بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

سيف الدولة .. وأزمة المنهج في الفكر العربي .. موفق زريق .

سيف الدولة .. وأزمة المنهج في الفكر العربي  ..
موفق زريق .

إن أهم ما يميز المشروع الفكري لمفكرنا وأستاذنا الدكتور عصمت سيف الدولة – طيب الله ثراه وأسكنه فسيح جناته – هي تلك النقلة / القطيعة المعرفية ( الأبيستمولوجية ) التي أحدثها فـــي مسار تطور الفكر العربي وبكل اتجاهاته في النصف الثاني من القرن المنصرم .. وهي نقلة / قطيعة لا تتعلق بمضامين ومحتوى هذا الفكر وحسب بل أساساً وبشكل رئيسي بنمط الآليات و الأدوات أو الأساليب التي تتحكم في عملية توليد هذا الفكر و تطوره أو ما يسمى اكاديمــيا (الأبيستمولوجيا ) أو علم نظرية المعرفة .. وهو العلم الذي يعنى باكتشاف ووضع أدق القواعد والضوابط المنهجية التي في حال التزامها نضمن الوصول إلى أفضل ما يمكن من معرفة "الحقيقة" أو ما تسميه الأديان " الحق" وهو من أخطر العلوم المعاصرة وأهمها على الإطلاق لأنه يعنى بأدوات أو مناهج الحصول على المعرفة أكثر مما يعنى بالمعرفة ذاتها وهذا هو الأهم ( لا تعطيني سمكاً بل علمني كيف أصطاد السمك) و لذلك يعرف الآن بأبو العلوم كما كانت تعرف الفلسفة بأم العلوم . اذن ما يعنيني في هذا الورقة هو الجانب المعرفي / المنهجي من المشروع الفكري للدكتور عصمت وما أحدثه من تأثير في سياق الآليات أو المناهج التي كانت و ما زالت سائده في الفكر العربي و في الفكر العالمي أيضاً  .
أزمة المنهج في الفكر العربي ( المنهج القياسي الاستعاري )  :
لقد ساد الفكر العربي و منذ بدايات القرن التاسع عشر ( بدايات الاستفاقة الفكرية ) و حتى منتصف القرن العشرين .. اتجاهان متناقضان في المحتوى و المضمون الفكري ( الأيديولوجي ) إلا أنهما متفقان في الآلية و المنهج و متفقان أيضاً في النتيجة و المآل !!؟... الاتجاه الأول .. اتجاه " قياسي استعاري" انتقائي ذهب يبحث في ماضي الأمة و تراثهاعن الحلول الجاهزة لنهضتها و هو ما يسمى بالاتجاه السلفي الاسلامي و الاتجاه الثاني هو أيضاً اتجاه قياسي استعاري انتقائي ذهب يبحث أيضاً عن الحلول الفكرية الجاهزة و لكن ليس في تراث الأمة القديم بل في تراث الأمم المعاصرة الأكثر نهوضاً وتقدماً ؟!!! وهو ما يسمى بالاتجاه العلماني بفروعه الثلاثة ( لليبرالي , الماركسي , القومي) أي أننا نستطيع القول أنه على الرغم من التباين و التناقض الكبير بين اتجاهات الفكر العربي من حيث المحتوى الايديولوجي و من حيث المرجعية إلا أن ثمة سمات ( آليات ) موحدة لها على الصعيد المعرفي / الابيستمولوجي أي آليات التفكير و المناهج التي تستخدمها في توليد الأفكار و الحلول لمشكلات الأمة المعاصرة  .
وبهذا الشكل كان الفكر العربي في أواسط القرن العشرين فكراً يفتقد الى الجدة و الابداع الأصيل سواء على مستوى بناء آلياته / مناهجه أو على مستوى بناء محتوياته و مضامينه الفكرية و الأيديولوجية ... وهي آليات قديمة و أصبحت غير صالحةعلى الإطلاق و بعد ذلك التطور المذهل على صعيد أدوات المعرفة و ادوات تحليل الواقع و مناهج التفكير المعاصرة و في ظل التعقيد الشديد لمشاكل الواقع المعاصر و منها مثلاً  :
آلية القياس المعروفة في تراثنا الإسلامي وهي آلية فقهية تقوم على قاعدة التشابه او وجود عناصر مشتركة بين حالة / أو مشكلة سابقة معروف حلها في النص الأصلي وبين حالة / مشكلة طارئة أو جديدة تتم فيه سحب الحل السابق للمشكلة السابقة على المشكلة الطارئة أو الجديدة  .
آلية الإستعارة او الانتقاء : وهي تبنى على نتائج الآلية السابقة ... ( القياس ) اي استعارة الحل المشابه لحل سابق بسبب وجود العلة المشتركة أو العلل المشتركة .
وهي آليات تجزيئية فقهية تصلح في فضائها الفقهي الإسلامي و لا تصلح عندما يكون أمامنا قضايا كبرى و معضلات كبرى و تحديات كبرى كما هو الآن   . 
(1)
فلقد سيطرت على وعي وإدراك معظم النخب العربية الإسلامية منذ بداية و أوائل القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين ثنائيات ( غرب .. شرق ، تقدم .. تأخر ، حديث .. تقليدي ، أصالة.. معاصرة .. إلخ ) تعكس الإحساس بحجم الفجوة والهوة القائمة بين الامة العربية الإسلامية والآخر (الغرب) حيث أن الغرب لم يكن مصدر خطر و سيطرة او تهديد و حسب .. بل هو أيضاً في وعي هذه النخب مصدر القوة و العلم و الفكر و الحداثة و التكنولوجيا .. إلخ اي قوة نبذ و جذب في ذات الوقت .
الاتجاه الإسلامي " التجديدي " وهو التيار الرئيسي الغالب في هذه النخبة كان يعتبر أن الهوة بين التراث ( الإسلام ) والحداثة ( الغرب ) يمكن ردمها بمنهج " التوفيق القياسي " .. أما الاتجاه الأخر العلماني وبكل فروعه فقد اعتبر أن الهوة لا يمكن ردمها بالتوفيق وان المطلوب و بالمنهج القياسي فقط تبني الحداثة الغربية تماماً وتعديل هذا التراث " قياساً " عليها و بما تمليه هذه الحداثة !! وقد بدأهذا الإتجاه هامشيا ولم يلق تجاوباً إلا في مراحل لاحقة .. وخصوصاً بعد الحرب العالمية الاولى .!!! إلا أن الاتجاه الإسلامي ورغم انطلاقه من تراث الامة وهويتها وتحت التأثير الطاغي للغرب وتفوقه من جهة .. وبمنهجه " القياسي التوفيقي " لردم وتجاوز هذا التفوق من جهة اخرى .. انتهى الامر به الى تقديم قراءة غربية للاسلام أو تقديم الاسلام على مقاس الغرب ونموذجه سياسة واقتصاد و ثقافة ، فقد دأبت رموز هذا الاتجاه وعلى وجه التحديد محمد عبده وتلامذته على إثبات أن ما أتى به الغرب من علم و نظم وأساليب يوجد ما يقابله أو ما يبرره في الإسلام وفي أسوأ الاحوال لم يكن هناك ما يعارضه شرعاً في الإسلام  وتراثه ؟!.
هذا هو المنزلق المنهجي الجسيم الذي وقعت فيه معظم رموز هذا الاتجاه في محاولتها التوفيقية عند استخدامها آلية " القياس التجزيئي " ضمن ظروف ووضعية تاريخية وثقافية مختلفة تماما حيث قامت – هذه الرموز – بقياس ومقارنة ومعادلة عناصر ونماذج حضارية و ثقافية مجتزأة ( مفككة ) تعود لمرحلة تاريخية سابقة وحالة مجتمعية مختلفة ( إسلامية ) تنتمي لأصول وأسس نظام عقيدي متكامل ( النظام الاسلامي ) ، قامت بقياسها لعناصر و نماذج أخرى مجتزأة أيضاً تم انتاجها في مرحلة مغايرة ( المرحلة المعاصرة ) .. وفي مجتمع مغاير ( الغربي ) وتنتمي لأصول وأسس نظام قكري مغاير بل مناقض للنظام الاول ( الإسلامي ) أي القياس بين نماذج متغايرة من حيث تاريخ انتاجها .. ومن حيث المجتمع الذي أبدعها .. والأصول الفكرية والعقيدية التي استندت اليها ؟!! وبالتالي تصبح العمليةالقياسية التوفيقية .. عملية شكلية لفظية مضللة تخفي وتحجب العمق الثقافي والعقدي والمجتمعي والتاريخي للعناصر والنماذج المقارن فيما بينها ،  بل إنها تفضي في النهاية وعملياً الى إلغاء الدلالة الثقافية الخاصة للمفهوم او النموذج التراثي الاسلامي – المستخدم في المقارنة والمقايسة – لصالح ولحساب الدلالة الثقافية الخاصة للمفهوم أو النموذج الغربي – المقارن به – الاكثر تفوقا و حداثة في إدراك وشعور هذه النخبة , ومن هنا فإن آلية " القياس " تلك وما أفضت اليه من " توفيق " مزعوم لم تكن في حقيقة الامر .. وفي المحصلة النهائية " توفيقاً بل هيمنة وغلبة للمفهوم الغربي بكل دلالاته الثقافية و المجتمعية والسياسية , والأكثر خطورة في هذه الآلية هو أنها لم تكن تستخدم للوصول الى حل لمشكلة واقعية محددة ومعينه في واقعنا الخاص تساهم في الارتقاء به الى الافضل , بل هي في التحليل الأخير ليست إلا آلية لتقديم " حل " لمشكلة نفسية - عند تلك النخبة – تكونت عبر الإحساس العميق بالعجز و الضعف و كذا النقص ازاء الغرب المتفوق و المسيطر ( عقدة الخواجة ) ولذلك عندما تكتشف هذه النخبة أن لديها – في تراثها – ما يعادل الغرب ويوافقه وأحياناً يسبقه .. فحينئذ تشعر بنشوة النصر والاكتشاف ويختفي احساسها بالدونية تجاهه ولا تعود هناك مشكلة ؟!! ويصبح الطريق أمامها مفتوحاً ومشروعاً – موافق للشرع – لأن تأخذ بما جاء به الغرب و بغض النظر عن كونه موافقاً ومتناسباً للمشكلة في الواقع الحقيقي والفعلي .. وبذلك تبقى المشكلة في الواقع بلا حل .. بينما النفوس والعقول تنعم في أوهام الرضى لأن ما لديها يعادل ويوافقه الغرب ونماذجه .. وهكذا تبقى مشكلات الأمة في واد .. وأفكار النخبة في واد آخر وتتراكم المشكلات .. وتتعقد وتتأزم والمحصلة المزيد من التراجع  والتقهقر في الواقع والمزيد من التشوه والتغريب .. والهزيمة تجاه الآخر ( الغرب ) الى أن كانت السيطرة الكاملة له في الثقافة والسياسة وفي كل مجال وعلى كل صعيد  .
(2)
لنرى ما يقول " الطهطاوي" مع بدايات القرن التاسع عشر بعد المقايسة " بأنه لا فرق كبير بين مبادىء الشرع الإسلامي .. و مبادىء القانون الطبيعي" ؟!! ، أما خير الدين التونسي فنراه يحض ويدعو الى ان " السبيل الوحيد في العصر الحاضر لتقوية الدول الإسلامية إنما هو في اقتباس الأفكار والمؤسسات عن أوروبا واقناع المسلمين المحافظين بأن ذلك ليس مخالفاً للشريعة بل منسجماً مع روحها " ثم يضيف قائلاً " عليها فقط أن تتبنى ما يعادل المؤسسات الإسلامية القديمة من مؤسسات حديثة " ونحن نعرف هنا حصيلة التجربة الليبرالية التي استخدم فيها كل المؤسسات الأوروبية التي دعا إليها التونسي وأما الافغاني نراه ينتهي في حواره مع أرنست رينان ودفاعه المستميت عن الإسلام إلى " أن جوهر الإسلام إنما هو جوهر العقلانية الحديثة ذاتها في الغرب " ؟!!.
الإمام محمد عبده مّثل ذروة النهج " التوفيقي القياسي " حين نراه يقوم " بتذويب " جملة المفاهيم الإسلامية ( النماذج ) المبعثرة والمفككة في لجة المفاهيم والنماذج الغربية الحديثة ( فانقلبت " المصلحة " تدريجياً الى " المنفعة " والشورى الى " الديمقراطية البرلمانية " .. و "الإجماع" الى " الرأي العام " والزكاة الى " الضريبة " وحتى " عمران " ابن خلدون تحول الى " تمدن " غيزو ( صاحب كتاب تاريخ المدنية الأوروبية ) أي أصبح الإسلام نفسه مرادفاً للتمدن والنشاط الأوروبيين كما عرفه محمد عبده لدى " غيزو " ... و عندما يصبح الإسلام عند محمد عبده وهو الإمام الإسلامي – مرادفاً للمدنية الغربية فان لسان حال فريق واسع من اتباعه سيقول : اذا كان الامر كذلك فلماذا لا تأخذ بالمدنية الغربية كاملة بدون لف ودوران ؟! وهذا ما حصل بالفعل إذ انتقل تدريجياً فريق من أتباعه من موقع " التوفيق" الى موقع الأخذ الكامل بالغرب والعمل على أقامة العلمانية الكاملة امثال فريد وجدي وقاسم أمين ولطفي السيد وسعد زغلول .. وجماعة حزب الأمة وغيرهم .. وغيرهم .. وانهال السيل العلماني الجارف من منابع الغرب " العظيمة " بفروعه المتعددة الليبرالي والماركسي والقومي ... وبنفس الآلية القياسية .. الغرب متقدم ومتفوق ونحن متخلفون .. الحل ببساطة نأخذ بما لدى الغرب ونتقدم ... وبتعبير أدق " نستهلك ما لدى الغرب من علمانية وقومية وعقلانية مادية وماركسية و وجودية وليبرالية ... ونتقدم  ؟!!!.
مما لاشك فيه أن قادة و رموز " الاتجاه الإسلامي" في محاولتهم تجديد الفكر الاسلامي ، قد انطلقوا انطلاقة صحيحة حين بدأوا من عقيدة الامة وتراثها وكانوا مخلصين وصادقين فيما بذلوا من جهود وقدموا من عطاء إلا أنهم في تقديرنا قد أخطأوا المنهج والأداة ( الأداة المعرفية ) فجاءت النتائج في معظمها معاكسة لأهدافهم ، لأن منهج ( القياس الشكلي التوفيقي ) الذي يعتمد التفكيك == المقارنة == الانتقاء == التوفيق  لا يبني نظاما معرفياً ولا يعيد بناء نظام معرفي سابق على أسس جديدة ونقدية ... ولا يقود إلى تشكيل رؤية شاملة حول واقع مجتمعنا وثقافته تحدياته وخصوصياته .. ولا حول ثقافة الآخر ومعطياته ( الغرب ) .. وبالتالي لايمكن أن يقود إلى نقد أي من الثقافتين أو دراستهما دراسة تاريخية نقدية مقارنة .. إنه يفكك الثقافتين "النظامين " ويتركهما دون اعادة بناء وتاليف بل ينتقي ويوفق بين عناصر مفككة من كلتيهما , وتتراكم لدى أصحاب هذا النهج أشلاء من المعارف الجزئية والتفصيلية الناتجة عن هذه العملية والمقطوعة الصلة – وهذا هو الأهم والأخطر – بالواقع الفعلي ومشكلاته وضروراته ومتطلباته وأولوياته , أي يصبح وعي هذه النخبة .. وعياً يهتم بالتفاصيل المجتزأة في عالم منفصل عن الواقع لأنها لا تتركب بهذا الوعي في كل متماسك , يجسد رؤية شاملة تتألف من أجزاء معرفية تأخذ مكانها وتتناسق كأنها خلايا حية في جسم فكري حي ومترابط !! و لهذا غابت الرؤية الشاملة .. والمنهج الشامل في فهم الذات ( الامة ) وفهم الآخر المعاصر ( الغرب ) الذي ينظم العلاقة ويوجهها مع كليهما على أساس محدد وبرنامج واضح , و كان الوعي بالتالي مفككاً ومضطرباً دون مرجعية واضحة .. أو رؤية واضحة ومترابطة , وهذا النوع من الوعي .
(3)
" المتفكك " لن يستطيع أن يكون حركة مؤثرة في الواقع .. ولا أن يرسم وجهتها الصحيحة ولا أن يختار الوسائل والادوات المناسبة للفعل والممارسة .. مما أدى الى التخبط والتضعضع الثقافي والسياسي والمزيد من التراجع والانحسار  .
الاتجاه العلماني لم يكن توفيقياً بل بلغ في آليته القياسية الشكلية حد الغيبوبة الكاملة عن ضرورات وخصوصيات مجتمعه والانبهار الشامل بأنماط الغرب ونماذجه وأساليبه وايديولوجياته وكان تأثره بها طاغياً ، وكان يرى وبالمقارنة مع واقع مجتمعه في الغرب سر القوة والتقدم ، وكان همه الوحيد أن يقلد ويحتذي ويستورد ويستعير ويستهلك لا أن يبحث ويفتش وينقد ويكتشف .. لم يذهب الى العمق وبقي على السطح مستهلكاً .. لم يتمكن من دراسة الغرب فكراً ونمطاً ومن ثم تحليله ونقده فهمه , ولم ينفذ الى العمق للكشف عن منهجيته في العقل و التفكير التي تمثل و تشكل الخلفية الحقيقية و السر الخفي وراء تفوقه و " حضارته " المعاصرة .. بل كان دائماً يلهث وراءه ليبتلع ويفترس المزيد من منتجاته وسلعه ، وعلى كل المستويات سياسة وفكراًو اقتصاداً واجتماعاً ، وحتى أخلاقاً ( ولو دخل في جحر الضب لدخلوا وراءه ) صدق رسول الله .
الاتجاه القومي التقليدي ( العلماني ) استورد كل نظريات الغرب في القومية وأخذ يبحث عن ما يسوغها ويسوقها في واقع الامة العربية حيناً يأخذ بنظرية وحدة اللغة الألمانية .. وحيناً يذهب الى نظرية وحدة الإرادة الفرنسية .. وحيناً يذهب الى وحدة المصالح المشتركة .. وكلها نظريات غربية لها ظروفها ومعطياتها التاريخية الخاصة .. القومية في الغرب علمانية ولا ترى للدين أي دور وتأثير في تكوينها .. وهكذا أرادوا لها في واقعنا العربي وكان الشرخ والتناقض بين " فهمهم " هم للقومية .. وبين " فهمهم" هم للإسلام ، وهل يوجد في تاريخنا أمة عربية بدون إسلام أو إسلام  بدون عروبة ؟!
لم يخطر ببال اصحاب الاتجاه القومي العلماني أن يقوموا بأي جهد حقيقي في البحث التاريخي للإجابة عن سؤال بسيط .. كيف تكونت الأمة العربية ؟؟ ليعرفوا من ثم ما هي عوامل وحدتها وتكوينها القومي ...!! وليعرفوا من ثم كيف تكونت العلاقة التاريخية بين العروبة والإسلام وليعرفوا من ثم استحالة أي ربط بين القومية العربية والعلمانية أو استحالة أي علمنة للأمة العربية أو المجتمع العربي .. لأن الاسلام هو ثقافة هذه الأمة وهويتها ..هكذا يقول التاريخ .
إن الفكر القومي العربي التقليدي لم يكن إلا صدى للفكر القومي العلماني الغربي بكل ألوانه ومدارسه.
أما الاتجاه الماركسي فإن تاريخ نشأته وانتشاره في الحياة الفكرية العربية يحكي لنا قصصاً وأساطير فكرية عجيبة ، فقد صنع لنفسه واقعاً وهمياً لتسويغ وتسويق مبررات استنباته في التربة العربية .. توهم لنفسه نظاما ً رأسماليا ً .. و توهم طبقات متصارعة في هذا النظام .. وقدم حلوله الشيوعية لذلك الواقع الموهوم , وأعتقد هنا ان مصير الاتجاه الشيوعي في الوقع العربي – العالمي أيضاً – يكفينا عناء المناقشة والنقد  .
ويكفيني هنا أن ألفت النظر أن أصحاب هذا الاتجاه انشغلوا كثيراً بجانب التوظيف الأيديولوجي من التراث الماركسي الغربي أكثر من انشغالهم واهتمامهم واستفادتهم من جانب التوظيف المعرفي / المنهجي لما ينطوي عليه هذا الجانب من خبرات بحثية منهجية ذات أهمية بالغة من زاوية تطوير أدوات البحث المنهجي لصالح الفكر العربي , و مازال هذا التراث متاحاً من وجهة نظرنا لكل المهتمين على هذا الصعيد .
" نظرية الثورة العربية " وأزمة المنهج :
إن أي قراءة متأنية لـ " نظرية الثورة العربية " بأجزائها السبعة يستطيع صاحبها ان يلحظ وببساطة عمق وحجم الاهتمام الكبير للدكتورعصمت لهذه الأزمة / المشكلة في الفكر العربي – ازمة المنهج – وعلى الوجه الذي بيناه آنفاً وأستطيع القول أن جل مشروعه الفكري النقدي كان منصباً على معالجة هذه القضية / المشكلة والتي كان يعتبرها بمثابة حجر الزاوية لأي مشروع فكري نهضوي مبدع وأصيل  .
(4)
لقد كان انتباهه شديداً لحجم وعمق الضغط والتأثير الذي يمارسه الفكر الغربي بشقيه المنهجي والأيديولوجي على عقل ونفس النخب العربية بمعظم اتجاهاتها السياسية والفكرية والذي تجلى بذلك الاستسلام والانبهار وحتى الاستلاب له .. والبحث عن كل الذرائع والحجج  والبراهين الشكلية القياسية لتسويفه وتسويقه في حياتنا الفكرية العربية والاسلامية حتى أستطيع القول أن العوامل النفسية السلبية .. من ضعف ثقة بالذات .. والإحساس بالدونية من جهة .. وتفوق الغرب وسطوته وسيطرته وتطوره العلمي والمنهجي الهائل بالمقارنة مع تخلفنا ، قد شكلت الأساس الأعمق لتفسير هذه العلاقة الاستلابيه / الإرهابية للنخب العربية في علاقتها مع الغرب والفكر الغربي وأيضاً الصناعة الغربية ، الاخلاق الغرية والمرأة الغربية والسياسة الغربية والعائلة الغربية وكل شيء غربي واخذنا نستورد كل شيء حتى الفكر  !!
بهذا الإدراك الواضح والانتباه الدقيق لحجم التحدي الذي يمثله الفكر الغربي وبكل مدارسه واتجاهاته ولعمق الأزمة التي يعاني منها الفكر العربي تجاه هذا التحدي وبروحية الصعيدي الواثق من نفسه والمؤمن ايماناً راسخاً بعروبته واسلامه .. والمتحرر من كل أنواع الاستلاب الذاتي والفكري تجاه الآخر المتفوق ، خاض مفكرنا معركة فكرية نقدية شاملة تجاه الآخر احتلت المساحة الأكبر من مؤلفاته مستفيداً ومستخدماً أحدث ما توصلت إليه الإنسانية في مجال أسلحة وأدوات النقد ومناهجه في ذلك الحين  .
هذه المعركة أثمرت مشروعاً فكرياً نقدياً هائلاً لكل مدارس الفكر الغربي و مناهجه سواء كانت ماركسية أو ليبرالية او قومية أو وجودية ... إلخ كاشفاً جوانب الخلل و القصور فيها وعجزها بالتالي عن التفسير الصحيح والكافي لظواهر الاجتماع الانساني و تطوراته كما أسفرت – تلك المعركة – عن ظهور إبداع منهجي عربي اسلامي أصيل و لأول مرة في تاريخ الفكر العربي المعاصر أحدث – وكما أرى – نقلة / قطيعة معرفية هائلة في أليات و مناهج التفكير السائدة في ذلك الحين والتي أشرنا الى أهمها فيما سبق من حديث,كما وضع الفكر العربي ولأول مرة في موقع الندية و الجدارة العلمية والثقافية إزاء الفكر الغربي وطغيانه على العقل والنفس العربيتين وشكل من وجهة نظرنا لحظة معرفية فاصلة بين تاريخين .. تاريخ التبعية والاستلاب للآخر .. وتاريخ الانعتاق والاستقلال والإبداع الثقافي والعلمي للفكرالعربي وهل تتحرر الامم والشعوب بدايةً إلا بأفكارها ؟؟؟!ولازلت اذكر ونحن في عنفوان شبابنا نحمل هموم الأمة في سبعينيات القرن الماضي كيف استقبلنا أعمال الدكتور عصمت ، استقبال الذي يغرق في بحر الافكار والمناهج المتلاطمة لسفينة النجاة .. كانت فرحتنا بها عظيمة ، لقد أمدتنا وزودتنا بكل الأسلحة العلمية و المنهجية لمقاومة اتجاهات التغريب من ماركسية وعلمانية وليبرالية .. واتجاهات الجمود السلفية في ذلك الحين ، وكانت حصناُ حصيناً لنا من الضياع والتيه  .
لقد عاش سيف الدولة عصره بحق وهضم وتمثل انجازاته المعرفية / المنهجية في أقصى درجات تطورها المعاصر ومن كل الاتجاهات والمدارس كما تلمس ذلك واضحاً في مؤلفاته وأعماله المتنوعة .. ولم يقف عندها وقفة الأكاديمي ملخصاً أو مكرراً أو ناسخاً بل كان يصول ويجول باحثاً ناقداً مبدعاً مستخدماً أدواته بروح وشفافية الفنان المبدع.. ودقة العالم المجدد و عزيمة المجاهد المقاتل المؤمن بقضايا أمته في الحرية والانعتاق والاستقلال وقضايا حرية الانسان في كل مكان ( ذلك الكائن العظيم الذي أحبّه )  . 
كان إحساسه بالإنسان و دوره و انسانيته عميقاً ومستمداً – باللاشعور – من تراثه واسلامه جعله يأنف كل تلك المذاهب والمناهج المستلبة لإنسانية الإنسان سواء مادية أو مثالية كما دفعه للمزيد من البحث عما ينقذه – للانسان – من ذلك الاستلاب  .
وكما عاش عصره مستوعباً معطياته .. فقد عاش اسلامه وتراث أمته العريق مستلهماً إشارات الوحي الإلهي في قرآنه العظيم .. وهو يدعو للتأمل والنظر ( البحث ) في آيات الله وسننه ونواميسه " قل سيروا في الارض و انظروا كيف بدأ الخلق " ..." سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق " ... " وتلك سنة الله ولن تجد لسنتنا تحويلا " ... " وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً " ... " و كرمنا بني آدم " ... " اسجدوا لآدم " ... " ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " ( راجع الأسس والمنطلقات ج1 ج2 ج3 ) . 
(5)
هكذا علمنا الإسلام . وهكذا ربّانا و نحن نسينا وهكذا تعلم سيف الدولة من تاريخ الإنسانية و تاريخ الشعوب والمجتمعات وتطوراتها المذهلة على كل صعيد " وخلقناكم أطواراً " بأن الإنسان أولاً وأنه هو الذي يقود مصيره وأن التغيير يبدأ من داخل النفس الإنسانية وما يضطرم فيها من تدافع وصراع ونتيجة هذا الصراع هو الذي يحدد نوع ومحتوى مدى هذا التغيير ( ونفس وماسواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها .. وقد خاب من دساها ) ، سنة الله إذن في الإنسان تقوم على الصراع الداخلي بين نوازع الفجور – التي فطر الإنسان غليها – و نوازع التقوى – التي فطر الإنسان عليها أيضاً ، وحسم الصراع متوقف على " إرادة الإنسان " وواضحة هنا في " زكاها " و " دساها " لايغير الله ما بقوم ( النتيجة ) حتى يغيروا ( هم ) ما بأنفسهم ( هم ) ...أي حتى تحسم ارادتهم الأمر في اتجاه التزكية أو الخير أو الصلاح أو في اتجاه الفجر والشر والفساد ( التدسية )  .
التقط سيف الدولة ذلك ولم يقف عنده لأن المنهج الإسلامي يدعوه للنظر والبحث و التأمل والإبداع وكان السؤال : على أي وجه.. و على أي إيقاع .. ووفق اي قاعدة / سنة تضطرد الحركة الإنسانية ( النوع الإنساني ) وهي تحاول التغيير والتطور نحو الافضل .. نحو التزكية والفلاح والصلاح حسب التعبير القرآني ؟! واذا عرفنا هذه القاعدة / السنة / القانون عرفنا كيف نتطور ونتغير نحو الفلاح وما هي شروط ومتطلبات هذا التطور علمياً بدون مغامرات وتضحيات لا طائل منها و اذا عرفنا كيف يتطور الانسان وما هو قانون تطوره وما هو منهج تطوره عرفنا ايضاً قانون تطور المجتمعات ومنها مجتمعنا وأمتنا أي عرفنا منهج تطور المجتمعات ومن ثم ستصبح محاولتنا في تطوير أمتنا محاولة علمية ومدروسة ومخططة وليست مجرد مغامرة وتجريب بالبشر وقدر الامكان ستكون بأقل الخسائر أقل التجارب وأقل التضحيات و ستكون حركة مضطردة باتجاه أهدافها لحد كبير أو في حدود قدرتنا على استيعاب شروط هذا التطور ومتطلباته و من ثم حدود قدرتنا على توفيرها فعلياً في الواقع  .
سؤال بسيط ولكنه عميق .. سؤال بديهي و لكنه يحتاج إلى عقول عظيمة للإجابة عليه وجهود جبارة تستوعب الملحمة الإنسانية بكل تاريخها البعيد والقريب و بكل شمولها و تضاريسها وبكل أغوارها وأعماقها وهذا ما اقتحم أهواله عصمت سيف الدولة !!
وكان السؤال الإشكالي الذي حير العقل البشري منذ أمد بعيد و منذ نشوء القكر الفلسفي : كيف يستوي أو يستقيم خضوع الإنسان في حركة تطوره لسنن أو قوانين موضوعية و هو في ذات الوقت الكائن الحر الوحيد في هذا الكون ؟؟!أو الكائن الوحيد الذي يمتلك قدراًمن الحرية ؟! و انقسم العقل البشري منذ فجر التاريخ إلى خيارين : إما التضحية بحرية الإنسان من أجل ضبطه وإخضاعه ( الجبر التاريخي ) وإما انكار وجود قانون موضوعي يضبط حركة النوع الإنساني للحفاظ على حرية الإنسان  ...
الخيار الأول كان خيار المذاهب الجبرية المادية التي حّولت الإنسان إلى مجرد كائن مادي طبيعي شأنه شأن كل الأشياء و الظواهر في الطبيعة و هكذا أفقدته خصوصيتة الإنسانية و كرامته الألهية .
والخيار الثاني كان خيار المذاهب الذاتية الفوضوية و التي جعلت من الإنسان الكائن العشوائي الوحيد في هذا الكون و الغير قابل للخضوع لأية سنة أو ناموس ؟
وكان رد سيف الدولة أو جوابه جواباً قاطعاً و حاسماً بأن هذا السؤال الإشكالي يصبح سؤالاً وهمياً يجري في العقل الإنساني الذي لم يستوعب الحقيقة الموضوعية للحركة الإنسانية عبر التاريخ لأن الحرية ذاتها هي القانون / السنة . ولكن على أي إيقاع ؟! و هذا ما أجاب عليه سيف الدولة أو ما اكتشفه و قدمه للبشرية وللفكر العربي حلاً لأزمته في المنهج  !!
جدل الإنسان ..الجدل الاجتماعي .. منهج تطور الإنسان والمجتمع عند سيف الدولة الإنسان لا يملك وليس حراً مثله مثل أي شيء في الكون و الطبيعة إلا أن يؤثر و يتأثر ولا يملك إلا أن يكون في حركة دائمة ولا يملك إلا أن يتغير و لا يملك إلا أن يجوع مثل الحيوانات و لا يملك إلا أن يموت و لا يملك أو يتحكم في ولادته أو أن يتحكم في طفولته وشبابه وهرمه وشيخوخته..... الخ . ولكنه يملك ان يكون فاجراً أو تقياً .. يملك أن  يكون جاهلاً أو متعلماً .. صادقاً أو كاذباً .. مستقيماً او منحرفاً .. جباناً او شجاعاً .. مؤمناً او كافراً .. شاكراً أو جاحداً .. خيراً او شريراً .. باراً أو عقوقاً ..... إلخ . " من شاء فليؤمن و من شاء فليكفر " " وهديناه النجدين إما شاكراً أو كفورا " " ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها ... إلخ " أي ان الإنسان مجبوراً ومحكوماً مثله مثل بقية الأشياء والظواهر والكائنات الاخرى " قانون الضرورة الحتمية للطبيعة " وهذا ليس فيه جديد من عند سيف الدولة سبقه إليه غيره , ولكن الإنسان يملك ما لا تملكه الأشياء والظواهر والكائنات الأخرى يملك الاستعداد والملكة ( الحرية ) لأن يختار محتوى التأثير والتأثر ومحتوى الحركة ومحتوى التغير أو التطور .. يملك القدرة والأستعداد على أن يطوّر نفسه وظروفه وبيئته يملك العلم والعقل مع معرفة قوانين الأشياء والظواهر ويملك الادوات على الإستفادة منها لتطوير نفسه وحياته وبيئته وطبيعته و وسائله وأدواته .... الخ . و هذا ليس بجديد و معروف للبشرية .. ولكن ما الجديد عند سيف الدولة ؟
(6)
الجديد هو جدل الإنسان الذي يحدد لنا ويرسم لنا القانون الذي وفقه تضطرد حركة النوع الإنسان وهذا هو جوابه على السؤال الإشكالي الذي حير العقل الإنساني  حتى الآن ؟!
يقول سيف الدولة شارحاً جدل الإنسان في كتلبه الأسس ج 1     : 
" النقيضان في جدل الإنسان هما الماضي و المستقبل اللذان يتبع أحدهما الآخر ولا يلغيه ولا يلتقي به قط وعلى هذا يجمعهما الانسان ويضعهما وجهاً لوجه في ذاته " .. " والماضي بالنسبة للانسان مادي جامد غير متوقف عليه وغير قابل للتغيير وبمجرد وقوعه يفلت من امكانية الإلغاء ولكن الإنسان إذ يعرف عن طريق استرجاعه كيف وقع يدرك امتداده التلقائي في المستقبل ، والمستقبل بالنسبة للإنسان تصور لا يحده قيد من الزمان أو المكان واقصى مستقبل لأي انسان أن تتحقق جميع احتياجاته وفي الإنسان يجتمع النقيضان وتثور المشكلة بالصراع بين الماضي ممتد تلقائياً في المستقبل .. وبين المستقبل الذي يريده الانسان بين الماضي يريد أن يمتد فيلغي ما يريده الانسان ، وبين ما يريده الانسان أن يتحقق فيلغي امتداد الماضي وتكون المشكلة : هي ذلك الفرق بين الواقع المسترجع من الماضي وبين المستقبل الذي يريده الانسان ويعبر عنه تعبيراً سلبياً ( بالحاجة ) اي شعور الذات بعدم الاكتفاء ( من تجربة الماضي ) ونزوعها الى الاكتفاء ( في المستقبل ) ومقاومة الظروف ( الماضي ممتد تلقائياً في المستقبل ) لاشباع تلك الحاجة , وبقدر ما يكون الفرق كبيراً يكون التناقض عميقاً فيكون الصراع قوياً ومحتدماً فتكون المشكلة حادة وبقدر ما يسترجع الانسان من ماضيه يتصور من مستقبله ويتحدد شمول المشكلة التي لا بد من حلها ، ويظل الصراع قائماً  "   .
و كيف يتم حل الصراع والتناقض ؟ يجيب سيف الدولة " يستفيد الانسان من مقدرته على ادراك ومعرفة الماضي وقوانين وشروط وقوعه ليعدل في تلك الشروط و حول دون استمرار الماضي في المستقبل .. كما يستفيد من معرفته العلمية للظروف وشروطها لتعديل المستقبل الذي يتصوره الى المستقبل الممكن علمياً أي يجد حلاً يتضمن ما يريده الانسان وتسمح به قوانين الظروف معاً ( الحل الممكن ) هذا الحل يتحقق بالعمل المادي أو الذهني تبعاً لطبيعة المشكلة ( مادية أو فكرية ) هذا الحل يلغى من الظروف كما يحددها الماضي ما لا يتفق مع المستقبل كما يريده الانسان ويلغي من المستقبل الذي أراده الانسان ما لا يتفق مع امكانات الظروف وقوانين تغييرها النوعية فيجعله في كل لحظة وفي كل مكان مستقبلاً متفقاً مع حاجة الإنسان وظروفه أي خالياً من جمود الماضي وخيال المستقبل , اما اداة الخلق فهو العمل الذي يحل التناقض وتتم به الحركة الجدلية ثم تناقض جديد .. و صراع جديد .. ومشكلة جديدة .. وحل جديد .. وعمل جديد " راجع الأسس ج1 ..
وينفي سيف الدولة ان تكون هذه الجدلية جدلية فكرية كونها تتضمن التذكر فالأدراك فالتصور لأن التذكر هو تذكر يشمل المادة / الواقع والإدراك يشمل إدراك قوانين المادة والتصور تركيب ذهني للمادة فالمادة هي محتوى الفكر ، والفكر محيطها الذي يتحدد بها وتتحدد به وتكون معه وحدة لا يمكن انفصامها ، ولذلك قلنا إنه جدل الإنسان ولم نقل إنه جدل الفكر  ..
(7)
فالفكر ليس إلا خاصة من خصائص ذلك الكائن من مادة وذكاء ( روح ) والذي يسمى الانسان وقد قلنا أن العمل وهو مادي هو الحركة الاخيرة في الجدل النساني فالحركة الجدلية إذ تبدأ من مشكلة ( صراع ) تسهم فيها المادة تنتهي مع حل مادي يسهم فيه الفكر  .
ويؤكد سيف الدولة أيضاص بأن الانسان هو يمارس جدله لا يمكن أن يفلت من قوانين الضرورة العامة أو الكلية إذ يقول " اذا كان الجدل قانوناً خاصاً بنوع الانسان فإن الاخير لا يفلت من القوانين الكلية التي تحكم الطبيعة والظواهر ، وهو جزء منها يتأثر و يؤثر في حركة دائمة و تغير مستمر ، وتحكمه تلك القوانين كوحدة من الروح والمادة أي أن حريته ليست حرية مطلقة بل تتم في اطار الخضوع لقوانين الضرورة العامة وهو في هذه الحدود مسير غير مخير ( الأسس ج1 , ص127 ) .* جدل الإنسان والدين :
لقد اجتمعت الأديان جميعاً آخرها الإسلام ان الأساس أو العامل الأساسي في تقرير مصير الحركة الانسانية ومن ثم الاجتماعية هو ما يدور من صراع في داخل النفس الانسانية بين الخير والشر .. بين الفجر التقوى .. بين الهوى والعقل ..في حركتها من الماضي الى المستقبل .. وان هذا المصير متوقف على نتيجة هذا الصراع " و نفس وما سواها فألهمها فجورها و تقواها " .. " وقد أفلح من زكاها ... وقد خاب من دساها ".. الفلاح والتزكية : يعني النجاح و الفوز و النمو والتطور .. التّدسيه والخيبة : يعني الخسران والتدهور والانحطاط الإنساني .. وهذه هي دورة الحضارة الانسانية في كل مجتمعاتها القديمة والحديثة  ....
الفكر الجديد == القيم الجديدة == الصعود == النمو == الازدهار == الحضارة == الترف == الهوى == الفجور == الخيبة == والتدهور والانحطاط .
أي ان البنية التحتية ( كما يقول علم الاجتماع ) في جدل الأديان وأيضاً جدل الانسان هي البنية النفسية والصراع الداخلي فيها عبر الزمن من الماضي الى المستقبل ومصير الأقوام يتحدد باتجاه هذا الصراع فجوراً أم تقوى تدهوراً أم ارتفاعاً و ازدهاراً ..." ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " وهذا بخلاف المدارس المادية التي ترى أن قوى الإنتاج وأدواته هي التي تشكل العامل الأساسي والبنية التحتية لمسار التطور الجتماعي  .
وهنا مكمن اللقاء والتوافق التام بين جدل الانسان .. وجدل الاديان حتى أستطيع القول أن جدل الانسان الذي ابتكره سيف الدولة هو الدليل القاطع من العلم والتجربة الانسانية على صحة ما جاءت به الأديان وما جاء به الوحي الإلهي من آدم و ابراهيم عليه السلام حتى محمد ( صلى الله عليه و سلم ) ، كما يمكنني القول والزعم والقطع أن جدل الانسان هو الهيكل العام الذي تضطرد على أساسه حركة النوع الانساني ( تناقض في النفس الانسانية , صراع ..حل .. عمل .. و دورة اخرى ..) و ان الأديان ( وأهمها الاسلام ) جاءت اساساً لدفع محتوى هذا الصراع والتناقض من خلال رسالاتها وتعاليمها الاخلاقية والاجتماعية وخصوصاً فكرة التوحيد .. لدفعه باتجاه الغلبة للتقوى والتزكية والفلاح والتطور والعمران وخلافة الأرض . وتحقيق نقلات نوعية له على مسار التاريخ وفي كل المجالات ( الاخلاقبة والاجتماعية وحتى العلمية " سفينة نوح " ) و من هنا كان ديدن الأديان والرسل والانبياء التركيز على اصلاح النفس البشرية والانتصار لفريق وحد التقوى والتزكية ( جهاد النفس هوالجهاد الاكبر ) .. " ولو ان أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا غليهم بركات من السماء والأرض .. ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون   " .
كما ان جدل الانسان هو الذي يفسر لنا اهتمام الرسالات السماوية والوحي الإلهي بسرد قصة الخلق من بدايته " الخالق و الخلق " وحتى نهاية القيامة و الجنة والنار .. لأن الدين هنا يقدم لجدل الانسان أعمق ماضي .. وأبعد مستقبل يتصوره ويتمناه أو يخاف منه ويتجنبه حيث العذاب المطلق في النار .. الحيوات المطلقة .. والنعيم المطلق في الجنة ( لهم ما يشاؤون خالدين وهنا وبذلك الفرق الشاسع والمسترجع من بداية الخلق والوجود الإلهي .. وذلك المستقبل للنعيم المطلق أو العذاب المطلق ) يكون التناقض عميقاً .. فيكون الصراع قوياً .. و تكون المشكلة حادة .. ويكون الدافع للحركة والنمو والتطور هائلاً ومن هنا يفسر جدل الانسان .
(8)
سر وعظمة الفتوحات الاسلامية المذهلة بسبب الطاقة الهائلة التي ولدتها الرسالة الاسلاميه في داخل نفوس المؤمنين في ذلك الحين بسب التناقض والصراع الهائل بين اعمق ماض و أبعد مستقبل و اليقين الايماني الهائل من مصدر هذه الرسالة .. وصدق نبؤتهاومن هنا يفسر لنا أيضاً جدل الانسان لماذا كانت الاديان هي الأكثر تأثيراً وعمقاً في النفس الانسانية .. وهي الاكثر انتشارا و استمرارية .. و من كل المذاهب الوضعية والفلسفية عبر التاريخ فهذه الاخيرة انقضت جميعها و بقيت الأديان . الأديان كانت تخاطب جماع النفس الانسانية .. والأكثر قبولاً من الجماهير بعكس المذاهب الوضعية التي تبقى أسيرة النخب و القلة و لذلك فإن جدل الانسان في محتواه الديني هو الاكثر قدرة على تفسير حركة التاريخ والمجتمعات ؟؟!!
* التوحيد وجدل الانسان :
جدل الانسان " هو المنهج الوحيد بزعمنا الذي يفسر ويبرر ويؤكد على ضرورة " التوحيد الإلهي " للإنسان لكي تستوي وتستقيم حركة التاريخ البشري الى الأمام .. الى النمو والعمران .. لأن التوحيد هو الذي يشكل الضمانة الوحيدة و الرقابة المطلقة والكلية " يعلم السر وأخفى " على خريطة الصراع داخل الوجود الانساني وداخل النفس الانسانية في حركتها عبر التاريخ .. وهو الذي يحرضها لحسم هذا التناقض و الصراع في داخلها باتجاه التقوى و التزكية و النمو و العمران " فتحنا عليهم بركات من السماء والأرض " طبعاً في حال الايمان و اليقين بوحدانية هذا الإله . و لذلك فإن الاديان هي التي انجزت أكبر واعمق النقلات التاريخية في التطور البشري والانساني وهي التي أرست كل القيم الاخلاقية في حركة العمران الانساني وأيضاً الاجتماعية وحتى التكنولوجية " سفينة نوح , انزال الحديد واذابته , السدود .... إلخ
فكرة الأسرة وتحريم الأخ والأخت والأب والأم ....... ومن ثم العائلة .... إلخ
إن الرقابة من داخل النفس الانسانية ( الضمير ) غير كاف للتأثير على حركة و مصير النوع الانساني لأن النفس الانسانية منقسمة ومتصدعة على نفسها بين استعدادين والهامين الهيـين .. النفس اللوامة (التقوى) .. والنفس الأمارة بالسوء ( الهوى ) لذا لا يمكن الرهان عليها ولذلك لا بد من رقابة خارجية (خارج صراع النفس الداخلي) موضوعية يقينية ومطلقة ( لا يخفى عليها شيء ) ولا يمكن الانفلات من شمولها وإطلاقها ولا يمكن الانفلات من عذابها وعقابها وأيضاً ثوابها وجنتها . ولذلك حسب نظرية " جدل الانسان " لابد من خالق لهذا الكون ولابد من إله لهذا الكون .. ولابد من " التوحيد " له والتسليم به ( الاسلام ) لان التوحيد اعظم ضمانة ورقابة لحركة النوع الانساني لتحقيق فلاحه وعمرانه , هكذا يقول لنا التاريخ أيضاً تاريخ المجتمعات .. وتاريخ البشرية .. وتاريخ الأديان  .
الانسان في حركته يمكن ان يفلت من رقابة ضميره الداخلي ( النفس اللوامة ) ويمكن ان يفلت من رقابة اهله ومجتمعه ( وهو بمفرده ) ويمكن ان يفلت من من رقابة القانون والسلطة .. إلا انه لا يمكن ان يفلت من رقابة الله المطلقة .. وثوابه المطلق .. اذا آمن به طبعاً  .
ولذلك فإنه حسب جدل الانسان فإن جدل الدين او الاديان أكبر قوة محركة للتاريخ .. وأكبر قوة محركة للانسان وأكبر قوة محركة باتجاه الحضارة والعمران والفلاح في الدنيا وفي الآخرة سواء بسواء لمن آمنوا  .
ويكفينا من التاريخ عبرة كيف كان حال الانسان .. عندما سادت وسيطرت المذاهب الوضعية ولو لحين .. الحروب والطغيان والاذلال والاستبداد .... إلخ  ، وكيف كان حال الانسان عندما جاءت الرسالات السماوية وبشر بها الأنبياء وكيف هو الفرق بين سيرة الرسل و الأنبياء وسيرة جبابرة التاريخ الطغاة ( من الاسكندر المكدوني الى جنكيز خان .. الى بوش هذا الزمان )  .
(9)
 منهج سيف الدولة والواقع :
* عندما كانت التجربة الثورية القومية في ذروة صعودها في ستينات القرن الماضي كتب سيف الدولة ينبه ويحذر من مخاطر الردة على التجربة من داخلها داعياً إلى ضرورة التحرك لقيام حركة ثورية قومية من خارج جهاز الدولة في مصر لحماية التجربة واستمراريتها ( الحركة العربية الواحدة ) ولحماية افقها الوحدوي العري لأنه رأى استحالة المراهنة على تنظيم الاتحاد الاشتراكي وحزبه الطليعي ( النواة الطليعية ) لاستمرارية التجربة و الثورة لأنها تنظيمات تم تشكيلها من فوق و عبر أجهزة الدولة نفسها و بهذه الطريقة رأى أن هناك استحالة لقيام تنظيم شعبي ثوري حقيقي ( راجع مؤلف وحدة القوى الثورية العربية و بيان طارق ) وهذا ما حصل فعلاً بمجرد غياب قائد الثورة " عبد الناصر " و ما نعرفه من ردة ساداتية و انقلاب تنظيم الاتحاد الاشتراكي الى حزب الردة الساداتية .." الحزب الوطني الديمقراطي " المعروف حالياً و صدق تنبؤ سيف الدولة ؟!
* بعد انطلاق حركة المقاومة الفلسطينية " فتح " عام (1965مـ) بعدها بثلاث سنوات فقط عام (1968مـ) كتب سيف الدولة محذراً أو منبهاً في دراسة ألقاها أمام مؤتمر المحامين العرب.. من مخاطر الوصول الى " طريق مسدود " اذا استمرت الثورة على نهجها القائم .. " النهج الاقليمي " لأن هذا النهج – حسب سيف الدولة – سوف يضعها امام خيارين إما الاعتراف بإسرائيل و إما التصفية و هذا ما حصل فعلاً فقد اضطرت المقاومة تجنباً للتصفية الى الاعتراف الرسمي بدولة اسرائيل المغتصبة وهذا بحد ذاته أيضاً تصفية لقضية المقاومة و أهدافها بل تصفية لقضية الأمة كلها ؟؟ و صدق تنبؤ سيف الدولة  .
* مع الساعات الأولى لقيام حرب أكتوبر(1973مـ) وعبور خط بارليف و مرتفعات الجولان من الجيشين المصري و السوري , كتب سيف الدولة رسالة سريعة الى الشباب العربي و القوى القومية الشريفة محذراً ومنبهاً ومتنبئاً بأن هذه الحرب .. حرب التسوية.. حرب التفريط بالقضية الفلسطينية .. حر تحريك وليس حرب تحرير .. في الوقت الذي كانت فيه الامة مهللة ومستبشرة بمقدمات الانتصار وما هي الا أيام معدودة حتى انكشف المخبوء و صدق ما توقعه سيف الدولة و ما هي الا سنوات قليلة حتى كانت معاهدة كامب ديفيد واخراج مصر بكامل ثقلها من ميزان الصراع و المواجهة ... الى ميدان التطبيع و الاعتراف والانخراط في الإستراتيجية الأمريكية الصهيونية للمنطقة ؟؟ وأيضا صدق سيف الدولة  .
* مع تألق التوجه الوحدوي لقيادة الفاتح من سبتمبر في ليبيا في سبعينات القرن الماضي كتب سيف الدولة في مجلة الشورى الليبية محذراً من مخاطر الاقليمية في ليبيا و بين أسباب هذه المخاطر واحتمالاتها – لا يتسع المجال هنا لسردها – وكانت الدراسة محل استهجان ونقد شديدين .. ولكن ما هي الا سنوات حتى انكشف المخبوء الذي نبه اليه سيف الدولة و ارتدت ليبيا الثورة من " العروبة " كلها الى " الأفرقة " ؟؟!! وصدق تنبؤ سيف الدولة .
(10)
مع انهيار الدولة اللبنانية عام  ( 1978مـ) وقيام الاجتياح الإسرائيلي بجنوبه لتصفية المقاومة الفلسطينية ، كتب سيف الدولة موجهاً رسالة الى الشباب العربي لانتهاز هذه الفرصة التاريخية المتاحة لتحقيق مواجهة شعبية مع العدوان الصهيوني في بقعه محررة من الإقليمية ودولتها وجيوشها لدحر هذا العدوان وتوسيع هذه المواجهة .. وبالفعل تمت أول حرب شعبية في تاريخ الصراع مع الدولة الصهيونية تحقق أول تحرير حقيقي في التاريخ المعاصر واليوم مع عودة الدولة الاقليمية في لبنان مجدداً فإن اول أهدافها هو تفكيك هذه المقاومة وتصفيتها وبالتعاون مع امريكا واسرائيل ؟؟ 
وصدق تنبؤ سيف الدولة  .
 في آخر لقاء لي معه في اواسط الثمانينات قال لي متنبئا أن مصر تتهيأ لثورة رابعة بعد ثورة عرابي وثورة 19 و ثورة يوليو ؟ فهل يصدق تنبؤه هذا ايضاً!!!! 
نرجو ذلك و ندعوا الله سبحانه وتعالى قبل أن ندعوكم ...؟!!
والسلام عليكم ورحمة الله .

يوليو 2009 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق