بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 30 يوليو 2014

الموقف القومي في وعي عبد الناصر ..


  الموقف القومي في وعي عبد الناصر  ..







مدخل :




    
ثورة يوليو لم تبدأ قومية ، بل بدأت مصرية ، ولم يخطر ببال عبد الناصر  وهو يعد لثورة 23 يوليو أن يتسع تنظيم الضباط الأحرار لغير المصريين .. ولما قامت الثورة  لم تر في انفصال السودان إلا انه تحرير للسودان .. كان همها الأول تحرير مصر من الاحتلال الانجليزي  ولم يكن الوطن العربي إلا دائرة ثابتة محيطة بالدائرة المصرية ، تتأثر بها وتؤثر فيها . ثم بدأت معارك تحرير مصر بعد اتفاقية الجلاء : هجوم على غزة من فلسطين  المحتلة .. العراق في حلف استعماري يريد أن يضم الاردن ليطوق مصر .. ليبيا السنوسية تمنح الولايات الأمريكية وبريطانيا قواعد عسكرية على حدود مصر الغربية .. ثم انفجر الموقف كله سنة 1956   فتم العدوان الثلاثي لأن عبد الناصر أراد أن يمارس سيادة مصر  على القناة التي هي قطعة منها ، وسمح لنفسه أن يمدّ المساعدة لثورة الجزائر .. في معركة 1956   خاضت مصر الثورة القتال دفاعا عن حريتها ضد قوى اتخذت من الأرض العربية قواعد انطلاق وتموين .. ودخلت الجماهير العربية  على امتداد الوطن العربي كله معركة الدفاع  عن حرية مصر ، فهاجمت ودمرت أنابيب إمداد النفط والقواعد العسكرية ، واشتركت بمتطوعين عنها في صفوف القوات المقاتلة .. في تلك المعركة اكتشف عبد الناصر أن العلاقة بين مصر والأمة العربية ليست علاقة دائرة بدائرة ، بل علاقة الجزء بالكل . وتعلم من الخطأ في تجربة التحرر الإقليمي ، أن الحل الصحيح للحفاظ على حرية مصر  هي حرية الأمة العربية التي تنتمي إليها . وسيظل هذا الموقف ثابتا في تاريخ عبد الناصر الى أن تفقده أمته التي تطوّر خلال الدفاع عنها من قائد معركة تحرير  مصر ، إلى قائد معركة التحرّر العربي  .. ( الناصرية كيف / عصمت سيف الدولة ) 

هكذا تحدث الدكتور عصمت سيف الدولة مبينا كيفية انتفال الثورة من ثورة اقليمية مصرية محدودة الى ثورة قومية تحررية وحدوية اشتراكية من خلال احتكاكها واشتباكها مع الواقع ، سواء الواقع الداخلي في مصر حيث ترتبط أطراف عديدة بجهات معادية ، أو الواقع الإقليمي والدولي الذي عملت فيه كل القوى المعادية للتغيير الحاصل ـ حتى في شكله الإقليمي  ـ على التصدي للثورة وخنقها مبكرا ومحاصرتها ولو كانت مجرد ثورة تحررية مصرية ضد الهيمنة والاحتلال الأجنبي لمصر .. وهكذا كان الدرس الأول والمبكر أيضا الذي تعلمه عبد الناصر في مسرح السياسة والعمل الثوري وهو يقاوم الأحلاف الرجعية والاستعمارية منذ انطلاق الثورة متمثلا في ارتباط مصر الوثيق بمحيطها العربي أساسا الذي هي جزء منه ، مما جعل الثورة وقائدها يتطوران معا من ثورة ذات أهداف إقليمية وتطلعات مصرية محدودة ، الى ثورة قومية شاملة متطوّرة بتطور أفكار القائد الذي كان يخوض معارك متعددة المحاور والساحات داخليا وخارجيا ، فيبدع  الأفكار والمواقف والاساليب المناسبة لمجابهة الواقع الذي كان يتحول تدرجيا الى تجارب حية ساهمت في بناء كل القيم والمبادئ التي ساعدت على إنضاج وبناء المدرسة الناصرية بجميع ثوابتها المعروفة وأولها تحديدا : بعدها القومي على مستوى الفكر والممارسة  ..

وفي هذا الصدد تحديدا نستعرض هذا القول للـزعيم الـراحل جمال عبد الناصر ليحيلنا مباشرة الى جوهـر الموضوع حينما نلمس فيه سرعة الاستجابة لمتطلبات الواقع الذي تحول به الى بطل قومي يخوض معارك الدفاع القومية على امتداد الوطن العربي الكبير :

" ....  إن القومية العربية هي الدّرع الذى يحمي الوطن العربي من مؤامرات الاستعمار ، و هي السلاح الرئيسي الذي مكّـننا من هزيمة العدوان الثلاثي البريطاني - الفرنسي - الصهيوني على مصر  في سنة 56 . هذا العدوان الذي كان يهدف إلى القضاء على القومية العربية ، ولكنه  قوّاها وأشعلها ومكّنها .
إن القومية العربية التي اشتعلت اليوم ، والتي آمن بها كل عربي حر، هي السلاح الذي سنحارب به دائماً العدوان ، وسنحارب به دائماً السيطرة الأجنبية ، وسنحارب به آمال الصهيونية في التوسّع والسيطرة على العرب .
القومية العربية - أيها الإخوة - هي السلاح الرئيسي .. القومية العربية التي تمتد من مراكش إلى بغداد ، هذه هي سلاحنا وهذه هي قوتنا . 
إننا اليوم - أيها الإخوة - أقوى مما كنا ؛ أقوى إيماناً وأقوى عوداً . وإننا اليوم نتـّـجه إلى المستقبل لنثـبّت  دعائم الحرية ، ولنثـبّت دعائم الاستقلال ، ولنعيد الحقوق إلى أصحابها  .. "





من خطاب الزعيم الراحل جمال عبد الناصر في شباب فلسطين والمقاومة الشعبية  بتاريخ 9 / 3 / 1957.    






****

تقديم :

حينما بدأ العدوان الصهيوني الهمجي على غزة بداية شهر جويلية 2014 ، كان منتظرا أن تتخذ كل الانظمة العربية مواقف غير مشرفة مثلما هو معـتاد .. لتكون مواقفها تلك تعبيرا صادقا عن طبيعتها الاقليمية المتعفنة ، وتأكيدا على خياناتها المستمرة للقضايا القومية ودماء الشهداء الذين ماتوا في سبيل تحرير فلسطين منذ الحملات الصليبية الى الآن .. واظهارا للاستكانة والخضوع لأعداء الأمة من الصهاينة وحلفائهم في العواصم الغـربية الذين لا يجدون حرجا في جعل المعـتدي الذي يمتلك جيشا جرارا مدججا بكل أنواع الاسلحة الحديثة : ضحية .. والشعب الأعزل الذي يتعرض للابادة الجماعية : ارهابيا .. والواقع فان الانظمة الـعـربية بسكوتها المتكرر عن جرائم العدو تكون منحازة الى صفه ، لأن في صمتها  تعـبـيـر ضمني للعدو الغادر بأن ما يفعله لا يحرّك لها ساكنا ، ولا يستوجب تصرفا أو قرارا على أساس عدوانيته ، فلا يتطلب أي نوع من أنواع الاحتجاج الفعالة : لا سخطا ولا مقاطعة ولا مساءلة للدول الداعمة ولا استدعاء لسفرائها في الدول العـربية ، ولا دعما للمقاومة ، ولا محاصرة للعدو بكل الأشكال الممكنة في مجلس الأمن ، ولا شكاوي في المحاكم المعدة لجرائم الحرب .. كل ذلك غير وارد وغير مطروح .. لأن الأنظمة ليست في مستوى المسؤولية الوطنية والقومية حتى وان كانت منتخبة كما هو الحال في تونس ومصر .. فالمسألة لم تعد قائمة على شرعية الحكم كما كنا نسمع سابقا .. بل هي خاضعة بالأساس الى وجهة النظر القائلة بأن فاقد الشئ لا يعطيه ..
واذا كان كل ذلك مفهوما ومقبولا لأنه يتناسب مع طبيعة الأنظمة ، فان ردود الفعل المحتشمة للقوى الاقليمية غير الرسمية على امتداد الوطن العربي من أحزاب ليبرالية ، ويسارية ، وأحزاب تقليدية متعددة الاسماء وغير مختلفة الهوية ، تبدو مقبولة ومعقولة ايضا .. لانها تتصرف في الواقع على اساس نفس القاعدة التي تحكم مواقف الأنظمة الاقليمية ، والتي تعـتبـر أن قضية فلسطين هي قضية خاصة بشعب فلسطين ، فلا يجوز  التدخل  في شؤون الفلسطينيين ، وان شعب فلسطين عليه أن يقرر مصيره بنفسه .. أما اذا كان غير قادر على استرداد حقوقه  بحكم ظروفه الصعبة وضعفه وتشرّده ، أو بسبب الحصار المضروب عليه ، أو بسبب قوة العدو ، أو لكل تك الاسباب مجتمعة  ، فما عليه الا ان يقبل بالأمر الواقع ، ويعـتـرف بالعدو  لتنتهي  معاناته .. !!  كل هذه الاحزاب تتصرف على اساس تلك الخلفية الاقليمية .. وهم في أحسن الأحوال يتعاطفون مع الفلسطينيين من منطلق انساني .. وبالتالي فان أقصى ما يستطيعون فعله هو ما يمكن أن يفعله أي انسان في العالم من دعم ومساندة  .. لكنهم حينما يصلون  الى السلطة يتحوّلون الى حكام صامتين مستسلمين لا حول ولا قوة لهم مثل غيرهم من الحكام .. !! ألم نر ذلك من الحكومات المنتخبة  في تونس ومصر ، وهي التي جاءت بعد تغيير ثوري أطاح بالحكام الذين كانوا يوصفون بأنهم  جبناء وعملاء .. !! فماذا نسمي تلك الحكومات اذن ؟؟
ان المسألة بالتأكيد ليست مسألة جبن أو شجاعة ، بل هي مسألة منطلقات فكرية ، ومبدأ وعقيدة نضالية تقوم بالاساس على الاعتقاد بأن فلسطين جزء لا يتجزآ من الوطن العربي ، وأن ما يتعرض له شعب فلسطين منذ بداية الاحتلال الى الآن هو عدوان على الامة العربية بأكملها ، وان مسؤولية رد العدوان بما هو ممكن في أي مكان وبالنسبة لأي مواطن عربي هي مسؤولية قومية أولا وأخيرا ..
وحتى ردود الفعل المحتشمة لقوى الاسلام السياسي بدت معقولة ايضا الى ابعد الحدود ، بعد ان انكشفت طبيعـتها الرجعـية والاقليمية ونواياها الفئوية الضيقة  التي تتصرف على أساسها ، فتجعلها مستعدة لأن تفعل أكثر مما تفعله الشياطين من أجل تحقيق أغراضها .. وهي تدعم تلك التنظيمات الارهابية في سوريا وليبيا واليمن ، وقد أغرقت الأمة  في دوامة من العنف الوحشي ، والمعارك الطاحنة ، بدت فلسطين ـ في المدة الأخيرة ـ في أمس الحاجة اليها .. وقد كان الاخوان المسلمون منذ البداية سباقون للعب هذا الدور ، وهم يقفون غير بعيد ـ بطبيعـتهم ومواقفهم الرجعـية ـ عن أي نظام اقليمي في الوطن العربي ، يقدمون الدعم السياسي والاعلامي والتسهيلات للارهابيين ثم ينكرون ذلك .. أما عن قضية فلسطين التي يتظاهرون بمساندتها خلال العدوان على غزة فهم أول من خانها حينما وقف نواب الاخوان في تونس سدّا منيعا داخل المجلس التأسيسي أمام التصويت على الفصل 127 الذي ينص على تجريم التطبيع مع العدو ، حتى أسقطوه .. !! وحتى مبادرة النظام المصري الحالية التي ينتقدونها ، ودوره في الوساطة ، فانها لا تختلف كثيرا عن مبادرة مرسي ودوره خلال عدوان 2012 ، وما تلك الانتقادات الشديدة في الواقع سوى جزء من تصفية الحساب على خلفية الصراع بينهم وبين النظام الجديد المنقلب على الثورة الثانية في 30 يونيو 2013 ..
كل ذلك  يبدو واضحا ومعقولا بالنظر الى طبيعة القوى ، وخلفياتها ومصالحها .. غير أن  الأمر الغريب فعلا هو وقوف كثير من الشخصيات المعروفة بهويتها الناصرية ، التي لا ترى اختطاف السيسي لثورة الشعب وهو يذهب غير بعيد عن الاخوان أو عن نظام مبارك ، حينما يرتمي بين احضان آل سعود .. !! وقد صاروا يردّدون ما يقوله السيسي بأن دور مصر في هذه المرحلة يقف عند المحافظة على أمنها الداخلي ..!! وهي نظرية مبنية بالأساس على الموقف من حماس كجزء من جماعة الاخوان المسلمين ، ألقت بظلالها  على مواقفهم من العدوان على غزة .. حينما بتنا نسمع تلك التبريرات القائلة بأن ما يحدث  " سببه تصرفات حماس التي تتاجر بقضايا الشعب الفلسطيني " ، وأن " على حماس أن تتحمل تبعات مواقفها تجاه مصر " في إشارة إلى تعاطفها مع الإخوان المسلمين .. وبالتالي فان " على حماس أن تعرف قيمة مصر " ... ثم بدأ التأصيل للمواقف بالقول : " إن مصر لها ما يكفي من المشاكل الداخلية وهي لا تستطيع أن تتحمل أكثر من طاقتها .." و " يكفي مصر ما عانته بسبب الآخرين .. " ، و " أن مصر مهدّدة بالإرهاب من كل الجهات ، فلا تستطيع ان تحمي أمنها وأمن غزة .." إلى آخر هذا الكلام الذي يمكن أن يكون مقبولا من أي جهة ، إلا أن تكون تلك الجهة ناصرية .. !!
لذلك حينما طفت مثل هذه المواقف على السطح ، وبدأ السجال والمزايدات ، حتى بدت مواقف البعض على مسافة قريبة جدا من اعلام السادات واعلام مبارك في مصر ، اتضح  لكل المتابعـين أن هناك خلل ما في الاسس وليس في التأويل .. اذ لا يمكن ان توجد ناصرية صامتة ، وحينما تتكلم تبدو متعاطفة مع غزة ـ متشفية في حماس ، ثم لما تجد نفسها في وضعـية صعـبة ، تسقط في التبرير والسخافات والمزايدات الرخيصة ، فتنقلب الى ناصرية رمادية ، اقليمية بامتياز ، مندسة لا علاقة لها بعبد  الناصر ونهجه وروحه القومية العالية ..

فالناصرية لا يمكن الا أن تكون رافضة للعدوان بكل اشكال الرفض الممكـنة حتى المشاركة في قتال العدو .. وهي لا تقبل بغـير اسلوب المقاومة دفاعا عن الارض العربية والانسان العربي غير عابئة بمواقف الآخرين وأفكارهم ، وأحزابهم ان كانوا رجعيين أو تقدميين .. فحينما تدق طبول الحرب ، وتبدأ معركة الوجود مع العدو الصهيوني يكون السؤال فقط من يقاتل ومن يستسلم ؟ .. من يدافع عن الوجود القومي ومن يفرّط  تحت أي لافتة وأي عنوان .. ؟ وحينما تبدأ طائرات اسرائيل في هدم البيوت على رؤوس الابرياء ، وحينما تشرع آلتها الحربية الباطشة في صب وابل من القنابل والمتفجرات يحوّل مدنهم الى دمار ، ودخان ، ورماد .. وأجسادهم الطاهرة الى جثث مشوّهة ، متفحمة ، مجهولة الهوية ..  تتوقف وقتها كل الخلافات .. وتختفي كل الحسابات .. فلا تكون البوصلة متجهة الا الى فلسطين .. للدفاع عن الارض والعرض والشرف والانسان العربي .. ولا يكون الناصريون  الا في صف المقاومة الميدانية مهما كانت ألوانها وعناوينها .. وتلك هي المواقف الجديرة بالناصرية التي يمثلها أغلب الناصريين في مصر والوطن العربي على اختلاف تنظيماتهم الحزبية وخارجها  ..

لذلك كان لا بد من العودة ـ من أجل الفرز ـ الى أقوال عبد الناصر ومواقفه ، حتى يعرف الجيل الجديد من الشباب الناصري ما يجب أن تكون عليه مواقفهم دائما حينما يتم استهداف الوجود القومي في اي وقت  ، وفي اي مكان ، مهما كانت الظروف ، ومهما كانت مواقف الآخرين .. فلا يمكن أن يكون الناصريون الا في طليعة المقاومة بكل أشكالها .. حسب ظروفهم وامكانياتهم لكنهم لا يقفون أبدا متردّدين ، مردّدين أنصاف الحلول .. وهكذا كان يتصرف عبد الناصر طوال حياته ، فالموقف القومي عنده هو الحاكم ، والبقية تفرّعات وتفاصيل ..

 وها هو على سبيل الذكر لا الحصر يـبـيـن في خطابه يوم 23 يوليو 1970 متطلبات العمل بما يتـناسب مع طبيعة العدو من المنطلق القومي ، محددا اسلوب الرّد الوحـيـد  المناسب فيقول رغم الظروف الصعبة التي تمر بها مصر :

" أيها الإخوة :

أريد أن أقول لكم بكل أمانة وصراحة وبإحساس بالمسؤولية التاريخية ؛ أنه مهما كانت محاولاتنا فى ميادين السياسة فلا بد ألا تغيب أبداً عن أذهاننا كبرى الحقائق - هذا الكلام قلته فى 23  نوفمبر سنة  67 ، وبقوله النهارده فى  23  يوليو  70 -  إننا نعمل في السياسة ويجب ألا تغـيب عنا الحقيقة ؛ هي أن ما أخذ بالقوة لا يمكن أن يسترد بغـيـر القوة .. إننا نستطيع أن نتحرك في ميدان السياسة كما نشاء وكما نرى وفق الأوضاع المتحركة والمتغـيرة باستمرار، ولكن الكلمة الأخيرة في أي صراع ، وفي هذا الصراع بالذات ومع العدو الذي نواجهه بالتحديد .. إسرائيل ستبقى دائماً العدو الذي لا يعرف غير لغة القوة .. يجب أن نكون على استعداد للرد بالقوة على عدونا الذي لا يفهم إلا القوة ، ويجب أن نعمل بكل الوسائل على أن نتفوق في كل الميادين - وبالذات في ميدان الجو - على إسرائيل ، يجب أن نحشد كل الطاقات من أجل المعركة ، يجب أن نحشد الطاقات العسكرية والطاقات الاقتصادية ، يجب أن نحشد طاقات الأمة العربية .. "

وها هو يعـبـر في النهاية عن الحد الفاصل بين الكلام والفعل ، حينما يصبح معيارا للحكم على المواقف بالنسبة للجماهير الواعية بمتطلبات النضال الحقيقي ضد العدو فيقول  :

" وكانت الجماهير قادرة على التمييز بين الذين يتاجـرون بالكلمات فى أسواق المناورات الضيقة ومزايداتها ، وبين الذين يتقابلون مع الموت فى ساحة ميدان القتال .. "


                                                                                          5 يوليو 2014 .




****


 الموقف القومي في وعي عبد الناصر . 



في أحلك الظروف التي مرت بها مصر والأمة العربية خلال الخمسينات والستينات ، اختلف الزعيم الراحل جمال عبد الناصر مع أغلب الأنظمة العربية بسبب سياساتها المعادية لمصالح الأمة أو للمقاومة ، واعتبرهم عملاء ، وخونة ، ومستسلمين ورجعـيين ونعـتهم بشتى النعوت لكنه لم يفرط أبدا في شبر من ارض عربية مهما كان خلافه مع حكامها ولم يتخل عن شعوبها لحظة ، بل كان يعتبر ذلك شيئا عارضا لا بد أن يزول في يوم من الأيام .. فكان يحرّض الشعوب باستمرار على الثورة ورفض سياسات حكامها حتى تخلت كلها من المحيط الى الخليج عن ولائها لقادتها وأصبح هو قائدها الفعلي ..
وقد خاضت مصر طوال فتـرة الخمسينات والستينات معارك عاتية ضد القوى الاستعمارية والصهيونية ومنها بريطانيا التي تم اخراجها من مصر باتفاقيات الجلاء ، وبدأ العد التنازلي لنفوذها العسكري، كما بدأت هيمنتها السياسية تشهد تراجعا أمام تصاعد المد الثوري في الوطن العربي .. وقد كان يحدث الشئ نفسه تقريبا بالنسبة لفرنسا في كل من تونس والجزائر والمغرب وسوريا ولبنان .. فعاد كل منهما يرمّم علاقاته القديمة ويحاول احياءها وهو يبحث له عن دور جديد وأشكال جديدة .. فكان مشروع حلف بغداد الذي جعلت له بريطانيا قاعدة متقدمة في العراق ، واحدة من تلك المحاولات ، لمواجهة مصر ومحاصرتها من خلال استقطاب الحكام العملاء .. وهو ما جعل مصر في صراع مستمر مع تلك الأنظمة  بدرجات متفاوتة ..
ففي حديث لعبد الناصر بتاريخ 27 يناير 1956 نجده يتحدث عن حلف بغداد وعن حكومة العراق العميلة لبريطانيا ، معـبرا في نفس الوقت ، وبكل وضوح ، عن المسؤولية القومية لمصر فيقول :

" إن حلف بغداد سجن كبير أعده الاستعمار لشعوب العرب جميعاً ، وقد رفض العرب أن يدخلوا هذا السجن برغم الوعد والوعيد ، فبقي خاوياً يشهد على فشل الاستعمار وأعوانه .. ثم عـبّـأ حلف بغداد البريطانى كل قواه، وانقض على الأردن الصغير، ليدفعه إلى ذلك السجن ، ولكن الشعب الأردنى الباسل عرف كيف يدافع عن حريته ، ويفسد على الاستعمار خطته ، ففقد وعيه واتـزانه ، ولم تجد حكومة بغداد غير محمد علي عيسى  - الساعي المصري بسفارة مصر- لتملأ به فراغ ذلك السجن الكبير، وراحت توجّه التهم إلى مصر، وتطالب بسحب الملحق العسكري المصري لحمل الحكومة المصرية على معاملتها بالمثل ، وقطع العلاقات بين البلدين ، ولكن مصر فوّتت عليها هذه الفرصة ؛ لأنها تقدّر شعـب العـراق العـربي ، ولن تفعل إزاء ذلك الاتهام إلا أن تدعو الجامعة العربية لتنظر فيه ... "

وفي هذا السياق أيضا ، يتحدث عبد الناصر في خطابه بمناسبة الاحتفال بالثورة بتاريخ 22 يوليو 1958 عما كان يحدث في العـراق تحت سيطرة حلف بغداد ، وما حدث في لبنان بسبب تدخل القوات الامريكية لقمع ثورة الشعب اللبناني المتفاعل مع قيام الوحدة ، وما حدث في الاردن من تدخل بريطاني عند قيام ثورة 14 تموز في العراق .. مؤكدا على خيانات  الأنظمة الحاكمة في تلك الدول .. وفي البداية يبدأ بلبنان قائلا :

" بعون الله - أيها الإخوة - سوف تنتصر بيروت وسوف ينهزم العدوان المسلح على لبنان ؛ فإن التجربة قد أثبتت أن لا مستقبل للعملاء ، وكلنا قد رأينا ما هو مصير العملاء ، وما هو مصير أعوان الاستعمار . لا يستطيع العملاء أن يحيوا إلا فى ظل مدافع الاستعمار، ومدافع الاستعمار عجزت دائماً - أيها الإخوة - عن حماية العملاء ، بل إنها عجزت في أوقات كثيرة عن أن تحمي نفسها ..."

ثم يمر لفضح ممارسات الملك حسين في الاردن فيقول في نفس الخطاب  :

" وماذا يفعل حسين اليوم أيها الإخوة ؟ ماذا يفعل في حصنه في عمان ؟ إنه يعلن أنه يواصل الرسالة .. أي رسالة يواصلها حسين اليوم ؟! رسالة الملك عبد الله الذي خاننا في سنة 48 . إن حسين اليوم - أيها الإخوة - يواصل الرسالة التي كان يعمل عليها جده الملك عبد الله في سنة 48 ، فخدعنا وخدع العرب في كل مكان ؛ إنه يعلن أنه يواصل الرسالة ضد ثورة العرب الأحرار، وضد ثورة الشباب الأحرار الذين قاتلوا والذين استشهدوا .. إن حسين اليوم يواصل الرسالة ؛ رسالة دعوة الإنجليز لاحتلال بلاده التي حارب وكافح أبناؤها من أجل إخراج الإنجليز ونجحوا فى ذلك فى سنة 56 ، إن حسين اليوم يؤدي نفس الرسالة التي أداها جدّه الملك عبد الله في فتح بلاده وفي فتح أبواب وطنه للاحتلال والاستعمار ... وقد أعلن رئيس وزراء بريطانيا أن الإمدادات البريطانية التي طلبها الملك حسين وصلت إليه عن طريق إسرائيل ، وأن بريطانيا أخذت موافقة من إسرائيل حتى توصل إليه الإمدادات الجوية .. إن هذه هي رسالة حسين ، وليست غريبة على أي فرد من أبناء الأمة العربية ؛ لأن حسين سر جده الملك عبد الله ..."

أما بالنسبة لحكام العراق فنجده يفضح ممارساتهم في خطاب له بدمشق يوم 11 آذار / مارس سنة 1958 جاء فيه  :

" كل فرد في الأمة العربية يعلم أن جيش العراق في سنة 48 أراد أن يقاتل ببسالة ؛ لأنه كان يشعر بأهداف الأمة العربية ، ويحس بإحساسات أهل فلسطين ، ولكن أعوان الاستعمار الخونة في العراق تنكروا لعـروبتهم وتنكروا لأرضهم ؛ لأنهم تآزروا مع الاستعمار ، وتآزروا مع الصهيونية العالمية ، وكانوا بهذا من أول دعائم إقامة الصهيونية العالمية بين ظهرانينا . كان جيش العراق يريد أن يقاتل ، ويريد أن يستشهد ؛ ليحرر إخوته فى فلسطين جنباً إلى جنب مع الجيوش العربية الأخرى ، ولكن حكام العراق كانوا يدينون بالطاعة للندن ، ويدينون بالطاعة للاستعمار ، فكانت المأساة .. "

كما يعود في خطاب 22 يوليو الى فضح سياسات بريطانيا  في العراق في ذلك الوقت قائلا :

" إن ما حدث في العراق كنت واثقاً - أيها الإخوة - أنه سيحدث .. في سنة 55 - فى 20 فبراير سنة 55 - قابلت "مستر إيدن" هنا فى القاهرة ، وكان " مستر إيدن " رئيس وزراء بريطانيا - كان وزير خارجية بريطانيا في هذا الوقت - كان " مستر إيدن " يسعى إلى حلف بغداد ، ويعلن أن حلف بغداد سيرفع صوت بريطانيا في الشرق الأوسط ، وسيجعل بريطانيا داخل منطقة النفوذ ..
قلت " لمستر إيدن " : إنك إذا عملت قاعدة في بغداد فيها طيارات وفيها مدافع وفيها قنابل ذرية ؛ فحيكون في العراق عشرين قاعدة من أحرار العراق ليقضوا على هذه القاعدة ؛ لأنهم لن يقبلوا ذل الاستعمار، ولن يقبلوا ذل الاحتلال ، وسينتصر شعب العراق ، وستدمر هذه القاعدة وتكون بلا فائدة .. وقال " مستر إيدن " : إننا نريد حلف بغداد لنواجه عدوان الاتحاد السوفيتى .. وقلت " لمستر إيدن " : إننا نستطيع أن ندافع عن أنفسنا ، إذا اعتدى علينا الاتحاد السوفيتى فسندافع عن أرضنا وندافع عن بلادنا ، ونطلب منكم أن تنجدونا ضد العدوان .. وإذا اعتديتم أنتم علينا .. فإننا سندافع أيضاً عن وطنا ؛ لأن حق الدفاع مقدس ، وسنطلب من الاتحاد السوفيتى أن يعاونا ضدكم ..
وسألت " مستر إيدن" هل تعتقد يا "مستر إيدن" - وكان هذا الكلام فى سنة 55 - هل تعتقد ان الغرب حيعتدي علينا ؟ فقال : إن هذا أمر مستحـيل ..!! طبعاً الكلام دا كان في سنة 55 ، وطبعاً كلنا نعرف ان في سنة 56 العدوان اللي وقع علينا كان من إنجلترا وفرنسا وإسرائيل ، وكان مدبّر هذا العدوان  إنجلترا ..! "

كل هذه الوقائع تبين كيف ان عبد الناصر بالـرغم من الهوة الكبيرة والفجوة العميقة الفاصلة بينه وبين الانظمة العربية العميلة ،  بقي يحافظ دوما على مواقفه القومية التي يعـبر من خلالها ـ وهو في أوج الخلاف والقطيعة مع تلك الأنظمة ـ عن حرصه الشديد على حماية أي قطر عربي من الهيمنة والتبعـية ، حتى لا تكون وسيلة بيد أعداء الامة تضرب بها أقطارا أخرى مواجهة لها .. لذلك رأينا مصر دائما تتصرف كالأم الحنون التي تغضب على ابنائها اذا عصوها ، و خالفوا أوامرها ، ثم سرعان ما تحتضنهم حينما يعودون الى رشدهم ، أو حينما يتعرضون الى مكروه عارض .. وقد حافظت مصر ـ بفضل عبد الناصر ـ على أمومتها تلك ، في كل الظروف والمتغـيـرات ..
فها هو عبد الناصر يعود في نفس الخطاب يوم 22 يوليو 1958 متوجها الى الجماهير ، منوّها بانتصار العراق مرحّبا برجال الثورة ، معـّبـرا عن سعادته بسقوط العملاء ، وانهاء حلف بغداد الذي قاومه سنين طويلة :
" أيها المواطنون : باسمكم في هذا المكان .. باسم شعب الجمهورية العربية المتحدة .. باسم دمشق والقاهرة أرحب برجال بغداد .. بغداد الشقيقة العزيزة ، باسمكم أيها الإخوة .. باسم الأمة العربية جمعاء أرحب بوفد جمهورية العراق ، ونحن إذا كنا اليوم نحتفل بعيد 23 يوليو .. عيد الثورة الذى احتفلنا به خمس مرات ؛ فإننا اليوم نحتفل بعيدين .. عيد ثورة 23 يوليو في القاهرة ، وعيد ثورة 14 يوليو في بغداد ... "

لا شك ان عبد الناصر الذي عانى من حلف بغداد ومكائده يحق له الاحتفال بهذا التغيير مهما كان مصيره ومستقبله ..
فبغداد طوال تلك الفترة كانت بمثابة العصا الغليظة التي تستعملها بريطانيا لتضرب بها مصر ، وهي التي حاولت تطويق مصر من خلال استدراج كل من الاردن والسعودية ولبنان الى اتباع سياسات مناهضة لسياساتها .. وهي التي حاولت أيضا على مدى سنوات قبل الوحدة ، ابتزاز سوريا وجلبها لحلف بغداد لفرض العـزلة على مصر .. ولعل آخر ما قام به حكام العراق قبيل ثورة 14 تموز ، هو محاولتهم الفاشلة في اصطناع اتحاد شكلي بينهم وبين العائلة الهاشمية في الاردن ، كـرد فعل رخيص على قيام الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا وهي أول وحدة اندماجية في تاريخ العرب الحديث ..
ورغم ان عبد الناصر وصف النظام العراقي بالتآمر والخيانة والعمالة ، لكنه هب لاحتضان ثورة 14 تموز منوّها بأصالة شعـب العراق وعروبته ونضاله فيقول في نفس الخطاب معبرا عن التجاوب السريع مع الحدث :

" حينما وقعت الثورة لم يكن اللقاء الكامل بين الجمهورية العربية المتحدة وبين جمهورية العراق فى حاجة إلى زمن ، لم يحتج اللقاء إلى أيام .. لم يحتج اللقاء إلى ساعات أو دقائق ، كان اللقاء تاماً لأن الفرقة بين الشعبين - هذه الفرقة التي حاول الاستعمار والتي حاول أعوان الاستعمار أن يقيموها - كانت فقط في مخيلة الاستعمار وفي مخيلة أعوان الاستعمار، هذه الفرقة التى اعتقدوا أنهم حققوها ، كانت تزيد النار اشتعالاً في قلوبكم هنا في الجمهورية العربية المتحدة وفي قلوب أشقائكم في جمهورية العراق .. "

ويقول كذلك معـبرا عن تجاوب الجماهير العربية :

" وحين وقعت ثورة 14 يوليو في بغداد بعد أن حاول المستعمرون أن يعـزلوها عن العرب ، وأعلنت الجمهورية العربية العراقية ، لم يكن اللقاء بين الشعب العربي في دمشق والشعب العربي في القاهرة ، والشعب العربي في الخرطوم ، والشعب العربي في كل مكان ، يحتاج إلى جهد ويحتاج إلى أمر صعب ، ولكن هذا اللقاء كان لقاءاً طبيعـياً .. "

وهذا في نظر عبد الناصر يعود الى وحدة المشكلات والمشاعر والمصير فيقول في نفس الخطاب دائما :

" إن قصة كفاح الشعب العـربي قصة واحدة ؛ أسباب هذا الكفاح واحدة ، أهداف هذا الكفاح واحدة ، بل إن أساليب الكفاح وخطوات الكفاح واحدة ؛ لسبب واحد بسيط ـ  كل فرد في الأمة العربية يعرفه ويعلمه - هو تشابه الظروف الكامل ، وتوافق هذه الظروف وترابطها . وإذا قارنا مقارنة تاريخية بين كفاح الشعب العربي في كل مكان وفي كل بلد من بلاد الوطن العربي ؛ في العراق في سوريا ، في لبنان وفي مصر، فإننا نرى الترابط بين المشاعر والترابط فى الاحداث ..

ورغم هذا كله ، فان عبد الناصر كان يتصرف دائما وفق المصلحة القومية العليا التي تجعله أحيانا يتراجع ويتعالى عن الحسابات الشخصية ، فيتجاوز خلافاته مع الانظمة من أجل تحقيق تلك المصلحة ، وهو ما حصل فعلا في بعض الحالات مع الملك حسين ، أو مع السعودية أو مع تونس ، مثلما فعل مع بورقيبة خلال العدوان الفرنسي على بنزرت في شهـر جويلية 1961 ، وهو الذي اختلف معه كثيرا بسبب الازمة اليوسفـية أواخـر الخمسينات .. وقد قام بزيارة تونس بمناسبة جلاء القوات الفرنسية عن اراضيها في 15 أكتوبر 1963 قبل أن يعود ليختلف معه بسبب خطابه في اريحا سنة 65 ..
وخلال تلك الزيارة تمكن عبد الناصر من ألقاء خطابه التاريخي أمام الجماهير الحاشدة في تونس يوم 13 ديسمبر 1963 قال فـيه :

" وأنا اليوم حينما كنت أمرّ بينكم .. بين هذه الحشود التي تحتفل بالجلاء الكامل عن أرض الوطن ، كنت أذكر أيام كفاحكم ، وكنت أذكر كيف كان الشعب في مصر يتتبع هذا الكفاح ، ويشعـر بمشاعركم ويحس بإحساسكم ؛ لأننا كنا نعتبر دائماً أن الحرية في أي جزء من الوطن العربي إنما هي تدعيم للحرية فى كل أنحاء الوطن العربي . وإنكم - أيها الإخوة - حينما حققتم الحرية هنا فى تونس وكافحتم .. إنكم بهذا زدتم العرب قوة على قوة . وكل كفاح وكل نصر في أي بقعة من أجزاء الأمة العربية ، كل نصر إنما هو نصر للأمة العـربية كلها .."

وأمام تفاعل الجماهير معه برفع شعارات الوحدة أضاف عبد الناصر متفاعلا ايضا : 

" لقد فرقنا الاستعمار سنين طويلة ، وأعاد الله ما فرقه الاستعمار، وعدنا كلنا فى الأمة العـربية يداً بيد ، وروحاً بروح ، وقلباً بقلب . وعلينا - أيها الإخوة - أن نعـزز هذا النصر ونحافظ على هذا النصر؛ لأن النصر فى أي بلد عربي إنما هو نصر للعرب جميعاً فى كل أنحاء الأمة العربية ، ولأن الاستعمار الذي أراد أن يفتت الأمة العربية ويقيم بينها الحدود لتمنع أهلها من أن يختلطوا ويتصلوا.. لم يتمكن أبداً ؛ لأن إرادة الشعوب من إرادة الله ، وإرادة الشعوب كانت دائماً تصمم على أن تحمي القومية العربية ، فالتقت الأمة العربية وارتفعت رايتها ... "

وفي مثل هذا الجو الحماسي المفعم بروح العـروبة والمقاومة ردّت الجماهير بالشعارات المنادية بتحرير فلسطين فرد عبد الناصر بالقول :

" واليوم وأنا أسمعكم - أيها الإخوة - تنادون فلسطين .. فلسطين .. كنت أشعـر بنفس الشعور الذي لمسته في كل زيارة لي في أنحاء العالم العربي .. فلسطين - أيها الإخوة - تستدعي منا أن نقوي أنفسنا ، وفلسطين تستدعي منا أن ندافع عن قوميتنا العـربية ، وفلسطين تستدعي منا أن نقضي على الآثار التي أقامها الاستعمار ليفرق بيننا ويقسّمنا إلى شعوب متفرّقة .. فلسطين تستدعي الدفاع عن القومية العربية وتستدعي الوحدة العربية ، وليست الوحدة العربية بأي حال من الأحوال إلا أن تكون الإرادة للشعب العـربي الذي فرّقه الاستعمار ... " 

وبنفس الروح القومية العالية يتوجه الزعيم الراحل الى الجماهير الحاشدة في أقصى الشمال في مدينة حلب بالجمهورية العربية المتحدة متحدثا بتاريخ 15 آذار / مارس 1958 عن أهمية الوحدة في النضال القومي يقول :

" هذه القوة التي أراها بينكم ليست قوة  للجمهورية العربية وحدها ؛ ولكنها - أيها الإخوة - قوة للعرب جميعاً في كل مكان .. بهذه القوة سنعاون إخوتنا في الجزائر، بهذه القوة سنعاون إخوتنا في فلسطين لاسترجاع حقوقهم .. "

كما يتوجّه الى الحفل الذي أقامه الفنانون المصريون في دمشق بتاريخ 14 فيفري 1957 ، والذي خـُصّصت مداخيله لفائدة عائلات الشهداء في بورسعـيد أثناء العدوان الثلاثي على مصر قائلا :

" إن الكفاح الذي نسير فيه كفاح طويل ، ولكنه كفاح يُبنى على الإيمان ويُبنى على الشعور بالحق . إن القومية العربية التي كافحت طويلاً وقابلت من الصعاب الكثير، تشعـر اليوم بأهمية وجودها ... لقد خـُـلقـت إسرائيل ، ولم يكن الهدف من خلق إسرائيل إلا القضاء على القومية العربية وخلق قومية جديدة بين أرجاء الوطن العربي . كلنا نشعـر اليوم أن إسرائيل ليست إلا أداة للعدوان ، وليست إلا وسيلة من وسائل تحقيق أهداف الاستعمار ؛ ولهذا لابد أن نتـّـحد ولابد أن نرتبط ولابد أن نتكاتف ولابد أن ننادي دائماً بالقومية العربية ، فإن القومية العـربية هي درعنا الواقي ضد إسرائيل وضد أطماع المستعمرين ... "

بمثل هذا وغيره ، كان جمال عبد الناصر يتصرف من موقع المسؤولية التي أدركها في موقع  مصر و دورها الرّيادي بالنسبة للأمة العـربية .. فكان فعلا ضميرها الحي وحامي حماها حتى آخر لحظة في حياته .. لذلك لم تكن خلافاته مع حكامها بسبب مصالح شخصية أو عائلية ، أو لأجل التنافس على زعامتها ، أو من أجل فرض السيطرة والهيمنة على شعوبها  ومقدّراتها كما يفعل الكثير من الحكام اليوم  .. بل كانت  مواقع تلك الأنظمة من قضايا الامة الرئيسية ـ ومواقفها منها ، هي المحدّد في علاقاته بها ، دون أن يتخلى مطلقا عن الدفاع  عن دولها وشعوبها ، مع سعـيه الدائم الى ضمّها  لحضن أمتها ، لتكون عونا لها على اعدائها ، وليس عونا عليها .. 



****


والواقع فان ما يؤكد الصدق في ولاء عبد الناصر لقضايا الأمة ، انحيازه المبكّـر لقضية فلسطين ، حيث يذكر  الاستاذ سامي شرف في كتابه " سنوات مع عبد الناصر "  قول عبد الناصر لرفاقه : 

" لو فـُـرض القتال في فلسطين فإن ذلك لن يكون حربا في أرض غريبة بل هي واجب مقدّس للدفاع عن النفس وعن مصر " ...

وقد كان جمال عبد الناصر يرى بأن التضحيات التي قدمها شهداء مصر  في فلسطين انما هي تعزيز للقيم والمبادئ التي يناضل من اجلها ابناء مصر، فيقول  في الكلمة التي القاها في الذكرى الخامسة للشهداء بتاريخ 28 ديسمبر 1953 :

" إننا حين نجتمع الآن لنحتفل بالذكرى الخامسة للشهداء ، فإن هذا الاحتفال يبعث الذكرى، والذكرى تبعـث العـبـرة ... فإننا حين نذكر حرب فلسطين وشهداءها وأنها لم تضع سدى، فإن هذه الدماء قد أثارت فينا الأشجان، وأثارت فينا الكرامة ، وأثارت فينا القلوب .. فنحن وإن لم ننتصر نصراً حقيقياً فى فلسطين فقد انتصرت المبادئ في مصر، انتصرت بشجاعة الجندي والضابط المصري، فإنهما على بساطـتهما وطـيبـتهما قد ضربا في الميدان مثلاً على البطولة والإقدام ، والتضحـية في سبيل نصرة الوطن وفي سبيل حياة المواطنين . وإنني حين أذكـرهم أذكـر أن حياتي التي أتمتع بها الآن ، الفضل الأول في بقائها لهؤلاء الأبطال الذين استشهدوا في فلسطـيـن ..

ثم يقول  في كلمة ألقاها بمناسبة احياء ذكرى الشهيد أنور الصيحي كأول شهيد من شهداء مصر في فلسطين خلال حرب 48 يقول في المدرسة التي تحمل اسمه بـ" الدسوق " بتاريخ 6 نوفمبر 1953 :

" كان أنور من شباب الطليعة ، وكان يؤمن بأن الواجب يقضي بأن يحترق البعض من أفراد هذا الوطن لكي تتحقق أهدافه ، ولذلك فلم يتوان مطلقاً عن تقديم نفسه لأكبر المخاطر، ووجد أن العمل فى فلسطين يحتاج إلى بعض أفراد يحترقون ليكونوا فى طليعة المكافحين ؛ فترك الجيش وتطوّع مع زملائه الأحرار، وشاءت إرادة الله أن يكون أول الضباط الشهداء الذين قدّموا أرواحهم فداءً للعـروبة وفداءً لمصر ... "

ويقول يوم 24 يونيو 1954 في ذكرى الشهـيد جمال برعي الذي استشهد ايضا في فلسطين وهو يشرح قيمة التضحية بالنفس متحدثا عن فلسطين بنفس الروح التي يتحدث بها عن مصر :

" أحييكم وأحيي ذكرى شهـيدكم بل ذكرى شهـيد بلادكم الأخ جمال برعي ، وإن أمة مثل أمتنا لتحتاج فى سبيل تقوية نهضتها وتحقيق أهدافها إلى أن يستشهد من أبنائها الكثيرون ، وكل واحد يستشهد إنما هو فى الواقع يعطي الوطن جزءاً من حياته ، وقد كنا فى فلسطين نحس بأن الذين يستشهدون منا يعطوننا الحياة ، وهم في الحقيقة لم يكونوا أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون ... "

هكذا كان جمال عبد الناصر يعبر بحسه القومي المتيقظ منذ بداية الثورة ، عن اهتمامه بالقضايا القومية التي بدأت تاخذ حيزا كبيرا من خطبه وتصريحاته وسياساته ، فكان بالنسبة لبعض الأنظمة العربية الاقليمية وكافة الدول الغـربية محل اتهام بالرغبة في التوسّع والسّيطـرة خاصة حينما ذهبت وحدات من الجيش الى سوريا لمواجهة التهديدات التركية والصهيونية منتصف الخمسينات في اطار اتفاقية الدفاع المشترك المبرمة بين مصر وسوريا ، أوعندما اصبح الجيش المصري يحارب في اليمن مطلع الستينات ..
كما ان تركيزه المستمر على القضايا العربية والقومية يتم ـ في نظـر الاقليميين ـ على حساب مشاكل مصر الداخلية ، فيتـّـهمونه  بدفع  مصر الى تحمّل أعبائها وأعباء الآخرين .. وهو ما كان موجودا بالفعل .. الا أن سر ذلك الأمر لا يفهمه الا من كان متحليا مثله بالروح القومية الخالصة ...
وقد كان عبد الناصر يردّ من حين الى آخر على هذه الاتهامات موضّحا هدف مصر من الدفاع عن القضايا القومية ، ومنها ردّه الوارد في خطاب 19 يونيو 1956 احتفالا بالجلاء الذي يقول فيه :

" سياستنا واضحة كل الوضوح ، ليس لنا أطماع .. ليس لنا أي غرض ، ليس لنا إلا هدف واحد هو أن نحرر قوميتنا ، هو أن نربط  بين عروبتنا . وأنا - يا إخوانى - زي ما قلت لكم ان أنا ممكن أتعاون مع أي دولة ، ولكن مش على حساب قوميتنا ولا على حساب عروبتنا ، كل ما نهدف إليه أن تستقـل جميع الدول العربية - أنا سعيد النهارده - وتتحقق لها العـزة ، وتتحقق لها الكرامة ... "

ثم يضيف في نفس السياق موضحا بأن السعي الى الوحدة القومية هو السبيل الوحيد للقوّة التي بدونها لا تتوفر الحماية ، لأن أحد اسباب ضياع فلسطين ـ في نظره ـ يعود الى حالة الضعف ، فيقول :


" دا يا إخواني سبيلنا إلى القوة وسبيلنا إلى العزة ... أسباب ضعفنا فى الماضي لازم نقلبها لكي تكون لنا أسباب قوة ، قوتنا تتمثل في قوميتنا ، قوتنا تتمثل في عروبتنا ، قوتنا تتمثل في تكاتفنا وتآزرنا. النهارده وقد احتلت قطعة عزيزة من أرض الوطن ؛ احتلت فلسطين ، هذا المصير ممكن ان احنا نلاقيه كلنا إذا لم نعيد التفكير ونعوض ما فات ...
النهارده لازم نتقوي لكي نتحرر، لكي نحرر أرض العـروبة كلها من مراكش إلى بغداد لكي تكون أرض العرب للعرب لا للمحتلين ولا للمستغلين ، لكي لا يتكرّر ما حدث فى فلسطين ، ولكي نستطيع أن نعيد إلى شعب فلسطين حقه في الحرية وحقه فى الحياة ، دا - يا إخواني - سبيلنا إلى المستقبل .. "

كما يتحدث في خطاب له بتاريخ 3 أيلول سبتمبر 1958 عن النظرة القومية الشاملة في مواجهة الأعداء والعملاء في تلك المرحلة الحساسة من النضال العربي قائلا :

" ان تهديد القومية العربية هو تهديد لاستقلال جميع الدول العربية ، وطالما كان هناك احتلال أجنبي ، فإننا جميعاً تحت السلاح لندافع عن أوطاننا وندافع عن حريتنا .. واليوم نشعر جميعاً بأن القومية العربية هي صمام الأمان لنا .. إننا جميعاً يد واحدة ضد العدوان ، وضد التحكم ، وضد السيطرة ، وضد الاستعمار، وضد أعوان الاستعمار.. إن القومية العربية تعني نهاية العملاء ، ونهاية حكم العملاء ، ونهاية مناطق النفوذ . إن القومية العربية تعني الحياد الإيجابي وتعني عدم الانحياز .. إن القومية العربية تعني أن سياستنا تنبع من ضميرنا لمصلحة أهلنا ولمصلحة الشعب العربي كله .. "

وفي الواقع فان تعامل عبد الناصر مع المناورات والسياسات الدولية بكل ما فيها من وسائل وأسلحة جعلته يتفاعل مع سياسة التضليل المتـّـبعة في الغرب ، ليردّ على تلك السياسات القائمة على تزييف الحقائق من ناحية ، وعلى توجيه الاتهامات من ناحية ثانية ..
في الجانب الأول يذكر في نفس الخطاب عدة أمثلة للتضليل الاعلامي منها ما يتعلق بالممارسات الفرنسية في الجزائر وبممارسات بريطانيا في اليمن ، أو في ما يتعلق بانزال قواتها في الاردن سنة 58 ، ودخول القوات الأمريكية الى لبنان في نفس السنة .. الى جانب قضية الاعتراف بالصين التي تحوّلت الى مهزلة حينما اعترفت الدول الكبرى بفرموزا ورفضت الاعتراف بالصين الشعبية .. فيقول :

" لقد حاولوا أن يضللوا الرأي العام العالمى ، ولكن الأحرار في العالم لم يقبلوا هذا التضليل ... إذا قال صوت العرب : إن الحرية سترتفع فى كل مكان ، وإن أعلام النصر والحرية سترتفع فى كل بلد عربي ؛ فإنهم يقولون : إن هذا تدخل ، وإن هذا عدوان ، وإذا قامت قواتهم بتقـتيل الأحرار في الجزائر فهذا هو السلام ..
وإذا قامت قواتهم بتقـتيل الأحرار في عدن ، وفي جنوب الجزيرة فهذه هي المبادئ ، وهذه هي المثل العليا ، وإذا قامت قواتهم باحتلال الأرض العربية في الأردن واحتلال لبنان ، فهذه هي المبادئ ، وهذه هي المثل العليا ، وهذا هو السلام ..
إننا نرى المتناقضات ، حينما أعلنا في صوت العرب رأينا في الحرية وفي تقرير المصير بما يتمثل مع مبادئ الأمم المتحدة ، قالوا: هذا عدوان غير مباشر ..
قد اعترفت بلادنا بالصين ؛ لأننا نعـرف الجغـرافيا ونعـرف أن الصين هي الصين ، وأن الصين ليست فرموزا .. والعالم كله يعلم أن الصين تسير الآن نحو التقدم ، وأن هناك 660 مليون من الصينيين يحاولون أن يتجاهلوهم ، ولكن كيف نتجاهل الواقع ..؟! وكيف نتجاهل الحقيقة ..؟! وكيف نعترف بأن فرموزا التي تخضع للاحتلال تمثل الصين ..؟ ! "

وفي الجانب الثاني ، يقول لمراسل صحيفة " نيورك تايمز " الامريكية يوم 18 تشرين الاول / أكتوبر1956  ردا عن الاتهامات التوسعـية :

" لا يوجد لدي أية مطامع استعمارية ، وأن الحديث الذي يدور فى الغرب عن إمبراطورية عبد الناصر لهو تشويه شديد لآرائي عن الوحدة العربية .. "

كما يؤكد في تصريح لمراسل " الاسوشيتد براس " في القاهرة يوم 21 تشرين الثاني / نوفمبر 1956 على نفس الفكرة بالقول :

" إن فكرة الإمبراطورية العـربية هي من نسج الخيال ، ومن قبيل الدعاية الأجنبية ... ان فكرة إقامة إمبراطورية عربية ، أو محاولة السيطرة على مثل هذه الإمبراطورية هي فكرة تمقـتها مصر، كما أمقـتها أنا . إن شعوب أوربا تعمل فى سبيل الوحدة الأوربية ، كما أن إحدى وعشرين دولة مستقلة فى أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية قد ارتبطت في اتحاد أمريكى ، كذلك تعمل الدول العربية على تحقيق مثل أعلى للتعاون المثمر... إن فكرة الإمبراطورية العـربية هي من قبيل الدعاية التي تقوم على الجهل ، أو ما هو أسوأ ... "

هناك اذن منطق استعماري يتهمه بالنوايا التوسعـية ، ومنطق اقليمي يتهمه باضعاف مصر .. يشتركان معا في تضليل الرأي العام  ، يواجههما عبد الناصر بكشف الحقائق ، وبالمنطق القومي الذي يرى فيه المبدأ  والاخلاق والواجب قـبل كل شئ ..  
فالأمن والاستقرار ـ في نظره ـ سواء لمصر أو للدول العـربية لا يتحقق الا بالوحدة .. لأن في الوحدة قوة ، وبالقوة تتحقق كل الاهداف والطموحات وهو ما يعـبر عنه بصيغ متعددة وفي مناسبات مختلفة ومتفاوتة ..
يقول في كلمة له منذ السنوات الأولى للثورة أمام نادي الضباط خلال زيارة له الى غزة بتاريخ 13 أيار / ماي 1956 متحدثا عن تشابك المصالح والأدوار :

" ان المؤتمر الصهيوني الذي انعقد في الشهر الماضي في إسرائيل طالب بتحرير باقي فلسطين من العرب ، وطالب بتحرير الوطن الإسرائيلى الذي يحلمون به من النيل إلى الفرات من العرب .. إن العرب في رأيهم دخلاء غاصبون ، إن فلسطين في رأيهم أرض يحتلها العرب من غير وجه حق ، إن سوريا ولبنان والأردن والعراق بلاد يحتلها العرب كذلك - في رأيهم - من غير حق !.. ذلك منطقهم وتلك خطتهم ، من هنا تبدو أهمية القوة العربية العسكرية اليوم ..
وتزداد هذه الأهمية خطورة إذا ذكرنا مع الصهيونية العالمية وشرورها أطماع الاستعمار وخططه البعيدة المدى. إن الاستعمار يعتبر القومية العربية خطراً على موارده ، إنهم في بريطانيا مثلاً يقولون : إنهم لو انقطع عنهم بترول الشرق الأوسط فسوف يصبح عندهم فوراً خمسة ملايين عاطل ، وكذلك تقف جميع الصناعات لا في بريطانيا فقط ، وإنما في أوربا الغربية كلها ..
ولقد قلنا لهم أكثر من مرة : إننا لا نريد تهديد مصالحهم التي تلتقي مع مصالحنا ، وقلنا لهم : إننا لانريد أن يلحق الخراب بأحد ، ورغم ذلك فإنهم يرون من الخير لهم ألا توجد قوة فى الشرق الأوسط غير قوتهم ، ويتصورون أن ذلك هو ضمان مصالحهم ، هذا أمر بريطانيا معنا ، وأمر فرنسا ..
إن فرنسا التي تعطي إسرائيل السلاح إنما تقصد أن تشغلنا عن الوقوف بجوار حق تقرير المصير لشعوب شمال إفريقيا المكافحة . ولقد قلنا لهم : إننا لسنا طلاب مشكلات ؛ وإنما نحن لا نستطيع أن نحيد عن مبادئنا .. ولكنهم لا يعرفون للمبادئ حقاً ولا قيمة ، إنهم يريدوننا أن نكون ذيولاً لهم ، يريدوننا أن نقف من مشكلة الجزائر نفس الموقف الذي وقفته حكومة تركيا حين رفضت تأييد قضية الجزائر في الأمم المتحدة  .. "

ويتحدث بعد ذلك بسنوات عن مخططات الاستعمار الذي نجح في عزل المشرق العربي عن المغرب بزرع كيان غريب وذلك في خطاب بجامعة القاهرة بمناسبة تقديم الميثاق الوطني يوم 21 ماي / أيار 1962 جاء فيه :

" إن قطعة من الأرض العربية في فلسطين قد أعطيت من غير سند من الطبيعة أو التاريخ لحركة عنصرية عدوانية ؛ أرادها المستعمر لتكون سوطاً في  يده ؛ يلهب به ظهر النضال العربي إذا استطاع يوماً أن يتخلص من المهانة ، وأن يخرج من الأزمة الطاحنة كما أرادها المستعمر فاصلاً يعوق امتداد الأرض العربية ، ويحجز المشرق عن المغـرب ، ثم أرادها عملية امتصاص مستمرة للجهد الذاتى للأمة العـربية ؛ تشغـلها عن حركة البناء  الإيجابي  .. "

وقد كانت مواقفه تجاه علاقة مصر بالقضايا العربية ثابتة وواضحة حتى النهاية .. فهو يقول في لقاء بالصحفيين العرب بتاريخ 15 فيفري / شباط 1968 مذكرا  بتلك التحديات التي واجهتها الثورة في بدايتها :

" نحن بعد أن قامت الثورة طــُـلب إلينا من أمريكا ان أحنا نعمل في داخل حدودنا ، ومالناش دعوة بالعـرب في أي مكان ، وأمريكا تساعدنا ، ولكنا رفضنا لأننا نؤمن بأن الأمة العـربية أمة واحدة ، وأن ما يحدث في أي بلد عربي  يؤثر على الأمة العربية كلها ، وأنه إذا سقطت أي دولة عربية تحت النفوذ الاستعماري فلا بد أن تسقط باقي الأمة العربية ، وعلى هذا اتبعـنا السياسة العـربية واعتبرنا نفسنا جزءاً من الأمة العربية ، ولم نقبل التهديد ، ولم نقبل الترغيب ، ولم نقبل أي شىء فى سبيل أن نتخلى عن مبادئنا ، ونحن نؤمن أن فى هذا فائدة لمصر، وفائدة للأمة العربية كلها ... "

وعبد الناصر يصف هذه السياسة تجاه مصر منتصف الخمسينات بالحرب النفسية ، وهو يعود اليها أواخر الستينات للتأكيد على أن اساليب القوى المعتدية تتواصل لبث روح الهزيمة لذلك نجده يتوسع في شرح تلك الملابسات ، مؤكدا على ان ما تقوم به مصر يتعلق بالمبادئ و العقيدة و الواجب .. فيواصل في نفس الخطاب قائلا :

" الآن طبعاً الحرب النفسية تسير في نفس الهدف الذي كان يُرفع في سنة 55 وما بعد 55 ، فى الحرب النفسية ان مصر يجب أن تهتم بشؤونها ، ولا يكون لها دخل فى السياسات العربية أو في الأمور العربية ؛ معنى هذا أننا سنسقط جميعاً تحت قبضة الاستعمار الجديد الذي يريد أن ينفرد بنا دولة دولة ، ويسيطر علينا ويجعلنا داخل مناطق النفوذ . فيه ناس طبعاً بتقول عبد الناصر ومصر مسؤولة عما حصل فى 5 يونيو، نحن لا ننكر مسئوليتنا ، ولكننا قمنا بالواجب ؛ قمنا بالواجب الذي تحتمه علينا عروبتنا والذي تحتمه علينا قوميتنا . احنا ماكناش عرضة للتهديد قبل 5 يونيو .. يوم 14 مايو كان التهديد موجهاً إلى سوريا .. ووقف " رابين" وقال ان احنا سنتجه إلى دمشق إذا لم يتوقف الفدائيون .. كنا ممكن نسكت ونسيب سوريا الشقيقة تواجه إسرائيل ، ولكن هذا يتنافى مع مبادئنا ، وهذا يتنافى مع عقيدتنا ؛ على أساس أن المصير العـربي مصير واحد ، وعلى أساس ان إذا بدأ العدوان بسوريا لابد له بعد هذا أن يتجه إلينا ، ويتجه إلى أي بلد عربي آخر، إذن احنا قمنا بالواجب واحنا قمنا بما تمليه علينا عقيدتنا .. مش عيب ان احنا خسرنا معركة ولكن قمنا بواجبنا ، كان العيب ان احنا نتقاعس ، وان احنا نسكت ، وان احنا نسد وداننا ، ونغمض عينينا عن أي تهديد لأي بلد عربي آخـر .. "

واذا كان هذا مطلب القوى الاستعمارية أن لا تلتفت أي دولة الى ما حولها  فان عبد الناصر يقف دائما على الرفض لتلك السياسات معـتبـرا أن ذلك الموقف الرافض  انما هو عهد وميثاق قطعته مصر على نفسها بعدم التخلي عن القضايا القومية مهما كلفها الأمر .. وهو ما عبر عنه في خطابه بمدينة حلب بتاريخ 16 آذار / مارس 1958 حين قال :

" إننا - أيها الإخوة - من هذه المدينة الباسلة التي كافحت في سبيل العـروبة وفي سبيل بقائها ، وفي سبيل حريتها ، نعاهد العرب في كل بلد عربي ؛ أن سبيلنا هو الحرية العربية ، وأن سبيلنا هو مساندة الكفاح العربي من أجل التخلص من التدخل الأجنبي ، ومن أجل القضاء على السياسة الأجنبية التي تريد أن تأخذ بلادنا ضمن مناطق النفوذ .. "

وقد كان عبد الناصر يرى بأن الاستعمار  يبحث دائما عن الوسائل التي تمكنه من تحقيق أهدافه فيذكر بعض أساليبه في نفس الخطاب السابق قائلا :

" كان الاستعمار في الماضي يحاول أن يسيطر علينا بالتفرقة ، وبث الأحقاد والضغائن ، وكان الاستعمار في الماضي بيحاول أن يتحكم في أرضنا ويتحكم في بلادنا ببث الطائفية ، في نفس الوقت اللي كان بــيثـيـر فـيه الكراهـية بين أبناء الوطن الواحد ؛ كان يعمل على أن يستولي على ثـروات البلاد ..
كان للاستعمار سلاح أساسي وسلاح رئيسي ؛ وهو التفـرقة والطائفية .. وحينما قام الاستعمار بالحرب الصليبية ضد بلادكم وبلاد العرب جميعاً ؛ قام العرب من مسلمين ومسيحيين ليحاربوا دفاعاً عن أرضهم ، ودفاعاً عن عروبتهم ، لم تغـرهم الأسماء الاستعمارية ، فلم تكن الصليبية إلا الاسم المقـنع للاستعمار .. حارب العرب جميعاً ، وفطنوا للطائفية ، وفطنوا للتفرقة ، وحينما فشل الاستعمار ؛ أراد أن يبث الفرقة باستغلال الحزبية والانقسام ، وأراد عن طريق التدخل بين أبناء الوطن الواحد ، أن يثير بينهم الأحقاد والكراهـية ... "

كما يقول في نفس السياق في خطاب له بتاريخ 3 أيلول / سبتمبر 1958 متحدثا عن تلك الوسائل الاستعمارية :

" حاول المستعمر بكل وسيلة من الوسائل أن يعتمد على أعوانه فى البلاد العربية ؛ ليثبت نفوذه ويقضى على القومية العربية ؛ حاول بالتفتيت ، وحاول بالوقيعة ، وحاول بالتقسيم .. تقسيم أبناء الوطن الواحد ، كل يتبع آراء تختلف عن الآخر حتى ينفذ بينهم ويسيطر عليهم .. وقد استطاع الاستعمار أن ينجح بعض الوقت ، ولكن الوعي العربي كان أقوى من قوة الاستعمار ... ففطن إلى الوقيعة وفطن إلى الدس ..."

هنا نعيش جانب مهم من شخصية عبد الناصر بمواقفه القومية ورؤيته الثاقبة ، وتنبّهه للأخطار التي كانت تقود خطاه وتحدّد تصرفاته سواء داخل مصر أو خارجها .. فنجده في نفس الخطاب يرسم  تلك الحدود التي تلتقي فيها جملة من المتناقضات : الماضي والحاضر ، الآمال والأخطار ، المقاومة والاستسلام ، وهو يتحدث عن الأهداف القومية في مواجهة الأطماع الاستعمارية يقول :

" إن القومية العربية هي شعار كبير وأمل عظيم يملأ القلوب بين أرجاء الأمة العربية ، وقد حاول الاستعمار دائماً بكل وسيلة من الوسائل حينما شعـر أن أطماعه تقف دونها قوة العرب وتضامنهم ... وتصميمه على أن يفتت الأمة العربية ، وعلى أن يقضي على قوتها بتفتيتها ... واستطاع الاستعمار لفترة من الزمن أن يحقق أهدافه ويحقق أغراضه ، ولكنه لم يستطع أن يقضى على القوة الكبرى التى تنحصر فى قلب كل عربي .. واليوم نرى القومية العربية وهى ترفع رايتها فى كل بلد عربي وفى كل مكان عربي من أجل عزة العرب ، نرى القومية العربية وقد تسلحت بالوعي لتكشف ألاعيب المستعمر وألاعيب الطامعين ؛ لأن القومية العربية حاربت طويلاً وكافحت طويلاً وصمدت طويلاً ، وهي تعرف كل الوسائل التى تعمل على إضعافها ..."

وفي مثل هذه المواقف يظهر عبد الناصر وهو في أعلى درجات الشعور بالمسؤولية القومية ، وفي قمّة النقاء الثوري حينما نجده يخصّص حديثه كاملا في تصريح مقـتضب للحديث عن القضايا العـربية بدل ان يخصّصه للحديث عن مشاكل مصر .. و حينما يتكلم عن اللاجئين الفلسطينيين ، يصفهم باللاجئين العرب .. وهذا ليس صدفة بل يتكرر معه في العديد من اللقاءات الصحفـية ..
ففي تصريح قصير يوم 7 فيفري / شباط 1956 لمجلة " نيوزويك " الامريكية يحصر عبد الناصر تصريحه كاملا في التذكير بحقوق اللاجئين العرب قائلا :

" ان إقرار السلام في الشرق الأوسط رهن باحترام استقلال البلاد العـربية ، والاعتراف بالحقوق المشروعة للاجئين ..
وعن الشروط التى لابد منها لإقرار السلام فى الشرق الأوسط  فهي :
أولاً : أن تحترم الدول الأجنبية استقلال البلاد العربية ، وأن تمتنع عن التدخل فى شئون تلك المنطقة ، وبالتالي تغـيـر سياستها البالية حيال الشرق الأوسط .
ثانياً : الاعتراف بالحقوق المشروعة للاجئين العرب الذين أخرجوا بالقوة من ديارهم ، خلافاً لما يقضي به القانون الدولي ومبادئ العدالة الإنسانية . "

كما يقول في تصريح آخر لأحد الوفود الصحفية الأمريكية الذي يزور مصر بتاريخ 15 مارس 1956 حديثا وافيا يدافع فيه عن العرب وحقوقهم المسلوبة :

" إن هدفنا هو الاستقلال ، وإننا لا نعمل لأمريكا ولا لروسيا ، وإنما نعمل لمصر والعرب ، إننا نريد أن نعيش أحراراً في هذه المنطقة ، إننا نريد أن يقرر كل شعب مصيره بنفسه ؛ فقد قال رئيسكم "روزفلت " في ميثاق الأطلنطي هذا المبدأ - مبدأ تقرير المصير - كما ذكرت جميع المواثيق الدولية حق الشعوب في تقرير المصير.
إن مصر والعرب لا تريد إلا أن تعيش حرة بعيدة عن أي نفوذ أجنبي . انظروا كيف كانت ترسم حدود البلاد العربية على الخرائط من خارج المنطقة ، وبعد ذلك تقام هذه الحدود بين العرب ..!
إن مصر دولة مستقلة ذات سيادة ، ونحن نشعـر بهذا ، فليس هذا كلاماً يقال ولكنه فعل وعمل . إنني سأحدثكم حديثاً صريحاً عن هذه المشكلة ، لقد كان دور أمريكا هو مؤازرة إسرائيل نتيجة للدعاية الصهيونية . لقد رأينا كيف اغتصبت فلسطين بطريقة وحشية لم يحدث مثلها في التاريخ ، لقد وجدنا عرب فلسطين يُطردون من ديارهم لتحتلها العصابات الصهيونية ..!
وهكذا، لأول مرة في تاريخ البشر يحرم شعب من حقوقه الإنسانية بهذه الطريقة ، فلم يحدث في العصور القديمة - حيث كانت الحروب الإبادية - أن أهدرت حقوق الإنسان بمثل ما أهدرت به حقوق شعب فلسطين . لقد أرادوا إلغاء أمة بعد أن طردوا شعباً من أرضه ، وتشريده من دياره وبلاده ، واغتصاب ممتلكاته ..!
هناك مليون لاجئ فلسطينى - أيها الأمريكيون - يعيشون بأمل العودة إلى بيوتهم المفقودة وممتلكاتهم الضائعة . لقد ضاعت حقوقهم المشروعة تحت سمع وبصر العالم أجمع ..."

ولعل من أهم صفات عبد الناصر التي يظهر فيها صدقه واخلاصه لقضايا أمته وعلى رأسها قضية فلسطين هو ولاؤه القومي الخالص ، الذي يستطيع به أن يتجاوز بسهولة انتماءه الضيق لمصر الى درجة أنه لا يخصها أحيانا ولا يلتفت اليها في حديثه الى الاعلاميين ، لتصبح مشكلات الأمة ـ ضمنيا ـ هي  مشكلاته ومشكلات مصر ، كما وجدناه يفعل في نفس التصريح للصحافيين الأمريكيين ويطلب منهم نقل تلك الحقائق إلى الرأي العام الأمريكي :

" إني أذكّـركم بما كان يحدث إبان الحرب العالمية الأولى؛ لقد كانت تــُـعطى للعرب وعود ، وللصهيونية نفس هذه الوعود بخصوص أرض فلسطين ، وماذا كانت النتيجة ؟! لقد ضاعت حقوق عرب فلسطين بين هذه الوعود والعهود ، لقد ضاعت فلسطين عام 1948 ، وأعطيت للصهيونية بمؤازرة دولتكم أمريكا ؛ نتيجة للدعاية الصهيونية المنتشرة فى أنحاء العالم . لقد كانوا يقولون قبل صفقة الأسلحة : إن إسرائيل يجب أن تمتد من الفرات إلى النيل . هذه هي أطماع الصهيونية في هذه المنطقة ..
بزيارتكم هذه يمكنكم أن تفهموا القضايا العربية على حقيقـتها . ويجب المحافظة عليها وإنقاذها ؛ بأن يفهم الأمريكيون القضايا العـربية فهماً جيداً . وواجب الصحافة الأمريكية أن تعطي صورة حقيقية لمواقفـنا ، وللعوامل التي تؤثر في هذا الجزء من العالم ؛ فهناك عوامل كثيرة نشعـر نحن بأنها ذات أهمية قصوى ..
لكن بعض الصحف تشوه الحقائق عن العـرب ، فلقد كان أجدادكم إبان حرب الاستقلال يفهمون - وهم يحررون بلادهم - العوامل التى نمر بها الآن ، فقد كانوا يريدون التخلص من الاستعمار والسيطرة الأجنبية ، ونحن نريد أيضاً اليوم الاستقلال والتخلص من السيطرة الأجنبية ... "

وبنفس النبرة ونفس الروح ونفس الأسلوب يتوجه ايضا للصحفيين البريطانيين من صحيفة " الابسرفـر " يوم 25 مارس 1956 قائلا :

" إن كل ما نفعله إنما هو رد على أعمال بريطانيا ، فإن بريطانيا لا تزال تنظر إلى الشرق الأوسط على أنه مجال نفوذها ، وهي إذ تعمل بوحي هذه النظرة التي لم تعد تساير الزمن ؛ تفقد نفوذها ، وتفقد مع نفوذها تلك المصالح التي تشارك فيها العرب عن كثب ، وهذا هو السر فى النكسات التى أصابتها أخيراً فى تلك المنطقة .."

ثم يضيف :

" إن اجتناب الصراع بين السياستين العـربية والبريطانية لا يمكن أن يتم إلا إذا تخلت بريطانيا عن دعوتها الدائمة للعرب أن ينضموا إلى حلف بغداد .. إنني لا أقاوم المصالح البريطانية أو الأجنبية ، وإنما أحارب السيطرة وما يسمونه فى بريطانيا "منطقة النفوذ" ، فلن نقبل أن نكون منطقة نفوذ لأحد .. إننا نوجه كل اهتمامنا إلى البلاد العربية ، ونعارض انضمام أي دولة عربية إلى أي منظمة دفاعية لا تنبثق من داخل الدول العربية .. "

وعبد الناصر كان يدرك منذ ذلك الوقت أن أمن مصر واستقلالها لا يتوقف عند حدودها ، كما لا يتوقف على قدراتها الذاتية وحدها ، خاصة أنها لا تواجه عدوا واحدا أو جهة واحدة .. فيقول في  نفس التصريح المذكور سابقا لصحيفة نيورك تايمز بتاريخ 18 أكتوبر / 1956 في اطار الرد على الاتهامات بالسيطرة والتوسع :

" إن مصر يجب ألا تعيش في عزلة عن العرب ؛ لأننا إذا عزلنا فسوف نُهزم كل على حدة .. "

كما يقول في تصريح لجريدة الديار اللبنانية بتاريخ 20 يوليو 1956 :

" إن كل مصري  يحس الآن أنه  لم  يعد وحده ، وأن معه دنيا من ملايين .. دنيا عربية مجاهدة ، قوية ، مضحية ، لا تستطيع قوة أن تنال منها وتعيدها إلى الوراء .. "


ويقول عام 1957 أمام مجلس الأمة :


" إن القومية العربية هي أمضى أسلحتنا في الدفاع عن وطننا سواء في ذلك حدودنا المصرية أو حدودنا العربية الشاملة " ..

ثم يعود بعد ذلك ليوضح وجه العلاقة كما يراها بين مصر وبقية الاقطار العربية في تلك المرحلة ، وموقف الاستعمار منها ، فيقول في خطابه يوم 22 يوليو 1958 بمناسبة الاحتفال بالثورة معبرا عن وحدة المصير العـربي :

" لقد حاول الاستعمار دائماً أن يفرق بين الأخ وأخيه ، وأن يفرق بين البلد العربي والبلد العربي، وأن يفرق بين الكفاح فى كل بلد عربي ، حاول هذا في كل مكان . لم يتورع الاستعمار بكل وسيلة من الوسائل ، وبكل طريقة من الطرق أن يحاول أن يدس وأن يستغل ، لقد حاولوا هذا في كل بلد وفي كل ميدان ، بل أنهم حاولوا هذا معي ، كانوا بيقولوا لي : إيه دخل مصر .. إيه دخل مصر إنها تتورط فى المشاكل العربية ؟ ليه مصر ما تهتمش بنفسها وتترك البلاد العربية ؟ إيه بينوب مصر من تضامنها مع البلاد العربية إلا المتاعب ؟ ولكني كنت أؤمن أن كفاح مصر هو كفاح الأمة العربية ، وأن كفاح الأمة العربية هو كفاح مصر، وإن انتصار مصر هو انتصار للأمة العربية ، وإن انتصار أي بلد من البلاد العربية انتصار لمصر .
بل قالوا أيضاً أكثر من ذلك أني :  أنا إذا ابتعدت عن العرب ، وإذا ابتعدت عن كفاح العرب نستطيع أن نعاونك بكذا وكذا .. بالإغراء ، ثم تحولوا إلى التهديد ، ولكنا كنا نؤمن أن قوتنا فى قوة إخوتنا العرب وأن استقلالنا يكون فى أمان كامل إذا استقلت كل بلد من بلاد العرب ،وإن قوتنا تزيد ويشعر بها كل فرد فى العالم إذا وحدنا الكفاح .
هذه هي المصلحة التي أشعر بها بالنسبة لمصر وبالنسبة لسوريا وبالنسبة للعراق وبالنسبة لكل بلد عربي ، هذه هي المصلحة التي كان يؤمن بها كل فرد عربي فى كل بلد عربي .. كنت أشعر أن هذا الكلام الذي يقولونه إنما هو كلام مفتعل لا يرجى منه إلا تفتيت الكفاح العربي ، ثم السيطرة على كل بلد عربي ، كنت أشعر وكنت أومن أن ما يحدث فى أي بلد عربي لابد وأن يؤثر فى الأمة العربية كلها ، وقد أثبتت التجربة - أيها الإخوة - هذا الشعور وهذا الإيمان .. "


والواقع أن النضج الذي وصل اليه عبد الناصر في وعيه القومي  منتصف الخمسينات وادراكه لدور الوحدة بالنسبة للمستقبل العربي جعله يعبر عن قيمة المشروع الوحدوي وأهميته  ليطلق على مسيرة النضال القومي التي وقع تتويجها بقيام الوحدة بين مصر وسورية عام  1958 بعصر الوحدة  فيقول :


" إذا كان العالم قد عاش من قبل عصر النهضة ثم عاش بعد ذلك عصر الفضاء ، فإننا نعيش اليوم عصر الوحدة " ..


ويزيد فيؤكد اختيار الثورة لنهجها القومي من خلال ما اكتشفته في الواقع ، فيقول في خطاب يوم 20 مارس 1963 :

" إيه اللي خلانا ممثلين للعروبة ؟ .. اللي اتعمل في هذا البلد .. والثورة اللي قامت في 23 يوليو .. طلعت ثورة .. ولم تكتف بأنها ثورة مصرية إقليمية .. اكتشفت حقيقتها .. واتجهت لتكون ثورة عربية " .

ويبدو أن تلك المواقف والافكار التي  كان الزعيم الراحل  يعبر عنها باستمرار هي في الحقيقة نتاج تفاعل حي في ذهنه بين مسيرة الواقع التي كان يقودها ودراسة التاريخ الذي تخصص فيه ، وهو ما جعل دوره الخلاق وهو يقود مسيرة النضال العربي استكمالا لمسيرة التاريخ التي كانت تدفع ـ على الدوام ـ  الى التحام المشرق بالمغرب .. وهو ما عبر عنه بكل وعي في عدة مناسبات .. 

ففي تصريح لجريدة الـ " كريستيان ساينس مونيتورس " الامريكية بتاريخ 2 شباط / فيفري 1959 يوضح الجذور التاريخية لفكرة الوحدة كما يراها :

" عندما كنت أقوم بالتدريس في كلية أركان الحرب بحثت في مشكلات حوض البحر الأبيض المتوسط ، ولقد وجدت عبرة التاريخ واضحة فى أن الوحدة كانت دائماً طريق البلاد العـربية إلى الحرية .. ومن قراءة التاريخ وجدت أن من عوامل قوتنا ما تحول فيما بعد الى ضعفـنا .. وموقعـنا الجغـرافي مثال لذلك ، ومثال آخر في العصر الحديث وجود البترول في أرضنا .. كان الموقع الجغـرافي وكانت وفـرة البترول مبرّرات العدو لاحتلال بلادنا ، وكان ينبغي أن تكون الأمور على العكس من ذلك ؛ فقد كان يجب أن يكون الموقع الجغرافي وتوافر البترول - وهي عناصر قوة في حد ذاتها - مصدراً لقوتنا نحن ، ولحماية بلادنا ... "

ثم يضيف في نفس التصريح :

" بل إنك لتجد أن دعوة القومية العربية - فضلاً عن كل ما لها من جذور جغـرافية وتاريخية وروحية - هي في نفس الوقت حل عسكرى للدفاع عن بلدان العالم العـربي .. ولو أن غازياً أراد أن يوجه قوة إلى دولة من الدول العـربية على حدة ، بمعـزل عن الأمة العربية كلها ، لكفاه أن يوجه لغـزوه مائة ألف أو مائتي ألف أو حتى ثلاثمائة ألف جندي، ولكنه فى حالة وجود تضامن عربي - وهو أساس القومية العربية - إذن لكان فى حاجة إلى ملايين الجنود ؛ لأن جبهة القتال ستتسع عليه.. إنه لن يواجه بلداً بمفرده ؛ وإنما سيواجه منطقة بأكملها .. "

وتبدو هذه الفكرة واضحة عند عبد الناصر حينما تتـكـرر بصيغ شتى ليستعملها في سياق الاستدلال على ضرورة الوحدة حينما يقول في خطاب له بميدان الجمهورية بتاريخ 20 آذار / مارس 1959 :

" كان في التاريخ الماضي - أيها الإخوة - العـبـرة .. كان في التاريخ الماضي عبرة الحاضر، وكان في التاريخ الماضي أيضاً عبرة المستقبل ... فيه ظاهرة واضحة لكل فرد يقرأ التاريخ .. لكل فرد يعـرف تاريخ أمته كانت هناك ظاهرة واضحة ، كان من الواضح أن المنطقة العربية تلاقي الهزيمة حينما تنقسم على نفسها ، وحينما تتفرق، وتسيطر عليها الحزازات وتسيطر عليها الأطماع ، وفي هذا الوقت كان من السهل على كل مستعمر أو فاتح أو غازي أن يلتهم الأمة العربية دويلة دويلة ، وتسقط الدول العربية جميعاً تحت سيطرة أجنبية وتحت الغزو، وتخضع للفتوح الأجنبية .. كانت الكراهية والأحقاد هي سبب الهزيمة ، وكان الطامعون فينا دائماً يسعون إلى بث الفرقة بين النفوس ، وإلى تقسيم الأمة العربية إلى شيع وإلى دويلات ، وإلى بث روح الكراهية والأحقاد بين الدول العربية ؛ حتى يستطيعوا أن يستولوا على الأمة العربية دولة دولة أو قطر قطر .. "

ولكي يوضح فكرته يستشهد بوقائع التاريخ العربي الاسلامي قائلا :

" التاريخ الماضي بيدّينا هذه الصورة ، ومن التاريخ الماضي نعرف أن سبب الهزيمة كان دائماً هو التفكك والانقسام والأحقاد ، وان المستعمر كان يعمل دائماً على أن نتفكك ، وعلى أن ننقسم . وبعدين من الواضح من تاريخ الأمة العربية ان الأمة العربية - المنطقة اللي احنا بنعيش فيها - حينما اتحدت وتضامنت؛ استطاعت أن تهزم أعتى الجيوش .. حينما توحدت الأمة العربية بالإسلام وأصبحت هذه الأمة دولة واحدة؛ استطاعت أن تهزم الروم، واستطاعت أن تقيم دولة عربية موحدة ، وحينما حاول الروم أن يعودوا مرة أخرى ، استطاعت هذه الأمة أن تنتصر؛ لأنها كانت متحدة ...... وبعد 300 سنة من توحيد الأمة العربية ، حينما أراد الروم أن يغـزوا البلاد العربية مرة أخرى ، قامت حلب وقلاع حلب فى الإقليم السورى لتصد موجة الاندفاع ، وتكسر هذا الغزو على قلاع حلب ... وكانت حينما تكافح وحينما تقاتل تحمى كل ما وراءها ، ولم تكن تحمي نفسها ولكنها كانت تحمي منطقة بأسرها ، وماكانتش بتمثل فكرة محلية أو فكرة إقليمية ؛ ولكنها كانت تمثل فكرة أكبر من حدودها ، وفكرة أوسع من قلاعها ، كانت بتحمي فكرة القومية العربية .. كانت الوحدة هي الدرع اللي تكسرت عليه موجات الغزاة ، وكان التفكك والانقسام هو الوسيلة اللى نفذ بها المستعمـر إلينا علشان يخضعـنا ... "

طبعا كانت كل من مصر وسوريا تعـيش حالة الوحدة التي تحققت في فيفري / شباط  سنة 1958 ، لذلك كان عبد الناصر يختار الوقائع التاريخية ليبرهن ـ كلما التقى بالجماهير ـ على أن الوحدة عبر العصور كانت دائما ضمانا للقوة التي تحقق النصر للأمة العربية ، مثلما كانت الفرقة والتشتت عاملا من عوامل الضعف الذي يمكّـن منها اعداءها .. لذلك نجده يستشهد بقراءته التاريخية خلال فترات الانكسار والنصر فيقول موضحا في نفس الخطاب :

" فى كل مرة اتحدت سوريا مع مصر هزموا أعتى الجيوش ؛ هزموا الجيوش الصليبية اللى كانت تمثل الاستعمار الأوروبي ، وهزموا جيوش التتار ..
دا أساس الوحدة العربية ، لما أي واحد عربي بينظر لتاريخه ، وبينادي بالوحدة ، وبيشعـر ان فى الوحدة تحقيق الآمال ، وان فى الوحدة درء الأخطار، وان في الوحدة تثبيت دعائم القومية العربية ، والتغلب على دسائس الاستعمار وأطماع الاستعمار، بالطبيعة بيفتـكـر تاريخنا الطويل اللي حصل من 800 سنة ومن 700 سنة ومن 600 سنة ، لما كانت دولة منا بتتعـرض للغـزو كانت تسقط إذا بقيت وحدها ، ولما كانت دولة منا تتعـرض للغـزو وتتضامن مع باقي الدول العربية ، كانوا يستطيعـوا أن يهزموا أعتى الجيوش ..
وحينما ظهر الخطر للأمة العربية المفككة اتحدت الأمة العربية ، واتحد أمراء الأمة العربية ليواجهوا الخطر، ويواجهوا الاستعمار الغربي الذي غزا أرضهم تحت اسم الصليبية . وكان النصر - أيها الإخوة - في هذه المعارك التي قامت بين ملوك أوربا ؛ فرنسا وإنجلترا وباقي البلاد الأوروبية، وبين الدول العربية ، كان النصر حليف القومية العربية ... استمرت الحرب طوال 80 سنة حرب للقضاء على القومية العربية .. غزو مستمر وحملات مستمرة ، حملات بقيادة ملك فرنسا ، وحملات بقيادة ملك بريطانيا ، حملات تنادي أنها بتغزو البلاد العربية باسم الدين ؛ ولكنها لم تكن تهدف إلا الاستعمار، ولم تكن تهدف إلا السيطرة ..
وكان التضامن - أيها الإخوة - والاتحاد بين سوريا ومصر هو السبيل الوحيد للقضاء على هذه الحملات الصليبية ، وهو السبيل الوحيد لإنقاذ القومية العربية ، فأرسل نور الدين محمود - السلطان السوري في هذا الوقت - جيوشه إلى مصر لتعاون مصر في صد الغزاة الصليبيين . واستطاعت جيوش مصر وسوريا التي اتحدت أن تهزم الصليبيين .. أن تهزم الصليبيين وأن تردهم عن أبواب القاهرة ، وأن تردهم إلى حدود فلسطين ...
بعد هذا هاجموا سوريا .. لما هاجموا سوريا ، في الحال اتحدت سوريا ومصر مرة أخرى تحت قيادة صلاح الدين ، خرجت الجيوش المصرية من مصر لنجدة الشعب العربي في سوريا ، وانتصر صلاح الدين على الصليبيين في معركة حطين ، ولم يكن هذا نجدة لسوريا وحدها ، ولكن استطاعت الجيوش المصرية - السورية أن تحرر فلسطين وتحرر القدس ، وتخرج الصليبيين من فلسطين ...
في نفس الوقت - بنأخذ من التاريخ عبر أخرى .. فى هذه الأيام برضه ، فى الوقت اللى كانت فيه الحروب الصليبية هاجم هذه المنطقة من العالم جيوش من أواسط آسيا .. التتار، ووصلوا إلى بغداد ، وسقطت بغداد في أيدى التتار، واستولى "هولاكو" على بغداد وأنهى حكم العباسيين ، ودخل "هولاكو" إلى سوريا ، ودخلت جيوش التتار لتستمر فى الفتح والغزو حتى تخضع سوريا .. كانت سوريا في هذا الوقت تحارب معركة الحرية ، وكانت سوريا في هذا الوقت تحارب معركة القومية العربية . وكانت جيوش التتار اللي قامت من أواسط آسيا مشبعة بالنصر؛ انتصرت في كل المعارك اللي خاضتها ، أخضعت جميع الشعوب اللي أغارت عليها حتى وصلت بغداد وأخضعتها ، وحتى عبرت الفرات إلى سوريا ، وقامت سوريا لتحارب ولتصد التتار ... وفي نفس الوقت هبت مصر وهبت جيوش مصر لتحارب مع سوريا هذه المعركة ضد المعتدين اللي ما انهزموش ولا فى معركة منذ قيامهم للغزو، واستطاعت جيوش سوريا ومصر أن تهزم التتار فى معـركة " عين جالوت " فى سنة 1260 .. "

وقد يصل الامر بعبد الناصر الى حد الصوفـية القومية حينما يصوّر الوحدة بأنها قدر الأمة الذي لا فكاك منه ، فلا غالب لمشيئة الأقدار ، حيث كانت الأمة العربية تبدع وسائل مقاومتها للأخطار الداهمة ، فتكون الوحدة هي الحل للخروج من أزماتها على مرّ التاريخ  لأنها السبيل الوحيد الى القوة ، كما يقول في خطابه أمام مجلس الشعب في 5 شباط / فيفري 1958  بمناسبة اعلان الوحدة  بين مصر وسوريا :

" لقد كان الكفاح من أجل الوحدة هو نفسه الكفاح من أجل القوة .. من أجل الحياة .. ولقد كان التلازم بين القوة والوحدة أبرز معالم تاريخ أمتنا ؛ فما من مرة تحققت الوحدة إلا تبعـتها القوة .. وما من مرة توفرت القوة إلا وكانت الوحدة نتيجة طبيعـية لها .. وليس محض صدفة أن إشاعة الفرقة وإقامة الحدود والحواجز كان أول ما يفعله كل من يريد أن يتمكن فى المنطقة ويسيطر عليها ، وكذلك لم يكن محض صدفة أن محاولات الوحدة في المنطقة لم تتوقف منذ أربعة آلاف سنة طلباً للقوة بل طلباً - كما قلت - للحياة  ... 
ولقد كان أسلوب السعي إلى الوحدة يتشكل بالعصر الذي تعيش فيه كل محاولة لتحقيقها ، ولكن الهدف ظل دائماً لا يتغير، وبقيت الغاية في كل وقت هي هذه اللحظات التي نعيشها الآن .. لقد اتحدت المنطقة بحكم السلاح يوم كان السلاح هو وسيله التعبير في الطفولة الأولى للبشرية ، واتحدت المنطقة بيقين النبوات حين بدأت رسالات السماء تنزل إلى الأرض لتهدي الناس ، واتحدت المنطقة بسلطان العقيدة حين اندفعت رايات الإسلام تحمل رسالة السماء الجديدة ، وتؤكد ما سبقها من رسالات ، وتقول كلمة الله الأخيرة في دعوة عباده إلى الحق.  واتحدت المنطقة بتفاعل عناصر مختلفة في أمة عربية واحدة ؛ واتحدت المنطقة باللغة يوم جرت العربية وحدها على كل لسان ، واتحدت المنطقة تحت دافع السلامة المشتركة يوم واجهت استعمار أوروبا يتقدم منها محاولاً أن يرفع الصليب ليستر مطامعه وراء قناع من المسيحية، وكان معنى الوحدة قاطعاً في دلالته حين اشتركت المسيحية في الشرق العربي في مقاومة الصليبيين جنباً إلى جنب مع جحافل الإسلام ... واتحدت المنطقة بالمشاركة في العذاب يوم حلت عليها غارات الغزو العثمانى، وأسدلت من حولها أستار الجهل تعوق تقدمها وتمنعها من الوصول إلى عصر النهضة في نفس الوقت الذي بدأ فيه عصر النهضة في أوروبا . بل إن المنطقة اتحدت فيما تعرضت له في كل نواحـيها من سيطـرة الاستعمار عليها ، ثم كان اتحادها في الثورة على هذا الاستعمار بكل أشكاله ومقاومته في تعدد صوره .. ومع الوحدة في الثورة كانت الوحدة فى التضحيات ؛ فإن المشانق التى نصبها جمال باشا فى دمشق عاصمة سوريا لم تكن تختلف كثيراً عن المشانق التى نصبها "اللورد كرومر" في دنشواى هنا في مصر .... 
 ولقد كان ذلك كله مدهشاً ولكنه لم يكن من صنع الصدف ؛ لقد مهدت عوامل كثيرة وكبيرة ، نبيلة وعميقة لهذا الذي ربط بين مصر وسوريا ؛ مهدت الطبيعة ومهد التاريخ ومهد الدم ومهدت اللغة ، مهدت الأديان ومهدت العقائد ، مهدت السلامة المشتركة ومهدت الحرية ، كذلك اشتركت فى التمهيد له تجارب من الألم والعذاب  .... هكذا كانت الوحدة هي الحقيقة ، وكان كل ما عدا الوحدة اصطناعا ً، وهكذا كان واضحاً أنه إذا تركت المنطقة تستوحى طبيتعها ، وتستلهم مشاعرها ، وتستمع إلى دقات قلبها ، فإن اتجاهها إلى الوحدة يصبح لا ريب فيه ولا مناص منه ... "

وهكذا اكتشف عبد الناصر بسهولة البعد القومي في أمن مصر واستقرارها ، وبقي يتصرف طوال حياته على اساس تلك الوحدة : وحدة الجغـرافيا ووحدة التاريخ ، كاطار للوعاء الذي أصبح بالممارسة الحية والجهد الخلاق يفيض بتلك الأفكار الرائدة للمشروع القومي الذي مثل فيه وعي عبد الناصر الراسخ والعميق بالتاريخ والانتماء الحضاري والديني حجر الأساس .. وهو ما اسهم فعلا في تحويل سياساته الى مهمات كبيرة لا تخص مصر وحدها بل تهم أمة بأكملها جمعها عبد الناصر حينما أحس وأدرك أن وحدتها تقوم على وحدة مشاكلها ومصيـرها ، مدركا في نفس الوقت الدور الريادي لمصر الذي حولها الى قاعدة متقدمة للنضال العربي على مدى عقدين كاملين ..
ومثلما يظهر هذا الوعي العميق بوحدة الوجود والمصير القومي في خطبه يظهر كذلك في تصريحاته للصحفيين حيث يقول في تصريح للاذاعة البريطانية بتاريخ 28 يناير 1959 في سياق ردّه على انتقاد سياسة مصر تجاه بريطانيا :

" إننا نؤيد حق تقرير المصير بكل ما نقدر عليه ، وصوتنا دائماً يتجاوب مع كل نداء للاستقلال . ونحن لا نستطيع أن نفصل أنفسنا عن مشاكل المنطقة التى تحيط بنا ، بل ولا نستطيع أن نقف موقفاً محايداً عندما نرى إخواناً لنا يخوضون معركة حياة . وإنى لأدهش مثلاً من الذين ترتفع أصواتهم فى لندن هذه الأيام يلومون ناصر على ما حدث فى عدن ، وينسون أن اللوم الحقيقى يجب أن يوجه إلى السياسة التي سببت ما حدث في عدن .. "

ثم يضيف موضحا أن ما تقوم به مصر سواء في الواقع أو في الاعلام ، هو مسألة مبدأ قبل كل شئ :

" إن سياستنا كما قلت هي التضامن مع جميع العرب ، وليس هدفـنا في الخليج أن نقوم بدعايات ضد بريطانيا ، وإنما نحن نؤيد مبادئ نؤمن بها ؛ نحن نؤيد الاستقلال وتقرير المصير، ونحن نناصر كفاح الشعوب العربية من أجل استقلالها ، ولا أظن أن أحداً يمكن أن يطلب منا أن نتنكـر لمبادئنا ، وعلى هذا فمن الطبيعى أن تكون أقوالنا في إذاعتنا أو في صحفنا انعكاساً صادقاً للمبادئ التي نؤمن بها .. "

وفي نفس الكلمة التي توجه بها للصحيفة البريطانية يوم 26 آذار / مارس 1956 يؤكد الزعيم الراحل على العلاقة العضوية بين مصر والدول العربية ، منتقدا السياسة البريطانية :

" إن سياسة بريطانيا كانت ستؤدى إلى تفريق الدول العربية ، وعـزل مصر عنها في تلك المنطقة ، وكانت تضن علينا بالسلاح ، في الوقت الذي يجري فيه تسليح إسرائيل على قدم وساق ... ومعنى هذا أن الفرصة العظيمة التي أتاحها توقيع الاتفاق المصري - البريطاني في أكتوبر من عام 1954 لتوطيد العلاقات بين بريطانيا والعـرب لم ينتـفع بها في شىء ، وكان هناك شبه هدنة قصيرة ، لم تلبث بعدها بريطانيا أن انغمرت في مشروع حلف بغداد ، الذي كانت تعلم من قبل أننا نرى فيه تهديداً لمصالحنا الحيوية ؛ إذ أنه يهدف إلى تجميعها كمنطقة نفوذ لبريطانيا .. "

ثم يضيف متحديا كل سياسات بريطانيا :

" هذه النظرة إلى الموقف الداخلى هي نواة سياستي، وهي تبدو لي أبلغ أهمية من خطر الحرب العالمية التي تقيم بريطانيا نظام دفاعها على أساس منه .. "

وقد عبر عبد الناصر عن تلك السياسة مكررا ما قاله في السابق تقريبا للتأكيد على أهمية الرفض والتحدي في نفس الوقت :

" العرب لا يستطيعون الآن أن يقبلوا أن يكونوا ذيلاً لسياسة بريطانيا ، أو أن تملى عليهم سياستهم من لندن ، فهذا أمر لم يعودوا يستطيعون قبوله . ويجب أن يعلم علم اليقين أن أي نظام دفاعي يفرض من الخارج ، لن تكون له أية قيمة إذا انهارت الجبهة الداخلية ؛ فالجبهة الداخلية هي التى ستحمي المصالح الحقيقية للعرب . وهذا هو السبب في أنه يجب أن يكون للعرب هيئتهم الإقليمية ، على أساس الضمان الجماعى ، بدون إشراك أية دولة في نظام آخر تحت سيطرة أجنبية .."

ولعل ما كان يبديه عبد الناصر من تحدٍّ لبريطانيا في تلك الظروف ، وما أبداه من تحدٍّ أكبر للغـرب عموما حينما رفض وقاوم وجودهم العسكري في مصر والدول العربية ، وحينما حارب مسعاهم لاقامة الاحلاف ، وحينما قام بكسر الحصار المضروب على الاسلحة وأخيرا حينما قام بتأميم شركة قناة السويس ، هو ما أدى بالفعل الى قيام العدوان الثلاثي في 29 أكتوبر 1956 ..
يقول في خطاب تأميم قناة السويس يوم 26 يويليو 1956 ، وهو يرد على منطق الاستسلام والمهادنة وقبول التبعية الذي يردّده بعض العرب :

" قامت ثورة ليه ؟! الشعب قاتل ليه ؟! الشعب كافح ليه ؟! الناس اللي ماتوا مننا سنة 19 وسنة 36 ، وقبل كده على مر السنين ، هل كانوا بيقاتلوا ويموتوا علشان برضه الأخر نبقى تابعـين ناخد أوامرنا من أي بلد من البلاد ؟!
عايزين مننا ان احنا نسمع أوامرهم .. طبعاً نسمع أوامرهم بخصوص إسرائيل ..
يقول لك : إسرائيل حقيقة واقعة كما هي الآن ، طلبات إسرائيل يجب أن تلبى ، حدود إسرائيل موجودة ..
بتقول لهم وأهل فلسطين ؟!
يقول لك دا موضوع نبقى نتكلم فيه بعدين .. موضوع يعني مؤجل .. !!
طب دول عـرب زينا .. ؟!
عرب فلسطين اللي شردوا، حقوق شعب فلسطين ؟ يقول لك : ندفع لهم شوية فلوس .. !!
مش كل واحد يبيع بلده بالفلوس ..
يمكن انتم بلدكم بقى لها 100 سنة أو 200 سنة بس ، عمرها صغـير مالهاش تاريخ طويل .. فلسطين دي بلد قديمة لها آلاف السنين .. احنا بنعـتـز بأرضنا وبنعـتـز بهذه العـروبة وبنعـتـز بوطنا .. وطن الواحد فينا وأرضه لا تقدر بثمن ولا تقدر بمال .. "

والواقع ان المتتبع لاقوال عبد الناصر يكتشف بسهولة أن الموقف القومي عنده هو الحاكم طوال مسيرته ، وليس الباقي الا تفاصيل وتفرعات .. يقول في كلمة له أمام مؤتمر العمال العـرب بالقاهرة بتاريخ 29 يناير 1969 :

" إن الأرضية الأصلية وراء الصراع العربي - الإسرائيلي ، هي في الواقع وعلى وجه الدقة أرضية التناقض بين الأمة العربية الراغبة في التحرر السياسي والاجتماعي ، وبين الاستعمار الراغب في السيطرة وفي مواصلة الاستغلال . وفيما مضى فلقد كان سلاح الاستعمار ضد الأمة العربية هو سلاح التمزيق ، وبعد حربين عالميتين ومع تعاظم الإيمان بالوحدة العربية ، فلقد لجأ الاستعمار إلى إضافة سلاح التخويف إلى سلاح التمزيق ، وكان أن استغل في ذلك الدعاوى الأسطورية للحركة الصهيونية ، وهكذا سلم وطن من أوطان الأمة العربية غنيمة مستباحة للعنصرية الصهيونية المدججة بالسلاح ؛ لكي يتم تكريس تمزيق الأمة العربية ، وليتحقق تخويفها باستمرار، عن طريق إيجاد قاعدة في قلبها لتهديدها ، فضلاً عما يتبع ذلك من استنزاف كل إمكانيات القوة العربية في صراع محكوم فيه تاريخيا ً... إن الأمة العربية لم تغتصب وطناً لشعب آخر، وإنما كان وطن أحد شعوبها ، وهو شعب فلسطين هو الذى تعرض للاغتصاب ، والأمة العربية لم تحتل بالقوة المسلحة ، وبالعدوان أرضاً لدولة أخرى ، وإنما توجد الآن أراض من ثلاث دول عربية أعضاء فى الأمم المتحدة تحت الاحتلال العسكري لإسرائيل المدعمة بقوى الاستعمار . والأمة العربية احتفظت طوال تاريخها بعلاقات إنسانية حرة مبرّأة من كل شوائب الاستغلال والعنصرية مع كل الأجناس والأديان - بما في ذلك اليهود بطبيعة الحال - ومع ذلك فإن العرب الآن تحت الاحتلال الإسرائيلي العنصري، مواطنون من الدرجة الثانية في وطنهم الواقع تحت الإرغام  والإكراه .. "

من هذا  المنطلق القومي ، لا يوجد ما هو اكثر وضوحا في ذهن عبد الناصر من قضية فلسطين ، كما يظهر في كلمة له للتلفزيون الفرنسي بتاريخ 29 نيسان / أفريل 1969 يقول :

" فلسطين كانت دائماً أرضاً عربية منذ قرون عدة ، وكان يسكنها المسلمون والمسيحيون واليهود ، وبدأت المشاكل بعد الحرب العالمية الأولى حينما صمم اليهود على إقامة وطن قومى لهم فى فلسطين ، وتأزمت المشكلة في سنة 1948 ؛ فبعد الحرب العالمية الأولى كانت نسبة اليهود 8 % ، زادت بعد الحرب العالمية الثانية ووصلت إلى حوالى 30 % ، وعندما بدأت الحرب سنة 48 بعد التقسيم ، وبعد أن حاولت دولة إسرائيل أن تستولي على الدولة الفلسطينية ؛ طُرد العرب سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين من أرضهم .. "


****


والموقف القومي لدى عبد الناصر ـ كما يبدو ـ  له بعدين مهمّين يتعلق احدهما بالوطن والآخر بالمواطن ..
البعد الاول نلمسه في الرّد الذي واجه به حركة الانفصال في سوريا حينما احسّ بخطر المواجهة التي ستجمع ـ وجها لوجه ـ  جيش مصر وجيش سوريا اللذان كانا تحت قيادة واحدة .. وهو ما جعله يقدّم المصلحة الوطنية والقومية ويتراجع عن مواجهة الانفصاليين بالقوّة اللازمة لاعادة الامور الى نصابها .... وفي هذا الاطار نجده يعبر عن قناعاته ورؤيته الثاقبة ، وتحليه بالصبر والمسؤولية في اكبر محنة شهدتها مصر وسوريا والأمة العربية جمعاء ، فيقول في خطابه المشهور بشأن الانفصال يوم 5 أكتوبر تشرين الاول 1958 معـبّـرا عن الموقف القومي  :

" أيها الإخوة :
لقد وقع فى سوريا ما تعرفون جميعاً ، تعرفون ما حدث بالأمس وتعرفون ما يحدث اليوم ، وإذا كنت أقول لكم إنني أتابع تطورات الحوادث بقلب جريح ؛ فإننى أقول لكم فى نفس الوقت إن ما يشغل بالي ليس ما حدث حتى الآن ، وإنما يشغل بالي أكثر منه ما يمكن أن يتداعى وراء ذلك من أخطار على الأمة العربية وعلى كيانها وعلى مستقبلها.
وأقول لكم الآن إنني أكاد أرى الأمة العربية مُقدمة على محنة رهيبة ، وأشعر أن واجبي يحتـّم عليّ أن أفعل كل ما فى وسعي كي أجنـّب الأمة العربية هذه المحنة ؛ لكى يبقى لها دائماً تنـبّهها إلى الأخطار المحيطة بها ، وقدرتها على النضال من أجل أهدافها ، لا يشغـلها عن ذلك شىء ، ولا يشدّ اهتمامها منه أي اعتبار مرحلي مؤقـت.
وإني لأقول لكم جميعاً - بضمير راض وقلب مستريح - إنني لا أقبل مهما كانت الظروف أن أرى الشعب هنا والشعب فى سوريا أطراف معركة وأصحاب خلاف وشقاق ، لا أستطيع أن أتصوّر القاهرة ودمشق إلا إخوة كفاح ، وإلا زملاء معركة ، وإلا شركاء قدر ومصير مع كل عاصمة عربية أخرى، مع كل مدينة عربية ، مع كل قرية عربية . ولقد شعرت خلال الأيام الأخيرة أن ما حدث كله قد فتح فرصة واسعة أمام أعداء الأمة العربية من قوى الاستعمار ومن أعوانه ، ومن قوى الرجعـية فى المنطقة وأعداء تقدم الشعوب ، ولقد رأيت رأي العـين فرحتهم جميعاً بهذه الفرصة التي تفتـّحت أمامهم ، ورأيت تأهّـبهم للاستفادة منها لمصالحهم وعلى حساب المصلحة العربية.
لقد أحسست أنهم يريدونها معركة تقتـتل فيها عناصر من أبناء الشعب السورى مع بعضها ، معركة تقع فيها الفتـنة بين الشعب العربي في سوريا وبين الشعب العربى في مصر، معركة تقع فيها شعوب الأمة العربية في حيرة تتوه بعدها فى الظلام . ذلك كله كان أمامي ، وكان أمامي أيضاً واجبي تجاه الأمة العربية وتجاه المصير العربي ، وإنكم لتعرفون أنني اتخذت منذ أيام قراراً بألا تتحوّل الوحدة العربية بين مصر وسوريا إلى عملية عسكرية ، وبناءً على ذلك فلقد أوقفت جميع العمليات العسكرية التي  كانت قد بدأت لمناصرة الجموع الشعبية الثائرة ضد الحركة الانفصالية في سوريا.
واليوم أعلن إليكم جميعاً أنني إذا كنت قد رفضت أن تكون الحرب العسكرية وسيلة إلى تدعيم الوحدة ؛ فإنني أرفض الآن أن تكون الحرب الأهلية بديلاً لذلك ، ولعلكم تذكرون أن الإجماع الكامل كان من شروطي الأساسية لقبول قيام الوحدة بين مصر وسوريا فى فبراير سنة 1958 . "

أما البعد الثاني فنلمسه في مشاعره القومية الجياشة التي تظهر تجاه المواطنين العـرب في كل مرة يلتقي بهم ، كما يظهر في لقائه  بالوفد السوري اللبناني بتاريخ 26 فيفري / شباط 1955 يقول فيه :

" أنا سعيد بهذا اللقاء ، وكنت أرجو أن يكون فى الصباح ولكنى لا أحرمكم من سبل التعـرّف على مصر ونهضتها ، فلاشك أن هناك عدداً كبيراً منكم يزور مصر لأول مرة ، ولا شك أيضاً أنكم شعـرتم بالحفاوة والكرم والتقدير اللائق بكم كشباب تمثلون العـزة القومية العـربية ، ولاشك أن هذا الإكرام والحفاوة لا تقاس بجوار المشاعـر والعواطف التى يكنها المصريون لأبناء العروبة أجمعين ، ولاشك أيضاً أنكم لمستم هذه العواطف وهذه الأحاسيس ، وأنتم الجيل الذى سيبنى نهضة العرب والأمل الذى يحدو العـرب أجمعـين .. "

ويقول في كلمته بوفد مدرسة الأرمن المقدّسة السورية يوم 11 يناير 1956 بالقاهرة وهو يستقبلهم بحفاوة :

" إني سعـيد إذ أراكم في مصر بلدكم ، والحقيقة أن البطولة بطولة الشباب ورجال العـرب جميعاً ، ونحن نعـتمد على بطولة شباب سوريا ورجالها ؛ لأنهم جـنود الأمة العـربية جميعاً في الوقت الحاضر، ودرعها الذى يحمي استقلالها وحريتها.
ولقد كانت هناك محاولات لعـزل مصر عن أخواتها العـرب ، ولكن الشعور العـربى أصبح الآن واحداً، والإحساس واحداً، وأصبح هذا الشعور في غاية القوة، وأصبحنا كلنا نحافظ على هذه العلاقات التي تربطنا جميعاً برباط واحد . وهذا الشعور الواحد هو الذي سيبلغـنا أمانينا ويجعـلنا نسير بقوة نحو تحقـيق أهدافـنا .. وإن رسالتنا اليوم تعتبر بحق رسالة العرب ؛ لأنها رسالة العزة ، ورفع اسم العـرب عالياً . وقد أصبح هذا الشعور واضحاً اليوم ، ليس في سوريا فحسب بل في جميع البلاد العـربية .. وفقنا الله جميعاً لما فيه خير العـرب والعـروبة.. "

ويقول في وفد المحامين العرب بتاريخ 27 / شباط / 1956 :

" أنا سعيد بهذه الفرصة التي أرى فيها الوفود العربية تجتمع في مؤتمر المحامين ، وأنا سعيد أيضاً بأن أرى روح الكفاح تستمده الدول العربية من بعضها البعض . وتاريخ الكفاح الطويل لم يقتصر على بلد دون البلاد الأخرى، ولكنه كان كفاحاً مستمراً ينعكس أثره من بلد على البلد الآخر. ونحن نستمد منكم أيضاً روح الكفاح ، ونشعر بمساندتكم لنا فى قضايانا الكبرى التي هي قضاياكم أيضاً ..
وأنا أشعـر أني بين إخواني وأهلي ، فأنتم لستم غرباء عنا ، وأظن أنكم شعرتم بهذا أيضاً ، وأعتقد أنكم ستشعـرون بهذا الشعور في المدة التي ستقيمونها بيننا ؛ تشعـرون أنكم فى دياركم وبين إخوانكم وأهلكم .. "

ويقول في كلمة له في وفد المعلمين اللبنانيين بتاريخ 4 نيسان / أفريل 1956 :

" نحن هنا في مصر نشعـر بالأخوة للعـروبة وللبنان الشقيق ، ونحن هنا كمسؤولين في مصر نعمل على توثيق هذه الرابطة ... إن في زياراتكم المتكررة تقوية للبنان ومصر، وهذا هو أسمى غرض يمكن أن تعملوا جميعاً من أجله .. وأرجو أن يزداد عددكم فى المرات القادمة ؛ حتى تظهر أثار هذه الأخوة والترابط فى الوطن العربي ؛ فتزداد المقومات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تساعد فى بناء الوطن العربي الكبير. . "

كما يقول في كلمته أمام الجالية اللبنانية بتاريخ 2 فيفري / شباط 1955 :

" لا أعرف كيف أعبر لكم عن عواطفى وعن شكري إزاء هذا الشعور الذى لمسته اليوم منكم ، فزادني إيماناً على إيماني .. إنني كنت دائماً أشعـر بهذه العواطف ، وكنت دائماً أحس بها ، وأنا اليوم في هذا الاجتماع ، وفي هذه الظروف التي يمر بها العـرب ، أتجه إلى المستقـبل بعد أن رأيته فـيكم ، وكلي ثقة بالمستقـبل ، وكلي إيمان بالمستقـبل  ... إننا نشعـر - يا إخواني - بهذه القوة ، إننا نؤمن بكم وبقوتكم ، نؤمن بالعـرب وبقوة العـرب ، وسنسيـر قدماً إلى الأمام لنبني هذه القوة الحقـيقـية ، لنـزيل شوائب الماضي التي ألحقـت بنا الهـزائم ، سنسيـر متحدين حول قومية واحدة وعـزة واحدة وكـرامة واحـدة .. "

هكذا نجد ان هذا الشعور القومي الجياش مرتبط في وعي عبد الناصر بالعلاقة المتينة بين الوطن والشعب .. لذلك فان تطلعه الى الحرية كقيمة انسانية آمن بها ، لا يمكن أن تتحقق ـ في نظره ـ ، بدون  حرية الوطن وحرية المواطن على حد السواء ..
وفي هذا الاطار كان اهتمامه بالانسان العربي وبقضاياه المصيرية ، التي يأتي في المقدمة منها  قضية فلسطين ، التي اهتم بها منذ وقت مبكر ، ورجع منها بعد حصار الفلوجا وهو يحمل الحسرة و الاسى مما لقيه كل الذين شاركوا في حرب 1948 بسبب الخيانة والتخاذل من طرف الانظمة العربية في التعامل مع القضية اثناء الحرب التي بعثوا لها بجنود يحملون أسلحة فاسدة ثم أصدروا اليهم الأوامر بعدم التوغل في مواجهة القوات الصهيونية كما حصل في جـبهتي مصر و الاردن .. وهي حقائق اشار اليها عبد الناصر نفسه عدة مرات ومنها ما ذكره في خطاب القاه يوم 26 جوان 1962 قال فيه :

" أنا رحت يوم 16 مايو وصلت إلى رفح ماكانش فيه جيش ليقاتل ، يمكن كانت الجيوش العـربية داخلة علشان تنفذ التقسيم ، ودا السبب اللي الجيش المصري كان ماشي على الساحل لغاية أسدود علشان ينفذ الخطة اللي موجودة بالتقسيم ، ماكانش دا الكلام اللى اتقال ، والجيش بتاع الملك عبد الله داخل برضه على خطة التقسيم ، وبعد كدا ترك اللد والرملة ، وأنا باعتبر إن النكبة فى سنة 48 سببها العرب أكثر من اليهود .. "

بل ان عبد الناصر في ذلك الخطاب يشرح تفاصيل أكثر تتعلق بالهزيمة وأسبابها كما عاشها في فلسطين في جبهتي مصر والأردن :

" في سنة 48 راحت مننا مواقع بدون قتال ، اللي كانوا موجودين فى الفلوجا أو اللي كانوا موجودين في عراق المنشية أو اللي كانوا موجودين في بيت جبرين .. بيت جبرين راحت بدون قتال ، الخط الموجود على ذكرين ودير الدبان ودير أبان وبير الجمال وكل المنطقة دي راحت بدون قتال ، ما حصلش فيها ولا رصاصة .. الدوايمة راحت بدون قتال ، المنطقة دي كلها راحت بدون قتال ، مافيش ولا رصاصة ، في كل هذه المناطق لم يحدث قتال ، كل دا خدوه اليهود بلاش ، اللي همّ بيخدعونا و بـيـقولوا في العالم أنهم حاربوا وكسبوا معـركة سنة 48 .. "

ثم يقول بشأن القيادة المتخاذلة في الاردن التي كانت من وراء ذلك :

" الشعب العربي شعب مستعد يضحي بالمال ومستعد يضحي بالروح ومستعد يضحي بالدم دائماً ، ولكن باستمرار بيظهر بعض الناس بيخدعوه أو بعض الناس بيضللوه كما ضللونا فى سنة 48 ، ولـّـيْـنا القيادة للملك عبد الله .. ازاي بس الملك عبد الله اللي هو بيشتغـل تحت إدارة " جلوب "، أو اللي " جلوب " مسئول عن قواته واللي هو في جيب بريطانيا بيقود الجيوش العربية لتحرير فلسطين إلا إذا كنا بنضحك على نفسنا ..؟‍ قطعاً كـنا بنضحك على نفسنا ... "

كما يشير كذلك الى تخاذل النظام العراقي ويسمي ذلك بالخيانة فيقول في كلمة له أمام قوات الجيش في الاقليم الشمالي للجمهورية العربية المتحدة بتاريح 11 آذار/ مارس 1958 :

" كلنا نعلم كيف تصرفت حكومة العراق في هذا الوقت ، وكان جيش العراق الباسل يريد أن يدخل القتال ، وأمر رئيس الحكومة - في هذا الوقت - أن يشترك جيش العراق مع الجيوش العربية في القتال . ولكن كان الخونة الذين يحكمون الوطن الشقيق .. كان هؤلاء الخونة ينفذون أوامر الاستعمار، كان هؤلاء الخونة يعملون مع الاستعمار ومع الصهيونية العالمية ، وكانوا - في هذا الوقت - يطعـنوكم في ظهوركم ، ويطعنوكم في قلوبكم ، ويطعنوننا في قطعة من الأرض العزيزة ... كلنا نعلم كيف أراد جيش العراق فى سنة 48 أن يشترك في المعركة جنباً إلى جنب مع إخوته .. وكلنا نعلم ماذا كان الرد في هذا الوقت ... 
هذه الكلمة "ما كو أوامر" إلى الجيش العراقى حتى لا يشترك مع الجيوش العربية في القتال ضد الصهيونية العالمية ، أوصلتنا إلى حال يعلمه كل فـرد في الأمة العربية ويعلمه كل فرد في العراق وفي جيش العراق .."

من الواضح أن اهتمام عبد الناصر بقضية فلسطين يجعله يكرر الحديث عن حرب 48 وأسبابها ونتائجها .. وهو يذكر ذلك بكل حسرة و مرارة ولوعة لأنه عاش الهزيمة وهو الذي ذهب كما ذهب رفاقه بعزيمة المجاهدين ، الا أنهم صُـدموا جميعا بتلك المواقف الرسمية التي لا تعـبّـر في النهاية الا عن الخـيانة والخذلان ..
ففي خطابه يوم 21 ماي / أيار 1962 بجامعة القاهرة بمناسبة تقديم الميثاق الوطني يؤكد تقريبا على نفس الفكرة  مشيرا مرة أخرى الى الجانب الاردني فيقول :

" إن سخرية القدر من الأمة العربية وصلت إلى حد أن جيوشها التى دخلت فلسطين لتحافظ على الحق العربى فيها ؛ كانت تحت القيادة العليا لأحد العملاء الذين اشتراهم الاستعمار بالثمن البخس ، بل إن العمليات العسكرية تحت هذه القيادة العليا كانت في يد ضابط إنجليزى؛ يتلقى أوامره من نفس السّاسة الذين أعطوا للحركة الصهيونية وعد "بلفور" ؛ الذي قامت على أساسه الدولة اليهودية في فلسطين ... "

وفي كلمة له بنادي فلسطين بالاسكندرية في 13 ديسمبر 1953 نجده يعـبـّر فيها أولا عن سبب اختياره لهذا المكان قائلا :

" اذا كنت أرغب أن أخطب في أي مكان فلا أحب أن أخطب إلا في نادي فلسطين لمعنى عميق في نفسي .. "

ثم نجده يسترسل في شرح الوضع العربي وأسلوب التعامل مع الأحداث في تلك الفترة فيقول :

" منذ انتهت الحرب العالمية الأولى، وبعدما انتهى الاستعمار عن استجداء العرب حتى تخلص الإنجليز من الأتراك ، نقضوا عهودهم وأخلفوا ما وعدوا به في أول الحرب ... وبعد الحرب العالمية بدأ الإنجليز في تقسيم البلاد العربية ، وبث روح التنافر والتفرقة بين أبناء البلد الواحد ، فماذا عملنا إزاء كل ذلك ؟ إننا لم نعمل شيئاً إلا أن كل بلد أخذ يفكر في نفسه ... ثم أعلن وعد بلفور ، وهو بداية الطريق نحو نهاية فلسطين ، ولم نعمل كذلك شيئاً سوى الاجتماعات والخطب ، وإدخال الطمأنينة في القلوب .... "

ثم يضيـف :

 " كنا نقول في اجتماعاتنا وخطبنا سنلقي اليهود في البحر، وبعد انتهاء الخطبة نطمئن ، ويذهب كل منا إلى بيته ؛ حتى بدأت الحرب العالمية الثانية ، وأخذ الاستعمار ينفذ خطته في سبيل تحقيق أغراضه ..
لقد أعلنوا مبادئ العالم الحر، وقالوا: إن لكل دولة أن تقرر مصيرها ، فأخذنا ننظر لنرى مدى تحقيق هذه الوعود ، ونسينا أنهم لم يفوا بوعودهم في الحرب العالمية الأولى .
ووقف العرب ينتظرون ، وكانت النتيجة أن أصحاب مبدأ العالم الحر بدؤوا عملهم بنكبة فلسطين التى لم نسمع بمثلها فى تاريخ البشرية ، وبعد هذا رفرف الاستعمار على رؤوس العرب ، ولم نعمل غير هذا ، فمن المسئول؟ ومن الذى دفع اليهود وشجعهم على احتلال فلسطين ، وقضى على الشعب العربي؟ إنها إنجلترا ؛ فهي الداء وهي البلاء الأول ... "

في النهاية نجده يوضح سبب هذا التأثر وخيبة الأمل من خلال شرحه  للحالة التي كان عليها الوضع  في ظل الأنظمة المتخاذلة ..

" حصل الذي حصل في حرب فلسطين سنة 1948 ، ورأينا المآسي ، وسمعنا كلاماً كله خداع لا يقصد منه إلا كسب الناس . وكان زعماء العـروبة يعـرفون ذلك ؛ ولكنهم كانوا يضللون العـرب ويخدعونهم ، لا لشئ إلا الانتفاع الشخصي . كان كل منهم يفضل نفسه عن العرب كمجموعة وكوطن ، ويمني  نفسه بكسب سياسي ، ولا يهمه لو ضاع في سبيل ذلك دولة عربية . كانوا يقولون في خطبهم : " إسرائيل المزعومة " ، ولم يعملوا شيئاً إلا الخطابة عن " إسرائيل المزعومة " .

لذلك يجب تجاوز حالة الضعف والتشتت ببناء رابطة حقيقية قادرة على مواجهة التحديات :  

" فنحن كما كنا ، ومازالت الأطماع ، ولا يزال الخداع والأساليب التى اتبعت فى الماضي ، والرابطة العربية رابطة وهمية حتى الآن ، وليست  حقيقية .. فإذا لم نتدارك هذه الأمور تداركاً سريعا ً، ونعالج السبب ونعرف الداء لذهبت الدول العـربية هباء ...

وهكذا نجده يعود في كل المناسبات الى تأكيد التلازم الواضح في تفكيره  بين النظرة الى الاحتلال بجميع أنواعه والاستعمار ومخططاته من ناحية ، وبين قضية الوحدة  وقضية فلسطين من ناحية اخرى ، كمشروعين متناقضين متصارعين على الدوام  .. فيقول في كلمة له أمام شباب فلسطين والمقاومة الشعـبية الذين يدرسون في القاهرة بتاريخ 9 مارس 1957 مؤكدا نطرته تلك  :

" إن القومية العربية التي اشتعلت اليوم ، والتي آمن بها كل عربي حر، هي السلاح الذي سنحارب به دائماً العدوان ، وسنحارب به دائماً السيطرة الأجنبية ، وسنحارب به آمال الصهيونية في التوسع والسيطرة على العرب ..

وفي كلمة له يوم 25 يونيو 1958 في ساحة الجلاء بدمشق بين أبناء المقاومة الشعـبية التي جاءت تهنئ بقيام الوحدة يعـبّـر عن شعور بالأمل في النصر الذي سيصبح نصرا قوميا بامتداده من المشرق الى المغـرب مرورا بمصر وفلسطين فيقول :

" لقد انتصرت سوريا ومصر واتحدوا وقضوا على السيطرة الأجنبية ، وسينتصر باقي العرب فى كل مكان ، سينتصر العرب في الجزائر، وسينتصر العرب في شمال إفريقيا ، وسينال عرب فلسطين حقوقهم بعون الله ... "

وفي كلمة لعبد الناصر بتاريخ 1 مارس 1960 أمام وفد غـزة الذي جاء يهنئ  بالوحدة ، يؤكد بأن فلسطين قضية قومية تهم كل عربي بقوله :

" أنتهز هذه المناسبة لأقول : إن قضية فلسطين ليست قضيتكم وحدكم ولكنها قضيتنا جميعاً ، وهذا القول لا يصدر عني ولكنه تعبير عن إرادة الشعب العربي كما لمستها في كل قرية وفي كل مدينة .. فقد لمست في الشعب العربي الإصرار على الحفاظ على حق شعب فلسطين في أرضه وفي بلده ، ولم يكن ما قلته في كلمات متعددة إلا التعبير الذي أحسست به من شعب الجمهورية العربية المتحدة . وأنتم تشعرون أن شعب الجمهورية العربية المتحدة لم يبخل بالدم ولا بالشهداء ولا بالأموال في سبيل هذه القضية لأنه يعتبر أن هذه القضية هي قضيته وأن في هذه القضية سلامة العرب أجمعـين ... "

ولقد كان عبد الناصر بنظرته القومية يرى بأن مجرد تسليح اسرائيل هو عدوان على الوجود القومي كما قال في تصريح له لوسائل الاعلام يوم 16 نوفمبر 1955 :

" وإن إمداد إسرائيل بالسلاح لن يساعد على إقرار السلام ، فإن كل رصاصة تسلم إلى إسرائيل معناها إهدار حياة مواطن عربي .... وإزاء هذا الخطر لن يكون أمامنا إلا طريق واحد ، وهو العمل على الحصول على مزيد من الأسلحة ؛ حتى نحافظ على وطننا وعلى قوميتنا ، وحتى لا نلاقى المصير الذي لاقته فلسطين ، فإن قومية فلسطين وآدمية أهلها قد أهدرت تحت سمع الأمم المتحدة وبموافقة بعض الدول الكبرى ؛ إرضاءً للمنظمات الصهيونية فيها .. "

وفي تصريح آخر للأهرام بتاريخ 30 يونيو 1959 ، تحدث عبد الناصر مطولا عن ظروف احتجاز الباخرة الدنماركية التي اعتبرها مؤامرة ولعـبة مكشوفة من ألاعيب اسرائيل وهي تحاول ان تفـتعل أزمة بين مصر والمجتمع الدولي بسبب حرية الملاحة ، ويفضح انحياز الدول الغـربية ضد القضايا العـربية ، ثم يربط بين حقوق مصر وحقوق فلسطين والحقوق العـربية جميعا فيقول :

" تتردد الآن أصوات فى الغـرب تتحدث عن حق إسرائيل في استعمال قناة السويس ، ولا نسمع صوتاً واحداً في الغـرب يتحدث عن حقوق شعب فلسطين . ولن يؤثر فينا ما يقولون ، إن طريق الواجب واضح أمامنا ؛ حقوق شعب فلسطين .. حقوق العـرب.. حقوقـنا ، وسنمضي في طريق الواجب مهما كانت الاحتمالات .. "

كما توجّه عبد الناصر الى وفود فلسطين الوافدة إلى دمشق بتاريخ 3 آذار / مارس 1961 موضحا موقع قضية فلسطين في الصراع جملة وتفصيلا :

" أيها الإخوة : حينما أتكلم إلى أبناء فلسطين فإني أتكلم عن القضية العربية التي مست قلب كل إنسان عربي ، أتكلم عن قضيتنا جميعاً .. فقضية فلسطين لم تكن أبداً قضية شعب فلسطين فقط ؛ لأنها استهدفت العرب في وطنهم الكبير، في كل بلد من بلاد العرب . قضية فلسطين لا تعني جهود الصهيونية فقط وجهود اليهود ، ولكن قضية فلسطين منذ بدأت كانت تمثل تحالف الاستعمار العالمي والصهيونية العالمية ضد الأمة العربية والقومية العربية. .. "

ثم يسترسل في تفاصيل ذلك الموقف قائلا :

" هذا هو ما قابلناه في الماضي فبريطانيا التي ائـتــُـمنت على فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى ، وبريطانيا هي التي وعدت اليهود بالوطن القومي الفلسطيني ، بريطانيا هي التي تحالفت مع الصهيونية ، ثم أتت بعد هذا أمريكا وتحالفت مع الصهيونية ، ثم الاستعمار الغـربي كله تحالف مع الصهيونية ضد العرب وضد القومية العربية ؛ إذن القضية كانت تحالفاً من الاستعمار وأعوان الاستعمار والصهيونية العالمية ضدنا نحن العـرب ..."

وقد كان عبد الناصر واعيا بالأدوار والاساليب والخطط التي عبر عنها بكل وضوح :

" وقد مرت بنا التجارب قبل 48 وبعد 48 ، هذه التجارب التى دلتنا على أسلحة الاستعمار وأعوان الاستعمار في فلسطين وفى خارج فلسطين ، كان الاستعمار يعتمد على سلاحه الرئيسى وهو سلاح الدس والتفـرقة فى داخل فلسطين ، كان هناك دس وكانت هناك تفرقة في جميع أنحاء الأمة العربية ... وكان الاستعمار يرى في هذا السلاح الرئيسى الذي يمكنه من أن يضعـنا في داخل مناطق النفوذ ، وأن يسيطر على مقدراتنا ، وأن يبقـينا على درجة كبرى من الضعف ، وأن يمكن لليهود وللصهيونية من فلسطين ... "

ثم يضيف بمرارة متحدثا عن هـزيمة 1948 :

" كانت هذه خطة الاستعمار، ولم نتنبه بل تنبهنا ، ولكن كانت صحوتنا تهب لترقد مرة أخرى ، قامت ثورات في فلسطين وقامت ثورات في أنحاء العالم العربي ، ولكن ماذا كانت النتيجة ؟ تغلب علينا الاستعمار وتغـلبت علينا الصهيونية ، واستخدم الاستعمار أعوانه من الخونة ليجعلهم خناجر في ظهورنا وصدورنا ... "

ويعقب متحدثا عن خطة عملية لتجاوز الضعف :

" هذه هي العوامل التي أدت إلى نكبة 48 ، إذا بحثناها ودققنا فيها نستطيع أن نعرف ما هي العوامل التي تمكننا من أن نسترد حقوقـنا ؛ لابد أن نتخلص كلية من الاستعمار، وكل نفوذ له ؛ لأن الاستعمار منذ الحرب العالمية الأولى هو الذي أصابنا بهذه النكبة ، ثم لابد أن نتخلص من أعوان الاستعمار جميعاً ، ثم لابد أن نعمل على أن نتحد ونكون قوة وطنية قومية واحدة ، ثم أن نعمل على أن نوحد الأمة العربية ... "

ويؤكد من جديد عن فكرة التفرقة وما يجب فعله في مواجهة مخططات الاستعمار والصهيونية :

" اننا إذا نظرنا اليوم إلى إذاعات إسرائيل . فإنها لا هم لها إلا التفرقة ، تفرقة الأمة العربية ، وتفرقة الشعب العربي ، وكانوا في سنة 56 حينما اعتدوا علينا في مصر - العدوان البريطاني - الفرنسي - الإسرائيلي - كانوا يقولون إن هذه حرب وقائية حتى يدمّروا الأسلحة التي حصلنا عليها وحتى يمنعوا الوحدة العربية من أن تصبح حقيقة واقعة ..
إذن علينا أن نقاوم الاستعمار وأعوان الاستعمار، ثم علينا أن نقاوم كل أسباب الدس والتفرقة ... ونكون وحدة وطنية في فلسطين .. شعب فلسطين يكون وحدة وطنية ، ثم علينا بعد هذا أن نتنبه لألاعـيـب الاستعمار والصهيونية ضد دعوة القومية العـربية والوحدة العربية ، فإن الوحدة العـربية هي المسمار الأكبر فى نعش الاستعمار ونعش الصهيونية ..
ثم علينا - أيها الإخوة - أن نبحث عن مصادر القوة بكل معانيها ، القوة ليست في الأسلحة فقط ، القوة أيضاً في التصنيع وفي العمل الجدي الكبـيـر  .. "

وهكذا لا يبدو غـريبا ابدا ان يكون عبد الناصر زعيما قوميا حقيقيا وميدانيا يتحدث الى الجماهير العربية في كل مكان وفي كل الساحات وفي كل المناسبات ثم يجمعها بحديث شامل وعميق عن اعدائها وهم الاستعمار والصهيونية والرجعية المتحالفة معه .. وهو في هذا الخطاب يختم برؤيا قومية واضحة من خلال الحديث عن مشكلة فلسطين ومدى ارتباطها بكل القضايا الاخرى في الوطن العربي ، فيقول :

" أيها الإخوة ، ذلك هو طريقنا لاستعادة حقوقنا وحقوق العرب في كل مكان .. هي حقوقنا ، حقوقكم في فلسطين هي حقوق الشعب العربي في كل وطن عربي ، حقوقكم في فلسطين هي أمانة في عنق الشعب العربي فى كل بلد عربي ، على هذا الأساس نسير لنسترد حقوقنا ، ولن نتردد أبداً ، ولن نخاف أبداً، ولن نساوم في حقوقنا ؛ لأن المساومة في الحقوق هي أول وسائل العبودية ، ولن يستعـبدنا الاستعمار ولن تستعبدنا الصهيونية أبداً، بل سنقاوم ونقاوم  ونكتـّـل  ونكتـّـل  حتى نحرر بلاد العـرب كلها من الاستعمار ... "

كما يخاطب الزعيم الراحل الوفد الفلسطيني في دمشق يوم 24 مارس 1959 قائلا بنفس النبرة والروح القومية والتحدّي :

" إن هذا اللقاء بيننا في دمشق قلب العروبة ، التي قاست طويلاً ولكنها ثبتت على عروبتها ، وكافحت من أجل المبادئ العربية التي تبنتها ، دمشق التي عبرت عن سوريا التي أنهكها الاحتلال العثماني والاحتلال الفرنسي ، ولكنها رغم ذلك استمرت ترفع علم العروبة وتتبنـّى كل قضية عربية ..
وأنتم هنا - أيها الإخوة - من فلسطين التى بذلت .. بذلت الكثير؛ بذلت الدماء ، وبذلت الأرواح ، وبذلت الغالي والنفيس . وهذا البذل - أيها الإخوة - لم يضع هباء ؛ فإن هذا البذل .. بل هذه المحنة التي قابلناها والتي قاسيناها إنما كانت الشرارة التي أوقدت نار البعث الكبير في جميع أنحاء الأمة العربية . وما المعارك التي ندخلها اليوم إلا استمرارا  للمعارك التي خضناها جنباً إلى جنب في عام 48 ، المعارك من أجل الوحدة العربية ومن أجل التضامن العربي ؛ لأننا قاسينا في عام 48 .. قاسينا وكنا نحارب في فلسطين ، وكانت هناك سبع دول عربية ، وكان من المفروض أن تكون جيوش السبع دول العربية أو السبع جيوش لها النصر ولها الفوز، ولكنا لم نحقق النصر لا لسبب إلا لأننا كنا سبع جيوش في  التفرقة  والانقسام .. "
وإذا كنا خرجنا بعد محنة فلسطين ننادي بالوحدة العربية والتضامن العربي ، فإننا كنا نؤمن إيماناً أكيداً أن هذا هو سلاحنا الرئيسي ضد الاستعمار الصهيوني ، وضد الاستعمار الغربي ، وضد أي نوع من أنواع الاستعمار.."

ويذكر هنا دورشباب فلسطين في المقاومة خلال العدوان الثلاثي بالقول :

" إن شعب فلسطين ضرب دائماً أروع الأمثلة وأروع البطولات فى سبيل إعطاء المثل الأعلى للتضحية والفداء . ولم يكن هذا الذي رأيته فقط في عام 48 ، ولكني رأيت هذا أيضاً في عام 56 حينما ابتـليتم مرة أخرى بالصهيونية ، وحينما خرج شبابكم ليقاتل بالسلاح الصغير ضد الدبابات ، وحينما رفضتم أن توقفوا القتال ، وصمّمتم على أن تقاتـلوا إلى أخر قطرة من دمائكم ... "

ويقول في كلمته أمام اللجنة التنفيذية للاتحاد القومي الفلسطيني في 19 أكتوبر 1960 وهو يجتهد في تحويل هزيمة 48 الى روح معنوية تدفع الى المقاومة والصبر على المحنة من أجل النصر :

" هدفنا الأول هو إبقاء الكيان الفلسطينى ؛ لأن خطة الصهيونية والاستعمار مبنية على القضاء على الكيان الفلسطينى ، أو إبادة شعب فلسطين ، وإنهاء حاجة اسمها فلسطين أو شعب فلسطين . دا واضح مش من سنة 48 ، ولكن واضح من قبل عام 48 ، لم نوفق في عام 48 ، قد تكون هذه حكمة إلهية ، شرّ وقع بنا ولكن يراد به الخير حتى نستيقظ ، وحتى نستطيع أن نجابه جميع الشرور الأخرى اللي كانت مبيتة لنا. ويمكن شعب فلسطين دفع ثمن هذا الاستيقاظ ، ولكن من الواضح ان بعد ما حدث في سنة 48 حتى الآن فيه روح جديدة وثورة عارمة تجتاح العالم العربى .. فأنتم دفعتم ضريبة ، ولكن حتى ننجح فى تحقيق أهدافنا بالنسبة لشعب فلسطين وبالنسبة لفلسطين ، لابد أن يتـّـحد شعب فلسطين .. دا الأساس الأول ، ودا الأساس اللي كان لازم قبل سنة 48 ؛ حتى يمكن أن تجابهوا الصهيونية التي اتحدت على هدف واحد وهو إبادة شعب فلسطين ، وإقامة قومية صهيونية بدل القومية العربية الموجودة في فلسطين ... "

وفي هذا السياق يستطرد بلهجة واضحة وبسيطة في شرح الشروط اللازمة لتحقيق النصر وهي تتمثل في الوحدة الوطنية على أسا وحدة الهدف فيقول :

" واجبكم أنتم من أجل شعب فلسطين أن تنظموا هذا الشعب ، وتساعدوا هذا الشعب بكل الوسائل .. بتنظموه بإيه ؟ بالاتحاد .. مافيش حاجة بنختلف عليها ، احنا بنهدف إلى عودة حقوق شعب فلسطين ، وعودة الوطن الذي اغتصبته الصهيونية والاستعمار ...
إذن الخلاف هنا أو التنافس يكون في البذل ، مين حيبذل أكثر في سبيل تحقيق هذا الهدف ، مافيش مكاسب فردية أو مكاسب مادية ، وكل فلسطـينى لازم يشعـر بهذا... المطلوب البذل .. المطلوب التنافس في البذل ؛ إذن لا سبيل إلى الخلاف ، كل من يحاول أن يبذر الخلاف لمنفعة شخصية بيبقى طبعاً خان قضية فلسطين ، وشفنا في الماضي ازاي المنافع الشخصية ضيعت فلسطين ... "

ويعود رحمه الله في اجتماع بالمجلس التشريعي الفلسطيني بقطاع غزة في 26 جوان 1962 الى الاشارة الى الظروف التي أدت الى ضياع فلسطين قائلا :

"  فى سنة 48 كانت مصر تحت سيطرة الإنجليز، كان عندنا هنا جيش احتلال ، وكانت العراق أيضاً تحت سيطرة الإنجليز .. وكان الأردن تحت سيطرة الإنجليز .. وكانت السعودية تحت سيطرة الأمريكان .. كلنا بنعـرف هذا، ماكانش فيه جيش في مصر .. احنا كان عندنا فى سنة 48 تسع كتائب كان واحدة منها في السودان ، دخلنا الحرب بـ 3 كتائب ، وكل كتيبة كانت 800 عسكري و830  عسكري اللي كانوا موجودين في الوقت دا في رفح وفي غزة ، بتفـتكـروا ان احنا ماكانش فيه 4000 عسكري فى الحرب من أول يوم ...

لكنه يؤكد في نفس الوقت على معاناة شعب فلسطين معتبرا أن ما تعرّض له كان تضحية ، وأن فلسطين قضية العرب جميعا ، و مسؤولية تحريرها تعود اليهم كلهم :

" خسرنا فعلاً في عام 48 خسارة ، ولكن انتم يمكن اللي قاسيتم منها ، ولكن هذه الخسارة نبهت الشعب العربي في كل بلد عربي وإلا كنا كلنا ضعنا .. كانت القومية العربية كلها راحت وجت بدلها قومية صهيونية من النيل إلى الفرات والعرب كانوا تفتـتوا . انتم دفعتم الضريبة ، انتم دفعتم ثمن كبير علشان تصحّـونا .. علشان تصحّـوا الأمة العربية ، والأمة العربية بالتالي عليها واجب كبير نحوكم لتحقيق أهدافكم فى استعادة حقوقكم في فلسطين ... "

وفي سبيل تحقيق ذلك الهدف يقول بكل حرص :

" إذن علينا أن نعتمد على أنفسنا ، أن نكشف كل من ينحرف وكل من يرتد ، أن نصمم على ان احنا نبنى نفسنا ، وأن ننتظر الوقت المناسب ونستعد لهذا الوقت المناسب ، لا تأخذنا الأمانى الفارغة أو الآمال الكاذبة ؛ لأن قضيتنا قضية صعـبة عايزة جهد كبير . النهارده احنا ميزانيتنا في مصر للقوات المسلحة اليوم 130 مليون جنيه ، وكنا فى سنة 52 حوالى 50 مليون جنيه ، ليه ؟ لأن النهارده لازم نستعـد باستمرار أولاً لنحمى أنفسنا وحتى لا يتكرر ما حدث فى سنة 48 ، وثانياً حتى نكون في انتظار الوقت المناسب ؛ حقوقـنا لن نتنازل عنها بأى حال من الأحوال .. "

هنا يعود  عبد الناصر الى الماضي لاستخلاص الدروس مستلهما من التجارب السابقة السبيل الوحيد الذي يراه لتحرير فلسطين فيلخصه في وحدة الصف  والعـزيمة حين يقول :

" وأنا باذكر في القرن الثاني عشر حينما هاجم الاستعمار الصليبي هذه المنطقة واحتل القدس .. العـرب ما نسيوش ، قعـدوا سبعـين سنة واستردّوا القدس .. استردّوا بلدهم ، وأنا على ثقة من هذا .. سبيلنا إلى هذا ان احنا نتحد ما نختلفش ، كلكم بتبقوا يد واحدة ؛ المجلس التشريعي .. المجلس التنفيذي .. الاتحاد القومي ، أي خلاف على إيه ؟  لن يصيبنا من هذا الخلاف إلا البلاء والضرر لأولادنا ... "

في هذا اللقاء كان عبد الناصر في أعلى درجات المسؤولية والنقاء الثوري و الصدق مع النفس وهو يتحدث بكل ما اوتي من جهد فكري وموضوعية لاقناع الحاضرين بضرورة الوحدة الوطنية والصبر وبذل الجهد وتهيئة الظروف للنصر ، فيقول بكل حرص على ما يراه  ويتمناه :

" حقوق فلسطين عايزة من كل واحد منكم 24 ساعة شغل ، عايزة كل واحد يحط  إيده في إيد التانى ، دا السبيل الوحيد ... ناس منكم تطلع بتروح كل بلد فيها فلسطينيين وبيتصلوا بالفلسطينيين ، بتعملوا من أجل قضيتكم ومن أجل قضيتهم ومن أجل أولادكم ومن أجل أولادهم ، بتشركوهم معاكم .. فيه خلافات بين الفلسطينيين ، أنا باعرف برّه .. بتقضوا على هذه الخلافات ، لازم توحّدوهم مش علشان جمال عبد الناصر أبداً، علشان فلسطين وعلشان ولاده وعلشان ولادك . اللي يستخدم هذه القضية علشان موضوع شخصي بيبقى طبعاً خرج عن المبادئ الأخلاقية وخرج عن الأهداف ؛ لأن قضية فلسطين لا يمكن أن تستخدم من أجل أهداف سياسية ومن أجل أهداف شخصية . وأنا باقول لكم أصعب قضية فى العالم النهارده هي قضيتكم .. اللي بيجى ويقول ان أنا وضعت خطط علشان أحلها والله بيضحك عليكم ، ما باقولكوش أنا عندي خطط .. عندي قوة من ربنا وإيمان بحقنا ، وأنا باعتبر دا أكبر شئ وأمل في المستقبل وأمل فيكم ، ما اقدرش أقول إن أنا عندي خطة لتحرير فلسطين ، لو باقول لكم دلوقت أنا عندي خطة لتحرير فلسطين أبقى بضحك عليكم وبقيت سياسى ما أناش وطني ، بتاجر في السياسة . أي  واحد النهارده بيقول عنده خطة لتحرير فلسطين يبقى بيضحك عليكم ، أنا باقول لكم قدامنا قضية صعـبة ، قدمنا قضية معقدة ، عايزة نستعد لها بكل القوى المعنوية والمادية ؛ القوى المعنوية أساسها الأخلاق وأساسها الوحدة ؛ وحدة الكلمة ووحدة الصف ، القوى المادية ربنا بيقدرنا واحنا بنعمل كل ما يمكن عمله في هذا السبيل علشان لا نصاب كما أصبنا في سنة 48 ... "
" احنا بالنسبة لهذه القضايا يجب ان احنا نعـرف امتى بنقف وامتى بنهجم امتى ننسحب ولكن في كل هذه الحالات لازم نستعد ونستعد باستمرار، ونقوي نفسنا مادياً ومعنوياً، إن شاء ربنا يوفق العرب .. "

ولكي يؤكد على ضرورة الوحدة الوطنية ودورها في النصر يستشهد بالأجواء الرسمية التي سادت سنة 56 تحت الضغط الجماهيري الحاصل في ذلك الوقت ضد العدوان الثلاثي على مصر :

" وحدة العـرب هى أساس كبير، دا الوحدة العسكرية اللي اتعملت فى سنة 56 .. القيادة المشتركة اللي بين سوريا والأردن ومصر وقف " بن جوريون " وقال هذه القيادة حطت إسرائيل كالبندقة فى داخل كسارة البندق ، يمكن سمعـتوا هذا الكلام وقاله في الكنيست ..... الوحدة هي سبـيلنا الوحيد أو سبـيلنا الرئيسي من أن نحمي قوميتـنا ثم نستعـيد أيضاً حقوقـنا ، وربنا يوفقكم ، ونؤمن دائماً إن قضيتـنا هى قضية الحق ، وربنا حيؤيدنا ، ولكن ربنا بيـأيـدنا إذا استعديـنا وإذا أعددنا كل قوانا المادية والمعـنوية ، وإذا اتحدنا ، وإذا أنكرنا ذواتـنا وأنكرنا نفسنا ، وإذا تفانـيـنا من أجل أولادنا اللي النهارده يمكن مستقـبلهم ماهواش واضح ولا باين ... إذا عملنا دا كله وفهمنا المسئولية اللي علينا ، بيساعدنا علشان نحقق أملنا في تحرير فلسطين ، واستعادة
حقوق شعب فلسطين . وربنا يوفقــكم .. "

**** 


في منتصف الستينات كانت المقاومة الفلسطينة تشهد تصعيدا ملحوظا وتناميا بين صفوف الفلسطنيين خارج فلسطين ، بعد اقتناعهم بتقاعس الانظمة العربية وعدم جديتها في خدمة القضية رغم ما كانت تبذله مصر من جهود وتضحيات .. وقد وصلت الأمور الى أقصاها بزيارة بورقيبة الى اريحا عام 65 لالقاء ذلك الخطاب المشؤوم الذي حرّض فيه على التسوية والاعتراف بالعدو كما فعل في تونس عندما رضخ لفرنسا ورضي بالاستقلال الداخلي سنة 1955 ، فـتسبّب في الانقسام الذي تحوّل الى صراع مسلح خاضته المقاومة الشعبية بقيادة الزعيم صالح بن يوسف ضد بورقيبة والفرنسيين حتى نيل الاستقلال التام سنة 1956..
وفي مثل هذه الأجواء التي طغت عليها الحسابت القطرية وما رافقها من تعاطي سلبي مع القضايا القومية ، ومؤامرات و دسائس في الداخل والخارج ، وجدت مصر نفسها في مواجهة واسعة مفتوحة على عدة جبهات .. ففي الداخل يجري الاعداد المنظم لبث الفوضى والانقلاب على الحكم من طرف الجهاز السري للاخوان المسلمين .. وفي الخارج تتواصل حملات التشهير والتشكيك من طرف الحكم الانفصالي في سوريا و الدول العـربية المجاورة التي ساندت ودبرت الانفصال مثل الاردن والسعودية .. وهذا بورقيبة يخرج من سباته ليعلن بكل جرأة في أريحا ، ثم في تصريحات عديدة خلال جولته في المشرق أو بعد ذلك في تونس ، عن مشروعه المنادي بالتسوية والاعتراف الكامل بالعدو ..
وفي تلك الأثناء التقى عبد الناصر بالمؤتمر الوطني الفلسطين في جامعة القاهرة في 31 / 5 / 1965 وقد استهل حديثه أولا بتوضيح سبب الحضور :

" لقد قرّرت في أخر لحظة النهارده بعد الظهر أن أجي  إلى اجتماعكم ، وكان من المقرر أن الأخ كمال رفعت ينوب عن الجمهورية العربية المتحدة ورئيسها في تحيتكم ، ويترك مؤتمركم ليبحث أموره ، ولكن في أخر لحظة النهارده - بعد الظهر - قررت ان أنا أحضر معاكم وأتكلم معاكم ..
فى الحقيقة كلامي معاكم لن يكون مجرّد تحية ولا مجرّد ترحيب ، والأسباب اللي يمكن دفعـتـنى آجي أتكلم معاكم حـتكلم عنها .. حيث أن اللحظات اللى احنا فيها بتمثل لحظات عصيبة ومضنية فى النضال العـربي ، وحيث إن أنا لابد إني آجي وأتكلم معاكم كمواطن عربي ، يشعـر زي ما بتشعـروا، وبيحس بنفس الأحاسيس .."

ثم أبدى شعورا بالمرارة وهو المواطن الذي يجد نفسه في موقع المسؤولية في أكبر دولة عربية لكنه حرص على المكاشفة ووضع الأمور في نصابها كما هو حاصل على المستوى العـربي في ذلك الوقت :

" أنا شايف إن المرحلة اللى احنا فيها تستدعى ان احنا نتكلم بوضوح ، ونحط كل الأمور بصراحة . لأول وهلة كل واحد فينا في هذه الأيام بيشعـر أن هناك فتوراً في قوة العمل العربي ، وظروف كثيـرة كل واحد فينا بيحس إنها صدمته في ما كان يتصوره ، وما كان يحلم به . بعد وقفة الأمة العربية وتعـبئة الأمة العربية الضخمة فيما يتعلق بهدايا السلاح الألمانى لإسرائيل ، وظهور الموجة الثورية العالية في أنحاء العالم العـربي تبـين مقاومة الأمة العربية .. فيه شعور إن هذه الموجة تهدأ الآن ، أو هكذا قد يخـيل للبعض منا ، فيه ناس فيكم تـنـتابهم عوامل من الضيق ، وفيه ناس فيكم بتـنتابهم عوامل من خيبة الأمل ، وفيه ناس بيحسوا بالمرارة .. فيه اللي تضايق إنه في وسط الإجماع الشعـبى العـربي تحفظت ثلاث دول عربية على قرار قطع العلاقات السياسية مع ألمانيا الغربية ، فيكم اللي أحزنه إن رئيس عربي  وزعيم عربي  بيقف للمرة الأولى ويطالب بالاعتراف بإسرائيل ، والتعايش السلمي معها ، فيكم اللى تضايق من القرار اللي صدر عن رؤساء الحكومات العربية بخصوص بورقيبه .. "

وفي هذا الخطاب كان عبد الناصر مستغـربا اكثر لضعف الردود العربية وعدم تفعيل مقترحات المقاطعة لتونس رغم أن هناك قرارات سابقة مماثلة تفرض المقاطعة لاسباب أقل أهمية فيقول :

" بورقيبه باع الوطن العـربي للاستعمار والصهيونية .. واحنا الشركات الأجنبية اللي بتتعامل مع إسرائيل بنقاطعها ، فليه ما نقاطعش بورقيبه ..؟ دا الممثلات .. والممثلين ( للشركات ) اللي بيتعاونوا مع إسرائيل أو بيجمعوا تبرعات لإسرائيل ، أو بيعـملوا دعاية لإسرائيل بنقاطعهم ، فليه لم يصدر قرار بمقاطعة بورقيبه ؟ ناس بتحس بخيبة الأمل ، وناس بتحس بالمرارة ، فيه ناس لم تجد فى قرارات رؤساء الحكومات العربية اللغة اللي كانت عايزاها ... "

هذا حديث من موقع المسؤولية في جهاز الدولة ، يغادره عبد الناصر بسرعة ليتحدث الى القيادات الفلسطينية من موقع المواطن العـربي الذي ينفطر قلبه لما تمر به قضية فلسطين في الواقع فيقول بكل حسرة معبرا عن استرساله في ماقاله في البداية حينما تحدث عن سبب حضوره :

" فى الحقيقة لما قررت إني آجي لكم وأتكلم معاكم وجدت ان واجبي في هذه اللحظة - وكل شئ كما وصفت - إني آجي وأتكلم معاكم كمواطن عربي ، لن أتقيد بالرسميات ، واحد حاسس بقضية فلسطين وعايز يتكلم عن القضية ، حاسس بالتناقضات الموجودة ، وجدت من واجـبي ان أنا آجي أتكلم عن هذه التناقضات الموجودة ، حاسس إن الوقت يستدعي ان احنا نعـرف احنا فين ووجدت إن من واجبي اني ما أسيبش هذه الفرصة ، وآجي أقول لكم احنا فين بالضبط ، وبصراحة وبوضوح ... "

وها هو عبد الناصر المواطن يتحدث اذن بنبرة الاخوة الصادقة لاخوته وهو يجـتهد بكل ما أوتي من قدرة على الاجتهاد بان يحوّل شعورهم باليأس الى أمل وثقة في المستقـبل ، فيبدأ بما يثيره المغـرضون من وسائل للأحباط ، ويفضح أغراضهم :

" الواحد بيقـرا كل يوم كل ما يكتب في العالم عن قضية فلسطين ؛ سواء في الصحف الأجنبية أو الصحف العربية ، في الإذاعات الأجنبية أو الإذاعات العربية ، حاسس في هذه المرحلة بالذات بحدة الهجوم لبلبلة الفكر العـربي ، حاسس أيضاً بأن الهجوم دا هجوم تعودنا عليه طوال المدة اللي فاتت من الصهيونية والاستعمار، والقوى العربية التي تجد في مسألة فلسطين ، إما موضوع للكسب ، وموضوع للبيع ، أو موضوع للمزايدة ، وموضوع للتجارة . في الحقيقة كل ما تتحرك قضية فلسطين نتعـرض لجو مشابه لهذا الجو ؛ ناس تيأسنا من الحاضر وناس تيأسنا من المستقبل ، ناس تقيس على الماضي وتفرض إن المستقبل حيكون زي الماضي ... احنا كنا فين في الماضي واحنا فين النهارده ؟ وحنكون فين في المستقبل ؟ ناس يقولوا قضية فلسطين بقى لهم 17 سنة يتكلموا فيها ، ما كفاية كلام بقى في قضية فلسطين ! عايزين عمل ، ناس بيقولوا منظمة التحرير الفلسطينية ، بقى لها سنة أو سنة ونص .. عملت إيه منظمة التحرير الفلسطينية ؟! موضوع كلام ! كفاية كلام عايزين عمل ... ! "

ويضيف :

 " ويطلع بورقيبه علشان عايز 100 مليون دولار أو 150 مليون دولار، بيبيع العـرب كلهم ويجعل من نفسه خادم للاستعمار والصهيونية ، ويبعـث يبشر بالبورقيبية بالنسبة لقضية فلسطين في إفريقيا ، وإن العرب واجب عليهم انهم يتعايشوا مع إسرائيل ، وإن العـرب ازاي يتصرفوا النهارده تصرف غير واقعي ، وتصرف غير أخلاقي  لإسرائيل .. عضو في الأمم المتحدة ومعـترف بها دولياً ، ولا يمكن العدوان على إسرائيل . وبورقيبه بيقول هذا الكلام علشان ييأسنا من حاضرنا ، وييأسنا بعد ما بدأت القضية الفلسطينية تتحرك ، وبعد ما بدأ الكيان الفلسطيني يقوم ، وبعد ما بدأت منظمة التحرير الفلسطينية تعمل ... "

وهنا يعود الى هدم كل تلك الافكار التي تدعو الى الاستسلام وحط العـزائم ، فيبين ان ما يحدث هو عكس ما يدّعون :

" الفلسطينيون حرموا على مر الـ 17 سنة اللي فاتت من العمل ، يدوبك السنة اللي فاتت بدؤوا الفلسطينيين يكافحوا ويناضلوا في سبيل كيانهم ، وفي سبيل وجودهم . طوال الـ 17 سنة اللي فاتت من قبل سنة 48 ، كانت خطة الاستعمار والصهيونية هي تصفية قضية فلسطين ، ولا يمكن أن تصفى قضية فلسطين إلا بتصفـية شعب فلسطين .. 17 سنة كانت الدول العربية خاضعة للاستعمار، احنا هنا كان عندنا 80 ألف عسكرى إنجليزى لغاية سنة 56 ، كانت الدول العربية غير متحرّرة تحرّر كامل ، كانت الدول العربية تعمل فى سنة 48 ، وهي في منطقة نفوذ استعماري ، طيب احنا فين النهارده ؟ احنا النهارده بعد 17 سنة لم تصفى قضية فلسطين ، ولم يصفى الشعب الفلسطيني ، بل حصل العكس .. حصلت خطوة إلى الأمام ، تجمع الشعب الفلسطيني ، بدأ الكيان الفلسطيني ، بدأت منظمة التحرير الفلسطينية .. "
إذن لم يستطع الاستعمار ولم تستطع الصهيونية ، ولم يستطع أعوان الاستعمار بأي حال من الأحوال إنهم يصفوا قضية فلسطين ؛ لأن شعب فلسطين لم يصفى ، والدليل على هذا إنكم هنا النهارده بتمثلوا شعب فلسطين اللي قاسى النكبة في سنة 48 ... "

والواقع فان عبد الناصر في هذا اللقاء كان على درجة كبيرة من الوضوح و الوعي بتشابك مسارات النضال العربي و مراحله .. لذلك فانه لم يخطأ أبدا في تحديد الاسلوب الصحيح الذي سيؤدي في النهاية الى تحرير فلسطين ، وهو الاسلوب الثوري الشعبي كما عبر عنه بكل وضوح ، لكنه يعود ليعبرعن قناعته بما يجب تعاطيه في الواقع من اساليب تقتضيها طبيعة المرحلة ، وفي غياب ذلك الاسلوب الذي يتحدث عنه في آخر الخطاب ويحدد كيفية  بلوغه ..
أحد هذه المسارات في نظره هو العمل العربي المشترك ’ الذي يبدأ في الحديث عنه بعد ما يكرّر شرح أسباب حضوره كتعـبيـر عن اهمية الموضوع  والاحساس بالمسؤولية  فيضيف :

" الحقيقة .. بعد ما كنت أنوي إنى مش حآجى وجدت إن من الضرورى إنى آجى وأقول لكم ، ان احنا لازم نكون واضحين ، لازم نعـرف احنا فين ورايحين فين ، ما نقفش ونقول العودة والعودة يا فلسطين ، وأنا قلت قبل كده إن طريق العودة مش طريق مفروش بالورد .. طريق العودة طريق مفروش بالدم .."

من هنا اذن يبدأ في طرح المسارات كما كان يتصوّرها :

" بعدين علشان نحدّد موقفنا لازم نعـرف إيه وسائل العمل العـربي؟ إيه إمكانيات العمل العـربي؟ إذا كنا عايزين نحرّر فلسطين لازم نعرف أيضاً إيه اللي يحرر فلسطين ، لازم نحدد المسالك العديدة التى يتمشي فيها العمل العـربي .. "

ثم يبدأ في تحديد دور الجامعة العربية في النضال العربي :

" الجامعة العـربية تمثل الدول العربية بأوضاعها الراهنة.. بأوضاعها الموجودة . إذن الجامعة العربية تقاس بأضعف حلقاتها .. "

وبعد أن يستشهد ببعض حلقاتها الضعيفة مثل تطاول بورقيبة عليها ، يعود لطرح تساؤلات مهمة ثم يؤكد عجزها :

" كلنا لازم نعرف هذا الكلام ونسلم به ، ولا نطلب من الجامعة العربية أكثـر مما تستطيع أن تقرّره الدول الأعضاء فى الجامعة العربية .. هل نفك الجامعة العربية ؟ هل الجامعة العربية مالهاش فايدة ؟ احنا بنقول رغم مآخذنا على الجامعة العربية ولكن الجامعة العربية هي أداة توحيد ، ولكن هل الجامعة العربية تستطيع أن تحرر فلسطين ؟ أنا باقول إن الجامعة العربية لا تستطيع أن تحرر فلسطين .. هل تستطيع الجامعة العـربية أن تحرر الجنوب العربى ؟ لأ .. لا تستطيع الجامعة العربية أن تحرر الجنوب العربى .. أن تحرر الخليج ؟ لأ .. لا تستطيع ، هل تستطيع الجامعة العربية إنها تخلصنا من القواعد الأجنبية اللي موجودة فى البلاد العربية ؟ لم تستـطع ولا تستطـيع .... الجامعة العـربية بتوحد ثقافـياً وبتساعد اقتصادياً ، وبتعـمل أعمال كبيرة جداً ، ولكن ما نجيش نطلب من الجامعة العـربية المستحيل .. "

أمام هذا الدور العاجز للجامعة وطموح عبد الناصر للوصول الى عمل نضالي أكثر أهمية وفاعلية ، كان يحاول ايجاد تكتلات من داخل النظام العربي الرسمي خارج اطر الجامعة بالرغم مما فيه من صعوبات بسبب الخلافات الكثيرة والمتراكمة بين الانطمة وهذا ما عبر عنه في اطار شرحه لسبل العمل العربي المشترك حين قال :

" إذن .. أنا شعـرت فى هذا الوقت بالخطر الكبير علينا فى عملنا العـربي، وشعرت إن العمل في الجامعة بالطريقة العادية لن يدفعـنا أي خطوة للأمام في سبيل العمل العـربي الجماعي ، ومن الواجب أن نحاول محاولة أخرى ، ودعيت إلى مؤتمر الملوك والرؤساء ، وهذا كان مسلك آخر أو المسلك التاني من مسالك العمل العـربي الواحد .. "

لكن ما هي افق هذا العمل ؟
يجيب عبد الناصر من خلال قراءته للواقع :

" كلنا نعـرف وضع الدول العربية في هذا الوقت ، والنزاع والصراع ، وكيف كانت قوى الاستعمار والصهيونية تغذي هذا النزاع وهذا الصراع ... "

ويضيف بعمق أكثر طارحا نفس الاسئلة :

" نسأل نفسنا سؤال برضه علشان نكون على بينة : هل هذا المؤتمر .. مؤتمر الملوك والرؤساء ... ومؤتمر رؤساء الحكومات ، أو العمل العربي الواحد ، كما أسفرت عنه مؤتمرات القمة .. هل هو الطريق إلى تحرير فلسطين ؟ نسأل نفسنا هذا السؤال .. علشان نجاوب على هذا السؤال بنشوف إيه أوضاعنا العربية ... فيه تناقض بين الدول العربية ، وفيه مشاكل بين الدول العربية ، وفيه عدم ثقة بين الدول العربية ، وفيه حرب بين الدول العربية موجود فى اليمن ، فيه صراع بين اليمن والجمهورية العربية من جانب ، والسعودية من جانب آخر، والإنجليز أيضاً . فيه هذه التناقضات ، هل ننساها ونغمض عـينينا ونقول ان كل الأمور اتحلت ؟ وكل المشاكل اتحلت والطريق بقى ممهد ؟ وعملنا مؤتمر للملوك والرؤساء ، واتقالت شوية خطب فى هذا المؤتمر، واتخذت شوية قرارات ، إذن ستحرّر فلسطين ؟ باقول ان احنا لازم نأخذ الأمور على حقيقـتها ، لأ ... مش هو دا الطريق اللى حيحرر فلسطين .. "

لكن ما الفائدة من هذا العمل اذن ؟
يجيب عبد الناصر عن الاسئلة التي طرحها ويبين الجدوى من المراهـنة على ذلك في المرحلة التي تشهدها الامة العربية  لكنه لا يبدي تعويلا كبيرا على هذا النهج فيقول :

" النهارده بعد المؤتمر الأول للملوك والرؤساء اتخذت قرارات ، واتقال إن حنعـتمد لتقوية الدفاع العربي في سوريا ولبنان والأردن 150 مليون جنيه تدفعها الدول العربية ، احنا الجمهورية العـربية المتحدة حتدفع 50 مليون جنيه ، وقلنا بنقوي الدفاع العربي في الأردن وفي سوريا وفي لبنان . وفعلاً في السنتين الأخيـرتين أنشئت وحدات جديدة ، وحصل تعاقدات على أسلحة ، وحصلت حركة بالنسبة لتقوية الدفاع العربي فى سوريا ولبنان والأردن ؛ سواء كان هذا دفاع أرضي أو دفاع جوي .. والدول العـربية كلها اشتركت في هذا...
أيضاً حصل إن الدول العربية قررت إنها تتحمل مصاريف تحويل روافد نهر الأردن وسد المخيبة .. هذا أيضاً عمل عربي موحد ، قدرنا ننجح فيه. .. النهارده أيضاً إمكانيات الدفاع قد تكون غير كاملة ، ولكن حصلت اعتمادات ، وحصلت تعاقدات على أسلحة جديدة ؛ وبهذا ستقوي إمكانياتنا على الدفاع ... "

ثم يضيف موضحا ان تلك الخيارات لها اهداف محددة :

" إذن المرحلة اللي احنا فيها النهارده ... مرحلة العمل العربي الموحد ؛ كانت متجهة إلى تعـزيز الدفاع العربي، ودا ظهر فى مؤتمر القمة الثاني ، ونشر هذا الكلام ، وقيل إن لنا هدفين ؛ هدف عاجل ؛ وهو تعزيز الدفاع العربي في البلاد التي تتحول فيها روافد نهر الأردن، وهدف قومي؛ وهو القضاء على الاستعمار الإسرائيلي وعودة شعب فلسطين . دا الكلام اللي تقرر ولكن هل تقرير هذا الكلام ممكن إنه يرجع لنا فلسطين ؟ باقول لأ ... هل عن طريق هذه المؤتمرات سنستعـيد  فلسطين ؟ باقول لأ... هذا مسلك من مسالك العمل العربي ، بدل الجمود والخلاف اللي كنا فيه ، وبدل الوضع المهلهل العـربي اللي كنا فيه قبل الدعوة إلى مؤتمر القمة .. النهارده فـيه اجتماعات بتعقد من أجل فلسطين ، وفيه قرارات أخذت من أجل تمويل التسليح ، وفيه قرارات أخذت من أجل التحويل ومن أجل السدود ، وفيه قرارات أخذت بإقامة القيادة العربية الموحدة ، وفيه قرارات أخذت بإقامة الكيان الفلسطيني ... "

ويعود عبد الناصر للقول بأن هذه المسالك كما سماها لا تؤدّي الى تحرير فلسطين ، ويضعها في اطارها الطبيعي :

" ولكن فى نفس الوقت يجب أن نعلم وأن نكون على بينة إن العمل العربي الموحد الناتج عن مؤتمر الملوك والرؤساء مش هو السبيل اللي يحقق لنا أهدافنا ، ولكنه مسلك على طريق العمل العربي ... ويساعد على تحرك قد لا يكون تحرك كامل ولكنه تحرك جزئي خصوصاً في موضوع فلسطين ، وفي موضوع مواجهة إسرائيل ..."

لكن كيف السبيل اذن لتحرير فلسطين ؟
هنا يقدّم  ابداعا فكريا متكاملا من جميع جوانبه النظرية والسياسية للحل الثوري ننقله كاملا :

" طيب بعد كده بتقولوا آدي الموقف بالنسبة للجامعة العـربية ، وآدي الموقف بالنسبة لمؤتمرات الملوك والرؤساء ، وبالنسبة للعمل العربي الموحد .. أمال إيه الحل ؟ الحل إيه قدامنا ؟
الحل هو - في رأيى - العمل الثوري العـربي ، هو دا الحل .. كل الموجود هو مسلك في طريق العمل العـربي ، ولكن الحل لقضية فلسطين لا يمكن أن يكون بقرارات ومساومات وتغـييرات في المواقف .. لا يكون إلا بالعمل الثوري العـربي الذي يمثل الأمل ، والعمل الثوري العربي هو الذي يحشد كل إمكانيات الأمة العربية ، يحرر هذه الإمكانيات لتعمل .. ويوجه هذه الإمكانيات لكى تنطلق ...
دي مسالك ، الجامعة العربية لها حدود ، ولا يمكن ان احنا نقول إن الجامعة العربية حتحرر فلسطين ، وإذا قلنا إن الجامعة العربية حتحرر فلسطين نضحك على نفسنا ونضحك على العرب ؛ ولا يمكن ان احنا بنقول إن العمل العربي الواحد هو اللي حيحرر فلسطين ؛ لأن العمل العربي الواحد قد يعوق من العمل الثوري ، ولكن بنقول إن تحرير فلسطين عايز عمل ثوري عربي، ولا ينبغي لنا ان احنا نخلط بين هذه المسالك وهذه السبل وهذه الوسائل ....
  الجامعة العربية وسيلة .. العمل العربي الموحد أيضاً سبيل ووسيلة ..  ولكن سبيلنا الصحيح هو العمل الثوري العربي ؛ علشان كده لما الجامعة العربية تاخد قرار ضعيف ما نيأسش ، دي قدرة الجامعة العربية ، ولما يقعدوا أعداؤنا يهاجموا الجامعة العربية ، والجرايد الاستعمارية أو الجرايد اللي تعمل للاستعمار بتقول آدي العـرب وآدي الجامعة العربية ، اجتمعوا لكي لا يتفقوا، واجـتمعوا ليختلفوا، والكلام دا مش جديد علينا الكلام دا قديم .. والجامعة العربية هي تناقضات الأنظمة العربية ، والأوضاع العربية الاجتماعية ، والأوضاع السياسية ، وبتحط كل هذه المتناقضات مع بعضها وبتقول لها اطلعي لنا بحل .. لا يمكن إلا إنها تطلع لك بحل ضعيف .. إذن هذا لا ييأسنا ، وهذا لا يجعلنا نشعـر بالمرارة ؛ لأن دا سبيل ومسلك في العمل العـربي ... "

طيب . وكيف نعالج تداخل المسالك ؟ وما هي الاولويات ؟
هنا يقول عبد الناصر بوضوح لا لبس فيه ، ويؤكد على أولوية المسار الثوري فيقول :

" لا ينبغي ان احنا نخلط بين هذه المسالك ، ولا أن نجعل بعضها يتصادم مع بعض ، طالما كان ذلك ممكناً ، وباقول طالما كان ذلك ممكناً ، ليه بقى ؟ لأن قوة العمل الثوري لا ينبغي ولا يمكن أن يضحّى بها لأي شئ  رسمي أو شكلي أو مرحلي ، بنعـرف نشتغل عن طريق الجامعة العربية ، نشتغل أيضاً عن طريق مؤتمرات الملوك والرؤساء ، ولكن بنعـرف ان سبيلنا الوحيد لتحقيق هدفنا هو العمل الثوري العربي ، وأما باقول العمل الثوري العربي .. العمل الثوري العربي بقوّته ؛ أنتم هنا في مصر الجمهورية العربية المتحدة ، في قاعدة العمل الثوري العـربي ..
قوة العمل الثوري العربي غير محدودة ؛ لأنها تمثل الجماهير فى كل بلد عربي ؛ الجماهير الصابرة ، الحرة ، المؤمنة .. قوة هذا العمل العربي وحدها هي القادرة على تحرير فلسطين ؛ بحشد كل الطاقات العربية ، وبحشد كل الإمكانيات العربية.. عملية ليست عملية سهلة ، عملية ضخمة كبيرة ، عملية معقدة عنيفة ، تحتاج إلى أن نقـيّـم العدو؛ لكى نقدّر القوى اللازمة لمواجهة هذا العدو، قوة الأمة العربية كلها التي لا يمكن أن تحشدها إلا قوة الثورة العربية ... وأنا باقول إن الجماهير العربية كلها تعيش فورة عربية ، عدونا يدرك هذا ، عدونا يركـز على إمكانيات قوة العمل الثوري ، عدونا بيعمل مخططات نفسية ، عدونا بيحاول أن يثبط الهمم ، عدونا بيحاول أن نفقد الثقة في حاضرنا وفي مستقبلنا ، عدونا يركز على إمكانيات العمل الثوري .. شفـتم كلكم مخططات بريطانيا اللي عاملاها في العالم العـربي .. هذه المخططات بتستهدف الجمهورية العربية المتحدة ، خطة بريطانيا في ليبيا للهجوم على الجمهورية العربية المتحدة ، وتعتبر الجمهورية العربية المتحدة هي العدو ..
خطة بريطانيا ضد الشعوب العربية ، شفتم الخطط اللى نشرت فى الأسبوع الماضى وتعتبر إسرائيل كقاعدة أساسية .. الوثائق اللي بتـنشر عن خطط بريطانيا - وهى صحيحة 100 % - بتثبت وتوضح أكثر من أي شئ آخر أبعاد المعركة الحقيقية لتحرير فلسطين ، وما يجب أن نستعد له ..
أبعاد المعركة العسكرية والاقتصادية والسياسية ، الضغط علينا هنا في مصر .. المشاكل اللي بيننا وبين الدول الغربية - بيننا وبين أمريكا - هي تمثل أبعاد المعـركة ، أساس المشاكل وأساس الخلاف هو إسرائيل . الدول الغربية بتشكك في قدراتنا ، أمريكا قررت إنها تسلح إسرائيل ، النهارده في هذه الأيام بريطانيا بتسلح إسرائيل ، وفرنسا بتسلح إسرائيل ، وألمانيا بتسلح إسرائيل ، وبلجيكا بتسلح إسرائيل ... ليه النهارده أمريكا قررت إنها تسلح إسرائيل علماً بأن إسرائيل عندها أسلحة ؟ لأن فعلاً قضية فلسطين ما اتصفـتـش ، قضية فلسطين النهارده بتأخذ منطـلق جديد ، ولأن الثورة العربية والعمل الثوري العربي بيمثل خطورة على أوضاع إسرائيل وأوضاع الاستعمار ...
طيب وبيقولوا - الأمريكان - إذا جبتم أسلحة حندّى إسرائيل أسلحة وسنحافظ دائماً على توازن القوى بين العرب وبين إسرائيل ..! فيه ناس بتقول لك مافيش فايدة .. حنضيع فلوسنا في السلاح .. حنجيب طيارات حيدوا اليهود طيارات ، حنجيب دبابات حيدوا إسرائيل دبابات .. ولكن هل احنا كـثوريـيـن عرب فعلاً نتأثر بهذا العملية ؟ العملية أكبر من هذا بكثير .. احنا عندنا القوة التى نستطيع أن نتفوق بها .. زي ما قلت لكم طريق العودة مش طريق مفروش بالورد ، طريق مفروش بالدم ، مش طريق سهل ، طريق صعب .. اسرائيل ... هى إسرائيل واللي ورا إسرائيل .. اللي أقاموا إسرائيل .. ولكن لابد ونحن نواجه هذا أن يكون تفكيرنا تفكير ثوري، عندنا قوانا البشرية ، عندنا مواردنا البشرية ؛ زي ما قلت قبل كده .. احنا نستطيع ان نجند 2 مليون و 3 مليون - احنا 100 مليون عربي - ونجند 4 مليون وأكثر ..
مشكلتنا إيه ؟ احنا شعب طرد من بلده .. عايزين إيه ؟ عايزين نرجع لبلدنا .. يبقى إيه ؟ يبقى نحارب من أجل الرجوع إلى بلدنا ... هل نحارب ارتجالاً ؟ لأ ..  يجب ان احنا نقدّر ونجهّـز ونستعد ، ونواجه إسرائيل ومن هم وراء إسرائيل ... "

وبعد حديث طويل عن الاوضاع العـربية والتناقضات والاتهامات والصراعات ، والحملات الاعلامية ، وحالات الاحباط الخ .. يستشهد عبد الناصر بحالة اليمن ليرد على بعض الاتهامات ، مؤكدا عمل مصر بالمبدأ القومي قبل كل شئ :

" احنا رغم اللي حصل معانا في سوريا فى 61 رحنا اليمن ، ومتنا في اليمن .. ولادنا ماتوا هناك في اليمن ، بيقولوا أعداؤنا رحنا ليه اليمن ؟ حناخد إيه احنا من اليمن ؟ يعني بيقولوا فى الدعايات ان الجيش المصري بيستعمر اليمن ، فيها إيه اليمن علشان تستعمر؟ ولو كانت تستعمر ما كانوا استعمروها .. ماكانوش سابوها ما فـيهاش حاجة أبداً ... احنا بنصرف في اليمن ، والشعب المصري بيعـلم ان احنا بنصرف في اليمن ، بنصرف على الجيش اليمني ، وبنصرف في الإصلاحات ، ولكن مسؤولية الثورة العـربية هي اللي دفعـتـنا إلى التدخل ، والمبادئ هي اللي دفعـتـنا ان احنا نروح ... بيقولوا إن عبد الناصر عايز يستولي على الجزيرة العربية وعلى البترول ، وياخده لمصر..  في اليمن فين البترول .. ؟  اليمن لا فيها بترول ، ولا فيها ميّه، ولا فيها حاجة أبداً ... وكان زمان فيها بُن ، دلوقت مافـيهاش بُن ، ولكن العملية هي عملية مبدأ ، فاحنا مستعدين ، ومسؤولياتنا العـربية بنقوم بها ... "

ثم يعود ليؤكد بان خيارات العمل العربي المشترك لها غاية محدودة لكن الطريق الوحيد لتحرير فلسطين هو العمل الثوري القائم اولا وأخيرا على الكفاح المسلح وبه يختم خطابه الطويل ..

" وجدت من واجبي ان أنا آجي أقول لكم هذا الكلام النهارده ، وخفت أيضاً ليفسر عدم حضوري على أنه أيضاً يأس .... معنى هذا إن فيه يأس من القضية الفلسطينية ، أنا لم أيأس أبداً، وبالعكس أنا أقدر المسؤولية ، وأومن أن فلسطين اغتصبت واغتصبت بالسلاح وبقوة السلاح ، وأنا شفت دا بعـيـني سنة 48 ، ولا يمكن ان احنا نستردّها إلا بالسلاح ، وبقوة السلاح ، وعلشان نستردّها بالسلاح وبقوة السلاح لازم نواجه إسرائيل ومن هم وراءها .. وأنا باقول ان احنا العـرب نستطـيع ان احنا نجند مليون و2 مليون و 3 مليون ... نستطيع تجنيدهم من الفلسطينيين ومن المصريين ، والمصريين بيكونوا أول ناس يدخلوا في هذا ، وأنا متأكد من هذا ، وعارف أنا شعور المصريين ، المصريين يمكن ما بيـتـكـلموش كثير، ولكن أنا عارف شعورهم ، وأنا شفت القوات اللي رجعت من اليمن في السويس ، ورحت أسلم عليهم ، وهما نازلين بيقولوا إلى فلسطين .. ودا فعلاً تعـبيـر عن النفسية الثورية ، عن الروح الثورية العـربية ...
ما تخلوش حد ييأسكم ، ما تخلوش حد يخليكم تحسوا بمرارة ... الجامعة العـربية هي الجامعة العربية ، مؤتمرات الملوك والرؤساء العرب هي مؤتمرات الملوك والرؤساء العرب .... دي قدراتها محدودة .... ودي قدراتها محدودة .... السبيل لاسترجاع فلسطين هو العمل الثوري العـربي ... "


****

لقد كانت الاجواء العربية قبل الهزيمة مشحونة الى ابعد الحدود مخلّفة ذلك الوضع السائد في تلك الفترة .. الا ان هزيمة الجيوش العربية في 5 يونيو 1967 كانت فرصة لكشف حجم الأخطاء في الداخل والمؤامرات  في الخارج .. وقد ردّ عبد الناصر على بعض جوانبها بكل وضوح ..
بالنسبة للأخطاء يقول في خطابه أمام الصحفيين العرب بتاريخ 15 شباط 1968 :

" واحنا الآن بعد الهزيمة يجب أن نفرق بين حاجتين أساسيتين .. مبادئنا ومبادئ النضال ، مبادئ قوميتنا ، مبادئ عروبتنا .. والممارسة والأخطاء والانحرافات .. لا عمل بلا أخطاء ولا بشر بدون انحرافات ، إذا كان هناك عمل فلابد أن تكون هناك أخطاء ، وطالما هناك بشر في كل بلد وفي كل مكان وفي كل زمان لابد أن تكون هناك انحرافات ، فإذا أرادت الحرب النفسية المعادية أن تخلط المبادئ بالانحرافات أو بالأخطاء فيجب أن نكون على بينة من أمورنا ولا نخلط بين المبادئ .. المبادئ هي المبادئ السليمة ، هي المبادئ القويمة .. هي المبادئ الصحيحة .. أما الانحرافات فهي من طبائع البشر، والأخطاء فهي من لوازم العمل .. "

ثم يضيف متحدثا عن آليات المراجعة والمحاسبة ومجالاتها :

" احنا هنا في مصر نراجع أنفسنا مراجعة كاملة في جميع النواحي ؛ النواحي السياسية ، والنواحي العسكرية ، والنواحي الاقتصادية ، ونحن نراجع أنفسنا نفتح هذه المراجعة للشعب ليشارك .. حتى يعرف كل شئ ؛ وحتى يعلم أننا ننقي هذه الثورة من كل الشوائب التي ظهرت ، والدليل على هذا محكمة الثورة ، ومحكمة الثورة علنية لحكمة ؛ كان من الممكن أن تكون محكمة الثورة سرية في جميع جلساتها ، ولكننا أردنا أن تكون المحكمة علنية ؛ لأننا نعتبر أنها عملية سياسية ، يجب أن يعلم الشعب النواحي السياسية ، ويجب أن يعلم الشعب أن هناك انحرافات علينا أن نقوّمها ، ويجب أن يعلم الشعب أن هناك أخطاء لابد من تصحيحها .. "

أما بالنسبة للتآمر على مصر فيظهر بالخصوص في حجم المساعدات الغربية التي تتلقاها اسرائيل بلا حساب للقضاء على الثورة ومنجزاتها .. وفي هذا السياق يقول عبد الناصر في خطابه بتاريخ 3 أيلول 1958 متحدثا عن الدعم الغربي ،  معربا عن مواصلة مصر لنهجها القومي في الدفاع عن القضايا العربية رغم ما تعانيه في تلك الفترة :

" حصلت الصهيونية العالمية على السلاح ومنع عنا السلاح ، واليوم يعيد التاريخ نفسه ؛ إننا ندافع عن أوطاننا وعن بلادنا ، ولكن إسرائيل التي تمثل الصهيونية العالمية تجد في الاستعمار العالمى الحليف الذي يمدّها بالسلاح ، وقالت الأنباء ، بل قالت المعلومات : إن بريطانيا قد أمدت إسرائيل بالسلاح ، وإن أمريكا قد أمدت إسرائيل بالسلاح .. لأى سبب يمدون إسرائيل بالسلاح ..؟ إسرائيل قامت فى هذه المنطقة لتمثل جسرا للاستعمار ، وما حرب 56 والعدوان الثلاثى على مصر إلا الدليل الأكبر على أن إسرائيل خلقت فى هذا المكان لتهدد القومية العربية ، وتقضى عليها إذا وجدت الفرصة .. "

كما يوضح الزعيم الراحل في أول تصريح له بعد الهزيمة لمراسل مجلة " لوك " الامريكية ما وصلت اليه الامور بين مصر والولايات المتحدة بسبب انحيازها الكامل ووقوفها الى جانب الصهاينة .. ففي ردّه على سؤال الصحفي حول العقبة الرئيسية التي تعترض طريق إعادة العلاقات الدبلوماسية الطبيعـية بين البلدين يقول معبرا ـ ضمنيا ـ عن قناعته بان ما تتعرض له مصر هو موجه للعرب عموما :

" إنها تأييدكم لإسرائيل ، إن هذا التأييد يدفع العـرب إلى الاعتقاد بأن الولايات المتحدة تقف دائماً إلى جانب إسرائيل .. لموقفكم العملي المنحاز تماماً في كل تصرفاتكم نحو إسرائيل ؛ لأنه تكاد لا تقال كلمة طيبة واحدة فى أمريكا عن وجهة النظر العربية ، وكذلك لأنكم تزودون إسرائيل بالأسلحة ؛ إنكم فى سنة 1960 اتخذتم الإجراءات التي تكفل لإسرائيل الحصول على أسلحة مجانية من ألمانيا ، وكانت في الحقيقة أسلحة أرسلتموها أنتم أنفسكم - عن طريق ألمانيا - هدية لإسرائيل . أما بالنسبة للأسلحة الفرنسية لإسرائيل فالأمر مختلف لأنها أسلحة مشتراة ، إنكم تضغطون على ألمانيا لدفع تعويضات لإسرائيل ، فإذا حسبنا ذلك كله لوجدنا أن إسرائيل قد تلقت من أمريكا سبعة بلايين دولار على الأقل بطريق أو بآخر .. "

ثم يضيف متحدثا عن المساهمة العسكرية الواسعة للولايات المتحدة و بريطانيا :

" كنا قبل يوم 5 يونيو قد أصبحنا نشك فيكم بشدة ، فقبل ذلك التاريخ بعشرة أيام نصحت وزارة خارجيتكم سفيرنا فى واشنطن بأن نلتزم بضبط النفس على الرغم من أننا لم نكن ننوى البدء بالهجوم على إسرائيل ، ثم جاءت أعداد كبيرة من الطائرات من ناحية البحر حيث تقف حاملات طائراتكم ؛ أعداد تفوق كثيراً ما كنا نظن أن إسرائيل تملكها ..! ولعلك تذكر ما حدث من قبل فى سنة 1956 ؛ فإن الإسرائيليين لم يهاجمونا وحدهم ...
ومع ذلك فإننا رفضنا أن نصدر أى بيان لا يسنده دليل ، لكننى فى الخامسة من صباح يوم 6 يونيو تلقيت مكالمة تليفونية من الملك حسين قال فيها إنه يتعرض لهجوم جوي شديد من البحر؛ 400 طائرة ضد الأردن وحده . وهنا أصدرنا البيان ، ولم نقل فيه أن مصر تعرضت لهجوم من جانب الطائرات الأمريكية ، لكننا قلنا إن لدى القيادة العامة العليا شواهد على أن الولايات المتحدة وبريطانيا تشتركان فى العدوان الإسرائيلى بطائرات من حاملات الطائرات ؛ تؤمن إسرائيل بغطاء جوي يكفل لطائراتها أن تتفرغ للهجوم ..
وقد ذكر الأردنيون أن شبكات الرادار تبين أن الطائرات الأمريكية والبريطانية تساعد إسرائيل ، كذلك أن الملك حسين اتصل بنا وقال إن الطائرات الأمريكية والبريطانية مشتركة بالفعل ... "

كما يؤكد استمرار انحياز الولايات المتحدة حتى بعد عدوان 67 فيقول مستغربا لمراسل " نيورك تايمز " بتاريخ 14 شباط 1970 :

" الحقيقة أن على المرء أن يسأل نفسه سؤالاً : لقد استطاعت إسرائيل أن تكسب حرب سنة 67 ، واستطاعت أن تدمّر كل السلاح الجوي العربي ؛ سواء السوري أو الأردني أو المصري ، وأعلنت أنها لم تفقد إلا بضع طائرات ، وهكذا فإنه كان لدى الإسرائيليين تفوق جوي في المنطقة كلها ، كما أنه أعلن بعد الحرب أن لدى إسرائيل طيارين ، أو ثلاثة طيارين لكل طائرة .. وما حدث بعد ذلك هو موافقة حكومة الولايات المتحدة على إعطاء إسرائيل 50 طائرة " فانتوم "، ونحو 100 طائرة "سكاي هوك "، وتستطيع الطائرة " الفانتوم " أن تحمل نحو 7 أطنان من القنابل ، كما أنها طائرة من الطراز الطويل المدى تستطيع أن تصل إلى أي جزء من بلدنا . وهنا لابد للمرء أن يسأل نفسه : لماذا وافقت الولايات المتحدة على إعطاء مثل هذه الأسلحة إلى إسرائيل ، فى الوقت الذى تملك إسرائيل فيه التفوق الجوي ..؟!
والجواب أن هذه الأسلحة قد أعطيت لكي تستخدم ضدنا في أعمال هجومية موجهة إلى تشكيلاتنا العسكرية ، وإلى منشآتنا الصناعية وسكاننا المدنيين ، وأن ما حدث في الغارة الإسرائيلية خارج القاهرة لمثل من هذه الأمثلة . إن هذه الأسلحة ليست للدفاع عن إسرائيل ، ولكن لتزويد إسرائيل بالقوة اللازمة لإجبارنا على قبول ما تريده الولايات المتحدة ، فما الذي تريده الولايات المتحدة ؟ .. "

وبعد الهزيمة وملابساتها ، وبعد عمليات التطهير للقوات المسلحة ، والدخول في التدريب على الخطط والاسلحة الجديدة كان عبد الناصر يولي اهتماما كبيرا بالصراع مع العدو من كل جوانبه السياسية والاقتصادية والعسكرية .. فكان شديد الحرص على متابعة سير العمليات بنفسه ، لذلك كان بتفقد من حين لآخر  يتفقد من حين لآخر مختلف وحدات الجيش .. كما كان يتحدث ـ في كل لقاء تقريبا ـ عن العدو الصهيوني وأهدافه ومخططاته ، كعدو للأمة بأكملها وليس لمصر وحدها..
وفي لقاء له بالقوات الجوية يوم 11 مارس 1968 يتحدث عن تلك الجوانب قائلا :

" العدو بتاعنا عدو ماكر وعدو خبيث وعدو دؤوب وبيحط هدف قدام عينه ويسعى دائماً إلى تحقيق هذا الهدف ..
الهدف إيه ؟ الهدف إنه يخلق دولة في فلسطين ، من سنة 1897 أول ما اجتمع "هرتزل" اشتغلوا.. اشتغلوا لغاية ما استطاعوا سنة 17 إنهم ياخدوا وعد "بلفور"، فضلوا يشتغلوا من سنة 17 لغاية سنة 48 أخدوا فلسطين ، والعدو بتاعنا أطماعه أكثر، أطماعه توسعـية ، والنهارده بنقرا على أطماعه في القدس وفي الأراضي العربية أكثر من هذا .. إذن المسألة بالنسبة لنا هي مسألة حياة أو موت ، مسألة يا اما احنا ناس نعـيش شرفاء كرماء أو نضحي في سبيل عـزة بلدنا وشرفـنا ..

وفي نفس اليوم التقي عبد الناصر بالقوات الفلسطينية والجزائرية في احدى مواقع التدريب التي يتواجدون فيها تحت قيادة الجيش المصري ، والقى وسطهم كلمة في 11 مارس 1968 يقول فيها :

" يسعدنى أن أرى معاكم هنا إخواننا الجزائريين ، وباقول لهم إنهم هنا فى بلدهم وبين إخوانهم ، وأننا ننتهز هذه المناسبة لنعـبر عن شكرنا للشعـب الجزائري والحكومة الجزائرية والرئيس الجزائري هواري بومدين .
وأيضاً عرفت إن فيه مجموعة من كتائب فلسطينية ، وفلسطين هي قضيتنا جميعاً ، وهي قضية مقدسة ، وحقوق شعب فلسطين لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نتناساها ، يتأكد إخوانا الفلسطينيين إنهم أيضاً هنا في مصر .. في بلدهم وبين إخوانهم .. ".

كما يتوجه الى القوات المصرية والعراقية والكويتية في موقع مشترك بتاريخ 10 مارس / آذار 1968 متحدثا بنفس الروح القومية عن قضية الوحدة وقضية فلسطين :

" الحقيقة في الماضي كان التلاحم العربي ضرورة ، أما الآن فإن التلاحم العربي والعمل العربي الموحد ضرورة ملحة ؛ لأن هذه المعركة لن تؤثر فقط على البلدان التي تحيط  بإسرائيل ، ولكنها ستؤثر أيضاً على جميع أنحاء الأمة العربية ، إما أن ننتصر فتنتصر الأمة العربية كلها وإما أن ننكسر فتنكسر الأمة العربية كلها .. كيف نحقق هدفنا ؟ يجب تعبئة جهود الأمة العربية كلها سياسياً وعسكرياً ومعـنوياً ؛ لأن المعركة هي معركة الأمة العربية .. ماذا نعمل الآن ؟ نحن ندافع عن القومية العربية ، ونحن ندافع عن الأرض العـربية ، ونحن ندافع عن الوطن العربي ونحن ندافع عن الإنسان العربي ، ماذا يحدث الآن للإنسان العربي؟ ماذا تفعل إسرائيل فى الإنسان الفلسطيني ؟ .. قضية فلسطين ليست قضية وطن عربي واحد ، ولكنها قضية الأمة العربية كلها ، قضية القومية العربية .. "

ثم يواصل متحدثا عن مخططات اسرائيل :

" إسرائيل دائماً ونحن نعـرف من 48 ، ومن قبل 48 أنها تهدف إلى التوسع لتقـيم ملكها من النيل إلى الفرات فى كل بلد عربي ، ولن تستطيع إسرائيل أن تحقق هذا الهدف في سنة أو 10 ، ولكن هذا الهدف ممكن أن يتحقق في عشرات السنين .. امتى ..؟ إذا تقاعست الأمة العربية وتفرقت وتشتت ، تستطيع إسرائيل أن تنجح وتأخذ من نجاحها مبررا حتى تسير فى مخططها ليستمر النجاح ، تبيد القومية العربية وتقيم قومية أخرى . الآن إسرائيل تهدم المناطق العربية في القدس وتقيم  بدل هذه المناطق العربية مناطق أخرى يهودية إسرائيلية ، هي عملية عنصرية ، إبادة للقومية العربية وإقامة قومية جديدة ... "

وفي الدورة الخامسة للمؤتمر الوطني الفلسطيني المنعقد في القاهرة يحضر عبد الناصر يوم الافتتاح بتاريخ 1 فيفري 1969 ، فيتحدث عن الصراع العربي الصهيوني بأبعاده العربية والدولية ولكن يضع القضية في اطارها القومي موضحا  :

" إن الأمة العربية كلها يجب أن تعلم - وتلك عبرة إيجابية من دروس معركة 5 يونيو ـ أن القضية ليست قضية شعب فلسطين وحده ؛ وإنما القضية تمتد بعد ذلك إلى أوسع وأبعد ... ذلك أن العدو الصهيوني يسعى فعلاً إلى تحقيق هدفه التوسعي بين النيل والفرات ؛ وبالتالي فإن مشاركة بقية شعوب الأمة العربية فى هذا الصدام بين القومية العربية والعنصرية الصهيونية ليس مجرد عاطفة حيال الشعب الفلسطينى ، وإنما هو دفاع عن النفس فى أي وطن عربي .. "

وهنا يظهر فهم عبد الناصر العمـيـق  لجوهر الصراع مع العدو باعتبار ما يمثله من تهديد للوجود العربي ليس في بعده القومي فحسب ، بل وفي بعده الاقليمي ايضا ، نظرا لما يمثله الوجود الصهيوني من خطر حتى على الكيانات الاقليمية وهو ينشد التوسع لبناء كيان ممتد من الفرات الى النيل .. وهنا تتأكد في ذهنه خلفية الصراع القائم في جوهره على تهديد الوجود العربي في أي شكل من أشكاله .. فيضيف مشددا على هذه الناحية :

" إن المخطط الصهيونى اتخذ من أرض فلسطين نقطة بداية ، ولن يتورع عن دفع هدفه حتى النهاية طالما أتيحت له الفرصة ، وهو يتصورها اليوم متاحة له بعد نكسة 5 يونيو سنة 1967 . ويترتب على ذلك أن يكون واضحاً بالنسبة لكل بلد عربي أنه لا يعطي للنضال الفلسطيني ما يعطيه منّة أو تكـرّماً أو لمجرّد التضامن العاطفي ، وإنما هو يعطي ما يعطيه دفاعاً عن النفس ، ودفاعاً عن الحياة في إطارها الوطني وفي بعدها القومى ... "

كما يتحدث أيضا على نوايا العدو ومخططاته أمام أعضاء المكتب الدائم للمحامين العرب بتاريخ 10 أفريل / نيسان 1968 يقول :

" الأمة العربية كلها تمر بمرحلة بالغة الدقة والخطورة والتعـقـيد .. لماذا ؟ لأننا نواجه قوى الاستعمار والصهيونية ، ونواجه عدواً شرساً جمع قواه في كل أنحاء العالم ..  جمع الأموال من كل أنحاء العالم ثم تصدى لنا .. عدو شرس يعتمد على الشراسة وعلى القوة ، يعتمد على مساندة الاستعمار ومساعدة الصهيونية العالمية ، عدو يخطط .. مش من سنة 1948 بل قبل كده بكتير .. من 1800 حتى وصل إلى ما وصل إليه ..
عدو بدأ أولاً يطالب بالوطن القومي لليهود فى الحرب العالمية الأولى ، وبعد أن حصل على تصريح "بلفور" بإقامة الوطن القومي لليهود فى فلسطين تحرك إلى مرحلة أخرى ، وهي أن يقيم لنفسه دولة قومية جديدة ، ثم بدأ بمطالب صغيرة ، وكلنا نعرف المفاوضات التي حدثت بين الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية..
كان يطالب بقطعة صغيرة من الأرض في شمال فلسطين ، ثم بعد هذا طالب بقطعة أكبر .. ثم بعد هذا طالب بفلسطين كلها ، ثم بعد هذا أعلن أن دولته تمتدّ من النيل إلى الفرات .. "

ثم نجده  يعبر عن صعوبة المرحلة وما تقتضيه من تعبئة وحشد للطاقات مضيفا :

" قد وقفت الأمة العربية طوال آلاف السنين ، ولاقت الغزاة من كل مكان ، ولكنها استطاعت بحشد قواها أن تنتصر . وأنا أقول لكم الآن إن سلاحنا الأساسى .. سلاحنا الرئيسى فى النصر فى معركتنا من أجل فلسطين ومن أجل التحرير، هو حشد قوى الأمة العربية كلها ؛ العسكرية والاقتصادية والمادية والمعنوية ؛ حتى لا نترك إسرائيل تنفرد بقطر عربي بعد قطر عربي .. هي معركة صعبة ؛ معركة ضد اسرائيل والصهيونية العالمية وقوى الاستعمار العالمي .."

ثم يواصل من ناحية اخرى متحدثا عن بوادر الأمل رغم كل الصعوبات :

" نحن هنا في الجمهورية العربية المتحدة نحاول بكل جهد أن نجتاز هذه الخطورة ، وهذه الدقة وهذه الصعوبة ؛ بأن نوحد كفاح الأمة العربية كلها من أجل المعركة ومن أجل النصر، ومن أجل مجابهة الصهيونية وإسرائيل والاستعمار العالمي ، ولكن الصورة ليست صورة سوداء كلها بل هناك عوامل إيجابية ، ظهرت منذ النكسة حتى الآن ... أول هذه العوامل الإيجابية هو : حركة المقاومة الفلسطينية من أجل الدفاع عن حقوق شعب فلسطين ، ومن أجل استرداد الأرض السليبة ... وأنا أعتقد معكم إنها حركة مشروعة لأنها قامت في كل بلد تعرض للغزو، وقامت في كل بلد تعرض للاستعمار، وقامت في كل بلد تعرض للاحتلال ، وقامت في كل بلد تعرض للتمييز العنصري ...

ومهما كانت التضحيات بالنسبة لعـبد الناصر، فالخيارات واضحة وجلية : الصمود والمقاومة ولا تنازل عن القضية :

" اليوم ، ونحن نسير لتحقيق هدفنا وهو النصر، يجب علينا أن نسلك كل الطرق التى تؤدى إلى تحقيق هذا الهدف ، مع الصمود .. الصمود الذى التزمنا به جميعاً ، لا مفاوضة مع إسرائيل ، ولا صلح مع إسرائيل ، ولا تفريط فى قضية فلسطين .. "

والواقع فان عبد الناصر بهذا الوافاء الدائم لقضايا الأمة ، والمواقف الواضحة التي يعبر عنها في كل مناسبة يلتقي فيها بالجماهير العربية من كل القطاعات ، سواء في ساحة مصر او خارجها ، تحول فعلا الى رمز وبطل قومي بكل ما تعـنيه الكلمة من معاني في وجدان وأعماق الانسان العربي .. فهو ليس ذلك الانسان الذي يبحث عن مجد شخصي أو فائدة تعود عليه ، ولا على خلاص لمصر وحدها من دون أمتها ، بل هو ذلك المسؤول الذي يعي دوره وموقعه فيعمل على توظيفه في سبيل تحقيق النهضة القومية لأمته ، حتى وان كان ذلك الهدف يعرّض المصلحة الوطنية للخطر .. والواقع ايضا أن عبد الناصر في مرحلة من المراحل قد كان يعي هذا الدور ، فكان لا يتردّد في التصرف على اساسه .. وقد كان هذا ظاهرا من خلال تعامله الشديد أحيانا ، والليّن أحيانا اخرى مع الأنظمة ، وفقا لما تقتضيه المصلحة القومية التي يقدّرها هو ، كما يمكن أن يقوم بتقديرها أي زعيم في أمته .. كما أن في وقوفه الدائم أيضا الى جانب المقامومة تأكيد لمواقفه المبدئية وهو يرى فيها سبيلا وحيدا لاسترداد الحقوق المنهوبة .. ومن أجل تلك الغايات السامية كان لا ينكر الفضل على من يستحقه حين يكون  من أجل الاعتراف كما يفعل مع أبناء الشعب المقاوم في فلسطين ، أو مجاملة من أجل التحريض على المساندة والدّعم كما كان يفعل مع بعض الحكام في بعض الظروف .. وها هو في الذكرى الأولى للنكسة يوم 5 يونيو 1968 يتحدث عن المقاومة الفلسطينية قائلا :

" أن العمليات الشجاعة التى تقوم بها المقاومة الفلسطينية فى وجه مخاطر شرسة ، كما أن الوقفة المجيدة للجماهير الفلسطينية في الضفة الغربية وفي غزة ؛ رفضاً للاحتلال وتحدياً لسيطرته وجبروته ، وتحملاً مؤمناً صامداً ، كلها علامات تحوّل هام وأساسي بالنسبة للنضال الفلسطيني ، يثبت أن العنصر الفلسطيني يؤدي دوره في الكفاح الشامل لأمته العربية الآن ،  بأكثر مما كان يؤديه في أي يوم من الأيام .. "

وفي خطاب 1 فيفري 1968 المذكور يتوجه للمقاومة معترفا بما قدمه شعب فلسطين من تضحيات وبطولة فيقول :

" ولسوف يسجل التاريخ لشعب فلسطين الذي جاهد طويلاً وقاتل بغير هوادة في معارك غير متكافئة أنه في الوقت الذي ظن العدو أنه نجح في تصفية وجوده باحتلال كل أرضه فإن هذا الشعب بحيوية أصيلة ، وبإرادة حياة لا تقهر انقض واقفاً يملأ ساحة النضال كلها ببطولة باهرة ...
" إن تعاظم دور المقاومة الفلسطينية كان وسوف يكون نقطة تحول هائلة فى النضال العربي . إن المقاومة الفلسطينية قامت بعمل عظيم متعدد الجوانب رفعت مشعل المقاومة بعد الظلام الكثيف الذي ساد أرضنا بعد النكسة ، وأبقت جذوة الأمل مضيئة في قلوب الملايين من المحيط إلى الخليج ، ثم أوضحت للعالم كله أن احتلال الأرض شئ يختلف اختلافاً كبيراً عن تحطيم الإرادة واحتلال الروح .... "

ويواصل الحديث عن المكاسب التي حققتها المقاومة  يقول :

" أنها استطاعت بجهد مستـنير إزاء الرأى العام العالمى، أن تضع قضية شعب فلسطين في مكانها الصحيح باعتبارها قضية من أهم قضايا التحرر الوطنى في العالم . وما من شك أن هذه الأهداف السياسية والمعنوية ؛ التى تحققت إلى جانب الأهداف العملية المباشرة ، تعطي الشعب الفلسطيني دوراً أكبرا فى صنع المستقبل وفي تشكيله وفق أماني الأمة العربية ومطالبها المشروعة .. "

وبعد حديث مطوّل عن ملابسات الصراع وظروف النكسة التي اقتضت تغيير بعض التكتيكات السياسات يؤكد على الثوابت التي تتبعها مصر :

" إن الاستعداد بإمكانيات القتال لا ينبغى أن يعطل استعدادنا بإمكانيات السياسة ، ولكن الخطر أن نجعل الاستعداد للسياسة يعطل الاستعداد للقتال ؛ ذلك أنه في نهاية المطاف تبقى حقيقة واحدة على ساحة الشرق الأوسط ، حقيقة لا شريك لها ولا بديل ، لا شبهة عليها ولا ظل يلحق بها ؛ هذه الحقيقة هي ضرورة استعادة أرضنا وتطهيـرها إلى أخر شبر منها تطهيراً كاملاً ونهائياً . وأريدكم أن تعرفوا أن تحضير أرض المسرح سياسياً لا يقل أهمية عن تحضير أرض المسرح عسكرياً ، وفى ذلك فإن علينا أن نتسلح بوعى عميق مرن ، ولكن بغـير تفريط ، متحرك ولكن بغـير الاستسلام ، قادر على كسب الأصدقاء على كل أرض بغـير تضحية بالمبدأ ، ساع إلى السلام مع إدراك قاطع بأن السلام ليس سلام العدو الذي يريد فـرضه ، ولكن السلام سلام العدل ، وسلام الحق ؛ لأنه بالعدل وبالحق يصبح سلام الحقيقة ..
إننا خسرنا معركة فى يونيو 1967 ، ولكن العدو لم يكسب الحرب .. لأنه عجز على أن يفرض أوضاعاً سياسية تتـناسب في  تقديـره مع انتصاره العسكري .. "

كما يتحدث مطوّلا في الجلسة الافتاحية لمجلس الامة الجديد بتاريخ 20 يناير 1969 عن النضال الفلسطيني قائلا :

" وأود - أيها الإخوة - باسمكم أن أوجه تحية الإعجاب والتقدير من هنا إلى منظمات المقاومة الأربعة الكبيرة ؛ فتح والجبهة الشعبية ومنظمة التحرير ومنظمة سيناء العربية ..
وإذا كان من آمال الأمة العربية أن تلتقي منظمات المقاومة في إطار واحد .. فإنه من المحتم أن يكون واضحاً أن أي تحرك نحو هذا الهدف يجب أن يتم من خلال العمل السياسي الفلسطيني ، وبتوجيه الشعب الفلسطيني  نفسه .
إن الإرادة الفلسطينية يجب أن تترك بغير اعتراض ، ويجب أن تكون لها الفرصة كاملة لتحقيق آمالها، ولا ينبغي أن تكون هناك وصاية على تصرفاتها ..
ولقد اتخذت الجمهورية العربية المتحدة خطاً ثابتاً في هذه المسألة منذ بدأ الدور البطولي لمنظمات المقاومة الفلسطينية ، ومن هذا الخط فإن الجمهورية العربية المتحدة تضع تحت تصرف هذه المنظمات كل إمكانياتها بغـير قيد أو شرط ، ومن هذا الخط الثابت فإن الجمهورية العربية المتحدة قدرت موقف منظمات المقاومة الفلسطينية في رفضها لقرار مجلس الأمن الصادر بتاريخ 22 نوفمبر سنة 1967 الذي قبلت به الجمهورية العربية المتحدة نفسها ، ولقد كان من حق منظمات المقاومة الفلسطينية أن ترفض هذا القرار؛ إن هذا القرار قد يكون كافياً لمواجهة إزالة آثار العدوان الذي تم في يونيو سنة 1967 ، لكن هذا القرار ليس كافياً بالنسبة للمصير الفلسطيني ، ونحن نرفض كل تفسير لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين يحصرها فى إطار الإحسان والشعور الإنساني ، إن قضية اللاجئين ليست على هذا المستوى وحده ، ولن تكون كذلك ، فهي قضية شعب وقضية وطن ...  وفى صدد الحديث عن منظمات المقاومة فلا بد من الإشارة بصفة خاصة إلى النجاح البارز الذى تحققه حركة فتح فى مجال التوجه إلى الرأي العام العالمى، وفي الوقت الذي حاولت فيه الصهيونية أن تصور عمل المقاومة على أنه مجرد أعمال تخريب ، فإن الجهد السياسي لفتح  ينجح في وضع صورتها الصحيحة أمام الرأي العام العالمي ، وصورتها الصحيحة أنها حركة تحرير وطني ..
ولقد كان مما أعطى لنضال منظمات المقاومة جميعها بعدها الصحيح تلك المواقف الخالدة التي سجلتها جماهير الشعب الفلسطيني ؛ الصابرة ، الصامدة ، الشجاعة ، المؤمنة ، في الضفة الغربية وفي القدس وفي غزة ، حيث يقاوم الإنسان الفلسطيني  ببسالة نادرة ، ويرفض الاحتلال .. "

وهكذا كان موقف عبد الناصر واضحا في الدفاع عن المقاومة الفلسطينية باعتبارها ركيزة اساية لمقاومة العدو .. وقد عبر عن هذا الموقف بكل وضوح في كلمته أمام مجلس الامة بتاريخ 6 تشرين الثاني نوفمبر 1969 ، بعد الازمة التي تعرضت لها في لبنان جاء فيها :

" إن المقاومة الفلسطينية - وهذا ما يجب أن يعرفه الكل ويلتزم به إيماناً ويقيناً - جاءت لتبقى ، وسوف تبقى ؛ حتى تعيد تأسيس وطنها الفلسطيني ، وحتى تتأكد ممارسة هذا الوطن لدوره ضمن النضال الشامل لأمته العربية. ولم يعد في مقدور أحد أن يقمع المقاومة الفلسطينية فضلاً عن أن يحاول تصفـيتها ، ولم يعد في مقدور أحد أن يعيد مشكلة اللاجئين إلى سيرتها الأولى - التي طال الإدعاء بها - كمشكلة لاجئين ، أو كمجرد قضية إنسانية . القضية بالدرجة الأولى أصبحت قضية شعب له وطن .. "

وقد نقل الكاتب عبد الله حوراني في كتابه فلسطين في حياة جمال عبد الناصر ما قاله الزعيم الراحل  في خطاب موجه الى القوات المسلحة المصرية ممثلة في شخص وزير الحربية الفريق محمد فوزي في شهر اوت 1969 بعد حادثة المسجد الاقصى  يخاطبه فيها قائلا :

" مع كل الغضب الجارف والحزن العميق ، والآلام الروحية والمادية التي تعصف في قلوب أمتنا باسرها من المحيط الى الخليج ، فانني لم اجد من أتوجه اليه هذه اللحظة بخواطري غير القوات المسلحة للجمهورية العربية المتحدة ، ومن ورائها القوات المسلحة لشعوب أمتنا العربية ، وكل قوى المقاومة الشريفة ، التي فجرتها التجربة القاسية ، التي اراد الله عز وجل أن يمتحن صبرنا ، وأن يختبر صلابتنا ..
اننا أمام عدو لم يكتف بتحدي الانسان ، ولكنه تجاوز ذلك جنونا وغرورا ، ومد تحدّيه الى مقدسات ارادها الله بيوتا له وبارك من حولها ..
انني اريد أن يتدرّب رجالنا ضباط وجنود  القوات المسلحة اليومين الأخيرين ، وأن يتمثلوا معانيها ، وأن يصلوا وجدانهم و ضمائرهم بوجدان امتهم وضميرها ، وأن يعرفوا الى اعماق الاعماق أنهم يحملون مسؤولية وأمانة ، لم يحملها جند منذ نزلت رسالات السماء هديا للارض ورحمة ...
ان في معركتهم القادمة ، ليسوا جند أمتهم فقط ، ولكن جند الله ، حماة أديانه ، وحماة بيوته ، وحماة كتبه المقدسة ..
ان معركتهم القادمة لن تكون معـركة تحرير فحسب ، ولكنه أصبح ضروريا أن تكون معركة التطهير ايضا ..
ان أنظارنا تتطلع الى المسجد الاقصى في القدس ، وهو يعاني من قوة الشر والظلام ما يعاني ... ولسوف نحارب من أجل ذلك ، ولن نلقي السلاح حتى ينصر الله جنده ، ويعلي حقه ، ويعـز بيته ، ويعود السلام الحقيقي الى مدينة السلام .. " 

****


هذه نسبة قليلة من أقوال عبد الناصر تتجلى فيها بوضوح  المواقف القومية الخالصة في وعيه وتفكيره ومواقفه السياسية التي تعامل بها طوال حياته لعل أبرز جانب فيها هو ما يتصل منها بقضية فلسطين ، والمقاومة الشريفة التي وصفها بأنها " أنبل ظاهرة عرفها التاريخ المعاصر " .. وهو الذي لم يكتف في التعامل مع القضية بالكلام والخطب الحماسية فحسب بل كان منذ سنة 48 مجاهدا ميدانيا على أرض فلسطين التي بقي يضعها في مقدمة اهتماماته حتى وافاه الأجل يوم 28 أيلول 1970 وهو يدافع عن المقاومة الشريفة في مؤتمر القمة المنعقد بالقاهرة الذي بذل فيه  قصارى جهده وهو يصل الليل بالنهار للحفاظ على ما تبقى من المقاومة ، حتى أفنى ذلك الجسد الذي لم يعد يحـتـمل مزيدا من العطاء ، فسقط خلال ساعات بلا حراك  .. في أحلك الظروف التي تمر بها الامة العربية ، وأكثرها حاجة اليه ..
وفي هذا السياق يذكر الاستاذ سامي شرف في كتابه سنوات مع عبد الناصر ، كثيرا من  تفاصيل التدخلات والمساعي التي قام بها عبد الناصر منذ بداية العدوان على المقاومة في 16 ايلول / سبتمبر 1970 وحتى اتمام مؤتمر القمة التي أمّنت وقف اطلاق النار وحل كل الخلافات بالطرق السلمية .. ثم يروي مداعبة عبد الناصر لياسر عرفات في نهاية الجلسات قائلا له :

" يا أبو عمار، لقد حرقت دمي خلال الأيام الأخيرة لكي أحافظ عليكم ، وكان أسهل الأشياء بالنسبة لي أن أصدر بيانا إنشائيا قويا أعلن فيه تأييدي لكم ثم أعطيكم محطة إذاعة تقولون فيها ما تشاؤون ضد الملك ، ثم أريّح نفسي وأقعد أتفرج .. لكن بضميري وبمسؤوليتي لم أقبل هذا الأسلوب ، إن موقفي منذ اللحظة الأولى كان من أجلكم ومن أجل حمايتكم وحماية الناس الذين لا ذنب لهم والذين هم الآن قتلى لا يجدون من يدفنهم ، وجرحى لا يجدون من يعالجهم ، وشاردون بين الأنقاض ، وأطفال ونساء يبحثون في يأس عن أبسط حقوق للإنسان وهو حق الأمن على حياتهم "

فرد عليه ياسر عرفات قائلا :

" يا سيادة الرئيس لك الله ... كتب عليك أن تحمل هموم العرب كلهم وخطاياهم أيضا ..! "
 
وكانت هذه الهموم ـ كما قال الاستاذ سامي شرف ـ تفوق قدرة الجسد على البقاء ، وكانت المفاجأة رحيل عبد الناصر عن الدنيا كلها في 28 سبتمبر 1970 ...


                                                    ****


هذا هو  جمال عبد الناصر ، الزعيم الذي بدأ حياته مجاهدا في فلسطين وبقي على ذلك النهج والمبدأ طوال حياته حتى آخر ايامه وهو في أحلك الظروف بعد النكسة .. يقول الباحث عمرو صابح بعد ان يذكر  في دراسة بعنوان عبد الناصر وسيناء 1967 ـ 1970 ، شرط  اسرائيل الاساسي لقبول مبادرة روجرس القاضي بخروج مصر من الصراع العربي الصهيوين ، مؤكدا  انه لا بد  أن " نتذكر هذا جيدا ونحن نتناول وقائع جرت فى عام 1969 ، ومصر مازالت تعانى من أثار الهزيمة ، وسيناء مازالت محتلة ، ورغم ذلك ترفض مصر باستمرار عودة سيناء فقط بدون شروط ، دون عودة بقية الأرض العربية المحتلة ، وضمان لحقوق الشعب الفلسطينى "  .
ثم يضيف مؤكدا موقف مصر في خطاب لعبد الناصر في الخرطوم في 1 ياير سنة 1970 قوله :  

" لقد حاول الاستعمار بكل الوسائل طوال هذه الأشهر- سنتين ونص - أن يكسر من مقاومتنا وأن يجعلنا نستسلم ونسير فى طريق غير طريق الصمود ، إننا قلنا إننا نريد السلام ولكنا لم نقل أبداً بأى حال من الأحوال أننا نقبل الاستسلام من أول يوم ، بعد النكسة قلنا إننا نعمل من أجل السلام ، وهناك - أيها الإخوة - فرق كبير بين السلام وبين الاستسلام ، وقد أرادت الولايات المتحدة الأمريكية وهى تدعم إسرائيل بكل وسيلة من الوسائل أن يستمر تدعيمها ليس فقط بالسلاح .. ليس فقط بالمال ، ولكن فى المجال السياسى ، فكانت تعمل على أن تحول قرار مجلس الأمن إلى مشروعات مشبوهة للتسوية ، وتقول إن قصدها من هذا هو السلام ..  ولكنا نعرف أن قصد الولايات المتحدة الأمريكية كان دائماً هو تمكين إسرائيل من رقاب الأمة العربية ، وتمكين إسرائيل من أرض الأمة العربية وقد رفضنا دائماً هذه المشروعات المشبوهة من سنة 68 وسنة 69 ، كانت المشروعات تتلخص أساساً فى التفرقة بين العرب ، تسوية لمصر وحدها ، ثم بعد هذا تسوية للأردن ، وكنا نعلم أن هذا يعنى أن القدس قد ضاعت وأعطيت لليهود ، وأن الضفة الغربية قد ضاعت وأعطيت لإسرائيل ، ولهذا رفضنا وقالوا لنا إن مسألة الحدود مع مصر ليست مسألة نقاش وليست مسألة مفاوضات ، مسألة الأرض مع مصر ليست مسألة نقاش ومسألة مفاوضات ، وقلنا وماذا عن القدس وماذا عن الضفة الغربية ، إننا لا نفرق بين سيناء ، بين الأرض المصرية والأرض الأردنية والأرض السورية إنها أرض عربية .. لنا جميعاً للأمة العربية .
هذه المشروعات المشبوهة للتسوية التى قامت بإعدادها وتقديمها الولايات المتحدة الأمريكية، أعرف تماماً أن الجماهير العربية الصامدة ، الجماهير العربية الثائرة ، الجماهير العربية المصممة لن تقبلها بأى حال من الأحوال . إننا - أيها الإخوة - لا يمكن أن نقول إننا نريد الحرب فقط من أجل الحرب ، ولكنا نريد الحرب من أجل التحرير، نريد تحرير أرضنا التى استولت عليها إسرائيل ، نريد الحرية لأرضنا ولأبنائنا الذين يسكنون فى القدس وفى الضفة الغربية ، نريد هذا ولكنا لا نريد الحرب من أجل الحرب ، إن التحرير ليس فقط حق لنا ولكنه واجب علينا. حينما نقول هذا يقولون إن العرب يريدون الحرب ، قلناها وقلناها مرات ومرات ، إننا نعمل من أجل السلام ، وإننا نريد السلام ، ولكننا لن نرضى أبداً بالمشاريع المشبوهة التى تدعونا إلى الاستسلام فقالوا إنهم يريدون الحرب من أجل الحرب ، وأنا أقول إن الأمة العربية لا تريد الحرب من أجل الحرب ، إنما تريد تحرير أرضها جميعاً ، لن تتنازل عن شبر من أرضها بأى حال من الأحوال . "


                              **** 


هذا هو باختصار جمال عبد الناصر .. لا يجزئ القضايا ، ولا يتخلى عن الأوطان ، والشعوب مهما كان فيها من الخونة والعملاء الذين اختلف معهم وخاض ضدهم صراعات مريرة على جميع المستويات لكنه لم يغـير مبادئه ، ولم يبدل نهجه القومي متأثرا بمواقف الاقليميين ..
فتحرير فلسطين ، وتحقيق الوحدة العربية ، والنهوض بالانسان العربي ، كانت البوصلة التي  تقود خطاه ، والحلم الذي عاش من أجله على الدوام ..

رحم الله جمال عبد الناصر ، زعيم الأمة وقائدها وباعث نهضتها ويقضتها ... 





                                                 القدس  / 25 جويلية 2014 .



                                                               ****
                                 

 

 

هناك تعليق واحد:

  1. كلام فاضي اثبت التاريخ انه لا قيمة له,ناصر دمر الامة العربية

    ردحذف