بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 29 أبريل 2018

التعذيب بين محاكم التفتيش .. والإجهاض الأمني / د.عصمت سيف الدولة .



التعذيب بين محاكم التفتيش .. والإجهاض الأمني .

د.عصمت سيف الدولة .

حوالي عام 1000 بعد الميلاد امتد الى غرب أوروبا مذهب في الديانة المسيحية وافد بعضه من الشرق متأثرا بالديانة السائدة هناك ، ووافد بعضه من الأندلس متأثرا بالفلسفة العقلانية السائدة . من أهم مقولات ذلك المذهب أنه كان يشكك في صحة أغلب ما جاء من قصص في العهد القديم ( التوراة ) وينكر ألوهية السيد المسيح ويعتبره رسولا روحانيا الى البشر يهديهم الى سبيل الخلاص ولا يخلصهم بنفسه . وبالتالي ينكر قصة عذاب المسيح وصلبه . وظل هذا المذهب ينتشر عن طريق الدعوة والتبشير والحوار والإقناع ، وظلت الكنيسة الكاثوليكية تحاربه بالدعوة والتبشير والحوار والإقناع أيضا . كان الطرفان يأخذان بالقاعدة التي كان قد أرساها أحد الرموز التاريخية القديس كلارفو وهي :" يجب أن يكون الإيمان ثمرة الإعتقاد ولا يجوز أن يفرض بالقوة . إن التغلب على الهرقطة يكون عن طريق الحوار وليس عن طريق السلاح ".

وقد أدى التزام قاعدة التسامح الديني هذه الى أن أصبح للمذهب الجديد كنيسة ذات رئاسة مستقلة انتشرت فروعها في غرب أوربا . وكان مركز نشاطها في مقاطعة " ألبى " بفرنسا ، التي يبدو أن سكانها جميعا قد تحولوا الى المذهب الجديد . الى أن تولى عرش  الكنيسة الكاثوليكية في روما البابا انوسنت الثالث . وكان قد أصبح من تقاليد النشاط البابوي حشد الرعايا تحت قيادة الملوك والأمراء لشن حروب يقال لها " صليبية "  بينما هي لم تكن الا تنفيذا مستمرا لأمر البابا أربان الثاني الذي جمع أمراء الإقطاع وقال لهم:" ان الأرض التي تقيمون عليها لا تكاد تنتج ما يكفى لغذاء الفلاحين وهذا هو سبب اقتتالكم فانطلقوا الى الأماكن المقدسة وهناك ستكون ممالك الشرق جميعا بين أيديكم " . هكذا بدأت الحروب المسماة صليبية واستمرت نحو قرن ( 1096 ـ 1192 ) حتى أدركت البابا انوسنت الثالث أو حتى أدركها . فجهز حملة اسميت " صليبية " أيضا ولكن ضد المسيحيين . لم تتجه الى الشرق بل اتجهت الى منطقة " ألبى " في فرنسا وهناك أبادت السكان رجالا ونساء وأطفالا وقتلت حتى الحيوانات بتهمة " الهرطقة " ومن يومها اشتق اسم " جريمة إبادة الشعوب " البيجنز من اسم " ألبى " .

في ظل ذلك التاريخ الدموي وبمناسبته ابتكرت وسيلتان لقهر الناس مازالتا مستعملتين تحت أسماء أخرى في العصر الحديث وخاصة في بلاد العالم الثالث ومنها مصر .

2 ـ الوسيلة الأولى اقتحام ضمائر الناس أو التسلل اليها لمعرفة أفكارهم وأحلامهم وآمالهم ونواياهم التي لا يعرفون عنها عادة الا من يثقون فيه ثقة خاصة . وكثيرا ما يكون مجرد التعبير عنها كافيا لإرضائهم وجبر آلامهم عن طريق التفتيش عنها فلا يحولون نواياهم الى أفعال اكتفاء بعزاء التعبير عنها . فابتكر البابا انوسنت الثالث هذه الوسيلة للتجسس على ما في الضمائر والكشف عما تكنه الصدور والاطلاع على أسرار البشر باستغلال طقوس " الاعتراف " المعروفة في الدين المسيحي . حيث يفضي المؤمن الى أحد رجال الدين بهمومه وما يقلقه وما يكون قد ارتكبه من ذنوب أو ما يريد ارتكابه . فيتلقى منه الرأي والنصيحة والهداية . محرم تماما على من يتلقى الاعتراف افشاءه ، ولكن البابا انوسنت الثالث أفتى بأن اسرار الاعتراف محرم افشاؤها لغير الكنيسة لأن الاعتراف يكون للكنيسة ذاتها ممثلة في أحد رجالها . ثم طلب الى رجاله التابعين له أن يوافوه بتقارير منتظمة عما يتلقونه من اعترافات يشتبه في أن تكون ذات صلة بالهرطقة ، وحتى لا يكف الناس عن طقوس الاعتراف أصدر أمرا بابويا بأن على كل مؤمن أن " يعترف " مرة على الأقل كل عام . وأصبحت الاعترافات طريقا الى محاكم التفتيش .

الوسيلة الثانية هي ما يعرف في التاريخ باسم " محاكم التفتيش " . لا تتميز محاكم التفتيش بما عرف عنها واشتهرت به من انتزاع الاعترافات من المتهمين بأكثر السبل وحشية ، بل تتميز أساسا بأنها محاكمة على النوايا والأفكار المختلسة عن طريق التجسس قبل أن يقع أي فعل خارجي من قول أو تصرف يكون دليلا على أن أصحاب النوايا والأفكار قد نفذوها أو بدأوا في تنفيذها . ولما كانت " الجريمة " أفكارا أو نوايا لم يكتب لها التنفيذ ، وقد يكون صاحبها قد عدل عنها ، لا يكون أمام القائمين على تجميع الأدلة إلا أن يحصلوا من المتهم نفسه على إقرار يؤكد ما ينسبونه إليه . فإذا لم يكن يعرف شيئا مما ينسبونه إليه فهو " مقاوح وعنيد " وأسهل الطرق للتعامل معه أن يلقنوه ما يجب أن يعترف به ، وأن يحفظه ويردده كما هو أمام المحكمة . ومن هنا جاء اسم " التفتيش " كإجراء للتعامل مع المتهمين . فأصلها اللاتيني يعني "البحث في الداخل " . البحث في داخل الإنسان عن أدلة اتهامه . وإذ تكون الإدانة أو البراءة متوقفة على " الإعتراف " لانعدام أي دليل آخر ، يصبح التعذيب إجراء ضروريا لانتزاعه وإلا انهارت " القضية ".

نريد أن نقول أن التعذيب من أجل الحصول على اعتراف المتهم ليس تعبيرا عن نزعة إجرامية متأصلة فيمن يقومون به ، ولا هو انتقام لعداوة شخصية . بينهم وبين المتهمين ، ولكنه ضرورة تفرضها نظرية خاصة في التجريم والتحقيق والعقاب هي تجريم النوايا ، وإثباتها بالإقرار ، والعقاب عليها قبل أن يقع أي فعل خارجي يجسد تلك النوايا ويضعها موضع التنفيذ . هذه النظرية ، نظرية محاكم التفتيش هي التي يطلق عليها الآن " الإجهاض الأمني " ، أدخلها في مصر وتفاخر بها وزير الداخلية السابق النبوي إسماعيل وما يزال دفاعه عنها مسجلا في مضابط مجلس الشعب وقال تبريرا لها أكثر من مرة ما معناه أنه ليس مطلوبا من أجهزة الأمن أن تظل ساكنة إلى أن يبدأ المتهمين في تنفيذ ما انتووه من نشاط  بل على أجهزة الأمن أن تحول بينهم وبين " البدء في التنفيذ " بأن تتهمهم بما كانوا ينتوون ارتكابه وتقدمهم إلي سلطة التحقيق مصحوبين بالدليل عن اعترافاتهم بنواياهم ، وقد قيل مرة ـ أكثر من مرة ـ بصيغة أرق من صيغة النبوي  أن في ذلك حماية للمتهمين أنفسهم ، وهم شباب عادة ، من أن يصلوا الى بداية التنفيذ ومخاطره الجسيمة عليهم … يا سلام !! . 

4 ـ وقد بلغ تأثير الإجهاض حدا أخذ ينعكس بصورة متزايدة في تحقيقات النيابة نفسها ، فالأصل في القانون أنه لا يجوز الأمر بالقبض على أي إنسان إلا من أجل تحقيق مفتوح في جريمة محددة مسندة إليه يتعين أن يواجه بها وبأدلتها . وقد كان العمل يجرى ـ وما يزال يجرى في أغلب النيابات ـ على أنه حين يتقدم رجال الأمن ببلاغاتهم التي تبدأ دائما بقولهم " دلت التحريات ومصادر المعلومات المؤكدة على أن فلان …….. " تحقق النيابة هذا البلاغ أولا بأن تسأل مقدم البلاغ من رجال الأمن عن مصادره ومعلوماته وما يؤكدها وتطلب منه أن يدلل عليها ـ فإذا وجدت النيابة أن في هذا التحقيق ما يصلح دليلا على اتهام الشخص المعني استدعته ، فإذا لم يحضر أمرت بالقبض عليه وحققت معه وواجهته بما هو مسند إليه فإما أن يقر به أو ينفيه تماما . . 

هذا هو الأصل . ولكن حدث مرة أن قضت محكمة النقض بأن يجوز صدور أمر القبض بناء على التحريات " إذا " اقتنع وكيل النيابة المحقق بأنها تنطوي على دلائل حيوية . فإنها والسياج الذي كان يحول دون القبض على الناس قبل تحقيق ما هو منسوب إليهم . وانفتح تقدير بعض النيابات وثيقة الصلة بالأمن لتأثيرات نظرية الإجهاض . وهكذا نرى أن جميع أوامر القبض التي تصدرها نيابة أمن الدولة مثلا تصدر بتأشيرة على البلاغ المقدم إليها من مباحث أمن الدولة وبدون أن تسأل مبلغه عن مصدر معلوماته والأدلة على جديتها ودون أن تواجه بها المتهم قبل أن تقبض عليه . وبهذا أصبح ميسورا لنظرية الإجهاض أن توضع موضع التنفيذ الفعلي بالقبض على الناس من أجل نواياهم وقبل أن يرتكبوا أى فعل خارجى ، ثم الحصول على مايريدون من اعترافات من الإنسان المعزول فى زانزانته المذهول ـ ربما ـ لأنه لايعرف لماذا انتزع من اسرته أو لماذا انتزعت حريته .  أجل نواياهم وقبل أن يرتكبوا أي فعل خارجي ، ثم الحصول على ما يريدون من اعترافات من الإنسان المعزول في زنزانته المذهول ـ ربما ـ لأنه لا يعرف لماذا انتزع من أسرته أو لماذا انتزعت حريته .

   ولما كان المقصود من التعذيب هو الحصول على أدلة وليس مجرد التشفي أو الانتقام أو إرضاء نزعات إجرامية فقد يستغني عن اعتراف متهم " سلبي " لا يجدي فيه التعذيب ، أو غائب  بتزوير محاضر التحريات التي يحررها رجال الأمن بأن ينسبوا الى أحد غير الشخص المقصود أنه يعرف أن المتهم قد فعل كذا وكذا أو ينوى أن يفعله . أي يحولون بعض الأفراد الى شهود بدون تعذيب اكتفاء بالتزوير . في إحدى الجنايات المنظورة حاليا كانت " النية " متجهة الى اتهام بعض الجماعات بأحداث متوقعة . فما إن بدأت تلك الأحداث حتى راح بعض ضباط الأمن يحررون محاضر سماع أقوال بعض المصابين وينسبون الى كل منهم أن الذي أصابه أو الذين أصابوه هم من أفراد تلك الجماعات ، ثم " يوقع على المحضر " بعدها بأسبوع تقريبا عرضت تلك المحاضر على النيابة لإعادة سؤال المصابين فإذا بهم يؤكدون أنهم لم يسألوا أصلا ولم يقولوا ما هو ثابت في المحاضر . أغرب من هذا أن وكيل النيابة المحقق قد سأل ثمانية من بينهم أن يوقعوا على أقوالهم أمامه ثم أثبت في محضره أن قد تبين أنهم أميون لا يقرأون ولا يكتبون " ويبصم " كل منهم على محضر النيابة بصمة لا تمت بصلة الى التوقيع بالخط الجميل على محاضر البوليس ، وكانت فضيحة أمام القضاء .

هل يسمح القانون بالتعذيب أو التزوير أو القبض على الناس من أجل منع وقوع الجرائم أو إجهاضها كما يقولون ؟.. أبدا . فقد انقضت منذ قرون طويلة عهود محاكم التفتيش ، ولم تعد النوايا مما يعاقب عليه بل حتى لو تجاوز الشخص حدود النية وأخذ يحضر ويعد الأدوات اللازمة لارتكاب جريمة ثم توقف لا عقاب عليه . هذا ما تنص عليه المادة 45 من قانون العقوبات عندنا إذ تقول :" الشروع هو البدء في تنفيذ فعل بقصد ارتكاب جناية أو جنحة " ثم تضيف " لا يعتبر شروعا في الجناية أو الجنحة مجرد العزم على ارتكابها ولا الأعمال التحضيرية لذلك ".
  
أما عن دور رجال الأمن فسلطة تعرضهم لحريات البشر وحرمات المنازل مستمدة من أنهم من " مأموري الضبط القضائي " . وليس لهم أن يمارسوا تلك السلطة إلا في أحوال التلبس بالجنايات والجنح " ( المادة 34 إجراءات ) ، والجناية أو الجنحة لا تكون متلبسا بها إلا " حال ارتكابها أو عقب ارتكابها ببرهة يسيرة "( المادة 30 إجراءات ) . أما البحث عن الجرائم ومرتكبيها وجمع الاستدلالات ( أي التحريات ) فهي سلطة مقصورة على ما " يلزم للتحقيق في الدعوى " كما يقول القانون بصريح العبارة في المادة 21 إجراءات ، أي لا بد أن يكون ثمة تحقيق قائم في فعل يشك في أنه جريمة أو جريمة لا يعرف فاعلها .. ومن هنا نعرف أن كل تلك السلطات في التحري والتجسس وتجميع المعلومات قبل أن يقع أي فعل يمكن أن يكون جريمة لا علاقة له بالقانون . إنما علاقته بنظرية "الإجهاض الأمني " . لا يسمح القانون لرجال الأمن بالتعرض لحريات البشر وحرمات المنازل إلا في حالة واحدة : الدفاع عن المواطنين ضد خطر داهم يهدد أنفسهم أو أموالهم بشرط أن يكون ذلك الخطر غير مشروع أي الاستجابة إلي الاستغاثة . كل ماعدا ذلك غير مباح لهم ولا يدخل في سلطانهم .

ومع ذلك ، أو بالرغم من ذلك ، فإن كل هذا يكاد يجرى مجرى العادة المعترف بها  بدون إنكار وبقليل من الاستنكار . ول قليلا من الاستنكار بالرغم من المحاولات الجادة التي تقوم بها الصحف في بعض الأوقات ، والمحامون في كثير من الأوقات دفاعا عن بعض المواطنين الذين يتعرضون للتعذيب . ولكني لا أستطيع أن أنكر أن كل هذه الجهود تبذل وتملأ الدنيا استنكارا ـ بحق ـ حيث تصل " نظرية الإجهاض " إلى المساس بالمثقفين أو الساسة أو النشطين في حقل العمل العام . ولكننا نحن أبناء الفلاحين نعرف معرفة اليقين أن الحبس غير المشروع والتعذيب المجنون والاهانات البالغة والإذلال القاسي يرتكب كل يوم بل ربما كل ساعة في نقط الشرطة ومراكزها حيث يكون ضحاياه من أفراد "الشعب " الذين لا يثير الإعتداء عليهم انتباه الصحف ومنابر السياسة. ويعلم الاستاذ ممتاز نصار ( ونحن بلديات ) كما يعلم كثير من أعضاء مجلس الشعب الحالي من أبناء الريف طريقة إجهاض حمل السلاح بدون ترخيص وما يحدث من مآس قريبة الشبه بأيام محاكم التفتيش ، فيفترض رجالا الأمن هناك في الصعيد أن كل صعيدي لا بد أن يكون محرزا أسلحة غير مرخصة أو ينوى أن يحرزها عندما يتيسر الحال ، فتوزع على ممثلي الأسر والعائلات قوائم بأنواع الأسلحة " المطلوب ضبطها " من أفراد كل عائلة أو أسرة ، ويعطوا مهلة نحو أسبوع لتقديمها . . ويتم هذا وديا بدون مناقشة ، ولكن الوعد يتلاشى اذا لم تستطع أية أسرة أن تقدم ما طلب منها ، حينئذ تخرج من مقابر التاريخ كل الوسائل الوحشية التي عرفتها محاكم التفتيش ، ولقد قدمت عن ذلك عدة طلبات إحاطة أو ربما استجوابات .. لا أذكر تماما ـ ولكن كل الصعايدة يعرفونها على أي حال ـ أما ما الذي تحققه فهو ليس عقابا على النوايا ، ولكن تحريم مجرد التفكير في إحراز أسلحة .

المهم على أي حال أن ندرك ان ساسة أمنية شاملة ، قائمة على نظرية " الإجهاض " تعبر عن ذاتها في ارتكاب جرائم كثيرة من بينها جريمة التعذيب بقصد الحيلولة دون ارتكاب أية أفعال متوقعة أو متوهمة بالتدخل الايجابي لاكتشاف النوايا والأفكار وتطبيق الإجراءات التي وضعها القانون لمواجهة جرائم وقعت أو بُدئ في تنفيذها على أصحاب تلك النوايا والأفكار ، وأن هذه النظرية أو السياسة تجعل مسألة التعذيب وخلافه ضرورية لإكمال ما ينقص الجرائم من أدلة .

ضرورية لمن ؟..

للضباط الذين يقومون بالتعذيب وخلافه وينتزعون الاعترافات ويزورون الأدلة . والواقع أن هؤلاء الضباط ضحايا نظرية الإجهاض وسياستها الأمنية . فهم جميعا من صغار الضباط خريجي كلية الشرطة بع أن أضيف إلي منهاج الدراسة فيها القانون وإجراءاته . وهم جميعا يعلمون علم اليقين أن التعذيب جناية ، وأن التزوير جناية . هذا من ناحية ومن ناحية أخرى لا يمكن أن يسند إليهم عقلا أن بينهم وبين المواطنين ثارات قديمة أو حديثة . كما لا يمكن أن يسند اليهم أن لهم عند المتهمين أو عند غير غيرهم مصالح خاصة يريدون الوصول اليها . بل أنهم جميعا يعلمون أن هذا الذي يرتكبونه يفسد التحقيقات ويفتح في القضايا ثغرات ينفذ منها الدفاع وتنفذ منها العدالة الى حيث تهدر كل جهودهم التي بذلوها ويحكم بالبراءة ولو كانت الاعترافات صحيحة . ذلك لأن الإعتراف ولو كان صحيحا لا يؤخذ به أمام القضاء مادام قد تم الحصول عليه بطريقة غير مشروعة .

ولسنا نستطيع أن نصدق أن أولئك الضباط يقامرون بمستقبلهم ويعانون عذاب ضمائرهم على ما ترتكب أيديهم إلا أن يكونوا مكرهين من ناحية وضامنين عدم المسئولية من ناحية أخرى ، ومكلفون "بالإجهاض" من ناحية ثالثة . من الذي يكرههم ومن الذي يضمن عدم مسئوليتهم ومن الذي يحميهم ومن الذي يكلفهم " بالاجهاض " ؟.. أصحاب نظرية الإجهاض الأمني الذين اتخذوها سياسة أمنية يجهرون بها ويفاخرون .

من هنا نستطيع أن نقول أن ما أعلنه السيد وزير الداخلية من إنكار لوقائع التعذيب قد يكون محدود بعلمه الخاص . أي نستطيع أن نصدق أنه لم يأمر بتعذيب أحد من المحتجزين في السجون ، ولم يبلغه أحد بحدوث هذا التعذيب ، ولم يطلع على تقارير الطب الشرعي ، ولم يحقق في أسباب انتقال بعض المتهمين من السجون الى المستشفيات ولم يلتفت الى دلالة ما قاله الاستاذ المحامى العام المترافع في إحدى الجنايات المنظورة من أن التعذيب قد يكون راجعا الى " غضب " رجال الأمن ما لاقاه زملاؤهم ، فليكن . وما كتبنا كل هذا إلا لنوضح البديهية التي تقول أن بين السبب ونتائجه علاقة حتمية وأن " نظرية الإجهاض " التي يعلن سيادته تمسكه بها كسياسة لإدارة الأمن في مصر ، تؤدى حتما الى ارتكاب جرائم التعذيب وخلافه مما يشكو منه الناس وسواء أمر سيادته أو علم بهذه الجرائم أو لم يأمر ولم يعلم ، وبالتالي فإنه عليه أن يتخلى عن هذه النظرية وسياستها ، ويبقى في حدود ما يسمح به القانون من نظريات وسياسات ، ولن يكون مسئولا عن أية نتيجة لا ترضيه ويكون سببها قصور في القانون . حينئذ لن يشكو أحد من التعذيب لأنه لن يقع تعذيب لأن القانون لا يسمح به وليس ضباط الشرطة مرضى بالسادية التي يجعل صاحبها يتلذذ بتعذيب الناس .

وقد أضيف مالا بد لوزير الداخلية أن يعلمه علم اليقين . أعني النتائج التي أسفر عنها هذا الأسلوب : أسلوب التحريات والمعلومات والمصادر والسجلات .. ما عليه إن لم يكن يعلم إلا أن يطلب إحصائية بعدد الذين ألغت ضدهم مباحث أمن الدولة في الخمس سنوات الأخيرة وقبض عليهم ، وعدد الذين أفرجت النيابة عنهم  بعد حبسهم والتحقيق معهم لعدم صحة التحريات ، وعدد الذين حكمت المحاكم ببراءتهم لعدم صحة الوقائع فسيرى أن كل الجهود التي يبذلها جهاز مباحث أمن الدولة تسفر عما يقارب الصفر بعد أن يكون الناس قد قضوا في السجون أشهر طويلة أو قصيرة . ولقد عن لي يوما أن أقدم هذا الإحصاء الى محكمة الجنايات التي كانت تنظر إحدى القضايا الكبرى عام 1980 . قدمتها عن السنين من 1974 الى 1977 عن الاتهام بجريمة تنظيم غير مشروع . وقد تبين أن المبلغ ضدهم وقبض عليهم 698 وأن الذين قدموا الى المحاكمة منهم 194 والذين حكم القضاء ببراءتهم 504 أي بنسبة 72% في عشر قضايا متتابعة . من بينها قضايا كانت نسبة الحكم بالبراءة 100% بعد أن قضى أصحابها أشهرا طويلة في زنازين السجون بناء على بلاغات إدارة مباحث أمن الدولة . فلم يكن غريبا أن تصدر المحكمة حكما ببراءة 148 متهما من 176 وتقول بصريح العبارة " ان تحريات مباحث أمن الدولة لا ترقى حتى الى مستوى القرائن ولا يعتد بها "..

أليس هذا سببا كافيا لإعادة النظر في سياسة إدارة الأمن والتخلص من نظرية الإجهاض المسيطرة عليها ، ما فائدة التعذيب والإكراه وغيره إذا كان القضاء يبطل أقوالهم إذا كان الحصول عليها قد تم عن طريق الغش أو الإكراه ، ولو كان الإكراه لم يزد عن أن يكون " بتهديد المتهم بالضرب ( وليس ضربه فعلا ) أمر بالقبض على زوجته أو والدته أو على أي شخص عزيز عليه أو بحرمانه من الطعام والسجاير أو قص شاربه أو البصق في وجهه أو طلاء وجهه أو جسمه بطلاء أو الإمساك بملابسه بشدة وتمزيقها أو دفعه بالقوة أو حرمانه من الاتصال بأهله أو وضعه في زنزانة مظلمة بمفرده لعدة أيام قبل التحقيق ".. كما يقول القضاء وشرّاح القانون ؟..

ما جدوى هذه القسوة إذا كانت النتيجة براءة المتهم بسبب تعرضه لها وقد لا يكون لأي سبب آخر . إلا إذا كان المقصود هو " معاقبة " بعض الناس بالحبس والسجن والضرب تحت غطاء اتهام معلوم مقدما أن المحاكم لن تعاقبه عليه . إنه إذن اغتصاب لسلطة القضاء لأنهم حكم ينفذ قبل أن يصدر من سلطته الدستورية .

بقى أن نعترف نحن بأنه بالرغم من ثبوت التعذيب على أجساد ضحاياه وبالرغم من ثبوت التزوير في المحاضر ، فإن أحدا من الذين ارتكبوه لا يقدم الى المحاكمة ، أو يعاقب ، وقد حيرتني مدة طويلة معرفة السبب في هذا . ما الذي يمنع المحكمة حين يبطل الاعتراف للتعذيب أن ترفع الدعوى العمومية على من قام به وتأمر بالقبض عليه وهي سلطة مخولة لها في القانون . ما الذي يمنع رجل النيابة المحقق حين يرى بين أيديه محضرا رسميا مزورا تزويرا فاضحا أن يأمر بضبط محرره ويتخذ ضده الإجراءات التي يأخذها عادة ضد بقية خلق الله من غير ضباط الشرطة . أعتقد أن السبب هو جسامة العقوبة . فما يعتبر جريمة ضرب عادية عقوبتها الحبس والغرامة تصبح جناية عقوبتها الأشغال الشاقة . وعقوبة تزوير الأوراق الرسمية الأشغال الشاقة أيضا . فما أن تظهر واقعة مسندة الى أحد الضباط حتى تتداعى إنسانيا صورة هذا الضابط الشاب "المأمور" ومصيره بالغ التعاسة فيما لو اتخذت ضده الإجراءات القانونية . فيسانده أشخاص كثيرون من زملائه ورؤسائه ومرؤوسيه لحمايته من المصير التعس . وليس هذا غريبا ، فكل العاملين في حقل الأمن أو القضاء أو المحاماة يعرفون أنه منذ تشديد عقوبة جلب المخدرات الى حد الإعدام كثرت أحكام البراءة .

على أي حال هذه قضية أخرى تتصل بسياسة التجريم وليس بسياسة الأمن . الذي يشغلنا ويشغل الناس الآن ، ولا بد أن يشغل السيد وزير الداخلية هو أن نتائج سياسة الإجهاض قد أثبتت فشلها أمنيا وأساءت حتى الى أجهزة الأمن وأنه لا بد من العدول عنها ليسود القانون .
والله الموفق ……

28/9/1983 .







السبت، 28 أبريل 2018

بيان طارق / د.عصمت سيف الدولة .




بيان طارق .

د.عصمت سيف الدولة .

إن قيام التنظيم القومي الثوري الواحد " الطليعة العربية " يواجه مشكلة أساسية هي : كيف ينشأ من قلب الواقع العربي، ويتجاوز هذا الواقع ذاته ؟ فقد أصبح مسلماً أن وجود الطليعة العربية ، تنظيما قوميا واحدا ، ضرورة حيوية بالنسبة إلى مصير الأمة العربية . وأغلب الشروط المتطلبة في هذا التنظيم القومي متفق عليها بشكل عام . ولكن ليس ثمة اتفاق على الخطوط المتطلبة لإنشائه . فكيف تولد " الطليعة العربية " . ..؟
بصرف النظر عن التفاصيل فإن هناك خمسة أساليب يمكن طرحها لمولد الطليعة القومية، على افتراض الوحدة في الفكر الطليعي، وعلى افتراض جدية الرغبة في وجود تنظيم قومي ثوري واحد

أولاً – الأسلوب الأول  :

أن تنشأ " الطليعة العربية " بمبادرة من إحدى السلطات التقدمية الحاكمة في الوطن العربي ، والجمهورية العربية المتحدة هي المرشحة لهذه المبادرة ، وكل الإمكانيات اللازمة متوافرة في الجمهورية على ما يبدو . كما أن وجود جمال عبد الناصر عامل هام في تطلع الجماهير العربية إلى القاهرة وإلى جمال عبد الناصر شخصياً في انتظار مبادرته لحل مشكلة مولد التنظيم القومي الواحد . ويكاد هذا التطلع يشل مقدرة القوى العربية الثورية على مجرد تصور إمكان بداية غير مبادرة القاهرة إلى تنظيم تلك القوى في تنظيم قومي واحد تحت قيادة جمال عبد الناصر ، إلا أن هذا الأسلوب يصطدم بعقبات حقيقية تتلخص فيما يلي

1 ـ  كون عبد الناصر في مركز القيادة في ج.ع.م لا ينفي أن الجمهورية دولة ، وأنه هو نفسه رئيس دولة بكل دلالة الكلمة ، فهي، وهو بصفته رئيسها ملتزمان بالتصرف، والتحرك خارج حدود الجمهورية في نطاق القيود التي يفرضها الوضع الدولي من ناحية، ومسؤولية تلبية حاجة الشعب العربي هناك من ناحية أخرى ، وهذه القيود تحدد للجمهورية العربية المتحدة كدولة ولرئيسها جمال عبد الناصر أغراضاً قد لا تتفق مع متطلبات النضال القومي ، يتجسد هذا في امتناع عبد الناصر عن القيادة المباشرة لنضال الجماهير العربية عن طريق تنظيم قومي ثوري واحد ، وهي مهمة هو مرشح لها بصفته الشخصية، ولكنه غير قادر عليها بصفته رئيس دولة .
إن إعلان جمال عبد الناصر نفسه ، في عشرات المرات والناسبات أنه لن يأخذ على عاتقه زمام المبادرة لمولد هذا التنظيم بالرغم من دعوته له وإيمانه بضرورته وتأكيده دائماً بأن مولده يقع في نطاق مسؤولية القوى العربية الثورية – وليس هناك أي أمل في أن يراجع عبد الناصر موقفه هذا – هو موقف يستند إلى معرفة عبد الناصر بعديد من العوامل الموضوعية التي تحول دون هذه المبادرة ، منها ما يلي
أ – إن الضغوط التي تعرضت لها ج.ع. م تضع في المرتبة الأولى من مهمات القيادة فيها ضمان سلامة الحكم وأمن الدولة ، وقد استطاعت ج.ع.م فعلاً أن تكون لنفسها أجهزة ذات كفاءة عالية في ضمان أمن الدولة، والمحافظة على سلامة النظام في مواجهة محاولات متعددة من قوى عالمية، وعربية تسعى بكل الطرق لإسقاط النظام، وقيادة عبد الناصر . ولا شك في أن أجهزة ج.ع.م. تؤدي دورا نضاليا جديرا بالثقة والدعم في محافظتها على قاعدة النضال العربي تحت قيادة جمال عبد الناصر ، وهو الضمان الوحيد المتاح في غيبة التنظيم القومي للمحافظة على إنجازات النضال العربي في السنين الأخيرة . إلا أن طبيعة المعركة التي تخوضها ج.ع.م. من حيث هي منصبة أساسا على أمن الدولة انعكست على أجهزتها فكرا وأسلوبا  :
1) فمن ناحية الفكر تكرس في أذهان تلك الأجهزة ، من فرط انتباهها لمهمتها المحدودة ، نوع من الإقليمية، فأصبح تفكيرها محصور في سلامة ج.ع.م. كدولة دون إمكان تجاوز هذا الموقف للنظر إلى تلك السلامة داخل إطار سلامة الأمة العربية، فلم تستطيع الأجهزة أن تفهم، أن أسلم مكان ل ج.ع.م. وقيادتها أن تكون في موضع القلب من دولة الوحدة العربية ، وأدى هذا النظر الضيق إلى أمرين متداخلين بالغي الخطورة على مستقبل النضال العربي، وعلى سلامة ج.ع.م نفسها كقاعدة للنضال العربي .
أولهما :
أن الأجهزة المنوط بها مهمة الدفاع عن الجمهورية، أصبحت تنظر إلى قضايا الوطن العربي، وتعالجها على ضوء مصلحة الجمهورية العربية " كدولة " أي تنظر إلى النضال العربي وتعالجه بطريقة إقليمية .
ثانيهما :
أن ذلك أدى تلقائياً إلى الأمر الثاني، وهو اتجاه تلك الأجهزة إلى البعد بالجمهورية – ما أمكنها – عن مخاطر النضال القومي، ومتاعبه، يتجسد هذا الاتجاه في الشعارات التي ترفع من أن الوحدة العربية تقتضي أولاً الوحدة الوطنية، وأن على كل شعب عربي، أن يحل مشاكله الخاصة ، وحتى حينما طرح شعار وحدة القوى الثورية العربية، وضعت الجمهورية على عاتق تلك القوى مهمة توحيد نفسها في داخل كل قطر على حدة ، وحتى هذا الشعار الأخير نفسه تنشره الجمهورية وتدعو له على أساس أنه جبهة بين عدة قوى عربية ، ولا تخفي بعض أجهزة الإعلام والصحف في الجمهورية أن تلك الصيغة " الجبهوية " مقدمة كبديل عن الحركة العربية الواحدة، وعلى حسابها ، وقد أدى ذلك إلى أن الأجهزة المتاحة في ج.ع.م تفقد بالتدريج، أو تفتقد الكفاءة الفكرية والعقائدية اللازمة، لأية مساهمة مجدية في النضال القومي الجماهيري . وأول خصائص هذه الكفاءة النظر إلى المصالح الإقليمية ومعالجتها على ضوء مصلحة الأمة العربية ككل ، أي من موقف قومي بحت .
2) ومن الناحية الخاصة بالأسلوب فإن نوع الأسلحة التي تستعملها القوى المعادية للجمهورية العربية المتحدة ( السرية المطلقة – التجسس – الإغراء المادي – العملاء – الفتن – التخريب ..إلخ ) حتم على أجهزة الجمهورية أن تستخدم أسلحة من نفس النوع للدفاع عن الجمهورية، وإبطال مفعول الأسلحة المعادية ، وقد استطاعت الجمهورية أن تعطل كل الأسلحة التي وجهت إليها ، إلا أن هذا قد طبع أسلوب أجهزة الجمهورية بهذا الطابع الذي هو أسلوب كفء في مواجهة الأعداء ولكنه أسلوب فاشل في تنظيم الجماهير، وتحريكها، وقيادتها، وما يقتضيه كل ذلك من تنمية الثقة المتبادلة، والقيادة الجماعية، والنقد الديمقراطي، وتقسيم العمل .
لهذا فإن هذه الأجهزة لا تتمتع بأية كفاءة في تنظيم الجماهير، وقيادتها، وقد فشلت في كل مرة حاولت هذا ، أمثلة هذا الفشل في سورية واضحة ، وقد ترتب على هذا أن تلك الأجهزة قد فقدت نهائياً ثقة الجماهير العربية، وأصبح مجرد الاتصال بها، والتعامل معها، مصدر شبهة، ومبرر اتهام بالانتهازية، والنفعية .
ب – إن الجمهورية العربية المتحدة حاولت العمل الجماهيري في داخلها بالاتحاد الاشتراكي العربي على أساس الالتزام بميثاق العمل الوطني ، والاتحاد الاشتراكي العربي والميثاق كلاهما في موضع التجربة على المستوى الفكري، والمستوى التنظيمي، ولم يتبلور أي منهما في فكر محدد، أو تنظيم متكامل ، مؤدى ذلك أن تحويل الاتحاد الاشتراكي العربي إلى منظمة قومية، أو تحويل الميثاق، إلى ميثاق قومي تجربة ، حتى لو كانت ممكنة ، فهي غير موثوقة، لأنها لم تثبت نجاحها حتى في حدودها الإقليمية ، كما أن هذا التحويل يصطدم بالخصائص الإقليمية التي تطبع الاتحاد الاشتراكي العربي، والميثاق كليهما ، وقد فشلت فعلاً محاولات نقل تجربة الاتحاد الاشتراكي العربي إلى أقطار أخرى في شكل منظمات تغدو به ميثاقاً وحركة بالرغم من أنها تحمل ذات الاسم، وبالرغم من النوايا الطيبة التي كانت تأمل من ورائها أن تكون تنظيماً قومياً واحداً، ولو عن طريق التقارب التدريجي .
جـ - بالإضافة إلى هذه العقبات ذات الصبغة العملية ترد عقبة مبدأيه مستمدة من خبرة النضال الثوري الجماهيري في العالم، وفي الوطن العربي ، إذ أن هذه الخبرة العينية قد أكدت في كل مرة أن إنشاء التنظيمات الجماهيرية عن طريق القيادة تسلب الرابطة بين تلك الجماهير أحد شرائطها الأساسية فتصبح تنظيمات فردية ، فعندما تتولى القيادة إنشاء التنظيم
تكسب صفتها كقيادة قبل نشأة التنظيم .
تدعو إلى التجمع حولها في التنظيم .
تختار الكوادر القيادية في هذا التنظيم .
ويترتب على ذلك :
1) أن تظل القيادة " دائماً " فوق التنظيم الذي أوجدته، فتحول بالتالي دون التطور الديمقراطي، والثوري، للتنظيم، ومن داخله ، إذ يصبح النشاط الديمقراطي، والثوري مباحاً على ألا يصل إلى حد نقد القيادة، أو تغييرها .
2) كما أن الدعوة إلى التجمع في تنظيم حول قيادة معينة، يحول هذا التنظيم إلى تنظيم القيادة، وليس تنظيماً للأمة العربية ، وينعكس هذا على مقدرة التنظيم في مواجهة مشكلات النضال العربي، في مواقع بعيدة عن اهتمامات القيادة ،ثم انه يعرض التنظيم ذاته إلى ما تتعرض له القيادة من انتكاس، أو تراجع، أو انحراف .
3) أن تولي القيادة اختيار الكوادر بعيداً عن الديمقراطية التنظيمية – لأن التنظيم لم يكن موجوداً أصلاً قبل اختيار الكوادر – يحصر التنظيم منذ نشأته في مضايق التقدير الشخصي والتجارب المحدودة التي لابد لها من أن تكون إقليمية بحكم الحصر الإقليمي الذي يفرضه واقع التجزئة في الوطن العربي ويتضاعف هذا وينكشف كلما اتسع التنظيم .
إذ تتولى القيادة، شخصيا،ً اختيار ما يليها من مستويات، وهذه تختار ما يليها .. إلخ وهكذا تصبح الرابطة الحقيقية في التنظيم مستندة إلى علاقات شخصية مجردة تماماً من المبرر الموضوعي، أو العقائدي، وعندما يصل الأمر إلى هذا الحد، يكون التنظيم قد أصبح مؤسسة من الأشخاص الذين تربطهم روابط خاصة لا علاقة لها بالمتطلبات الموضوعية لنضال الأمة العربية ، فلا يلبثون أن يتخذوا من التنظيم أداة لعزل القيادة عن القواعد في داخله، وعزل التنظيم ككل عن الجماهير خارجه ، أو مطاردة من يتوقعون منهم أن يكونوا منافسين لهم في مراكزهم القيادية ، ويؤدي هذا – وغيره – إلى أن ترفض عناصر ثورية مجرد الزج بنفسها في هذا الجو التنظيمي، وصراعاته، الانتهازية .
هذا، إذا نشأ التنظيم عن طريق القيادة، أي التجمع حول القيادة ، أو من أعلى ، فإذا أضيف إلى كل هذا أن تكون القيادة الداعية المنشئة في السلطة فسيضاف إلى كوادر التنظيم، وجماهيره، أكثر المنافقين، والانتهازيين مقدرة على التسلل، ويصبح التنظيم مطعماً بمجموعة نشيطة من أردأ العناصر التي لا تلبث أن تشيع الفساد في التنظيم ذاته ، وقد تستطيع أن تطرد منه أفضل من فيه، وأن تنحرف به عن غاياته المعلنة .
إن كل هذا، كان الحصيلة الفعلية لخبرة ثلاث محاولات متتالية أراد بها الرئيس جمال عبد الناصر أن يقيم تنظيماً جماهيرياً في ج.ع.م بدأت بهيئة التحرير، ثم الاتحاد القومي، ثم الاتحاد الاشتراكي العربي ، فبالرغم من كل المحاولات الجادة الدؤوبة، والمجهودات الضخمة التي بذلت ، وبالرغم من وجود القيادة المقبولة، ثم وجود دليل عمل مكتوب ، لم يكن ممكناً – على أي وجه – أداء تلك الخطوة الأساسية الأولى : فرز الصادقين من المنافقين ، لم يكن هذا نتيجة لأخطاء شخصية، بل مرده، أن أسلوب الإنشاء لا يسمح موضوعياً بهذا الفرز .
ولما كانت ج.ع.م لا تستطيع عملياً أن تتولى القيادة إلى خلق التنظيم القومي، إلا عن طريق جمال عبد الناصر ، وهو لا يريد ، أو عن طريق أجهزتها، وهي غير مؤهلة لهذا العمل القومي ، أو عن طريق الاتحاد الاشتراكي العربي، وهو غير صالح لأنه منظمة إقليمية، ذو طابع إقليمي، ويباشر مهماته فعلاً بمنطق إقليمي خالص ، بالإضافة إلى العجز الراجع إلى وجود القيادة في السلطة ، فلكل هذه الأسباب يستحيل على ج.ع.م – لفترة غير معروفة نهايتها – أن تأخذ زمام المبادرة فتتصدى لحل مشكلة مولد التنظيم القومي " الطليعة العربية " بالرغم من تطلع الجماهير العربية إلى هذه المبادرة المستحيلة موضوعياً ، ويصبح محتوماً البحث عن أسلوب آخر

ثانيا - الأسلوب الثاني :

أن يتحول أحد التنظيمات القائمة في الوطن العربي إلى طليعة عربية ، وأول ما يلاحظ على هذا الأسلوب، أن ليس ثمة ما يمنعه ، بمعنى أنه لا توجد أية قوة قادرة على أن تحول بين أي تنظيم قائم، وبين أن يتحول ليكون هو التنظيم القومي الواحد أو " الطليعة العربية "، إذ لا يقتضي هذا من أي تنظيم يدعيه إلا أن يستقطب الجماهير العربية، على مستوى الوطن العربي، على وجه يعزل به التنظيمات المنافسة في قيادة الجماهير إلى غاياتها القومية ، وعندما يتحقق له هذا لا يكون محتاجاً إلى شهادة من احد بأنه التنظيم القومي لأغلبية الشعب العربي ، إذ تكفي قيادته الفعلية للجماهير وارتباطها به دليلاً على صحة ما يدعيه .
إنما الذي يمنع تلك التنظيمات، هو أنها لا تملك الخصائص اللازمة، أو القدرة على أن تكون كذلك ، وعندما نرى أن أغلب تلك التنظيمات تنادي بضرورة قيام التنظيم القومي الواحد، وأنها على استعداد لتذوب فيه متى قام، فإنها بذلك تعترف بعجزها عن أن تكون هي ذلك التنظيم .
وقد حاول حزب البعث، وحاولت حركة القوميين العرب، أن يكون أيهما التنظيم القومي الواحد عن طريق الاستقطاب التنظيمي على المستوى القومي ، ولكنهما فشلا فشلاً ذريعاً ، وبدلاً من اطراد النمو، وقع التنظيمان فريسة انشقاقات مطردة بحيث لا يمكن القول، بأن، أياً من البعث، أو حركة القوميين العرب في طريقه إلى أن يكون التنظيم القومي الواحد، والقادر على قيادة القوى التقدمية على الصعيد العربي . بل أن كلاً منهما يتجه موضوعياً إلى الزوال من خلال الانقسامات الداخلية المتتالية ، ومع أن تبرير هذا لا يدخل في موضوعنا إلا أنه يمكن القول أن مرجعه إلى أن أياً من التنظيمين لا يملك المقدرة الفكرية، أو التنظيمية ليكون تنظيماً قومياً في الوطن العربي، ولهذا ذاته أسباب تاريخية لا مبرر لسردها ، المهم، أن عجز أيهما الفادح عن قيادة النضال القومي قد ثبت بشكل لا تجدي معه السفسطة، أو الاعتذارات ، وعندما تولت قوة أخرى ( جمال عبد الناصر ) قيادة النضال العربي مع وجود التنظيمين وبعيداً عن أي اتصال بهما وعلى وجه لا يقيم وزناً لوجودهما كانا قد انتهيا تاريخياً وموضوعياً ، ومنذ عشر سنوات والأحداث القومية في الوطن العربي تسير غير متوقفة على وجود، أو عدم وجود حزب البعث، أو حركة القوميين العرب، بحيث لو لم يكونا موجودين لما اختلفت مسيرة النضال العربي .. إن هذا هو أقسى حكم تاريخي يمكن أن يصدر ضد تنظيم جماهيري ، وهو حكم صادق دائماً لأنه الواقع ذاته، وأقصى ما يمكن أن يقال في التنظيمين، أن كلاً منهما كان ذيلاً للنضال العربي، الذي تحركه، وتقوده القاهرة .
ولقد اقتسم التنظيمان مراحل الذيلية ، فكان البعث ذيلاً حتى عام 1959، ثم حلت محله حركة القوميين العرب ، المهم أن قيادة التنظيمين انكشفت عندما كانت تستمد قوة الإقناع في مواجهة قواعدها عن طريق الادعاء بإنها على صلة بجمال عبد الناصر، أو أنها مؤيدة من قبل جمال عبد الناصر، أو أنها الممثلة للناصرية ، وكان طبيعياً – إذن – أن تتطلع تلك القواعد – من فوق رؤوس القيادة – إلى القائد الحقيقي، وكانت على استعداد دائماً للتخلي عن قيادتها، لو أن جمال عبد الناصر بادر إلى إيجاد الصيغة التنظيمية المناسبة . انكشفت إذن قيادة هذين التنظيمين وسقطت حركياً، ولكنها كانت ساقطة من قبل فعلاً ، فمجرد أن تسبقها الحوادث في الوطن العربي يدل على أنها كانت غير واعية بالأحداث، وبمشكلات الوطن العربي، والمواقع القابلة للتفجر، والقوى المرشحة لقيادة التفجير ، إن تلك اللحظة التي تفجرت فيها ثورة 23 يوليو ( تموز ) بقيادة جمال عبد الناصر في مصر ، مركز الثقل في الوطن العربي بعيداً عن علم وبدون مساهمة من حزب البعث أو حركة القوميين العرب قد تركت التنظيمين على مسافة طويلة من التخلف وراء الأحداث لم يستطع أياً منهما أن يعوضها بعد ذلك .
مهما تكن المبررات، أو الأعذار التي ينتحلها قادة التنظيمين ، أو حتى لو كانت أعذارهم حقيقية ، فإن هذا لا يغير من الواقع الموضوعي شيئاً ، والواقع الموضوعي هو أنه منذ 23 تموز ( يوليو ) 1952 لم يعد حزب البعث، أو حركة القوميين العرب، يلعب دوراً قياديا،ً أو حتى أساسياً في تطور النضال العربي ، ثم أن ضحالة وعي قيادة التنظيمين انقلبت إلى مأساة حينما احتكت بالقيادة الجديدة للنضال العربي ، وقد كانت المأساة متشابهة بالنسبة إلى قيادة كل من التنظيمين ، فقد حاولت كل قيادة منهما في ظروف مختلفة أن " تحتوي " جمال عبد الناصر، وأن تكسب من الموجة الثورية التي حركها . حاولت قيادة البعث هذا في ظل الوحدة بين سورية ومصر سنة 1958 ، وبلغ بها عدم الوعي أنها لم تقدر – حتى، وهي في أقرب موقع من جمال عبد الناصر – أنها أقل بكثير من أن تحتويه لأنها متخلفة عنه، بدليل أنه سبقها، وتجاوزها، وحقق بدونها ما كانت تعيش على وهم أنها وحدها القادرة على تحقيقه ، بل أنها لم تفطن إلى الدلالة العميقة لقبولها حل حزب البعث كشرط لتحقيق الوحدة، فعندما يكون إلغاء أداة قامت من اجل الوحدة شرطاً مقبولاً منها لتحقيق الوحدة لا يعني هذا إلا أنها أداة قاصرة عن تحقيق غاياتها، أي أداة فاشلة ، وبدلاً من أن يدرس البعثيون، ويبحثوا عن أسباب الفشل أرادوا – وهما – ان يضموا إلى حزبهم الفاشل القيادة التي كشفت فشلهم ، ثم عادوا – فيما بعد – إلى ذات الأداة بعد أن ازدادت قصوراً ، ولم تكن سياسة الاحتواء أسلوباً نضالياً بل كانت انتهازية جاهلة من قيادة البعث ، إذ كانت تعرف أن مدى بقائها كقيادة جماعية متوقف على مدى صلتها بجمال عبد الناصر، فكانت سياسة الاحتواء محاولة للاحتفاظ بقيادة القواعد التي كان ولاؤها واحترامها قد تحولا منذ زمن نحو القاهرة ، فلما فشلت تلك القيادة في أن " تضع عبد الناصر في جيبها " انقلبت عليه واصطدمت به فتمزق البعث على مستوى القواعد، والكوادر، لأنه فقد قيادته، ولم يكسب قيادة جديدة .
من ناحية أخرى تولت حركة القوميين العرب، بمنتهى الغباء القيادي، تكرار التجربة، فقد واتتها الفرصة للالتحام بجمال عبد الناصر، بعد انقلاب القيادة البعثية عليه، وحظيت الحركة بما لم يحظ به البعث، من مساعدات، ودعم ، وكما حدث في البعث، بدأ ولاء القواعد يتجه إلى القاهرة ، وبدأ القادة يستجدون ولاء القواعد، بقدر ما يحققونه، أو يدعونه، من اتصال، أو تمثيل لجمال عبد الناصر ، وكما فعلت قيادة البعث، حاولت قيادة الحركة احتواء جمال عبد الناصر، كل الفرق، أن البعث – القيادة – أراد أن يحتويه تنطيمياً عن طريق لجنة مشتركة " بعثية – ناصرية " اقترحها ميشيل عفلق سنة 1959 تتولى قيادة الاتحاد القومي والدولة ، فجاءت قيادة حركة القوميين العرب وأرادت أن تحتويه فكرياً ، ولمدى عامين كانت كتابات القيادة في مجلة " الحرية " عبارة عن ملاحقة لما يقول جمال عبد الناصر، لمحاولة " تنظيره "، ولم تكن الكفاءة الفكرية لتلك القيادة قادرة، لا على الملاحقة، ولا على التنظير، فلم تفعل شيئاً، إلا أن تقدم لأعضائها، وقواعدها، أكبر مجموعة من الأفكار الملفقة ، ولم يكن ذلك كله اجتهاداً فكرياً حتى لو كان خاطئاً، بل كان انتهازية فكرية ، كان هّم القيادة، أن تحتفظ بمواقعها القيادية، وكانت – ممثلة في محسن إبراهيم – تعرض نفسها أسبوعاً، وراء أسبوع، عرضاً رخيصاً، على صفحات مجلة " الحرية " لتثبت لجمال عبد الناصر أنها تستطيع أن تكون " سوسولوف " الناصرية . ولعل محسن إبراهيم، بالذات، كان يحلم بهذا الموقع في قصر القبة، ووراءه باقي قيادة الحركة.
ولما لم ينجحوا، انقلبت القيادة على جمال عبد الناصر، وبدأت أحلام اليسار العربي، والماركسية العربية التي أدت إلى خروج القيادة تماماً عن الخط القومي، وكانت نتيجة ذلك ،أن تصبح قيادة حركة قومية بحكم نشأتها، قيادة لا قومية بحكم فكرها الجديد،وأن تتمزق قواعد حركة القوميين العرب ، وهو ما حدث، فقدت قيادتها، ولم تكسب قيادة جديدة .
لماذا حدث كل هذا ؟
لأن، أياً من التنظيمين، لم يكن يملك الخصائص الفكرية، والتنظيمية، والقيادية التي تمكنه من قيادة الظروف في الوطن العربي، فسحقتهما الظروف ، ولما كانت مهمة التنظيم القومي الواحد " الطليعة العربية "، أن يقود الظروف العربية، ويغيرها، ويتجه بها إلى المصير الذي يحدده ، فإن أياً من البعث، أو حركة القوميين العرب، أو ما تبقى منهما، لا يصلح للتحول إلى تنظيم قومي، لأنه عاجز عن هذا التحول .
ما ينطبق على هذين التنظيمين ينطبق – من باب أولى – على أي تنظيم غيرهما، لأنه مهما كان من أمر فشلهما، فإن الذي لا شك فيه، هو أن كلاً منهما بدأ من المنطلق الصحيح، على الطريق الصحيح، بالصيغة القومية الصحيحة ، ولكنهما ذهبا ضحية الضحالة الفكرية المريعة، خاصة على المستوى القيادي ، وملاحظة هذا العامل مهمة جداً في تقدير قواعد البعث، وقواعد حركة القوميين العرب ، كثير من الذين خرجوا، وقليل من الذين لا يعرفون كيف يخرجون ، أولئك الشباب الذين كانوا ضحايا قياداتهم – بقدر ولائهم للخط القومي، ورفضهم الإقليمية – من أفضل أنواع الشباب، ومن أكثرهم نقاء، ومقدرة على العمل الثوري ، كما أن تجربة التنظيمين تعتبر تجربة رائدة للتنظيم القومي في الوطن العربي، فلابد من الاستفادة منها إلى أقصى درجة لأي تنظيم قومي، يريد أن يكون " طليعة عربية " .
نعني، أنه يجب النظر إلى البعث، والقوميين العرب باعتبارهما مشروعين فاشلين " للطليعة العربية " والاستفادة من هذا الفشل ، ومن أجل هذا خصصنا هذين التنظيمين بالحديث، مثلاً، لمعرفة هل من الممكن أن يتحول تنظيم قائم في الوطن العربي إلى " الطليعة العربية "؟ ، إذ أن كل منهما كان يتجه – بالنية على الأقل – إلى أن يكون تلك الطليعة ، وبرغم هذه النية فشلا في التنظيم على المستوى القومي ، وطبيعي أن المنظمات الإقليمية التي تفتقد – بحكم نشأتها واتجاهاتها – حتى مجرد الرغبة في أن تتحول إلى تنظيم قومي أكثر عجزاً عن هذا التحول .
ومع ذلك فقد عرضت أخيراً صيغة صاحبها قدر كبير من الحماس الدعائي الذي يعرضها كأسلوب لمولد التنظيم القومي الواحد ، تلك هي وحدة القوى الثورية العربية ، فلابد من معرفة ما يمكن أن تؤدي إليه هذه الصيغة .

ثالثا - الأسلوب الثالث

هو التقاء كافة المنظمات العربية الثورية في وحدة عمل نضالي، بكل ما يتطلب ذلك من تبادل الخبرات الفكرية، والحركية، والتعاون، وتنسيق الجهود، ثم بقبول التعايش معاً، ومؤقتاً ، ولسنا نريد هنا أن نثير مشكلة تمييز المنظمات الثورية، من المنظمات غير الثورية، من بين المنظمات العديدة في الوطن العربي ، ومقياس هذا التمييز، وكيفية الاتفاق عليه بين المنظمات المعنية، فهو أمر مهما كانت صعوبته، من الممكن التغلب عليه عن طريق تحديد مواقف المنظمات من قضايا خاصة مثل الموقف من الاستعمار، أو الصهيونية، أو الاشتراكية ... إلخ وأصحاب الدعوة إلى التقاء القوى الثورية في الوطن العربي يطرحون فعلاً هذا المقياس، وإن كانوا يختلفون في مدى شموله، على أي حال، فإن طبيعة المعركة التي تخوضها الأمة العربية، وتنوعها ، فهي معارك تحريرية في بعض الأحيان ، ومعارك اشتراكية في البعض الآخر ، ومعارك وحدوية في بعض ثالث ،كل هذا، قد يفرض على المناضلين في سبيل أي من الحرية، أو الوحدة، أو الاشتراكية الالتقاء، أو التعاون النضالي مع قوى أخرى تتفق معهم في وحدة العدو الذي تناضل ضده، وإن اختلفت معهم في الأهداف النهائية لهذا النضال ، يبدو هذا واضحاً في معركة التحرر من الاستعمار، والصهيونية حيث تضم جبهة المناضلين العرب في سبيل الحرية، واسترداد فلسطين عديداً من القوى التي لا تتفق مواقفها مع هدف الوحدة والاشتراكية ، وهنا يصبح الالتقاء النضالي " المرحلي " ضرورة تفرضها طبيعة المعركة . من هنا يصبح التقاء كل القوى الثورية العربية، أو بعضها في " جبهة " واحدة تتبادل فيها الخبرة الحركية، والتعاون، والتنسيق في نضالها المشترك ضد عدوها المشترك أمراً لازماً لاشك فيه ، غير أنه يكون من الخطأ الفادح أن ينسى دعاة هذا الالتقاء وأطرافه أنه التقاء قوى متميزة، ومختلفة في جبهة مرحلية ، وخبرة العمل الجبهوي، المرحلي، ليست جديدة، لا في التاريخ العربي، ولا في تاريخ النضال الثوري عامة ، إحدى خلاصات هذه الخبرة، وما يعتبر قانوناً للعمل الجبهوي، هو الجمع بين الوحدة والصراع معاً بصرف النظر عما يعلنه جميع الأطراف فيتجه نشاط كل من المنظمات الملتقية في جبهة على محورين
المحور النضالي الموحد، والمؤقت، بالمعركة التي تخوضها معاً .
محور الصراع فيما بينها، إعداداً لما بعد المعركة المشتركة .
وكلما اقتربت الجبهة من النصر في معركتها الواحدة كلما نما الصراع فيما بين أطرافها ، وينتهي الأمر عادة إلى محاولة متبادلة للتصفية والاستئثار بالقيادة بعد تحقيق الأهداف المشتركة ، ولم يحدث أبدا،ً ولا يمكن أن يحدث، أن تنتهي الجبهة بين منظمات مختلفة العقائد، إلى اندماج كامل في منظمة واحدة ، إنما الذي قد يحدث هو أن تستوعب أقوى المنظمات في الجبهة باقي المنظمات، الأطراف، عن طريق امتصاص أغلب قواعدها، أو كوادرها ، والمنظمات أو المنظمة التي تتلاشى هي عادة التي لم تع طبيعة قوانين النضال الجماعي " الجبهوي " وكثيراً ما تشكو تلك المنظمات من أنها كانت ضحية إخلاصها للأهداف المشتركة، وتتهم غيرها بأنهم كانوا يستغلون القضايا العامة لمصلحة حزبية ، هذه الشكوى في حد ذاتها تكشف جهل الشاكين بحقيقة العمل الثوري، وقوانينه التي أكدتها الممارسة التاريخية في جميع أنحاء العالم، وتخفي وراء ما يسمى إخلاصاً للقضية المشتركة ما يتضمن اعترافاً من تلك المنظمات بأن وجودها المستقل لم يكن لازماً للقضية المشتركة ، لهذا فإن المنظمات التي تصفى أثناء الصراع من خلال العمل الجبهوي الموحد تكون قد لاقت ما تستحقه فعلاً ، بعكس هذا تقبل المنظمات المتمرسة بالنضال الجماهيري على الالتقاء مع غيرها من القوى المنظمة والتعاون معها في جبهة مرحلية، وتدعو إلى هذا اللقاء، وقد تقدم في سبيله بعض التنازلات كلما كانت المعركة التي تواجهها تستلزم حشد أكبر عدد ممكن من الجماهير والقوى التي تتفق مع موقفها من تلك المعركة المحدودة . وهي لا تخشى هذا اللقاء لأنها تعلم وتلتزم قوانينه ، فبينما تبذل كل ما تستطيع لدعم نضال الجبهة المشترك في سبيل تحقيق النصر المشترك لا تنسى أنه بعد النصر المرحلي سيحتدم الصراع بين الأطراف جميعاً حول أهداف النضال في المرحلة التالية . وقد يكون هذا في حد ذاته مؤدياً لمزيد من الصلابة في النضال المشترك يعجل بالنصر، ويربط قواعد الجبهة جميعاً بعناصر قيادتها خاصة ، على وجه يسهل مهمة الانفراد بالقيادة فيما بعد ، ولو أخذنا الواقع الموضوعي مقياساً للإخلاص لوجدنا أن هؤلاء أكثر إخلاصاً لعقائدهم وأهدافهم من أصحاب الإخلاص المثالي المجرد الذي لا يمكن التعويل عليه في الصراع الثوري العقائدي .
هذا كله، إذا كانت صيغة الجبهة في حدود الإقليم، ولكن عندما يضاف إليه، أن الصيغة الجبهوية للنضال العربي المطروحة تحت شعار وحدة القوى الثورية تقوم على أساس انفصال إقليمي أيضا، بحيث يصبح العمل جبهويا حتى بين المتفقين على هدف واحد بحكم عزلتهم التنظيمية، والإقليمية ، فإن عوامل عودة كل إلى مواقفه تكون أكثر وضوحا ، أي أن خلاصة ما ستنتهي إليه وحدة القوى العربية الثورية، هو أن تصفى منظمات لحساب منظمات أخرى، أو تنسق – وهذا أرجح – عند شعورها بخطر التصفية ، ثم أن تظل كل منظمة منها محتفظة بطابعها الإقليمي. .
ليس مطلوبا من كل الذين يدعون إلى وحدة القوى الثورية العربية، إلا أن يكونوا مخلصين ، أي، أن يفهموا هذا، ويعترفوا به، ولا ينكروه، ثم لهم أن يلتقوا في جبهة. إن هذا يعني، أنه لا اعتراض على وحدة القوى العربية الثورية، بل هي دعوة إلى لقاء تفرضه فعلا طبيعة المعركة التي تواجهها الأمة العربية المجزأة ،ويفرضه تنوع أهداف النضال العربي المرحلي، إلا أن هذا كله بعيد عن كيف يوجد في الوطن العربي تنظيم قومي واحد يجسد الوحدة العربية في ذاته، ويدخل معارك التحرر العربي في أي مكان كأداة نضال واحدة تحت قيادة واحدة ، وعندما يوجد هذا التنظيم سيكون له ، ويكون عليه ، أن ينظم علاقات مع كافة القوى التي تلتقي معه في أرض المعركة، ولو اختار صيغة جبهوية .
ولكن الحديث عن الجبهة بين منظمات إقليمية متميزة، ومختلفة، باعتبارها طريقا إلى اندماجها في تنظيم قومي واحد، هو حديث مثالي غير قابل للتحقق، لأنه يتجاهل طبيعة الصراع الذي لا بد منه بين تلك المنظمات، بحكم اختلافها العقائدي، وغاياتها البعيدة ، وهو صراع قد يخف، أو يؤجل مرحليا، ولكنه لا يمكن إلا أن يبقى عقبة في سبيل الاندماج الكلي . وبدون اتهام الدعوة إلى وحدة القوى العربية الثورية في جبهة، أو التشكيك في نوايا أحد من الداعين إليها ، نقول أنه عندما تطرح تلك الدعوة كبديل تستغني به الجماهير العربية عن تنظيمها القومي الواحد، فإنها تكون دعوة ملتقية – في التحليل النهائي – مع أعداء الأمة العربية في تكريس التجزئة، وتثبيت عزلة الجماهير العربية داخل الدول الإقليمية .
لهذا فإن موضوع الجبهة بين القوى الثورة العربية، موضوع لا يتصل بمولد "الطليعة العربية" . وستظل غيبة "الطليعة العربية" سببا أساسيا في فشل الجهود الداعية إلى الالتقاء الجبهوي بين القوى العربية حتى لو اقتضت بعض المعارك الملحة ذلك اللقاء . مهما يكن من أمر، فإن التقاء الأحزاب الإقليمية، أو تقاربها أو تحالفها في جبهة، ليس أسلوبا لمولد "الطليعة العربية" .

 رابعاً – الأسلوب الرابع

ثمة أسلوب رابع يراود بعض المثقفين في الوطن العربي يمكن أن يسمى "أسلوب الصفوة" صيغته – كما يقولون – أن يتنادى الثوريون العرب إلى مؤتمر ينبثق عنه التنظيم القومي الواحد . إن هذا الأسلوب لا يحتاج إلى مناقشة، لأنه إذا استطاع هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم "الصفوة"، أن يعرف بعضهم بعضا، ثم أن يجتمعوا، ثم أن يتفقوا على أي شيء، فإن ما يسفر عنه هذا الاتفاق سيكون حزبا جديدا يضاف إلى عديد من الأحزاب القائمة في الوطن العربي يسمي نفسه الطليعة العربية، أو الحركة العربية الواحدة، ولكن هذا سيظل مجرد ادعاء إلى أن تحصل تلك الصفوة على قواعد بين الجماهير العربية على المستوى القومي ، ثم أن تصارع الأحزاب الأخرى فتصبح قيادة فعلية للنضال العربي . عندئذ يمكن أن يقال أن حزبا عربيا قد استطاع أن يتحول إلى طليعة عربية، وهو غير ممكن . إذ أن الاستعلاء الفردي لا يمكن أن يؤدي إلى تنظيم جماهيري قومي .
الدليل على ذلك أن الذين تراودهم هذه الفكرة غير قادرين على إنجاز تلك الخطوة الأولى، معرفة من هم الذين يمكن أن يتنادوا إلى مؤتمر قومي .

خامساً - الأسلوب الخامس:

لا يبقى إلا الأسلوب الخامس، وهو تكوين (الطليعة العربية) تكوينا جديداً لا يحمل رواسب الماضي من أية حركة، أو أي تنظيم، ويتجاوز فكرياً، وتنظيمياً كل الحركات، والمنظمات القائمة، وذلك بأن يبدأ تكوين (الطليعة العربية) من القاعدة الجماهيرية العريضة، فتنبثق (الطليعة العربية) من الجماهير ذاتها، و تنمو من القاعدة إلى القمة نمواً طبيعياً، وديمقراطيا.
إلا أن هذا الأسلوب الصحيح يصطدم بأربع مشكلات رئيسية:
كيفية إعداد القاعدة الجماهيرية التي تكون هي(الطليعة العربية)، والمرشحة لانبثاق (الطليعة العربية) منها في الوقت ذاته.
كيفية الانتقال بالقواعد، والكوادر المنظمة فعلا من مرحلة تعدد المنظمات إلى مرحلة التنظيم الواحد بدون إحداث فراغ تنظيمي.
كيفية مساعدة الشباب في التخلص من رواسب الحزبية القديمة قبل الانتماء إلى(الطليعة العربية) حتى لا يحملوا إليها رواسبهم.
4 ـ و أخيراً كيف يتم هذا بغير مساعدة الجمهورية العربية المتحدة (الدولة) ،و (الأجهزة)، بدون أن يتضمن أي احتمال صريح أو غير صريح للتناقض مع قيادة القاهرة، أو حتى الوقوف موقفا سلبيا بالنسبة إلى قيادتها المعارك العربية.
ليس من المبالغة في شيء أن نقول أن كل شيء حتى مصير النضال العربي في العشر سنوات القادمة يتوقف على تخطي تلك العقبات. وعندما نرى أن كل القوى في الوطن العربي تدعو إلى قيام تنظيم قومي واحد، ولكنها لا تتقدم خطوة نحو التنفيذ فيجب أن نفهم أنها كلها – بدون استثناء – تقف أمام هذه العقبات بدون أن تعرف كيف تتخطاها. وهكذا تتبلور مشكلة النضال العربي المعاصر في هذه العقبات.
قد يوجد الأبطال الذين يستطيعون التحرك بدون توقف على نوع العقبات، إلا أن هذا كله - لو وجد - مغامرات فردية لا تؤدي إلى شيء يهم الجماهير العربية، إذ أن الذي يهم الجماهير العربية هو كيف تستطيع "هي" أن تحقق مستقبلها على الوجه الذي تريده. و مساهمة الجماهير العربية ذاتها شرط موضوعي لنحقق أي تقدم عربي. أهمية هذه الملاحظة ترجع إلى أن بعض الشباب العربي الذين تمرسوا بالنضال، وتوافرت لهم مقدرة خاصة عليه، يبدأون التفكير في النضال العربي من أنفسهم مفترضين فرضاً غير صحيح هو أن كل الشباب يجب أن يكونوا مثلهم. و ينقلب الأمر بهم إلى اتجاه عقيم، إلى اتهام الناس جميعهم، والاستعلاء على الجماهير العربية، والمن عليها بما قدموا، من قبل أن يصبحوا من أردأ أنواع المناضلين. لا لأنهم غير قادرين على النضال الثوري،بل لإن العمل الجماعي لا ينبني على الأساس الجماهيري إلا حيث يكون العمل الجماعي هو الصيغة العلمية للنضال الثوري. والعمل الجماعي لا ينبني على أساس التفوق الفردي بل هو منوط بمدى ما يتوافر في التنظيم انضباط ،ومدى تعود المناضلين على إسقاط نوازعهم الشخصية، واستعدادهم لقبول رأي الأكثرية، ولو خالف رأيهم.
إن هذا النوع الرديء من المناضلين العرب، منتشر بشكل وبائي في العراق، وفي صفوف ما يسمى بالقوى الوحدوية في سورية، حيث كل فرد على حدة قد يمثل مقدرة نضالية تستند إلى خبرة فعلية، ولكنه مع هذا يظل عاجزاً عن العمل الجماعي المنضبط. وأهمية هذا هنا ألا نتناول معالجة العقبات التي تقف في سبيل مولد الطليعة العربية بمنطق المناضل الرديء. وهذا يقتضي أن تكون المعالجة، معالجة موضوعية على ضوء الاستعداد التام، والصبر على المعالجة، وعدم الخضوع لاستفزاز الأحداث فلا نتسرع، وعدم الخضوع للطموح فلا نندفع، وعدم السقوط في هاوية "الولاء الشخصي" أو الإقليمي، فننسى أن نعالج عقبات تقف في طريق الأمة العربية، ولا تقف في طريق فرد أو في طريق دولتنا الإقليمية: نقول هذا لأننا سنرى كيف أن تخطي تلك العقبات يحتاج إلى وعي ثوري، وصبر ثوري، ونفس بالغ الطول في النضال من أجل مولد "الطليعة العربية"، وأن هذه العوامل ذاتها هي التي ستحول – بقدر التزامها – دون أن يصل الانتهازيون الذين يزايدون على قضايا الوطن العربي إلى صفوف الطليعة العربية، فالطليعة العربية ليست مجرد تنظيم للمنشقين من أحزابهم، أو من لم تقبل تلك الأحزاب انتمائهم إليها، فإن أغلب هؤلاء لا يستطيعون الصبر طويلاً على النضال المنظم. على ضوء دراسة هذه العقبات – ومع الإصرار على "إيجاد الطليعة العربية" – يقترح هذا المشروع أن يكون الحل على الوجه الآتي:
قيام تنظيم انتقالي لمدة محدودة تكون مهمته مقصورة على أعداد القاعدة الجماهيرية اللازمة لمولد الطليعة العربية، وليبقى بعد مولد الطليعة العربية قاعدة جماعية منظمة لها، تتولى الترشيح لعضويتها، وتزويدها بالمناضلين، بعد أن تكون قد أعدتهم فكرياً، وتنظيمياً لهذه العضوية.
وهذا المشروع المقترح يرى أن هذه البداية تحقق أمرين معاً:
الأول: أنها تكون بداية سليمة، وفعلية لمولد الطليعة العربية بتكوين أعرض مستوياتها، وهي القاعدة الجماهيرية، وبهذا ينبثق التنظيم القومي من الجماهير العربية ذاتها صاعداً خلال مدة محددة من هذه القاعدة الجماهيرية لينتهي بالمستويات العليا حتى القيادة القومية، بحيث أنه في نهاية المرحلة الانتقالية يكون قد تحققت في هذا التنظيم قاعدة من الجماهير الواعية بالفكر الطليعي ،والمدربة على العمل معا في سبيل غاية واحدة ،والمصقولة والمفرزة خلال العمل العقائدي والنضالي في فترة الأعداد .في نهاية تلك الفترة يمكن أن يتكون من أصلب عناصرها القيادية مؤتمر قومي تأسيسي تنبثق عنه " الطليعة العربية" تنظيما قوميا، وذلك بدون أن يكون عملها – أي القاعدة الجماهيرية – قبل مولد الطليعة فعلا محسوبا على "الطليعة العربية "، حتى إذا فشلت المحاولة لا يؤثر الفشل في فكرة التنظيم العربي الواحد، ولا تهتز ثقة الجماهير في ضرورته ، أي أن تظل الفرصة متاحة أمام الشعب العربي لمحاولة أخرى لخلق تنظيمه القومي .إن هذا التحفظ ضد عجز الذين يبدأون، فلا ينقلب عجزهم حكما على مصير الشعب العربي أمر لازم بحكم أن الولاء أولا وأخيرا للأمة العربية. ومن خلال هذا التنظيم الانتقالي ستتاح الفرصة كاملة لاختبار الفكر الطليعي، ومدى قدرته على أن يحقق الوحدة الفكرية اللازمة لزوما لا يمكن تجاهله، أو تخطيه لأي تنظيم قومي ، أو تتاح فكرة صقله أو إكماله أو تعديله خلال الممارسة بحيث يصبح عند مولد "الطليعة العربية" على أكثر قدر من النضج، والتكامل، والصلابة، والوضوح ، وأن أي فشل لا يكون محسوبا على "الطليعة العربية "، فلا يهز الثقة، وتتسع الفرصة مرة أخرى لمزيد من الاجتهاد الفكري والطليعي .
الثاني : من ناحية أخرى فإن هذا المشروع المقترح يتغلب على العقبات التي ذكرناها على الوجه الآتي :

1) كيفية إعداد القاعدة الجماهيرية :

يتم هذا بتحقيق الوحدة الفكرية قبل الوحدة التنظيمية، إذ أن النظرية تسبق الثورة دائما، أو يجب أن تسبقها، ليصبح ولاء المناضلين من أجل أهداف أمتهم ولاء عقائديا لهذه الأمة، وليس ولاء حزبيا، أو شخصيا لقيادتهم . ولما كانت مهمة التنظيم هي الأعداد للطليعة العربية، وكانت تلك المهمة مؤقتة في الوقت ذاته فإن مهمته الأساسية لن تكون القيادة السياسية، والنضالية للجماهير العربية – فتلك مهمة الطليعة العربية عندما توجد – بل ستكون أكمال، وتعميق، ونشر الفكر الطليعي، وتثبيته في أذهان الجماهير على الوجه الذي يحقق قاعدة فكرية واحدة تجمعها، أي أن عدم تحمل التنظيم بحكم مهمته الإعدادية، والمؤقتة، لأعباء النضال السياسي سيجعله تنظيما للوعي الفكري، والتوعية غايته تحقيق الوحدة الفكرية في أعرض قاعدة جماهيرية. و معاركه كلها ستكون بصيغة أساسية متجهة إلى طرد كل فكر مناقض للفكر الطليعي، و تثبيت هذا الفكر الطليعي في كل مكان. و هذا ذاته سيفرز المناضلين أيا كانت مواقعهم، لأن مدى الوعي سيتحدد بمدى مقدرة الواعين على التأثير في مواقعهم بدون أوامر قيادية. أي أنه من خلال مراقبتهم و هم يتحركون في كل الظروف بدون توجيه يمكن بسهولة معرفة إلى أي مدى يوفر وعيهم العقائدي في تصرفاتهم، ومواقفهم الذاتية, أي يمكن معرفة مدى التزامهم العقائدي قبل معرفة مدى مقدرتهم على الانضباط التنظيمي، وهذا في منتهى الأهمية بالنسبة إلى التنظيم القومي، لأن القيادة التنظيمية هي التي تأخذ عادة القرارات الحركية، و تقوم القواعد بتنفيذها -اتكالا- على أن القيادة قد أخذتها في حدود العقائد التي تربط، أو من المفروض أن تربط ، القواعد بالقيادة. و قد أثبتت خبرة الأحزاب في الوطن العربي، وخاصة حزب البعث، وحركة القوميين العرب، أن القيادات كثيراً ما كانت تأخذ قرارات حركية لا تتفق مع الخط العقائدي المعلن للتنظيم اتكالا على أن القواعد لا تتوفر لديها المقدرة الفكرية على مراجعتها, أو محاسبتها. وهذا التواكل المتبادل لعب دورا مدمرا في التنظيمين. وكلما عرفت القيادة، أن القواعد تملك دائما الوعي الفكري بالتزامها العقائدي، وتستطيع أن تحتكم إليه، وتحاسب قرارات القيادة على ضوئه، كلما كان هذا حائلا دون انحراف القيادة، ودفعا لها على الاهتمام بتنمية مستواها الفكري, أو التخلص منها قبل أن تنحرف بالتنظيم كله. لهذا يعتبر التكوين الفكري قبل التكوين التنظيمي شرطا لازما لنجاح أي تنظيم. وإعداد هذه الوحدة الفكرية مهمة ثورية من الدرجة الأولى. فتفرغ التنظيم الإعدادي المؤقت لها لمدة محدودة لازم موضوعيا، بالإضافة إلى أنه عامل مساعد لتخطي العقبات الأخرى كما سنرى. الخلاصة: أن يكون التنظيم المؤقت تنظيما فكريا بصفة أساسية. ليس معنى هذا أن يكون تنظيما أكاديميا، بل معناه، أن تكون معركته، و ساحة نضاله موجهة لانتصار – الفكر- الطليعي، وهزيمة الأفكار المضادة, و خلق الوحدة الفكرية، بالدراسة، أو التوعية، ومن خلال النضال السياسين، و الاجتماعي الذي يقوم به، الأنصار، كل في موقعه. أي أن تكون الممارسة النضالية وسيلة لاغتناء، وتصحيح، ثم تدعيم الفكر الطليعي، وطريقا لنشره، والتدليل على صحته. أي أن الاستفادة من الممارسة النضالية لتحقيق الوحدة الفكرية هو الهدف المرحلي المحدد للتنظيم الانتقالي، بينما تكون مهمة "الطليعة العربية" التي تنبثق من هذا الإعداد، الاستفادة من الوحدة الفكرية لتحقيق الممارسة النضالية. وسيحتاج التنظيم إلى كل الوعي الثوري، للتركيز على هذه المهمة الجوهرية الأولى، وعدم الاستجابة للاستفزاز الذي يأتي من جانب الأفراد، والحوادث.ولهذا فسيتعرض الأنصار لضغوط نفسية هائلة ، إما داخلية تحت عامل الطموح المتسرع إلى المساهمة الإيجابية في تنظيم معلن، ومتميز مادياً، أو خارجية بما قد يسند
إليهم من سلبية، وأكاديمية ، وتعتبر من المهمات الثقيلة، التي لابد من إنجازها بنجاح، التغلب على تلك الضغوط النفسية، والمثابرة على إنجاز الهدف المرحلي بدون تغيير طوال مدة الإعداد المؤقت ، والصمود في مواجهة تلك الضغوط النفسية، والتغلب عليها، هو ذاته سيكون محك الجدية، والمقدرة على الممارسة النضالية المقبلة، ويدخل التدريب عليه، في مهام التوعية والإعداد .

كيفية الانتقال بالقواعد المنظمة فعلاً من مرحلة التغاير إلى مرحلة الوحدة  :

تتعلق هذه العقبة بالشباب الذين يكونون قواعد بعض الحركات والأحزاب والجماعات القائمة في الوطن العربي ، ومن المسلم به انه من الإحراج المثالي وغير العلمي دعوة هؤلاء الشباب إلى ترك مواقعهم التنظيمية، والانتظار السلبي إلى أن توجد الطليعة العربية ، إن اغلب الشباب المناضلين حقيقة لا يقبلون ترك العمل الجماعي المنظم إلى فراغ الانتظار الفردي ، ومن ناحية أخرى فإن هناك معارك يومية قائمة في الوطن العربي لا تسمح بالاستغناء عن الإمكانيات المتاحة مهما كانت عيوبها بدون أن يكون قد توافر البديل الأفضل .

3ـ كيفية تخلص الشباب من الرواسب الحزبية

لهذا فإن التنظيم الإعدادي المؤقت لازم لإيجاد الطليعة العربية حزباً قومياً واحداً من قلب التمزق القائم، وبدون إحداث فراغ تنظيمي ، ومهمته التي يتبناها في الفترات السابقة على قيام "الطليعة العربية" ومدته المحدودة تمكنه من أداء هذه المهمة بنجاح ، إذ أن طبيعة عمله كتنظيم،والتي هي الإعداد الفكري، لا تجعله تنظيماً موازياً، أو منافساً للتنظيمات القائمة، ولكنه ينمو في وجودها ، خارجه، وفي قلب قواعدها، بدون احتمال للاصطدام بها ، ولما كانت مرحلة الإعداد مقتصرة على التكوين العقائدي، والإعداد النضالي، فإن وجود المنظمات المتعددة ذاتها يقدم ميداناً منظماً لغزوها الفكري، ثم الاختبار الحزبي، بدون مسؤولية على الطليعة العربية أو على فكرتها ، وبهذا تكون الأحزاب، والمنظمات القائمة ساحات يتم فيها إعداد المناضلين، حتى خلال المهمات التي تحددها قيادة تلك المنظمات ، وهكذا بينما تبقى المنظمات قائمة في مرحلة إعداد الطليعة العربية تكون قواعدها قد تهيأت فكرياً، ونضالياً للتحول إلى قواعد للطليعة العربية، بمجرد مولدها دون أن يحدث فراغ تنظيمي، أو نضالي ، ويساعد على هذا، أن كل تلك المنظمات، أو أغلبها، يعاني من فراغ فكري، وعقائدي مروع، بحيث أن الفكر الطليعي لن يجد صعوبة كبيرة في كسب القواعد، والكوادر، حتى القيادات التي ستدعي أنه فكرها الخاص ، وشيء من هذا يحدث الآن حتى بدون تنظيم، أي أن الأسس الفكرية لا تجد أية مقاومة داخل أغلب تلك التنظيمات ، ومع أن هذا يشكل خطراً على الفكر الطليعي ذاته عندما يتردد على ألسنة منظمات لا تلتزم به، ولكن تدعيه وتنتحله تغطية لعجزها العقائدي، إلا أن هذا يسهل مهمة التنظيم الإعدادي المؤقت، إذ يسمح له القبول العام للفكر الطليعي، كسب القواعد كسباً منظماً لحساب الإعداد للطليعة العربية ، فلن تستطيع القيادات التي رحبت بالفكر الطليعي، ونشرته في منظماتها أن تقف ضد قواعدها إذا تحركت، أو انتظمت تجسيداً للبناء الفكري الذي روجت له ، وبمولد " الطليعة العربية " سيكون الأمر بالنسبة إلى القواعد مجرد تغيير للإطار الشكلي للتنظيم والقيادة بدون أي فترة فراغ ، أما بالنسبة إلى القيادات فستكون مجرد عزلة عن القواعد التي تم تحولها بمساهمة منها، وإن كانت غير مقصودة، وعلى هذا لن يكون مولد " الطليعة العربية " في نهاية فترة الإعداد سوى طوراً تجاوزت به القواعد المنظمة مواقفها الفاشلة .

ـ الموقف من ج.ع.م وقيادة جمال عبد الناصر

ليس ثمة أي مبالغة في القول بأن علاقة التنظيم القومي، الذي يحتم المصير العربي وجوده، بجمال عبد الناصر قد أصبحت في السنين الأخيرة عقدة النضال العربي ، ومعرفة كيف أصبحت عقدة لازم لمعرفة كيفية حلها، وتتلخص الآن في أن نجاح النضال العربي في تحقيق غاياته القومية في الحرية والوحدة والاشتراكية يحتم موضوعياً، وعمليا،ً أن يتولى قيادة هذا النضال تنظيم قومي واحد ينبثق عن الجماهير العربية، ويستند إليها، ويقودها طبقاً لاستراتيجية عربية واحدة تقوم على مصلحة الأمة العربية ككل ، وقد وصل كثيرون إلى الاقتناع بهذه الحقيقة عن طرق مختلفة، بالدراسة العلمية للواقع العربي، وكيفية تغييره ، نصل إليها لو انطلقنا من واقع الاستعمار نريد التحرر، ونصل إليها لو انطلقنا من واقع التجزئة نريد الوحدة، ونصل إليها لو انطلقنا من واقع الاستغلال والتخلف نريد الاشتراكية، ونصل إليها حتماً لو انطلقنا من واقع العلاقة بين هذه الأهداف الثلاثة نريد أن نحققها معاً في دولة عربية واحدة متحررة اشتراكية ، فكل عربي اهتم بأي من هذه القضايا، أو بها جميعاً في ظل ولاء حقيقي لجماهير الأمة العربية انتهى إلى ضرورة قيام التنظيم القومي الواحد قائداً للنضال العربي ، غير أن كثيرين قد وصلوا إلى ذات النتيجة من معاناة الفشل في تحقيق غايات النضال العربي ، وبأساليب أخرى، أي من واقع معرفتهم خلال ممارسة النضال ذاته بالسلبيات المريرة التي يسببها غياب التنظيم القومي الجماهيري الواحد ، وإذا كان الاختلاف لا يزال قائماً حول كيف يوجد هذا التنظيم فإن ضرورة وجوده تكاد تكون مسلماً بها من الجميع . هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن الأمة العربية مشتبكة فعلاً في معارك تحريرية ضارية للتخلص من الاستعمار الظاهر في الجنوب العربي، وفلسطين، ومن الاستعمار الجديد في بعض الأقطار العربية الأخرى، ومقاومة تسلله إلى باقي الأقطار ، والواقع أن ج.ع.م وعلى رأسها جمال عبد الناصر تتولى قيادة هذه المعارك الثورية في أي مكان من الوطن العربي منذ ثورة الجزائر حتى الآن ، وتحمل مسؤولية إمدادها بإمكانيات النضال السياسية، والمادية، والعسكرية، وتشكل بالنسبة إلى المناضلين قاعدة يستندون إليها ، وقد أدى هذا كله، إلى أن أصبحت ج.ع.م في نظر الجماهير العربية، قاعدة النضال العربي، كما يسمونها فعلاً ، وأصبح جمال عبد الناصر، عند هذه الجماهير، قائداً للنضال العربي كما يسمونه أيضاً ، وإذا كان هذا هو موقف الجماهير العربية بوجه عام، فإن موقف الاستعمار من ج.ع.م وجمال عبد الناصر وهما الطرف الذي يواجهه في معركته لم يترك وسيلة ، ولم يتوقف عن البحث عن وسيلة لإسقاط قيادة جمال عبد الناصر وعزل ج.ع.م عن باقي الوطن العربي بقصد عزل المناضلين من أجل التحرر ثم تصفيتهم ، وقد شملت الوسائل التي استعملها كل ما هو في مقدوره من أول القوة المسلحة إلى التآمر الداخلي إلى – وهذا أخطرها – دعم التيارات الإقليمية في ج.ع.م، وفي الأقطار الأخرى بصرف النظر عن أي مضمون اجتماعي لهذه الإقليمية ، فهو لم يتردد في التعاون ودعم الإقليمية الاشتراكية، كما يتعاون ويدعم الإقليمية الرجعية، لأن غرضه المرحلي الأساسي تصفية حركة التحرر العربي، بعزل القاهرة – القيادة – عن ساحات النضال التحرري، وهو ما تؤدي إليه الإقليمية أياً كان مضمونها ، وكان مفروضاً ولو من أجل الانتصار النهائي في معركة التحرر، أو كرد على المخطط الاستعماري، أن يزيد التحام القاهرة وقيادتها بالنضال العربي .
وإذا كانت التجزئة المتمثلة في الدولة الإقليمية تحول دون هذا الالتحام ( الرسمي ) فإن البديل كان ولا يزال متاحاً، وهو الالتحام الشعبي الجماهيري ، التحام المناضلين في تنظيم واحد ، ولأن هذا الغرض يكاد يكون بديهياً لم تكف الجماهير العربية، ولم يتوقف كثير من المناضلين العرب عن توقع أن يبادر جمال عبد الناصر، القائد، إلى هذا الالتحام التنظيمي، بل أن بداهة هذا الواجب القومي، قد شلت مقدرة كثير من العرب عن مجرد التفكير في غيره، فعاشوا في سلبية كاملة منتظرين أمراً يعتقدون اعتقاداً غيبياً أنه سيتحقق بدون أن يحاولوا حتى معرفة كيف ، وانقلب الأمر إلى مأساة حقيقية عندما وفد إلى القاهرة عديد من المناضلين العرب لاجئين إليها تحت تأثير الاقتناع بأنها قاعدة للنضال العربي، وأنهم فيها يضعون أنفسهم تحت تصرف القيادة ، فإذا بالقاعدة، والقيادة تهيئ لهم ملجأ رغداً كل شيء متوفر فيه، ومباح إلا النضال العربي ، وكأن القاهرة قد انقلبت إلى معسكر لغسيل المخ للمناضلين العرب الوافدين عن طريق ممارسة نوع حياة البطالة والتواكل انتهت ببعض منهم إلى الانحلال .
وكانت في تلك الحياة الميتة جاذبية خاصة لبعض من أردأ العناصر العربية، فزجوا بأنفسهم في الأحداث لمجرد اختلاق سبب ليصبحوا لاجئين في القاهرة ، ويردد الجميع في القاهرة، وخارج القاهرة، أنهم في انتظار مبادرة القائد إلى إنجاز ذلك الواجب القومي البديهي الذي ينقذ النضال العربي، وينقذهم " الحركة العربية الواحدة "، ومع هذا، وبرغم هذا، فإن جمال عبد الناصر، الذي أعلن، وكرر، وأكد أن الحركة العربية الواحدة ضرورة تاريخية، أعلن، وأكد، وكرر أيضاً، أنه لن يأخذ على عاتقه مسؤولية المبادرة التنظيمية القومية ، وأن تلك مسؤولية الثوريين العرب أنفسهم ، وقد عرفنا من قبل بعضاً من أسباب هذا الإعلان، وطبيعي أن هذا الإعلان المتكرر وضع كل المناضلين العرب في اختبار عقائدي يمتحن فيه ولاؤهم لمن يكون، ويكشف عن حقيقة البواعث التي ينطلقون منها في نضالهم ، وكان من المتوقع، ولو من أجل الحفاظ على كرامتهم الشخصية أن يبادروا، إلى إيجاد تنظيمهم القومي، الذي يجمعهم، ويقود نضالهم في سبيل مصير أمتهم ، ولأن هذا التوقع بديهي فإن سلبية المناضلين العرب إزاء واجبهم القومي، أحاطتهم بشبهة قوية تمس ولائهم لجماهير الأمة العربية، وتمس زعمهم العقائدي، وتمس مقدرتهم الثورية، وتزحف حتى تحيط بأخلاقيات كثير منهم ، وهي شبهة تروجها قوى لا قومية معادية للنضال العربي تجتهد اجتهاداً نشيطاً في تشويههم، والتشهير بهم، وسلب الثقة في مقدرتهم، ثم نجد في عجز المناضلين العرب في تجسيد دعوتهم إلى التنظيم القومي، وفي سلوك نماذج كثيرة منهم مادة خصبة لهذا التشويه .
وفي الواقع، أن الأمر ليس بسيطاً إلى الحد الذي يسمح باتهام القاصرين عن بناء التنظيم القومي، بما تحاول القوى المعادية للنضال العربي أن تتهمهم به ، فبصرف النظر عن بعض حالات الانحلال، والتبعية، والارتزاق، والانتهازية الفردية ، فإن وراء الإحجام عن تكوين تنظيم قومي دون مساهمة القاهرة، وقيادة جمال عبد الناصر، أسباباً جدية يستحسن أن تناقش
أولاً : أن أي تنظيم قومي يتصدى لقيادة النضال العربي بدون أن يكون معبرا،ً وشاملاً، وقائداً للشعب العربي في ج.ع.م لا يمكن أن تتوافر له الصفة القومية ، إن استثناء ثلاثين مليوناً من العرب ( عدد سكان مصر في ذلك الحين ) يمثلون الثقل البشري، والاجتماعي، والسياسي في الأمة العربية، يعني أن هذا التنظيم ليس جماهيرياً قومياً، وهي الصفة الأساسية التي يجب أن تتوافر في التنظيم القومي المنشود .
ثانياً : أن التنظيم على المستوى القومي بدون ج.ع.م قد يسهم في مخطط عزل القاهرة عن باقي الوطن العربي، عن طريق تثبيت فكرة النضال الإقليمي داخل ج.ع.م، وخارجها، وهو مخطط استعماري، لا قومي .
ثالثاً : إن ج.ع.م هي المرشحة تاريخياً لتكون دولة النواة في الوحدة العربية، ولما كان أهم غايات أي تنظيم قومي أن يحقق الوحدة العربية فإن قيادته بمعزل عن ج.ع.م يخلق ازدواجاً في القيادة، وأساليب النضال، إن لم يكن على المستوى الاستراتيجي، فعلى المستوى التكتيكي، وهو ما قد يؤدي إلى اصطدام بين هذا التنظيم، وبين قيادة ج.ع.م، فيجد التنظيم نفسه في مواقع القوى المعادية للجمهورية وقيادتها بالرغم من اختلاف أسباب الوجود في هذا الواقع .
رابعاً : إن ممارسة جمال عبد الناصر قيادة، ودعم معارك التحرر في الوطن العربي، قد أسفرت عن حقيقة لا يمكن تجاهلها، هي ارتباط الجماهير في الوطن العربي بقيادته، وتطلعها إلى تلك القيادة، بحيث أن أي محاولة تنظيمية، أو تحرك نضالي سيواجه من تلك الجماهير بسؤال أولي عن مدى، ونوع علاقته بجمال عبد الناصر، والقاهرة ، والإجابة السلبية قد تؤدي إلى اتهام عاجل، أو على الأقل إلى سلبية تحول دون نمو هذا التنظيم جماهيرياً .
خامساً : إنه كان في مقدور المناضلين العرب أن يشاركوا فيما تقوم به أجهزة ج.ع.م، وأن يسهموا في تنميته، لو أن لتلك الأجهزة خطاً واحداً يمكن التجمع عليه، ومن حوله، ولكن الواقع أن اتصالات تلك الأجهزة، ومراكز دعمها، متعددة، ومتوازية، بعدد تعدد، وتوازي مكاتب الأجهزة نفسها، وهو ما يفرغ طاقة المناضلين العرب من ناحية، ويمزق صفوفهم من ناحية أخرى، وعلى أي حال يحول دون التحامهم ومواجهة مسؤولياتهم مواجهة مباشرة .
هذه هي الأسباب التي يطرحها – عادة – بعض العرب كمبررات للتقاعس عن تكوين التنظيم القومي ، وظاهر هذا الموضوع، أنه يدل دلالة واضحة على الإخلاص للنضال العربي ، وليس في تاريخ الثوريين العرب ما يبرر تفسير موقفهم على غير هذا الوجه ، ومهما يكن ما وراء هذا الموقف من إخلاص، أو عجز، فإن الأسباب المطروحة، أسباب لها أصول موضوعية، لا يمكن تجاهلها، وتعبر في مجموعها عن مشكلة لابد لها أن تحل ، إن تعبير " لابد لها من أن تحل " يحسم نصف المشكلة، وذلك لأن الموقف من تلك العقبات يختلف تبعاً لما إذا نظرنا إليها باعتبارها مبررات لعدم قيام تنظيم قومي، أو باعتبارها صعوبات في مواجهة تنظيم قومي لابد أن يقوم ، أخذها على الوجه الأول يؤدي إلى السلبية إزاء ما تفرضه مصلحة الأمة العربية ، بوضوح أكثر أن تأخذ تلك الأسباب على أنها مبررات لعدم قيام التنظيم القومي يدل على أن أصحاب هذا الموقف ينطلقون من ولاء إقليمي، أو شخصي، وأن ولاءهم للأمة العربية، وجماهيرها، غير قائم، أو انه يأتي بصفة تبعية للولاء الإقليمي، والشخصي، ومن خير الأمة العربية أن يظل هؤلاء إلى الأبد عاجزين عن تجسيد أنفسهم في تنظيم ، أي تنظيم ، أما أخذها مشكلة تعترض النضال القومي " ولابد لها أن تحل " فإنه يعني أمرين لازمين :
الأول : أنها مشكلة معروضة للحل، وعلى كل الثوريين العرب أن يسهموا في إيجاد هذا الحل، وتطبيقه .
الثاني : إن حتمية حلها، تستند إلى ولاء لا رجوع فيه لجماهير الأمة العربية، وعلى كل الراغبين في حلها أن ينطلقوا من هذا الولاء لحلها، وأن يبحثوا لها عن الحل الذي يتفق مع هذا الولاء دون غيره . إن هذا يسقط الأسباب الأربعة الأولى التي تدور حول محاذير قيام تنظيم قومي بعيداً عن الشعب العربي في ج.ع.م، أو مساهمته . إن الولاء القومي للجماهير العربية، في أي مكان، كان يحرم، تحريماً قاطعاً، قبول الإقليمية تحت أي شعارات صيغت، وفي أي شكل تجسدت، ومن أوجه الإقليمية أن يبقى الشعب العربي في ج.ع.م معزولاً عن جماهير الأمة العربية، أو قبول هذا العزل، أو التحرك على أساسه ، إن أي تنظيم يقوم على استثناء إقليمي، هو تنظيم إقليمي، مهما شمل من أقاليم ، فإذا كان ثمة اتجاهات لقيام تنظيم قومي تستثني ج.ع.م، أو أي إقليم آخر، من نشاطه، فمن خير الأمة العربية، أن يظل هذا التنظيم إلى الأبد، حلماً غير متحقق ، إن هذا لا يعني أن التنظيم لا يكون قومياً إلا إذا بدأ في كل الأقاليم، أو كان فيه ممثلون لكل إقليم، فإن هذا أمر يتصل بمقدرة التنظيم على النمو والانتشار، ولكنه يعني بحسم رفض الحصر الإقليمي ، وذلك بأن تكون غايته أن يشمل كل أرجاء الوطن العربي، ويمثل كل جماهير الأمة العربية بدون أن يكون ممثلاً لأي إقليم، ولا للأقاليم كلها بصفتها أقاليم . إن التمثيل الإقليمي ينقل إلى التنظيم القومي جرثومة الإقليمية لهذا يجب، لكي يكون التنظيم قومياً، أن يرفض، رفضاً حاسما،ً قبول الحدود الإقليمية لأية دولة عربية حاجزاً، أو جسراً يصله بالجماهير ، وانتشاره، وممارسة مسؤولياته . على ضوء هذا تصبح العقبات التي تطرحها ظروف أي إقليم أمام قيام التنظيم القومي، أو انتشاره،وممارسة مسؤولياته، صعوبات عملية، ومرحلية لابد من تخطيها .
وهنا يجب التفرقة بين الصعوبات التي تطرحها الإقليمية، والإقليميين، وبين الصعوبات ذات الصفة القومية، أي التي تطرحها طبيعة النضال القومي في الوقت الحاضر ، ذلك، لأن الصعوبات التي تطرحها الإقليمية والإقليميين لن تنتهي ، وسيجد الإقليميون في كل وقت ما يطرحونه على طريق التنظيم القومي ليوقفوا مسيرته ، إن الطريقة الوحيدة للتغلب على العقبات التي تطرحها الإقليمية والإقليميون هي وجود التنظيم القومي فعلاً ، لهذا فإن تلك الصعوبات لا يمكن أن تقبل كعذر لتقاعس الثوريين العرب عن تكوين التنظيم القومي ، إنها بعض الأسباب الجدية التي يجب أن تحرضهم على الإسراع في هذا التكوين ، أما الصعوبات ذات الطبيعة القومية فهي النابعة من صفوف الثوريين العرب، وعلاقاتهم، وطبيعة المرحلة التاريخية التي يمر بها النضال العربي، وهذه هي التي تشكل بالنسبة إلى مولد التنظيم القومي مشكلة لابد لها أن تحل بالطريقة المناسبة، أي بالطريقة التي توفق بين وحدة الثوريين العرب في تنظيم قومي واحد، وبين متطلبات النضال القومي قبل مولد هذا التنظيم قياساً على هذه التفرقة نجد أن الصعوبات المتبقية مما عددناه آنفاً تنقسم إلى قسمين  :الأول يمثله نشاط بعض الأجهزة في ج.ع.م، وعدم كف يدها عن التدخل في الميدان الجماهيري العربي، مع عجزها من أن يكون هذا التدخل في خدمة مولد التنظيم القومي ، وهذا القسم من الصعوبات هو الذي يحتج به الكثير من العرب ذوو الخبرة في التعامل مع هذه الأجهزة ، وينسى هؤلاء أن تلك أجهزة ج.ع.م الدولة ، الدولة الإقليمية، أي أنها في التحليل النهائي، أجهزة إقليمية، تفكر إقليمياً، وتقدر إقليمياً ، وتنشط إقليميا،ً ويترتب على هذا أمران :
أولهما : أن نشاطها مهما كانت صورته، ومهما كان مداه، لن يؤدي إلى مولد التنظيم القومي العربي الواحد .
ثانيهما : إن التنظيم القومي العربي الواحد هو الوسيلة الوحيدة لاستغناء النضال العربي الواحد عن نشاط تلك الأجهزة .
وهذا يحدد للثوريين العرب واجباً ذو شقين :
أولهما : الكف عن توقع أن تلك الأجهزة رائدة، وقائدة إلى تكوين التنظيم .
ثانيهما : المبادرة إلى تكوين تنظيمهم القومي .
وهكذا تنحصر المشكلة في علاقة الثوريين العرب بقيادة جمال عبد الناصر لمعركة التحرر العربي ، فمن ناحية لابد من أن يقوم التنظيم القومي قائداً للنضال العربي، وهو ما يعني أن تكون قيادة جمال عبد الناصر، وكل المناضلين في معركة التحرر جزءاً منه ، ومن ناحية ثانية لابد لجمال عبد الناصر أن يسهم إيجابياً في تأسيسه ، وحل هذه المشكلة المشتركة تقع على عاتق طرفيها وليس على أي طرف منهما .
فما تتوقعه جماهير الأمة العربية من جمال عبد الناصر يعتبر واجباً قومياً على جمال عبد الناصر، وهو مسؤول تاريخياً عن أداء هذا الواجب ، والتغلب على ما يصادفه من عقبات يطرحها التركيب السياسي الداخلي في ج.ع.م، ومسؤولية إدارة دولة إقليمية ، المنطلق القومي يحتم أن تكون الأولوية لكل ما هو قومي، فلا يضحى به من أجل ما هو أقليمي . ومع معرفة الكثافة التاريخية للإقليمية في مصر، فإن أصعب مراحل الانطلاق القومي، وهي الانفتاح على الأمة العربية، وتسخير الإمكانيات الإقليمية من اجل النضال القومي، قد تمت بقيادة جمال عبد الناصر في معركة التحرر العربي ، فما هو مطلوب من جمال عبد الناصر هو مد المنطلق العربي الذي يدير به معارك التحرر ليكون أساساً موحداً لمعارك الوحدة والتنمية والاشتراكية، وعلى وجه خاص ليكون أساساً للعمل الجماهيري، والشعبي ، إذ يبدو عجيباً ومتناقضاً أن يقاتل أبناء ج.ع.م في أطراف الوطن العربي، وأن تستقبل ج.ع.م أبناء الوطن العربي من كل مكان ، ومع هذا تبقى تعبئة الجماهير وتنظيمها قائمة على أسس إقليمية ، إن الخط القومي لـ ج.ع.م لاشك فيه، ولهذا فهو يعبر عن جماهير قومية، ويحتاج إلى تنظيم تلك الجماهير قومياً لتكتمل له فعاليته ، وما لم يستند التحرك السياسي القومي إلى تنظيم جماهيري قومي سيظل ضحية نكسات من فعل التناقض بين غاياته وأدواته .
إلا أن جمال عبد الناصر لا يعفي الثوريين العرب من مسؤولياتهم، فما تتوقعه الجماهير العربية منهم يعتبر واجبا ًقومياً عليهم ، وهم مسؤولون تاريخياً عن أداء هذا الواجب والتغلب على ما يصادفونه من عقبات يطرحها تخوفهم، وسلبيتهم، والمنطلق القومي يحتم، أن تكون الأولوية للتنظيم القومي، فلا يضحى به من أجل الولاء الشخصي، أو الإقليمي ، ومع معرفة، إلى أي حد كان الثوريين العرب ضحايا الظروف تدعمها قوى معادية، فإن أصعب مراحل الانطلاق إلى التنظيم القومي الواحد قد تمت بفعل الفشل المتكرر، والسلبيات التي خلقها المنطلق الإقليمي ، إن كل ما هو مطلوب من الثوريين العرب أن يحرقوا مراكب الإقليمية، أحزابا،ً وحركات، واتجاهات، ويلزم قبل أن يلوموا غيرهم، أن يثبتوا، انهم قادرون على تحمل مسؤولياتهم القومية فيكونون تنظيمهم القومي .
إن الصيغة التي اقترحها المشروع بسيطة ومناسبة تماماً : قيام تنظيم قومي مرحلي تكون مهمته الإعداد لمولد الطليعة العربية في تاريخ محدد يحل المشكلة على الوجه الآتي :
1) فمن حيث أنه إعدادي‘ لا يصطدم، ولا يمكن أن يصطدم بقيادة ج.ع.م لمعارك التحرر العربي، بل انه لا يزيد كثيراً عن تحويل الدعوة إلى التنظيم القومي ، وهي دعوة متاحة قائمة على قدم وساق في ج.ع.م، من دعوة فردية إلى دعوة جماعية منظمة تحضر، فكرياً، وبشرياً عن طريق التنظيم، والمتابعة، لمولد الطليعة العربية .
2) ومن حيث هو مرحلي يمنح الثوريين العرب فرصة معلومة النهاية، ليثبتوا فيها مقدرتهم على الالتحام، والخروج من مأزق تمزقهم، وتعدد قواهم بحيث يصبحون فعلاً كيانياً تنظيمياً لا يمكن تجاهله، أو قبول بديلاً عنه ، كما تمنح قيادة ج.ع.م فرصة معلومة النهاية لتسهم، في نهاية مدة الإعداد، في مولد الطليعة العربية، وأن تستبدل بها أدوات النضال المتاحة حالياً، مع إعفائها، مادامت تريد، من الإسهام في مرحلة الإعداد المؤقتة .
وهكذا يكون الأمر في آخر مرحلة الإعداد
أ – إن هناك تنظيماً قومياً على وشك أن يولد بعد أن تم الإعداد لمولده .
ب – أن على قيادة ج.ع.م أن تسهم في هذا المولد ومع افتراض الولاء القومي فستكون النتيجة إيجابية لاشك فيها .