بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 24 نوفمبر 2018

عن مصر .. ومسألة العروبة / د.صبحي غندور .

عن مصر.. ومسألة العروبة . 
د.صبحي غندور .


احتفلت مصر منذ أيام قليلة بالذكرى 41 لحرب أكتوبر التي نجح فيها الجيش المصري بعبور قناة السويس وبخوض معارك بطولية مع جيش الأحتلال الإسرائيلي الذي كان يحتلّ شبه جزيرة سيناء وصولاً إلى قناة السويس. وهذا الأنتصار العسكري للقوات المسلحة المصرية قبل أربعة عقود ما كان له أن يحدث لولا إعادة البناء لهذه القوات بعد حرب العام 1967، والذي كان يتمّ باشراف كامل من الرئيس جمال عبد الناصر وفق ما وضعه آنذاك من استراتيجية لمواجهة نتائج العدوان الإسرائيلي، شملت، إضافة إلى الأستعدادات الداخلية المصرية، بناء تضامن عربي فعّال كان له الدور الكبير في حرب العام 1973.
وقد قيل وكتب الكثير عن هذه الحرب وعن جاهزية القوات المصرية لخوضها آنذاك في العام 1971، لكن بعد وفاة ناصر في العام 1970 وتولّي أنور السادات الرئاسة في مصر، جرى تأجيل قرار الحرب إلى أكتوبر 1973 حيث توفر التنسيق أيضاً مع الجبهة السورية التي خاضت كذلك حرباً شرسة في مرتفعات الجولان المحتلة.
تُرى ، لو حصلت حرب أكتوبر وجمال عبد الناصر مازال حياً، هل كانت المنطقة العربية عانت وتعاني مما حصل في العقود الأربعة الماضية من تحول الأنتصار العسكري عام 1973 إلى هزيمة سياسية لمصر وللعرب نتيجة توقيع المعاهدات مع إسرائيل، وما رافقها وتبعها من عزل مصر عن امتها العربية ومن صراعات وحروب أهلية بدأت في لبنان بالعام 1975 وتورطت فيها عسكرياً سوريا والمقاومة الفلسطينية وأطراف عربية أخرى، بحيث كانت “الجبهة الشرقية” تقاتل بعضها البعض بينما “الجبهة الغربية”، أي مصر، توقّع معاهدات “سلام” مع إسرائيل؟!. وهل كانت إسرائيل لتغزو لبنان وعاصمته بيروت لو لم توقّع مصر- السادات المعاهدة مع اسرائيل  ؟! فقد حدث هذا الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 دون ردود فعل عسكرية عربية باستثناء مشاركة القوات السورية المتواجدة حينها على الأراضي اللبنانية.
ولو كانت مصر بكل ثقلها حاضرة في قضايا الأمة العربية، كما كانت في عقدي الخمسينات والستينات، هل كان ممكناً أن يغزو صدام حسين الكويت وأن يحدث بعد ذلك الأنهيار الكبير في العلاقات العربية / العربية وأن تنتشر الأساطيل والقواعد العسكرية الأجنبية في معظم أرجاء المنطقة العربية ؟! وهل كان ممكناً أيضاً أن تحصل خطوات التطبيع والعلاقات مع إسرائيل واتفاقيات أوسلو ووادي عربة، لو لم تبدأ مصر هذا المسار ؟!.
هذه التساؤلات ليست هي من أجل الغوص في الأحلام أو مجرد افتراضات، بل هي تنبيه إلى أساس المشاكل في الواقع العربي الراهن ، ولتأكيد أهمية استعادة دور مصر عربياً وإقليمياً. فالعرب كلهم في سفينة واحدة مهما اختلفت درجاتهم وممتلكاتهم ووظائفهم على هذه السفينة، ومصر هي الربان بهذه السفينة، وبتعطيل دورها يحصل التيه وسط الرياح والأمواج العاتية ويدور الصراع على قيادة السفينة وتغيب أيضاً البوصلة السليمة التي لا تتوفر إلاّ بوجود قيادة سليمة لمصر نفسها، وهذا ما كان مفقوداً منذ توقيع المعاهدات مع إسرائيل.
أيضاً، خلال حقبة الأربعين سنة الماضية، تفاعلت قضايا عديدة في المنطقة العربية وفي العالم ، كانت بمعظمها تحمل نتائج سلبية على الهويّة العربية المشتركة، فتنقلها من كبوةٍ إلى كبوة، وقد امتزجت هذه السلبيّات مع انجذابٍ أو اندفاعٍ في الشارع العربي إلى ظاهرة “التيَّارات الدينية والطائفية” التي دعمتها عوامل كثيرة، داخلية وخارجية، والتي ساهمت بأن يبتعد المواطن العربي عن “هويّته العربية” وأن يلتجئ إلى أطرٍ سياسيةٍ وفكرية تحمل مشاريع ذات سمات دينية / طائفية أو مذهبية ، اعتقاداً أنها هي الاساس الصالح لمستقبلٍ أفضل.
لكن المشكلة أنّ هذه “البدائل” كانت وما تزال مصدر شرذمة وانقسام على المستويين الوطني والديني، خاصّةً أنّ معظم البلاد العربية قائمة على تعدّدية طائفية أو مذهبية أو إثنية، كما هو الحال في بلاد المشرق والمغرب معاً، أو تحديداً كالتي هي الآن محور الصراعات المتفجّرة في المنطقة كالعراق وسوريا ولبنان، حيث التحدّي الكبير مع مشاريع التمزيق والتقسيم والتدويل، وحيث المواجهة هي مع بعض هذه الحركات الدينية العنفية التي شوَّهت في ممارساتها الدين نفسه.
لذلك هناك حاجةٌ وضرورة عربية الآن لإطلاق ” تيّار عروبي” فاعل يقوم على مفاهيم فكرية واضحة، لا تجد تناقضاً بين الدولة المدنية وبين دور الدين عموماً في الحياة العربية، ولا تجد تناقضاً بين العروبة وبين تعدّدية الأوطان بل تعمل لتكاملها، وبأن تقوم هذه المفاهيم الفكرية على الديمقراطية في أساليب الحكم والمعارضة معاً.
” تيّار عروبي” منسق بين الطاقات والقوى الفاعلة وسطه، تيار يرفض استخدام العنف لإحداث التغيير في الحكومات والمجتمعات أو لتحقيق دعوته أو في علاقاته مع الآخرين، ويميِّز بين الحقّ المشروع لأبناء الأوطان المحتلَّة بالمقاومة ضدّ قوات الاحتلال، وبين باطل استخدام أسلوب العنف ضدّ غير المحتلين وخارج الأراضي المحتلة. “تيار عروبي” يدعو للبناء السليم للمؤسسات العربية المشتركة، وللمنظمات المدنية المبنية على أسلوب العمل الجماعي الخادم لهدف وجودها. “تيّار عروبي” تكون أولويته الآن هي حماية الوحدة الوطنية في كلّ بلدٍ عربي ويرفض كل الأفكار والممارسات الطائفية والمذهبية وأي انغماس في وحل الصراعات الأهلية.
لقد كان عقد الخمسينات من القرن الماضي بداية لأطلاق حركةٍ قومية عربية وسطية “لا شرقية ولا غربية”، ترفض الانتماء إلى أحد قطبيْ الصراع في العالم آنذاك، وترفض الواقع الإقليمي المجزّئ للعرب، كما ترفض الطروحات القومية الأوروبية العنصرية والفاشية، وتنطلق من أرض مصر التي هي موقع جغرافيّ وسط يربط إفريقيا العربية بآسيا العربية، وتعيش على ترابها أكبر كثافة سكّانية عربية تملك، قياساً بسائر الأقطار العربية الأخرى، كفاءاتٍ وقدراتٍ بشرية ضخمة.
ثمّ كانت حرب السويس عام 1956 وبعدها إعلان الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958، وقبل ذلك إعلان تأسيس حركة عدم الانحياز، كلّها مصادر إشعال لتيّارٍ جديد قاده جمال عبد الناصر من خلال موقع مصر وثقلها القيادي، وحقّق للمرّة الأولى صحوةً عربية تؤكّد الانتماء إلى أمَّةٍ عربيةٍ واحدة، وتدعو إلى التحرّر الوطني من كافّة أشكال الهيمنة الأجنبية، وإلى نهضةٍ عربيةٍ شاملة في الأطر كلّها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
لكن هذه الصحوة العربية كانت “حالةً شعبية” أكثر منها “حالة فكرية” أو “تنظيمية”. أيضاً، لم تكن هذه الصحوة العربية قائمةً على حسمٍ ووضوحٍ مبدئيّ للأسس الفكرية المطلوبة لخصوصية الأمة العربية. وكم كان محزناً رؤية العديد من القوى والحركات القومية وهي تتصارع حول أيّة “اشتراكية” وأيّة “قومية” وأيّة “حرّية” تتبنّى كمفاهيم فكرية، أو تنتمي إليها كحركات سياسية، وكذا صراع هذه القوى والحركات حول موقفها من الدين عموماً ومن الإسلام خصوصاً.. والكلّ معاً كان في “تيّارٍ قوميٍّ واحد”!!
ولأنّ القيادة الناصرية لمصر جاءت للحكم بواسطة انقلابٍ عسكريّ دعمه فيما بعد الشعب وحوَّله إلى ثورةٍ شعبية، فإنَّ “التيار القومي” ارتبط في ذهن البعض بأسلوب “الانقلاب العسكري” وبالمراهنة فقط على المؤسسات العسكرية لتصحيح أوضاع داخلية تحتاج أولاً لمعالجات سياسية وفكرية وإجتماعية أكثر منها أزمات أمنية.
ولأنّ سمة المرحلة كانت “معارك التحرّر الوطني من الاحتلال والاستعمار”، فإن هذه المعارك لم تسمح كثيراً ب”الحديث عن الديمقراطية”، لذلك كان من الطبيعي في البلدان العربية (كحال معظم بلدان العالم الثالث) التي أرادت التحرّر من “الغرب الرأسمالي المستعمر” أن لا تقبل الجمع بين التحرّر الوطني من الغرب وبين تبنّي صيغه الدستورية والاقتصادية والثقافية في أنظمتها.
تلك مرحلة قد انتهت في البلاد العربية وفي العالم كلّه، لها ما لها وعليها ما عليها، لكن ما زالت سلبيات تلك المرحلة “حالة قائمة” في المجتمعات والمفاهيم العربية، ولم تدرك جماعاتٌ كثيرة بعد أنَّ “القومية العربية” أو “العروبة” هي هويّة ثقافية وليست مضموناً فكرياً وسياسياً قائماً بذاته، وبأن بديل ما نرفضه الآن من انقسامات وطنية وطائفية ومذهبية هو التمسك بالهوية العربية التي تستوعب أيضاً تحت مظلتها كل الخصوصيات الإثنية الأخرى. فالهوية العربية مثلها كمثل “الهوية الأميركية” التي استوعبت مئات الملايين من أصول عرقية وإثنية ودينية مختلفة ونجحت في جعل كل الأميركيين يعتزون ويفخرون بهويتهم المشتركة. ولم يتحقق ذلك للأميركيين إلاّ بعد قيام اتحاد بين ولاياتهم الخمسين على أساس دستوري سليم ، رغم خوضهم لحرب أهلية دامية.
ألا يحق للعرب ، وهم يعيشون الآن كابوس حاضرهم ، أن يعملوا من أجل مستقبل عربي أفضل يكون عماده بناء “الولايات العربية المتحدة” القائمة على أوضاع دستورية مدنية سليمة ؟! ألم يقل تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني ، فوراً عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية التي دمرت فيها دول أوروبا بعضها البعض، بأنه يرى بعد نصف قرنٍ من الزمن أوروبا موحدةً ؟!.
استعادة الدور الإيجابي الطليعي لمصر في قضايا الأمة العربية، وتصحيح المفاهيم والممارسات الخاطئة باسم الدين والعروبة، والتمسك بالهوية العربية، هي ركائز لأي عمل عربي جاد يستهدف بناء مستقبل أفضل .

الأربعاء، 21 نوفمبر 2018

الانتماء القومي ليس رداءً نخلعه حين نشاء ..! / د.صبحي غندور .



الانتماء القومي ليس رداءً نخلعه حين نشاء ..!
د.صبحي غندور .

في السياق العام لتاريخ المنطقة العربية نجد أنّ "الخارج الأجنبي" يتعامل معها كوحدة متكاملة ومتجانسة ، في الوقت نفسه الذي يدفع فيه هذا "الخارج" أبناء الداخل العربي إلى التمزّق والتشرذم .
لكنّ سلبيّات الواقع العربي الراهن لا تتوقّف فقط على سوء الأوضاع العربية وعلى المخاطر الناجمة عن المطامع الأجنبية ، بل تنسحب أيضاً على كيفيّة رؤية أصحاب الأرض العربية لأنفسهم ولهويّتهم ولأوضاعهم السياسية والاجتماعية.
ففي هذا الزمن الرديء الذي تمرّ به المنطقة العربية ، تزداد مشاعر اليأس بين العديد من العرب وتصل ببعضهم إلى حدّ البراءة من إعلان انتمائهم العربي، وتحميل هُويتهم العربية مسؤولية تردّي أوضاعهم .
وهولاء مخطئون لأنهم لا يميّزون بين هُوية الانتماء وبين ظروف الواقع ، بين العروبة والحكومات ، بين الفكرة والممارسات . فهي مشكلة تعاملهم مع الانتماء القومي بمقدار ما ينظرون إليه آنيّاً وليس بمقدار ما هو قائم من عناصر توحّد في أمّتهم العربية.
إنّ الانتماء الوطني والقومي ، ليس ثياباً نلبسها ونخلعها حين نشاء ، بل هو جلد جسمنا الذي لا نستطيع تغييره مهما استخدمنا من بدائل مصطنعة. وسواء رضينا بذلك أم لم نرضَه، فتلك طبيعة قانون التطوّر الاجتماعي الإنساني الذي ينتقل بالناس من مراحل الأسر والعشائر والقبائل إلى مرحلة الأوطان والشعوب والأمم .
هذا من حيث المبدأ .. أمّا من حيث التفاصيل، فإنّ الحالة العربية السوداويّة الراهنة هي مسؤولية الخجولين بانتمائهم قبل غيرهم ، لأنّهم عرفوا أنّ هناك مشكلة في أوطانهم فرضت عليهم "الخجل" بالهويّة ، إلا أنّهم عوضاً عن حلّ المشكلة أو المساهمة بحلّها قدر الإمكان ، اختاروا التهرّب من الانتماء المشترك، فهم سلبيون أمام مشكلة تعنيهم ، فهربوا منها، إمّا إلى الأمام لانتماءات أممية (بأسماء تقدّمية أو دينية)، أو للخلف بالعودة إلى القبلية والطائفية والعشائرية ..
إنّ العروبة والانتماء لها فخرٌ لنا، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. فيكفينا فخراً أنّ أرضنا العربية كانت أرض كلّ الرسالات السماوية ، وأنّ الله عزَّ وجلَّ كرّمها بأنّ بعث رسله كلّهم منها وعليها، وكانت هذه الأرض الطيّبة منطقة ومنطلق الهداية الإلهيّة للناس أجمعين وفي كلّ مكان .
يكفينا فخراً أنّ القرآن الكريم هو خاتمة الرسالات السماوية ، أنزله الله تعالى عربيّاً على نبيٍّ عربيّ في أرضٍ عربيّة .
يكفينا فخراً أنّ ما تعيش عليه الحضارات الحديثة من علوم وفلسفة وطب وثقافة وهندسة ما كان ليحدث لولا المساهمات التي قام بها العرب في مراحل ازدهار الحضارة العربية وانتقالها إلى الغرب في قرونٍ سالفة .
يكفينا فخراً أنّ الأرض العربية هي أرض خيرات طبيعية وصلة وصل بين قارّات العالم وشعوبه
إلا أنّ هذا المجد والاعتزاز والافتخار بالتاريخ الحضاري وبالموقع الجغرافي ، لا قيمة له ما لم نجعله بالعمل المستمرّ وبالمسؤولية الواعية ، حاضراً نعيشه، وجسراً يصل بنا إلى مستقبل أفضل .
فإذا ما كانت المشكلة على الصعيد التحرّري أنّنا نزداد احتلالاً، فإنّ هذه المشكلة تعرّضت لها دول في العالم نعتبرها مثالاً الآن ، وهذه الأمم لم تنتهِ بمجرّد حدوث احتلال لأراضيها.
ففرنسا جرى احتلالها من قبل ألمانيا النازيّة ، وكذلك تعرّضت معظم دول أوروبا للاحتلال النازي، وكان هذا الاحتلال مشابهاً للحالة العربية الراهنة من حيث عدد وضخامة الدول الأوروبية التي تعرّضت للاحتلال من دولة نازية واحدة .
كذلك، فإنّه رغم الصراعات الدموية التاريخية بين شعوب أوروبا، نجدها الآن تقيم ما بينها أواصر الاتّحاد والتكامل من خلال صيغة بُنيت على وضع دستوري سليم في بلدان هذا الاتّحاد . فلماذا لا يأخذ العرب بالنموذج الأوروبي من حيث القدرة على تحويل سلبيات الصراعات التاريخية إلى حالة البناء الداخلي السليم والعلاقات التكاملية بين الأوطان والثقافات والمصالح المتعدّدة ؟!
إنّ الشعوب تنتقل خلال مراحل تطوّرها من الأسرة إلى العشيرة ثمّ إلى القبيلة ثمّ إلى الوطن أو  الأمّة الواحدة، فلِمَ نريد أن نعيد دورة الزمن إلى الوراء ؟ بل ماذا فعلنا حتى تبقى أوطاننا واحدة تتطوّر وتتقدّم وتتكامل بدلاً من دفعها للعودة إلى حروب القبائل والطوائف ؟!
ولأنّ الشعوب هي مجموعة أفراد ، ولأنّ الوطن هو مجموعة مواطنين ، فإنّ المستقبل العربي يتوقّف على مجهود كلّ فردٍ فيه ، ويتحمّل كلّ مواطن عربي في كلّ مكان مسؤولية وأمانة رسم آفاق هذا المستقبل، وتصحيح خلل المعادلة ما بين المقوّمات الإيجابية التاريخية والجغرافية للأمّة العربية وبين الواقع السلبي الراهن لمعظم أوطان الأمّة .
هناك حاجةٌ الآن لإعادة الاعتبار من جديد لمفهوم العروبة على المستوى العربي الشامل، فهذا حجر الزاوية في بناء المستقبل العربي الأفضل . لكن المدخل الصحيح لأي نهضة عربية هو في تحقيق أوضاع دستورية سليمة في البلاد العربية . عِلماً بأنّ المشكلة الآن ليست فقط في غياب الحياة الديمقراطية السليمة ، بل أيضاً في ضعف الهُويّة العربية المشتركة وطغيان التسميات الطائفية والمذهبية والإثنية على المجتمعات العربية . وفي هذا الأمر تكمن مخاطر الانفجار الداخلي في كلّ بلد عربي، وبذا تصبح العروبة لا مجرّد حلٍّ فقط لأزمة العلاقات بين البلدان العربية ، بل أيضاً سياجاً ثقافياً واجتماعياً لحماية الوحدات الوطنية في كلّ بلد عربي .
وحينما تضعف الهُويّة العربية فإنّ بدائلها ليست هُويّات وطنية موحّدة للشعوب ، بل انقسامات حادّة تفرّخ حروباً أهلية من شأنها أن تأكل الأخضر واليابس معاً.
إنّ العودة العربية للعروبة هي حاجةٌ قصوى الآن لحماية المجتمعات في الداخل، ولتحصينها من هيمنة الخارج ، ولبناء أسس سليمة لتعاونٍ عربيٍّ مشترك وفعّال في المستقبل .
إنّ العروبة المنشودة ليست دعوةً لتكرار التجارب السياسية والحزبية التي جرت بأسماء قومية في مراحل مختلفة من القرن العشرين ، بل هي عودةٌ إلى أصالة هذه الأمَّة ودورها الحضاري والثقافي الرافض للتعصّب وللعنصرية. ومن دون عروبةٍ جامعة لن تكون هناك أوطان عربية واحدة !!.
إنّ "الكلّ العربي" هو مكوَّن أصلاً من "أجزاء" مترابطة ومتكاملة . فالعروبة لا تلغي ، ولا تتناقض ، مع الانتماءات العائلية أو القبلية أو الوطنية أو الأصول الإثنية ، بل هي تحدّدها في إطار علاقة الجزء مع الكل .
إنّ القومية هي تعبير يرتبط بمسألة الهويّة لجماعات وأوطان وأمم ، وهي تحمل سمات ومضامين ثقافية تميّز جماعة أو أمّة عن أخرى، لكنّها (أي القومية) لا تعني نهجاً سياسياً أو نظاماً للحكم أو مضموناً عَقَديّاً / أيديولوجياً. لذلك من الخطأ مثلاً الحديث عن "فكر قومي" مقابل "فكر ديني"، بل يمكن القول "فكر علماني" مقابل "فكر ديني"، تماماً كالمقابلة بين "فكر محافظ" و"فكر ليبرالي"، و"فكر اشتراكي" مقابل "فكر رأسمالي".. وكلّها عناوين لمسائل ترتبط بنمط فكري وسياسي تصلح الدعوة إليه في أيِّ بلدٍ أو أمّة ، في حين يجب أن يختصّ تعبير "الفكر القومي" فقط بمسألة الهويّة كإطار أو كوعاء ثقافي. ولذلك أيضاً، يكون تعبير "العروبة" هو الأدقّ والأشمل حينما يتمّ الحديث عن القومية العربية حتّى لا تختلط مسألة الهويّة الثقافية المشتركة بين العرب مع قضايا المناهج والأيديولوجيات المتنوّعة داخل الفكر العربي ووسط المفكّرين العرب .
إنّ الشخص العربي هو الإنسان المنتمي للثقافة العربية أو لأصول ثقافية عربية . فالهويّة العربية لا ترتبط بعرق أو دين، ولا بموقف سياسي أو منظور أيديولوجي . والعروبة هي تعبير عن الانتماء إلى أمّة لها خصائص تختلف عن القوميات والأمم الأخرى حتّى في دائرة العالم الإسلامي . فالانتماء إلى العروبة يعني الانتماء إلى أمّة واحدة قد تعبّر مستقبلاً عن نفسها بشكل من أشكال التكامل أو الاتّحاد بين بلدانها .
إنّ "الهويّة الثقافية العربية"، كلغة وثقافة ، سبقت وجود الدعوة الإسلامية قبل 15 قرناً من الزمن، لكنّها كانت محصورة بالقبائل العربية في شبه الجزيرة العربية ، وبالأصول العرقية للقبائل، وبمواقع جغرافية محدّدة .. بينما العروبة ـ كهوية انتماء حضاري ثقافي - بدأت مع ظهور الإسلام ومع ارتباط اللغة العربية بالقرآن الكريم وبنشر الدعوة بواسطة روّاد عرب. فهكذا أصبحت "العروبة الحضارية" هي الثقافة العربية ذات المضمون الحضاري الذي أخرج الثقافة العربية من الدائرتين : العرقية والجغرافية إلى الأفق الحضاري الواسع الذي اشترك في صيانته ونشره مسيحيون عرب ومسلمون من غير العرب، وبالتالي خرجت الهويّة الثقافية العربية من دائرة العنصر القبلي أو الإثني، ومن محدودية البقعة الجغرافية (شبه الجزيرة العربية) إلى دائرة تتّسع في تعريفها ل"العربي"، لتشمل كل من يندمج في الثقافة العربية بغضّ النظر عن أصوله العرقية . ودخل في هذا التعريف معظم من هم عرب الآن ولم يأتوا من أصول عربية من حيث الدم أو العرق. ويؤكّد هذا الأمر تاريخ العرب القديم والحديث من حيث اعتبار الأقليات الدينية في المنطقة العربية نفسها كجزء من الحضارة الإسلامية ، ومن حيث تفاعل الأقليات الإثنية (الإسلامية والمسيحية) مع الثقافة العربية باعتبارها ثقافة حاضنة لتعدّدية الأديان والأعراق .
فعسى أن نشهد قريباً ولادة حراك عربي جادّ يحرص على الهويّة الثقافيّة العربيّة ومضمونها الحضاري، وينطلق من أرضيّة عربيّة ووطنيّة مشتركة تعتمد مفهوم المواطنة لا الانتماء الطّائفي أو المذهبي أو الأصول الإثنية ، وتستهدف الوصول - بأساليب ديمقراطيّة لا عنفيّة - إلى " اتّحاد عربي ديمقراطي" حرّ من التدخّل الأجنبي، وتتساوى فيه حقوق الأوطان وواجباتها كما تتساوى في كلٍّ منها حقوق كل المواطنين .

20  نوفمبر 2018 .