بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 29 ديسمبر 2017

شرح جدل الانسان . د.صفوت حاتم .




شرح جدل الانسان .

د.صفوت حاتم .

"لست أشك لحظة واحدة في اننا حين نحصد حاضرنا ذات يوم نلتمس بين سنابله وأعواده " فلسفة عربية " سيكون الدكتور عصمت سيف الدولة في كتابه "أسس الاشتراكية العربية" بين الطلاع القومية التي أسهمت في تكوين الفلسفة العربية المعاصرة .." ، بهذه الكلمات المعبرة القوية تناول شيخ الفلاسفة العرب الدكتور زكي نجيب محمود ، أفكار الدكتور عصمت سيف الدولة بالعرض والتحليل . وحقيقة الأمر أن الاعجاب بكتابات عصمت سيف الدولة لا يتوقف عند حدود الدكتور زكي نجيب محمود ، بل يتعداه الى عديد من المفكرين العرب ، والى مئات التلاميذ من الشباب العربي على امتداد الساحة العربية بأكملها . فهو المفكر الوحيد تقريبا الذي استطاع من خلال كتاباته العديدة ان يكوّن مدرسة فكرية تتلمذ عليها عدد كبير من الشباب العربي العامل في الساحة السياسية ، ويتربع هو منفردا على راسها استاذا لجيل كامل من الشباب ، ومفكرا لامعا بالغ الثراء والغنى ، ومناضلا قوميا يجعل من الالتزام بقضايا أمته موقفا أصيلا لم يتخل عنه للحظة واحدة .
ومنذ أن صدر الكتاب الأول للدكتور عصمت سيف الدولة وهو كتاب : "أسس الاشتراكية العربية" عام 1965 ، فلقد شهد الفكر القومي العربي كتابات لعصمت سيف الدولة أثرت تأثيرا كبيرا في تأصيل فكر الثورة العربية ، مناقشة او تحليلا ، تأصيلا أو اجتهادا ، وابداعا ضافيا بالغ العمق والدلالة .
أما الفكرة الرئيسية للدكتور عصمت سيف الدولة فهي حكم يستخلصه من التضاد القائم بين فلسفتين جدليتين هما : الفلسفة الهيجلية ، والفلسفة الماركسية . الأولى مثالية جدلية والثانية مادية جدلية . الأولى تقصر التطور على مسار الفكر المجرد الخالص وحده ، والثانية تقصر نفسها على مسار المادة . اذن فلماذا لا ينظر الى هاتين الفلسفتين "الجدليتين" بنظرة "جدلية" تجعلهما بمثابة "الشيء ونقيضه" ؟ لتؤلف بين النقيضين السابقين في كيان يجمعهما ولكنه يتجاوزهما في مركب جديد يسميه الدكتور عصمت سيف الدولة : " جدل الانسان " . فالانسان هو الكائن الذي اجتمع فيه الفكر والمادة معا يحيث نقول : ان الجدل ـ أو التطور ـ لا هو مقصور على الفكر النظري وحده ، ولا على المادة المجسدة ، بل هو "جدل الانسان" ، فالانسان وبحسب تعريفه هو "وحدة نوعية من الوعي والمادة" ، ومن ثم فلا يجوز فهم أحدهما منفصلا عن الآخر ، ولا يجوز في الوقت ذاته التطابق بينهما ، بل يجب فهم الانسان كوحدة نوعية ـ لا كمركب حسابي ـ من المادة والوعي .
وعلى هذا فان الدكتور عصمت سيف الدولة يعتبر أن كلا من الفلسفة المثالية والفلسفة المادية  قد بدأتا من فريتين متافيزيقيتين مختلفتين ، وان كانتا موحدتي النتائج ، فالفلسفة المثالية تأخذ بأولوية أو أسبقية الفكر في الوجود على المادة ، والفلسفة المادية تأخذ بأسبقية المادة في الوجود على الفكر ، أما عصمت سيف الدولة ، فيشارك الوضعيين اعتقادهم أن حسم تلك القضية لا يخضع للاثبات العلمي والتجربة العلمية ، ومن ذلك فتقدير أسبقية أحدهما على الآخر في الوجود "ميتافيزيقية" لا يمكن أن تستند على وسائل العلم وطرقه في البحث ، بل ان هذا التقدير لا يعدو أن يكون مجرد استنتاجات عقلية مهما ادعت أي منهما من استنادها على العلم .
ويبين لنا الدكتور عصمت سيف الدولة بعد ذلك عن مفهومه للديالكتيك أو الجدل ، وهو يعني بالجدل أن يتقابل نقيضان أي يجتمع نقيضان في شيء واحد أو في محتوى واحد والتناقض يؤدي الى صراعهما ، الى أن يحل هذا الصراع ويخرج منهما أي من باطن الشيء الذي اجتمعا فيه ، شيء ثالث مختلف عنهما ويتجاوزهما في التطور ، فهو بالنسبة اليهما خطوة للامام أو تقدما ، انه يفرق بين التناقض وبين الجدل ، فالاخير يعني التناقض مضافا اليه التطور الجديد أو الثالث المركب يتجاوز النقيين ، ومن هنا فانه يفهم الجدل كتطور خلاق داخل جوهر الشيء .

"جدل الانسان" بين المثالية والمادية . 

 على أساس من هذا الفهم للديالكتيك ، يرفض مفهوم الجدل في كل من الفلسفتين المثالية الهيجلية ، والفلسفة الماركسية . فالجدل الهيجلي جدل خارج عالم الوقائع المعيشة المحسوسة ، جدل في اطار ما يطلق عليه هيجل "الفكر المطلق" أو "العقل الكلي" ، فحيثما يتطور "المطلق" يتطور "تجسيده المادي" . فالتناقض القائم داخل "العقل الكلي" يتم تجاوزه عن طريق "التجسيد" في شيء "مادي" يتمثل في الملكية .. الاسرة .. العشيرة .. القبيلة .. وأخيرا الدولة .. أي أن الدولة هي أسمى تجسيد للعقل الكلي ، وبالتالي تعتبر سلطة الإمبراطور أو الحاكم سلطة مطلقة باعتبارها تجسيدا للذات العليا . من هنا يأتي رفضه للمثالية التي تتحرك بعيدا عما هو محسوس ومعيش ، والتي بررت في نفس الوقت الاستبداد والخضوع لما هو قائم تحت وهم تقديس الدولة أو الامبراطورباعتبارهما تجسيدا للذات العليا ، أو "الكلي" "المطلق" . وهو يرف في نفس الوقت جدل المادة . فرفض عصمت سيف الدولة للجدل المادي الماركسي يستند على أساس متين من مكتشفات العلم الحديث ، كما يستند في الوقت ذاته على التطورات التي تبناها كثير من الماركسيين المعاصرين خصوصا في الفترة التالية على ادانة الستالينية وانغلاقها العقائدي والعلمي . فالماركسية ـ وعلى خلاف الهيجلية - قد حصرت الجدل في اطار التناقض الكامن في "المادة" سواء الأجسام المرئية او أصغر الدقائق غير المرئية  كالذرة ومكوناتها . أما عصمت سيف الدولة فيرى أن العلم على أيام ماركس وانجلز كان يسمح بالقول : ان التناقض كامن في باطن الذرة وذلك طبقا لقانون "كولومب" ، فأي جمع بين أي شحنتين كهربيتين ، اما ان يتنافرا ان كانتا من نوع واحد واما أن يتجاذبا ان كانتا مختلفتين ، وعلى هذا الأساس فسر وجود الشحنات السالبة والموجبة من باطن الذرة على أنه تأكيد على صحة قانون التناقض والجدل في باطن الذرة ، أما الآن فلقد أثبت العلم الحديث أن قانون "كولومب" ليس مطلق الصحة ، فلقد ثبت أن هناك مسافة يبطل عندها قانون "كولومب" ، وهذه المسافة هي جزء من ثلاثين مليون من السنتيمتر ، أي ما يعادل الثمن من قطر أكبر ذرة ، وبذلك ثبت أن الذرة خالية من التناقض أو الصراع .
ويدعم الدكتور سيف الدولة رفه لفكرة الجدل في الطبيعة على أساس العديد من المكتشفات العلمية الحديثة الأخرى ، فهو يقرر مثلا أن العلم الحديث لم يعد في حاجة لقانون "الجدل" ليفسر "تحولات المادة" ، اذ أن هذه التحولات تتم عن طريق ادماج الذرات ببعضها البعض وليس عن طريق تصارعها ، فاذا علمنا أن المعنى الدقيق "للجدلية" هو التناقض "الداخلي" في باطن الشيء ، فان تحولات المادة لا تتم عن طريق "التناقض الداخلي" ، بل من ضرورة أن يتواجد مؤثر "خارجي" ، ويتم ذلك عن طريق اشتراك ذرتين أو أكثر في المدارات الخارجية ، وعن طريق تعديل عدد وترتيب عناصر الذرات من الكترونات ونوترونات .
ويضيف الدكتور عصمت سيف الدولة الى ذلك أن الماركسية في اطار من محاولتها تطبيق قانون التناقض على عالم المادة قد أقامت تعارضا "وهميا" بين المادة والطاقة ، فاعتبرت الطبيعة قائمة على هذين العنصرين ، وبينما اعتبرت المادة شيئا ملموسا له كتلة او يمكن تمييزه بالكتلة ، واعتبرت الطاقة شيئا نشيطا بدون كتلة ، وعلى أساس ذلك فلقد اصبح السكون نقيض الحركة ، والمادة نقيض الكتلة ، الى أن ثبت عن طريق " اينشتاين " أن المادة طاقة مركزة ، والطاقة مادة لا تحتاج لكي نقول عنها أنها طاقة الا ان تسير بسرعة الضوء . فلقد أزال "اينشتاين" عن طريق قانونه القائل : ان الطاقة تساوي الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء ، محاولة اظهار التناقض بين الطاقة والمادة وأزال في الوقت نفسه التناقض الذي كان يفترض بين الجاذبية والقصور الذاتي .  
ان الدكتور عصمت سيف الدولة لا يكتفي فقط بدحض الجدل في الطبيعة او المادة من خلال مكتشفات العلم ، بل انه يثبت أيضا ما كتبه الماركسيون المعاصرون في ذلك المضمار خصوصا الفترة التالية لادانة الستالينية ، فهو يثبت لنا مثلا ما قاله علماء السوفيات وفلاسفتهم في كتاب "أسس الماركسية اللينينية" في طبعته الأولى من انه يمكن وعلى اساس من ميكانيكا نيوتن معرفة حركة الاجسام المرئية ( الماكروكوزم ) ، وانه عن طريق معرفة حالة الجسم في أي وقت فانه يمكن أن تحدد مقدما حالته في أي وقت في المستقبل مستخدمين في هذا الميكانيكا الكلاسيكية ، أي ميكانيكا نيوتن ، أما في عالم غير المرئيات ( الميكروكوزم ) أي عالم الدقائق الذرية ، فانه يمكن عن طريق قوانين الميكانيكا الكوانطية ( أي قواعد الميكانيكا الخاصة بغير المرئيات ) تحديد وضع وسرعة هذا الجسم في المستقبل عن طريق الاحتمال ، مستخدمين في هذا الميكانيكا الكوانطية . ( راجع عصمت سيف الدولة / أسس الاشتراكية العربية ) .
وعلى أساس من هذه المناقشة الخصبة التي يجريها الدكتور عصمت سيف الدولة مع كل من الفلسفتين المثالية الهيجلية والمادية المركسية ، اذ يوح لنا ان العنصر المشترك في الفلسفتين هو ما يسمى على سبيل الشيوع قوانين الجدل ن التي صاها هيجل واستعملها ماركس ، الأول طبقها على الفكر والثاني طبقها على المادة ن وهذه القوانين في صياغتها العلمية :
قانون التأثير والتأثر .
قانون الحركة والصيرورة .
قانون التغير المستمر ( من تراكمات كمية لا دلالة فيها الى تغيرات كيفية ذات دلالة ) .
قانون الجدل ( أو التناقض ) .
وهو يفرق بين القوانين الثلاثة الأولى باعتبار أن تلك القوانين هي قوانين الحركة كما صاغها "نيوتن" ، وبين القانون الرابع قانون الجدل الذي يعني وحدة وصراع المتناقضات ن اذ ان هذا الأخير هو قانون "التطور" وهو يقصر هذا الأخير على الانسان وحده ، ويعتبر القوانين الثلاثة الأولى قوانين كلية تشمل الطبيعة كما تشمل الانسان معها ، أما الجدل فليس في الطبيعة بل في الانسان ... اذن كيف تتطور الطبيعة ؟
يقرر الدكتور عصمت سيف الدولة أن الطبيعة بدون الانسان ليست متطورة ، بل هي "متحولة" من شكل الى آخر ، اذ انه يفرق في هذا الصدد بين معنيين : "التطور" ، و "التحول" ، فالتطور هو حركة ذات إضافة كيفية ، أما التحول فهو حركة بدون إضافة جديدة . فالجدل عنده هو قانون التطور ، والجدل ـ كما يقول ـ هو عملية خلق وتجاوز واضافة ، أما التحول فذلك شيء آخر لهذا نراه يقول : "سنفرق في حديثنا بين التحول والتطور حاصرين تعبير التحول على تعبير الحركة دون إضافة ، وتعبير التطور على الإضافة خلال الحركة الجدلية ، والتحول هو مفهوم القانون الأساسي للمادة" . وهو يضرب مثلا على ذلك تحول الماء الى بخار او ثلج ، اذ ان ذلك تحول في الشكل مع بقاء في التركيب الداخلي ، كما ان اندماج الذرات لا يعطي الا شكلا جديدا قائما على خصائص التركيب الجديد للذرات المندمجة وتراتيب الالكترونات بداخلها . ( أسس الاشتراكية العربية ص92 ) .
اذن هل يمكن اعتبار الطبيعة غير متطورة ؟
الواقع ان الدكتور عصمت سيف الدولة لا يقرر ذلك ، بل يعتبر ان تطور الطبيعة مرتبط بتدخل الانسان لتطويرها ، اذ أنه الكائن الوحيد الذي يتدخل في الطبيعة ليعيد تشكيلها وفق ارادته ، فهو يقرر أن المادة لا يمكن أن تكون متطورة لو لم يوجد الانسان ووعيه ، انها في حقيقتها "متحولة" وفق قوانينها النوعية الى اللحظة التي يتدخل فيها الانسان ليطور فيها ، اذ أن التطور ما هو الا تشكيل ذكي للمادة لا يتم بدون الانسان ، فتطور أدوات الإنتاج مثلا هو تشكيل ذكي للمادة حدث بفاعلية الانسان ووعيه .
وبعد ان يثبت الدكتور عصمت سيف الدولة رايه في أن المادة غير جدلية ، وبعد أن يرفض الجدل المثالي ، يمضي للتحدث عن منهجه الذي يسميه "جدل الانسان" قائلا : ان جدل الانسان يقوم على ذات القاعدة التي قامت عليها مناهج كثيرة في التطور ، وهي أن كل الأشياء والظواهر منضبطة في حركتها من الماضي الى المستقبل بقوانين حتمية معروفة أو يمكن معرفتها ، وهذا هو الشرط الأول لامكان تغيير الواقع ، يضاف الى هذا أن كل الأشياء والظواهر التي هي منضبطة بقوانين حتمية يؤثر بعضها في بعض من خلال حركتها التي لا تتوقف فتلحقها تغيرات مستمرة .
وبهذا يتفق منهج "جدل الانسان" أيضا مع مناهج كثيرة من أن هناك قوانين ثلاثة كلية هي التي تضبط حركة الأشياء والظواهر بما فيها الانسان : وهي قوانين التاثر والتاثير ... الحركة المستمرة ... والتغير المستمر . 
الا انه يقرر نتيجة خطيرة ينبغي الالتفات اليها ، أنه وان كانت هذه القوانين يمكن تطبيقها على أي شيء ، فانه لا ينبغي التغافل عن ان العلوم المختلفة تخضع لقوانين نوعية تختلف من وضع الى آخر ، فالقوانين التي تصلح للكيمياء ، لا تصلح للفيزياء ، وتلك تختلف عن قوانين النبات ، والأخيرة تختلف عن قوانين الحيوان ، وهي كلها تختلف عن القوانين النوعية للإنسان ن على الرغم من انها جميعا تخضع للقوانين الكلية المذكورة . أي انه لا ينبغي التغافل عن القوانين النوعية لكل مستوى موضوع للبحث .
من هذه الحقيقة يرتب الدكتور عصمت سيف الدولة عناصر منهجه على أساس من القوانين الكلية المذكورة : التاثر والتاثير ، التغير المستمر ، الحركة المستمرة ، الا ان القانون النوعي للإنسان هو قانون الجدل ، أي أن الجدل قانون نوعي خاص بالإنسان ، لا هو موجود في الفكر المطلق ن ولا هو موجود في المادة ، ويأتي السؤال بعد هذا : كيف يتواجد الجدل في الانسان ؟
الواقع انه من الإجابة على هذا التساؤل يبدأ الدكتور عصمت سيف الدولة في إقامة بناءه الفكري ديد الجدة والابتكار مستندا على ما تقدمه احدث نظريات "علم النفس" و "علم الاجتماع" خصوصا احدث فروعه كالمنهج البنائي الوظيفي ، الا أنه وعلى الرغم من ذلك لا يفقد طابع البساطة الذي يميز كتاباته عموما .
ولتويح الكيفية التي تتم بها عملية الجدل في الانسان ، فهو يبدأ بذلك السؤال الاولي : ما الذي يحدد للإنسان بواعثه وغاياته ؟
وفي الإجابة على هذا التساؤل يقرر عصمت سيف الدولة : ان الانسان مدفوع دائما الى اشباع "حاجاته" المادية والمعنوية ن وان هذا هو الباعث لحركة الانسان وتطوره ، اذ أن اباع حاجات معينة ـ سواء كانت مادية أو معنوية ـ يعني انبثاق حاجات جديدة وهكذا الى ما لا نهاية .. والحقيقة ان عصمت سيف الدولة يبدو قريبا في هذا المفهوم من المدرسة " البناية الوظيفية " في علم الاجتماع التي تأسست على يد عدد كبير من علماء الاجتماع من أمثال هربرت سبنسر ، وبرونسلوف مالينوفسكي ، وكليف راد براون ، وروبرت ميرتون . والفكرة المبسطة لهذه المدرسة ودون الدخول في الاختلافات بين هؤلاء المفكرين هي ان أي وحدة بنائية ( انسان ن او مجتمع ، مؤسسة ... الخ ) تتشكل من مجموعة من الأنساق ذات آداء وظيفي معين يهدف أساسا الى اشباع المتطلبات التي يفرضها البناء ككل ، فالانسان أو المجتمع ـ مثلا ـ يطرح حاجات لا بد من اشباع لها والا توقف البناء عن الاستمرار والتطور ، وعلى هذا الأساس سنجد مثلا ان "البنية اللغوية" أو "البنية الأخلاقية" الخ .. تحتوي هي الأخرى على مجموعة من الانساق الداخلية ن وتؤدي كلها دورا وظيفيا في اشباع الحاجات التي تطرحها الوحدة البنائية أو يطرحها البناء ككل . ( علي محمود ليلة ـ الأسس النظرية والمنهجية للمدرسة الوظيفية ) .

الانسان بين الماضي والمستقبل :

ان الاضافة المبتكرة التي يقدمها لنا عصمت سيف الدولة هي الكيفية التي يتم بها هذا الآداء الوظيفي في الانسان الفرد والانسان في المجتمع ، فهو يقرر ان الانسان مدفوع باشباع حاجاته "المادية والمعنوية" ، الا ان وعي الانسان بهذه الحاجات لا يعني تحققها واشباعها على الفور ، اذ تنشا ظروف مادية أو معنوية تقف أمام تحقق هذه الحاجات . وعلى أساس من هذا "التناقض" القائم بين "الحاجات" و"الظروف" يسعى الانسان من خلال خبراته المتراكمة محاولا إزالة هذه الظروف أو بمعنى ىخر "حل" "المشكلة" فيصمم لها حلا "عقليا" مستندا على فهمه لطبيعة المشكلة ( حاجات متناقضة مع الظروف ) ، الا ان التصميم العقلي "للحل" لا يعني اشباع الحاجات وإزالة الظروف فورا ، اذ لا بد ان ينفذ الانسان هذا الحل فيشبع حاجاته ، لتنشأ حاجات جديدة تعوقها ظروف جديدة لتثور مشكلة جديدة ، يحلها الانسان وينفذ حله عمليا ، وهكذا ، من المشكلة .. الى الحل .. الى العمل .. الذي هو إضافة جديدة لم تكن متحققة قبل ان تثور المشكلة ..
ويحاول الدكتور عصمت سيف الدولة اسناد منهجه على أساس من علم النفس الحديث في تقسيمه للعمليات العقلية في الانسان ، فنراه يقول :  ان علم النفس - وان كان حديثا لم يكتمل بعد ـ فثمة حقائق أولية ثابتة به ، وحتى بدونه من الملاحظة العادية وهي أن للانسان قدرة على التذكر والادراك والتصور والعمل ، والتذكر هو استرجاع "الماضي" . فالماضي الذي لا تدركه سائرالكائنات لا ينقضي بالنسبة الى الانسان ، بل يحتفظ به ويسترجعه في ذاكرته ، ويستطيع أن يدرك الروابط التي حكمته وعلل وقوعه ، ثم يستطيع أن يتصور "المستقبل" مستخدما ذات العناصر التي استرجعها من الماضي ، وأن يعيد تركيبها على أساس القوانين التي أدركها ، وبتلك القدرة على "ادراك" الماضي وتصور المستقبل يتحدد أي نمط من سلوك الانسان .
والى هنا تحدث المزاوجة المروعة بين علم النفس البنائي الوظيفي اذ يعبر عصمت سيف الدولة عن "الحاجات" بـ "المستقبل" ، فالحاجات هي المستقبل الذي يريده الانسان ولم يتحقق بعد ، ويعبر عن "الظروف" بـ "الماضي" ، فالظروف هي تعبير عن امتداد الماضي . وكما كانت المشكلة هي عبارة عن التناقض بين الحاجات والظروف ، فهي بلغة أخرى التناقض بين المستقبل والماضي . يقول الدكتور عصمت سيف الدولة : النقيضان في جدل الانسان هما الماضي والمستقبل اللذان يتبع أحدهما الآخر ويلغيه ولا يلتقي به . وفي الانسان يجتمع النقيضان وتثور عن تناقضهما مشكلة بين ماض يريد أن يمتد فيلغي المستقبل الذي يريده الانسان ، وبين ما يريده الانسان ويريد ان يتحقق فيلغي امتداد الماضي . وتكون المشكلة ـ التي تعبر عن الصراع ـ هي ذلك الفرق بين الواقع المسترجع من الماضي ، والمستقبل الذي يريده الانسان ، ويعبر عن ذلك سلبيا بالحاجة أي شعور الذات بعدم الاكتفاء ( من تجربة الماضي ) ونزوعها الى الاكتفاء ( في المستقبل ) ومقاومة الظروف ( الماضي الممتد تلقائيا في المستقبل ) لاشباع تلك الحاجة ( في المستقبل ) .
وبقدر ما يكون الفرق كبيرا يكون التناقض عميقا ، فيكون الصراع قويا ، فتكون المشكلة حادة ، وبقدر ما يسترجع الانسان من "خبرات الماضي" فانه يستطيع ان يتصور ( المستقبل ) ، وهنا لا بد من  "الحل" الذي لا بد أن يتحقق بالعمل فتحدث إضافة جديدة لم تكن موجودة قبل أن تثور المشكلة .
وهكذا تستمر حلقات الجدل ، ويستفيد الانسان من قدرته على معرفة الماضي وقوانين وقوعه ليعدل تلك الشروط التي تحقق هذه القوانين ، وكذلك يستفيد الانسان من معرفته "العلمية" للظروف لتعديل المستقبل الذي يتصوره ، فالمستقبل المقصود عنده هو المستقبل "الممكن علميا" أي المستقبل الذي تسمح بتحقيقه القوانين التي يكتشفها ويفهمها الانسان .
ومن هنا يسارع الدكتور عصمت سيف الدولة الى توضيح الاختلاف بين " جدل الانسان " والجدل المثالي عند هيجل بقوله : يختلف جدل الانسان عن الجدلية المثالية ، لان التناقض لا يقوم بين أفكار بعيدا عن المادة ، ولكنه تناقض بين ماض "مادي" ـ  فالماضي بالنسبة الى الانسان مادي جامد لا يتوقف عليه وغير قابل للتغيير ، وبمجرد وقوعه يفلت من إمكانية الألغاء ـ وبين المستقبل أو التصور المستقبلي للمادة ، وهذا التناقض يحل بتشكيل جديد للمادة .
من هنا نرى انه يفهم الطبيعة حول الانسان فهما " وظيفيا " ، فالوظيفة الأساسية للطبيعة هي اشباع حاجات الانسان ، كما أننا نفهم عملية التذكر والادراك والتصور وهي مجموع العمليات التي تحدد سلوك الانسان ، أيضا نفس الفهم "الوظيفي" هدفه اشباع حاجات الانسان كما يعيها ويتصورها ، وهذا ينسحب بنفس الطريقة على فهمه للماضي والمستقبل .

مفهوم الحرية لدى عصمت سيف الدولة :

لا يفهم عصمت سيف الدولة "الحرية" في الانسان مفهوما وجوديا قاما على أساس من المنطق القال "بحرية الفعل الإنساني" بل نراه يفهم الحرية على أساس أنها "تحرر من .." أي انه بالقدر الذي يتحرر فيه الانسان من حاجاته ـ باشباعها وليس بتجاهلها ـ بقدر ما يحقق من حريته ، فقانون التطور في الانسان هو الجدل ، غاياته اشباع حاجات الانسان  وبالقدر الذي "يتحرر" فيه الانسان من الحاجات باشباعها ، مستخدما قانون الجدل يحدث التطور ويكتسب الانسان " حرية " جديدة لم تكن متوافرة له من قبل وهكذا . وهنا يثور سؤال : كيف يوفق عصمت سيف الدولة اذن بين الحتمية والحرية ؟
ان الحتمية أو الضرورة وهي انضباط كل شيء على قوانين حتمية لا يمكن الفكاك منها ، لا بد ان تنصرف الى الانسان نفسه . فكيف يمكن التوفيق بين هذه الحتمية وبين حرية الانسان ؟
ان حرية الانسان عنده مقصورة في ان يلتزم الانسان ـ او لا يلتزم ـ بالقوانين الكلية التي تحكمه وتحكم الطبيعة معه ، وأيضا "القوانين" النوعية للطبيعة ، من خلال التزامه هو بقوانينه النوعية . أي التزامه بجدل الانسان كقانون نوعي خاص به . ان حرية الانسان قائمة على أساس الالتزام بالقوانين الكلية والنوعية ، وبقدر ما يلتزمها يحقق حريته ، وبالقدر الذي يحقق به حريته يتطور .
لهذا فهو يرى أن الحرية هي المقدرة على التطور ، وأن هذه الحرية مشروطة بمعرفة القوانين "الحتمية" والالتزام بها .
انطلاقا من هذا الفهم يختلف عصمت سيف الدولة ـ أو يخالف ـ مفهوم مفهوم الحرية في الماركسية التي تعتقد أن الإنتاج المادي هو الذي يحدد للناس بواعثهم وغاياتهم وبالتالي أعمالهم . فالحرية في المادية الجدلية تعني ان الانسان قادر على أن يفعل ما تريده له الطبيعة المادية وحريته محصورة في أن يتبعها . "فليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم ، بل أن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم" كما يقول ماركس .
وانطلاقا من هذا الفهم ذاته فهو يختلف أو يخالف المفهوم الهيجلي للحرية الذي تأسس على أن حرية الإرادة تبدأ بأن تحقق نفسها في الواقع حتى لا تظل مجردة ، ثم تحاول أن تصبح أكثر شمولا ، بأن تتحد مع حريات الآخرين لتصبح حرية جماعية في صورة العائلة الى مزيد من الشمول لتصل الى الدولة التي هي تجسيد للذات العليا وممثلة في القوانين التي هي "إرادة الروح الكلية" .
انه يرفض ـ أيضا ـ هذا المفهوم الذي يلامس الانسان في مواجهة "المطلق" الذي يتجسد في أرقى صورة في استبداد الدولة بشؤون الأفراد .

الجدل الاجتماعي :

من الانسان الفرد الى المجتمع ، ينتقل الدكتور عصمت سيف الدولة ، اذ أن الانسان الفرد غير موجود في الواقع ، فالانسان عضو في المجتمع ، وابتداء من هذه الحقيقة نصبح في قلب المشكلة الحقيقية أي حرية الانسان في المجتمع . هنا أيضا تبدو أسس الفهم "الوظيفي" لدى عصمت سيف الدولة ، اذ يبدو المجتمع بناء عديد الانساق مهمتها اشباع حاجات البناء ككل . ويحاول عصمت سيف الدولة التغلب على ازمة العلاقة بين الانسان الفرد وبين المجتمع ككلية فوق الفرد باعطاء الاثنين مفهوما وظيفيا . فالفرد يساهم بدور وظيفي في عملية اشباع "حاجات" "البناء الاجتماعي" ككل بينما يحقق الوجود الاجتماعي في الوقت ذاته اشباعا لحاجات الفرد ... ولعل هذا المفهوم أقرب للمفهوم "الوظيفي" لروبرت ميرتون منه لمفاهيم الرواد الآخرين لعلم الاجتماع الوظيفي .
فالمستوى الذي يتجه اليه الآداء الوظيفي بالاشباع عند روبرت ميرتون يختلف عن الخطوط التي سار عليها "دوركايم" والذي يتجه الاشباع عنده نحو البناء الاجتماعي والذي لا يتيح أي مكان للوجود الفردي وحاجاته . وهو يختلف أيضا عن الخطوط التي سار عليها "برونسلوف مالينوفسكي" الذي رأى ان الاشباع الوظيفي موجه أساسا لخدمة الحاجات البيولوجية والفردية .
"فميرتون يعامل الوجود الإنساني على انه منقسم الى أجنحة ثلاثة : نسق الثقافة ، النسق الفردي ، النسق الاجتماعي ، وأن كل نسق تتطلب حاجاته اشباعا وظيفيا يقع على كاهل الانسان الأخرى ، وآداء وظيفيا يشبع حاجات الانسان الأخرى ، ومن هنا كان الاشباع الوظيفي عند "ميرتون" يخدم المستوى الاجتماعي البنائي ، وايضا المستوى الفردي.
على اساس من هذا الفهم "الوظيفي" يقدم عصمت سيف الدولة لنا طريقته في فهم العملية الاجتماعية وديناميتها بتطبيق قانون الجدل على المجتمع ، فكما كان قانون الجدل في الانسان "الفرد" يقوم على أساس ثلاث حركات : المشكلة ( التناقض بين الحاجات والظروف ) ـ الحل ، والعمل .
تقوم نظرية "الجدل الاجتماعي" عنده على نفس الحركات الثلاث : المشكلات المشتركة وهي عبارة عن التناقض بين حاجات المجتمع وظروفه ، ثم تأتي الحركة الثانية وهي الاشتراك في حل المشكلات المشتركة ، لتنتهي بالحركة الثالثة وهي الاشتراك في تنفيذ الحل المشترك في الواقع .
ان الجدل الاجتماعي هو جدل الانسان لكن في الحياة الاجتماعية ، أو هو الصيغة الاجتماعية "لجدل الانسان" .

قانون تطور المجتمعات :

كما كان جدل الانسان هو قانون تطور الانسان الفرد ، فان الجدل الاجتماعي هو قانون تطور المجتمعات . فعن طريق الجدل الاجتماعي أي المعرفة المشتركة "بالمشكلات" الاجتماعية ، والرأي المشترك في "حلها" ، وتنفيذ هذا الحل "بالعمل" المشترك ، يشبع الانسان الفرد احتياجات أكثر لم يكن ليستطيع أن يشبعها أو يحققها لو بقي منفردا .
ان الجدل الاجتماعي هو قانون التطور ، ولأنه قانون فهو يكتسب صفة الحتمية ، وبالتزام البشر في مجتمعاتهم بهذا القانون ، فهم يكتسبون مزيدا من الحرية بالقدر الذي يتحررون فيه من حاجاتهم باشباعها . اذن فغاية قانون الجدل الاجتماعي هو اشباع الحاجات المتزايدة لأفراد المجتمع ماديا ومعنويا. ولأن لكل قانون شروط لتحقيق فعاليته ، فان قانون الجدل الاجتماعي لا يتحقق الا بتوافر شروطه وهي المعرفة المشتركة "بالمشكلات" والمعرفة المشتركة "بالحلول" والاسهام المشترك في "العمل" على تنفيذ تلك الحلول . ويرتب الدكتور عصمت سيف الدولة على ذلك أن أي حائل يمنع الناس من معرفة مشكلاتهم أو حلولها أو تنفيذ تلك الحلول في الواقع ، فهو بذلك يعطل قانون "الجدل الاجتماعي" ، هنا ينشأ ما يسميه "الصراع الاجتماعي" . "فالصراع الاجتماعي" يبدأ في الظهور في الوقت الذي يقف فيه "الجدل الاجتماعي" ، ومن ثمة تكون "غاية" هذا الصراع الاجتماعي هو إزالة كل "العوائق" أو "القوى" الاجتماعية التي تمنع الناس من "الجدل الاجتماعي" ، ذلك أن هؤلاء بدلا من أن يتفرغوا لحل مشكلات التطور عن طريق الجدل الاجتماعي ، فانهم يركزون ـ في هذه الفترة ـ على إزالة العقبات أو القوى التي تمنع قانون التطور الاجتماعي من تحقيق شروط فعاليته .
حاولنا في الفقرات السابقة القاء بعض الضوء على قضية منهج التطور الاجتماعي لدى عصمت سيف الدولة ن فعلى ضوء هذه القوانين حاول عصمت سيف الدولة تطبيق منهجه على عديد من الظواهر الاجتماعية التي فشلت الماركسية في تفسيرها .
والحقيقة اننا لا يسعنا في هذا المجال الا أن نبدي اعجابا خالصا بالطريقة التي حاول بها تفسير عديد من هذه الظواهر الاجتماعية . فاذا كان ماركس قد استطاع أن يفسر جميع الظواهر الاجتماعية التي عرضت له على أساس من المادية الجدلية ، فان عصمت سيف الدولة قد استطاع تفسير عديد من الظواهر الاجتماعية على أساس من جدل الانسان ن والجدل الاجتماعي .
واذا كان المجال لا يتسع هنا لايراد كل هذه الظواهر فسنختار هنا أربع ظواهر اجتماعية لنرى كيف تصدى لها عصمت سيف الدولة على أساس من منهجه الجدلي الإنساني ، آملين أن يتمكن القارئ من الرجوع الى كتابات هذا المفكر .
أما الظواهر الأربع التي سنعرض لها فهي : ظاهرة الصراع الطبقي ، ظاهرة الأمة ، ظاهرة الدولة ، والظاهرة الأخلاقية .

1 ـ ظاهرة الصراع الطبقي :


على أساس من الفهم "الوظيفي" لقانون الجدل الاجتماعي ، كقانون للتطور الاجتماعي ، فانه يرفض اعتبار "الصراع الطبقي" قانونا لتطور المجتمعات كما قررت الماركسية ، وعلى أساس من فهم الصراع الاجتماعي وعلاقته بالجدل الاجتماعي يحدد عصمت سيف الدولة الفروق القائمة بين "الصراع الاجتماعي" و "الصراع الطبقي" . فهو يفهم الصراع كحركة تصادمية بين طرفين متصارعين يحاول احدهما ملاشاة الآخر على أساس من التناقض القائم ، فالصراع أعلى من التناقض ، فالأول هو عبارة عن تناقض وصل الى حد التصادم ، اما الثاني فقد لا يحتمل مثل هذه الملاشاة أو الصدامية بين طرفيه المتناقضين ، كالتناقض بين العمال والرأسماليين مثلا .
أما الصراع فهو حركة هدفها الملاشاة أو افناء أحد طرفي الصراع .
فتعبير "الصراع الطبقي" ينصرف الى تحديد القوى المتصارعة ، أي انه تعريف للصراع من حيث نوع قواه ، فالقوى المتصارعة هنا هي طبقات ، فلا يمكن فهم الصراع الطبقي من حيث مضمونه وأهدافه الا حينما يصبح لكلمة "الطبقة" مفهوما اجتماعيا ، يحدد قواها وغاية صراعها ، والماركسية تحدد الصراع الطبقي على أساس من المصلحة الطبقية . وهنا نرى ان عصمت سيف الدولة يقرر أن قوى الصراع ـ أي  صراع ـ سواء كان طبقيا ، أو عسكريا ، أو اجتماعيا تتحدد على أساس من ثلاثة شروط هي :
أ ـ المصلحة : حالية أو مستقبلية ، وسواء كانت مصلحة طبقية أو عسكرية أو اجتماعية .
ب ـ الوعي بهذه المصلحة : اذ أن المصلحة وحدها غير كافية لبدأ الصراع .
ج ـ الموقف النضالي القائم على هذا الوعي بالمصلحة : اذ أن المصلحة والوعي بها لا يكفيان لبدء الصراع ، انما تكتمل عناصر الصراع ويبدأ الصراع بالشروط الثلاثة معا :
ـ مصلحة ..
ـ وعي ..
ـ عمل ونضال على أساس من الوعي والمصلحة ..
وينتقل عصمت سيف الدولة ليوضح الفروق بين "الصراع الطبقي" كما قالته الماركسية و "الصراع الاجتماعي" كما أوضحه هو ، على اساس عدة فروق يرى منها أن الصراع الاجتماعي مفهوم أشمل وأعم من مفهوم الصراع الطبقي ، فهو يرى :
أولا : أن الموقف من الصراع لا يتحدد على أساس من الانتماء الطبقي ، أو بموقع صاحبه من ملكية أدوات الإنتاج كما تقرر الماركسية ، بل أن الموقف يتحدد على أساس الشروط الثلاثة التي ذكرناها . فالصراع من أجل الاشتراكية لا يتحدد على أساس من الطبقتين المتصارعتين طبقيا : ( العمال والرأسماليين ) ، بل تدخل فيه قوى عديدة لا علاقة لها بعلاقات الإنتاج الرأسمالية وأدواته ، فيدخل الطلبة والمثقفون والثوريون  والفلاحون .
ان الذي يحدد لهؤلاء موقفهم في الصراع من أجل الاشتراكية ليست مصلحتهم الطبقية فقط بل وعيهم بهذه المصلحة "حالية أو مستقبلية" ، ثم نضالهم من اجلها ، وان هذا يفسر لماذا كانت قيادة الثورات الاجتماعية من طليعة واعية بمصالح المجتمع ككل ومناضلة من أجل تحقيق هذه المصلحة .
ثانيا : يفرق الصراع الاجتماعي عن الصراع الطبقي في كون الأول غير لازم موضوعيا لعملية "التطور الاجتماعي" ، بل معوقا لها ، وأن مصدر لزومه هو حتمية إزالة كل عقبة تقوم في سبيل التطور وتعوقه .
أما نظرية الصراع الطبقي فترد حتميته كما تقرر الماركسية في كونه قانونا لتطور المجتمعات .. وبينما يستطيع قانون الصراع الطبقي تفسير المجتمعات الطبقية ، الا أنه يعجز عن تفسير تطور المجتمعات غير الطبقية "كالشيوعية البدائية" والمجتمع اللاطبقي بعد الثورة الاشتراكية . فهو ـ وان كان يستطيع تفسير المجتمع الطبقي ـ لا يمكنه تفسير المجتمع اللاطبقي او الاشتراكي أو الشيوعي .
ثالثا : ان جعل الصراع الطبقي قانونا وحيدا لتطور المجتمعات الإنسانية ، يجعله عاجزا عن تفسير ألوان أخرى من الصراعات لا تقوم على أساس "طبقي" . فهو لا يفسر مثلا الصراعات القومية بين الشعوب ، خصوصا تلك القائمة داخل المعسكر الاشتراكي ، كما أنه لا يفسر الصراع بين وحدات اجتماعية أدنى من المستوى القومي ، مثل الصراع العشائري أو القبلي . فالصراع الاجتماعي يفسر أمثال تلك الصراعات بين أي كيانات اجتماعية تبدأ من الأصغر الى الأكبر اجتماعيا ، بينما قانون الصراع الطبقي تبدأ فعاليته من نشوء الطبقات ، وداخل المجتمع الطبقي ذاته ن ومن هنا فهو يعجز عن تفسير الصراعات بين الأمم أو الصراعات القبلية والعشائرية في الفترة السابقة على نشوء الطبقات .
رابعا : الفارق الرابع هو ما يحدده عصمت سيف الدولة بوحدة المصير القومي . فالطبقة ماركسيا تناضل من أجل مصالحها الطبقية الخاصة ، وهنا يفترق الصراع الاجتماعي عن الصراع الطبقي ، فالعمال ـ مثلا ـ لا يستهدفون بنضالهم ضد الراسماليين الغاء الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج لتصبح بعد هذا ملكية خاصة للعمال ، بل انهم يناضلون من أجل ان تصبح ملكية اجتماعية للشعب كله .
وعلى أساس من هذا الفهم يرى عصمت سيف الدولة أن الماركسية وهي تقرر عالمية ووحدة الطبقة العاملة لا تفسر سكوت الطبقات العاملة في البلدان الراسمالية على نهب الطبقات العاملة في بلدان المستعمرات والبلدان المتخلفة ، اذ ان الطبقات العاملة الأوروبية والأمريكية تشارك بورجوازياتها القومية في نهب شعوب المستعمرات وطبقاتها العاملة . ( عصمت سيف الدولة / نظرية الثورة العربية ) .

2 ـ ظاهرة الأمة :

يعتبر تفسير عصمت سيف الدولة لظاهرة الأمة من أروع اسهاماته النظرية وأكثرها جدة وابتكارا ، فعلى ضوء حصيلة واسعة من النقاش مع النظريات العديدة من الامة ، يضع الدكتور سيف الدولة تفسيره لعملية (process ) تكوّن الامة ، وعلى أساس من هذا المنهج "الوظيفي" الذي يقترب منه ، فهو يؤسس نظريته على أن اية تشكيلة اجتماعية أو أية "وحدة بنائية" يتحدد آداؤها الوظيفي على أساس من الاشباع الوظيفي للحاجات المختلفة التي يتطلبها البناء . ففي الانتقال من الاسرة الى العشيرة ، الى القبيلة ، الى الأمة ، سنرى أن أية وحدة "بنائية" من تلك الوحدات كانت دوافع نشأتها هي توفير "حاجات" لم يكن ليستطيع البناء السابق عليها اشباعها على هذا القدر والعمق .
فالعشيرة تشبع قدرا أكبر من الحاجات عن تلك التي تشبعها الاسرة ، والقبيلة تشبع هي الأخرى قدرا اكبر من تلك التي تشبعها العشائر ، وهكذا حتى نصل الى الأمة كوحدة بنائية تشبع قدرا اكبر من الحاجات التي تشبعها القبائل ، وهكذا تمضي صيرورة تطور الوحدات الاجتماعية مدفوعة باشباع أكثر ومتزايد للحاجات الا أنه ـ وهذا مهم جدا ـ لا يتوقف بالتطور الاجتماعي عند حدود الامة بل يسير مع هذا القانون ذاته ليقرر أن التطور الإنساني مفتوح في المستقبل البعيد لظهور تشكيلات اجتماعية أكثر رقيا وتطورا من الأمة ، تساهم في تحقيق اشباع حاجات أكثر تطورا وهي الظاهرة التي بدأت تتشكل ملامحها الآن متمثلة في ظاهرة التعاون الدولي سواء داخل الكتلة الراسمالية : "السوق الأوروبية المشتركة" أو داخل الكتلة الاشتراكية ممثلة في "الكوميكون" : ( مجلس المساعدة الاقتصادية المتركة ) .. الخ .
ويقرر الدكتور عصمت سيف الدولة أن المميز الحاسم للأمة عن الطور السابق عليها هو عامل الأرض ، فالذي يميز الطور القبلي عن طور الأمة هو عدم الاستقرار على الأرض ، بل هي دائمة الحركة بحثا عن مصادر للرزق ، وهي حين تستقر على الأرض تبدأ في مواجهة "المشاكل" الجديدة التي تطرحها "الظروف" الجديدة فيبتكر على الأرض التي استقر عليها ما يحل مشكلات جمع نتاجها وتخزينه وتوزيعه وحراسته ، من فؤوس ومنازل وحراب ونبال .. الخ . إذ يكون هذا هو الطريق الوحيد لحفظ الحياة واشباع الحاجات المتجددة .. فالجماعات القبلية التي استقرت على ارض معينة خاصة بها ، دخلت مرحلة تكوين جديدة هي مرحلة تكوين الأمم ( التكوين القومي ) لتتميز بهذا الاستقرار على الأرض  عن الطور الذي سبقها وهو الطور القبلي .
لهذا فهو يعتقد أن أي نظرية في الأمة لا تسلم بأن "الأرض المشتركة" عنصر لازم لاية جماعة بشرية لتكون أمة ، هي نظرية فاشلة في التعريف بالأمة ، وذلك لأن كافة العناصر الأخرى مثل وحدة اللغة التي ترتكز عليها النظرية الألمانية ، أو وحدة الحياة الاقتصادية التي يرتكز عليها الفكر الماركسي ، أو وحدة الثقافة التي تشيد بها الكتابات العربية ، أو حتى وحدة الإرادة التي ترتكز عليها النظرية الفرنسية ... الخ ، كل هذه العناصر يمكن ان تتوافر ، وأن تجتمع لجماعات بشرية لا ترتقي الى مستوى الأمة كالمجتمعات القبلية مثلا .
على اية حال فان تركيز عصمت سيف الدولة على عامل الأرض المشتركة ، أو المنهج الذي اتبعه في تفسير تكوّن الأمة هي كلها قضايا جديدة على الفكر القومي ، لم يعالجها من قبل ..

3 ـ ظاهرة الدولة :

الواقع اننا وقبل الحديث عن تفسير الدكتور عصمت سيف الدولة ، يهمنا أن نقرر أن الفكر القومي يفتقر الى فقه متكامل في ظاهرة الدولة اللهم الا مفكرنا القومي عصمت سيف الدولة .
فهو ـ وعلى وضوء دراسة قانونية ، وفلسفية ، واجتماعية ـ يحاول تطبيق منهجه "الجدل الاجتماعي" لتفسير تلك الظاهرة اجتماعيا الا ان كتاباته لم تقتصر فقط على هذا الجانب الاجتماعي التجريدي ، بل انه استطاع أن يضع فقها خاصة عن دولة التجزئة ، ودولة الوحدة ، وعلاقة هذا الفهم بفهمه التجريدي العام عن الدولة .
والحقيقة أننا نستطيع ان نلاحظ ملامح الفهم "الوظيفي" للدولة لدى عصمت سيف الدولة ، فهو على ضوء قانون الجدل الاجتماعي الذي يفسر تطور المجتمعات على أساس المعرفة المشتركة والراي المشترك والعمل المشترك ، وباعتبار أن ذلك قانون حتمي لتطور المجتمعات ، فان هذا الاشتراك الحتمي بين افراد متعددين في مجتمع واحد فرض تنظيم نشاط الافراد وإدارة جهودهم على وجه تتكامل فيه جهودهم فتصبح جهدا واحدا في مواجهة الظروف الواحدة .
وكان لا بد لهذا التنظيم من جهاز يتولى إدارته فابتكر الانسان حلا لتلك المشكلة وهو ما سمي أخيرا "الدولة" ، أي أن الدولة ـ وبحسب تعريف عصمت سيف الدولة ـ هي جهاز إدارة المصالح المشتركة بين الناس في المجتمع . ذلك أن المجتمع قد يخلق الصراع الاجتماعي على مستوى امتداده الافقي ، وبين الفئات والجماعات على مستوى امتداده الرأسي ، وبين المتخلفين والمتقدمين على مستوى تطوره الى المستقبل . وكما عرفنا من قبل فان الصراع الاجتماعي ينشأ حين يتوقف او يتعطل قانون الجدل الاجتماعي ، لهذا فلقد خول جهاز الدولة آداء وظيفيا معينا هو سلطة الردع ليفرض حل الأغلبية على الأقلية  المتمردة افرادا أو جماعات .
ويرتب عصمت سيف الدولة على ذلك مفهوما مأداه : أن الدولة ستظل قائمة كسلطة إدارة للمصالح المشتركة ما بقيت المجتمعات البشرية ، فهي مبرر وجودها الوظيفي أيا كان شكل المجتمع ، وستظل قائمة كسلطة ردع ما بقي الصراع الاجتماعي ، على هذا الأساس يرفض عصمت سيف الدولة مفهوم الدولة في الماركسية على أساس انها جهاز ردع طبقي ، تستخدمه الطبقة السائدة د الطبقة المسودة ، وانها ستزول وتتلاشى بزوال صراع الطبقات وهو الأساس الذي عبر عنه انجلز واستشهد به وعمق له لينين في "الدولة والثورة" . ويستند عصمت سيف الدولة في رفضه للمفهوم الماركسي عن الدولة من تجربة البناء الاشتراكي ذاته اذ لم تؤد هذه التجربة الى زوال الدولة وتلاشيها ، بل الى تضخمها وتركزها في سلطة أوسع واكثر ردعا ، ويدعم هذا الفهم بما أكده المؤتمر الثاني والعشرون للحزب الشيوعي السوفياتي من إحلال "دولة الشعب كله" محل دولة البروليتاريا .
وينسحب هذا الفهم الوظيفي لعصمت يف الدولة على فهمه لظاهرة "دولة التجزئة" و "ودولة الوحدة" ، فدولة التجزئة ( او مؤسسات التجزئة ) نشأت لآداء دور وظيفي معين يتلاءم مع الغاية من نشأتها ، ومن هنا فآلية حركتها تتلاءم مع هذه الغاية الوظيفية ومع هذه الآلية من العمل ، ومن هنا يرفض الوحدة عن طريق ادماج دول التجزئة ، اذ أن هذه المؤسسات كوحدات بنائية وظيفية تتحدد غاياتها وفعالياتها بالاهداف التي نشأت من أجلها ، ومن ثم فهي تتناقض مع الغايات والآليات والفعاليات التي تقتضيها مؤسسات الوحدة .
فدولة الوحدة كجهاز لادارة المصالح المشتركة للمجتمع العربي ككل تتناقض في غاياتها وآلياتها مع دول التجزئة كأجهزة لادارة المصالح المشتركة لاقاليم التجزئة وللشعب العربي المجزأ داخل كل إقليم .

4 ـ الظاهرة الأخلاقية :

هنا أيضا وعلى أساس من "الجدل الاجتماعي" ، كقانون لتطور المجتمعات ، يضع عصمت سيف الدولة مفهومه للظاهرة الأخلاقية ، فهو لا يعتقد بوجود مفهوم "مطلق" عن الاخلاق ، ويرفض ـ في نفس الوقت ـ أي فهم ميتافيزيقي للأخلاق .. فقواعد الاخلاق والعادات والتقاليد تمثل بناء اجتماعيا طرحته مشاكل التطور في المجتمع . فليست الاخلاق ـ طبقا لجدل الانسان ـ تزيّدا غير ذي قيمة ، بل هي تراث حضاري يكوّن الأساس الأول الذي يجب أن تستقيم عليه علاقات الناس في المجتمع حتى يكونوا قادرين على التفرغ لحل ما تطرحه ظروفهم من مشكلات أخرى .. فالأخلاق هي تجسيد للحلول التي توصلوا اليها على مدى تاريخهم لتلك المشكلات الدقيقة التي تطرحها علاقاتهم كبشر . ( عصمت سيف الدولة / أسس الاشتراكية العربية ) .
انه يبدأ بالتساؤل عن المنطق الذي يجعل قواعد الأخلاق على هذا النحو دون غيره ؟ وفي الإجابة على هذا التساؤل سنجد ان القواعد الأخلاقية تتحدد وفقا لما تقتضيه قوانين التطور .
فالاخلاق التي يجب اتباعها هي تلك التي تساهم في عملية التطور ، وقيم الصدق ، والايجابية ، والمساواة ، والجماعية في العمل ... الخ ، هي جميعا القواعد الأخلاقية للسلوك والتي تستمد قيمتها من مساهمتها في تحقيق فعالية الجدل الاجتماعي ، فهي جميعا قواعد للسلوك تضمن ان تكون المعرفة بالمشكلات الاجتماعية هي معرفة حقيقية وغير زائفة ، وتضمن ـ أيضا ـ أن يكون الاشتراك في معرفة المشكلات والحلول والعمل المشترك قاعدة عامة يلتزم بها جميع افراد المجتمع ، و ان تكون سلبية البعض في المساهمة هي القاعدة للتطور ... الخ . ان تكتسب هذه القواعد الأخلاقية مصدرها في مدى ما تكسبه لقوانين التطور من فعالية ، فهي لا تكتسب قيمتها في وجودها ذاته .
واذا كنا في نهاية هذا التحليل لافكار المفكر القومي الدكتور عصمت سيف الدولة ، فانه لا يسعنا الا ان نقرر ان تلك الاجتهادات ، تحتاج لمناقشات عميقة بين الشباب العربي أولا ، وهو الشباب الباحث عن اطار منهجي ونظري يساعده في حركته من اجل تغيير الواقع العربي ، فتعميق هذه الأطر النظرية والنهجية هي واجب الشباب العربي الذي عليه ان يعمقها بدراسات واسعة مستفيضة لاثر تلك البذور النقية ، وتاصيلها من خلال اجتهادات  فكرية في جميع المجالات النظرية و العملية ، فالممارسة هي محك صحة النظريات والأفكار ..