بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 29 ديسمبر 2019

في ملابسات تشكيل الحكومة التونسية / د.سالم لبيض .


في ملابسات تشكيل الحكومة التونسية .
د.سالم لبيض .
لا يبدو أن مهمة تشكيل الحكومة التونسية، وفق ما أفرزته نتائج الانتخابات التشريعية في 6 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، يسيرة التحقيق، فقد جاء الإعلان عن تلك النتائج مصحوبا ببوادر أزمة سياسية بنيوية، لواقع التشظي والتناثر السياسي الذي بدا عليه المجتمع السياسي التونسي، بأحزابه وجبهاته وائتلافاته ومستقّليه، ممن وجدوا لأنفسهم طريقا إلى قصر باردو (مقر البرلمان). وعلى عكس ما تمّ تسويقه في وسائل الإعلام والمنتديات الاتصالية والصفحات كثيفة الأنصار والمشتركين، المؤثرة في الرأي العام والطبقات الشعبية متوسطة الوعي بقضايا السياسة وخفاياها وإكراهاتها، فإن حركة النهضة (الإسلامية) احتلت المرتبة الأولى فقط في تلك الانتخابات. أما الفوز فيقتضي أن يمكّنها الصندوق من أغلبيةٍ تساعد على تشكيل الحكومة، أو في أقل الأحوال توفر لها إمكانية التحالف المريح مع الأقربين في الأفكار والسياسة لمزاولة الحكم معاً. وهؤلاء الأقربون ممثلون في ائتلاف الكرامة، ومستقليْن اثنين انضمّا إلى كتلتها، في أول تدشين للسياحة الحزبية في مجلس نواب الشعب، المنتخب حديثاً، وكان هؤلاء، منذ البداية، متماهين مع الحركة، ومتناغمين في المواقف إلى درجة التصويت معا لصالح قانون المالية وميزانية الدولة لسنة 2020، ولكنهم لم يمكّنوا حركة النهضة إلا من ثلث أعضاء المجلس، ما يصلح أن يكون ثلثا معطّلا، ولكنه لا يوفر الحدّ الأدنى للحكم وتشكيل الحكومة.
 أدرك حزب حركة النهضة هشاشة وجوده البرلماني، مقارنةً بالمجلسين، الوطني التأسيسي والتشريعي المنتهية مهامه، وتعقيدات التركيبة البرلمانية الجديدة التي ضمّت، هذه المرّة، فسيفساء من الإسلاميين والدستوريين والقوميين العرب والليبراليين والحقوقيين، وحتى يساريين متناثرين هنا وهناك، على الرغم من فشل الجبهة الشعبية، تجمعوا في كتلة حركة النهضة، والكتلة الديمقراطية (حركة الشعب والتيار الديمقراطي)، وقلب تونس، وائتلاف الكرامة، والدستوري الحر، وتحيا تونس، وكتلتي الإصلاح الوطني والمستقبل، المكونتين من أحزاب صغيرة ومستقلين، الأمر الذي جعلها تبحث عن الممكن السياسي، من بينهم، ما يمنحها أغلبيةً برلمانية، تجتاز بها التناقضات السياسية والأيديولوجية الحادّة، والصراعات التاريخية ومعاركها الدموية الموروثة والمستبطنة. 
اختارت حركة النهضة الحبيب الجملي، وكلّفته بتشكيل الحكومة، وسوّقته شخصية مستقلة غير نهضاوية، محاولةً منها كسر جمودٍ آتٍ من رفض الأحزاب السياسية البرلمانية إسناد التكليف إلى رئيس حكومةٍ ينتمي إلى قيادات الحركة الإسلامية. ولكن الرجل لم يفلح في إقناع الحزبين الأكثر قربا لروح الثورة ومبادئها وتطلعاتها واستخداما لمفاهيمها وتمسّكا بأخلاقياتها، واسترجاعا لنفسها واعتزازا بها وتمجيدا لها، باعتراف "النهضة" نفسها التي أرادت الاستثمار في هذا الرأسمال الرمزي، وهما حركة الشعب والتيار الديمقراطي. ولم تفلح محاولات الوساطة وتقريب وجهات النظر التي قادها المسهّلون، أو الوسطاء، على غرار جوهر بن مبارك، والحبيب بوعجيلة القادمين إلى تلك المهمة السياسية الشاقّة من حواشي المجتمعيْن، المدني والإعلامي. ذلك أن الكلمة الفصل، في نهاية الأمر، لم تكن لهما ولا حتى للجمْلي نفسه، وإنما كانت لمن كلّفه، أي رئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي، والذي كان يجري حواراتٍ موازية في قصر باردو، بوصفه رئيس البرلمان، أو في بيته، أين تدقّق السير الذاتية وتعقد الصفقات السياسية الحقيقية. ويتعلق اختلاف كل من حركة الشعب والتيار الديمقراطي مع رئيس الحكومة المكلف، ومن ورائه الحركة الإسلامية التونسية، بمقاربات الحكم، ومفاهيم السياسة، والقضايا الكبرى، والارتباطات الدولية، واتفاقياتها المجحفة، والمذلّة أحيانا، وبالخطط التنموية، ومسائل المديونية، والبنك المركزي والسياسة المالية والنقدية، والتجارة العالمية والعلاقات الخارجية، والسيادة الوطنية، ومكافحة الفساد والحوكمة والشفافية، والقضاء على البطالة والفقر، وإصلاح قطاعات الصحة والتعليم والنقل، والتصدّي للجريمة المنظمة وتبييض الأموال، ومقاومة الإرهاب واقتلاع خلاياه وأوكاره وجماعاته، وإعطاء أدوارٍ إصلاحيةٍ بامتياز لوزارات الداخلية والعدل والوظيفة العمومية والإصلاح الإداري، وقبل ذلك كله تثبيت مفهوم دولة الرعاية الاجتماعية التي تتعرّض للانتهاك والغدر بها منذ انبعاث فكرة الإصلاحات الهيكلية التي بشّر بها صندوق النقد الدولي سنة 1986، وفرضها على الحكومات التونسية المتعاقبة.
المقاربة الأخرى البديلة القديمة المتجدّدة هي المحاصّة الحزبية والغنائمية السياسية والتمكّن من المواقع في الهياكل القيادية للدولة، وهذه المقاربة تقوم على التفاوض على الوزارات ونصيب كل حزب منها، كما حدث في حكومة الترويكا 2011-2014 التي توزّعت فيها السلطة بين أحزاب النهضة والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات والمؤتمر من أجل الجمهورية، ثم أعيد إنتاجها بعد انتخابات 2014، مع حكومتي الحبيب الصيد الأولى والثانية، اللتين اقتُسمتا بين نداء تونس وحركة النهضة وآفاق تونس والوطني الحر، وتكرّر الأمر مع حكومات يوسف الشاهد التي توزّعت فيها السلطة على أحزاب النهضة ونداء تونس ومشروع تونس وتحيا تونس لاحقا. ولم تستطع تلك التجارب الحدّ من المديونية التي بلغت مائة مليار دينار تونسي بأكثر من 75% من الناتج الوطني الخام، وجعلت من البنك المركزي مؤسسةً مستقلة عن سلطة الحكومة، ما أدى إلى انهيار الدينار أمام اليورو والدولار، وترك الميزان التجاري ينهار لفائدة التوريد الذي ناهز 20 مليار دينار، وما صاحب ذلك من تضخم وارتفاع جنوني للأسعار وانتشار البطالة التي فاقت 15% من اليد العاملة النشيطة. وعلى غرار تلك التجارب، ستتشكل حكومة الحبيب الجملي أو حكومة الكفاءات كما اختار تسميتها، بين كل من حركة النهضة وحزب قلب تونس الذي نعته الإسلاميون بالفساد، وعاهدوا ناخبيهم، في أثناء حملتهم الانتخابية، أن لا يضعوا أيديهم في يده البتة، وأن لا يتحالفوا معه، وإن كلّفهم ذلك إجراء انتخابات جديدة سابقة لأوانها.
نكث الإسلاميون العهد، وتخلوا عن ميثاقهم الغليظ الذي قطعوه على أنفسهم، لينخرطوا في حكومة ببرنامج إسلامو - ليبرالي، على ما في ذلك من مفارقة، لن يختلف عن فلسفة الحكم النيو - ليبرالية التي تقف وراء الهزيمة التنموية التي تعيشها تونس اليوم، لتضم شخصيات كثيرة كانت جزءا من الحكومات السابقة بعد 2011 لم تثبت جدارتها في تسيير الدولة، ولكنها تتمتع بخصلة الطاعة وتنفيذ الأوامر، وأخرى طارئة على عالم السياسة التونسية، ممن يطلق عليهم صفة التكنوقراط، فاقدي الخبرة والمعرفة بالدولة ونواميسها، وكيفية تسييرها، وإكراهات السياسة وضرورات مرونتها، على الرغم من شهادات علمية عالية المستوى نالوها، ومواقع متقدّمة شغلوها في منظمات دولية وأخرى إقليمية. ستضم حكومة الجملي الجديدة شخصيات من مشارب مختلفة لا تحظى بأغلبية مطلقة في البرلمان، ما دفع الحزب إلى التسوّل على عتبات قوى سياسية وكتل برلمانية رفضت المشاركة في الفريق الحكومي، عسى أن تسعفها ببعض الأصوات حتى يحصل أعضاء الحكومة الجديدة على ثقة 109 من النواب، فهل تنجح حكومة الجملي في الامتحان البرلماني العسير؟


الجمعة، 27 ديسمبر 2019

لا لتهميش دور العقل والفكر / د.صبحي غندور .


لا لتهميش دور العقل والفكر .
د.صبحي غندور .
يعيش العرب في هذه الحقبة الزّمنيّة مزيجاً من المشاكل والتحدّيات على المستويين الداخلي والإقليمي . ولعلّ أخطر ما في الواقع العربي الرّاهن هو تغليب العصبيات الفئوية على حساب المشترَك وطنياً وعربياً ، وتهميش دور العقل والفكر في فهم ما يحدث وما يجب عمله .
فالتّعامل مع سلبيّات الواقع والعمل لإيجاد بدائل إيجابيّة يتطلّب الخروج أوّلاً من المأزق الذي يعيشه الإنسان العربي المعاصر في كيفيّة تحديد جملة مفاهيم ترتبط بالهويّة والانتماءات المتعدّدة للإنسان العربي ، وبدور الدّين في المجتمع ، وبالعلاقة الحتمية بين حرّية الوطن وحرّية المواطن ، وبالفهم الصحيح للعروبة وللمواطنيّة وللعلاقة مع "الآخر" ، وفي التلازم المطلوب بين الفكر والحركة .
وهناك قطاعٌ كبيرٌ من العرب لا يجد أهمّية الآن للأمور الفكريّة أو للمؤسّسات المهتمّة بالفكر والثقافة ، وهذه الفئة من العرب تجد أنّ الأولويّة الآن هي للأمور الحركيّة والعمليّة ولمتابعة الأخبار السريعة حيث لا يجوز إضاعة الوقت والجهد في قضايا التفكير والتنظير، بينما في المقابل نجد العديد من المفكّرين العرب الذين يكتفون بطرح الفكر ولا يساهمون في بناء المؤسّسات التي تقدر على تحويل الأفكار إلى برامج عمل تنفيذيّة !.
إذن، هي معضلة في الاتّجاهين ، فالفكر هو الذي يحدّد الأهداف المرجوّة من أيّ عمل ، وهو الذي يصنع وضوح الرؤية خلال مسيرة تنفيذ برامج العمل . لكن لا قيمة للفكر إذا لم يعالج عمليّاً مشاكل قائمة وإذا ما بقي أسير الكتب وعقول المفكّرين . فالقيمة الحقيقيّة لأي فكرة تتحصّل من مقدار تعاملها مع الواقع ومشاكله والقدرة على تغييره نحو الأفضل .
وربّما يكون العرب الآن حالة نادرة بين شعوب العالم المعاصر من حيث تشابك القضايا والأحداث ، واختلاف الأولويّات والاهتمامات لدى أبناء الأمّة الواحدة . فلم تعد هناك قضية مركزيّة واحدة تشدّ اهتمام العرب جميعاً ، كما كان الحال العربي قبل منتصف السبعينات من القرن الماضي ، وأصبح لكلِّ بلد عربي قضيته الخاصّة التي تشغل شعبه وحكومته ، رغم وجود عناوين مشتركة لهذه القضايا مثل : الإصلاح السياسي الداخلي ، التخلّف الاجتماعي والركود الاقتصادي ، تحدّي الأمن والاستقرار ، الحفاظ على الوحدة الوطنية والنسيج الاجتماعي المشترك، إضافةً طبعاً إلى وجود مشكلة الاحتلال الإسرائيليّ ودور القوى الإقليمية والدولية في صناعة أو توظيف أحداث وصراعات المنطقة .
لكنّ في كلّ هذه القضايا والتحدّيات ، هناك حاجة لمجموعة من المفاهيم والضوابط التي ترشد الحركة في معالجة ومواجهة أيٍّ منها . وقد يكون بمقدور الحركات السياسية العربية الناشطة الآن ، أن تحقّق خطواتٍ إيجابية أوسع لو وضعت باعتبارها لائحة “التمييز المطلوب” هذه :
أولاً : التمييز مطلوب لدى البعض في حراكهم السياسي والشعبي ما بين تغيير الحكومات وبين تفكيك الكيانات. فالخلط بين النظام والكيان هو خطر على الوطن كلّه .
ثانياً : التمييز بين الطائفة والمذهب ، وبين الطائفية والمذهبية . فالحالة الأولى هي ظاهرة طبيعية إنسانية موجودة في أكثر من مجتمع يقوم على التعدّدية. أمّا الحالة الثانية ، فهي ظاهرة مرَضيَة تؤدّي إلى تفكّك المجتمع وضعفه وانقسامه .
ثالثاً : التمييز بين الاعتزاز بالوطنية المحلّية ، وبين الانعزاليّة الإقليمية التي لا تحقّق أمناً ولا تصنع وطناً قادراً على العيش في عصر التكتّلات العالمية الكبرى .
رابعاً : التمييز بين أسلوب المقاومة المشروع ضدّ جيش الاحتلال على الأرض المحتلّة ، وبين أساليب العنف الإرهابية التي تستهدف الأبرياء والمدنيين ووحدة المجتمع .
خامساً : التمييز بين الانتماء القدَري للعروبة، وبين تجارب الحركات القومية السياسية . فالعروبة هي انتماء ثقافيّ مشترك بين العرب كلّهم، وهي هويّة حضارية لكلّ أبنائها ، في حين أنّ الحركات القومية هي حركات سياسية لها مضامين فكرية وعقائدية تماماً كحال الحركات السياسية الدينية أو غيرها من الحركات العقائدية.
سادساً : التمييز ما بين قدسية الرسالات السماوية ، وبين إنسانية الفقهاء ورجال الدين والحركات السياسية التي تحمل أسماء دينية . فلا يجوز تكفير الآخرين لمجرّد اختلافهم مع رأي فقيه أو عالم ديني أو حركة سياسية دينية .
سابعاً : التمييز بين الدين والدولة (وليس فصل الدين عن المجتمع) ، وتحديد المرجعية في الأمور الدنيوية القانونية للمؤسّسات الدستورية الإنسانية .
في مقابل هذه اللائحة من “التمييز المطلوب”، فإنّ الحركات الشعبية العربية معنيّة أيضاً بلائحة من “الفصل المرفوض
أولاً : عدم الفصل بين الحرّية السياسية والحرّية الاجتماعية ، “بين لقمة العيش والبطاقة الانتخابية ”.
ثانياً : عدم الفصل بين حرّية الوطن وحرّية المواطن . فالاستبداد الداخلي هو المسؤول عن القابليّة للهيمنة الخارجية ، كما لا يجوز أيضاً التفريط بحرّية الوطن وسيادته من أجل تحصيل الحقوق السياسية للمواطنين .
ثالثاً : عدم الفصل بين أهمّية الإصلاح الداخلي في كلّ بلد عربي وبين إصلاح العلاقات العربية / العربية من أجل تكامل الأقطار العربية واتّحادها على أسس دستورية سليمة، ففي ذلك يتحقّق التقدّم العربي الشامل .
رابعاً : عدم الفصل بين الأطروحات النظرية وبين أساليب العمل التطبيقية . فكثير من الحركات السياسية العربية تقول ما لا تفعل ، وتُمارس عملياً عكس ما تطرحه نظرياً .
خامساً : عدم الفصل بين المنطلقات والغايات والأساليب. فكثيرون يصفون الواقع ويكتفون بالحديث عنه ، ويحصرون فكرهم وأنفسهم في التعامل مع هذا الواقع فقط بدلاً من اعتباره منطلقاً من أجل التغيير وتحقيق مستقبلٍ أفضل ..
وكثيرون يتحدّثون عن الغايات بمعزل عن الواقع ، ويكتفون بوصف الحلول وكأنّها كلمات سحريّة سوف تتحقّق بمجرّد النطق بها ..
وآخرون كثيرون أيضاً استباحوا في أساليبهم ما يتناقض مع الشعارات والغايات التي يطرحونها ، فاجتمع لديهم شرف الأهداف مع انتهازية الأساليب !.
وعادةً ما يرتاح عامّة الناس إلى “التقليد” وإلى “السير على خطى السلف الصالح” وإلى تبسيط التصنيفات والخيارات في الأمور كلّها ، حتّى في القضايا الدينية. لذلك نرى الآن ازدهاراً كبيراً في معظم البلاد العربية لظاهرة “الفتاوى” والركون إلى ما يقوله “المفتون” بدلاً من تشغيل العقل في فهم النصوص . وحينما تتحرّر العقول العربية من قيود تراث الماضي ، وتفرز بين ما فيه من “غثٍّ وسمين”، وعندما يتمّ تفعيل هذه العقول بحثاً عن مستقبلٍ أفضل ، ستنهض من جديد أوطان العرب وشعوبها .
لقد حاولت كلّ التيارات السياسية والفكرية التعامل ، بطريقة مشتركة أو مجزّأة ، مع التحدّيات والمشاكل التي تواجه الأمّة العربية ، لكن بقيت المشاكل والتحدّيات رغم تعثّر أو فشل النظريات الفكرية والحركات السياسية .
وقد مضى نصف قرنٍ من الزمن على محاولات تفكيك هموم الأمَّة العربية وتفكيك شعوبها من أجل تفكيك كياناتها ونزع هُويّتها الثقافية العربية واستبدالها بهُويّات أخرى .. لذلك ، فإنّ التمييز الحاصل بين خصائص القضايا العربية المثارة الآن ، ومسبّباتها وتداعياتها، لا ينبغي أن يكون فصلاً بين هموم الأمَّة والآمال المشتركة بين شعوبها في حياةٍ أفضل .
ففي الأمَّة العربية مزيجٌ مركّب من الأزمات يحتاج إلى مزيجٍ أيضاً من الحلول . فبناء آليات ديمقراطية وانتخابات نزيهة لا يحقّق وحده فقط العدل بين الناس ، أو يصون وحدة المجتمعات، أو يمنع التدخّل الأجنبي ، أو يحرّر الأراضي المحتلّة .. وهي كلّها حالات تعيش معظمها أوطانٌ عربية مختلفة من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي . فرفض الحكومات والنظم الشمولية يقتضي الآن عربياً أفكاراً وحلولاً شمولية .
الأمّة العربية تحتاج إلى مشروع فكري نهضوي متكامل يقوم على التلازم والترابط بين شعارات الديمقراطية والتحرّر الوطني والعروبة والعدل الاجتماعي . وبتوفّر هذا المشروع، والمؤسّسات والأفراد العاملين من أجله ، يمكن بناء مستقبل أفضل للأوطان وللشعوب معاً . فالمشكلة ليست بتجارب النظم “الشمولية” فقط، وإنّما هي أيضاً بالأفكار والتجارب “الاجتزائية” التي تُجزِّئ الحلول المنشودة لأمَّةٍ جزّأها منذ قرنٍ من الزمن المستعمر الأجنبي ، ويحاول ورثته الآن تجزئة المجزّأ  .!

الأربعاء، 18 ديسمبر 2019

نحو تفكيك الملامح الاستراتيجية في خطاب السيد رئيس الجمهورية .


نحو تفكيك الملامح الاستراتيجية في خطاب السيد رئيس الجمهورية .

د.رضا لاغة .


بسم الله وحده ،

هناك قاعدة تعتبر أن المسرح الحاسم والرئيسي الذي تتبعه الاستراتيجيات العسكرية هو الإعلام . لذلك ليس غريبا أن تدور حروب افتراضية تحت أعين الكاميرات ، لأن القادة عادة ما يعرفون أن النجاح يعتمد على موافقة المحيط العلني المشارك لعملية التعبئة الجماهرية ، لأنهم يدركون أن مرجعية التضامن الجماهيري تتهاوى بموجبها دول بأسرها . يحضرنا هنا السجال الدعائي لخطاب الصحّاف و بوش ، حين اعتبر أن معركة أمريكا ضد العراق هي معركة مقدسة غايتها جلب الحرية للمواطن العراقي . كان هذا مجرد شاهد تاريخي من مجمل شواهد تاريخية أخرى . مشهد عقبه وباء من العنف الدفين للحضارة والتاريخ العربي الاسلامي .
ينطبق هذا ، مع اختلاف السياق ، مع خطابات القادة ، ضمن نطاق محدد ترجع أصوله الى ما أسميه "حروب المخاطرة الكلامية". وهي معيار يوضّح أيضا ويشرح بطريقة تفكيكية الخطاب الرمزي الذي ألقاه السيد رئيس الجمهورية الأستاذ قيس سعيد في سيدي بوزيد يوم 17 ديسمبر 2019 .
خطاب مرّ دون أن يثير انتباه المختصين ، بل ثمة ممن يزعمون أنهم كذلك ولكنهم قللوا من أهميته . وهو في اعتقادنا يحتاج الى اهتمام وتجنّب الرؤية العمياء التي استخفّت به .
الحدّ الفاصل في خطاب السيد الرئيس لا يقاس بحجم ما قدّم من انجازات ، بعين المتربّص الحاقد والمضلل (على نحو ما نسمع في بعض وسائل الاعلام) ، بل بفهم الأولوية التي أوقعت السيستام في تناقض واضح مع قيمه الخاصة والتي نعتبرها نحن ، لحظة كوسموبوليتية تواجه لأوّل مرة علنيا ما يحدث في الكواليس من محاولات فنّ التحكّم في المسار حول كيفية إدارة البلاد .
إن خطاب السيد الرئيس ينطوي على استراتيجية توصّف ميزان قوى الصراع . إنه يتضمن إشارة صريحة لفكرة تكثيف الصراع استنادا الى مجتمع مدني متجانس ، منحه تفويض ذاتي للتعامل مع مخاطر بقايا الدولة العميقة وذلك وفق مستويات سنبوّبها كالتالي :
1- تاريخ تحقيب الثورة : أجل هي لا تزال ثورة في ذهن السيد الرئيس . إن رمزية 14 جانفي لم تكن التحقيب المناسب ، لأنه تعمّد حجب الدلالة التاريخية الأصيلة . إن اختزال معنى الثورة في 14 جانفي أو 17 ديسمبر يتنزل في سياق لعبة مجتمع الفرجة بتعبير ايريك فايل ، والذي يركن الى تقوية مرجعية ما . في الحالة الاولى نحن ازاء سلطة جذابة للسيستام ، وبالتالي اعتبار 14 جانفي لحظة استمرارية للجمهورية الاولى ، في حين أن توابع الحالة الثانية ، تظهر الحدث الثوري - بعكس ذلك - كلحظة تحيل إلى مناخ الحرية ، أي بمعنى الطفرة وليس المراكمة بالتعبير الماركسي والتي ولدت في سياق تاريخي يُنْظَرُ له على أنه افراز لثقافة المقاومة الجماعية التي تشكّلت مع جيل الاندفاع ، جيل الشباب الذي يمثّل السيد رئيس الجمهورية إحالة رمزية له .
هذا النوع من الإعلان ، بصرف النظر عن استتباعاته ، يعني أن السيد الرئيس لا ينسجم مع ما تبقّى من معسكر السيستام ، بل إنه يعتبر نفسه المدافع الشرعي عن ضحايا السيستام . وهذا يحسب للرجل ولكنه يطرح مخاطر تستدعي من كل مؤيّد ومشجّع أن يكون متيقّضا للمنطق المضاد ، او ما يسمى في تنفيذ الاستراتيجيات "الحروب الجراحية" التي قد تدور بين الطرفين .
2- الغرف المغلقة : وهي أطر موازية أو مساحات غير مكشوفة تخطط لإصابة جهاز السلطة المناوئ لها بعطب في الصميم . وقد تستعمل في ذلك مزيج متعدّد من الطرق من قبيل الاغتيالات لا قدّر الله ، أو ايقاض الفتن المحسوسة في عقول الجماهير ، وهي عبارة عن أعمال جنونية محسوبة في الداخل ، وقد تكون بالتنسيق مع الخارج .
3- المجتمع المدني المتقدّم عن الاحزاب : إن هذا التمييز يزيد من تكاليف التصعيد ويدفع نحو الافصاح عن ازمة . إنه يكشف عن مقصدية الكارثة الحزبية المنذرة ربما بانتخابات سابقة لأوانها إن لم تتدارك وضعها . هنا ينقل السيد الرئيس التهديد من السيستام الى الاحزاب ذاتها بما فيها تلك التي لها رؤية مناوئة للسيستام . الا انها بحروبها الايديولوجية الجانبية غير المرضية ، تهدّد بإنهيار الرواية المصنوعة من قبل إرادة الشباب ذات يوم (13نوفمبر) صعد فيه السيد الرئيس كممثل لهم . انه هنا لا يعلن عن فضيحة سياسية للأحزاب فحسب ، وانما يمرّ الى مسرح المعركة ضد كل من يتوانى أو يتردّد في أن يصعد من محطة الثورة في قطار الانجاز والقطع مع القديم .
وفقا لهذا التمييز بين المجتمع المدني والاحزاب ، وهو تمييز هيجلي قديم ( انظر كتاب مبادئ فلسفة الحق) ، فان السيد الرئيس كأنما يقول للشباب : الانتصارات المتلاحقة أنتم من يصنعها ، فاستعدوا للتنظّم لا داخل الاحزاب ، وانما ضمن أطر المسؤولية الكوسموبوليتية وقواعدعا المحلية . من هنا يتشكّل قبس النهج الانتخابي للسيد الرئيس برلمانيا . وهو تحذير يخاطب فيه الاحزاب : أنا من يمتلك الشارع وأنتم ازاء اختبار تاريخي ، إما ان تتوافقوا لصالح الوطن أو ان تأكلكم ذرّة التحلل الذاتي لنخوض انتخابات مبكّرة ، أنا فيها الفائز ، أنا فيها من سيكون صاحب القرار.


18/12/2019 .


الاثنين، 2 ديسمبر 2019

موناليزا واقع الحال العربي !


موناليزا واقع الحال العربي !
صبحي غندور .

لقد مرّ أكثر من ستّة عشرة عاماً على إشعال شرارة الحروب الأهلية العربية المستحدثة في هذا القرن الجديد، والتي بدأت من خلال الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 وتفجير الصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية فيه، ثمّ من خلال اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في العام 2005، ثمّ بالمراهنة على تداعيات الحرب الإسرائيلية على لبنان في العام 2006، ثمّ بتقسيم السودان في مطلع العام 2011 وفصل جنوبه المختلف دينياً وإثنياً عن شماله، ثمّ بتحريف مسارات الحراك الشعبي العربي الذي بدأ بتونس ومصر متحرّراً من أي تأثير خارجي، وسلمياً في حركته، فانعكس على دولٍ عربية أخرى، لكنّه انحرف عن طبيعته السلمية المستقلّة بسبب التأثيرات والأجندات الإقليمية والدولية المختلفة، كما حدث ويحدث في ليبيا واليمن وسوريا، حيث أراد بعض هذه الأجندات توظيف الانتفاضات الشعبية العربية لكي تكون مقدّمةً للسيطرة والهيمنة من جديد على المنطقة، من خلال إشعال الحروب الأهلية والصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية، ولتغيير سياسات وخرائط أوطان، وليس حكومات وأنظمة فحسب.
وقد رافق، في القرن الحالي، هذه الأجندات الإقليمية والدولية المتصارعة على الأرض العربية لعقدين من الزمن، نموّ متصاعد ومدعوم من الخارج لجماعات التطرّف المسلّحة التي استغلّت حالات الفوضى والعنف لكي تمتدّ وتنتشر، كتنظيميْ "داعش" و"النصرة"، بعدما صنعت والدتهما "القاعدة" لنفسها قيمة دولية كبرى من خلال أحداث 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة وفي أماكن أخرى بالعالم.
واستغلّت إسرائيل طبعاً هذه الصراعات العربية البينية وساهمت بتأجيجها، فواصلت عمليات الإستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلّة مراهنةً أيضاً على تحوّل الصراع الأساس في المنطقة من صراعٍ عربي/إسرائيلي إلى صراعاتٍ عربية/عربية، وعربية/إسلامية، وعلى تقسيمات طائفية ومذهبية تبرّر أيضاً الاعتراف العربي والعالمي الشامل بإسرائيل كدولةٍ يهودية.
هو انحطاط، وهو انحدارٌ حاصلٌ الآن، بعدما استباحت القوى الأجنبية (الدولية والإقليمية)، وبعض الأطراف العربية، استخدامَ السلاح الطائفي والمذهبي والإثني في حروبها، وفي صراعاتها المتعدّدة الأمكنة والأزمنة خلال العقود الأربعة الماضية. وقد ساهم في ترسيخ هذا الواقع الانقسامي الأهلي، على المستوى الشعبي العربي، هيمنةُ الحركات السياسية ذات الشعارات الدينية، وضعفُ الحركات السياسية ذات الطابع الوطني أو العربي التوحيدي، إضافةً  لتغييب دور مصر الريادي الإيجابي في الأمّة العربية.
ومهما حدثت تطوّرات إيجابية على الأزمات العربية الراهنة، فإنّ السؤال يبقى: ما ينفع أن تخرج هذه الأزمات من النفق المظلم بينما تستمرّ عيون العرب معصوبةً بسواد الانقسامات الطائفية والمذهبية، وأياديهم مقيّدةً بسلاسل الارتباطات الخارجية!؟.
واقع الحال العربي الآن هو أشبه باللوحة الشهيرة: "موناليزا" أو "الجيوكاندا" التي رسمها الفنان الإيطالي دافنشي، حيث الابتسامة الجميلة في جانبٍ من الوجه وملامح الحزن في الجانب الآخر. فما حدث مؤخّراً من حراكٍ شعبي في السودان والجزائر، ثمّ في العراق ولبنان، أكّد حيوية شعوب البلاد العربية وعدم قبولها بالاستسلام لواقع سياسي فاسد يتحكّم بها رغم إرادتها. لكن ما زالت هذه البلدان التي تشهد انتفاضاتٍ شعبية مهدّدةً بمخاطر أمنية وسياسية كثيرة.
"لا يصحّ إلّا الصحيح"، هو قولٌ مأثور يتناقله العرب، جيلاً بعد جيل. لكن واقع حال العرب لا يسير في هذا الاتّجاه، إذ أنّنا نجد، جيلاً بعد جيل، مزيداً من الخطايا والأخطاء تتراكم على شعوب الأمّة العربية، وعلى أوطانها المبعثرة. فهل يعني ذلك أن لا أمل في وصول أوطان العرب إلى أوضاع صحيحة وسليمة؟! أم ربّما ترتبط المشكلة في كيفية التفاصيل وليس في مبدأ هذا القول المأثور! فإحقاق الحقّ، وما هو الصحيح، يفترض وجود عناصر لم تتوافر بعدُ كلّها في مخاض التغيير الذي تشهده الأمّة العربية. وبعض هذه العناصر هو ذاتي في داخل جسم الأمّة، وبعضها الآخر خارجي، حاول ويحاول دائماً منع تقدّم العرب في الاتّجاه الصحيح.
وصحيحٌ أنّ للأطراف الخارجية، الدولية والإقليمية، أدواراً مؤثّرة في تأجيج الانقسامات، لكن ماذا عن مسؤولية الذات العربية نفسها عمَّا حدث ويحدث من شرخٍ كبير داخل المجتمعات العربية؟. ماذا عن مسؤولية المواطن نفسه في أيّ بلد عربي، وعن تلك القوى التي تتحدّث باسم "الجماهير العربية"، وعن المفكّرين والعلماء والإعلامين الذين يُوجّهون عقول "الشارع العربي"؟!.
فمفهوم "الدولة" القائم على ثلاثية: "الأرض والشعب والحكم"، ما زال موضع نقاش لدى القوى السياسية العربية المتنافسة على المعارضة وعلى الحكم، والتي ينزع بعضها إلى "نظام الفيدرالية" وإلى اللامركزية السياسية، وهو أمر يمسّ جوهر وحدة الأرض والشعب والحكم. فأيُّ  وطنٍ للمستقبل يريده المنتفضون والساعون للتغيير في بعض البلاد العربية؟!، وهو السؤال الذي لم يجد بعدُ إجابةً شافية يتّفق عليها من هم في ساحات وشوارع بلاد العرب المنتفضة الآن!.
وكم هو مؤسفٌ ومحزنٌ معاً أن تقترن الديمقراطية في المنطقة العربية بسمات الاحتلال الأجنبي من الخارج وبالانقسام الطائفي والعرقي من الداخل، وبنموّ المشاعر المعادية للانتماء العربي وللهويّة العربية المشتركة. فقد كانت هذه أيضاً هي سمات صراعات وخلاصات حصلت في أجزاء عديدة من الأرض العربية: دعوة للتدخّل الأجنبي المباشر وحماية بعض الداخل من بعضه الآخر بقواتٍ أجنبية، ثمّ عمليات سياسية ديمقراطية غذّت الفرز الطائفي والمناطقي أكثر ممّا كانت تعبيراً صحّياً سليماً عن تعدّدية في المجتمع وتنوّع في التركيبة السياسية والعقائدية.
ولو سألنا كلَّ إنسانٍ عربي عن أولويّة اهتماماته العامّة الآن، لكانت الإجابة حتماً محصورةً في أوضاع وطنه الصغير، لا "وطنه العربي الكبير"، ولا قضيّته الكبرى فلسطين، فالأمَّة الواحدة أصبحت الآن "أمماً"، وفي كلٍّ منها "أممٌ متعدّدة" بتعدّد الطوائف والأعراق والعشائر، ولدى كلٍّ منها أزمته الحادّة وصراعاته المفتوحة دون أن يلوح أفقُ أملٍ أو حلٌّ قريب.       
إنّ وجود حكوماتٍ فاسدة واستبدادٍ سياسي وبطالة واسعة وفقرٍ اجتماعي وغيابٍ لأدنى حقوق المواطنة المتساوية وللحرّيات العامة وانعدام فرص العمل أمام الجيل الجديد، كلّها عناوين لانتفاضاتٍ شعبية جارية أو كامنة، وراءها عشرات الملايين من المظلومين والفقراء على امتداد الأرض العربية. لكن ماذا بعد الانتفاضات، وعلى أساس أيِّ برنامجٍ للتغيير؟.
إنّ الممارسة الديمقراطية السياسية السليمة يُعبّر عنها عمليّاً في المجتمعات التي لا تخضع للاحتلال أو الهيمنة الخارجية، وتكون العملية الديمقراطية مرتبطة بكيفية اختيار الحكومات (السلطة التنفيذية) وبالرقابة عليها (السلطة التشريعية) وبالمحاسبة لها (السلطة القضائية)، وبحقوق المواطنين المتساوية في المشاركة بالحياة السياسية والاجتماعية، وبضمان الحرّيات العامّة للأفراد والجماعات. لكن الحرّية، قبل أن تُمارَس كعملية دستورية ديمقراطية بين المواطنين، هي حرّية  الأرض وحرّية الوطن وسيادة الشعب على أرضه وقراره الوطني.
في الوقائع الآن، أنّ هناك سعياً محموماً لتدويل الأزمات الداخلية في المنطقة العربية، ممّا يُعيد معظم أوطانها إلى حال الوصاية الأجنبية التي كانت سائدة في النصف الأول من القرن الماضي. ويترافق مع "وقائع" التدويل الجارية حالياً، وجود "وقائع" إسرائيلية تقوم على سعيٍ متواصل منذ عقودٍ من الزمن لدعم وجود "دويلات" طائفية وإثنية في المنطقة العربية. وفي الأفق الآن، مشاريع دولية لعددٍ من بلدان المنطقة تقوم على إعادة تركيبها بأطرٍ سياسيّة ودستوريّة جديدة تحمل الشكل الفيدرالي "الديمقراطي"، لكنّها تتضمّن بذور التفكّك إلى كانتوناتٍ متصارعة في الداخل، ومستندة إلى قوًى في الخارج ومدعومةٍ بتدخّلٍ أجنبي متعدّد الأطراف على أبواب الأمّة العربية. تلك الأمّة التي بدأت كياناتها الوطنية الكبرى تتصدّع واحدةً تِلوَ الأخرى، وكلُّ من فيها من أوطان وجماعات بما لديهم منشغلون!.
وهاهو "الانتداب الأجنبي" الذي خرج من أوطان عربية مركولاً من قبل أهل الدار، يعود الآن من نوافذ عديدة في المنزل العربي المصدّع والمهدّد بالانهيار.


هل قانون المالية التكميلي "ميزانية ترحيلية" ؟


هل قانون المالية التكميلي "ميزانية ترحيلية" ؟
عبد السلام هرشي .
   2019-12-02

يأتي قانون المالية التكميلي لسنة 2019 في ظل تواصل الأزمة التي يعاني منها الاقتصاد التونسي لأسباب هيكيلة وأخرى استراتيجية، إذ يسجل عجز الميزان التجاري أرقاما قياسية منذ سنة 2016 وترتفع نسبة التداين لتتجاوز نسبة 70% من الناتج الداخلي في ظل تراجع الدينار التونسي وارتفاع نسبة التضخم، بينما تراوح نسبة البطالة مكانها بنسبة 15.1% مع ارتفاع أو انخفاض بسيط في الفواصل. لكن أبرز ما جاء في الحصيلة المالية لسنة 2019، هو أن نسبة النمو التي تمت برمجتهما لتصل عتبة 3.1% كهدف يجب تحقيقه في 2019، لم تحقق الدولة منها سوى 1%. يأتي كل هذا في الوقت الذي عرف فيه الاقتصاد التونسي تحسنا على مستوى عدد من المؤشرات في 2019 أهمها تراجع عجز الميزانية إلى 3.9%، إيقاف تدهور الدينار وتراجع نسبي لسعر صرف العملات الاجنبية وتسجيل ارتفاع في موارد الدولة. في ظل هذه الأرقام يأتي قانون المالية التكميلي لسد الفوارق الحاصلة بين توقعات قانون المالية الأصلي والأرقام التي تم تحقيقها فيما يصفه البعض بأنه ميزانية ترحيلية (ترحيل جميع الاشكاليات إلى قانون المالية لسنة 2020). 
قانون المالية التكميلي
يعتبر قانون المالية قانون الدولة الاقتصادي الذي يحكم البلاد اقتصاديا لمدة عام ليتجدد في السنة الموالية. ويتضمن في جزئه الأول الأحكام المتعلقة بتحصيل الموارد المالية للدولة وفي جزئه الثاني المبلغ الاجمالي للاعتمادات المطبقة في إطار الموازنة العامة للدولة. وإلى جانب قانون المالية الأصلي توجد أنواع أخرى من قوانين المالية وهي قانون المالية التعديلي، قانون غلق الميزانية. ويتم إنجاز قانون المالية التكميلي في حالة وجود فوارق كبيرة بين ما تم توقعه في قانون المالية الأصلي والأرقام التي تم تحقيقها. وبحكم الفوارق الكبيرة بين توقعات المالية الأصلي لسنة 2019 والأرقام المحققة والتي تجاوزت 2000 مليون دينار، التجأت وزارة المالية إلى إنجاز قانون مالية تكميلي خاص بهذا العام، هو التاسع منذ ثورة 14 جانفي. ولا يعتبر إنجاز قانون مالية تكميلي بالشيء الجيد، فهو دليل على الاضطرابات التي تشهدها التوازنات المالية العامة للدولة. ويقول هيكل المكي النائب عن حركة الشعب والعضو باللجنة الوقتية للمالية أن هذا القانون هو عبارة عن ميزانية ترحيلية، ويضيف في تصريح للمفكرة "كل الاشكاليات تم ترحيلها إلى قانون المالية 2020، ونحن بصدد مناقشة القانون صلب اللجنة بكل جدية بالاستعانة بمجموعة من الخبراء، فهناك الكثير من الاشكاليات التي يجب فهمها والوقوف عندها". 
أسباب إنجاز قانون مالية تكميلي لسنة 2019؟ 
من خلال قراءة أرقام قانون المالية التكميلي يمكن القول إن الفارق بين قانون المالية الأصلي والأرقام المحققة على أرض الواقع قد بلغت 2260 مليون دينار. هذا وقد تم تحيين ميزانية الدولة لسنة 2019 في قانون المالية التكميلي بسبب عدة تطورات شهدتها المالية العمومية، أهمها تطور الموارد الذاتية للدولة لسنة 2019 بنسبة 18.1% مقابل 8.9% (تمت برمجتها في قانون المالية الأصلي)، ارتفاع نفقات الميزانية دون اعتبار تسديد أصل الدين بــ 1809 مليون دينار مقارنة بتقديرات قانون المالية. وقد برر وزير المالية محمد رضا شلغوم في تصريح إعلامي الارتفاع الحاصل في نفقات الدولة، باتفاق الزيادة في الأجور الذي أبرم في فيفري 2019 والذي كلّف الدولة 649 مليون دينار واتفاق الحكومة مع نقابتي التعليم الثانوي والابتدائي على صرف منحة العودة المدرسية ناهزت قيمتها الجمليّة 200 مليون دينار، إضافة إلى ارتفاع دعم أسعار المحروقات بــ 438 مليون دينار وتدخلات أخرى وصلت قيمتها إلى 376 مليون دينار وأخيرا 176 مليون دينار تحت عنوان فوائد الدين العمومي. 
أرقام قانون المالية التكميلي  

بالنظر إلى قانون المالية التكميلي، بات واضحا أن ميزانية الدولة وبحكم الفوارق ارتفعت من 40861 مليون دينار إلى ما يقارب 43.121 مليون دينار. وتتوزع نفقات الدولة كاملة بحسب النتائج المحيّنة إلى 26897 مليون دينار كنفقات تصرف، و6250 مليون دينار كنفقات تنمية و9874 مليون لخدمة الدين العمومي. ويوضح وزير المالية رضا شلغوم لـ"المفكرة" بأن نفقات التنمية ارتفعت من 6150 مليون دينار في قانون المالية الأصلي إلى 6250 مليون دينار في قانون المالية التكميلي. ليضيف: "هذه الميزانية ستمكّن من المساعدة في تحقيق أرقام جيّدة في السنة القادمة وقد برمجنا في قانون المالية لسنة 2020 حوالي 6900 مليون دينار كنفقات تنمية، كما يُتوقع أن يتقلص عجز الميزانية ليصل إلى 3%، هذا وبرمجنا حوالي 700 مليون دينار كمبالغ غير موزعة للحكومة القادمة، لكن التحسن يبقى محدودا ويجب العودة إلى الإنتاج والإنتاجية".
كما ارتفعت الموارد الذاتية المتأتية من المداخيل الجبائية وغير الجبائية بنسبة 17% إلى حدود أوت 2019 مقارنة بنفس الفترة من 2018، وعلى هذا الأساس من المتوقع أن ترتفع جملة الموارد الذاتية للدولة لسنة 2019 بما قدره 33009 أي بنسبة زيادة تصل إلى 18.1%. كما بلغت موارد الاقتراض والخزينة إلى موفى شهر أوت 2019 حوالي 8118 مليون دينار مقابل 10142 مليون دينار مقدّرة في قانون المالية الأصلي ومن المنتظر أن تصل إلى حدود 10112 مليون دينار، وهو ما يعني أن الدولة لن تلجأ إلى الاقتراض لمواجهة نفقات قانون المالية التكميلي.



قانون المالية الاصلي
نسبة التطور
قانون المالية التكميلي
الموارد الذاتية للدولة
26243 مليون دينار
17%
33009 مليون دينار
موارد الاقتراض والخزينة
10142 مليون دينار
-0.0029%
10112 مليون دينار

 
هل قانون المالية التكميلي "ميزانية ترحيلية"؟

اعتبر عدد من نواب اللجنة الوقتية الخاصة بالمالية بمجلس نواب الشعب في وقت سابق مشروع قانون المالية التكميلي لسنة 2019 ميزانية "ترحيلية" بالأساس، وليست ميزانية" تطهيرية"، باعتبارها آخر ميزانية للعهدة الانتخابية 2014 -2019، وهو ما يستوجب الإيفاء بجميع تعهدات الحكومة المنصرفة، وعدم ترحيلها إلى الحكومة المقبلة. موقف تتبناه حركة الشعب ممثلة في نائبها والعضو بلجنة المالية المؤقتة هيكل المكي الذي يرى كما جاء على لسانه في تصريح ل "المفكرة"، أن قانون المالية التكميلي ليس سوى ميزانية ترحيلية صدّرت جل الإشكاليات العالقة لميزانية سنة 2020. في نفس السياق، أكد فيصل دربال مقرر اللجنة أن التحسن الذي سجلته نسبة العجز في الميزانية لسنة 2019 غير حقيقي وذلك بسبب عدم تسجيل ديون الدولة التي لم يتم خلاصها في نفقات الدولة لسنة 2019 وبالتالي ترحيل قسط من عجز الميزانية التكميلية إلى 2020. كما أن إدراج منحة العودة المدرسية تحت عنوان نفقات التسيير وليس ضمن نفقات الأجور أثار انتقادات عدد من أعضاء اللجنة علاوة على أن المقرر العام للجنة وصف تطور المداخيل الجبائية المتأتية من الأداءات المباشرة بغير العادي والمخيف داعيا إلى مراجعته. ردا على هذه الانتقادات، أجاب وزير المالية رضا شلغوم في تصريح ل "المفكرة" أن هناك 700 مليون دينار بعنوان مبالغ غير موزعة سيكون للحكومة القادمة تحديد إمكانية ومجالات استعمالها في انتظار إعادة تبويب أولوياتها وهو ما يعني أن هذه الميزانية غير ترحيلية. كما أكد أن قيمة حسابات الدولة في البنك المركزي تناهز 1300.9 مليون دينار وهو ما يعني أن الوضعية المالية للدولة مستقرة. 
ردود الفعل على قانون المالية التكميلي
قال عياض اللومي النائب بمجلس نواب الشعب عن حزب قلب تونس ورئيس اللجنة الوقتية للمالية إن جلسة النقاش تناولت تفاصيل قانون المالية التكميلي والفوارق في الأرقام التي أدت إلى إنجاز القانون وأضاف ل "المفكرة" أنّ "هذا القانون هو بمثابة استكمال للسنة المالية 2019 وأن اللجنة بصدد دراسة قانون المالية لسنة 2020 وهو حسب رأيه أهم محدد لوضعية تونس في السنوات الخمس القادمة". أما مروان فلفال، النائب عن حزب تحيا تونس والذي يتزعمه رئيس الحكومة الحالي والمترشح السابق للانتخابات الرئاسية، فدافع عن قانون المالية التكميلي الذي اعتبره إثباتا على المجهود الكبير الذي بذلته الحكومة السابقة لتعبئة موارد الدولة والحفاظ على التوازنات المالية مشيرا إلى أن النقطة الإيجابية هي التحكم في عجز الميزانية الذي انخفض من 6 إلى 3%، وأضاف فلفال في تصريحه للمفكرة "نتمنى من الحكومة القادمة أن تواصل في نفس نهج الاصلاحات". أما التيار الديمقراطي فقد أكد أن تونس تواجه تحديا كبيرا بسبب تجاوز قانون المالية التكميلي الآجال القانونية والمحددة بــ 21 يوما، وأضاف على لسان نائبه بمجلس نواب الشعب والعضو بالهيئة الوقتية للمالية محمد عمار: " قانون المالية التكميلي هو قانون يخص مدة محددة ومحدودة من السنة، لكن المعضلة الأكبر هي قانون المالية لسنة 2020، وينبغي على مجلس النواب أن يتحمل مسؤوليته كاملة لأن قانون المالية للسنة المقبلة لم يتضمن أي معطيات حول الاستثمار أو التشغيل، ليقتصر على مجرد جداول وحسابات مالية. حجم الديون التونسية في 2019 وصلت قرابة 86 ألف مليون دينار، وتقديرات قانون المالية لسنة 2020 تشير إلى أن الديون ستصل إلى 94 ألف مليون دينار، وهذا يعتبر كارثة حقيقية".
هذه الانتقادات دفعت عياض اللومي، رئيس اللجنة الوقتية المخصصة لدراسة مشاريع قوانين المالية، إلى التأكيد أن اللجنة أرجأت المصادقة على مشروع قانون المالية التكميلي لسنة 2019 إلى حين حصولها على توضيحات كتابية من قبل وزارة المالية بخصوص الاحترازات التي عبر عنها أعضاء اللجنة.
يمكن القول أنّ قانون المالية التكميلي لسنة 2019 لم يكن سوى قانون لتحيين أرقام الدولة في ظل المتغيرات الداخلية والخارجية. لكن الأهم هو قانون المالية لسنة 2020 والذي رصدت الدولة فيه حوالي 6900 مليون دينار كميزانية للتنمية إضافة إلى 700 مليون دينار كنفقات دون عنوان وهو ما يمثل هامشا للحركة بالنسبة للحكومة القادمة. فهل يستطيع الائتلاف الذي سيشارك في الحكومة المرتقبة الإيفاء بالوعود التي قطعها على ناخبيه بهامش تحرك يصل إلى 700 مليون دينار أم سيلجأ إلى تقديم مشروع قانون مالية تعديلي؟

المفكرة القانونية .


الجمعة، 22 نوفمبر 2019

في أركيولوجيا رئيس الحكومة التونسية المكلف .


في أركيولوجيا رئيس الحكومة التونسية المكلف .

د.سالم لبيض .

قصيرة هي مدة النشوة بنتائج الانتخابات، فسرعان ما اصطدم الفائزون بإكراهات تشكيل الحكومة الجديدة التي تستوجب تأمين أغلبية نيابية محترمة، تشكّل حزاما برلمانيا وسياسيا قويا وآمنا، يحول دون انهيارها، وهي تواجه قضايا البلاد الكبرى الاقتصادية والمالية والاجتماعية، المستعصية. وهو الأمر الذي لم يتحقق لأي حزب أو ائتلاف سياسي رغم السبق الذي حققته الحركة الإسلامية ممثلة في حزب حركة النهضة بـ 52 نائبا من بين 217، ما جعلها تسارع إلى إعلان أحقيتها بتشكيل الحكومة، بوصفها الحزب الفائز، وفق ما يقتضيه الفصل 89 من الدستور التونسي. نتائج الانتخابات أغوت في البداية حركة النهضة التي ذهبت بعيدا إلى حد اعتبار زعيمها راشد الغنوشي أوْلى برئاسة الحكومة، لكن هذا الخيار تبخّر وعُدّ من أماني السياسة، بعد أن اصطدم بمحدودية حجم "النهضة" البرلماني الذي لا يرتقي إلى ربع البرلمانيين التونسيين، وقد يصل إلى الثلث إن هي تحالفت مع الأقربين، أي ائتلاف الكرامة. 
استُبدل الخيار الحكومي بترشيح الغنوشي لرئاسة البرلمان، وهو ما تحقق له، بعد ماراثون من المفاوضات العلنية، مع حزبي التيار الديمقراطي وحركة الشعب انتهت إلى الفشل، ومفاوضات أخرى سرية موازية مع حزب قلب تونس، ومجموعات حزبية صغيرة، ونواب مستقلين، حققت مبتغاها بعد أن تنكرت النهضة لأهم شعار في حملتها الانتخابية، وهو عدم التحالف مع منظومة الفساد مجسدة في حزب قلب تونس أو "حزب المقارونة" كما وصفه راشد الغنوشي في خطاباته أثناء الحملة الانتخابية. وبدلا من ترشيح شخصية نهضاوية لرئاسة الحكومة التونسية، التزاما بمقتضيات الدستور الذي لطالما تمسّك نهضاويون بتطبيق تعاليمه، أعلن حزب النهضة بعد عقد مجلس شوراه، وهو أعلى سلطة بين مؤتمرين، تقديم مجموعة من الشخصيات المستقلّة لهذا المنصب، وهي على التوالي الحبيب الجملي ومنجي مرزوق وعبد المجيد الزار والحبيب الكشو ورضا بن مصباح، وتم ترك الاختيار للغنوشي الذي خيّر الجملي على بقية المرشّحين. وفي  مفارقة تاريخية قلّ نظيرها في عالم السياسة التونسية في تاريخ الزمن الحاضر وفي الديمقراطيات الحديثة والمعاصرة، يختار رئيس السلطة التشريعية (البرلمان) رئيس الحكومة (السلطة التنفيذية)، ويبدو أن واضعي الدستور التونسي، وكذلك راشد الغنوشي، لم يضعوا في الحسبان هذه المفارقة التي ستضرب في مقتل مبدأ رئيسيا من مبادئ الدستور والنظام السياسي التونسي القائم على التفريق بين السلطات واستقلاليتها عن بعضها بعضا؛ إذ يصعب الفصل لدى الغنوشي بين دوره رئيس حزب فائز في الانتخابات له أحقية الترشح أو الترشيح لرئاسة الحكومة ودوره رئيس برلمان، ناهيك عن أنه صاحب الفضل الأخير في اختيار رئيس الحكومة الذي لن يستطيع لي العصا في يد ولي أمره الذي مكنه من تولي الوظيفة الأهم في سلّم السلطة التنفيذية.
سوّقت حركة النهضة أن رئيس الحكومة المكلف، الحبيب الجملي، لا ينتمي إلى الحركة الإسلامية، وغير منخرط في حركة النهضة، لكن أركيولوجيا سطحية في الذاكرة السياسية والحكومية التونسية قام بها نشطاء افتراضيون سرعان ما كشفت للرأي العام التونسي أن الرجل تولى خطة كاتب الدولة لدى وزير الفلاحة في حكومتي الترويكا الأولى والثانية 2011-2014، في كوتا حركة النهضة، الأمر الذي قد يقلل من مصداقية استقلاليته، وينزع عن الحزب الأغلبي ما تبقى له من صدقية في التعامل مع فرقاء السياسة الذين يصمونه باللامبدئية والازدواجية في الخطاب.
وبقطع النظر عن مدى استقلالية رئيس الحكومة المكلف الحقيقية من عدمها، فإن أركيولوجيا عميقة في سيرة الرجل السياسية وتجربته العملية وخبرته المهنية لا تحيل على تمثلات سياسية عميقة، وفهم للبنى المجتمعية مستنبط من حقل الأفكار السياسية الإسلامية، أو من خارجها من حقول بقية التيارات الكبرى الليبرالية والدستورية والقومية العربية واليسارية، أو من التجارب النقابية ونظيراتها الجمعياتية والمدنية. وتكتفي مدونته السيرية بالإخبار عن توليه كتابة الدولة في وزارة الفلاحة زمن تسييرها من الوزير والقيادي النهضاوي محمد بن سالم، في حكومتي حمادي الجبالي وعلي العريض، الذي لم يتح أي فرصة للجملي للبروز والتعبير عن شخصية سياسية أو تكنوقراطية قابلة لاحتلال مكانة مرموقة في سوق السياسة التونسية.
وقبل ذلك التاريخ وبعده، فلا تحفظ سجلات الرجل سوى أنه كان مرشح حركة النهضة لوزارة الداخلية إبّان مفاوضات تشكيل حكومة الحبيب الصيد بعد انتخابات 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2014، أو توليه أدوارا بحثية في مجال البحوث الزراعية مرتبطة بتخصصه كفني سام ومهندس فلاحي، والقيام بأدوار إدارية ثانوية بديوان الحبوب لم ترتق إلى تولي خطة مدير عام أو تسيير إدارة مركزية، ثم الإشراف على شركة خاصة قبل دخول حكومة الترويكا وبعدها.
يصطدم الجملي في تشكيل حكومته بعوائق جوهرية، لا تتعلق فقط بالتناقضات السياسية العميقة والحادّة بين الأحزاب السياسية الفائزة في البرلمان التي تتوزّع على عدة خلفيات أيديولوجية  إسلامية وقومية ودستورية وليبرالية وبراغماتية، تجد صعوبة في التعايش في ما بينها، لاختلاف مرجعياتها وتجاربها، وإنما ترتبط بصعوبة جمع هذه الفسيفساء البرلمانية في حكومة واحدة قادرة على الالتقاء حول برنامج اقتصادي واجتماعي مقنع لكل الأحزاب البرلمانية أو لأغلبها. وعندما ينتهي الحبيب الجملي من تشكيل حكومته، إن استطاع تشكيلها، سيجد نفسه في مواجهة أخرى أكثر إنهاكاً مما خلفه فرقاء السياسة، تتعلق هذه المرّة بتطبيق قانون للمالية وميزانية الدولة التي لم تضعها حكومته، تتضمن 12 مليار دينار من الديْن وخدمات الديْن، وتحتوي على عجز بالمبلغ والقيمة، ولا تتضمن برامج تشغيلية للفئة الشبابية العائدة إلى حقل الفعل السياسي بقوة، ولا تحتوي إستراتيجية تنموية، ولم تغير المنوال التنموي الذي ينحو إلى بروز رأسمالية متوحشة، والذي أحدث كل هذه الهزات والانتفاضات الاجتماعية منذ سنة 2010، وما زالت تعتمد التسول على عتبات صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الدولية القارضة منهاجا في تمويل الميزانية، والتوريد العشوائي استجابة لتأثير لوبيات الشركات والعلامات الأجنبية في تونس، الأمر الذي أدى إلى الارتفاع المشط للأسعار وتنامي ظاهرة الفقر وتزايد الفقراء وذوبان الطبقة الوسطى، وإلى اختلال الميزان التجاري وانهيار الدينار الذي تخلت عليه الحكومات المتعاقبة يواجه مصيره أمام سطوة اليورو والدولار.
خلاصة القول وفصله أن الحبيب الجملي رئيس الحكومة المكلف يواجه واقعا دقيقا قام بتوصيفه المؤرخ التونسي، أحمد بن أبي الضياف، منذ قرن ونصف عندما دوّن "إن الدولة التونسية فقيرة حسّا ومعنى"، وذلك "لإرهاق المجتمع بالزيادة في الضرائب وتخريب الاقتصاد باعتماد سياسات تكبّل الإنتاج المحلي وتتساهل في قبول البضائع الأجنبية وبلوغ نفوذ الدول الأجنبية بتونس أقصاه". فهل سينجح الرجل في تمهيد الطريق نحو الإنقاذ واسترجاع السيادة الوطنية المسلوبة وبناء الدولة الراعية والعادلة؟

20 نوفمبر 2019