بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 28 مارس 2020

الفكر القومي وتشييع العولمة الى ذمة التاريخ في زمن الكورونا .


الفكر القومي وتشييع العولمة الى ذمة التاريخ في زمن الكورونا .
د.رضا لاغة .
وصلت العولمة الى قمّة مجدها إلى أن ظهر كوفيد -19 . تذكّرت ماقاله ووترز وهو يناقش كيف سيبدو العالم منصهرا في مجتمع واحد وثقافة عالمية واحدة واقتصاد عالمي متجانس واحد …عالم تتوارى فيه الدولة العائق ،الدولة ـ الأمة القومية. فإذا بكوفيد ـ 19 يأخذنا الى وجهة معاكسة تراجعت فيها العولمة لصالح قيود جغرافية الدولة القومية فتكثّف الوعي لدى المسافرون بكونهم عالقين على أعتاب دولتهم،فتغدو الأماكن عبر العالم منفصلة ومتباعدة . فحيكت علاقات وجهود دبلوماسية للإجلاء على صعيد قارّي وأصبح العالم فجأة رقع جغرافية متمايزة ترى الآخر بعين مغايرة إذ هو مصدرا للعدوى أو بؤرة موبوءة وبالتالي بالمنظور الجغرافي فضاء للإقصاء .
إن كوفيد ـ 19 أعطى الانطباع بأن العالم ارتدّ إلى حالته البدائية المستنسخة من عصائر الطبيعة الأم.لقد اختصرنا وهم الاعتراف بالغيرية في سياق مدركات جديدة : دولة موبوءة ،فهي إذن بؤرة خطرة وإنسان موبوء ، فهو إذن ناقل للعدوى ورمز للفناء والهلاك .
إن هذه الوضعية تجعلنا في مرتبة أنطولوجية صعبة التعريف.وهذا الذي يجري في العالم سيعيد بناء العالم جذريا . ولكننا لا ندري كيف يجب التنظير له ولا مدى تأثيراته وما سينتجه من بحث نظري وتجريبي سيكون مادة لعلوم بيولوجية واجتماعية ونفسية واقتصادية … مقالات مرموقة نُشرت وكلها تؤكد ان العالم ما بعد كوفيد ـ 19 ليس هو ذات العالم ما بعد كوفيد ـ 19 .
إن هذا القياس لا يعطينا الاحساس بالأهمية المتزايدة لما يحدث فحسب، وإنما والأهم من ذلك ، أهمية النقاشات العميقة داخل الحقل الإنساني بكل أبعاده الإيتيقية والأنطولوجية والسوسيولوجية ، لا سيما الحقل المنزلي كفضاء جغرافي محدد يُعاد تشكيله بتفاعلات جديدة داخل الأسرة .
إن هذا التدفق نحو الداخل ترك بتعبير كاستيل ثقبا أسود في جغرافية العولمة يقرع ناقوس تآكل الصلة وانضغاط المكان في مُسمّى ماكلوهن ” العالم كقرية عالمية .
إن النقاش الأكثر واقعية يقول أن الجغرافيا لها حياة جديدة، وموجة الابتكار التي تدّعي على وجه التخصيص بموت الجغرافيا ، تبرهن أنها شيء متأصّل . لقد عدنا أيها السادة الى جغرافية الاختلاف  .
إن وراء الاعتراف بهذه النتيجة البنيوية ،موضوع مركزي تُعيد فيه الدولة القومية أنتاج ذاتها. فهذا هو عصركم يا أبناء الفكر القومي لأن ما حدث ويحدث هو تضمين فضائي يتلخّص في أن ما وُسم في جبين العالق ليس سوى حنين الى الدولة الأم . إنها حقيقة لم تكن في الحسبان قبل نشوب هذا الوباء فيالق من ” الحرّاقة” الى الوطن المخيال ، الى أوروبا الأمل ، وفي زحام حساسيتنا لبلورة هذا المقياس الجديد ولد حنين العودة فولد مفهوم العالق استمرارا عجيبا لما طرحته حنا أرند لمفهوم اللاجئ . رأينا في خضمّ ذلك توقيعا عربيا رائعا يسترشد بتقديرات جغرافية كامنة ولنأخذ مثالا من اجلاء طلبة عرب من يوهان على طائرة مغربية طورا وأردنية وجزائرية طورا آخر . كان دليل الجغرافيا شفرة واحدة : إنه عربيّ .
من غير المرجّح ان يحدث هذا بأجندة دبلوماسية ضيقة ، لأنه يفصح عن خيارات تأكيد السؤال الأصلي : من نحن ؟
ولنتذكر أن عملية إعادة هيكلة العالم في ضوء مخلّفات هذا الفيروس كانت تتم تحت مظلّة : من أين أنت ؟
رأينا ذلك في جبهات المواجهة المكشوفة مع الوباء والتي قامت على تعبئة الشعور القومي بابعاده القيمية والسياسية والاقتصادية في يوهان الصينية . رأينا صورة المجتمع الانضباطي بمشهد خرافي وعجائبي يرقى الى اليوتوبيا الواقعية .
لقد كان الدرس الأول : نحتاج للعدوة الى جغرافيتنا لمواجهة هذا الوباء .
لقد دخلت الجغرافيا في علاقة القوة وأضحى المكان معترك للنزاع والتأمين لا باعتباره مجرد مسرح تجري عليه الأحداث وانما لأن الحدود القومية تشكّل جزءا من ترتيبات الخطة . إن الباب الخلفي المواجهة ، إن جاز التعبير ، يكمن في إيقاف التدفقات الوافدة لأن العلاقة الجغرافية تحدث بمنطق مختلف يقع التمييز فيه بين المنطقة الموبوءة والأخرى الآمنة .
تلك كانت لحظة الانعطاف والمنعرج بمعنى ريكور. ولقد ألمحنا من قبل تأثّر رئيس صربيا الذي أعلن أن كل ما بُني من تقارب أوروبي / أوروبي ليس سوى تقارب ورقي شكلاني وبروتوكولي . وقد استبصرنا من ذلك التصريح المؤثر نموذج جغرافيا ايديولوجيّة الصين الشعبية وهي تنخرط في عمل تضامني لامتصاص صدمة الدول في صربيا وايطاليا ودول افريقيا  
إنه لأمر يُلفت الانتباه أن نشاهد تقلّب الجيوبوليتيكا ما بين أفول وازدهار . وحتى في وعينا العربي الذي كان يستيعد الجيوبوليتيكا كخطاب أكاديمي وضعه الاقليميون في دهاليز السياسة ، أضحى ميراثا مرموقا لجغرافيا سياسية حان وقت انبعاثها. وهي تتخذ في نظرنا ثلاث صيغ أساسية :
أولا  صيغة مختصرة حول ادارة التنافس الكوني في ظل ظروف جديدة تشهد تدهورا في قوة الولايات المتحدة الامريكية واوروبا مقابل صعود الصين كقوة أولى في العالم .
ثانيا : إعادة النظام الرأسمالي بمنظور جيوبوليتيكي موجّه نحو الاقتصاد التضامني . وبالتالي دمج الاقتصاد السياسي في الجيوبوليتيكا . وهو اتجاه بحثي لا يقتصر على المعنى المتغير للعامل الجغرافي وانما نتوقع أنه سيتساءل عن الصيغة التي سيتخذها الوجود العربي في هذا العالم المرتقب .
ثالثا : ان السؤال المهم بالنسبة لنا كعرب لا يستند الى ذات الحجج الكلاسيكية للدولة الإقليمية حول وجاهة التنسيق العربي / عربي وإنما وفق توصيفات سياسة واقعية لعلاقة بينية تفرض .

الخميس، 12 مارس 2020

الكورونا .. في ميزان قوانين التطور ..


الكورونا .. في ميزان قوانين التطور ..

تهجم الكرونا على المجتمع الانساني ، فيحدث شلل عام وتام في جميع مرافق الحياة ، تعليم ثقافة ملتقيات علمية وندوات ، سفرات بين الدول وبين المدن والقرى ، ويهجر الناس الأماكن والفضاءات العامة التربوية والرياضية والصحية والتجارية وغيرها .. فتسقط من الحسابات كل الاحتياجات المكملة للحياة الانسانية ، ويتدخل الأطباء والمختصون في الامراض الجرثومية بالنصائح الوقائية والحلول التي تبدأ بحرمان الناس من أبسط  أدوات التواصل المعبرة عن المشاعر الانسانية كالمصافحة وتبادل القبلات ، حتى تصل الى فرض أنماط  جديدة  من السلوكات الغير عادية في التعامل اليومي داخل المجتمع .. وقد تتدخل الدولة بالقوانبن الزجرية لالزام الناس بقواعد الصحة الوقائية الغير معهودة لتدخل ارباكا عاما في سير الحياة العادية داخل المجتمع ، كالمنع من السفر ، والحجر في المنازل والمستشفيات ، وفرض العزلة بين المدن والقرى ، وغلق المعاهد والفضاءات العامة الرياضية والترفيهية ، والغاء الملتقيات والندوات .. ليصبح الهدف الانساني الوحيد في مثل هذه الوضعية هو الحفاظ على الوجود كشرط أساسي لتحقيق كل الاستحقاقات الأخرى والاحتياجات المكملة للحياة بكل أبعادها .. وفي هذا السياق لا يسعنا الا ان نقول  رحم الله الدكتور عصمت سيف الدولة صاحب نظرية جدل الانسان .. والمبدع لتلك المقولة الرائجة " الوجود شرط التطور " ، وهي مقولة ذات خلفية فلسفية وعلمية عميقة تعتبر ان التطور ظاهرة انسانية صرفة خاصة بالمجتمعات الانسانية وحدها .. فحينما يكون وجود الانسان مهددا تصبح الأولوية في التفكير والنشاط الانساني عموما منحصرة في البحث عن سبل البقاء والحفاظ على سلامة المجتمع أولا وقبل كل شيء ، كما يصبح الحديث عن تلبية الحاجيات الخاصة بالمجالات العلمية والثقافية والحريات وغيرها حديثا عبثيا لا معنى له في مثل هذه الحالات  كالاوبئة ، والحروب ، والارهاب ، والمجاعة ، والكوارث الطبيعية وغيرها ..
وفكرة جدل الانسان عند الدكتور عصمت سيف الدولة بسيطة للغاية لكن قوتها تكمن في امكانية اختبارها كل لحظة من طرف أي انسان ، وهي مؤسسة على منهجية نقدية للمناهج السابقة : المثالية والمادية ، مقترنة بتاملات فكرية واسعة لعصارة الفكر الانساني وتجاربه ، الى جانب دراساته المعمقة لتاريخ الاديان وجوهرها ، ومنها اساسا رسالة الاسلام وتاريخه الطويل ودوره الهام في تكوين الامة العربية خاصة ، وأثره على الشخصية الحضارية لسائر الامم المسلمة عامة .. وهي الدراسات التي اسهمت في دعم اطروحاته وبلورتها على نطاق واسع تتجاوز اهتماماته الخاصة بالواقع العربي .. وعلى هذا الاساس لا يمكن فهم تلك الاطروحات والاجتهادات فهما صحيحا دون النظر الى منهجه الذي  يضبط  كل أفكاره واجتهاداته ..
- يقوم منهج جدل الانسان على مسلـّمة بسيطة : تتمثل في كون الانسان وحدة من المادة والفكر (الذكاء)  لا ينفصلان ، فهو على هذا الاساس ، الكائن الوحيد القادر على استرجاع الماضي (الظروف)  من اجل  تغييرها  في المستقبل ...
- والظروف المعبرة عن واقع الانسان الذي يشهد أحداثا متسارعة ، تفلت تماما  من امكانية الالغاء بمجرّد وقوعها ، فلا يستطيع كائنا من كان ان يلغي ما حدث .
- والماضي كتعبير سلبي عن  واقع  الانسان  يمتدّ  تلقائيا في المستقبل ، فيتحوّل الى مشكلة ، لا تلبث ان تصبح عائقا امام تطوّره .
 - وان  أي مشكلة  يعيشها الانسان  لا يمكن حلـّـها الا بتدخـّـل واع منه ، فهو القادر وحده دون الكائنات جميعا  على تصوّر الحلول   .  
-  ثم ان  تصوّر الحلول دون تنفيذها لا يحلّ المشكلة  مطلقا .
- فلا بدّ اذن  من العمل بعد تشخيص المشكلة وايجاد الحلول الصحيحة .
- ان هذا التصوّر لترتيب حركات الجدل : المشكلة ـ الحل ـ العمل ـ يتـّـفق تماما مع مضمون الآية الكريمة التي تؤكـّد على دور الانسان في تغيير الظروف . قال  تعالى :  " إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ". وهم طبعا لا يستطيعون تغيير ما  بأنفسهم  الا اذا فهموا واقعهم  وفكروا  في الحلول والادوات المناسبة لتغييره  ثم  نفذوها  بالعمل اللازم  للتغيير ..
ـ بهذا المضمون الايجابي الذي يوكل امكانية التغيير للانسان وحده يصح الاقرار بأولوية الانسان التي يمكن اختصارها في مقولة بسيطة : " الانسان أولا .. " ..
- الاّ ان حل أي مشكلة  وفي أي مجال من مجالات الحياة لا ينهي معاناة الانسان ، لان الحاجة الانسانية  متجدّدة ابدا  ولا تتوقف ..
- لذلك  كان هدفه  دائما  الحرّية ،  ثم المزيد من الحرية .. من خلال بحثه المتواصل عن الحلول التي تخلصه من القيود ..
ـ وبمثل هذا المضمون المتجدد في نشاط الانسان سعيا الى الحرية يصح القول تأكيدا على هذه الناحية : " الحرية أولا  وأخيرا .. " ،  ويصبح التطور حاملا لمضامين تحررية بشكل دائم ..
- كما ان الانسان لا يتطور الا بقدر ما ينجح في حل مشاكله ، لا اكثر ولا اقل ..
- ويمثل الصراع بين واقعه الذي يعيشه ، ومستقبله الذي يريده ، الجدل الدائم الناتج عن هذا التناقض داخله  ،  ويكون الانسان  تبعا لذلك ، الكائن الجدلي الوحيد الذي يتطور من خلال حل مشكلاته المتجددة  والمتزايدة  أبدا .
- ولهذا يكون التطوّر بشكل خاص ظاهرة انسانية بحتة .. تخص الانسان وحده ، وهو يحصل كثمرة لحل ذلك التناقض ، لا يلبث ان يُحدث عنده تغيّرات هامة كمية وكيفية لازمة وملازمة لتطوره .
ففي حين يكون الانسان قادرا وحده على تغيير واقعه وتلبية حاجياته المتجددة على الدوام من خلال قانون الجدل ، تظل الظواهر الطبيعية والمادية عموما ، تتغير وتتحول طبقا لقوانينها النوعية متأثرة بالقوانين الكلية الخالية جميعا من أي تناقض (وهي معروفة في تراث الفكر الاسلامي بالنواميس)  لينفرد الانسان وحده بالمقدرة على التطور من خلال حركات الجدل الثلاث وايقاعها المتكرر ..
ـ من هذا المنطلق المتصل بمضمون الجدل تتحول حركات الجدل الى حقوق مقدسة متصلة بتطور المجتمع ذاته ، فيصح من خلالها ادانة أي تعطيل يمس بايقاعها الذي يجب أن يظل متحررا من أي تعويق حتى يصل التطور الانساني الى أقصاه داخل المجتمع ..
ـ لذلك أيضا يُعتبر الزيف والكذب والنفاق ، من المظاهر المضللة التي تحجب الحقائق عن الناس ، وتغيّب وعيهم بمشاكلهم الحقيقية فلا يهتدون الى حلها حلولا صحيحة ، ويتحول كل ذلك الى معيقات حقيقية أمام تطور المجتمع وتقدمه .. وقد تأتي على هذه الخلفية الحكمة ذاتها من تجريم القرأن الكريم للنفاق حينما صرح بشكل قاطع بجعل المنافقين في الدرك الاسفل من النار ..
- وفي مستوى متقدم ، وبما ان الانسان لا يعيش منفردا اينما كان  ، فان التطوّر لا يكون بمعزل عن المجتمع ..   
ولا تُحلّ المشاكل حلولا صحيحة الا في اطارها الاجتماعي ، أي بالنظر الى مصلحة المجتمع .
ـ اذ ان بعض الحلول الفردية قد تكون على حساب بعض الناس فتخلق ـ ان آجلا او عاجلا ـ  مشكلات جديدة  ، لا تلبث بعد ذلك ان تعيق تطوّرهم فتصبح مشكلات  اجتماعية بعد ان كانت حلولا لمشاكل فردية .. لذلك فان الجدل الفردي حينما يمتد على أبعاد المجتمع يصبح جدلا اجتماعيا وقانونا نوعيا لتطوره ككل ، وهو ما يعبّر عنه بالديمقراطية ..
ـ بهذه الخلفية تكسب الديمقراطية مضمونا وقيمة اجتماعية تجعلها شرطا أساسيا للتقدم  ، وتتحول بها الى اسلوب للتطور داخل المجتمع ..
ـ أما الصراع الاجتماعي فهو ظاهرة عارضة غير لازمة لتطور المجتمع ، وهي تطفو على السطح بوسائل واساليب مختلفة كلما تعرض المجتمع لتعطيل قانون تطوره : الجدل الاجتماعي  ...
ـ هذا طبعا يعيدنا الى منطلق الحديث ، لاننا اذا فهمنا التطور كظاهر خاصة بالمجتمعات الانسانية ، عندها نفهم قيمة الوجود السابقة على التطور ، ثم عندما نفهم قيمة الوجود في بعده الاجتماعي نفهم أولوية المصلحة الاجتماعية على المصلحة الفردية ، وهو المبرر الوحيد لقبول القوانين الزجرية في حق الافراد .. أو الذي تصبح  بموجبه التضحية بالنفس حلاّ من الحلول المطروحة للمحافظة على الوجود ذاته ..!!

(القدس)