بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 10 ديسمبر 2023

مواصلة الاشتباك مع العدو .


مواصلة الاشتباك مع العدو . 

قلنا في حديث سابق : " أمامنا ـ إذن ـ مرحلة زمانية ، لا نظنها طويلة ، تفصل بين الواقع الراهن والحرب الفعلية " . وتساءلنا : فما هي المهمات الملحة التي تطرحها علينا هذه المرحلة القصيرة ؟.. هناك ، في ذلك الحديث السابق ، ذكرنا المهمات التي تنتظر الدول العربية (النظم الرسمية) . وبدأنا الحديث عن المهمات التي تنتظر الشعب العربي وقواه الجماهيرية المقاتلة ( فصائل المقاومة) . وقلنا: ان أمام هؤلاء مهمات ثلاث ملحة . أولاها : تحديد الأهداف الإستراتيجية تحديدا صريحا قاطعا . ثم اجتهدنا في ان نسهم في تحديد ما ندعو الى تحديده . وختمنا حديثنا الذي سبق بقولنا : " اما المهمة الثانية فهي مواصلة الاشتباك مع العدو بصرف النظر عن مواقف الجيوش النظامية وسيكون هذا موضوع الحديث المقبل ".

وهذا هو الحديث الذي كان مقبلا .

مواصلة الاشتباك مع العدو :

ان كان موضوع الاشتباك مع العدو قد جاء في سياق تحديد المهمات المرحلية التي تواجه النضال العربي فليس مرجع هذا الى انه مهمة مرحلية. أبدا. مرجعه إلى ا نه العنصر المشترك ” الثابت ” في كل مراحل النضال العربي الى ان تتحرر فلسطين . كان لازما منذ البدا ية وهو لازم الان، وسيبقى لازما حتى النهاية . حتى النصر انما نتحدث عنه كواحد من المهمات الملحة في المرحلة القادمة لنعيد التركيز عليه كعنصر أساسي وجوهري من عناصر النضال العربي . ثم لندفع عنه المخاطر التي تنطوي عليها دعوات السلام والحلول الدبلوماسية. فالاصل ان تكون دعوة السلام مشروطة باسترداد الحق المغتصب. ودعوة كهذه لا تتنافى مع مواصلة الإشتباك مع العدو ولكن عندما تتحول دعوة السلام الى بديل عن استرداد الحق المغتصب فهى تتضمن الكف عن الاشتباك مع العدو واتاحة الفرص للمساومة على الحق ذاته . كذلك الاصل في النشاط الدبلوماسي أن يكون مساندآ، وتابعا، لاساليب الصراع العنيفة. وهو على هذا الوجه لازم لزوم البندقية ذاتها حتى لو وصل الى حد الجلوس في المؤتمرات فمن قبل استطاعت الثورة الفيتنامية المسلحة ان تكسب على كل مستوى دبلوماسي وان تجلس في مؤتمر في باريس اشهرا طويلة، ولكنها في كل حركة، وفي كل كلمة، وفي كل اجتماع ، كانت تساند القتال المسلح وتستند اليه، وتضع الدبلوماسية في خدمة محركة التحرير . اما عندما تصبح الدبلوماسية مطروحة كبديل – ولو وقتي – عن القتال فان عنصر ” مواصلة الاشتباك مع العدو ” يتعرض الى مخاطر جسيمة ليس اخطر هذه المخاطر التبرع للعدو بهدنة يلتقط فيها انفاسه ويعبىء فيها قواه بل اخطرها القذف بالمقاتلين انفسهم الى مياه البطالة الاسنة وتعريضهم لمرض الملل والركود الذي يسحق قواهم المعنوية ثم تجهيز الشعب نفسه إقتصاديا واجتماعيا ونفسيا للاستسلام عن طريق استمراء حياة السلم والحقوق ما تزال مغتصبة … 
كيف يمكن حل كل تلك المشكلات المعقدة ؟ .. السلام عن طريق الحرب . التمكن من الاعداد للحرب بدون إعطاء فرصة للعدو للاعداد لها . الاستمرار في الدبلوماسية على الا تؤدي الى الاستسلام؟ يتم كل هذا بمواصلة الاشتباك مع العدو . 
ان هذه قواعد عامة ، مصدرها خبرة المنتصرين في معارك التحرر . ثم تعطينا معركة تحرير فلسطين مبررا جديدا، واصيلا يكاد يمزج بين الحق نفسه وبين مواصلة الاشتباك مع العدو، ويجعل فض الاشتباك مع العدو يكاد يمتزج بالتفريط في الحق . 
اذن ما الذي تريده الصهيونية ؟ 
اعني ما هو الهدف الاساسي الذي من اجله تكونت الحركة الصهيونية؟ انه كلام معاد ومع ذلك فلا بأس في أن نعيده لأن الاجابة الصحيحة على هذا السؤال يجب أن تظل حاضرة دائماً في وعي الشعب العربي وقواه الجماهيرية المقاتلة ، حتى لا تتوه تلك الجماهير في متاهات التكتيكات المرحلية عن هدفها الأصيل . إذ أنه وراء كل المواقف المرحلية والتكتيكية والمناورات السياسية والتنظيمات الفدائية يبقى الهدف الأساسي لمعركة التحرير العربي هو هزيمة الصهيونية في هدفها الاساسي أيضاً . 
لم يكن هدف الصهيونية الاساسي تجميع اليهود وتدريبهم وتسليحهم ونقلهم إلى الأرض العربية . هذه خطوة على طريق الهدف الأساسي . وليس هدف الحركة الصهيونية الاساسي هو إقامة دولة على الأرض العربية تحمل إسم إسرائيل وتحيي أحلامهم الميتافيزيقية . هذه خطوة إلى الهدف الأساسي . وليس هدف الحركة الصهيونية تحطيم الجيوش العربية وهزيمتها لمجرد أن تثبت اسطورة التفوق لشعب الله المختار . هذه ايضاً خطوة على طريق الهدف الأساسي. 
 يتبقى الهدف الأساسي وراء كل هذا هو ان ” يعيش الصهاينة على الارض العربية حياة آمنة ومستقرة تسمح لهم بأن يتفاعلوا مع الارض وان يحققوا الرخاء والمتعة للذين جمعوهم من أطراف الأرض . والافكار الصهيونية التي تطرح حركتها كحركة قومية ، وتطرح اليهود كأمة، تعلم علم اليقين بأن الوجود القومي لأي شعب لا يتم بمجرد تواجده على قطعة جغرافية بل يتم بتفاعله الحر مع تلك الارض وبناء حضارة قومية خاصة عليها. 
من أجل هذا، تقاتل الصهيونية بكل ما تملك من قوة دولتها، لتنتزع من العرب اعترافا ، بوجود اسرا ئيل على الأرض العربية. وهو اعتراف لا يغني عنه اعتراف الدول الاخرى ، لأن الاعتراف في حد ذاته ليس الهدف الاساسي . انما الهدف الاساسي الامن والا ستقرار للحياة في الارض المحتلة، وهذا لا يوفره لإسرائيل الا اعتراف عربي . لهذا أيضا تربط اسرائيل ربطا حتمياً بين الاعتراف والحدود الآمنة. وتستغني عن انهاء الحرب باقامة العلاقات الدبلوماسية أو الاقتصادية أو الثقافية، أي باتاحة فرصة الحياة الآمنة عمليا حتى لو بقيت الحرب معلنة شكليا . 
الاستقرار على الارض والامن فيها ، هذا هو ما تريده الصهيونية. ولا تأتي كل الوان الصراع وأساليبه الا كخطوات على الطريق الى هذه الغاية الحياتية. 
وليس العرب أعداء أي طموح بشري الى الاستقرار والأمن . ولكن الذي يعادونه وينكرونه ويناضلون ضده هو أن تختار “زمرة ” من البشر تحقيق أمنها على حساب أمنهم . تحقيق حياتها المستقرة على حساب إستقرار حياتهم بأن تنتزع لها أرضاً من أرضهم . تلك هي القضية في جوهرها وهي لا تحتمل إلا حلاً وا حدآ : استرداد الأرض لأصحابها. 
من أجل أن تسترد الارض المغتصبة يتعين على العرب أن يثبتوا للصهاينة خاصة أن مشروعهم العدواني مشروع فاشل ، ويكون فاشلأ حتى في وعي الصهاينة أنفسهم عندما يثبت لهم بالممارسة العربية انهم لن يستطيعوا، مهما طال الزمن، ومهما كانت الظروف المحلية أو القومية أو الدولية، ان يعيشوا على الارض العربية عيشة مستقرة آمنة، وهكذا تتحدد خصائص معركة التحرر العربي تحديدا يناسب خصائص معركة العدوان على الارض العربية. ويبرز، أكثر من أية تجربة تحريرية في العالم عنصر ” مواصلة الاشتباك مع العدو”. إن المواصلة هنا تحقق هدفأ لا يقل أهمية عن هدف الاشتباك ذاته. المواصلة تعني تحريم الامن والاستقرار على العدو ” في كل زمان ومكان وبكل أسلوب وتحت كل الظروف، بصرف النظر عن حجم أو نوع الخسائر المادية أو البشرية التي تصيب العدو . 
من هنا تكون مواصلة الاشتباك مع العدو في كل وقت وزمان وبكل أسلوب هى الخط الاساسى للنضال العربي الذي يجب أن يبقى متصلاً مهما كانت الظروف الدولية التي تحكم عناصر الصراع الأخرى . ويصبح متعيناً على كل عربي ، أياً كان موقعه ، أن يدخل هذا الاشتباك في حياته اليومية وأن يمارسه بنفس الاطراد والاصرار والاستمرار ” والسهولة ” أيضاً التي يمارس به الاستيقاظ من النوم كل صباح . أعني أن أن يصبح الاشتباك مع العدو ويقصد تحريم الأمن والاستقرار عليه ” عادة عربية ” عادة على المستوى الجماعي وعادة على المستوى الفردي . 
كيف؟ 
لنأخذ الاشتباك مع ” الدولة ” الاسرائيلية مثلاً. 
ان دولة اسرائيل مثل كل الدول مؤسسة ذات وظيفتين فهي جهاز ردع . وهي جهاز إدارة . من حيث هي جهاز ردع تملك أدوات الردع الخارجي من القوات المسلحة و قوات التجسس والتخريب كما تملك ادوات الردع الداخلي من شرطة وحراس ومحاكم وسجون ومشانق..الخ الاجهزة الاولى لتحقيق الاستقرار على الأرض والاجهزة الثانية لتحقيق الامن داخل الأرض . لهذا كان طبيعياً أن تجذب الدولة كمؤسسة ردع داخلي وخارجي ضربات المقاومة الجماهيرية ، التي كادت ان تكون قوى مقابلة . ففي مواجهة القوة المسلحة المدربة على القتال تملك قوات مسلحة ومدربة على القتال . وتأخذ المقاومة شكل هجمات صدامية بين قوى التحرير وقوى العدوان، تستعمل فيها انواع الاسلحة التي تستعمل عادة في الحروب. وفي مواجهة قوى الامن الداخلي تملك المقاومة قوى فدائية تتسلل الى الارض من خارجها او تثبت على الأرض المحتلة من الداخل وتختار صراعها مع العدو و قوى أمنه الداخلي بالاساليب التي تدخل في صلاحيات تلك القوى . التفجير والتدمير والقتل ومحاولات إرغامه على أن يبلغ احكامه التعسفية ويطلق سراح المعتقلين … الخ . حتى تلك العمليات التي كانت في ظاهرها بعيدة عن المواجهة المباشرة بين قوى الأمن الصهيوني وقوى الفدائيين العرب كخطف الطائرات والقبض على أفراد العصابات الصهيونية في الخارج ما لبثت بشكل نمطي أن كشفت عن الدائرة التي تتم في نطاقها فهي أيضاً موجهة إلى قوى الأمن الصهيوني . فقد أتخذت كل الرهائن من الطائرات والبشر وسائل ضغط للافراج عن المسجونين . 
ان كل هذا لازم وضروري . كما أن تصعيده لازم وضروري ولكنه بمفرده لا يحقق عنصر مواصلة الاشتباك مع العدو على الوجه الممكن فعلياً . فمن ناحية لا تستطيع المقاومة الجماهيرية أن توظف في هذا النوع من الاشتباك إلا جزءاً قليلاً من قواها البشرية والمادية وبالتالي تبقى الجماهير العربية العريضة خارج نطاق معركة الاشتباك ومن ناحية أخرى لا يستطيع هذا النوع من الاشتباك ان ينال من أمن العدو واستقراره الا قدرا محدودا اقل مما هو ممكن فعلياً فتبقى الدولة الصهيونية قائمة بوظائفها. وربما كان من شأن الاقتصار على هذا النوع من الاشتباك المحدود هجوما ودفاعا ان يوفر لدولة اسرائيل من حيث هي مؤسسة ردع فرصة احكام قبضتها على الصهاينة داخلها والزامهم نوعا من الانضباط والطاعة لأنها تحمي امنهم واستقرارهم ولتتوافر لها كامل الكفاءة لاداء تلك الحماية . 
كيف يمكن اذن تحريم الامن والاستقرار بالاضافة الى وبشكل أكثر تأثيراً من الصدام العنيف المسلح . 
بأن نتذكر ان اسرائيل ” الدولة ” ليست مؤسسة ردع فقط بل مؤسسة ادارة . على هذا الوجه الاخير تقوم الدولة على مجموعة كثيفة من القوانين المدنية والجزائية واللوائح التنظيمية والأوامر الادارية والتعليمات والخطط الاقتصادية والمشروعات الاجتماعية والتعليمية والترفيهية… كل هذه القوانين واللوائح التي تحدد في النهاية شكل الحياة ومجالها على الارض المحتلة . وفي نطاقها ينام الصهاينة ويحلمون ويستيقظون ويعملون للمستقبل الذي لا يستحقونه- ويتسع هذا المجال المتنوع لنشاط الدولة كجهاز اداري لكل ا ساليب المقاومة وهي مقاومة سهلة الاداء وسهلة المخاطر . وهي مقاومة قد لا تحتاج الى عنف ولا تعرّض صاحبها الى عنف ، وهي مقاومة يستطيع الأفراد أن يمارسوها يومياً وكأفراد بدون حاجة الى تخطيط وإعداد وتنظيم ذلك أن غايتها إفشال ” الدولة ” من حيث هي جهاز إدارة . وعلى الذين قد لا يهتدون الى تفاصيل الأسلوب أن يتذكروا كيف ولماذا تثور الشعوب على دولها فتسقطها . 
يوم ان لا يأمن الفرد ان تستمر الاضاءة لأن ” كابل ” قد قطع ولا يأمن ان يغتسل لان ماسورة مياه قد انفجرت ولا يأمن أن يصل الى موقع عمله لان دواليب المواصلات قد اتلفت ولا يأمن أن يعتذر لأن ” الهاتف ” ولا يأمن أن يأكل لأن الخبز محشو بأشياء غريبة ولا يأمن على المواد الغذائية لأنها من حين إلى آخر تنقطع إما لاتلاف تنقطع المحصول او لاتلاف المواصلات أو لاتلافها هي ولا يأمن العلاج لان بعض الادوية مغشوشة ولا يأمن التعامل لأن بعض اوراق النقد مزورة، ولا يأمن السير في الطريق لأن سيارات هوجاء تصدمه، ولا يأمن نظام المرور لان الناس لا يحافظون على نظامه ، ولا يأمن قضاء سهرة لان أشخاصا يتضاربون دائماً فيفسدون السهرات ، ولا يأمن الخدمات لان الضرائب لاتدفع ، ولا يأمن العدالة لان الاحكام لا تنفذ، ولا يأمن صحة المعلومات لأن الصدق محرم عليه… يوم ان تصبح ” الحياة ” العادية اليومية لاتطاق لأن ملايين التصرفات الصغيرة المحدودة ولكن المستمرة تجعل الحياة لاتطاق … يوم ان يتم كل هذا لا تغني الدولة لا قواتها المسلحة ولا قوات امنها . تنهار الدولة من الداخل لانها فاشلة . 
فاذا اضيف الى هذا ان ادارة الدولة للاقتصاد فاشلة فقطع الغيار غير متوافرة والمصانع تتوقف يوميا أو من يوم إلى يوم ولو عشر دقائق ، حرائق صغيرة تشب من حين إلى حين حتى في النفايات المتروكة، والبضائع المعدة للتصدير لا تكون مطابقة للمواصفات ، وخطابات البريد- التي توضع باليد في صناديقها لاتصل إلى أصحابها كأن أشباحاً تفرغها ، وتعبئة البضائع رديئة ، وما يكتب في ورقة يكتب في عشر ورقات ، وحتى ساعات ضبط الوقت لا تنتظم ، والبرقيات لا تكون واضحة والاتصالات اللاسلكية لا تسمع جيداً .. وحوادث عجيبة تحدث في الموانىء في جميع أنحاء العالم فتعطل إبحار البواخر في المواعيد المحددة ، وتعطل الطائرات عن الوصول في المواعيد المحددة … إلى آخر ألف مليون مهمة لا يدخل في أكثرها أي نوع من أنواع العنف ولا تتطلب أسلحة أو تنظيمات ولكنها كلها ترشح أي دولة للانهيار ولا تعوضها أية تعبئة معنوية أو فكرية… 
وهذا هو المجال المفتوح للجماهير العربية في الارض المحتلة. لوكا نوا يستمعون إليّ هناك، لقلت لهم، ان الدولة كجهاز اداري عبارة عن مجموعة من الاوامر والنواهي تجدونها في القوانين واللوائح . وعلى كل عربي ان يخرق كل يوم أمرا أو اكثر من أمر. ان يفعل شيئا ممنوعا أو اكثر من شيء ممنوع . وستكون هذه هي ” العادة ” الفردية اليومية . لا يهم مضمون الامر والنهي . المهم اضعاف بناء الدولة بتخريبه كل يوم . بانتزاع لبنة من لبناته بكل يوم . يتحرم الامن والاستقرار اليومي على الصهاينة في الارض المحتلة. وليفعل كل واحد- يوميا وباستمرار- ما يستطيع . 
أما على المستوى الدولي، فان دولة اسرائيل متواجدة كجهاز ادارة معاملات مالية وا قتصادية وثقافية مع الدول الاخرى . واما على مستوى الوطن العربي فان الدول المتحالفة مع اسرائيل ذات وجود اقتصادي واجتماعي وثقافي وبشري أيضا. والساحة مليئة بملايين ملايين مجالات الاشتباك مع العدو وحلفائه بأساليب قد تبدو صغيرة ولكن مواصلتها يحولها الى خطيرة . قد تبين عابرة ولكن مواصلتها يحولها الى قاهرة . وتبدو هينة ولكن مواصلتها تحولها الى مميتة وقاتلة. قد لا تبدو ضربة قاضية للعدو ولكنها استنزاف لقواه.. وهي بعد الاقوى أثرا في جر الصهاينة المقيمين على الارض الى دائرة الصراع ومخاطرها بدلا من تركهم يجتمعون وراء دولتهم من حيث هي جهاز ردع . 
وهكذا تنهش الجماهير العربية الجسد المزروع الغريب في أرضها، وتحرم عليه الامن والاستقرار الذي يحلم به على هذه الارض . ويفلت النضال العربي من مأزق الحصر التقليدي الذي علق معركة التحرر دهرا على الجيوش النظامية للدول العربية ، ويكاد يعلقها الان على نفر من الفدائيين ، ثم تبقى الجماهير العادية البسيطة بعيدة عن المعركة، مع أن مواصلة الاشتباك مع العدو لا تتحقق تحقيقا كاملا الا من خلال دخول الجماهير العادية البسيطة خضم المعركة بالاسلوب المناسب . وما يزال باب الاجتهاد في الاسلوب مفتوحا. انما نحاول من خلال الأمثلة أن نؤكد خطاً لا يجوز أن ينقطع أو يتوقف أبدا ، في أي زمان وفي أي مكان وبأي أسلوب هو : مواصلة الاشتباك مع العدو . 

مقال نشر في جريدة السفير يوم 17 / 5 / 1975 .

الاثنين، 23 أكتوبر 2023

سيرة صبحي غندور تذكّر بالمهاجرين العرب الأوائل


سيرة صبحي غندور تذكّر بالمهاجرين العرب الأوائل

معن بشور


لن يجمعنا هذه الليلة الدكتور صبحي غندور على منبره الافتراضي في مركز الحوار العربي في واشنطن، كما عادته كل يوم جمعة، رغم أن في بلادنا من بطولات شعبنا وجرائم عدونا ما يستحق الاهتمام والمناقشة، كما كان الأمر في الندوات الأسبوعية الافتراضية التي كان يدعونا إليها الدكتور صبحي غندور مساء كل يوم جمعة استكمالاً لدور وطني وقومي وثقافي قام به صبحي منذ أن كان طالباً عروبياً ناصرياً بمدرسة المناضل والمفكر العروبي كمال شاتيلا الذي غادرنا هو الآخر قبل أشهر، متأثراً بعمق بأفكار المفكر الكبير الدكتور عصمت سيف الدولة «رحمه الله».
وبدلاً من أن يقوم زميلنا ورفيق العمر والنضال ديب حجازي، قريب صبحي وابن جيله، بالتذكير بالندوة الأسبوعية، فاجأنا بالخبر المفجع برحيل صبحي غندور، وفاجأنا أيضاً أنه كان مصاباً بمرض عضال لم يمنع صبحي وهو في واشنطن منذ عام 1984، من أن يقوم بدوره كاملاً في كتابة المقالات، والمشاركة في الإطلالات الإذاعية والتلفزيونية العربية، والإعداد للندوة الأسبوعية وقد حوّلها صبحي إلى منبر لأهم القامات العربية، الفكرية والسياسية والنضالية، عابراً من خلالها الحدود والأقطار والقارات وكأنه يقول: إذا استطعت أن تقيم من أي زاوية في العالم ركناً لوحدة أمّتك فإنك تستطيع أن تبني هذه الوحدة على كل مكان من وطنك العربي الكبير.
تميّز صبحي منذ فتوته بروح نضالية عالية، وتصدّر مواقع قيادية في العمل الطلابي الناصري في الثانويات، كما في الجامعة اللبنانية، وحين اضطر ككثيرين للهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية في ثمانينات القرن الماضي، حمل معه همّه الوطني والقومي، وخبرته الإعلامية في مجلة الموقف التي كان يرأس تحريرها في بيروت، إلى تلك الديار، على قاعدة عروبي يوماً، عروبي دوماً.
كم كنت أشعر بالاعتزاز وبالتفاؤل حين أرى في صبحي هذا العزم والإصرار على مواصلة دوره النضالي مؤكّداً أن تاريخ الرجال أقوى من جغرافيتهم، وعزيمة الرجال أقوى من أمراضهم، وأن الانتقال من قارة إلى قارة لا يعني الانتقال من همّ الوطن والأمّة إلى همّ آخر.
كنت دائماً أرى في نشاط صبحي المتنامي والمتزايد الذي حوّل مركز الحوار العربي في واشنطن من منبر أسبوعي إلى ميدان للتفاعل الفكري والسياسي على المدى الوطني والقومي ما يذكرني بأولئك المهاجرين العرب الأوائل الذين لم تمنعهم الهجرة ومشاكلها من أن يحملوا معهم وطنهم وهمومهم وإبداعاتهم حيثما وصلوا، مؤكّدين من أن العروبة ليست مجرد هوية وانتماء فحسب، بل هي رسالة عابرة للقارات والحدود.
صبحي غندور الذي غرست فيه النبطية (مدينة حسن كامل الصباح) حب المقاومة والكفاح والانتماء العربي، وعمّقت فيه بيروت حيث ولد وناضل، روح العطاء القومي والتفاني في العمل من أجل وحدة الأمّة وتحررها، وتعلم في القاهرة دروس التحرر والوحدة والعدالة، وتعمّقت في الولايات المتحدة روحه الإنسانية، روحه الرافضة لكل أشكال الاستعمار والصهيونية، وصقل عبر التجارب عقله النقدي والعلمي الذي يدرك أن معركة الأمّة مع أعدائها لا تنفصل عن معركتها ضد أخطائها، فبات صبحي غندور الذي نعرفه أكثر من صاحب منبر مفتوح، بل بات عنواناً لقلب مفتوح وعقل مفتوح وأفق مفتوح.
رحمه الله، وألهم أهله ومحبيه الكثر الصبر والسلوان