بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 23 فبراير 2015

القدس العدد 164 .

تحميل العدد 164 .
                                        

الوحدة العربية بين دعاتها وأعدائها .. (1) .
 
لم تكن الوحدة العربية بين مصر وسوريا في 22 شباط 1958 مجرّد لحظة تاريخية عابرة في تاريخ العرب ، أو ردّة فعل انفعالية على أحداث عارضة عاشتها الأمة .. ولا هي مجرّد صدفة مجهولة ساقتها الأقدار دون سابق اعلام .. بل هي في واقع الأمر وليدة واقع تاريخي عاشته الامة العربية على مدى قرون متعاقبة ، ولّد حاجة حقيقية الى الوحدة كأسلوب وحيد لمواجهة التحديات والاخطار التي كانت تداهم الأمة باستمرار ، مستهدفة كيانها ووجودها بأشكال متعدّدة ، ولم تنقطع الى حدود تلك اللحظة التاريخية الفاصلة منتصف القرن العشرين .. كما ولـّـدت التجارب والمعاناة العربية الطويلة  التي عاشتها الامة وهي تقاوم دفاعا عن وجودها ، مشاعر عميقة بوحدة الهدف والمصير المشترك .. وقد كانت تسير الى الوحدة على مر العصور كلما داهمتها الأخطار ، التي لم تستطع أن تردّها في كل مرّة الا حينما تكون قادرة على فرض الوحدة ولو جزئيا بين بعض اقطارها .. وهكذا كانت الوحدة العربية الأولى بين مصر وسوريا تعبيرا حقيقيا عن تلك الحالة التاريخية ، وردا على الأخطار المحدقة بمصر وسوريا في نفس الوقت .. 
غير ان تلك الوحدة التي أصبحت تعني في زمن النفط والثروات الطائلة ، سحب العديد من الامتيازات بالنسبة للعائلات الحاكمة في كل الأقطار الغـنية بعد أن صارت تستحوذ على الثروة والسلطة ، فكان لا بد لتلك القوى أن تكون من ألدّ أعدائها .. كما كان لا بد لها ان تستقوي بالأجنبي للحفاظ على امتيازاتها ، وهو ما يستوجب اقتسام الثورة مع من يحميها من ناحية ، ومواجهة كل من يدعو لتلك الفكرة من ناحية ثانية ...
وقد كان المستفيد من التجزئة المفروضة على الواقع العربي خلال النصف الأول من القرن العشرين ، أطراف متعدّدة أهمها الدول النفطية والاستعمار العالمي والدولة الصهيونية الناشئة .. وكان جمال عبد الناصر وجمهورية مصر العربية في طليعة القوى الداعية الى الوحدة ، التي كانت تمثل ـ في نظره ـ حصنا حصينا لمواجهة الأخطار ، وركيزة اساسية لبناء نهضة عربية شاملة في آن واحد .. وهكذا كان التنافس والصراع على أشده بين من يدعو لها ويعـمل على تحقيقها بكل الوسائل الشريفة الممكنة ، وبين من يعارضها ويعمل على إفشالها بكل ما لديه من وسائل غير شريفة .. فكانت الغلبة الى حد الآن لأعداء المشروع الوحدوي الذين لم يكتفوا بالوقوف عند حد الانفصال، بل استمر عملهم التخريبي داخل الأمة حتى أوصلوها الى ما هي عليه في الوقت الراهن من فرقة وصراعات طائفية وتفكّـك .. يحول دون إمكانية السعي لانجاز أي عمل وحدوي من جديد ...

( القدس ) .



* اجلس حيث يُؤْخَذُ بيدك وَتُبَرُّ ولا تجلس حيث يؤخذ برجلك وتُجَرُّ  .


* الإنسان مخير فيما يعلم ، مسيّر فيما لا يعلم ، فهو يزداد حرية كلما ازداد علماً ..



تقدوا
تقدموا
حرامكم محلل
حلالكم محرم
تقدموا بشهوة القتل التي تقتلكم
وصوّبوا بدقة لا ترحموا
وسدّدوا للرّحم
ان نطفة من دمنا تضطرم
تقدموا كيف اشتهيتم
واقتلوا
قاتلكم مبرّأ
قتيلنا متهم
ولم يزل رب الجنود قائما وساهرا
ولم يزل قاضي القضاة المجرم
 ( سميح القاسم )


الام لابنها المجنون : هيا ياولدي نعود الى المنزل ..
الابن : لا يا أمي ، الناس هناك يسخرون مني .. !!
الأم : لا عليك ، ربما تراهم يضحكون في اليوم الأول ، ولكن في اليوم الثاني سينقص اهتمامهم ، وفي اليوم الثالث سيتعوّدون وينتهي كل شئ ..
الابن : حسنا ، نعود في اليوم الثالث اذن .. !!


اليوم - 22 فبراير - تطل علينا الذكرى السابعة والخمسون لإعلان الوحدة وقيام الجمهورية العربية المتحدة.. تلك الوحدة التى لم تدم إلا لثلاثة أعوام ونصف العام ( من 22 فبراير 1958 وحتى 28 سبتمبر 1961) .. فما الذى بالضبط جرى ؟ كيف ولدت الفكرة .. ومتى ؟ ما الخطوات التنفيذية التى تم اتخاذها ؟ كيف كانت ردود الفعل، سواء بين الأطراف العربية المختلفة ، أو فى الغرب ، وفى الولايات المتحدة تحديدا ؟ ما تأثير الأزمة اللبنانية حينئذ على الوحدة ؟ وما حكاية الأزمة بين عبد الناصر وخروشوف ؟.. ثم ما تأثير الأزمات العربية والدولية على دولة الوحدة ؛ كأزمات الكونغو، وكوبا ، والقضية الفلسطينية ، وأزمة محاولة العراق ضم الكويت.. وأخيرا.. كيف تم الانفصال ؟ . تلك وغيرها.. أسئلة تجيب عنها الدكتورة هدى عبد الناصر أستاذة العلوم السياسية ، من خلال غوص فى الوثائق. وقد أرسلت الدكتورة هدى قراءتها لتجربة الوحدة إلى « الأهرام ».. وها نحن نقدم فى هذا الملف تلخيصا لتلك الرؤية التى تقع فى خمسة فصول ، والتى اعتمدت فيها الدكتورة هدى على خطب الزعيم جمال عبد الناصر فى هذه الفترة ، والخطابات المتبادلة بينه وبين زعماء العالم وقادته . وكذلك الرسائل التى تلقاها وأرسلها الرئيس، ومحاضر اجتماعات مجلس الوزراء المصرى .. وغيرها .. فهيّا إلى الملف :
   
السوريون طلبوها .. وناصر استجاب ..  

 فى الفصل الأول من أوراق الدكتورة هدى عبد الناصر، والذى حمل عنوان « قيام الوحدة وتداعياتها » ، تستعرض اجتماع مجلس الوزراء المصرى، الذى رأسه عبد الناصر يوم 19  أكتوبر 1961 ، أى بعد الانفصال بعشرين يوما ، وشرح ناصر فيه كيف كانت بشائر الوحدة .
قال ناصر إنه فوجىء - فى 14 يناير 1958 ( وكان آنذاك فى الأقصر برفقة رئيس أندونيسيا أحمد سوكارنو) بوصول طائرة سورية إلى مطار القاهرة وعلى متنها 20 ضابطا سوريا . وقد التقى الضباط بالمشير عبد الحكيم عامر، وأخطروه بأن سوريا فى خطر، وتقابلها كارثة، وهناك مخاوف من أن ينقض الشيوعيون على الحكم فى دمشق .. ورأوا أن الحل هو إتمام الوحدة مع مصر .
وفى اليوم التالى قابلهم ناصر. ورغم أنه أبلغهم بأنه لن يقبل إقامة وحدة بهذه السرعة لأن الوحدة يجب ألا تقوم على أساس عاطفى ، وأنها تحتاج إلى 5 سنوات ، إلا أنهم أصروا وقالوا له إن سوريا ستضيع ، فهل سوريا لا تهمّـك ؟.. وبعدها بعشرة أيام حضر الرئيس السورى شكرى القوتلى فى 26 يناير، وتم التوقيع على طلب الوحدة بين الرئيسين .. ثم أعلنت الوحدة رسميا فى مثل هذا اليوم قبل 57 سنة.  



ومن هذا العرض لكلام عبد الناصر .. يتضح لنا أن عبد الناصر كان يرى ضرورة التروى والتدرج لإتمام الوحدة .. إلا أن السوريين هم الذين دفعوه دفعا إليها . فلـنـقـرأ معا ما قاله عبد الناصر فى اجتماع مجلس الوزراء .. قال : « الجيش والحكومة يطلبان الوحدة ، ونحن فى مصر تزعمنا حركة القومية العربية ، ونطالب بالوحدة العربية ثم نرفضها حين تعرض علينا ؟ إن حجة هؤلاء فى طلب الوحدة أنها إذا لم تتم فسوف تضيع سوريا« .    وتأخذنا الدكتورة هدى عبد الناصر بعد ذلك إلى عنوان فرعى يقول : « بدأت الوحدة .. وظهر التآمر«..  فتقول إن الوحدة فرضت من الجيش السورى .. وقد بدأت العناصر الموجودة-  التى طلبت الوحدة-  كل منها يريد استخدام الوحدة لتحقيق هدفه ؛ الرأسماليون والبعثيون ورجال الجيش .. إلا أن الرئيس عبد الناصر رفض أن تكون الوحدة مطمعا أو مغنما لأى كان ؛ فمصر لها مبادىء تسير عليها. لقد انكشفت إذن العناصر المضادة للوحدة .. وهى:     
1/ الدول الغربية التى أقامت الاتحاد الهاشمى بين العراق والأردن فى فبراير58 للوقوف فى وجه الاتحاد المصرى السورى .  
 2/ العناصر السياسية فى سوريا كالرأسمالية والأقليات ؛ كالتركمان والأكراد وغيرهم .
3/ المعسكر الشرقى والشيوعية العربية .  
4/ الرجعـية العربية . 

ثم حاولت واشنطن استمالة ناصر ..! 

 أما بالنسبة للموقف الإسرائيلى ، فإنه كان من الطبيعى أن تعادى إسرائيل مشروع الوحدة بين مصر وسوريا . لقد كانت إسرائيل تعلم-  بكلام قادتها- أن وحدة العرب تستطيع أن تمكنهم من التصدى لها ؛ وقال بن جوريون إن الاتفاقية العسكرية بين مصر وسوريا ستجعل إسرائيل كالجوزة فى كسارة البندق!  . وهكذا افتعلت إسرائيل تهديدا للجمهورية العربية المتحدة ، بعد سنة واحدة من الوحدة ، وتعللت بنشاط الفدائيين على الحدود مع سوريا ، وقامت بحشد قواتها .. فأمر عبد الناصر بحشد القوات المصرية فى سيناء .. ومن ثم نجح فى إنهاء التهديد الإسرائيلى .. وأيضا أثارت إسرائيل مشكلة حول مرور سفنها فى قناة السويس، وافتعلت حادث السفينة الدانمركية «  إنجه توفت « ..  إلا أن هذه اللعبة الإسرائيلية لم تفلح أيضا . 

 ورفضتها الأردن أيضا ..! 

 وفى الأردن ، اعتبر الملك حسين أن الدولة الجديدة ( الجمهورية العربية المتحدة ) تشكل تهديدا خطيرا، ليس فقط على الأردن ولبنان ، وإنما على الشرق الأوسط كله. وعلى الفور بادر الملك حسين بطرح فكرة إقامة تنظيم من دول عربية أخرى؛ السعودية والعراق ولبنان والأردن . وبالفعل تم الإعلان - فى عمّان فى 14 فبراير 1958-  عن إنشاء الاتحاد العربى ، بين العراق والأردن .  وهنا قد يكون لافـتا التذكير بموقف الرئيس عبد الناصر من هذا الاتحاد ، حيث رحب به ، وأرسل برقية تهنئة إلى الملك فيصل .. وأكد ناصر أن أى اتحاد عربى سيكون قوة لكل العـرب 


ثم دخلت القوات الأمريكية إلى بيروت .. !

تأخذنا الدكتورة هدى عبد الناصر-  فى الفصل الثانى من قراءتها تداعيات إعلان الوحدة المصرية السورية -  إلى واحدة من أخطر الأزمات التى مرّت بالعرب فى هذا الوقت ؛ وهى الأزمة اللبنانية ، فتقول إن كميل شمعون رئيس الجمهورية اللبنانية حينئذ شعر بالقلق من تأثير تلك الوحدة على سكان لبنان المسلمين ، فطلب من الولايات المتحدة تحريك وحدات من الأسطول الأمريكى إلى شرق البحر المتوسط . ولم يكتف شمعون بذلك بل حاول أن يعاد انتخابه مدة رئاسية ثانية ، وهو الأمر الذى يخالف الدستور اللبنانى ، إلا أن واشنطن تحفظت على محاولات تعديل الدستور اللبنانى لتمكين شمعون من غرضه.   
 وبطبيعة الحال ، تحركت القوى الوطنية  فى لبنان لإفشال خطة شمعون..  واجتمعت المعارضة .. وطالبت بضرورة استقالته .. فطالب شمعون أمريكا بالتدخل العسكرى، فمضت فى خطة عسكرية سرية تهدف إلى التدخل مع الجيش البريطانى فى لبنان .. واتضح للجميع أن الحكومة الأمريكية هى التى توجه كل هذا التخطيط. وقد انتهى الأمر بتراجع كميل شمعون عن تعديل الدستور . غير أنه وقعت مفاجأة من العيار الثقيل للغرب وللعالم ، وهى قيام ثورة العراق فى 14 يوليو 1958 التى قتل فيها الملك العراقى فيصل الثانى، وولى عهده ، ونورى السعيد، وفاضل الجمالى، وكثير من المسئولين العراقيين فى ذلك الوقت .. فانقلبت الموازين فى الشرق الأوسط . لقد بدا منذ اللحظة الأولى أن هذه الثورة معادية للغرب ، وموالية لعبد الناصر فى توجهاتها .. ومن ثم كان على أمريكا أن تسارع بالتدخل  .
لقد قال أيزنهاور أمام قادة الكونجرس إن ما يحدث فى لبنان هو حرب أهلية يثيرها ناصر، وأن الولايات المتحدة لا تستطيع ضمان حرية لبنان إذا لم تتدخل .. وبالفعل وصلت القوات الأمريكية إلى بيروت فى 16 يوليو 1958  .. وقد تلقى الرئيس عبد الناصر أنباء الثورة العراقية والغزو الأمريكى لبيروت وهو على متن السفينة الحرية ومعه أسرته وهو عائد من بريونى بيوغوسلافيا ، فأصدر أوامره بإعلان التعـبئة العامة فى الجمهورية العربية المتحدة ، كما اعترف بالنظام الجديد فى بغداد.  وبعد 4 أيام من ثورة العراق ، أعلن ناصر فى خطاب ألقاه فى دمشق : « إننا نسالم من يسالمنا .. ونعادى من يعادينا .. وإن عادونا فإننا سنقاتل حتى آخر قطرة فى دمائنا .. هذا هو سبيلنا .. وهذا هو شعارنا«.    


ثم كانت الأزمة مع خروشوف ..!

وفى الفصل الثالث ، وفى 28 صفحة-  نقرأ مع الدكتورة هدى تفاصيل الأزمة بين عبد الناصر ورئيس الوزراء السوفيتى فى تلك الفترة خروشوف . تقول:  إن الأزمة بدأت عندما هاجم ناصر الحزب الشيوعى السورى، فى خطابه الجماهيرى ، فى عيد النصر ببور سعيد ، فى 23 ديسمبر 1958 ( أى بعد عشرة شهور من قيام الوحدة) ، وقال إن هذا الحزب يعمل ضد الوحدة والقومية العربية.  كان عبد الناصر يرى أن الشيوعيين فى سوريا يتبعون سياسة معادية للحكومة فى الجمهورية العربية المتحدة ، سواء فى الإقليم الشمالى ( مصر ) أو فى الجنوبى (سوريا ) ، وبدأوا يعملون بخطة موحدة ضد الوحدة . وكانت هناك اتصالات بين شيوعـيى سوريا ومصر والعراق والأردن . وقد اتخذ ناصر العديد من الإجراءات ضد الشيوعيين فى مصر وسوريا ؛ منها اعتقال العناصر النشيطة بمصر، وإخراج العناصر الشيوعية من النقابات ، واعتقال عناصرهم بالريف  
.
الأزمات الدولية .. عقبة فى طريق الوحدة  .. 

 تأخذنا الدكتورة هدى عبد الناصر، فى الفصل الرابع من رؤيتها  - الذى حمل عنوان دولة الوحدة والأزمات والقضايا العربية والدولية-  إلى عوامل أخرى خارجية ساعدت على إنهاء هذه التجربة الوحدوية الرائدة ؛ ومن بينها أزمات الكونغو، وكوبا ، والكويت ، وتداعيات تطورالقضية الفلسطينية..  فـتـقـول : إنه بشأن أزمة الكونغو، فإن عبد الناصر كان قد أعلن منذ اليوم الأول لثورة 23 يوليو ، أن مصر تؤيد حقوق إفريقيا وشعوبها من أجل الاستقلال . ومن هذا المنطلق أعلن ناصر تأييد الشعب المصرى لشعب الكونغو وحقه فى التخلص من الاستعمار، ومن ثم فقد أيدت مصر الرئيس الشرعى باتريس لومومبا فى مواجهة الرئيس مويس تشومبى المدعوم من الغرب . غير أن تشومبى قتل لومومبا بنفسه ، فانفجرت ثورة الشعـب هناك .. وكانت مصر مع الشعب ..
وفى هذا السياق تستعـرض الدكتورة هدى الرسائل المتبادلة بين ناصر والرئيس كـندي حول الأزمة . وبالنسبة لما جرى فى كوبا .. فقد أيّد الرئيس ناصر ثورة فيديل كاسترو فى مواجهة الإمبريالية الأمريكية..  والتقى ناصر كاسترو مرتين فى نيويورك ، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للمنظمة الدولية سنة  1960 ، وصرح كاسترو آنذاك بأن ناصر كان مصدر قوة روحية وأدبية لرجاله ، وبأنه استمد كثيرا من شجاعته من الطريقة التى صمدت بها مصر فى وجه العدوان الثلاثى ؛ البريطانى الفرنسى الإسرائيلى ، على مصر فى 1956 . وهنا تستعرض الدكتورة هدى خطاب الرئيس كندي الذيعاتب فيه عبد الناصر على موقفه من الأزمة الكوبية .. وأيضا رد ناصر على كـنـدى .. وطبعا ما كانت واشنطن لتنسى هذا الموقف لعبد الناصر ضدها فى كوبا ..!
وأما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية ، فمعلوم للجميع أن ثورة المصريين فى 23 يوليو تبنت قضية الشعب الفلسطينى، وهو الأمر الذى ما كان للغرب ، ولا للولايات المتحدة ، أن يسامحا عبد الناصر عليه .. ومن ثم كان التكـتل ضد مصر لإفشال التجربة الوحدوية بين مصر وسوريا . فإذا انتقلنا إلى أزمة محاولة العراق ضم الكويت فى عام 1961 فسنجد أن الجمهورية العربية المتحدة كانت ضد هذا الضم منذ البداية ، وأصدرت بيانا أكدت فيه أنها لا تقبل منطق الضم ، وأنها على استعداد لبذل كل جهدها لتأييد منطق الوحدة الشاملة .. والمهم أن موقف عبد الناصر من هذه القضية كان بمنزلة تنبيه جديد لقوى الغرب بأن ناصر لا يمكن السكوت على ما يمثله فى المنطقة العربية .. ودفعت الوحدة بين مصر وسوريا الثمن ..!

ثم كان الانفصال .. !

فى الفصل الخامس والختامى لدراسة الدكتورة هدى عبد الناصر عن تجربة الوحدة بين مصر وسوريا - الذى جاء بعنوان « مؤامرة الانفصال«  - تستعرض كيف انتهت تلك الوحدة ، وتفاصيل الانفصال .. وتعود بنا إلى فجر 28 سبتمبر 1961 عندما تمردت مجموعة من الضباط السوريين فى معسكر قطنة قرب دمشق . وقد انتقل ناصر إلى دار الإذاعة المصرية .. وتحدث للشعب فقال: «  ما هو موقفنا الآن ؟ إننا نريد تجنب سفك الدماء .. اليوم أشعر بالأسى، لأنى لا أتصور أن تسفك دماء العرب بيد العرب .. لكننى فى الوقت نفسه أقول ستبقى الجمهورية العربية المتحدة طليعة الكفاح العربى «  . إلا أن عبد الناصر -  بعد أن سيطرت قوات الانفصال على حلب واللاذقية -  راح يشرح للشعب أن الموقف كان يستدعى التفكير ؛ هل يسفك الدم العربى بيد العربى؟ هل يتقاتل العربى مع العربى ..؟ ولمصلحة من نسفك الدماء وهناك أعداء يتربصون ..؟ وفى خطاب آخر قال : « هناك من يقول وهل نحن طلبنا الوحدة .. ؟ هم الذين طلبوا الوحدة ، وهذا حقيقى، ولكننّا أمة عربية واحدة .. وهل نحن نادمون على كل ما فعلناه ؟ أبدا .. لم نندم لأننا استجبنا إلى ضميرنا ، إلى عروبتنا ، إلى روحنا .. ولكن أجد من واجبى فى هذه اللحظات أن أرفع صوتى محذرا ؛ إن هذه الجمهورية يجب أن تبقى دائما قلعة  للقومية العربية ، وسندا للحرية العربية .. إن الوحدة إرادة شعبية ، ولن أرضى من جانبى بأن أحوّل الوحدة إلى عملية عسكرية .. « .


في الصباح بدأت مرحلة جديدة من حرب الأعصاب. جاءني أحد الجاويشية يقول : ان سيارة مدرعة ، من سيارات العدو، واقفة على الطريق خارج مواقعنا، رافعة راية بيضاء وعليها ميكروفون يصرخ بأعلى صوته : «ضابط إسرائيلي يطلب مقابلة ضابط مصري «     .
وركبت سيارة جيب وطرت إلى هذا الموقع. وإذ السيارة واقفة حيث سمعت والراية البيضاء ترفرف فوقها، والميكروفون ما زال يصيح : « ضابط إسرائيلي يطلب مقابلة ضابط مصري «
.
وانطلقت بالجيب بأقصى سرعة على الطريق في المنطقة الحرام بيننا وبين العدو في اتجاه المدرعة التي ترفع العلم الأبيض وتطلب بأعلى صوتها ضابطاً مصرياً لكي يقابل ضابطاً إسرائيلياً  .
كان الجو غريباً مثيراً . وكانت مشاعري وأنا منطلق بسيارة الجيب على الطريق متباينة                .
ها هي إحدى مدرعات العدو أمامنا تطلب واحداً منا . وها أنا منطلق إليها لأقابل أحد الضباط الذين كنت أجاهد لقتلهم . وكان هو أيضاً من ناحيته يجاهد لقتلي  .
وكان موقفنا كما أعلم: حصار كامل، ونار لا تهدأ، ودبابات وطيارات ومنشورات أيضاً .
وكان الصمت على الطريق كاملاً إلا دوي محرك الجيب. وأوقفت سيارة الجيب في حذاء مدرعة العدو ملاصقة. وأطل راكبها من ضباط العدو علينا وفي عيونهم دهشة، ثم استجمع واحد منهم كبرياءه وشد رأسه في عنجهية مكشوفة وقال بالانكليزية: «  أنا المساعد الشخصي للقائد العام لهذا القطاع . وأنا مكلف بأن اشرح لكم موقفكم . انكم محاصرون من كل ناحية . ونحن نطلب إليكم التسليم «  .
وقلت له في هدوء ، فقد نزلت على أعصابي سكينة.

غريبة : « أما الموقف فنحن نعرفه جيداً ... ولكن الاستسلام لن يحدث«  .
ثم قلت من دون ان تختلج في صوتي نبرة : « نحن هنا ندافع عن شرف جيشنا «
.
وبدأ يتكلم بالعبرية وأحد مرافقيه يترجم ... ثم عاد يتكلم بالانكليزية. ثم تنازل عن كبريائه وبدأ يتكلم بالعربية وهو يشرح لنا الموقف حولنا .
وقلت له: انك تحاول عبثاً ، ونحن نرفض الاستسلام.
وحملق فيَّ وقال في استنكار: ألا ترجع إلى قائدك وتسأله  .
وقلت له : هذا موضوع ليس فيه مجال للسؤال.
 وحملق فيَّ ... وساد الصمت بعض الوقت وهو ينظر إلينا، ونحن ننظر إليهم ، وفجأة أحسست ان قناع الكبرياء المصنوع على وجهه كله يرتفع، وقال في صوت خافت مؤدب: لنا طلب إنساني عندكم . قلت : ما هو  .
قال: نريد ان نسحب قتلانا عندكم في المعركة السابقة ... أنت تعرف أن أهل القتلى يحبون الاحتفال بدفن أبنائهم فهل تمانعون  .
ونظرت، وصوته الخافت المؤدب يثير في أعماقي شعوراً غريباً بالراحة والرضى . نحن نوافق لكم على هذا الطلب الإنساني .
وحين عدنا إلى مواقعنا مرة أخرى عبر الطريق ، كانت سيارة الجيب الصغيرة التي كنا فيها نضج بالضحك والمرح . كنا نقارن بين بداية المقابلة ونهايتها . العنجهية والكبرياء عند طلب التسليم والأدب والحياء عند طلب جثث القتلى . 


الفكر السياسي الاسلامى المعاصر بين التفسير السياسي للدين والتفسير الديني للسياسة ( 2 ) .

د.صبري محمد خليل .


أولا : التفسير السياسي للدين:  التفسير السياسي للدين هو مذهب معين في تفسير طبيعة العلاقة بين الدين والسياسة، يقوم على تأكيد واثبات العلاقة  بينهما، ولكنه يتطرف في هذا التأكيد والإثبات ، إلى درجه تجعل العلاقة بينهما علاقة تطابق و خلط، وليست علاقة ارتباط ووحده ، وبالتالي يساوى بين الدين والسياسة في الدرجة، وقد يتطرف فيجعل السياسة اعلي درجه من الدين حين يجعل الغاية هي الدولةالسلطة، والوسيلة هي الدين ، ومرجع هذا التطرف في التأكيد والإثبات أن هذا المذهب إنما ظهر في المجتمعات المسلمة في العصور الحديثة والمعاصرة ، كرد فعل على الليبرالية ، والتي باستنادها إلى العلمانية  نفت وألغت اى علاقة للدين بالسياسة.

مصطلح الإسلام السياسي:  وقد استخدم البعض مصطلح الإسلام السياسي للتعبير عن هذا المذهب ، لكن – وكما أشار العديد من الباحثين – هناك الكثير من الاشكاليات المتعلقة بهذا المصطلح ، فهو يوحى بأنه ليس ثمة إسلام واحد ، وان هناك إسلام سياسي وأخر غير سياسي، فضلا عن  نسبه الأصل ( الإسلام ) إلى الفرع ( السياسة ) . لذا نفضل استخدام مصطلح التفسير السياسي للدين وليس مصطلح الإسلام السياسي، مع ملاحظه أن المصطلح الأخير يصدق في وصف احد الأخطاء التي وقع فيها التفسير السياسي للدين وهى نسبه الأصل ( الإسلام ) إلى الفرع ( السياسة ) وليس العكس  .

 التناقض مع مذهب أهل السنة:  ويستند هذا المذهب إلى افتراض مضمونه أن الامامه- السلطة- هي أصل من أصول الدين، وهو بهذا يتناقض مع مذهب أهل السنة ، القائم على أن الامامه فرع من فروع الدين، وليس من أصوله ( كما يرى المذهب الشيعي ) يقول الإيجي ( وهي عندنا من الفروع  ، وإنّما ذكرناها في علم الكلام تأسيّاً بمن قبلنا … ) (المواقف : ص 395) ، ويقول الإمام الغزالي ( اعلم أنّ النظر في الإمامة أيضاً ليس من المهمات ، وليس أيضاً من فنّ المعقولات ، بل من الفقهيات …) (الاقتصاد في الاعتقاد : ص 234)    يقول الآمدي ( واعلم أنّ الكلام في الإمامة ليس من أُصول الديانات ، ولا من الأُمور اللابدِّيَّات ، بحيث لا يسع المكلَّف الإعراض عنها والجهل بها … ) (غاية المرام في علم الكلام : ص 363) ، ويقول التفتازاني ( لا نزاع في أنّ مباحث الإمامة ، بعلم الفروع أَليق …) (شرح المقاصد : ج 2، ص 271 ) .


 التناقض مع مقاصد الشرع وضوابطه:  كما أن مذهب التفسير السياسي يلزم منه ، جمله من المفاهيم ، التي تتناقض مع مقاصد الشرع وضوابطه ، ومن هذه المفاهيم :
التفرق فى الدين:  يلزم من هذا المذهب اباحه الاختلاف ” التعدد “على مستوى أصول الدين، وهو ما يتناقض مع ما قررته النصوص ، من النهى عن الاختلاف ،على مستوى أصول الدين ،التى مصدرها النصوص اليقينية الورود القطعية الدلالة : يقول تعالى ( وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ~ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) ( آل عمران: الآية (104 ) .
احتكار الدين:  كما يلزم من هذا المذهب احتكار فئة التحدث باسم الدين،  وهو ما يخالف إقرار الإسلام  للتعدد والاختلاف على مستوى الفروع ، يقول ابن مفلح ( لا إنكار على من اجتهد فيما يسوغ منه خلاف في الفروع)[الآداب الشرعية 1/186 ] .
تكفير المخالف: كما يلزم من هذا المذهب تكفير المخالف في المذهب ،وهو ما يتعارض مع ورود الكثير من النصوص التي تفيد النهى عن تكفير المسلمين: قال تعالى ( ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمناً تبغون عرض الحياة الدنيا  ) .
الاستغلال السياسي للدين:  كما يلزم من هذا المذهب الاستغلال السياسي للدين، والذي يتمثل في جعل الغاية من النشاط السياسي هي الدولة – السلطة، والوسيلة هي الدين،” بدلا من جعل الدين هو الأصل والسياسة هي الفرع”، وهو شكل من أشكال الاتجار بالدين الذي ورد النهى عنه فى الكثير من النصوص كقوله  تعالى: ( ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)(المائدة:44 .(
ادعاء العصمة:  كما يلزم من هذا المذهب اعتبار ان هناك  أشخاص معصومين عن الخطأ،ولا عصمه لأحد بعد الأنبياء ، والقول بذلك يعنى المساواة بينهم وبين الأنبياء والرسل في الدرجة.
التعصب المذهبي :  كما يلزم من هذا المذهب التعصب المذهبي الذي ذمه علماء أهل السنة ، يقول ابن القيِّم ( وأما المتعصِّب الذي جعل قولَ متبوعه عيارًا على الكتاب والسُّنة وأقوالِ الصحابة ، يزِنُها به ، فما وافق قول متبوعه منها قبِلَه، وما خالفه ردَّه ، فهذا إلى الذمِّ والعقاب أقرب منه إلى الأجر والصَّواب ؛ وإن قال ـ وهو الواقع - : اتَّبعته وقلَّدته، ولا أدري أعلى صوابٍ هو أم لا ؟  فالعُهْدة على القائل ، وأنا حاكٍ لأقواله ، قيل له : فهل تتخلَّص بهذا من الله عند السُّؤال لك عمَّا حكمت به بين عباد الله، وأفتيتهم به ؟ فوالله إن للحُكَّام والمفتين لموقفًا للسؤال لا يتخلص فيه إلاَّ مَن عرف الحق، وحكم به، وأفتى به، وأما من عداهما فسيَعلم عند انكشاف الحال أنه لم يكن على شيء )(إعلام الموقِّعين” 2/ 232 ) .

ثانيا : التفسير الديني للسياسة(السياسة الشرعية ):  أما التفسير الديني للسياسة ( الذي عبر عنه العلماء بمصطلح السياسة الشرعية ) فيجعل الدين هو الأصل – والسياسة هي الفرع، اى أن يكون الدين ” ممثلا في مقاصده وضوابطه ” للسياسة بمثابة الكل للجزء، يحده فيكمله ولكن لا يلغيه ، و يقوم هذا التفسير على اعتبار أن الامامه فرع من فروع الدين وليس أصل من أصوله ، وهو بهذا يتسق مع مذهب أهل السنة في الامامه كما سبق ذكره .   
وطبقا لهذا التفسير فان النشاط السياسي ينبغى أن يلتزم بجمله من الضوابط التي تهدف إلى تحقيق اكبر قدر ممكن من الاتساق بينه وبين مقاصد الشرع وضوابطه ، ومن هذه المقاصد والضوابط :
السياسة الشرعية ما يحقق مصلحه الجماعة ولو لم يرد فيه نص :  من هذه الضوابط ما قرره علماء أهل السنة من أن السياسة الشرعية هي ما كل يحقق مصلحه الجماعة ولو لم يرد فيه نص ، يقول ابْنُ عَقِيلٍ(السِّيَاسَةُ مَا كَانَ فِعْلاً يَكُونُ مَعَهُ النَّاسُ أَقْرَبَ إلَى الصَّلَاحِ، وَأَبْعَدَ عَنْ الْفَسَادِ، وَإِنْ لَمْ يَضَعْهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا نَزَلَ بِهِ وَحْيٌ .) ، ويقول ابن القيم ( إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَرْسَلَ رُسُلَهُ ، وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ ، لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ، وَهُوَ الْعَدْلُ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْأَرْضُ وَالسَّمَوَاتُ فَإِذَا ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الْعَدْلِ وَأَسْفَرَ وَجْهُهُ بِأَيْ طَرِيقٍ كَانَ ، فَثَمَّ شَرْعُ اللهِ وَدِينُهُ…) (الأحكام السلطانية ، أبي يعلى الفراء ) .
لا كهنوت فى الإسلام:  والسلطة الدينية ( التي عبر عنها القران بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر)، في الفكر السياسي الاسلامى ، مخوله  بموجب الاستخلاف العام لجماعة المسلمين( كنتم خير أمه أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) ، أما اى جماعه من المسلمين فهي مكلفه بالأمر بالمعروف او النهى عن المنكر من باب التخصص، وليس الانفراد كما فى قوله تعالى(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر )(آل عمران : 104) ، فليس في الإسلام رجال دين ولكن به علماء دين . وهذا يعنى رفض التصور الاسلامى للكهنوتية التي تعنى إسناد السلطة الدينية (و السياسية) إلى فرد أو فئة ، ينفرد  أو

تنفرد بها دون الجماعة ( رجال الدين ) . يقول تعالى (واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) ، الأكثرون من المفسرين قالوا ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا أنهم آلهة العالم ،بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم .  

الفكر السياسي الاسلامى المعاصر بين التفسير السياسي للدين والتفسير الديني للسياسة: طبقا للتمييز السابق ، فإننا سنعرض فيما يلي ، تصور كل من التفسير السياسي للدين، والتفسير الديني للسياسة ، لبعض مفاهيم ومصطلحات وقضايا الفكر السياسي الاسلامى المعاصر.
 

بدأت الحركة الوطنية السياسية في تونس مع بداية القرن العشرين في أوساط الشباب التونسي المتعلم تعليماً عربياً إسلامياً، ففي 1907 بدأ المستعمر الفرنسي في ظل رابطة الحماية سياسة التجنيس في تونس ، فدفع باليهود المغاربة إلى المطالبة بالجنسية الفرنسية، وهي السياسة التي قاومها الزعيم التونسي علي باش حامبه وجماعة تونس الفتاة ، مما كان انطلاقاً للحركة الوطنية التونسية للمحافظة على الشخصية التونسية والحرص على الجنسية التونسية (10) .
وركّزت الحركة الوطنية التونسية في بدايتها على الوقوف ضد الإدارة الفرنسية المباشرة وضدّ تولي الموظفين الفرنسيين للمناصب القيادية الهامة . وتمثلت أهم القيادات الوطنية في هذه المرحلة في الشيخ محمد السنوسي ومن بعده في بشير صفر الذي اعتبر أبا النهضة الحديثة في تونس.
تعد تونس أكثر بلدان شمال إفريقيا تأثراً بالتيارات الفكرية في المشرق العربي ، لذا تأثرت الحركة الوطنية التونسية في نشأتها الأولى بين الشباب التونسي بالحركة الإصلاحية الدينية الإسلامية في المشرق والتي تزعمها جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده ، الذي زار تونس والتقى بأهل الفكر فيها ، وتلميذه رشيد رضا .
يضاف إلى التيارات المشرقية الفكرية، تأثر الحركة الوطنية التونسية بالمراكز الثقافية الإسلامية العريقة في تونس وأهمها جامعة الزيتونة والمدرسة الصادقية التي كان قد أسسها الوزير التونسي المصلح خير الدين باشا عام 1874 لتدريس العلوم الحديثة باللغة العربية حتى تحتفظ اللغة القومية بمكانتها في مواجهة الغزو اللغوي الفرنسي.
كذلك عمل هذا الوزير على إصلاح أحوال التعليم في جامع الزيتونة وأنشأ المكتبات العربية وشجع حركة الطباعة والنشر باللغة العربية في أنحاء تونس في أواخر القرن قبل الماضي (11) .
وتخرج في مدرسة الصادقية روّاد الحركة الوطنية التونسية وعلى رأسهم بشير صفر وعلي باش حاميه وعلي بوشوشة الذي أسّس جريدة الحاضرة ، ملتقى للوطنيين من مثقفي الزيتونة والصادقية ، الذين أقاموا حركة قومية دينية تستهدف تقوية روابط تونس بحركة الجامعة الإسلامية في المشرق العربي . ثمّ أسّس بشير صفر - الذي كان مشرفاً على الأوقاف - المدرسة الخلدونية (إحياءً لذكرى المؤرخ العربي الشهير ابن خلدون) عام 1896 ليواصل المهمة التي أنشئت من أجلها مدرسة الصادقية .
في هذه الفترة المبكرة من الحركة الوطنية التونسية كان الهدف الأكبر للزعماء التونسيين هوالحفاظ على الشخصية التونسية في اللغة والدين عن طريق ربط  تونس بأفكار الامتزاج ما بين العروبة ومبادئها والإسلام وقيمه
.
ثم تأسس حزب تونس الفتاة عام 1908 بقيادة علي باش حاميه بتأثير من حزب تركيا الفتاة والحزب الوطني المصري في عهد مصطفى كامل . وكان السبب المباشر لقيام حزب تونس الفتاة هو سياسة السلطات الفرنسية في تجنيس اليهود التونسيين.  ودعا الحزب إلى إحياء فكرة الدستور التونسي بناء على مشروع خير الدين الدستوري الصادر عام 1867. وبانضمام عبد العزيز الثعالبي إلى هذه الحركة عام 1909 وترجمته العربية لصحيفتها التونسي استمر طابع الحركة التونسية في هذه المرحلة يركز على الحفاظ على الشخصية التونسية العربية.
إلا أن الجدل العلني الفكري حول التعريب سرعان ما ظهر واحتدم بين أجنحة الحركة الوطنية التونسية . وشهدت تونس قبيل الحرب العالمية الأولى صراعاً فكرياً جماهيرياً شاركت فيه فئات واسعة من الطلاب ، للمفاضلة ما بين مشروعين متضادين حضارياً وثقافياً واقتصادياً وكانت قضية اللغة القومية العربية هي محور الصراع(12)
 .
ذلك أن مجموعة تونس الفتاة التي ضمت عناصر متخرجة من المدرسة الصادقية أو من المعاهد الفرنسية المستحدثة ، دافعت عن اللغة الفرنسية ، باعتبارها لغة الحضارة الحديثة ، ومن ثم ضرورة الاعتراف بها لغة أساسية ورسمية لنهضة البلاد التونسية .
كذلك اعتبرت هذه المجموعة النمط العصري الأوروبي للحياة هو هدفها الإصلاحي مع إقامة مجتمع رأسمالي ليبرالي والاعتراف بالحماية الفرنسية واعتبار مشاركة التونسيين في شؤون الدولة هو الهدف الأول لمطاليبهم السياسية. ودافع هذا الفريق وعلى رأسه علي باش حاميه عن وجود " المدرسة الفرنسية العربية " والقائمة على الازدواجية اللغوية حيث تكون اللغة الفرنسية هي لغة العلم والثقافة بينما تُدرس اللغة العربية لغة ثانية فحسب.
وأعلن علي باش حامبه شعار: "يجب أن يكون التثقيف باللغة الفرنسية وأن يكون التعليم باللغة العربية "(13) . ورأى أن لغة الاقتصاد والإدارة يجب أن تكون الفرنسية وأن هدف الإصلاح هو تحقيق "المشاركة السياسية" ونموذجها هو التنظيم الرأسمالي الغربي .
أما الفريق الثاني والذي دافع عن عروبة تونس فقد تألف من عدة عناصر وطنية منشقة عن حركة تونس الفتاة وتتمثل في خير الله بن مصطفى وبعض خريجي جامعة الزيتونة والمدرسة الخلدونية واعتبر هؤلاء أن اللغة العربية لا بدّ أن تكون اللغة الأساسية في جميع مراحل التعليم على أن تكون اللغة الفرنسية لغة أجنبية ثانوية في مدارس تونس.
ودعا هذا الفريق إلى التأكيد على الأصالة العربية الإسلامية للمجتمع التونسي في نطاق الارتباط ببلاد
المشرق العربي ورفض السيطرة الحضارية الأوروبية على تونس. وطالبت هذه المجموعة بمدرسة معرّبة تماماً.
وبادر خير الله بن مصطفى فعلاً إلى إنشاء هذه المدرسة الابتدائية المعرّبة تماماً واستورد لها الكتب الدراسية من مصر وسورية أساساً وقامت هذه المجموعة بأول إضراب سياسي في تونس عام 1911 وكان معقله هو جامع الزيتونة .
نخلص إلى أن التعريب كان أهم مطلب لهذه المجموعة في نطاق الحركة الوطنية المبكرة في تونس(14).
ثم تأسس عام 1919 الحزب الدستوري (القديم)، وهو أول حركة سياسية حزبية منظمة في عهد الحماية فطالب بسيادة اللغة العربية على جميع مؤسسات الدولة وإداراتها. كما جاء الحزب الدستوري (الجديد) ليؤكد ضرورة إحلال اللغة القومية للشعب التونسي محل اللغة الفرنسية. وقد كان التعريب من أبرز شعارات نقابة


التعليم التونسية ومطالبها قبل الاستقلال(15).
الهوامش :
( العقاد ، المغرب العربي، الجزائر، تونس، المغرب الأقصى ، ص318                      .
(11) د.نازلي معوض أحمد، مصدر سابق، ص76-78  .
(12) هشام بو قمرة، (تعقيب 2) في كتاب محمد الهادي الشريف، (مناقشات) في التعريب ودوره في تدعيم الوجود العربي والوحدة العربي، ص105     .
(13) هشام بوقمرة (تعقيب 3) المصدر السابق، ص176.
(14) هشام بوقمرة (تعقيب 2) المصدر السابق، ص106.
(15) عبد العزيز عاشوري، محاولة لتقويم تجربة التعريب في تونس ، التعريب ودوره في تدعيم الوجود العربي والوحدة العربية ، مركز دراسات الوحدة العربية، مجموعة مؤلفين، طبعة أولى أيار/ ماي 1982، ص250-251.

  



أكثر من مليوني لاجئ سوري : مأساة حقيقية ومعاناة في برد الشتاء .. من قسوة الحرب الى قسوة الطبيعة ..

 

اليوم تمر ذكرى يوم عظيم في تاريخ الأمة ، حين قامت قبل 57  عاماً دولة الوحدة بين مصر وسوريا ، وما أحوجنا اليوم للتذكر والدرس في وقت تتعرض فيه الأمة العربية لأشد المخاطر في تاريخها الحديث . ربما تكون هذه الوحدة الهائلة قد سقطت بعد سنوات ، ولكنها ستبقى في ذاكرة الأمة عنواناً لفترة من أعظم فترات النضال العربي من أجل التحرر من الاحتلال الذي كان ومازال رابضاً على معظم الأرض العربية ، ومن أجل التقدم والنهضة تحت راية عربية واحدة وجهد عربي مشترك ..  كانت المشاعر العربية قد اشتعلت بعد حرب السويس وكانت موجة التحرر التي اجتاحت المنطقة والعالم الثالث كله تستلهم كفاح شعب مصر ونضال شعب الجزائر وباقي الشعوب العربية تتصاعد يوماً بعد يوم .. 
 وكان المد القومي العربي يصل إلى مداه بعد أن أدرك عمق الروابط بين الدول العربية وحجم التآمر عليها والأطماع في ثرواتها ، وكانت أميركا تسعى لوراثة الاستعمار القديم ،وتريد الهيمنة على المنطقة لاستخدامها في حربها الباردة ضد الاتحاد السوفييتي  ..
وكان المخطط قريباً مما نراه اليوم ، حيث يراد تفتيت الوطن العربي وابقائه رهن النفوذ الخارجي .. وفي هذه الظروف كانت الوحدة بين مصر وسوريا وربما لم يكن التوقيت مناسباً بالنسبة لمصر، وقد حاول جمال عبد الناصر إعطاء فرصة للتمهيد قبل الوحدة أو اختيار نوع من الاتحاد الفيدرالي ، ولكن ، لقد كان الخطر على سوريا لا يحتمل ذلك
..
وكانت كلمة القادة السوريين الذين ذهبوا إلى القاهرة يومها : إنه إما الوحدة وإما ضياع سوريا . حيث كانت الجيوش التركية تقف على الحدود
وتهدد باجتياح سوريا وإسقاط الحكم فـيها ، وضم أجزاء أخرى من أراضيها غير ما سبق  الاستيلاء عليه  ..  !!     
ولم تكن تركيا تتصرف وحدها..  
بل كان وراءها قرار واشنطن ودول الغرب الحليفة لها ودعم الناتو والتحالف مع إيران والتوافق مع إسرائيل .. ومن هنا لم تكن الوحدة يومها تحقيقاً لحلم عربي فقط ، ولكنها كانت رداً على مؤامرة .. وقد كان المنطق نفسه الذي قاد إلى الوحدة يومها ، هو الذي قاد مصر بعد عامين لأن ترسل قوات رمزية إلى الكويت الشقيق ، عندما تعرض فور استقلاله لتهديد عبد الكريم قاسم بالغزو ..
لم تنتظر مصر قراراً دولياً ولا إذناً من واشنطن أو غيرها والعواصم الكبرى ولم تترك الوحدة مجالاً للعبث .. فهي عندها ـ قبل كل شيء ـ إرادة شعوب وليست مغامرات للحكام.
 والمنطق نفسه هو الذي حكم تصرف مصر في هذه الفترة المهمّة ، التي شهدت كفاح الأمة العربية وتحرّرها من المحيط إلى الخليج ، فوقفت مصر تدافع عن عروبتها وتساند كفاحها ضد احتلال كان لابد أن يرحل ..
وضد أطماع إقليمية ودولية كانت ومازالت تحاول قطع الطريق على وحدة العرب وتقدمهم .. وكانت ومازالت كارهة لعروبة الخليج ووحدة أبنائه.  وهذا المنطق نفسه هو الذي جعل الشعب العربي في كل أقطاره وليس في مصر وحدها يرفض هزيمة 67 ويدرك أن الأعداء يريدونها طريقاً لوضع الوطن العربي كله تحت نفوذهم . ومن هنا كان تحالف أكتوبر بين مصر وسوريا ودول الخليج ، وباقي الدول العربية من الجزائر والمغرب حتى العراق ، وكان استخدام سلاح النفط في مساندة الجهد الحربي ، والحديث يطول عما وقع بعد حربنا العربية في 1973، ولكن ما يهمنا في هذا المجال أننا شهدنا أربعين عاماً من تراجع الفكرة العربية الجامعة والجهد العربي المشترك
وفي المقابل نجاح القوى المعادية في تدمير دول عربية وفي إشاعة الفوضى في أنحاء الوطن العربي وتحويل جزء كبير منه إلى ساحة لجماعات الإرهاب المدعومة من قوى دولية وإقليمية أو من ذيولها العربية للأسف الشديد ..!!

                                         



" ....  إن القومية العربية هى الدّرع الذى يحمى الوطن العربى من مؤامرات الاستعمار. و هى السلاح الرئيسى الذى مكّـننا من هزيمة العدوان الثلاثى البريطانى - الفرنسى - الصهيونى على مصرفي سنة 56 . هذا العدوان الذى كان يهدف إلى القضاء على القومية العربية ، ولكنه قوّاها وأشعلها و مكّنها.
إن القومية العربية التى اشتعلت اليوم ، والتى آمن بها كل عربى حر، هى السلاح الذى سنحارب به دائماً العدوان ، وسنحارب به دائماً السيطرة الأجنبية ، وسنحارب به آمال الصهيونية فى التوسّع والسيطرة على العرب .