصله استاذ أو استاذ مساعد في الجامعة وجه وتولى مسؤولية بهذا الشكل ثم بعد هذا قبل انه يأخذ رشوة وهو بعد ما بقي وكيل وزارة يبقى الواحد ساعات بيشعر بالقلق والخوف على مصيرنا وناص مشيوا بهذا الشكل وبيبقى ده من سيطرة رأس المال على الحكم لان رد انتاج مصانعنا والحصول على انتاج مصانع خارجية رغم اننا في حاجة الى كل مليم من العمله الصعبة ده ايضا بيمثل أن هناك خطر كبير لان رأس المال يريد أن يسيطر على الحكم وينفذ مثس قادر يسيطر من فوق اهو بييجي يسيطر من اي حلقة من الحلقات بيجدها ضعيفة .
وأخيرا قال في نفس الخطاب : ” حاولنا نحل بالوسائل السلمية حاولنا نحل في اطار من الوحدة الوطنية ولكن النية كانت من طرف واحد . لان هناك خلافات اساسية وخلافات جذرية ولقينا الرجعية اما بتستكين حتى تجد الفرصة وبتستكين لغاية الوقت المناسب وبتتزلف وتتملق علشان تحمي فلوسها وبتحمي نفسها ولكن بتستكين للوقت المناسب . ولكن هل نجح الكلام اللى قلناه هل نجح اللي قلناه ان احنا عايزين نحل المتناقضات في داخل اطار من الوحدة الوطنية بالطرق السلمية . لان ما نجحش . من جانبنا تبين طيبة الشعب وتبين عمق هذا بنقول عايزين نعمل محاولة جديدة تبين طيبة الشعب وتبين عمق هذا الشعب الاصيل في الحضارة . ولكن لا يمكن أن يتم عمل النية على اتمامه من جانب واحد، اما الجانب الاخر فهو ينتهز أو ينتظر الفرص المناسبة .
وفي يوم 29 نوفمبر 1961 يعيد تأكيد نقده للتجربة ويشير الى ” نسبية ”  الاوضاع الاقتصادية وبالتالي يعبر عن نقلة فكرية جديرة بالتسجيل من التجريد الى الواقعية الاشتراكيه فيقول : ” وقد رأينا في الاتحاد القومي انه حدث خطأ في التنظيم خطأ تنظيمي وانا قلت هذا الكلام في أول يوم . الخطأ التنظيمي . ان الرجعية والرجعية كلمة نسبية استطاعت ان تتسلل وتبقى لها القيادة في كثير من منظمات الاتحاد القومي . قلنا اننا نريد أن نعطي الفرصة لكل الشعب حتى ينظم نفسه في اطار من الوحدة الوطنية ويحل متناقضاته بالطرق السلمية رحبوا جدا واستطاعوا طبعا لانهم اقوياء ولهم نفوذ استطاعوا أن يصلوا ويتولوا قيادات الاتحاد القومي . أريد ان اقول لكم انه بعد تحديد الملكية بمائة فدان . أنا كنت بالامس اطلع على أسماء العائلات وما يملكون من أرض العائلات التي عندها مائة فدان . توجد عائلة بها 32 شخصا كل واحد يملك مائة فدان وهذا يعني أن الاقطاع موجود طبعا فى القرية وهناك عائلات بها 15 و 18 فردا يملك كل منهم مائة فدان . لا نظن اننا قضينا على الاقطاع بتحديد الملكية بمائة فدان. “
ثم نقد نفسه نقدا ذاتيا شجاعا في 2 يوليو 1962 حين قال : ” ان الفكر الثوري في تلك الفترة وهو يتطلع الى الوحدة الوطنية ويدرك ضرورتها الحيوية داخل الوطن وفي مواجهة الظروف المحيطة به وقع في الخطأ حين توهم أن الطبقة المحتكرة التي كان لابد ان تسلبها الثورة امتيازاتها الاستغلالية يمكن لها أن تقبل الوحدة الوطنية على قوى الشعب صاحبة المصلحة في الثورة . ولقد كان من اثر ذلك ان محاولات التنظيم الشعبي التي جرت في ضباب هذا الوهم  ما حدث في داخلها من عوامل الصدام بين القوى الثورية بالطبيعة والقوى المضادة للثورة بالطبيعة وما اصابها بالشلل واقعدها عن الحركة بل وكاد ان ينحرف في بعض الأحيان عن الاتجاه الثوري الاصيل “  .
الديموقراطية الاشتراكية :
17-  لا تحتاج الفقرات السابقة الى تعليق ففيها نجد عبد الناصر في مرحلة تطور فكري عميق وشامل . ومن خلال حرارة التجربة التي خاضها نجد قيمه الثورية تتألق الى حد مواجهة نفسه. ولا شك في أن عبد الناصر 1961 كان ، وسيبقى في التاريخ اكثر من عبد الناصر 1952. ذلك لان عبد الناصر في السلطة وفي وقت كانت زعامته قد قاربت ان تكون اسطورة ، وكاذت قيادته لمائة مليون عربي واقعا لا يستطيع احد ان يماري فيه ، وكان قد قضى منذ عام 1952 سنوات مجهدة لم تخل سنة فيها من صراع وتخللتها حرب 1956 وهزيمتها العسكرية .. هذا بالاضافة الى معارضة عبد الناصر في ذلك الوقت كانت مثل السباحة صعودا في مساقط الشلالات .. كل تلك العوامل ” الموضوعية ” كانت كفيلة بأن تجنب عبد الناصر مخاطر ثورة جديدة ضد نظامه وضد افكاره ، وتجنح به الى الراحة او اليأس . وهنا تجلت عناصر الثورية ” في جمال عبد الناصر باوضح ما يكون فواجه في عام 1961 ذات ثورة 1952 وقادها مرة اخرى بصلابة نادرة نحو درجة أعلى من مراتب الثورات . وقد كان عبد الناصر مدركا تماما عبء الثورة الجديدة . ولعل النص الذي اوردناه من قبل عن تأملاته قبل ثورة 1961 يكشف عن مصدر الثورية التي كان يتمتع بها عبد الناصر. انه الشعب . اعني الولاء المطلق للشعب والارتباط بالشعب وحده . ”  لقد قضيت الايام الاخيرة كلها افكر في شعبنا العظيم في كل مكان في القرى وفي المصانع وفى الجامعات وفي المعامل وفي المواقع الامامية من خط النار المواجه للعدو ومع جنودنا وفي البيوت الصغيرة المضيئة بالامل في مستقبل افضل “. هكذا قال في 16 اكتوبر 1961 ولم يكن في حاجة الى أن يقول هذا لولا انه كان صادقا فيما يقول . والواقع ان تاريخ عبد الناصر كله يفصح عن فهمه لموقعه .  فلم يكن يعتبر نفسه حاكما للثورة بل ثائرا في الحكم . ولم يتردد ابدا في أن يختار الئور ة في كل وقت شعر فيه بأن الحكم يكاد يطغى عليها .
على أي حال فان عبد الناصر كان يدرك ايضا ان الانتقال من المفهوم الليبرالي للديموقراطية الى المفهوم الاشتراكي ليس نموا فكريا كميا بل هو تطور اسفر عن تغير نوعي في مفهومه للديموقراطية . وهو يعبر عن هذا المعنى تعبيرا صريحا في حوار دار يوم 7 ابريل 1963 خلال مباحثات الوحدة الثلاثية مع العراق وسورية. قال : ” لو كنت سألتنا يوم 23 يوليو ما هى الديموقراطية وما هي الحرية كنا اجبناك على هذا السؤال بس اجابتنا النهاردة تختلف كلية عن اجابتنا يوم 23 يوليو .. وحصل خلاف بيننا بعد 23 يوليو على التفسير وصممنا على التفسير اللي موجود في المبادىء الستة وكان العمل هو اطلاق الحرية البورجو ازية قررنا اقامة الانتخابات في فبراير هذا في 23 يوليو .. وبعدين وجدنا لما جينا نبحث الاصلاح الزراعي اننا حانسلم البرلمان للاقطاعيين اللى هما رافضين الاصلاح الزراعي لانهم هم اللي حينجحوا في البرلمان فغيرنا المفهوم واعلنا فترة انتقالية لمدة 3 سنوات وعملنا دستور 1956  فكان يوم 23 يوليو لنا مفهوم .. النهاردة لنا مفهوم يختلف كلية عن مفهومنا يوم 23 يوليو 52 ولكن هذا التغيير كان نتيجة التطبيق والممارسة .
18-  وكما اننا لسنا في حاجة الى تعليق لبيان كيف انتقل عبد الناصر من المفهوم الليبرالي الى المفهوم الاشتراكى للديموقراطية، فاننا لسنا في حاجة في بيان المفهوم الا شتراكى للديموقراطية كما تبناه عبد الناصر الى فقرات من خطبه . ذلك لانه قد تولى صياغته في الميثاق الذي صدر كوثيقة في 20 يونيو 1962  وان كان عبد الناصر قد وضع بعض احكامه موضع التنفيذ منذ صيف 1961 فنحن ننقله- مجمعا- من الميثاق ذاته.
أولا- ديموقراطية اشتراكية :
ان الديموقراطية هي الحرية السياسية والاشتراكية هي الحرية الاجتماعية ولا يمكن الفصل بين الاثنين انهما جناحا الحرية الحقيقية وبدونهما أو بدون اي منهما لا تستطيع الحرية ان تحلق الى افاق الغد المرتقب ،   ” انه لا معنى للديموقراطية السياسية أو للحرية في صورتها السياسية من غير الديموقراطية الاقتصادية أو الحرية فى صورتها الاجتماعية “. ” ان حق التصويت فقد قيمته حين فقد اتصاله المؤكد بالحق في لقمة العيش . ان حرية التصويت من غير لقمة العيش وضمانا فقدت كل قيمة واصبحت خديعة مضللة للشعب “. ” ان الديمـوقراطية السياسية لا يمكن أن تنفصل عن الديموقراطية الاجتماعية وان المواطن لا تكون له حرية التصويت في الانتخابات الا اذا توافرت له ضمانات ثلاثة: ان يتحرر الانسان من الاستغلال في جميع صوره . ان تكون له الفرصة المتكافئة في نصيب عادل من الثروة الوطنية. أن يتخلص من كل قلق يهدد أمن المستقبل في حياته. بهذه الضمانات الثلاثة يملك المواطن حريته السياسية ويقدر ان يشارك بصوته في تشكيل سلطة الدولة التي يرتضي حكمها   .
ثانيا - تحالف قوى الشعب  :
 (1)” ان الديموقراطية السياسية لا يمكن ان تتحقق في ظل سيطرة طبقة من الطبقات. ان الديموقراطية حتى بمعناها الحرفى هي مسطة الشعب ، سلطة مجموع الشعب وسيادته. والصراع الحتمى والطبيعي بين الطبقات لا يمكن تجاهله وانكاره وانما ينبغي أن يكون حله سلميا في اطار الوحدة الوطنية وعن طريق تذويب الفروق بين الطبقات   .
(2)” ان الرجعية تتصادم في مصالحها مع مصالح مجموع الشعب بحكم احتكارها لثروته ولهذا فإن سلمية الصراغ الطبقي لا يمكن أن تتحقق الا بتجريد الرجعية - أولا وقبل كل شيء - من جميع اسلحتها “ان تحالف الرجعية ورأس المال المستغل يجب ان يسقط. “ 
 (3)” لابد ان ينفسح المجال بعد ذلك ديموقراطيا للتفاعلالديموقراطي بين قوى الشعب العاملة وهي: الفلاحون والعمال والجنود والمثقفون والرأسمالية الوطنية. ان تحالف هذه القوى الممثلة للشعب العامل هى البديل الشرعي لتحالف الاقطاع ورأس المال المستغل وهو القادر على احلال الديموقراطية السليمة محل الديموقراطية الرجعية “. ” ان استبعاد الرجعية يسقط ديكتاتورية الطبقة الواحدة ويفتح الطريق أمام ديموقراطية جميع قوى الشعب الوطنية   .
ثالثا - تنظيم التحالف  :
ان الوحدة الوطنية التي يصنعها تحالف هذه القوى الممثلة للشعب هى التي تستطيع ان تقيم الاتحاد الاشتراكى العربى ليكون السلطة الممثلة للشعب والدافعة لامكانيات الثورة والحارسة على قيم الديموقراطبة السليمة “. ” ان التنظيمات الشعبية السياسية التي تقوم بالانتخاب الحر المباشر لابد ان تتمثل - بحق وبعدل - القوى المكونة للاغلبية وهى القوى التي طال استغلالها والتى هى صاحبة مصلحة عميقة في الثورة كما انها بالطبيعة الوعاء الذي يختزن طاقات ثورية دافعة وعميقة بفعل معاناتها للحرمان . وكل ذلك- فضلا عما فيه من حق وعدل باعتباره تمثيلا للاغلبية - ضمان أكيد لقوى الدفع الثوري ، نابعة من مصادرها الطبيعية الاصيلة . ومن هنا فان الدستور الجديد يجب أن يضمن للفلاحين والعمال نصف مقاعد التنظيمات الشعبية والسياسية على جميع المستويات بما فيها المجالس النيابية باعتبارهم اغلبية الشعب كما انها الاغلبية التى طال حرمانها من صنع مستقبلها وتوجيهه   .
رابعا - قيادة التحالف :
 (1) ” ان الحاجة ماسة الى خلق جهاز سياسي جديد داخل اطار الاتحاد الاشتراكي العربي يجند العناصر الصالحة للقيادة وينظم جهودها ويطور الحوافز الثورية للجماهير ويتحسس احتياجاتها ويساعد على ايجاد الحلول الصحيحة لهذه الاحتياجات .
(2) ” ان جماعية القيادة ليست عاصما من جموح الفرد فحسب. وانما هي تأكيد للديموقراطية على أعلى المستويات .
خامسا - الديموقراطية الشعبية  :
ان سلطة المجالس الشعبية المنتخبة يجب ان تتأكد باستمرار فوق اجهزة الدولة التنفيذية ، فذلك هو الوضع الطبيعى الذي ينظم سيادة الشعب .. كذلك فان الحكم يجب ان ينقل باستمرار وبالحاح سلطة الدولة تدريجيا إلى أيدي السلطات الشعبية .
خلاصة وتعليق :
  19- خلاصة النظرية الديموقراطية التي جاءت في الميثاق هي أن الديموقراطية السليمة تتكون من عنصرين تحرر وممارسة . وان غايتها أن تنقل سلطة الدولة الى السلطة الشعبية .. أما عن التحرر فهو لا يتحقق الا بتحرير الفرد من القهر الاقتصادي والفقر وهذا يعني أن الاشتراكية عنصر اساسي واولي لامكان قيام ديموقراطية سليمة . أو ـ كما قال عبد الناصر - ” هناك اتصال عضوي بين الاشتراكية والديموقراطية حتى ليصدق القول بأن الاشتراكية هي ديموقراطية الاقتصاد كما ان الديموقراطية هي اشتراكية السياسة .
أما عن الممارسة فيجب أولا عزل أو استبعاد اعداء التحرر (الاشتراكية ) اعداء الشعب. ويبقى ” الحرية كل الحرية للشعب “. ولكن الشعب مكون من قوى اجتماعية لها مصلحة مشتركة في الاشتراكية ولكنها تختلف فيما عدا ذلك مصلحة ومقدرة وتفصل فيما بينهما فروق اجتماعية وثقافية. هؤلاء جميعا يجب أن يمارسوا حرياتهم في نطاق موقفهم الموحد من عدوهم المشترك ، اي أن يقيموا فيما بينهم حلفا أو جبهة. أما الفروق بينهم فانها لابد ان تذوب سلميا اي بدون صراع عدائي بين تلك القوى . غير انه نتيجة ظروف تاريخية طال فيها استغلال العمال والفلاحين وتعبيرا عن ظروف واقعية انهم يمثلون اغلبية الشعب، فلابد من ضمان 50% على الاقل من مقاعد المنظمات المنتخبة للعمال والفلاحين. يستوى ان يكونوا عمالا او فلاحين فان المقصود هو تعويض تخلفهم التاريخي واخراجهم من سلبيتهم الموروثة. ولكن لما كان كل تحالف لابد له من قيادة، وكانت الديموقراطية لا تسمح بسيطرة ” طبقة “، فلابد من أن يقود التحالف حزب يتكون من العناصر القيادية بصرف النظر عن انتمائها الى أي من القوى المتحالفة .
لقد أوردنا هذا التلخيص في فقرتين لنفرق بين مضمونيهما وذلك لانهما لا يستويان حجية والزاما . الفقرة الاولى تضمنت المبدأ الديموقراطي الملزم دائما وهو ألا ديموقراطية بدون اشتراكية في مصر وفي كل المجتمعات النامية في هذا العصر، اذ تكون الاشتراكية هى المبدأ الاقتصادي السليم للتنمية وحل مشكلة الفقر بالنسبة لاغلبية الشعب . اما الفقرة الثانية فقد تضمنت اسلوب الممارسة الذي رأى الميثاق انه مناسب للواقع المصري حين اصداره . فالعزل والاستبعاد اسلوب لمواجهة اعداء الثورة الاشتراكية. فهو يقوم على ان ثمة قوى قائمة مناهضة للنظام الاشتراكى . وهو يتسع او يضيق تبعا لنمو او انكماش تلك القوى . وفي عامى 1961 و1962 لم تقابل اجراءات التحول الاشتراكي بمقاومة ظاهرة جدية فاكتفى الميثاق بتجريد الرجعية من اسلحتها عن طريقالقانون ” ( تحديد الملكية - الحراسة - العزل ..) وهذا ليس مبدأ ديموقراطيا ، ذلك لانه يفترض ابتداء ان الاشتراكيين في السلطة حيث يستطيعون تجريد الرجعية من اسلحتها بالوسائل التشريعية، ولا يكون الاشتراكيون في السلطة دائما. كما انه يفترض ان الرجعية لن تقاوم فيكتفي بتجريدها من اسلحتها. ولكن الرجعية قد تقاوم وبضراوة خاصة اذا امتلكت اكثر الاسلحة مقدرة على العنف : السلطة. اي أن اسلوب التعامل مع الرجعية يتوقف في النهاية على موقف الرجعية ذاتها ونوع الاسلحة التى تستعملها. وهذا ليس موقفا مبدئيا . ثم نأتي لفكرة التحالف، وهي ـ ايضا - ليست مبدأ ديموقراطيا، ولكنها اسلوب ديموقراطى تواجه به قوى مختلفة أصلا عدوا مشتركا في معركة مشتركة فتؤجل صراعاتها ، الى أن تنتصر. فهي - دائما - مؤقتة ومرحلية الى ان تنتصر في معركتها المشتركة . وهي دائما - متوقفة - على الالتزام المتبادل بين اطرافها بالتحالف الى حين النصر. فاذا انتهت معركتها عادت الى مواقفها المختلفة، او تحالفت مرة أخرى على هدف مشترك جديد. وان انفض احد اطراف الحلف وحاول انيبلع ” او يصفي او يسير على حلفائه من خلال الجبهة لا بد ان تنفض الجبهة او الحلف . وكل هذه بدهيات يعرفها علم السياسة ويعرف انها تكتيكية او استراتيجية - تبعا لموضوع التحالف - ولكنها ليست مبدئية، بمعنى ان التحالف ليس مقصودا بذاته بل هو مقصود لتحقيق الغاية التي تم التحالف من اجل تحقيقها. عنصر الغاية هذا يجعل الموقف من التحالف مختلفا تبعا للموقف من غايته. فالرجعية قد تتحالف كما يتحالف التقدميون ، كما تتحالف الدول على الدفاع او العدوان . ولما كانت الغاية مجرد نوايا معلنة ، والنوايا لا يعتد بها كثيرا في السياسة، فان الضمان الحقيقي هو ان قيادة التحالف . في معارك التحرر الوطني مثلا، قد يضم التحالف جماعات ومجموعات واحزابا وقوى مختلفة ، وقد يقبل المتطوعون حتى بدون سؤال عن بواعثهم ويكفي ان تكون القيادة- قيادة التحالف- وطنية تحررية . كذلك الامر اذا كان التحالف على غاية الاشتراكية ففى مرحلة معينة قد يضم التحالف قوى كثيرة وقد يكون من بينها صغار الرأسماليين او حتى متوسطوهم اذا كانت المرحلة مرحلة تنمية بالدرجة الاولى، ويبقى الضمان الحقيقي لاستمرار التحالف ونجاحه في ان تكون قيادته للاشتراكيين . ثم نأتى الى ” تذويب الفروق بين الطبقات سلميا “. وهو ايضا ليس مبدأ ديموقراطيا بل هو أسلوب ديموقراطى مناسب لظروف خاصة تتحقق فيها كل شروطه. واول شروطه ان تكون سلطة الدولة في يد الاشتراكيين لانهم وحدهم الذين يستهدفون ” تذويب الفروق بين الطبقات “. وهي حينئذ تتم سلميا حتى بدون نص ، اولا، لانه لا توجد دولة في العالم ايا كان نظامها تقبل تذويب الفروق بين الطبقات بالعنف، ثانيا، لان الوسيلة السلمية لتذويب الفروق بين الطبقات ” سلميا ” هو التشريع وهو ما يعني ان الاشتراكيين في السلطة يستعملون الدولة في تطوير الحياة الاقتصادية والاجتماعية بحيث يؤدي ذلك الى تذويب الفروق بين الطبقات . هذا الشرط لا يتحقق دائما فالرأسماليون مثلايؤمنون ” بان الفروق بين الطبقات امر طبيعى ومفيد ولا يجوز التدخل لاذابتها أو ازالتها . وبالتالي حين بستولي الرأسماليون على الحكم في اية دولة لا يكون ثمة مجال لتذويب الفروق بين الطبقات سلميا. ولقد اعترف صاحب الميثاق بهذا قبل أن يصدر الميثاق بعامين. قال جمال عبد الناصر في 9 يوليو 1960 : ” في محاولة القلة التي لا تملك الاحتفاظ بما تملكه ومحاولة الكثرة التي لا تملك الفرصة المتكافئة لكي تستعيد حقوقها يصبح الصراع الدموي امرا محتما باعتباره الطريق الوحيد الى التغيير “.. ولعل هذا يفسر اختياره الاشتراكية طريقا والتحالف وسيلة اي ليجنب مصر الصراع الدموي المحتومواخيرا فان ضمان 50% للعمال والفلاحين ليس مبدأ ديموقراطيا ولكنه اسلوب ديموقراطى لمعالجة مشكلة التخلف التاريخى الذي أصاب العمال والفلاحين نتيجة لظروف سابقة فحملهم على العزلة والانعزال واخافهم من خوض المعارك السياسية والانتخابية التي لا يتقنون فنونها ولا يطيقون تكلفتها.. وهو ظرف طاريء لا يقيد العمال والفلاحين فيما لو اختاروا لانفسهم ساحة المعارك السياسية ليحصلوا بانفسهم على ما يستحقون  .
هذا رأينا فلعله ان ينفع الذين في حاجة اليه .
 12 يناير 1977 .

         ذهاب الى صفحة عصمت سيف الدولة .