بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 20 أكتوبر 2016

نظرية الثورة العربية :الغيات .


نظرية الثورة العربية : الغايات .


الغايات  




" كل مذهبين مختلفين اما أن يكون أحدهما صادقا والآخر كاذبا ، واما أن يكونا جميعا كاذبين ، واما أن يكونا جميعا يؤديان الى معنى واحد وهو الحقيقة ، فاذا تحقق في البحث وأنعم في النظر ، ظهر الاتفاق ، وانتهى الخلاف " .
                                                     ابن الهيثم .



(1)


34  ـ أين ومتى ؟

تدخل أية نظرية لتطوير الواقع الاجتماعي ، أسهل اختبار لصحتها وفائدتها عندما تتصدى لبيان منطلقات التطور . ويبقى عليها أن تجتاز بعد هذا إختبارين أكثر صعوبة واكثر أهمية . أولهما تعيين الغايات التي يجب أن يتجه الجهد الانساني الى تحقيقها في الواقع الاجتماعي حتى يتطور . والثاني ، أصعبها جميعاً وأكثرها أهمية ، ان تحدد الاسلوب الذي يستطيع الناس ان يصلوا به من المنطلقات الى الغايات . كل هذا طبقاً لمنهج (منطق) واحد . هذا الانتقال المتدرج من السهل المهم الى الصعب الأهم الى الأصعب الأكثر أهمية هو الطريق الذي على النظرية ، أية نظرية ، أن تشقه من التجريد الفكري الى ان تلتقي بالواقع العيني لتثبت في الممارسة ـ أخيراً ـ قيمتها على محك ما ينفع الناس . قيمتها وفائدتها كضابط فكري للجهد الانساني (العمل) الذي يطور الواقع الاجتماعي فعلاً . إن هذاجدير بانتباه خاص . فالنظريات مقولات فكرية ذات قيمة وفائدة ثقافية . غير ان هذه القيمة والفائدة الثقافية لا تعني بالضرورة صلاحية كل المقولات الفكرية لتكون ضوابط للعمل الذي يطور الواقع الاجتماعي . إنما تتوقف هذه الصلاحية على اداء وظيفة اجتماعية تتجاوز مجرد المعرفة هي ان تكون صالحة للالتقاء عليها بين متعددين وللالتزام بها في الممارسة ثم ـ وهذا مهم ـ للاحتكام إليها عند الاختلاف في الممارسة بين الذين التقوا عليها والتزموا بها . وليس كل مقولة فكرية ، ولو كانت صحيحة ، قادرة على ان تؤدي هذه الوظيفة .
وبيان هذا إنه بعد ان تحدد النظرية ، أية نظرية ، منطلقات الجهد الانساني وغاياته وأسلوبه ثم يلتزمها الناس ضابطاً للممارسة وحكماً فيما بينهم ، يبدأ ” العمل ” الذي هو الأداة الأخيرة لتطوير الواقع . وفي ساحات العمل وعلى مدى زمانه تتحول النظرية الى مجموعة بالغة التعدد والتنوع من المنجزات الجزئية والمرحلية التي توزعها قسمة العمل على عديد من الأفراد يعمل كل منهم في موقعه حسب قدرته . ويكون نجاح كل اولئك الذين يسهمون في تحقيق الغايات المعينة في النظرية متوقفاً على ألا تنحرف بهم الممارسة الجزئية والمرحلية في مواقع متفرقة عن تلك الغايات . كما يكون تكامل الجهود التي يبذلها متعددون في مواقع متفرقة متوقفاً على ثقة كل عامل في موقعه بانه ليس وحده على الطريق الى تلك الغايات وبأن ثمة رفاقاً ملتزمين يعملون في مواقع اخرى على الطريق الى الغايات ذاتها . وأخيراً يكون بقاء كل تلك الجهود المتنوعة المتفرقة المتكاملة على الطريق إلى أن تحقق غاياتها متوقفاً على المقدرة على الاحتكام الى النظرية عند الاختلاف في الممارسة . باختصار، أن نجاح كل الملتزمين نظرية واحدة في ساحات الممارسة وعلى مدى زمانها في أن يحققوا غاياتهم ، يكون متوقفاً على وحدتهم الفكرية . وهذى هي على وجه التحديد وظيفة النظرية في خدمة قوى تطوير الواقع الاجتماعي في أي مجتمع . وعندما تفشل أية مقولة فكرية في أداء هذه الوظيفة تفقد قيمتها وفائدتها كضابط للعمل الذي يطور الواقع الاجتماعي حتى لو بقيت لها قيمة أو فائدة ثقافية .
إن هذا يعني أن على النظرية أن تعيّن للجهد الانساني غايات على قدر من الوضوح والواقعية تصلح به أن تكون محلاً للالتقاء عليها بين متعددين والالتزام بها في الممارسة والاحتكام إليها عند الاختلاف . وهي لا تستطيع هذا إلا اذا اجتنبت عدة أسباب تؤدي الى فشل المقولات الفكرية في أداء وظيفة النظرية حتى لو كانت مقولات فكرية صحيحة .
أول هذه الأسباب هو التجريد . الاقتصار على ما هو عام والقصور عما هو خاص . وقد يكون العام صحيحاً ، ولكنه يبقى مجرداً ما دام مقصورأ على ما هو عام قاصراً عما هو خاص . صحيح أن الخاص مهما يكن متميزاً بخصائص مقصورة عليه هو جزء من العام لا يتناقض معه ولا ينفيه  ولا يفهم إلا في إطاره ومنسوبأ إليه ، ولكن فهم العام فهما صحيحاً لا يكفي لفهم الخاص فهما صحيحاً . يلزم ولكن لا يكفي . وبالتالي تبقى المقولات الفكرية العامة الصحيحة عاجزة عن أن تقدم الاجابات الصحيحة على الأسئلة التي يطرحها الخاص فيما يكون مقصوراً عليه . فكوننا ـ مثلاً ـ أمة عربية لا ينفي أننا واحدة من أمم كثيرة نشترك معها في كل الخصائص التي تميز المجتمع القومي عن المجتمعات الأخرى . وكون الأمم مجتمعات قومية متميزة بخصائص مقصورة عليها لا ينفي إنها مجتمعات إنسانية تشترك مع غيرها من المجتمعات في كثير من الخصائص المترتبة على إشتراكها في وحدة التكوين (الانسان) ، وأهمها ، إن حركة تطورها جميعاً تخضع لقوانين واحدة . ولقد نعرف من الممارسة اليومية أو من العلوم المتخصصة ان كل إنسان في أي مجتمع يحتاج الى أن يأكل وان يلبس وان يسكن … ليحافظ على حياته . وعرفنا من جدل الانسان أن الناس في أي مجتمع … كل منهم يسعى ولا يستطيع إلا أن يسعى لإشباع حاجته . وكل منهم يستهدف ولا يستطيع إلا أن يستهدف حريته … وعليه يصح بالنسبة إلى نظرية تطوير الواقع الاجتماعي في أي مجتمع أن تكون حرية الناس فيه أو تحررهم من حاجاتهم غاية يجب أن يتجه الجهد الانساني الى تحقيقها حتى يتطور . كذلك يصح بالنسبة الى أية نظرية أن تكون غير ذات قيمة اذا لم تكن قابلة في النهاية الى أن تترجم في الواقع العيني الى حياة أفضل : غذاء أفضل ، ولباس أفضل ، ومسكن أفضل ، وثقافة أفضل ، وإمكانيات أفضل للتمتع بالحياة حتى تكون الحياة شيئاً يستحق العمل من أجل الحفاظ عليه وبذل الجهد من أجل تطويره .
كل هذا صحيح .
ومؤداه أن ثمة مشكلات مشتركة بين كل المجتمعات الإنسانية ، فثمة مضامين مشتركة بين كل النظريات التي تخدم حركة التطور الاجتماعي في أي مجتمع ، فثمة غايات مشتركة للجهد الانساني أينما كان الانسان . جهل أو تجاهل هذا القدر المشترك من الغايات بين المجتمعات الانسانية لا يسلب العام حقيقته بل يشعره حقيقة الخاص . فيه ينقلب التخصيص الى تفرد ، والتمييز الى امتياز، ومحاولة تطوير الواقع الاجتماعي الى عزله تعسفأ عما يؤثر فيه ويتأثر به . وبه تنقلب القومية الى شوفينية . وتلك أخطاء جزاؤها الفشل المحقق في فهم الواقع الاجتماعي ، أي واقع اجتماعي ، وحركته ، وبالتالي فشل محاولة تطويره . ومن هنا ندرك ” سخافة ”  الوهم أو الإيهام بأن القومية تعني أن الأمة معزولة عن المجتمع الانساني ، أو أنها مجتمع ممتاز فيه، أو أنها فريدة في كل  مشكلات تطورها متفردة بغايات للتطور لا مثيل لها في العالمين . لا ينسب هذا الى القومية إلا أعداؤها أو الجاهلون حقيقتها وأكثر من ينسبه اليها أعداء جاهلون معاً .
ومع هذا ، أو بالرغم من هذا ، فإن المجتمعات تختلف وتتميز، تاريخاً وتراثاً وحضارة وبشراً وموقعاً وثروة ... فتختلف وتتميز مشكلات التطور فيها من مجتمع الى مجتمع . نريد أن نقول أنه بالرغم من ذلك القدر المشترك من مشكلات التطور بين كل المجتمعات تبقى لكل مجتمع مشكلات مقصورة عليه تختلف وتتميز عن المشكلات المقصورة على كل واحد من المجتمعات الاخرى . وبالتالي يبقى قدر من المضامين يختلف ويتميز  من نظرية الى نظرية تبعاً لاختلاف وتميز الواقع الاجتماعي الذي تخدم حركة تطويره . ويبقى للناس في كل مجتمع قدر من الغايات يختلف ويتميز تبعاً لاختلاف وتميز الواقع الاجتماعي من مجتمع الى مجتمع مع أنها ، او بالرغم من انها ، جميعاً ، مجتمعات انسانية وعليه ، فلا يكفي لأية نظرية تخدم حركة التطور في مجتمع معين ان تكون مقصورة على ذلك القدر المشترك من المضامين العامة التي تصح بالنسبة الى كل المجتمعات .  بل أن مقدرتها على تحديد غايات تصلح ان تكون محلاً للالتقاء عليها بين متعددين والالتزام بها في الممارسة والاحتكام اليها عند الاختلاف ليست منوطة بالمضامين العامة المشتركة بل منوطة بالمضامين التي تنفرد بها كاجابات خاصة على ذلك القدر من المشكلات المقصور على المجتمع الذي تخدم حركة تطويره . إذ بهذه المضامين الخاصة ، وليس بالمضامين العامة المشتركة فقط ، تلتقي النظرية بالواقع العيني في المجتمع الذي تؤدي  فيه وظيفتها كضابط فكري لقوى  تطويره . وعندما تكتفي بالمضامين العامة المشتركة التي تصح بالنسبة الى كل المجتمعات وتجهل أو تتجاهل المضامين المقصورة على المجتمع المعين تبقى معلقة فوقه بعيدة عن الحياة فيه ولو كانت صحيحة في مستواها المجرد . ذلك لأنها وأن صلحت محلا لالتقاء متعددين في مدرسة فكرية تظل عاجزة عن أن تكون محلا للالتزام بها في الممارسة والاحتكام اليها عند الاختلاف في حل مشكلات المجتمع المعين . وقد تصلح رموزها شعارات ولكنها تفشل في أن تكون ضابطاً فكرياً للعمل فيفترق الملتقون عليها عندما يواجهون المشكلات العينية المقصورة على مجتمعهم في ساحات الممارسة وعلى مدى زمانها . مرجع هذا إلى أن التجريدات الفكرية والشعارات العامة تسمح بأن يلتقي عليها أو تحتها أكثر الناس اختلافاً في فهم مضمونها العيني وكيف يتجسد الواقع . ويبدأون زحاماً ملتقين على غايات مجردة أو تحت شعارات عامة ثم إذا بكل منهم يحاول أن يجسدها في الممارسة على الوجه الذي فهمها منذ البداية . فإن اختلفوا وأرادوا الرجوع إلى أفكارهم أو شعاراتهم يحتكمون اليها أيهم أصدق فهما خذلتهم الأفكار المجردة ولم تستطع الشعارات العامة أن تحكم فيما بينهم لأنها من حيث هي عامة ومجردة تكون قابلة في الممارسة لتأويلات مختلفة . فيختلفون ويفترقون يتهم كل منهم رفاق الأمس في مدرسته الفكرية بأنه قد ارتد عن منطلقاته أو خان التزامه والواقع أن أحداً لم يرتد ولم يخن وانما التقوا جميعاً على مقولات فكرية مجردة حولوا رموزها الى شعارات عامة بدون الانتباه الى أنها على هذا الوجه المجرد العام ، أو  بسبب هذا التجريد العام ، فاشلة منذ البداية في أن تحفظ وحدتهم حتى لو كانت افكاراً صحيحة تحولت الى شعارات مناسبة .
ان الحرية ـ مثلاً ـ غاية غير منكورة للتطور الاجتماعي في كل المجتمعات . وهي شعار ترفعه كل القوى حتى التي تستهدف غايات متناقضة ويدعيها كل واحد غاية له حتى ولو كان مستبداً . وهي بهذا التجريد وحده ، بصلاحيتها أن تكون شعاراً لغايات قوى متناقضة في كل المجتمعات لا تصلح موضوعاً لالتزام قوى مفرزة بتحقيق غاية محددة في مجتمع معين . وعندما يرتفع هتاف : ” تحيا الحرية ” لا يدّخر أحد طاقته ليكون صوته أعلى الأصوات . وهذا يعني أن الهتاف للحرية ، بالرغم من دلالته الصحية والصحيحة ، لا يتضمن أي التزام بتحقيق الحرية . لا لأن الهاتفين لا يريدون الحرية ولكن لأن الحرية كغاية مجردة ، وان كانت صحيحة ، لا تصلح موضوعاً للالتزام بها في الممارسة والاحتكام اليها عند الاختلاف . إنما تصبح كذلك عندما تغادر  هذا المستوى المجرد لتقع على مجتمع معين فيتحدد مضمونها  العيني ، من واقع القيود المفروضة على حركة التطور فيه . ان كانت قيوداً مفروضة من الخارج فهي استعمار أو من الداخل فهي استبداد . وإن كانت قيوداً سياسية فهي ديكتاتورية أو قيوداً اقتصادية فهي استغلال …  الخ . وفي كل حالة تتحدد قوى القهر التي يجب أن تسحق وموضوع القهر الذي يجب ان يلغى فتوجد فعلاً الغاية ” العينية ” للالتزام بتحقيق الحرية . عندئذ لن يكون غريباً أن تفرز قلة ملتزمة من بين الكثرة الهاتفة . ولكن تلك القلة تكون عندئذ أقدر على تحقيق غايتها لأنها ملتقية على مضمون قابل للالتزام به والاحتكام اليه فلا تفترق . بهذا التحديد العيني تصبح الحرية نظرية قادرة على تحقيق الوحدة الفكرية بين الناس في ساحة الممارسة وعلى مدى زمانها .

وهـي لا تتحدد على هذا الوجه إلا منسوبة الى مجتمع معين .

وليس الأمر أقل وضوحاً بالنسبة الى ” الوحدة ” كغاية بل انه أوضح .
ذلك لأن الوحدة السياسية ليست غاية تقدمية للجهد الانساني في كل المجتمعات ولا حتى في كل الأمم ، بل هى غاية مقصورة على المجتمعات القومية المجزأة (الأمة العربية ، المانيا ، كوريا ، الصين … الخ) وبينما يكافح التقدميون في تلك المجتمعات الممزقة لحل مشكلة التجزئة بتحقيق وحدتهم القومية تعتبر الدعوة الى الوحدة في فرنسا أو انجلترا أو روسيا عبثاً . وتكون عابثة أية نظرية لخدمة حركة التطور الاجتماعى في أي من تلك الأمم تعني ولو مجرد عناية بتحديد ” الوحدة ” غاية يجب أن يتجه الجهد الإنساني الى تحقيقها . انها متحققة فهى ليست مشكلة عندهم . وعندما تتحقق الوحدة السياسية للأمة العربية أو المانيا … الخ تنقضي كغاية . ولكنها الى أن تتحقق ، تقدم دليلاً حيأ على عقم التجريد الفكري الذي يتجاهل التجزئة مهما تشدق بالكلمات الكبيرة عن التطور والتقدم والحرية والاشتراكية … الخ . إذ أن أية نظرية تزعم أنها تخدم قوى التقدم والحرية والاشتراكية … الخ في الوطن العربي أو في المانيا أو في كوريا أو في الصين … ثم تجهل أو تتجاهل مشكلة التجزئة تكون بالنسبة الى قوى التطور والتقدم … الخ في تلك المجتمعات تجريداً فكرياً معلقاً فوق الواقع وبعيداً عن الحياة فيه ولو كانت صحيحة في مستواها المجرد . صحيحة بالنسبة الى الأمم عامة ولكنها غير صحيحة بالنسبة إلى الأمم الممزقة ان صلحت لالتقاء متعددين في مدرسة فكرية فانها لا تصلح أن تكون محلاً للالتزام بها في الممارسة  والاحتكام اليها عند الاختلاف فيفترق الذين التقوا عليها فكريا عندما يواجهون مشكلات التجزئة في ساحات الممارسة وعلى مدى زمانها .

من هنا لا تكون الوحدة السياسية غاية إلا منسوبة الى مجتمع معين .

واخيراً يقول الاشتراكيون ، كل الاشتراكيين ، أن الاشتراكية هي ” الغاء استغلال الانسان لأخيه الإنسان ” . وهو قول صحيح تماما على مستواه الانساني المجرد . غير أن هذه صيغة بدون مضمون عيني ما دامت مجردة . وحولها قد يلتقي ملايين الناس الذين يريدون ـ  فيما يعلنون  ـ الغاء استغلال الانسان لأخيه الإنسان . ونكون في مواجهة زحام من ” الاشتراكيين ” ما دامت الاشتراكية بهذا المفهوم المجرد لا تلزم ايا منهم بان يؤدي في واقعه الاجتماعي عملاً معيناً . فيختلفون في التطبيق لان كلا منهم يفهم الاشتراكية التي هي الغاء استغلال الإنسان لأخيه الإنسان على ما يريد ويحاول أن يجسدها في الممارسة طبقأ لفهمه . فان عادوا الى ” الاشتراكية ” التي جمعتهم حول مفاهيم مجردة ليحتكموا اليها أيهم أصح فهما وأصدق وعداً خذلتهم الأفكار الكبيرة المجردة من مضمون عيني . ولن يجدي عندئذ أن يتهم أحد رفاقه بالردة أو خيانة الاشتراكية . لا ردة هناك ولا خيانة ، وانما تجريد فكري عاجز منذ البداية عن  أن يحفظ وحدة القوى التي تلتزمه . إنما تكون الاشتراكية ذات مضمون عيني عندما نعرف من هو ذلك الانسان الذي يستغل غيره لنلتقي ثم نلتزم برده . ومن هو ذلك الإنسان الذي يستغله غيره لنلتقي ثم نلتزم بتحريره . وما هو موضوع الاستغلال لنلتقي ثم نلتزم بالغائه .. عندما تتحدد هذه المضامين نكون أمام نظرية اشتراكية صالحة للالتقاء عليها بين متعددين والالتزام بها في الممارسة والاحتكام اليها عند الاختلاف .

وهي لا تتحدد على هذا الوجه الا منسوبة إلى مجتمع معين .

كيف ؟
أليست الاشتراكية واحدة وإنما تختلف الطرق اليها وتتميز تبعأ لاختلاف وتميز المجتمعات ؟ يمثل هذا السؤال وجبة مفضلة لدى الذين يأكلون الكلمات ويجترونها ثم يحاولون اطعامها الناس الاخرين . فالطرق التي تشقها المجتمعات إلى المستقبل التقدمي مختلفة ومتميزة . هذا لا شك فيه . ولكن الاشتراكية هي أيضأ نظام اجتماعي ، أفضل نظام اجتماعى ، يمكن المجتمعات من شق طريقها الى المستقبل التقدمى . انها هي بذاتها طريق ، أفضل طريق ، الى الغاية الثابتة لحركة التطور الاجتماعى ” : اشباع الحاجات المادية والثقافية المتجددة أبداً ” . وهذا لا ينفى ان تكون بذاتها غاية تختلف الطرق اليها عندما تكون مفتقدة في النظم الاستغلالية . ويصح القول بأن ثمة طرقاً مختلفة الى الاشتراكية . ولكن ما أن يسقط النظام الاستغلالي حتى يصبح النظام الاشتراكى بذاته طريقاً الى الرخاء والحرية . فيصح عليه القول بان ثمة طرقاً اشتراكية مختلفة الى الرخاء والحرية ويكون من المهم لحفظ وحدة الاشتراكيين الذين يشقون طريقهم الى الاشتراكية أن يعرفوا ، منذ البداية ، فيم ستكون الاشتراكية مختلفة عندما تتحقق فتصبح طريقأ مختلفاً . كما أنه لا ينفي أن ثمة مضامين مميزة للنظام الاشتراكي وبالتالي مشتركة بين كل النظريات الاشتراكية . ولكن الاشتراكية لا تكون صالحة للالتقاء عليها والالتزام بها والاحتكام اليها في مجتمع معين ان كانت مقصورة على تلك المضامين المشتركة التي تصح بالنسبة الى كل المجتمعات وانما بتلك المضامين العينية التي يلتزم الاشتراكيون بتحقيقها في واقعهم الاجتماعي المتميز والتي لا تمكن معرفتها إلا منسوبة الى مجتمع معين . الطرق الى الاشتراكية مختلفة . نعم . والاشتراكية بمعنى الغاء استغلال الإنسان لأخيه الإنسان واحدة . نعم . ولكن الاشتراكية بهذا المعنى لا تلزم أحداً بشىء معين فهي تجريد فكري عاجز عن أن يحقق الوحدة بين القوى التي تلتزمه . 

ولا تكون الاشتراكية ذات مفهوم ملزم إلا اذا نسبت الى مجتمع معين .

مؤدى هذا جميعاً أن ثمة وظيفة للفكر عندما يكون في خدمة قوى التطور الاجتماعي هي تحقيق الوحدة الفكرية بينه .  وهو لا يستطيع أن يؤديها إلا اذا حدد لتلك القوى غايات صالحة للالتقاء عليها والالتزام بها والاحتكام إليها . وهي لا تكون كذلك إلا إذا كانت منسوبة الى مجتمع معين . ومنه ندرك ان لكل مجتمع نظرية خاصة بتطوره .. وانها لا تكون صالحة لخدمة قوى تطويره إلا اذا كانت خاصة به . وان النظريات الصالحة لخدمة قوى التطور الاجتماعي متعددة ومتميزة تبعاً لتعدد وتميز المجتمعات . وان الزعم بان ليس ثمة إلا نظرية واحدة تلتزمها كل قوى التطور في كل المجتمعات تجريد فاشل . فان قيل انها واحدة ولكن ثمة فروق في التطبيق نقول أن التطبيق هو الذي يقدم المضمون العيني للأفكار المجردة ، وتلك الفروق هي التي تحدد مضامين الالتزام في الممارسة ، وهي التي يحتكم اليها عند الاختلاف ، فهي التي تضفي على الافكار المجردة المقدرة على حفظ وحدة الملتزمين بها في الممارسة وعلى مدى زمانها . وبدون تلك الفروق تظل الافكار المجردة فاشلة حتى لو كانت صحيحة .
والواقع ان ليس كل فكر مجرد فشلاً . اذ يتوقف الامر على الغاية التي يستهدفها كل مجتهد من طرح افكاره . فقد يكون مرجع التجريد الى التخصص  في الدراسات الفكرية المجردة . أولئك مفكرون وعلماء و فلاسفة لا يلزمون أحداً ما يقولون . وقد يكون مرجعه إلى إرساء مقدمات مجردة تمهيداً للاقتراب بها من الواقع فلا تؤخذ المقدمات المجردة في عزلة عن نتائجها العينية . وقد يكون التجريد إيضاحاً للاصول الفكرية لمواقف عينية غير مجردة فتكمل هذه دلالة تلك . انما التجريد الفكري الفاشل في أن يكون ضابط حركة هو الذي يزعم أن المقولات المجردة صالحة للالتقاء والالتزام والاحتكام فيدعو الناس إلى الالتقاء عليها والإلتزام بها والاحتكام إليها . هو الذي يستغني بالعام عما هو خاص ويشد انتباه الناس في مجتمع معين إلى غايات إنسانية عامة موهماً اياهم بان في ذلك غنى لهم عن الانتباه إلى الغايات التي يحددها واقعهم الاجتماعي ” كما هو   .
ومن السهل أن ندرك أنه عندما يكون التجريد الفكري على هذا الوجه الذي يستغني به صاحبه عن نسبته الى مجتمع معين وترجمته الى غايات عينية  يكون منطويا على هروب من الخاص حيث يمكن الالتزام لتقوم المسؤولية الى العام حيث لا التزام ولا مسؤولية . أما  لماذا يهربون ؟… فلأن التجريد الفكري يسمح للقادرين عليه بأوسع مجال لاستعمال ملكاتهم الفكرية بدون التزام . ويمكنهم من أن يحتفظوا في جعبتهم بأكثر التقديرات تناقضا لذات الافكار المجردة التي سبق أن طرحوها . ان التجريد الفكري بالنسبة اليهم نوع من التأمين ضد المسؤولية أمام القوى القادرة على المساءلة في مجتمعاتهم . وكيف تمكن مساءلة المتحدثين الداعين الملتزمين ” النضال ” من أجل التقدم أو الحرية أو الاشتراكية بدون أن يقولوا ” أين ؟ ” على وجه التحديد يلتزمون النضال من أجلها ؟.. هل يمكن أن يوجد مثل هؤلاء المتجردين ؟ لا . لا يوجد ولا يمكن أن يوجد بشر ” مجردون ” من واقع اجتماعي معين . وانما توجد أفكار مجردة . وهذا يعني أن لكل متحدث أو داعية الى الالتزام بافكار مجردة ” موقفا خاصاً ” ، من ترجمتها في الواقع الاجتماعي الذي يتحدث ويدعو الناس الى الالتزام فيه . ولكنه يخفيه . ألا يقولون أن ليس ثمة إلا اشتراكية واحدة ثم يخفون ما بأنفسهم فلا يقولون شيئاً عن تلك الاشتراكية الوحيدة ؟ ألا يتحدثون عن التقدم الاجتماعي ثم لا يقولون شيئأ عن الإقليمية ؟ الا يدعون الى النضال من أجل التحرر ثم لا يقولون شيئأ عن الوجود الصهيوني في فلسطين ؟ . ان وراء الأفكار المجردة ، إذن ، مواقف خفية من الواقع الاجتماعي . يخفونها ربما لأنهم يريدون ان يستدرجوا الناس الى قبول مقولاتهم الفكرية المجردة التي قد تكون صحيحة على مستواها الانساني العام ، حتى إذا ما أعلن الناس التزامهم وظنوا هم انهم قد قطعوا على الناس سبل التراجع طرحوا عليهم ، أو باسمهم ، ما كان خفياً . فإذا بالإشتراكية الوحيدة هي الماركسية ، وإذا بالتقدم الاجتماعي يقوم على التجزئة ، وإذا بالتحرر قابل للتحقق في جوار اسرائيل . إنه تدليس ولكنه أيضأ هروب من مسؤولية الصدق مع النفس ومع الناس . ولا بد للكاذبين من أن يختلفوا فيفترقوا .
على أي حال فان حديثنا الذي بدأ بالمقولات المجردة عن قوانين تطور المجتمعات ، ثم غادرها الى الحديث عن منطلقات التطور الاجتماعي في نوع خاص من المجتمعات هو المجتمع القومي ، لا بد له من أن يلتقي بالواقع وهو يحدد غايات التطور فينسبها الى مجتمعنا . وهكذا لا نستطيع أن نحدد لجهودنا غايات قابلة للالتقاء عليها والالتزام بها والاحتكام اليها إلا منسوبة الى أمتنا العربية . أن يكن التطور فهو التطور العربي . وأن يكن التقدم فهو التقدم العربي . وأن يكن التحرر فهو التحرر العربي . وأن تكن الوحدة فهي الوحدة العربية . وان تكن الاشتراكية فهي الاشتراكية العربية . حتى لو كان الطريق الى الاشتراكية فهو الطريق العربي الى الاشتراكية العربية … الخ . وعندما يصبح كل هذا واضحاً في الممارسة الفعلية قد نستغني بدلالة المواقف العينية ءن دلالة الكلمات المميزة . ولكننا في مرحلة الالتقاء الفكري قبل الالتزام وقبل الممارسة لا نستطيع إلا أن نميز غاياتنا بنسبتها الى مجتمعنا فهي غايات عربية أيا كان مضمونها ليعرف كل واحد منذ البداية انه ملتزم ومسؤول أمام جماهير هذه الأمة بحل مشكلات التطور الاجتماعي في هذه الأمة ، كما يحددها الواقع الموضوعي في هذه الأمة . على ان يكون مفهوماً تماماً ان ليس في هذا التخصيص ما يعارض او ينكر او ينفي القيمة الثقافية للفكر المجرد عن التطور أو التقدم أو الحرية أو القومية او الاشتراكية . وليس فيه ما يعارض أو ينكر أو ينفي المضامين المشتركة بين كل النظريات عن التطور أو التقدم أو الحرية أو القومية أو الاشتراكية . تماماً كما ان كوننا عربا لا يتعارض او ينكر او ينفي اننا بشر . وانه ـ على سبيل القطع ـ ليس تحديا بنظرية مخترعة في التطور او التقدم او الحرية او القومية او الاشتراكية ، انما هو ـ ببساطة ـ مغادرة للتجريد الفكري المعلق فوق واقعنا الاجتماعي البعيد عن الحياة فيه والتقاء بواقع امتنا العربية تتحول به افكارنا المجردة عن التطور والتقدم والحرية والقومية والاشتراكية الى غايات عينية نستطيع ان نلتقي عليها ونلتزم بها ونحتكم اليها في ساحات الممارسة وعلى مدى زمانها .
به نجيب على السؤال : ” أين ؟ .. ”  الذي تعلمنا من جدل الإنسان أن نطرحه على أنفسنا ونحن نحاول أن نفهم الواقع أو نحاول تطويره . وفيه نطبق أول دروس التطور الاجتماعي : ” ان التطور الاجتماعي يبدأ من الواقع الاجتماعي كما هو . بالمجتمع كما هو . بالبشر في واقعهم المعين كما هم . ويكون علينا ، أول ما علينا ، ونحن نحاول معرفة واقعنا لنطوره ان نعرف معرفة صحيحة ، ونحدد بدقة ، واقعنا الاجتماعي . أن نجيب على أول الأسئلة التي يطرحها التطور الاجتماعي : ما هو مجتمعنا ؟.. وأن نحتفظ به كما هو . وأن نحافظ عليه كما هو . وان نتعامل معه كما هو . سواء أعجبنا أو كان منا من يتمنى لو لم يكن منتمياً اليه   .
ولقد عرفنا أن ثمة سؤالآ آخر علينا ان نجيب عليه حتى نستطيع ان نطوّر واقعنا هو السؤال : “ متى ؟…”  وهو سؤال يفرض ذاته بقوة عندما نكون بصدد تحديد غايات علينا ان نحققها . في الواقع العربي حتى يتطور . ذلك لأن المستقبل لا نهاية له . وهو ” تصور لا يحده قيد من الزمان أو المكان ولا قيد ولا حد لما يتمناه الإنسان لنفسه فيشعر بالحاجة اليه . انه يصوغه كما يريد من تجاربه أو من تجارب غيره في واقعه الاجتماعي أو مما يعرف عن واقع الناس في المجتمعات الأخرى ” . ومن هنا فحتى ونحن نضع أقدامنا على واقع اجتماعي معين هو الامة العربية يبقى باب الهروب من الالتزام والمسؤولية مفتوحأ أمام الذين يغادرون التجريد الفكري في المكان الى التجريد الفكري في الزمان، ويحددون للجهد الإنساني في الوطن العربي غايات ” رائعة ” ولكنها غير صالحة للالتقاء عليها بين متعددين والالتزام بها في الممارسة والاحتكام اليها عند الاختلاف . ان لعبة التجريد ، اذن ، ما تزال قائمة بدون قاعدة وبدون حكم ولو حددنا لها المساحة العربية . وحيث لا قاعدة ولا حكم لا التزام ولا مسؤولية . وكيف مساءلة ” المبشرين ” ، بأمة عربية متحررة كالسويد ، ديمقراطية كانجلترا، مثقفة كفرنسا ، غنية كأمريكا ، صناعية كاليابان ، اشتراكية كروسيا ، ثورية كالصين ، روحية كالفتيكان ، إنسانية كأيام الراشدين ؟ .. كيف تمكن مساءلة الذين يعدون الفلاح العربي بنماذج الحياة التي لمسوها يوم أن كانوا مبعوثين أو سائحين أو عرفوها من الكتب المترجمة وافلام السينما المستوردة : منزل مكيف ، وسيارة فارهة ، وثلاجة متخمة ، وتلفزيون ملوّن ، ومكتبة عامرة ، ثم ملعب ملحق بحديقة منزله فيمارس فيه رياضته المفضلة ؟ .. أليست هذه هـي غاية ” المباراة السلمية ” بين النظم الاجتماعية المختلفة . لا أحد إذن في الوطن العربي لا ” يتمنى” أن تتحقق له كل هذه الوعود . انها غير مرفوضة فليطمئن الذين لا يكفون عن الدعوة اليها . ولكن لا أحد في الوطن العربي يستطيع أن يسائل الواعدين بها عن فشلهم في تحقيقها . لأن الوعد بتلك الغايات ” الرائعة ” لا يتضمن التزاماً بشيء عيني يجب ان يتحقق في المرحلة التاريخية الراهنة من تطور الامة العربية لا يتضمن موضوعاً عينياً صالحاً للالتقاء عليه بين متعددين والالتزام به في الممارسة والاحتكام اليه عند الاختلاف . قد يلتقي عديدون في مدرسة ” للتبشير ” من مدارس أحلام اليقظة  ولكنهم ثم عندما يفيقون ليبدأو الممارسة سيجدون أن بين الواقع العربي وبين تلك الغايات الرائعة زماناً طويلاً لم يعرفوا من احلامهم كيف يقطعونه فيحاول كل منهم أن يقطع طريقه بطريقته فيختلفون وتخذلهم الاحلام  عند الاحتكام اليها فيتمزقون . إن المثال الحي على هذا ، بالاضافة الى الداعين الى ” طريقة الحياة الامريكية ” هم الشيوعيون . 
ماذا يعني ان يقول أي عربي اني شيوعي ؟.. أو يعلن أي عربي انه يلتزم ويناضل من أجل الشيوعية ؟ .. يعني أنه يلتزم ويناضل من أجل ان يتحول الوطن العربي من البداوة والزراعة الى مجتمع صناعي ، ثم يفيض الانتاج فيه الى درجة ان كل عربي يستطيع ان يحصل على ما يريد بصرف النظر عما يعمل ، ثم تزول التناقضات بين الناس وبين المدن والقرى ويصبح الشعب العربي جماعة من الأخوة المتحابين المتعاونين الآمنين فلا يحتاجون الى جيش ولا إلى شرطة ولا الى محاكم ولا الى قانون ولا إلى دولة . نستطيع أن نقول ان هذا مجتمع وهمي لا إنساني وبالتالي فهو غير قابل للتحقق . لأنه قائم على فرض غير صحيح هو أن حاجات الناس قابلة للتوقف عند درجة معينة فيمكن اشباعها بفائض الانتاج مرة واحدة وإلى الأبد بينما حاجات الناس متجددة أبداً . قد يفيض الانتاج في سلعة فيستطيع كل واحد أن يأخذ منها حسب حاجته بدون توقف على عمله ولكن حاجته إلى سلع جديدة لن يتوقف أبداً . لأنه ” لا يستطيع أي انسان أن يكف نفسه عن الحاجة أو أن يشبع حاجاته المتجددة أبداً . إذ حتم على الانسان ، بحكم قانونه النوعي ، أن يظل  أبداً مفتقداً حرية جديدة باحثاً عن حريات متجددة ” . وقد يهم مثل هذا الحوار جماعة المثقفين في الوطن العربي . وقد يكون حواراً مفيداً على مستواه المجرد . ولكن الواقع العربي يكون في انتظار الاجابة على سؤال آخر . أنه : إلى متى ينتظر الكادحون العرب مجتمعهم الشيوعي الموعود ؟ متى تتحقق تلك الجنة ؟… بعد الف عام ، الفين … مائة ، مائتين ؟… إن الجوعى لا يصبرون أكثر من أعمارهم فلنكن إذن جادين في الحديث إليهم ، وليقل ذلك المواطن العربي الفخور بانتمائه إلى أهل الجنة ما الذي يلتزم في مواجهة الجماهير العربية المحرومة بتحقيقه في الواقع العربي المتخلف ؟.. إن كانت الاشتراكية فهذا تعبير قابل للفهم عن غاية قابلة للالتزام بها . فهو إذن اشتراكي . ويكفي أن يكون اشتراكياً . ولايهم أحد في الوطن العربي إلا أن يكون اشتراكياً . ولن يحاسبه أحد إلا على قدر ما يوفي بالتزامه الاشتراكي . أما عندما ينفي أنه اشتراكي  ليؤكد أنه شيوعي فإننا نكون في مواجهة هارب مثالي من متاعب الواقع إلى نعيم الأحلام . وهي قضية خاصة . والحق انه إذا لم يكن التبشير الهارب من الواقع حالة مرضية تستحق العلاج فهو موقف استغلالي يستحق الانتباه . فالغالب أن الواعدين بكل تلك الغايات الرائعة منها والطوباوية لا يحملون أحلاماً فارغة تمامأ من غايات عينية . وكثيراً ما تكون غاياتهم إغراء أحلام الجماهير المحرومة وجمع المحرومين ، و هم كثرة في الوطن العربي وفي المجتمعات المتخلفة، حول “ المبشرين ” ليرتقي المبشرون على آلام المحرومين فيصبحوا قادة بدون أن يلتزم القادة بشيء معين يستطيع المحرومون أن يحاسبوهم عليه ، فهو تأمين آخر ضد المسؤولية .
إن هذا ليس إدانة لأحلام البشر حتى لو كانت غير قابلة للتحقق ، وليس رفضاً للطموح الانساني حتى لو كان بعيداً . إذ أن الاحلام الرائعة والطموح البعيد والتطلع إلى مكان في الجنة قد تكون حوافز قوية على مغالبة متاعب تطوير الواقع الاجتماعي ولكنه إدانة ورفض ” للمثالية  التي تفرض الافكار المجردة على الواقع وتتجاهل الحد الزماني لحركة التطور الاجتماعي فتحيل ” الاحلام المجردة ” الى غايات مطلوبة في غير زمانها فلا تفعل إلا أن ” تخدر ” الناس فلا ينتبهون إلى مشكلات واقعهم في زمانهم ، أو تبدد الجهد الانساني في محاولات عقيمة لتحقيق ما لا يتحقق إلا في زمانه . انه ـ ببساطة أيضاً ـ عودة بعد الحلم الرائع إلى الواقع . وهو تفرقة بين الغايات لا من حيث استجابتها لما يتمناه الناس بل من حيث صلاحيتها للالتقاء والالتزام والاحتكام . وهي لا تكون كذلك لمجرد انها منسوبة الى الأمة العربية بل أيضأ بان تنسب إلى الأمة العربية في مرحلة تطورها الراهنة . بهذا تلتقي افكارنا المجردة في الزمان بالواقع العربي في زماننا فتتحول إلى غايات عينية نستطيع أن نلتقي عليها ونلتزم بها ونحتكم إليها في ساحات الممارسة وعلى مدى زمانها .
وبه نجيب على السؤال : ” متى ؟…”  وفيه نطبق ما تعلمناه : ” أن التطور الاجتماعي لا يتم بمحاولة تحقيق كل ما يريده الناس بل بتحقيق ما يمكن تحقيقه فعلاً مما يريدون في مجتمع معين في وقت معين . وقمة النجاح هو تحقيق كل الممكن . ويكون علينا أن نكتشف هذا الممكن موضوعياً في كل وقت    .


(2)

35 ـ لماذا ؟

هذي هي أمتنا العربية في النصف الثاني من القرن العشرين .
فما الذي يجب على الشعب العربي أن يحققه في الواقع الاجتماعي حتى تتطور الأمة العربية ؟.. إن السؤال بهذه الصيغة ينذر باننا على شفا منزلق خطير … نعود عليه مرة اخرى الى التجريد الفاشل : الاختفاء وراء الشعب هروباً من المسئولية . فنحن نحاول أن نلزم الشعب افكارنا الخاصة فنوجب عليه أن يحقق في الواقع العربي ما نريد نحن أن يتحقق . حتى إذا لم يتحقق كان الشعب هو المسئول عن الفشل . وهي لعبة تجريدية قديمة يتقنها الكثيرون في الوطن العربي فيسقطون إرادتهم على إرادة الشعب العربي قبل أن يقول الشعب العربي كانت فيما يريدون . فترى الاقليميين يتحدثون باسم الأمة العربية ، والمتخمين يتحدثون باسم الجائعين ، ويعلن المستبدون ما يريدون باسم الشعب ، ويحترف “البورجوازيون” الحديث باسم العمال الكادحين .  لنصحح السؤال إذن ليكون : ماالذي يجب علينا أن نحققه في الواقع العربي حتى تتطور الأمة العربية ؟
وهو تصحيح نغادر به  ـ  نهائياً ـ التجريد الفكري وتتضح به أكثر من ذي قبل ماهية نظريتنا . انها ليست مجرد نظرية في التطور الاجتماعي ، أو التطور القومي ، أو التطور العربي ، بل هي ـ  على وجه التحديد ـ نظرية القوى العربية التي تلتقي عليها وتلتزم بها وتحتكم اليها في عملها لتطوير الواقع العربي . وهي في هذا مثل كل المقولات الفكرية ، لا تغادر التجريد مغادرة نهائية ولا تلتقي بالواقع الاجتماعي التقاء كاملأ إلا إذا تجسدت في بشر يلتقون عليها ويلتزمون بها ويحتكمون إليها فتصبح نظريتهم وتؤدي فيهم وظيفتها كضابط للعمل واداة لتحقيق الوحدة الفكرية بينهم في ساحات الممارسة وعلى مدى زمانها . وعندما لا تجد أية مقولة فكرية ، ولو كانت عبقرية، بشراً عاملين يلتقون عليها ويلتزمون بها ويحتكمون إليها تبقى معلقة فوق الواقع الاجتماعي بعيدة عن الحياة فيه . فتبقى قيمتها ، إن كانت لها قيمة ، مقصورة على فائدتها الثقافية .
وكما لا بد أن نتوقع تضعنا مغادرتنا النهائية للتجريد الفكري  والتقاؤنا الكامل بالواقع العربي في مواجهة عديد من الاسئلة الدقيقة التي يتعين على نظريتنا أن تجيب عليها إجابات واضحة . انها ذات الأسئلة التي كان التجريد الفكري مهربأ من مواجهتها . أول تلك الأسئلة هو : لماذا نختار ” نحن ” غايات تلزم انفسنا بتحقيقها في الواقع العربي ؟ وهو سؤال استنكاري يتضمن اعتراضاً على أن تتصدى فئة من الشعب العربي لاختيار غايات لا لتحققها في ” شؤونها الخاصة ” ولكن لتحققها في الوطن العربي كله للشعب العربي كله . لعشرات الملايين من البشر لا يعرفونهم . إن لكل أصحاب نظرية يجسدونها التقاء والتزاماً واحتكاماً مبررات يستطيعون أن يجيبوا بها على السؤال : لماذا اخترنا ؟… وتتضمن النظرية عادة تلك المبررات . فهم يقدمون من افكارهم مبررات اختيارهم . ولا اعتراض على هذا . ولكن السؤال الاعتراضي منصب على أن يختاروا للأمة العربية . ما هو مصدر حقهم في أن يختاروا، وهم فئة محدودة من الشعب العربي مهما كثر عددهم ، غايات لتطور الأمة العربية كلها ؟ هل هو فضول قد يرد أم تسلط يجب أن يرد ؟ … انها اسئلة لا بد للنظرية من أن تجيب عليها قبل أن تحدد للقوى التي تجسدها غايات يلتزمون بتحقيقها في الواقع العربي . ذلك لأنهم يواجهون في الممارسة جماهير أمتهم بالتزامهم السابق بتحقيق غايات عينية في الواقع الاجتماعي الذي هو واقع هذه الجماهير وحياتها . وتلك علاقة لا ينبغي أن تبقى معلقة بدون بيان لماهيتها يعرف به كل واحد لماذا يفعل بنفسه ما يفعل ليغير ويطور حياة الناس . ولنعرف لماذا نختار نحن للأمة العربية ولا نختار لأنفسنا ؟ ..
ان الاجابة سهلة . فقد سبق أن عرفنا من جدل الانسان ، ” ان الواقع الاجتماعي هو الذي يسهم في اثارة المشكلات في المجتمع . لأن الواقع (حصيلة الماضي) الذي يناقض ما يريده الانسان هو ـ هنا ـ واقع اجتماعي . ومؤدي هذا انه لا وجود في المجتمع لما يسمى المشكلات الخاصه . إن كل المشكلات التي يواجهها أي انسان في حياته هي مشكلات اجتماعية في حقيقتها الموضوعية . بحيث لا يمكن فهمها فهماً صحيحاً إلا على ضوء الواقع الاجتماعي الذي اسهم في اثارتها أو الا من حيث هي تعبير عن تناقض قائم بين الواقع الاجتماعي كما هو وبين ما يريده الانسان فيه “. ( فقرة 18) . وعندما طبقنا هذه القاعدة الموضوعية على مجتمعنا العربي قلنا أن الأمة العربية ” عندما اكتملت تكويناً كانت بذلك دليلاً موضوعياً غـير قابل للنقض على أن ثمة وحدة موضوعية ، قد نعرفها وقد لا نعرفها ، بين كل المشكلات التي يطرحها واقعنا القومي أيا كان مضمونها، وانها، بهذا المعنى مشكلات قومية لا يمكن أن تجد حلها الصحيح إلا بامكنيات قومية وقوى قومية  في نطاق المصير القومي ” (فقرة   . (23
نحن ، إذن ، نختار للأمة العربية لا تفضلاً ولا تسلطاً بل لأننا لا نستطيع إلا أن نختار للأمة العربية بحكم وحدة المصير القومي ، ولأن الذين يختارون لأنفسهم في عزلة عن مصير مجتمعهم فاشلون . ونعرف أن الواقع الموضوعي الذي يربط مصير كل واحد من الشعب العربي بمصير أمته يحول دون أن يختار أحد لنفسه . إنه عندما يختار لنفسه مستهدفاً حل مشكلاته التي يعرفها يكون قد اختار للأمة العربية بدون أن يعرف ولو لم يختر سوى الانتحار الذي يحرم أمته من جهده في خدمة تطورها . وكما انه من الجبن أن ننكر أننا نحن وليس الشعب العربي الذين نختار الغايات التي نلزم أنفسنا  بتحقيقها في الواقع العربي ، يكون من النفاق أن نخفي اننا نختار للأمة العربية وليس لأنفسنا فقط . ونحن لا نريد أن نكون فاشلين أو جبناء أو منافقين ، ولا نريد أن يمر بخاطر أحد منا ، أو أحد غيرنا إننا نختار لأمتنا تفضلاً أو تسلطاً . لهذا نقول : ما دمنا ننتمي الى الأمة العربية ، وهي مجتمعنا الذي يحدد مصيرنا في مصيره ، فإننا لا نستطيع إلا أن نختار للأمة العربية كلها غايات نلتزم نحن بتحقيقها ومن حقنا أن نختار لأمتنا العربية كلها لأن الاختيار لأنفسنا دون الأمة العربية التي ننتمي إليها مستحيل . ثم نضيف إننا إذ نرفض الاعتراض على حقنا نحن في أن نختار لأمتنا العربية كلها غايات نلتزم نحن بتحقيقها لأن الاختيار لأنفسنا مستحيل فإنه من المستحيل علينا ، بحكم نظريتنا ذاتها ، أن نعترض على حق غيرنا من أبناء الأمة العربية في أن يختاروا لأمتهم ما يشاءون من غايات يلزمون أئفسهم بتحقيقها مهما تكن تلك الغايات مختلفة عن غاياتنا . هذا مع إننا نعلم علم اليقين إنهم عندما اختاروا بأنفسهم ما اختاروا لأمتهم قد اختاروا لنا أنفسنا إذ نحن بعض أبناء الأمة العربية . ان هذا حقهم بحكم وحدة المصير القومي التي هي مصدر حقنا 
وسنعرف عند حديثنا عن الأسلوب الذى نحقق به غاياتنا كيف يحدد لنا هذا الذي نقوله الآن مواقف عينية في ساحات الممارسة .
ولنواجه سؤالاً آخر من الأسئلة الدقيقة التي تبدأ بـ  ” لماذا ؟ “..
أياً كان مضمون الغايات التي نختارها للأمة العربية ونلزم أنفسنا بتحقيقها في الواقع العربي ، ” لماذا ؟ ” نختارها هي بالذات دون غيرها ؟ لو كنا نختار لأنفسنا لكانت الإجابة سهلة : إننا نختارها لأنها الحلول الصحيحة للمشكلات الإجتماعية التي نشعر بها في أنفسنا . ولكننا نختار للأمة العربية . وتكون الإجابة السهلة هي : أن الغايات التي اخترناها للأمة العربية قد اخترناها وألزمنا أنفسنا بتحقيقها في الواقع العربي لأنها الحلول الصحيحة للمشكلات الإجتماعية في الوطن العربي . غير أن هذه إجابة يستطيع كل واحد أن يقولها فيزعم لنفسه  أو لغيره أن الغايات التي اختارها لمجتمعه هي ، وحدها، الحلول الصحيحة للمشكلات الإجتماعية في مجتمعه ثم يوهم نفسه أو غيره بأنه قد أجاب على سؤال دقيق بقول مفيد . وهو غير صحيح . فما يزال السؤال الدقيق قائماً ولن يكون القول مفيداً في الإجابة عليه إلا إذا عرفنا لماذا تكون تلك الغايات التي نختارها لأمتنا العربية هي دون غيرها الحلول الصحيحة للمشكلات الإجتماعية في الوطن العربي ؟.
إنه أدق الأسئلة المطروحة على الفكر السياسي على وجه الإطلاق لأن الإجابة عليه تتصل إتصالاً مباشراً بحياة الآخرين من ملايين البشر الذين نختار لهم قبل أن نعرف رأيهم فيما اخترنا . أولئك الملايين من البشر الذين نزعم إننا ما اخترنا ولا التزمنا إلا من أجل حل مشكلاتهم الإجتماعية . وهو زعم ذو ثمن باهظ . فقد ندفع نحن حياتنا في سبيله وقد يدفع الاخرون حياتهم في سبيل ردنا عن سبيله . وعندما تكون الحياة والموت متوقفين على صحة الأفكار التي تضبط حركة البشر تكون المسئولية عن صحة الأفكار فادحة . وهي مسئولية لا يشعر بها المثاليون والماديون لأن النظريات المثالية والمادية تسمح لأصحابها بممارسة هوايتهم الخطرة والمفضلة معاً : الحديث نيابة عن الناس والتعبير عن مشكلات عشرات الملايين من البشر الذين لم يعرفوهم قط . فيجدون في المادية أو المثالية التي تختار للناس ما يريدون مهرباً مريحاً من مسئولية الإجابة على السؤال الدقيق .
أما نحن ، أصحاب نظرية جدل الإنسان ، التي تنكر أن يكون التناقض الجدلي قائماً في الفكر المجرد أو في المادة الصماء وتؤكد إنه قائم في الإنسان نفسه بين واقعه وبين إرادته فتدخل الشعور الذاتي بالحاجة عنصراً موضوعياً في تحديد المشكلة الإجتماعية ، فقد حرمت علينا نظريتنا أن ننسب الى الناس مشكلات لا يحسون بها في أنفسهم ، وعلمتنا ” أن التطور الإجتماعي هو حل مشكلات الناس في المجتمع لا أكثر ولا أقل ، وأن ” علينا ونحن نحاول أن نعرف ما الذي يجب أن نفعله لنطور واقعنا الإجتماعي أن نعرف مشكلات الناس معرفة صحيحة . مشكلات الناس بما فيهم نحن وليس مشكلاتنا نحن دون الناس . ونحن نعرفها بالمقارنة بين الواقع الإجتماعي كما هو وبين ما يريده الناس كما هو . ان المشكلة هي الفرق بينهما في المضمون والمدى ” . وأن ” التطور الإجتماعي ليس مجرد نمو خلال الإضافة بل ان كل إضافة ينمو بها المجتمع ويتطور هي حل لمشكلة إجتماعية واقعية فليس كل ما يحدث في الواقع الإجتماعي تطوراً ” . منذ أن تعلمنا وعرفنا كل هذا أصبح مستحيلاً علينا أن نحدد لنا غايات نختارها للأمة العربية ونلزم أنفسنا بتحقيقها في الواقع العربي لمجرد إرادة تغيير الواقع أو لمجرد تغيير ما نريد نحن حلاً لمشكلاتنا التي نعرفها ، بل أصبح علينا قبل أن نحدد تلك الغايات وقبل أن نلتزم بتحقيقها أن نعرف المشكلات الإجتماعية التى هي حلول لها . ومن واقع المشكلات تتحدد الغايات ونقدم الإجابة عن السؤال : لماذا اخترنا للأمة العربية ؟

(3)

 

36 ـ مشكلات التطور : 

 

كيف نعرف المشكلات الإجتماعية التي يعانيها الشعب العربي فعلاً ؟

يبدو طبقاً لنظريتنا اننا في حاجة الى استفتاء الشعب العربي في مشكلاته قبل أن نحدد لأنفسنا غايات تلتزم بتحقيقها في الواقع العربي حلاً لتلك المشكلات تتطور به الأمة العربية . ليس كذلك تماماً . فلو كنا قد استوعبنا تماماً جدل الإنسان لاستطعنا أن نفرق بسهولة بين نوعين من مشكلات التطور الإجتماعي . النوع الأول هي المشكلات التي يثيرها التناقض الجدلي المتجدد أبداً بين الواقع المادي وحاجة الانسان المتجددة أبداً . إنها مشكلات الإضافة والنمو التي تتوقف معرفة حلولها الصحيحة على معرفة ما يشعر كل إنسان بالحاجة إليه فعلاً ، وهو لا يعرف إلا من الناس أنفسهم . ففيهم أنفسهم يتناقض الواقع والحاجة وتثور المشكلة . وعندما نعرف مشكلات النمو التي يعانونها في أنفسهم ، عندما تعرف ماهية المضامين العينية الجديدة التي يريدونها لإشباع حاجاتهم المتجددة أبداً ، يمكن ، بعد هذا وليس قبله ، اكتشاف الحلول الصحيحة لتلك المشكلات كما هي محددة موضوعياً بامكانيات واقعهم . وهي حلول ستكون متجددة متنوعة متغيرة متزايدة أبداً لأن ” تحرر الإنسان حاجته في موضوع معين يؤدي مباشرة الى حاجته في موضوع جديد . ولا يستطيع أي إنسان أن يكف نفسه عن الحاجة أو يشبع حاجاته المتجددة أبداً. إذ حتم على الانسان ، بحكم قانونه النوعي ، أن يظل أبداً مفتقداً حرية جديدة باحثاً عن حريات متجددة ” . أما النوع الثاني فهي المشكلات التي يثيرها التناقض بين واقع إجتماعي معين وبين إرادة التطور. بين إرادة الناس حل مشكلات التقدم والنمو التي يشعرون بها في أنفسهم وبين واقع إجتماعي معين يحول بينهم وبين حلها . مشكلات التنمية قائمة، وإرادة حلها قائمة ، وإمكانيات حلها قائمة ، ولكن ذلك الواقع المعين يحول بين الناس وبين ما يريدون . وتكون هذه هي المشكلة الطارئة على حركة التطور المعوقة له . وتمكن معرفتها حيث تكون بدون حاجة الى الرجوع الى الناس . ذلك لانه يمكن ، بدون حاجة الى استفتاء ، معرفة ان كل إنسان يريد ، من حيث هو انسان ، أن يحل مشكلاته بصرف النظر عن مضمون تلك المشكلات ، ” إذ حتم على الإنسان بحكم قانونه النوعي أن يستهدف دائماً حريته ”. ” كما يمكن ، بدون حاجة الى استفتاء ، معرفة الواقع الإجتماعي الذي يحول بين الناس وبين تحقيق إرادتهم في التطور . يمكن معرفته عن الواقع الإجتماعي ذاته وهو قابل للمعرفة بدون استفتاء ..

وعندما نعرف النقيضين نعرف المشكلة بدون استفتاء ، فنعرف أنها ، أيأ كان مضمونها ، مشكلة حرية . ما يحول بين الناس وبين التطور . والتطور يتم بحل مشكلات التقدم والنمو كما عرفنا . ومن هنا فان المشكلات التي نسميها مشكلات حرية ، من حيث أن التحرر هو حلها الصحيح ، تعنى أنه ثمة في الواقع الإجتماعي ما يحول دون التقدم والنمو الإجتماعي المتكافيء مع الإمكانيات المتاحة .

لهذا نسمى المشكلات الأولى مشكلات التنمية التي يحلها الناس بانتاج ما يحتاجون إليه من مضامين مادية أو ثقافية عن طريق توظيف إمكانياتهم المادية والبشرية المتاحة في مجتمعهم . ونفترض أن ثمة مجتمعاً متحرراً يواجه الناس فيه واقعهم ويطورونه بدون عائق . أما المشكلات الثانية فتسمي مشكلات التخلف . لا بمعناه الدارج أي التخلف عن المجتمعات الأخرى في سياق التقدم المادي الثقافي الذي يقاس ، عادة بمستوى المعيشة ، ولكن بمعناه الفني كما هو معروف في علم الاقتصاد السياسي ، أي عجز  الناس في مجتمع معين عن توظيف كل الامكانيات المادية والبشرية المتاحة فعلاً ـ في مجتمعهم .

 المهم اننا لا نستطيع أن نعرف الحلول الصحيحة لمشكلات التنمية التي يكون من أثرها اشباع حاجات الناس إلى مضامين مادية و ثقافية معينة بدون معرفة ما يحتاج اليه الناس فعلا من الناس أنفسهم هذا طبعأ مع التجاوز عما نستطيع أن نعرفه من حاجاتهم الفسيولوجية إلى المواد الأساسية اللازمة مادياً لحفظ الحياة . أما مشكلات التخلف التي يكون من أثرها منع الناس من توظيف كل الامكانيات المتاحة في مجتمعهم لاشباع حاجاتهم فاننا نستطيع أن نعرفها بدون رجوع إلى الناس لأننا نعرف ان الناس يريدون دائماً اشباع حاجاتهم بما هو متاح فان لم يفعلوا فلا بد من أن ثمة ما يحول بينهم وبين ما يريدون .

واضح انها تفرقة في مصادر معرفة المشكلات الاجتماعية . بعضها مصدر معرفته هو الناس أنفسهم . وبعضها مصدر معرفته القوانين الموضوعية التي يخضع لها الناس حتما وتؤثر هذه التفرقة ، بالتالي ، في كيفية معرفة الحلول الصحيحة لها . بعضها لا يعرف إلا بعد الرجوع الى الناس لمعرفة ما يريدون من مضامين مادية أو ثقافية ، وبعضها يعرف بدون الرجوع الى الناس لأن مضمونه في كل الحالات هو تمكينهم من تحقيق ما يريدون . وهكذا يختلف في مواجهته كل منهما الاسلوب الذي نحدد به غاياتنا . نحدده في الاولى استناداً إلى ما نعرفه من الناس وحاجاتهم . ونحدده في الثانية استناداَ إلى ما نعرف من القوانين الموضوعية التي تضبط حركة الناس . وستكون هذه التفرقة ذات أهمية كبيرة عندما نصل بالحديث الى تحديد الاسلوب الذي تتحقق به في الواقع العربي الغايات التي اخترناها للأمة العربية . ذلك لاننا وان كنا نلزم أنفسنا دائماً بتحقيق الحلول الصحيحة لمشكلات التنمية ومشكلات التخلف جميعاً إلا أن اسلوب تحقيق كل منها سيكون مختلفاَ .

وأخيراَ ، فينبغي أن ننبه إلى أن حل مشكلات التنمية هو الأصل لأن التطور هو الأصل في حركة المجتمعات بحكم حتمية القوانين الموضوعية التي تضبط حركتها من الماضي إلى المستقبل . فهي مشكلات مستمرة ومتجددة ومن حلولها المستمرة المتجددة تنمو المجتمعات وتتقدم . أما مشكلات التخلف فطارئة وبالتالي مؤقتة . وهي تعوق التطور ولكنها عندما تحل تطرد حركة التطور التقدمي من خلال الحلول الجدلية لمشكلات التنمية . ومن هنا فإن وجود التناقضات التي تثير مشكلات التخلف في المجتمع لا تلغي نهائياً حركة التطور الحتمية انما تضعفها . ففي ظل مشكلات التخلف تظل مشكلات التنمية قائمة ومتجددة يحلها الناس ولكن بما هو ” متاح لهم ” وليس بما هو ” متاح في مجتمعهم ” . أو بتعبير آخر، عندما تثور مشكلات التخلف في أي مجتمع، والى أن تحل تظل حركة التطور عن طريق حل مشكلات التنمية قائمة ومستمرة بقدر ما ” هو ممكن ” وليس بقدر ” ما يجب ان يكون ” منسوباً الى الامكانيات المادية والبشرية المتاحه فعلا في مجتمع معين في وقت معين .

فلينطبق هذا على الامة العربية .

ان الامة العربية هي الشعب العربي (الناس) والوطن العربي (الارض) وفيهما تتمثل الامكانيات المتاحة للتطور العربي ( فقرة 22) . يمثل الشعب العربي بما يملكه من قوة العمل اليدوي والذهني الامكانيات البشرية المتاحة. ويمثل الوطن العربي بما فيه من مصادر الثروة الامكانيات المادية المتاحة . ويتم التطور بأن يتولى الشعب العربي بما يملكه من قوة العمل اليدوي والذهني تحويل ما في الوطن العربي من مصادر الثروة الى ثروة متاحة ، أي الى مضامين مادية أو ثقافية تشبع حاجاته المتجددة ابداً . وهكذا يواجه الشعب العربي نوعين من المشكلات الاجتماعية وهو يطور واقعه :

الاول : المشكلات المستمرة المتنوعة المتجددة التي يعانيها وهو يحاول أن ينتج من الامكانيات المادية والبشرية المتاحة في الوطن العربي ما يشبع به حاجاته المستمرة المتنوعة المتجددة أبداً :

الثاني : المشكلات الطارئة ، المعوقة ، التي تحول بينه و بين أن يحل مشكلات النوع الاول .

وبما أن النوع الاول هو الاصل فنبدأ به .

 

(4)

 

37 ـ مشكلات التنمية : 

 

نحن نعرف من واقعنا العربي أن أجزاء أمتنا العربية مغتصبة وأن الاستعمار الظاهر و الخفي ، القديم والجديد يسيطر عسكرياً واقتصادياً على كثير من ا مكانياتنا المادية والبشرية . ونحن نعرف أننا أمة مجزأة تقوم على كل جزء منها دولة من أبنائها أو من الغاصبين ونعرف أن الرجعية المستغلة تفرض الفقر والمذلة على شعبنا العربي . وان هذا كله شامل الأمة العربية شعباً ووطناً بدون فائض ” الشعب العربي ، الجماهير العربية ، هي هي ذاتها شعوب وجماهير الأقاليم . والوطن القومي هو هو ذاته المجزأ بين الدولة الاقليمية . الامكانيات القومية هي ذاتها المقسمة الى امكانيات اةليمية … في هذا الواقع لا يوجد شعب قومي مفرز كما لا توجد أرض قومية خالصة ” ( فقرة 31 )  .

وبينما يركز الفكر القومي التقدمي تركيزاً قوياً على مشكلات الاستعمار والتجزئة والاستغلال حتى نكاد نعرف منه كل شيء تقريباً عن تلك المشكلات وحلولها الصحيحة كما يرمز لها الشعار المثلث : “الحرية والوحدة والاشتراكية ” الذي ترفعه وتتحرك من تحته اعرض القوى في الوطن العربي ، لا نكاد نعرف من الفكر القومي التقدمي شيئاً معيناً يجب أن يتحقق في الواقع العربي المستعمر المجزأ المستغل ، حتى تتطور الأمة العربية بقدر ما هـو متاح فيها . كأن الشعب العربي لا يعاني في حياته إلا مشكلات الاستعمار والتجزئة و الاستغلال .

وهو غير صحيح وغير واقعي .

ليس الاستعمار والتجزئة والاستغلال هي المشكلات الوحيدة التي يعانيها الشعب العربي فعلاً . وليست الحرية والوحدة والاشتراكية هي الغايات الوحيدة التي يريدها الشعب العربي حقا . بل اننا نستطيع أن نقول أن كثيرين من ابناء الامة العربية تستغرقهم مشكلات الحفاظ على الحياة ، مجرد الحفاظ على الحياة ، من مخاطر الجوع والمرض والعرى والتشرد فلا يجدون في رؤوسهم مكاناً يستقبلون فيه الحديث عن مشكلات الاستعمار والتجزئة والاستغلال ، ولا يجدون في أوقاتهم متسعاً للتفكير في الحرية والوحدة والاشتراكية . وكثيرون من أبناء الأمة العربية ، ملايين ، عشرات الملايين ، يعرفون مشكلات الاستعمار والتجزئة والاستغلال ، ويريدون الحرية والوحدة والاشتراكية ، ولكن مشكلات الحياة اليومية تستنفد طاقاتهم فلا يجدون فائضاً منها يبذلونه في سبيل الحرية والوحدة والاشتراكية . انهم مشغولون باشباع حاجاتهم المتجددة ابداً بما هو متاح لهم . البدوي الذي يقضي ايامه متنقلا في الأرض الوعرة يبحث عن حل لمشكلة غذاء قطيعه ويصبر على الجوع والعري ومخاطر الطبيعة  في انتظار أن تلد النعجة حملاً فيحل مشكلة غذائه وكسائه . الفلاح الذي يقضي أيامه وسط الطين يبذر البذور ويصبر على الجوع والعرى والمرض في انتظار أن تنمو البذور فتأتي الثمار. وما أن تأتي بعد شقائه الطويل حتى يستولي على اكثرها المرابون والمالكون الأرض ومحصلو الضرائب . العامل المجهد خلال ساعات العمل الطويل يحل مشكلات الانتاج بمعدل السرعة التي تفرضه الالات في حركتها غير الانسانية التي لا تتوقف ، ثم يطلب ويرجو ويتوسل وقد يتحايل من أجل أن يزداد ارهاقاً في ساعات عمل اضافية ليحصل على قروش يحل بها مشكلات أسرته التي تنتظر . الشباب لا يتعلمون أو ينقطعون عن التعلم لأنهم لا يستطيعون دفع ثمن العلم . وراء كل هـؤلاء ملايين من الاباء والشيوخ والامهات العاجزات والاطفال الذين يموتون لان اباءهم لا يجدون ما يبذلونه من أجل الحفاظ على حياة ابنائهم . وبجوار هؤلاء ملايين من الشباب العربي يقضون ايامهم الطويلة المملة في محاول حل مشكلة القادر العاطل : ماذا يعمل ؟..  وفوق كل هؤلاء بضعة ملايين من رؤساء العشائر ومشايخ القبائل والمالكين المستغلين والمستعمرين والمغتصبين والبيروقراطيين تكاد يكون دورهم الوحيد استغلال شعبنا العربي وسلبه إمكانيات تطوره وتنغيص حياته وتعقيد مشكلاته . وفي مواجهتم ملايين من الرجال والنساء العرب العاملون الجادون يبذلون جهودهم الخلاقة في الصحارى والجبال والمزارع والمصانع والمدارس والجامعات وفي كل مجالات الخدمات ، ينتجون ويضيفون وينمون ويبنون بقدر ما هو متاح لهم من امكانيات وهو قليل … الخ .

هذه هي أمتنا العربية . إذ لا وجود لكائن وهمي يسمي الامة العربية مستقل عن الشعب العربي . وهذا هو الشعب العربي . عندما نشير اليه بأصبع لنقول هذا شعبنا سيقع اصبعنا على بدوي يحل مشكلة الصحراء أو فلاح يحل مشكلة في الارض ، أو عامل يحل مشكلة في المصنع ، أو والد شيخ أو أم عاجزة أو طفل يحتضر … الخ . عندئذ نعرف معرفة اليقين أن ” وحدة المصير القومي ” التي لا نمل الحديث عنها وتأكيدها لا تعني في الواقع العربي إلا وحدة مصيرنا ومصير هؤلاء البشر .   وان تطور الامة العربية ” إنما يتم ويطرد عن طريق حل المشكلات الاجتماعية التي يعانيها هـؤلاء البشر إذ أن ” المجتمعات تتطور من خلال حل مشكلات الناس فيها ، ولا تتطور إلا من خلال حل مشكلات الناس فيها . وبقدر ما تحل مشكلات الناس فيها تتطور لا اكثر . ولا يتم التطور إلا في المجالات الاجتماعية التي تحل مشكلات الناس فيها لا ابعد   .

هنا وهناك ، على امتداد الوطن العربي، في مواقع العمل أو في مواقع البطالة توجد ملايين المشكلات الاجتماعية التي يثيرها التناقض بين الواقع العربي وما يريده الشعب العربي . وهي كلها مشكلات تقدم وتنمية . فيها يحاول العاملون من أبناء الامة العربية ان يغيروا بالانتاج واقعهم ليشبعوا حاجات الشعب العربي المتغيرة المتنوعة المتجددة ابداً . في ظل الاستعمار وفي ظل الحرية ، في ظل الاقليمية وفي ظل الوحدة ، في ظل الاستغلال وفي ظل الاشتراكية ، لا تتوقف محاولة التطور، ولا يكف الانسان العربي عن محاولة حل مشكلاته عن طريق تغيير واقعه ليشبع حاجاته . ليحقق ارادته . ليتطور . ليبني . ليضيف . ليتقدم . ونحن نعرف ان كل هؤلاء العاملين الكادحين المشغولين بحل مشكلات الحياة لا يفعلون شيئاً سوى تطوير وبناء وتقدم امتهم العربية سواء كانوا يعرفون هذا ويقصدونه او كانوا لا يعرفون ولا يقصدون . هذا اذا كنا نحن قد وعينا ما عرفنا وما ينبغي أن نؤكده مرة ومرات من ان ” المجتمعات تتطور من خلال حل مشكلات الناس فيها . ولا تتطور إلا من خلال حل مشكلات الناس فيها. وبقدر ماتحل مشكلات الناس فيها تتطور لا اكثر . ولا يتم التطور إلا في المجالات الاجتماعية التي تحل مشكلات الناس فيها لا ابعد ” .

ما هي تلك المشكلات وما هى حلولها الصحيحة ؟

الاجابة هنا وهناك على امتداد الوطن العربي حيث يعيش الشعب العربي في مواقع العمل او في مواقع البطالة . وهي مشكلات تختلف مضامينها وتتنوع من واحد الى واحدة ومن جماعة الى جماعة ومن موقع الى موقع ومن يوم الى يوم . ولاتستطيع اية نظرية ” انسانية ” ان تحدد مقدماً مشكلات التنمية كما يعانيها الشعب العربي حيث يكون . ان اقصى ما يمكن معرفته ” نظرياً ” هي انها ذات المضامين مادية وثقافية . ربما لان الانسان الذي هو ” وحدة من المادة والذكاء ” لا يحتاج الى مضامين من نوع ثالث . اما ما هي تلك المضامين المادية والثقافية وأين مصادر انتاجها وكيف يتم انتاجها و كم يحتاج الشعب العربي منها وما الذي يفعل كل واحد ليتم الانتاج وكيف تصل المنتجات الى الحاجات فتشبعها وكيف يتكرر الانتاج … الخ . فتلك اسئلة تجيب عليها ” خطط ” التنمية الاجتماعية التي تتضمن الحلول الصحيحة لمشكلات التنمية . وليس من شأن النظرية، اية نظرية انسانية لا تبيح لاصحابها الحديث نيابة عن الناس وتضع ” الانسان اولاً ” ان تجيب عليها مقدماً وبعيداً عن الناس وواقعهم . وإن كان من شأنها ان تنذر بالفشل الذي تستحقه  أية حركة تستهدف تطوير الواقع لحل مشكلات اصحابها جاهلة او متجاهلة مشكلات الناس . او جاهلة او متجاهلة حقيقة الواقع الاجتماعي، او مدعية للناس مشكلات لا يشعرون بها من انفسهم ” . وهـو ما انذرنا به جدل الانسان منذ البداية ( فقرة 18 )  .

إذا كنا نريد ، إذن ، أن نعرف الغايات التي نختارها للأمة العربية ونلزم أنفسنا بتحقيقها في الواقع العربي حتى يتطور فلنعش مع الشعب العربي في مواقع العمل أو في مواقع البطالة و لنعرف ما هـي مشكلاته ولنكتشف حلولها الصحيحة ثم نحولها إلى خطوط انتاج يومي تنفذها في الواقع العربي . تلك هـي ” الغاية ” التي تلزمنا بها نظريتنا : أن نعرف من الشعب العربي نفسه المشكلات الواقعية التي يثيرها التناقض بين واقعه وان نكتشف حلولها الصحيحة المحددة موضوعياً بالواقع الاجتماعي ذاته ثم نلزم أنفسنا بتحقيقها . بهذا ننضم الى قافلة البنائين الحقيقيين للتقدم في الأمة العربية . إذ بالأنتاج ثم الانتاج ثم مزيد من الانتاج تتقدم الأمة العربية ـ  وبقدر ما ننتج ثم ننتج  ثم ننتج  نسهم حقاً في تقدم الأمة العربية ، أن هذي هي عملية البناء والإضافة التي تتطور من خلالها المجتمعات والأمم، ومن خلالها نطور واقع أمتنا العربية . وهي قائمة ومتجددة قبل التحرر وبعده ، قبل الوحدة وبعدها ، وقبل الاشتراكية وبعدها . لم تتوقف منذ أن وجد الإنسان على الأرض ولن تتوقف أبداً .

ولكنا عندما نحاول انجازها في ظل الاحتلال أو الاستعمار أو التجزئة أو الاستغلال سنكتشف أن ثمة في الواقع العربي ما يحول بين إرادتنا التقدم وبين التقدم . ما يحول بين إرادتنا التطور وبين الامكانيات المادية والبشرية المتاحة في أمتنا العربية . عندئذ سيستمر التقدم من خلال حل مشكلات التنمية بما هو متاح للشعب العربي ، وبقدر ما هو متاح ، وفي المجالات المتاح فيها ، ويثبت لنا الواقع ذاته أن حل مشكلات التنمية بما هو متاح في الأمة العربية وليس بما هو متاح للشعب العربي فقط ، يقتضي حل مشكلات التخلف .

 

(5)

 

38 ـ مشكـلات التخلف :

 

قلنا أن للتخلف مفهومين . المفهوم الدارج أي التخلف عن المجتمعات الاخرى في سباق التقدم المادي والثقافي الذي يقاس عادة بمستوى المعيشة أي متوسط ما يحصل عليه كل فرد من المضامين المادية والثقافية لاشباع حاجته . والمفهوم الفني كما هو معروف في علم الاقتصاد السياسي، أي عجز الناس في مجتمع معين عن توظيف كل الامكانيات المادية والبشرية المتاحة فعلاً في مجتمعهم .

ولا شك في أن الأمة العربية متخلفة بالمفهومين كليهما .

فمستوى معيشة الاغلبية الساحقة من الشعب العربي أقل بكثير من ” حد الفقر ” الذي تجاوزته بعض المجتمعات المعاصرة منذ قرن . وفي الوطن العربي يموت الملايين كل عام بذلك المرض الذي لا تموت منه حتى الحشرات : الجوع . عدم الحصول على الحد الادنى من المواد الغذائية اللازمة لاستمرار الحياة . أما باقي المائة مليوناً ، إلا قلة ، فيعيشون تحت المستوى الذي يشبع حاجاتهم الفسيولوجية ولا نقول الثقافية ويدفعون الفرق سنين مخصومة من أعمارهم ، إذا أردنا أن نعرف هذا وندرك بشاعته فلنغادر المدن العربية تلك النتؤات الاجتماعية النامية نمو الأوارم الخبيثة فهي مؤشرات الى أمراض خطيرة أكثر منها صحة . تلك المدن التي انشئت لتكون  مقراً وسكناً ” لائقاً ” بحياة المستعمرين الأوربيين ولتكون قطعاً من أوربا . وما تزال البيروقراطية المستغلة ، خليفة المستعمرين ، تنميها وتزوقها لتكون مقراً وسكناً ” لائقاً ” بحياة القادرين على أن يسلبوا الفقراء أسباب الحياة ليصنعوا منها لأنفسهم حياة مترفة . في هذه المدن يثير المترفون أكثر المشكلات غرابة وغربة عن الشعب العربي . مشكلات الرفاهية مشكلات الانماط المستحدثة من المباني والسيارات والملابس والمجوهرات ووسائل التسلية لملء أوقات الفراغ ويستعيرون لها آخر ما وصلت اليه المجتمعات الأوربية أو الامريكية من حلول مترفة . في هذه ” المجتمعات ” الغربية  الغريبة القائمة في الوطن العربي لا نلتقي بالشعب العربي فلا نعرف كم  هو متخلف في مستوى معيشة . انما نلتقي به ونعرف كم هو متخلف في الازقة المتعفنة من بقايا المدن القديمة حيث يعيش العمال حول المدن المستحدثة . في جوف الصحراه القاحلة وعلى قمم الجبال الجرداء حيث يحيا جزء كبير من الشعب العربي ذات الحياة التي كان يحياها اسلافهم منذ الف عام .  في الريف العربي حيث تعيش اغلبية الشعب العربي من الفلاحين . هناك يعيش الانسان العربي تحت حد الفقر، وهناك يكون الحصول على ” لقمة العيش ” مشكلة متجددة من وجبة إلى وجبة ، وهناك يموت الإنسان العربي من الجوع . ذلك هو الشعب العربي في واقعه المتخلف وفي  آلامه . نعم آلامه . ففى هذا النصف الثاني من القرن العشرين حيث تولى التقدم المذهل في وسائل المواصلات والنشر والاذاعة عصفت موجات ” الترانزستور ” بالحذر العتيق : ” القناعة كنز لا يفنى “. ويعرف الشعب العربي ، لا شك يعرف ، كم استطاعت الشعوب الاخرى أن تحقق من تقدم . فهو يتطلع ، لاشك يتطلع إلى مثل الحياة التي يعرفها ، فيشعر، لاشك يشعر، بعمق التناقض بين واقعه وبين ما يتمناه لنفسه ، فيتألم ، لا شك يتألم ، ألماً يتضاعف بقدر ما تتضاعف معرفته بمدى تخلف أمته العربية عن المجتمعات المعاصرة .

ومع هذا فليس هذا هو التخلف الذي يعنينا في مرحلتنا الراهنة إذ ” أن التطور الاجتماعي لا يتم بتحقيق كل ما يريده الناس بل بتحقيق ما يمكن تحقيقه فعلا مما يريدون في مجتمع معين في وقت معين ” ان التخلف عن المجتمعات الاخرى يثير الآلام التي تكون حافزاً على التقدم وانذاراً للذين يتجاهلون الآم الناس ، ولكن التقدم لا يتم إلا بتحقيق ما هو ممكن . التخلف الذي يعنينا، اذن ، أكثر تواضعاً مما تثيره المقارنة بين امتنا والمجتمعات المتقدمة . انه تخلف الامة العربية بمعناه الفني عجز الشعب العربي عن أن يحقق لنفسه التقدم المادي والثقافي الممكن فعلاً كما هو محدد موضوعياً بالامكانيات المادية والبشرية المتاحة في الوطن العربي . عجز الشعب العربي عن ان يوظف كل الامكانيات المادية والبشرية المتاحة فعلاً في وطنه .

هنا سنواجه ما يقال من أن أغلبية الشعب العربي نفسه متخلفة . عشرات الملايين من أبناء الامة العربية عاجزون ” ذاتياً ” عن أن يعرفوا الحقيقة الاجتماعية لذات المشكلات التي يعانونها في انفسهم وحلولها الصحيحة المحددة موضوعيأ بواقعهم الاجتماعي ولا يتقنون العمل المناسب لتنفيذ تلك الحلـول في الواقع . أو إن الذين قد يعرفون حقيقة مشكلاتهم لا يعرفون حلولها الصحيحة لا يعرفون كيف ينفذونها في الواقع . ومع التخلف الثقافي والتخلف العلمي والتخلف في مهارة إداء العمل المناسب يقفون امام الامكانيات المادية والبشرية المتاحة لهم عاجزين عن توظفيها ، أو مبددين ما يوظفونه فيما لا يشبع حاجاتهم ، أو مهدرين طاقاتهم في عمل غير منتج اصلا . وان هذا الواقع نعرفه . انه ميراث تاريخي ولكنه واقع وهذا هو المهم . إن ” تخلف الانسان العربي ” ، اذن ، من أسباب تخلف الامة العربيةألم نتعلم أن ” الناس هم أداة التطور ” ؟ وانه ” لا يستطيع أحد أن يغير من الواقع شيئاً الا بقدر ما يعلم وفي مجالات علمه لا اكثر ولا أبعد ” ؟ … بلى اذن فإن ” جهل ” أغلبية شعبنا العربي بكيفية حل مشكلات التنمية والتقدم سبب أول من أسباب تخلف الامة العربية . فحتى لو صفينا الاستعمار والاقليمية والاستغلال  وأقمنا دولة الوحدة الاشتراكية في الوطن العربي ، ثم بقيت أغلبية الشعب العربي جاهلة بكيفية توظيف الإمكانيات المادية والبشرية المتاحة في وطنه العربي ، فستبقى الأمة العربية متحررة، موحدة ، إشتراكية ، ولكن متخلفة بقدر ما تجهل .

كثيرون يوافقون على هذا الذي نقول ، ويشيدون بواقعيته ، ثم ” يشهرون ” ” بالتخلف الحضاري ” للأمة العربية  تمهيداً لتقديم ” وصايتهم ”  على الشعب العربي كحل لمشكلة تخلفه ، لانهم هم العلماء المتخصصون في معرفة المشكلات الإجتماعية وحلولها ، القادرون على البناء الحضاري . ونحن نعرف انه حل خاطىء . أكثر الحلول خطأ على الإطلاق . لأننا نعرف إننا ” عندما نرى الناس أو بعضهم عاجزين عن معرفة حقيقة  المشكلات الإجتماعية أو عن إكتشاف حلولها الصحيحة أو نراهم مفتقدين المهارة اللازمة لتنفيذ تلك الحلول في الواقع ، لانعزلهم عنا ولا ننعزل عنهم ولا نستعلي عليهم، بل ننتبه ، بقوة ، إلى أننا نواجه فيهم أخطر مشكلات التطور الإجتماعي التي يطرحها واقعنا : تخلف البشر . فلا نهرب منها أو نستهين بها بل نضعها فوراً في المرتبة الأولى من المشكلات الإجتماعية الملحة التي يجب أن تحل ”  .

بعد أن اعترفنا بالمشكلة نعود فنواجه الذين لا يكفون عن التشهير بالأمة العربية فينسبون إليها ” التخلف الحضاري ” لينسبوا كل مصائب الشعب العربي الى ” تخلفه الحضاري ” ويحملونه مسئولية  العجز عن التقدم الإجتماعي . إنهم جماعة من المثقفين المثاليين الذين لا يجيدون شيئاً إلا اجترار الكلمات الكبيرة وأطعامها للآخرين . وهم مثاليون :

أولاً : انهم يتجاهلون أن الشعب العربي الذي يضم عشرات الملايين من المتخلفين يضم أيضأ عشرات الملايين من المتقدمين . إن الشعب العربي البالغ مائة مليونأ تقريبأ يستطيع أن يفرز من بين أبنائه من المثقفين والمتعلمين والعمال المهرة أكثر من العدد الكامل لكثير من الشعوب الأوربية المتقدمة . هذا واقع أيضأ يجهلونه  أو يتجاهلونه . وقد أتاحت لهم هزيمة 1967 فرصة جنائزية لندب التخلف الحضاري عن إسرائيلوقد كانوا يستطيعون أن يعرفوا من الإحصائيات المتاحة أن في الشعب العربي من خريجي الجامعات والمعاهد العليا المتخصصة ، فقط ، ما يزيد عن عدد الصهاينة في إسرائيل رجالاً ونساء وأطفالاً .

ثانياً : وهم مثاليون لأنهم يتجاهلون الحد الزماني للمشكلات الإجتماعية فيختارون للأمة العربية في هذه المرحلة التاريخية من تطورها ما لا يمكن تحقيقه إلا في مراحل تالية . إذ ماذا يعني أن الشعب العربي متخلف في مقدرته الذاتية على صنع التقدم ؟… يعني انه متخلف قياسأ على المقدرة الذاتية لبعض الشعوب الأخرى . إنه لا يعرف من صناعة التقدم الإجتماعي بقدر ما تعرف الشعوب المتقدمة التي يأخذ منها المتحدثون عن ” التخلف الحضاري ” نماذج كامنة في أذهانهم . ان صح ما يقولون فتلك واقعة وليست مشكلة واقعية . إن إدراك الشعب العربي الشعوب التي سبقته ثقافة وعملاً ومهارة ليس مطلباً قابلاً للتحقق لمجرد أننا نريده بل يتحقق بالتقدم الاجتماعي المطرد بكل ما هو متاح في الأمة العربية من امكانيات مادية وبشرية . المشكلة الواقعية ، إذن ، هي تطور الامة العربية بكل ما هو متاح فيها من امكانيات مادية ولو كانت أرضها خالية من ” مناجم الماس ” . وبكل ما هو متاح فيها من امكانيات بشرية ولو كان شعبها خالياً من العباقرة . هذا هو المقياس . وما يحققه الشعب العربي ” كما هو ” بالامكانيات المتاحة في وطنه ” كما هو ” هو الحل الصحيح لمشكلات التطور العربي ” كما هو ” محدد موضوعياً بالواقع العربي ذاته . أما ما يتجاوز هذا فهو أحلام مثالية .

والمثاليون الذين يركزون على مشكلة التخلف البشري في الوطن العربي ويجعلون منها سبباً وحيداً ” للتخلف الحضاري”  لا يسألون أنفسهم عن السبب الذي يحول بين عشرات الملايين من المتفوقين في الثقافة والعلم والمهارة وبين أن يتجاوزوا هذا التخلف الحضاري في أمتهم العربية ولا يدركون تفوق الجامعيين وهم يسابقون غيرهم من الأمم الأخرى ولكن بدون مكتبات وبدون معامل وبدون مؤتمرات وبدون عقول الكترونية. أو العلماء يحاولون اللحاق بغيرهم بدون معاهد للبحوث وبدون أدوات وبدون تفرغ  وبدون المال الكافي لانفاقه في التجارب العلمية . أو العمال ينتقلون من الحقول مباشرة إلى أحدث الالآت بدون أن يعرفوا القراءة والكتابة ، بدون تدريب، بدون تقاليد صناعية ومع ذلك ينتجون . أو الفلاح العربي على ضفاف النيل يحقق الغلة الحدية ويبتكر أنواعاً مستحدثة من الحاصلات في أمتار مربعة محدودة من الأرض بذات أدوات الزراعة التي ورثها من آلاف السنين . أليس هذا تفوقاً بشرياً تحول الامكانيات القاصرة دون أن يبلغ غاية ما يستطيع . إنهم قوة عمل متفوقة المقدرة ولكنها عاطلة جزئياً على الأقل لا لأنهم لا يريدون أن يصنعوا التقدم الحضاري في الأمة العربية ، ولا لأنهم غير قادرين على صنعه، ولكن لأنهم يفتقدون الامكانيات المادية التي يمارسون فيها مقدرتهم الخلاقة . هذا بينما الامكانيات المادية المتاحة في وطنهم العربي تفيض عما يحتاجون إليه لتتحول مقدرتهم على العمل إلى تقدم اجتماعي حضاري . لماذا ؟ … هذه هي المشكلة الحقيقية . ولعل الكثيرين من الذين لا يكفون عن التشهير بالأمة العربية وتخلفها الحضاري ويحمّلون الشعب العربي مسؤولية العجز عن التقدم الاجتماعي إنما يريدون أن يضللوه عن هذه المشكلة الحقيقية ليبقى هو متخلفاً ويبقوا هم أوصياء عليه أوتابعين مستفيدين من الأوصياء عليه.

وإلا فهل يجهلون أن حل مشكلة ” الجهل ” بكيفية صنع التقدم الاجتماعي هو العلم بصنع التقدم الاجتماعي؟ ” العلم ” بمشكلات التطور الاجتماعي وحلولها الصحيحة وكيفية تنفيذ تلك الحلول بالعمل المناسب في الواقع العربي ؟ … أو ليس لهذا العلم مصدران : التعليم ، وهو يتطلب توظيف الامكانيات المادية والبشرية المتاحة في الوطن العربي لتعليم الشعب العربي كل أنواع العلوم اللازمة لصنع التقدم الاجتماعي، من أول محو الأمية إلى آخر الجامعات المتخصصة وما بينهما من مدارس ومعاهد ومكتبات وصحافة … الخ ، ثم أن الممارسة هي المصدر الثاني للعلم وهي تتطلب إتاحة أوسع الفرص للشعب العربي ليمارس صنع التقدم الاجتماعي بكل الامكانيات المادية والبشرية المتاحة في الوطن العربي ليتعلم ويتقدم معاً .

وعندما يحرم الشعب العربي من امكانيات العلم في معاهده والتعلم والممارسة ثم يبقى جاهـلاً ، ألا يكون من المثالية أن نحمله مسؤولية الجهل . ومن التضليل أن نخفي عنه أن ثمة امكانيات من حقه ولكنها مغتصبة منه .

على أي حال فإن مؤدى هذا جميعاً :

أولاً : إن مشكلة ” تخلف البشر ” في الوطن العربي هي في حقيقتها الاجتماعية مشكلة تقدم وتنمية، تنمية كفاءة البشر على صنع التقدم الاجتماعي . وهي ككل مشكلات التنمية متجددة أبداً وتختلف من واحد إلى واحد ومن جماعة إلى جماعة ومن موقع إلى موقع ومن يوم إلى يوم . وستظل دائماً قائمة لأن الحاجة إلا العلم لا تتوقف .

ثانياً : أنه لا يصح أن ينسب إلى الشعب العربي ” العجز ” عن التقدم الاجتماعي بحجة أنه أقل ” علماً ” من غيره من الشعوب . إنما يكون “ عاجزاً ” ، عندما لايتقدم بقدر ما ” يعلم ” أيأ كان مستوى علمه . وهو لا يتقدم بقدر ما يعلم إلا إذا كان ثمة ما يحول بينه وبين الامكانيات المتاحة في وطنه .

بهذا تتضح الحقيقة الموضوعية لمشكلات التخلف العربي ، التي لا يمكن حل مشكلات التقدم العربي حلاً كاملأ إلا بعد أن تحل : انها عجز الشعب العربي عن توظيف ” كل ” الامكانيات المادية والبشرية المتاحة فعلأ في الأمة العربية في هذا النصف الثاني من القرن العشرين . ويكون ”  الواقع ” الذي يجب أن ننتبه إليه ، ونكتشفه ، ثم نركز عليه ، ولا نهرب منه ، ولا نقبل التضليل فيه، لأنه سبب تخلف الأمة العربية ، هو ذلك الواقع الذي يحول بين الشعب العربي وبين كل الامكانيات المتاحة في وطنه العربي .

والواقع كما نعرفه هو أن ليس كل ما هو متاح من امكانيات التقدم الاجتماعي في الوطن العربي متاحاً للشعب العربي ليصنع تقدمه الاجتماعي . إن بعضه . أكثره ، مسلوب ومغتصب ومسخر في تحقيق التقدم الاجتماعي للسالبين الغاصبين الذين يستخدمون بعض ما يسلبون في الابقاء على تخلف الأمة العربية . وإذا بالأمة العربية متخلفة لأن امكانياتها مسلوبة . ومتخلفة لأن امكانياتها المسلوبة تستخدم ضدها حتى لا تتجاوز التخلف .

هذه هي قضيتنا الأساسية ..

فهل يستطيع أن ينكر أنها قضية واقعية ؟ … هل يستطيع أحد أن ينكر أن الشعب العربي يعمل ويكدح ويشقى ويناضل محاولاً أن يطور حياته وأن يتقدم ولكنه لا يحقق من التقدم الاجتماعي ” كل ما يمكن تحقيقه بالامكانيات المادية والبشرية المتاحة في الوطن العربي ؟…  فما الذي يحول بينه وبين التقدم بما يملك من إمكانيات مادية وبشرية ؟ . عندما نعرف أن الاستعمار والتجزئة والاستغلال تمثل معاً ذلك الواقع المسؤول عن عجز أمتنا عن التقدم الاجتماعي الممكن موضوعياً ، نعرف لماذا نختار لأمتنا العربية : دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطيةفنعرف أننا لم نخترها لأننا نريد دولة كبرى ندخل بها سباق القوة فنصبح أقوى دولة ، أو لأننا نريد بها وفيها فرض الوصاية على الشعب العربي ، بل اخترناها من أجل تحقيق غاية في مستوى تواضع وواقعية الفلاح العربي : المقدرة على الحياة بما هو متاح في الأرض .

فما الذي نختار لأمتنا العربية ؟

 

 

ـ 1 ـ

الحـريـة .

 

(1)

 

39 ـ مشكلات التحرر العربي :

 

لسنا نريد أن نغادر الواقع العربي ونعود إلى التجريد الفكري لنقول ما هي الحرية . يكفي أن نتذكر ما عرفناه من أن كل الأشياء والظواهر، بما فيها الانسان، منضبطة حركتها من الماضي إلى المستقبل بقوانين حتمية معروفة أو تمكن معرفتها . وبقدر ما نعرف وما نحترم حتمية القوانين أو النواميس التي تضبط حركة الواقع نستطيع أن نغيره ( فقرة  ) . وإن جدل الإنسان هو القانون الحتمي الذي يضبط حركة الانسان . وأنه حتمي بمعنى أن الإنسان يتحرر من حاجته بتغيير واقعه وليس بتغيير ذاته كإنسان ولا يستطيع أي إنسان أن يتحرر من حاجته إلا بتغيير واقعه . إذ حتم على الإنسان، بحكم قانونه النوعي، أن ينتزع حريته من قيود واقعه ( فقرة 18 )  وإن المجتمعات تتطور من خلال حل مشكلات الناس فيها ولا تتطور إلا من خلال حل مشكلات الناس فيها . وبقدر ما تحل مشكلات الناس فيها تتطور لا أكثر . ولا يتم التطور إلا في المجالات الاجتماعية التي تحل مشكلات الناس فيها لا أبعد ( فقرة 18 ) . يكفي أن نتذكر هذا لنعرف أن ليس للحرية ، طبقاص لجدل الإنسان ، مفهوم سوى المقدرة على التطور الاجتماعي الذي عرفناه .

أما التحرير فهو إطلاق تلك المقدرة من القيود المفروضة عليها .

وقد عرفنا أن ليس كل ما هو متاح في الوطن العربي من إمكانيات التقدم الاجتماعي متاحاً للشعب العربي ، بعضه أو أكثره مغتصب أو مسلوب . وعليه فإن التحرر العربي هو استرداد الإمكانيات العربية المغتصبة والمسلوبة ووضعها تحت تصرف الشعب العربي ليحقق بها تقدمه الاجتماعي . ما هي تلك الامكانيات ، ولماذا هي مغتصبة أو مسلوبة ، ومن هم الغاصبون السالبون ، وكيف تكون تحت تصرف الشعب العربي ؟ …  تلك هي الأسئلة التي تثيرها مشكلات التحرر العربي . بالإضافة إلى سؤال يأتي أخيراً هو : كيف تسترد ؟

وأول ما يلاحظ من مشكلات التحرر هو أن التناقض الذي يثيرها قائم بين إرادة الشعب العربي توظيف كل الإمكانيات المادية والبشرية المتاحة في وطنه وبين ” واقع ” أن بعض أو أكثر تلك الإمكانيات مسلوب أو مغتصب . ويكون حل المشكلة هو تغيير هذا الواقع باسترداد ما هو مسلوب أو مغتصب . هذه هي الغاية الأصيلة من النضال من أجل التحرر العربي . أما الموقف من الغاصبين السالبين وكيفية إسترداد ما اغتصبوه أو سلبوه ، وتصفية مقاومتهم فتلك مشكلات أسلوب التحرر، ويفيدنا هذا في معرفة :

أولاً : أن تلك الامكانيات يجب أن تسترد ، لا تراجع عن هذا ولا مساومة عليه ، بصرف النظر عن مواقف الغاصبين السالبين وتنوع الأساليب التي قد تكون لازمة لتصفية مقاومتهم .

ثانياً : إن معارك التحرر ليست حواراً نظرياً بين السارقين والمسروقين . ومن هنا فإن تحديد حقيقة مشكلات التحرر وحلولها الصحيحة وأسلوب تحقيقها يكون طبقاً للنظرية التي نلتزمها نحن لا طبقاً للنظريات التي قد يدعونها تبريراً لمواقفهم العدوانية .

ثالثاً : إن مسئولية كل ما يقتضيه التحرر من عنف يصيب البشر تقع على عاتق الغاصبين السالبين الذي أقاموا ذلك الواقع المعوق أو الذين يدافعون عن بقائه .

رابعاً : إنه ما دام حتماً على المجتمعات أن تتطور طبقاً للقوانين الموضوعية التي تحكم حركتها من الماضي الى المستقبل ، فإن النصر في معارك التحرر حتمي . طال الزمان أو قصر، ومهما تكن القوى التي تحمي وتدافع عن أسباب التخلف .

فما هي الامكانيات العربية المغتصبة أو المسلوبة ؟ .

إننا هنا في حاجة الى نظريتنا القومية التي عرفنا منها إننا أمة عربية وعرفنا منها ماذا يعني إننا أمة عربية وماهية العلاقات القومية التي تضبط حركتنا الى المستقبل . هنا سنستفيد من منطلقاتنا الصحيحة في معرفة غاياتنا العينية . هنا ستتميز ـ في الوطن العربي ـ الحركا القومية التحررية عن الحركات التحررية اللاقومية ، ويثبت أكثر من ذي قبل تفوق الفكر القومي في مقدرته على تقديم الحلول الصحيحة لمشكلات التحرر العربي وأن يكون ضابط الحركة ومناط الوحدة بين قواها ، وهنا ، في مواجهة التضليل الفكري الذي لا تكف القوى الغاصبة أو السالبة عن إستخدامه لاضعاف ثقتنا بالنصر، وفي غمار المعارك  التكتيكية ، التي قد تقتضي التقدم  أو التراجع أو الالتفاف أو الدوران أو المناورة سيفتقد كل الذين لا يلتزمون النظرية القومية اليقين العقائدي بالنصر والرؤية الواضحة للغاية النهائية من معارك التحرير . لانهم ببساطة لا يعرفون ما هو مجتمعهم ، فلا يعرفون ما هي الامكانيات المغتصبة أو المسلوبة ، فلا يعرفون من هم الغاصبون السالبون ، فلا يعرفون ساحة معركة التحرير، ولا قواها ، ولا الموضوع الذي يدور حوله الصراع .

نحن أمة عربية .   

و الأمة تكوين من الناس ( الشعب) والأرض (الوطن ) . وهي مجتمع ذو حضارة متميزة من شعب معين مستقر على أرض خاصة ومشتركة نتيجة تطور تاريخي مشترك . إن هذه العلاقة الخاصة بين الناس والأرض هي التي تميز المجتمع القومي ومصدر بنائه الحضاري المتميز . وهي التي تم بها تاريخياً تكوين أمتنا العربية . ” فا لشعب العربي (الناس) والوطن العربي (الأرض) يكونان معاً الأمة العربية التي ما تحولت من شعوب لا تختص بالأرض التي تقيم عليها الى أمة . أو من أرض لا تخص شعباً بعينه الى أمة، إلا عندما التحم الشعب العربي بالوطن العربي واختص به ليكونا وجوداً واحداً هو الأمة العربية ( فقرة 22 ) . وهكذا تشكل الأرض العربية ، الوطن العربي ، أول مجال نبحث فيه عن الامكانيات المغتصبة أو المسلوبة . وهي لا تكون مغتصبة أو مسلوبة إلا اذا كانت دخلت ، خلال التطور التاريخي ، عنصراً في تكوين الأمة العربية . وتكون غاية التحرر استردادها لتكون كما كانت أرضاً خاصة بالشعب العربي . لا أبعد من هذا ولا دون هذا . كل ذرة من تلك الأرض، كل ما في أعماقها وما فوقها من مصادر الإنتاج ، معروفة كانت أو غيير معروفة ، هي إمكانيات للتقدم متاحة في الوطن العربي وخاصة بالشعب العربي ، ويجب أن تكون متاحة له ليصنع بها تقدمه الإجتماعي الخاص .

من هنا ندرك أنه عندما يتعرض الشعب العربي، كله أو بعضه ، للابادة أو الطرد من أرضه ، وعندما يتعرض الوطن العربى، كله أو بعضه ، للغزو الاستيطاني أو الاقتطاع ، أي عندما تقوم محاولة لفصل الناس (الشعب) عن الأرض (الوطن) لا نكون بصدد خطر يتهدد بعض أبناء الشعب العربي يمكن تعويضهم عنه أرضأ بأرض ، ولا بصدد خطر يتهدد جزءاً من الوطن العربي يمكن الاستغناء عنه أو المساومة عليه ، بل نكون بصدد خطر يتهدد الوجود القومي ذاته . وهكذا تقوم لنا القومية أول ضوابط الحركة الى المستقبل . إسترداد الأرض العربية المغتصبة للشعب العربي ليكمل ما انتقص من وجود الأمة العربية . وهو حل لمشكلة وجود المجتمع ذاته وليس حلاً لمشكلة تطوره . والوجود يسبق المقدرة على التطور .. إذ ” عندما يكون ثمة مجتمع قد قام فيه ما يمس وجوده ، فإن مشكلة الناس فيه لا تكون تطويره بل استرداده لأنفسهم حتى يستطيعوا بعد هذا ـ وليس قبله ـ تطويره ( فقرة 18 )  .

فأين يقوم ” الواقع ” الذي يمس الوجود القومي ؟

في فلسطين .

 

(2)

 

40 ـ مشكلة فلسطين :

منذ اكثر من نصف قرن تقوم في فلسطين محاولة لانتزاع الارض من البشر . بدأت اختلاسا خفيا ثم تحولت الى اغتصاب بالقوة . انها ليست احتلالا لفلسطين ارضا وبشرا تسخر به القوىالمحتلة كلا من الارض والبشر لخدمة التقدم في بلادها البعيدة كما كانت تفعل انجلترا قبل سنة 1948 ، ولكنها محاولة بدأت قبل الإحتلال الانجليزي واستمرت في ظله وما تزال باقية بعده ، فيها تحاول الحركة الصهيونية الاستيلاء على الارض ” خالية ”  من الشعب العربي وتوطين بشر اخرين فيه بدلا من المطرودين . انها محاولة قريبة الشبه بما فعل المهاجرون الاوروبيون القدامى في امريكا واستراليا حيث أبادوا البشر ليقيموا على الارض الخالية مجتمعاتهم الجديدة . وفي سنة 1948 استطاعت الحركة الصهيونية ان تقيم على ارض فلسطين دولة باسم “اسرائيل” اعترفت بها أغلبية دول العالم وقبلت عضوآ في هيئة الامم المتحدة ، ورفضت الدول العربية الاعتراف بها واشتبكت معها في ثلاث جولات عسكرية خلال عشرين عاما وما تزال اسرائيل باقية . وقد عاصرت تلك المشكلة ثلاثة اجيال عربية ، تتابعت عليها النظم السياسية والاجتماعية المختلفة ، و تغيرت من حولها الظروف الدولية ، وفي كل جيل ، وتحت كل نظام ، ومع كل طرف دولي، طرحت للمشكلة عشرات التفسيرات ، وقدمت لها عشرات الحلول ، وبذلت في حلها عشرات المحاولات ، وكتبت عنها مئات الكتب … فلا تزد المشكلة الا حدّة  وان كادت كل تلك الاحداث و”الاجتهادات ”ان تخفي الاجابة الصحيحة على اول الاسئلة التي تطرحها : ما هي حقيقة المشكلة ؟
وجاءت هزيمة يونيو (حزيران) 1967 فازداد الامر تعقيدا.
فمنذ عام 1967 جذب الصراع ضد الصهيونية الى ساحته افرادا وجماعات ومنظمات وشعوبا ودولا من اطراف الارض جميعا ، بحيث يمكن القول ـ بدون أية مبالغة ـ ان كل القوى النشيطة في العالم أصبحت اطرافا ذات نشاط في الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين . وحمل كل طرف  قضيته ” ، معه ، بعدا جديدا ومضمونا مضافا ، الى ابعاد ومضامين المشكلة الاصيلة . وهكذا اصبح الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين دائرا بين اطراف عدة على مضامين متعددة من اجل غايات متباينة، تستعمل فيه كل انواع الاسلحة من اول الكلمات والنظريات الى آخر الصواريخ والطائرات . ولم يعد احد يذكر حتى ذرائع القتال في يونيو (حزيران) 1967. فقد عرّت الايام ما كان مستورا وكشفت نوايا كل الأطراف فبانت حتى لأقصر الناس نظرا الاعماق الحقيقية للصراعفلا هو صراع حول أمن اسرائيل ، ” المستضعفة ” ، في مواجهة البغي العربي المتفوق عدة وعداء .. ، ولا هو صراع حول الملاحة في خليج العقبة ، ولا هو صراع حول اسلوب الحياة في الارض العربية ، بل هو صراع يدور ـ بلا موا ربة ـ حول ا لوجود والمصير. الوجود العريي ومصيره . والوجود الصهيوني ومصيره ، والوجود الا ستعماري ومصيره في الوطن العربي وربما في العالم. وهكذا يعرف كل الشركاء والحلفاء في الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين انه ذو أثر حاسم في مصير كثير من العقائد (الايديولوجيات) والقوى والمصالح والنظم ، العربية والصهيونية وربما العالمية . وانه عندما تحل مشكلة فلسطين لن يكون المستقبل العربي مجرد امتداد لما سبق بل سيكون مستقبلا مختلفا نوعيا في قواه وفي نظمه وفي غاياته، ومن هنا اصبح المستقبل ” العربي ذاته ، مستقبل الامة العربية كلها، موضوعا يدور من اجله الصراع بين القوى المشتبكة في الصراع حول مستقبل فلسطين. ويعد له كل شريك في الصراع ، وكل حليف لاحدى قواه ” الصيغة ” ، التي تتفق مع مصالحه . ويدفع بالصراع ذاته الى الاتجاهات التي يعتقد انها مؤدية الى ما يريد . يدفع بالصراع الذي يدور حول مشكلة فلسطين الى الاتجاهات التي يعتقد انها مؤدية الى ما يريد في الوطن العربي . وليست ” النظريات ” ، التي كثرت اعلامها في سماء الوطن العربي منذ سنة1967  الا الصيغ النظرية لا لمستقبل فلسطين بل لمستقبل الامة العربية . وهي تطرح على الجماهير العربية لا بقصد تثقيفها أو تعريفها بالحقيقة كما لا بد يزعم دعاتها ولكن للاتجاه بالجماهير العربية من خلال الصراع القائم الى غايات نهائية معينة .
في غمار هذا كله يصبح من المهم لنا ان نعرف حقيقة مشكلة فلسطين ، وان نظل واعين حقيقتها، والا نسمح لاحد بأن يضللنا عن هذه الحقيقة ، فاننا لن نعرف قط الحل الصحيح لأية مشكلة اذا جهلنا حقيقتها ، وعندما لا نعرف الحل الصحيح لن نحل المشكلة قط . ولقد نعرف ان ” كل مشكلة اجتماعية لها حقيقة واحدة مهما اختلف فهم الناس  لها و بصرف النظر عن مدى ادراك صاحبها لحقيقتها . وان اية مشكلة اجتماعية ليس لها الا حل صحيح واحد في واقع اجتماعي معين في وقت معين . قد يكون لها اكثر من حل خاطىء ، قاصر أو متجاوز أو مناقض ، يحاوله صاحبه فيفشل في حلها، ولكن حلها الصحيح لا يمكن الا ان يكون واحدا بحكم ان الواقع الاجتماعي واحد” (1)  وعندما نطبق هذا على المجتمع القومي (الامة) ننتهى الى ان ” للمشكلات الاجتماعية في الامة حلولا موضوعية يحددها الوجود القومي ذاته بما يتفق مع التقدم القومي . والصراع الاجتماعي حول المشكلات الاجتماعية لا يعني ان تلك الحلول غير معروفة أو غير قابلة للمعرفة ، بل يعني تماما ان الصراع يدور بين قوى تزعم كل منها انها تستهدف الحل الموضوعي الصحيح . وقد يكونون كلهم خاطئين، ولكن الذي لا يمكن ان يكون ابدا ان يكونوا كلهم على حق فيما يزعمون  “ (2)  .
فما هي حقيقة مشكلة فلسطين وما هوحلها الصحيح ؟
لنبدأ بالوقائع التاريخية وهي بسيطة منذ الفتح الاسلامى والشعب العربي هو الذي يقيم ويعيش على ارض فلسطين . ومن اجلها دارت اقسى معارك الدفاع عن الارض المشتركة ضد الغزو الصليبي واشترك كل الشعب العربي بامواله وابنائه في تحرير فلسطين واستردادها من الصليبيين . ومنذ ان انحسرت نهائيأ موجات الغزو الصليبي لم يغادر الشعب العربي ارض فلسطين الى ان طرد بعضه من بعضها سنة 1948 . هذا تاريخ غير منكور . ولم ينكر احد حتى من الصهاينة ان الشعب العربي هو الذي كان يقيم ويعيش على ارض فلسطين منذ الفتح الاسلامي حتى سنة 1948. وهكذا ندرك عدم جدوى كل ما كتب في محاولة اثبات ما لم ينكره احد . انما يبدأ الخلاف حول تفسير الوقائع التاريخية غير المنكورة . وسنعرض فيها يلي الموقف  العربي القومي ثم الموقف الصهيوني قبل ان نعرض الحل القومي للمشكلة .

(3)

41 ـ الموقف القومي :

الموقف القومي من مشكلة فلسطين بسيط  وواضح :
فعندما ننظر الى المجتمعات خلال تطورها الجدلي وحركتها التي لا تتوقف من الماضى الى المستقبل، نفهم أن فلسطين ، ارضا وشعبا، قد دخلت طورا جديدا بالفتح الاسلامي . لم تعد منذ ذلك الحين موقعا للصراع القبلى بين الكنعانيين والاسرائيليين والرومان بل استقر الامر فيها لتتخطى مرحلة البداوة القبلية حيث لا تخص الارض شعبا بعينه لتكون جزءا مؤثرا ومتأثرا ، متحركا ، ومتغيرا ، ومتطورا مع بقية الجماعات والشعوب التي وفر لها الفتح الاسلامي  اوسع فرص التفاعل التاريخي لتكون معا أمة عربية . واذا كانت العلاقات العرقية (السامية) بين المقيمين في فلسطين والمقيمين في بقية انحاء الوطن العربي قد سهلت عملية التفاعل تلك فان المهم هو ما ادى اليه التفاعل من تطور تقدمي انصهرت فيه الجماعات والشعوب السابقة على التكوين القومي العربي واصبحت به أمة واحدة . من هنا فانا لا نطرح مشكلة فلسطين ولا نفهمها ولا نحتج فيها استنادا الى أية وقائع تاريخية سابقة على التكوين القومى . ولا نقبل من أحد ان يطرحها او يفهمها أو يحتج فيها بما يسبق دخول فلسطين ارضا وشعبا عنصرا من عناصر التكوين التاريخي للامة العربية. ذلك لاننا كقوميين، والقومية تقدمية، لا نحتج ولا نقبل الاحتجاج على ثمرات التطور التاريخي بتاريخ البداوة الاولى .
فلسطين اذن جزء من الامة العربية :
وبالتالي فان محاولة طرد الشعب العربي واغتصاب الارض العربية لتوطين بشر مستوردين هو اعتداء على الوجود القومي للامة العربية لا بد من أن يرد . هو انتقاص من المجتمع العربي لا بد من أن يستكمل . هو فسخ لعلاقة تاريخية بين الشعب والارض لابد من ان يزول ليعود الشعب الى الارض وتعود الارض الى الشعب فتبقى الامة العربية ” كما هي  ، لا اكثر . كل هذا بصرف النظر عن جنس أو ديانة أو لون او مبادىء أو نوايا المعتدين . ان هذا مهم . لان الوجود القومي مجرد وجود خاص . فهو اضافة الى ، وليس ا نتقاصا من ، وجود الجماعات الانسانية الاخرى . وهكذا تكون القومية علاقة قبول واحترام للوجود الخاص لكل مجتمع من المجتمعات الانسانية ، وهذا يعني ، طبقا لنظريتنا القومية، ان حق الامة العربية في الوجود الكامل ، لا يتوقف على أحد . وبالتالي فان حق الشعب العربي في استكمال وجود امته باسترداد فلسطين لا يتوقف على ما اذا كان المعتدون يهودا أو غير يهود ، رأسماليين أو من الذين لا يملكون شيئا يخسرونه ، كما لا يتوقف ، على أي وجه وفي أي ظرف ، على موقف الدول من هذا الحق سواء كانت دولا كبرى  أو دولا صغرى ، منفردة أو مجتمعة ي منظمة هيئة الامم المتحدة . ان كل هذا الذي يتصل بالمعتدين وحلفائهم والموقف الدولي من المشكلة قد يؤثر بشكل أو بآخر على اسلوب حلها، اما حقيقتها القومية كما هي محددة بالوجود القومي العربي فلا تتأثر ولا تتغير بمواقف القوى الاخرى معتدية كانت أو حليفة او صديقة. حتى لوكانت حليفة او صديقة للشعب العربي نفسه .
تترتب على هذا عدة نتائج هامة يتميز بها الموقف القومى من مشكلة فلسطين .
أولاها : ان الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين ليس قائما بين  الشعب العربي وبين ، (اليهود) ، لانهم يهود . هذا خطأ جسيم في فهم المشكلة . ان العروبة قومية واليهودية دين ، فلكل منهما دلالة مختلفة على مضامين مختلفة . القومية العربية علاقة انتماء الى مجتمع قومي (أمة) والدين اليهودي علاقة ايمان بمقولات ميتافيزيقية . وكما يكون العربي يهوديا ويبقى عربيا يكون اليهودي منتميا الى أي واحد من المجتمعات التي تملأ الارض بدون ان يكون ثمة تناقض بين انتمائه الاجتماعي وايمانه الديني . ليس ثمة شيء ابعد عن حقيقة مشكلة فلسطين واكثر تشويها لها من القول بانها مشكلة صراع  ديني يحلها قبول التعايش بين الاديان على ارض فلسطين . فيوم ان اغتصب الصليبيون المسيحيون ارض فلسطين قاتل العرب ، مسلمين ومسيحيين ، الى ان استردوا الارض المغتصبة ، ومن قبل ان يبدأ العدوان الصهيوني على فلسطين كان العرب من كل دين يعيشون في سلام على ارض فلسطين . ان مشكلة فلسطين مشكلة ارض مغتصبة وليست مشكلة تبشير باحد الاديان . مشكلة قومية وليست مشكلة دينية . واذا كان الصهاينة المعتدون يخلطون القومية بالدين ويبررون العدوان بنصوص من ، (التوراة) ، فذلك ما يقوله المعتدون  أنفسهم لخدمة اغراضهم أو لتبرير عدوانهم … وعندما ننزلق نحن الى هذا الخطأ نكون قد قبلنا حجة المعتدين وشوهنا حقيقة مشكلتنا فلا نعرف حلها الصحيح ولا نستطيع ان نحلها . وقد نقع في الخطأ حتى بعيدا عن التصدي لمشكلة فلسطين . فعندما ينسى بعض  المتفقهين ، الامة العربية التي ينتمون اليها، والواقع القومي الذي تثور فيه المشكلة، ويقدمون الدين بديلأ عن القومية ، أو عندما ينفعل “ المتعصبون ” فيصبون جام غضبهم على ابناء امتهم العربية من اليهود ، لا يفعلون شيئا بتلك الاخطاء الغبية المضللة سوى خذلان امتهم المعتدى عليها والانتصار للصهيونية المعتدية . اذ عندما يصبح الدين بديلا عن القومية ثم تطرح مشكلة فلسطين ينتهي بهم الامر الى اقتسام الوطن العربي فيها بين الاديان الثلاثة على الاقل . وايا ما كانت النسبة بين الاقسام فسيكون على كل مسلم أو مسيحي أن يخرج من ارض اليهود في فلسطين . أي يكون عليهم أن يقبلوا الحل الصهيوني الذي يظنون انهم يحاربونه بالتعصب الديني .
فهل يقبلون ما تنتهي اليه منطلقاتهم أم هي اخطاء غبية ؟
النتيجة الثانية : هي ان الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين ليس قائما حول النظم الاجتماعية في الارض العربية بين الرجعيين والتقدميين . انما هو قائم حول الارض المغتصبة ولمن تكون . فمن حيث الوقائع التاريخية كان كثيرون من عتاة الصهاينة ورواد الغزو الصهيوني لفلسطين من “ الاشتراكيين ”  بينما كان المدافعون عن الارض العربية ” اقطاعيين ” أو رأسماليين . وادى ذلك الى وقوع اكثر الناس ادعاء للفهم ” العلمي ”  للمشكلات في خطأ فهم حقيقة مشكلة فلسطين باعتراف الاتحاد السوفييتي باسرائيل فور اعلان قيامها وانحياز الشيوعيين العرب الى الصهيونية ضد امتهم العربية .
 ولم يلبث التاريخ طويلا حتى كشف ذلك الخطأ ” العلمي ” جدا. اذ في مرحلة لاحقة اصبح الصهاينة الذين كانوا يوما من اعضاء ” البوند الماركسي “ ، حلفاء اوفياء للامبريالية الامريكية بينما اصبح المدافعون عن الأرض العربية من التقدميين والاشتراكيين . وفي الحالتين تغيرت مواقف القوى من النظم الاجتماعية ولكن المشكلة ظلت مستمرة والصراع قائما . وقد صحح الاتحاد السوفيتي ـ بقدرـ خطأه الاول . وصحح كثير من الماركسيين العرب مواقفهم تصحيحا كاملا . ولكن العبرة ليست بتصحيح المواقف انما العبرة بصحه فهم حقيقة مشكلة فلسطين . ومشكلة فلسطين مشكلة اثارها اغتصاب الارض العربية . والارض هي مصدر الامكانيات المادية للتقدم الاجتماعي ، فاغتصابها من الشعب العربي معوق لتقدمه فهو عدوان رجعي بصرف النظر عما يفعله بها وفيها المغتصبون . واذا كان الصهاينة لا يكفون عن عقد المقارنات بين اسلوب الانتاج الجماعي في الارض المغتصبة وبين اسلوب الانتاج الفردي في الوطن العربي فهم يحاولون اخفاء المشكلة الاصيلة تحت ستار الادعاءات التقدمية ليبرروا بقاءهم في الارض المغتصبة . وهو تضليل لم يضلل مثله احد من قبل يوم ان نشب الصراع المسلح بين الصين  والاتحاد السوفيتى حول بضعة اميال مربعة من الأرض على الحدود بين البلدين . لم يكن هناك شك في ان الاشتراكية هي نظام الحياة الذي ينتظر تلك الارض سواء آلت الى الصين أو الى الاتحاد السوفيتي . لم يكن أحد من الطرفين يشك في هذا ولم يثره أحد من الطرفين . إنما كان الصراع المسلح الذي وصل الى حد القتال الفعلي بين الاشتراكيين من الجانبين دائرا حول لمن تكون الارض . ان كان هذا واضحا يتضح لنا غباء الاخطاء المضللة التي تطرح مشكلة فلسطين كما لو كانت صراعا حول ملكية ادوات الانتاج في الارض العربية . وهي اخطاء غبية ومضللة حتى لو كانت تستهدف ـ غرورا ـ اضعاف الجبهة الداخلية في اسرا ئيل أو حتى شقها . لاننا انما نضعف القوى المعادية لنمزقها انتصارا لحقنا ولكن لا ندفع من حقنا ثمن اضعافها وتمزيقها . ولا يجدينا شيئا ان يتمزق المجتمع الصهيوني في اسرائيل الا من حيث انه قد يسهل حل مشكلة الارض المغتصبة منا . ولكن عندما يصبح هذا التمزيق غاية في ذاته بديلة عن الغاية الاصيلة فلن يزيد عن ان يكون انتقالا لارض فلسطين من فريق صهيوني نقول انه رجعي الى فريق صهيوني نقول ا نه تقدمي . وتكون المسألة كلها عبثا ؛ وعندما ينسى بعض المتشدقين بالتقدمية والاشتراكية والكادحين والبروليتاريا … الى اخر هذه الكلمات الكبيرة ان كل فلاح في اسرائيل يزرع ارض فلاح عربي ، وان كل عامل في اسرائيل محتل مكان عامل عربي ، وان كل اسرة في اسرائيل تعيش في منزل اسرة عربية ، عندما ينسون ان كل خطوة الى الامام في اسرائيل قد انتزعت الاقدام العربية من فوق طريق التقدم الاجتماعي ، ثم  يفتشون عن حلفاء من التقدميين الاشتراكيين الكادحين من بين الغاصبين بدعوى ان المشكلة مشكلة صراع حول ملكية ادوات الانتاج يدور بين ” الطبقات ” وليس صراعا حول ملكية مصادر الانتاج يدور بين المجتمعات ، فانهم لا يفعلون شيئا سوى دخول معركة الصراع الاجتماعي بين الغاصبين لينتصر فريق على فريق . يدخلونها ، ويا للسخرية ، من موا قع التشرد التي طردهم اليها الغاصبون . عندئذ يكون بعدهم عن فهم مشكلة فلسطين مساويا لبعدهم عن الارض المغتصبة ، وقد يقع الخطأ حتى بعيدا عن صفوف المطرودين أو التصدي المباشر لمشكلة فلسطين . فعندما ينسى بعض “أكلة” الكلمات الكبيرة الامة العربية التي ينتمون اليها والواقع القومي الذي تثور فيه المشكلة ، ويقدمون “الاممية”، بديلا عن القومية انما يخذلون امتهم المعتدى عليها وينتصرون للصهيونية المعتدية . اذ عندما تصبح الاممية بديلا عن القومية ثم تطرح مشكلة فلسطين ينتهي الامر بهم الى قبول الاحتكام الى وحدة الموقف من علاقات الانتاج ” بصرف النظر عن الانتماء القومي ” ، فيكون عليهم أن يقبلوا أن يزرع الفلاحون في اسرائيل ارض الفلاحين العرب وان يحل العمال في اسرائيل محل العمال العرب، وان يكون الفلاحون والعمال في الارض المحتلة هم الحلفاء الطبيعيين للذين سلبت منهم الارض وفرص العمل فاصبحوا مشردين . ولما كان سكان المخيمات عاطلين فانهم ، اذن، الاحتياطي البشري تحت قيادة ” البروليتاريا ” الاسرائيلية في نضالها ” الثوري ” ، من اجل الاشتراكية . فهل يقبلون ما تنتهى اليه منطلقاتهم  ام هي اخطاء غبية ؟
النتيجة الثالثة : هى ان مشكلة فلسطين ليست مشكلة دولية بمعنى انها ليست مشكلة ثائرة فيما بين الدول وليست مشكلة ثائرة ما بين الامة العربية من ناحية والمجتمع الدولي من ناحية أخرى . واذا كانت الدول تتدخل في مشكلة فلسطين انتصارا للحق العربي او دعما للعدوان الصهيوني فان الذي يحركها هو مصالحها الخاصة ولو كان السلام العالمي هو مصلحتها الخاصة . واذا كنا نحن نقيم وزنا للدول ومجتمعها ومصالحها التي تحركها كما نقيم وزنأ للسلام العالمي فلإن لنا في هذا مصالح تحركنا . ذلك لاننا لسنا منعزلين عن الدول ومجتمعها ولا نستطيع حتى لو اردنا أن نعزل انفسنا عن الدول ومجتمعها . ففي نطاق المجتمع الدولي نواجه حتمية القانون المعروف : ” كل شيء مؤثر في غيره متأثر به “. ولا شك في ان مواقف الدول من مشكلة فلسطين تؤثر وتتأثر . ايجابيا وسلبيا. باسلوب حلها . وهو ما يعني ان نأخذ من كل دولة ، ومن المجتمع الدولي كله ، الموقف الصحيح ونحن نحاول ان نحل مشكلة فلسطين . ولكن ما هو مقياس صحة الموقف ؟..  مقياسه أن يكون مساعدا في حل المشكلة أو أن يكون حلأ لها . وهوما يعني ان لمشكله فلسطين حقيقة نعرفها هي التي تحكم مواقفنا من الدول ومن المجتمع الدولي ، وان تدخل تلك الدول ومجتمعها الدولي في الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين لا يغير من حقيقتها التي نعرفها ونلتزمها : ان ارضنا العربية في فلسطين مغتصبة.
فليكن السلام العالمي . هو المثل الذي نضربه ، لان السلام العالمي غاية مشتركة بين البشرجميعا . ان الحفاظ على السلام العالمي ـ طبقا لنظريتنا القومية ـ يتحقق باحترام الوجود الخاص لكل مجتمع كما هو محدد تاريخيا بصرف النظر عن الاسلوب الذي يقتضيه الحفاظ على السلام العالمي . نريد ان نقول ان استعمال العنف لا يعني ـ دائما ـ ان ثمة خطرا يهدد السلام العالمي . وقد يكون العنف ردا للعدوان هو الاسلوب الوحيد لحماية السلام العالمي . فنحن من موقفنا القومي لانصدق ولا نفهم ادعاءات السلام التي تتستر على الانتقاص من وجودنا القومي . ونرفض تماما ان ندفع أرض فلسطين أو اية ذرة من الارض العربية ثمنا لتلك الادعاءات الكاذبة ، لا لاننا لا نريد السلام العالمي ولكن لاننا لا نفهم السلام العالمي الا انه الكف عن الاعتداء واحترام الوجود الخاص لكل المجتمعات البشرية .
ان الدول لن تكف عن محاولات طرح مشكلة فلسطين كما تفهمها على ضوء مصالحها الخاصة ، ولن تكف عن طرحها كمشكلة سلام عالمي صادقة أو مخاتلة ، ولن تكف عن التدخل ، علنا أو خفية ، من موقع التحالف معنا أو التحالف مع الصهيونية أو استغلال الطرفين معا لتحقق ما تريد . وليس لنا ان نتوقع غير هذا ، وعلينا أن نجد لحل مشكلتنا الاسلوب الملائم لتحقيق غايتنا وسط كل هذه المؤثرات . لا شك في هذا ولا انكار له . ولكن عندما ننزلق الى طرح مشكلتنا أو قبول طرحها على انها مشكلة فيها بين الدول الاخرى أو مشكلة السلام العالمي انما ندفن مشكلة فلسطين تحت ركام الصراعات الدولية . وعندما ندفنها تغيب عنا حقيقتها فلا نعرف كيف نحلها ، ثم يكون علينا ان نقبل الاحتكام الى الدول لتحكم كل منها على ضوء مصالحها الخاصة ، أو نحتكم الى مقتضيات السلام العالمي كما يقدرها القادرودن على تدميره أو الخائفون من القادرين . وينتهي الامر بنا الى دفع ارض فلسطين ثمنا من عندنا ، لا للسلام العالمي ، ولكن لتسوية جزء من حسابات المصالح القائمة بين الدول .
وعندما نعرف ان مشكلة فلسطين ليست مشكلة دولية بالمفهوم الذي ذكرناه ، ولا ننسى انها مشكلة ارض عربية مغتصبة نفلت من شباك التضليل الذي يثيره ادعياء العلم بالقانون الدولي عندما يزعمون ان مشكلة اغتصاب الارض العربية في فلسطين قد حلت منذ ان اعترف المجتمع الدولي بدولة اسرائيل وقبلها عضوا في هيئة الامم المتحدة . وانها منذ ذلك الحين قد اصبحت مشكلة سلام بين الدول المتجاورة . ان فقه القانون الدولي مليء بالنظريات عن الاعتراف بالدول وطبيعته المنشئة أو المقررة أو المختلطة ، وباثاره الملزمة فيما بين الدول المعترف بها والدولة أو الدول المعترفة . ولكن ليس في فقه القانون الدولي ولا في قواعده ولا في تطبيقاته ما يجعل لاعتراف دولة بدولة ثانية اثرا ملزما لدولة ثالثة لم تعترف بها . اذ ان القاعدة الاساسية التي يقوم عليها كل بناء القانون الدولي هي ان الدولة لا تلتزم الا بارادتها الخاصة . فما الذي يعنيه اعتراف كثير من الدول باسرائيل ؟… يعني ان تلك الدول قد اصبحت ملتزمة بارادتها بان تعامل اسرائيل كدولة ما دامت قائمة ولا يعني شرعية قيام اسرائيل على الارض العربية المغتصبة لان القرارات التي تأخذها الدول ، كما يعرف كل الذين يعلمون المبادىء الاولية في  القانون الدولي ، غير قابلة لاحداث أثر مشروع خارج نطاق الاقليم الذي تنصب عليه سيادتها . وما دامت الدول التي اعترفت باسرائيل ليست ذات سيادة على اقليم فلسطين فان اعترافها يضفي الشرعية على تعاملها مع اسرائيل ولكنه لا يضفي الشرعية على دولة اسرائيل ذاتها . لا يحول الاغتصاب الى عمل مشروع . ان هذا يقع خارج نطاق مقدرة الدول وهي تمارس سيادتها ، لا لاننا نريد ذلك ، ولكن لان تلك هي احكام القانون الدولي الذي يحتجون به كثيرا. اكثر من هذا ان الاعتراف بدولة اسرائيل لا يتضمن الالتزام بالمحافظة على وجودها . والا لكان الاعتراف المشروع دوليا حماية غير مشروعة . ومن هنا ندرك كم هي زائفة المقولة التي يهمس بها البعض ويهددنا بها الاخرون : ما دامت الدول قد اعترفت بوجود اسرائيل فإنها لن تسمح بزوالها أبدآ . فيوم أن تزول دولة اسرائيل يصبح الاعتراف السابق بوجودها غير ذي مضمون ويسقط . قد تدافع دولة أو أخرى عن وجود اسرائيل ولكن هذا لن يكون أثرا ملزما من اثار الاعتراف بها . سيكون حماية لمصالحها ايا كان مضمون تلك المصالح .
ان اعتراف كثير من الدول ، اذن ، باسرائيل لم يحل مشكلة فلسطين ولكنه كان حلا لمشكلات التعامل بين تلك الدول وبين اسرائيل . وبالتالي فان المشكلة ، كما هي على حقيقتها، ما تزال قائمة بالرغم من الاعتراف بدولة اسرائيل .
أما عن هيئة الامم المتحدة فان مبادئها الاساسية الواردة في المواد الاولى من ميثاقها تنكر الشرعية على الاستيلاء على الارض بالقوة . وعندما قبلت هيئة الامم المتحدة اسرا ئيل عضوا فيها ، قبل ان تجف دماء المذابح في الارض المغتصبة ، لم يكن الاعضاء الذين قبلوا يفعلون شيئا أقل من خيانة ميثاقها . وخيانة الميثاق ليست ملزمة لمن قبلوا الميثاق . نريد ان نقول انه بحكم ميثاق هيئة الامم ذاتها ليس لاعضائها ولو مجتمعين ان يخالفوا ميثاقها. وعندما يخالفونه تكون قراراتهم غير مشروعة طبقا للميثاق ذاته فهى ليست حجة على الدول التي قبلت ان تكون اعضاء في هيئة الامم المتحدة على أساس الالتزام المتبادل بالميثاق . هذا كله بدون حاجة الى اثارة ما لا بد ان يعرفه العالمون بميثاق هيئة الامم المتحدة ، من الذي وضعه ، وكيف وضع ، وفي اية ظروف دولية وضع ، وما هي المصالح ” الحقيقية ” ، التي وضع لحمايتها. وبدون اثارة ما يعرفه حتى الذين لا يقرأون ولا يكتبون من ان هيئة الامم المتحدة التي قبلت اسرائيل وما تزال ترفض الصين ليست الا أداة في يد من يملك القوة فيفرض بها القرارات الدولية (3).
والغريب انه بينما يتردد الزعم في اطراف الارض جميعا بان اسرا ئيل وجدت لتبقى ، وبان مشكلة اغتصاب الارض العربية قد حلت منذ اعتراف المجتمع الدولي بوجود اسرا ئيل ، يعرف الصهاينة قبل غيرهم انها ما تزال قائمة لم تحلها اعترافات الدول فيقاتلون منذ سنة 1948 حتى سنة 1967 . ويتشبثون بالارض التي احتلوها أخيرا في مواجهة كل الضغوط الدولية من اجل الاعتراف بوجودهم على الارض التي اغتصبت اولا ، من اجل فرض هذا الاعترات بالقوة على الامة العربية .
هل تتغير حقيقة مشكلة فلسطين فيما لو اعترفت باسرائيل احدى الدول العربية . أو الدول العربية مجتمعة ، أو شعب فلسطين نفسه ممثلا بدولة مصنوعة أو بدون دولة ؟
أبدا.
وهذا ينقلنا الى الجانب ” الداخلي “، من المشكلة كما نفهمها على ضوء نظريتنا القومية ..
نعرف أن  المميز الاساسي للامة عن الجماعات الانسانية السابقة عليها هو عنصر الارض الخاصة المشتركة . الخاصة بالجماعة البشرية المعينة دون غيرها من الجماعات الانسانية الاخرى المشتركة فيما بين الناس فيها “. بقي أن نعرف الموقف القومي من مشكلة فلسطين كما يحدده كون الارض العربية ” مشتركة “، فيما بين الشعب العربي . انه يحدده من ناحيتين :
الناحية الاولى : لما كانت الامة العربية تكوينا تاريخيا فان اشتراك الشعب العربي في الوطن العربي هو مشاركة تاريخية بين الاجيال المتعاقبة. وهذا يعني انه ليس من حق الشعب العربي كله ، من الخليج الى المحيط ، ولو كان ممثلا في دولة الوحدة ، ان يتنازل عن ارض فلسطين أو يقبل الوجود الصهيوني على الارض المغتصبة . ا نه بهذا يتصرف فيما لا يملكه وحده لانه ملك مشترك بينه وبين الاجيال العربية القادمة . ولو فعل لما كان ما يفعله حجة على الاجيال القادمة من الشعب العربي .
الناحية الثانية : انه لما كانت الارض العربية شركة بين الشعب العربي فليس من حق أي جزء من الشعب العربي ولو كان شعب فلسطين نفسه ان يتنازل عن ارض فلسطين أو يقبل الوجود الاسرائيلي على الارض العربية المغتصبة . انه بهذا يتصرف فيما لا يملكه وحده لانة ملك مشترك بينه وبين باقي شعب الامة العربية. ولو فعل لما كان ما فعله حجة على الشعب العربي .
ان هذه الناحية الثانية اكثر واقعية من الناحية الاولى . اذ ان دولة الوحدة لا تكتمل وجودا ما دامت ارض فلسطين مغتصبة ولو شملت باقي الوطن العربي . وانما أردنا أن ندفع بالفروض الى نهايتها لنؤكد بأوضح ما يمكن عدم شرعية التنازل عن ارض فلسطين أيا كان الجانب ” العربي ”  المتنازل ، ولو كان جيلا كاملا من الشعب العربي تمثله وتنوب عنه دولة وا حدة تعترف بالوجود الاسرا ئيلي على أرض فلسطين . ان أي جزء من الشعب العربي ممثلا في دولته أو الشعب العربي كله ممثلا في دولة واحدة ، أو شعب فلسطين ممثلا في دولة أو بدون دولة ، يعترف بدولة اسرا ئيل لن يفعل بهذا شيئا اكثر من الزام نفسه بالتعامل معها كدولة ولكن مشكلة الارض المغتصبة ستبقى قائمة يحلها حلها الصحيح باقي الشعب العربي ولواقتضى الامر تصفية المعترفين ، أو يحلها حلها الصحيح جيل قادم من الشعب العربي يصحح خيانة جيل سبقه . ولن يستطيع أحد أن يحتج على الذين يتصدون لاسترداد الارض المغتصبة  بالاعتراف الصادر من غيرهم أو بالاعتراف السابق على وجودهم ، لانهم كشركاء في الارض العربية شركة تاريخية غير ملزمين بما فعله أو يفعله شركاؤهم الاخرون .
 مشكلة فلسطين ، اذن ، لن تحل بالاعتراف بدولة اسرائيل يأتي من أي جانب عربي لانها مشكلة ارض مغتصبة ، لا من أي جيل من الشعب العربي يملكها وحده فيملك التصرف فيها ، ولا من أي جزء من الشعب العربي يملكها وحده فيملك ان يتنازل عنها ، بل مغتصبة من الامة العربية واجيالها المتعاقبة . ومن هنا ندرك جسامة خطأين متداولين في طرح مشكلة فلسطين :
الخطأ الاول هو الزعم بأن العدوان الصهيوني موجه ضد دولة عربية أو بضعة دول عربية ، وبالتالي تكون المشكلة قائمة بين اسرائيل وبين تلك الدولة أو الدول . صحيح ان الصهيونية المعتدية عندما استولت على الارض العربية كانت الارض التي اغتصبتها جزءا من اقليم (شبه) الدولة التي كانت قائمة في فلسطين تحت الانتداب البريطاني . وعندما اعتدت اسرائيل مرتين سنة 1956 وسنة 1967، ومرات عدة فيما بينهما ، اصطدمت بالدول العربية القائمة على الأرض المعتدى عليها. وانها ان تتوسع اكثر تصطدم بدول عربية أخرى لم يدركها العدوان بعد . هذا صحيح لان الارض التي اغتصبتها الصهيونية أو احتلتها اسرائيل لم تكن خالية من البشر ومن الدول . وان الارض العربية التي حددتها لتكون وطنا لدولة اسرائيل ما بين الفرات والنيل ليست خالية من البشر ومن الدول ويثير كل هذا مشكلات جديدة بين اسرائيل والدولة أو الدول العربية المعتدى عليها . مشكلات الاستقلال والامن وضمان الحدود . وتضاف تلك المشكلات الى قائمة المشكلات القومية على أساس ان كل مشكلة في الامة العربية هي مشكلة قومية . صحيح أيضا انه كلما تحرر الشعب العربي في أية دولة عربية من قيود الاستعمار والاستبداد والاستغلال ، وكلما نمت مقدرة الشعب العربي في أية دولة عربية على التقدم الاجتماعي ، انتبهت الصهيونية الى المخاطر المقبلة التي تتعرض لها مخططاتها فيما لو سمحت لذلك النمو أن يبلغ غايته .
 اولا : لأنه بقدر ما يتحرر الشعب العربي بقدر ما يستطيع أن يحل مشكلة فلسطين .
وثانيا : لان محاولات التقدم ولو في ظل الاقليمية لن تلبث أن تعلم الجادين فعلا في ممارسة التنمية انهم يفتقدون الامكانيات المادية والبشرية الوفيرة المتاحة في الامة العربية وان ” التقدم لا يقوم على أساس التجزئة ” عندئذ يعرفون ان مشكلة فلسطين هي مشكلة تخلف وان الوجود الاسرائيلي قيد ثقيل على محاولات التقدم الاجتماعي فيواجهون دولة الصهيونية بالارادة التي لا تهزم : ارادة التقدم الاجتماعي .
وثالثا : لان التنمية في ظل التحرر توفر افضل امكانيات التحرير، ومن هنا لا يكون غريبا مانلاحظه من أن مشكلة فلسطين تزداد حدة كلما تحققت في الوطن العربي خطوة تحررية . وان الصراع  ضد الصهيونية يصبح اكثر شراسة كلما تحققت خطوة تقدمية . وان قواها العربية تفرز وتتبلور . رويدا رويدا ، في القوى القومية التقدمية . ألم نر كيف انها الآن سنة 1971 أكثر حدة من سنة 1948. وان اسرائيل قد اصبحت اكثر شراسة من ذي قبل . وانها تدخر قوتها الضاربة وتعدها وتستعملها لهدم كل تقدم بناء في الجمهورية العربية المتحدة ، حيث يعيش ثلث الامة العربية، وحيث تقوم اكثر الجهود جدية في البناء الاجتماعي . ويبدو الامر من تتابع العدوان وتوقيته كما لو كان الاسرائيليون يضعون خطط الهدم على أساس خطط التنمية في الجمهورية العربية المتحدة . عدوان يهدم ، ثم فترة ليتفرغ فيها الشعب العربي لاعادة البناء ويبذل في كل هذا ما يتجاوز طاقته من تضحيات بشرية ومادية ومالية ، وعندما يقارب البناء مرحلة الاثمار، أي في تلك اللحظة المنتقاة حيث يكون الشعب العربي على وشك ان يذوق ثمار جهده ، تختلق الذرائع ويأتي عدوان اسرائيلي جديد ليهدم … وهكذا. ألم نر كيف تحول الصراع منذ سنة 1967 من معركة تهزم فيها القوات أو تنتصر ثم تنفض الى سباق حياة أو موت بيننا وبين اسرا ئيل . ولم تستطع اسرائيل ـ هذه المرة ـ أن تضرب ثم تعود فتسرح قواتها وتعد نفسها لجولة قادمة . بل اضطرت للبقاء في ساحة المعركة والدفاع حتى الموت عن وجودها بان تفرض حتى الموت ذلك الوجود والاعتراف به قبل ان تكمل القوى القومية في الوطن العربي مسيرتها التقدمية .
كل هذا صحيح وواقعي .
ولكنه يقوم على مستوى اسلوب الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين . انها مشكلات ولدتها المشكلة الاصيلة ، تنصب مضامينها على متطلبات الصراع وعدة النصر فيه . فهو لا يطغى على مشكلة فلسطين ولا يغيرمن حقيقتها ولا يقوم بديلا عنها . ولو كانت اسرائيل تعلم ، أو حتى تتوهم ، ان التقدم الاجتماعي في أية دولة عربية ، لن يبنى لها من بين ما يبنى ، القبرالذي تدفن فيه ، لما همّها في كثير أو قليل ان تقوم بجوارها دولة نامية تتبادل معها السلع والخدمات والخبرات . أو لما بلغ اهتمامها حد القتال لهدم البناء التقدمي في الدول العربية . انما هي تهدم لانها تعلم ان ذلك البناء أحد اساليب النصر في الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين . وهكذا تبقى مشكلة فلسطين ، كما هي ، مشكلة اغتصاب الارض العربية بصرف النظر عن الدولة أو الدول التي كانت قائمة ، والقائمة ، والتي قد تقوم على تلك الارض . ذلك لان الأرض التي تقوم عليها الدول العربية ليست أرضا خاصة بتلك الدول أو بشعوبها . ان للشعب العربي في كل دولة حقا بينها مشتركا بينه وبين باقي ، الشعب العربي خارج حدودها السياسية . ومن هنا لا نستطيع أن نفهم ، من الموقف القومي، كيف يمكن أن يكون اغتصاب أو احتلال أية ارض عربية هو مشكلة ” خاصة  بين المعتدين وبين الدولة أو الدول العربية التي تلقت ضربة العدوان . فلا نفهم ان يكون اغتصاب الارض العربية سنة 1948 واحتلال مزيد من الارض والمياه الاقليمية في سنتي 1956، 1967 وما بينهما مشكلات اقليمية قائمة بين اسرائيل والدول العربية ” المعنية ” كما يقولون .  وعندما لا نفهم المشكلات على هذا الوجه الزائف نرفض ـ من ناحية ـ ان تتنازل أية دولة عربية عن أرض فلسطين المغتصبة سنة 1948 فتعترف باسرائيل ولو في مقابل استردادها للارض المحتلة في سنة 1967. ونرفض ـ من ناحية ثانية ـ أن تتنازل أية دولة عربية عن ذرة من الارض التي تقوم عليها لاسرائيل ولو في مقابل استرداد ما يتبقى من ارض محتلة . ونرفض ـ من ناحية ثالثة ـ ان تكون مسؤولية تحرير الارض المحتلة والارض المغتصبة واقعة على عاتق جزء من الشعب العربي دون الشعب العربي كله من المحيط الى الخليج . كما نرفض ان تساوم بعض الدول العربية على جزء من الوطن العربي لتسترد جزءا منه ، نرفض ان يهرب جزء من الشعب العربي من المعركة ليتحمل جزء منه مسؤولية الامة العربية كلها .
مشكلة فلسطين اذن مشكلة قومية وليست مشكلة اقليمية .
واذا كان الصهاينة وحلفاؤهم يزعمون ولا يكفون عن ترديد مزاعمهم بأن مشكلة فلسطين هي مشكلة حدود آمنة واعتراف متبادل بين اسرائيل وجاراتها من الدول العرببة فذلك ما يقوله المعتدون وحلفاؤهم ليكسبوا به جولة الصراع حول وجود اسرا ئيل وليبدأوا بعده مراحل بناء دولة الصهاينة ، حربا حربا، ما بين الفرات والنيل . وعندما ننزلق نحن فننسى أن مشكلة فلسطين هي مشكلة اغتصاب ارض فلسطين (أليس هذا بدهيا ؟) ونطرحها كما لو كانت مشكلة توسع على حساب دولة أو اكثر من الدول العربية نكون قد سلمنا للصهيونية بما اغتصبت من الارض العربية قبل سنة 1967.  وعندما ينسى الاقليميون الامة العربية التي ينتمون اليها والواقع القومي الذي تثور فيه المشكلة ويرددون كالببغاوات العجماء ان لكل دولة ” عربية ” شعبها الخاص وأرضها الخاصة وتاريخها الخاص ومصيرها الخاص … ويناقضون القومية بالاقليمية ، يناقضون الكل بالجزء ، يناقضون الشامل بالمحدود ، يناقضون العام بالخاص ، فيفتعلون بكل هذا تناقضات غير قائمة ، انما يخفون التناقض الحقيقي القائم بين الشعب العربي والوجود الاسرائيلي ، وينتصرون فيه للصهيونية وحلفائها بترديد دعاواهم الزائفة . اذ عندما ينحرفون الى المواقع الاقليمية ويزعمون ان لكل دولة عربية وجودا ومصيرا خاصا مستقلا يواجهون بأن الاستقلال علاقة ذات طرفين . استقلال بالنفس عن الغير. والغير هنا هو شعب فلسطين وارضه المغتصبة . ويصبح تدخلهم في مشكلة فلسطين تجاوزا لاستقلالهم واعتداء ، أو تطفلا ، على استقلال الاخرين يستحق الردع أو يستحق السخرية . ويسخر العالم كله فعلا من الذين يدعون انهم مستقلون بوجودهم ومصيرهم عن فلسطين ثم لا يتركون فلسطين لمصيرها . وعندما تطرح مشكلة فلسطين على الذين يرددون المنطلقات الاقليمية لا يكون امامهم الا الاحتكام الى القواعد الدولية التي تنظم علاقة الجوار فيها بين الدول : الاعتراف المتبادل وتبادل التمثيل السياسي ودعم الصداقة … أو ـ على الاقل ـ قبول حماية الدول لحدود دولهم لتضيع أرض فلسطين الواقعة خارج تلك الحدود . فهل يقبلون ما تنتهي اليه منطلقاتهم أم هي اخطاء غبية ؟
الخطأ الثاني المتداول فيما يطرح عن مشكلة فلسطين ليس الا ” تطبيقا خاصا ” للخطأ الاول . انه الزعم بأن مشكلة فلسطين هي  مشكلة خاصة بشعب فلسطين . يقولون ان شعب فلسطين هو الذي كان يعيش على الارض المغتصبة . وهو الذي  طرد منها . وهو الذي ما يزال مشردا ” بدون أرض وبدون هوية ” . وهو الذي سيعود الى الارض عندما تسترد . فهي مشكلته الخاصة . هل يستطيع أحد أن ينكر أن اغلب الذين كانوا يعيشون على الأرض المغتصبة هم الذين طردوا منها بالامس ، المشردون خارجها اليوم ، العائدون اليها غدا ؟… لا أحد . ان احتجوا بالواقع غير المنكور ترسي القومية له أسسه العقائدية : ” ان وحدة الوجود القومي تعني اختصاص الشعب بالوطن . ولما كان الشعب امتدادآ من البشر على الارض فان وحدة الوجود القومي لا تناقض ولا تلغى ولا تنفى ولا تحول دون اقامة جزء من الشعب على جزء من الوطن . فتلك هي الممارسة الفعلية التي تجسد وحدة الوجود القومي ” . عودة المطرودين المشردين الى الارض المغتصبة ليست ـ اذن ـ مجرد استرداد للمزارع والمصانع والمتاجر والمنازل ، ليست مجرد عملية انقاذ لسكان المخيمات ، انها اكثر من هذا عمقا وضرورة . انها الممارسة الفعلية التي تجسد وحدة الوجود القومي . ومع هذا فليست مشكلة فلسطين مشكلة ” خاصة ” بشعب فلسطين . اذ ان هذا هو الوجه الثاني من عملة الاقليمية الزائفة فحيث لا تتوافر لهم شجاعة الكشف عن الوجه الخاص بهم ليقولوا ان مشكلة فلسطين ليست مشكلتنا الخاصة ، يكشفون الوجه الاخر فنقرأ ” مشكلة فلسطين هي مشكلة خاصة بشعب فلسطين ” ويسترون هذا الخداع  بأكثر الصيغ عطفا على شعب فلسطين : رفع الوصاية عن شعب فلسطين، عدم التدخل في شئون شعب فلسطين ، حق تقرير المصير لشعب فلسطين ، الحقوق ” القومية ” لشعب فلسطين ، التحالف مع  شعب فلسطين ، بطولة شعب فلسطين … الى آخر تلك الصيغ الزائفة مهما تكن عاطفية . اذ ان حصيلتها النهائيه ان اذهب شعب فلسطين وربك فقاتلا انا هنا  قاعدون .
عندما يصدر هذا كله أو بعضه من الاقليميين الذين لم يطردوا ولم يشردوا من ارض فلسطين ولن يعودوا اليها ولو كانت خالية من اسرائيل يكون مفهوما تماما . انها الاقليمية الهاربة من الصراع من اجل استرداد ارض لا تعتبرها ارضها ، المتطلعة الى الافلات من مشكلة لا تعتبرها مشكلتها . والتي لا مانع لديها في كل الحالات ان يقبل المطرودون التعويض بدلا من العودة . ان يبيعوا ارض الوطن لمن يستطيع ان يدفع الثمن ، ثم تبقى اسرائيل . اما ان يصدر هذا كله او بعضه من المطرودين المشردين أنفسهم فذلك أمر غريب مريب . ان يقل المطرودون المشردون من الارض المغتصبة أن مشكلة فلسطين هي مشكلة خاصة بشعب فلسطين لا يفعلون شيئا سوى ابتلاع الطعم المسموم الذي القته الاقليمية في افواههم . ويكون عليهم ان يتمثلوا نتائجه القاتلة حتى النهاية : السماح للاقليميين بالهروب من المعركة ، وصد القوميين عن الاسهام في المعركة ، ومحاولة استرداد الارض الخاصة بهم من مواقعهم في الارض التي تخص غيرهم . وعندما يواجهون الاقليمية المخاتلة تقول لهم استردوا ارضكم كما تشاءون ولكن لا تمسوا سيادتنا على أرضنا ، وتدفعهم بالعطف المخادع أو بالقوة الغاشمة الى أن يقبلوا جزءأ من الارض المغتصبة ليقيموا عليها ” دولة فلسطينية ” تكون بمجرد قيامها اعترافا حيا بدولة اسرائيل … حينئذ سيشعرون  ببرودة الموت الذي دفعتهم اليه الأقليمية . فهل يقبلون ما تنتهي اليه منطلقاتهم أم هي اخطاء غبية ؟.
ليس ثمة أمة تخلو من الخونة . ولكنا لا نستطيع أن نسند الخيانة الى أي عربي لا نملك على خيانته دليلا غير قابل للشك . فقد علمتنا القومية أن مصيرنا مرتبط ـ بمصير أبناء امتنا حتى الاغبياء منهم والمخطئين . فلنقل اذن انهم لا يقبلون ما تنتهى اليه منطلقاتهم . كل هؤلاء الذين يشوهون مشكلة فلسطين ، أو اغلبهم ، فيطرحونها كما لو كانت مشكلة دينية ، أو مشكلة نظم اجتماعية ، أو مشكلة دولية ، أو مشكلة اقليمية … لا يقبلون الوجود الاسرائيلي في فلسطين ويجتهدون ـ بحسن نية ـ لحل مشكلة لم يفهموها فهما قوميا فلم يفهموها فهما صحيحا، فتأتي الحلول خاطئة . انهم اذن يخذلون انفسهم وتلك قمة الغباء . الا يقولون جميعا ان مشكلة فلسطين مشكلة ” عربية ” ويستغيثون بالمائه مليون عربي بدون أن يقولوا انها مشكلة ” قومية ” ثم لا يفطنون الى ان العروبة التي لا تعني الانتماء الاجتماعي والمصيري الى الامة العربية . هي كلمة ” فارغة ” من أي مضمون لا يقوم عليها التزام بغاية . الا يقولون انه صراع ديني ولا يفطنون الى ان الوطن العربي هو مصدر الاديان وان حركة التقدم العربي في تاريخها الطويل قد جمعت الاديان جميعا . الا يتذكرون أن الصهيونية قد اعتدت أولا والنظم العربية عميلة للاستعمار، واعتدت ثانيا والنظم العربية متحررة ، واعتدت اخيرا والنظم العربية تقدمية وفي كل مرة كانت تستهدف الارض لتخليها من البشر ثم يقولون انه صراع بين النظم الاجتماعية ؟… الا يعرفون ان الدول الاستعمارية هي التي كانت وما تزال تصنع القرارات الدولية ، بالقوة ، ومع ذلك يحتجون بالقرارات الدولية ؟… ألا يعلمون انه عندما وضعت الصهيونية مخططات اقامة دولتها على الارض ، العربية واختارت فلسطين بداية في مؤتمر بال سنة 1897 لم تكن ثمة أية دولة عربية قائمة في الوطن العربي ، لا في فلسطين ولا في غير فلسطين ، بما تعنيه الدولة من سيادة على الارض، بل كان الوطن العربي اما جزءا من الدولة العثمانية واما أجزاء يحتلها المستعمرون الاوروبيون ، ثم يزعمون ان الصهيونية تقصد بالعدوان هذي أو تلك من الدول العربية … الا يرون أن ” الممارسة ” الفعلية للصراع بين الشعب العربي والحركة الصهيونية حول الارض المغتصبة في فلسطين يثبت ان مشكلة فلسطين مشكلة قومية ، فتدخل حلبة الصراع الذي تثيره اجيال متعاقبة من الشعب العربي ، من كل مكان في الوطن العربي ، من كل دين ، من كل طبقة ، من كل دولة ، بدون توقف على القرارات الدولية .. ولا يسمح الصراع ذاته لاي جيل عربي ، أو أي جزء من الشعب العربي ، أو أية ” طبقة ” أو أية دولة ان تهرب من حلبته فيقتحم العدوان الصهيوني واثاره المخربة كل مكان في الوطن العربي لا يمنعه الهرب ولا تصده القرارات الدولية ؟… فلماذا هذا الاصرار الغبي على انكار القومية وهي العلاقة  الوحيدة التي تفسر الممارسة وتبررها وتمكننا من النصر فيها فلا تخذلهم ولا تهزم غايتهم ان كانواـ حقا ـ لا يقبلون الوجود الاسرائيلي في فلسطين ؟..
ان كان كل هذا غائبا عن ” فطنة ” الذين يشوهون مشكلة فلسطين ، وعجز الموقف القومي عن ان ينبههم الى ما يخذلون به أنفسهم فلعلهم ينتبهون اليه عندما يعرفون الموقف الصهيوني من مشكلة فلسطين . لعلهم ، ان كانوا عاجزين عن تحديد مواقفهم ” عقائديا ” من مشكلة فلسطين أن يأخذوا الموقف المضاد لاعدائهم بعد أن يعرفوه ، ولو عرفوه ثم أخذوا منه موقفا مضادا لوجدوا أنفسهم في الموقف القومي وان كانوا  قد وصلوا اليه كرد فعل لا كفاعلين .

 

(4)

42 ـ الموقف الصهيوني :

نشأت الصهيونية في اوربا نتيجة عدة عوامل متفاعلة .
اولها : ان ” التوراة ” التي يتداولها اليهود ، وهي كتاب ظهر لاول مرة في عهد الملك يوشا بعد وفاة موسى بن عمران بسبعة قرون كاملة (سفر الملوك الثاني ، اصحاح 22) ، علمت وتعلم اليهود انهم ” شعب الله المختار ” وتضعهم في موقع العزلة الممتازة من الشعوب الاخرى . وتسند التوراة هذا الاختيار الى اعجاب الله بقوة يعقوب ولذلك تحدد لليهود مضمون امتيازهم على الاخرين بانهم أقوى من غيرهم . ذلك لان الله  قد اختارهم واسمى يعقوب ، جدهم الاعلى ، باسم ” اسرائيل ” على أثر مصارعة جسدية قامت بين يعقوب وهو في طريقه الى ارض كنعان وبين الله  ذاته ، لم يهزم  فيها يعقوب فاعجب به الله وباركه واختاره (سفر التكوين 322 اية 25 - 29) وهكذا استقر في اذهان اجيال متعاقبة من اليهود ، ” ايمان ” بانهم شعب قوي ممتاز اختاره الله فاختصه برعايته دون البشر اجمعين ، وحذره من الاختلاط بالشعوب الاخرى حتى لا تلوث نقاءه . ” اني ادفع الى ايديكم سكان الارض فتطردوهم من امامك . لا تقطع معهم ولا مع الهتهم عهدا. لا يسكنوا في ارضك لئلا يجعلوك تخطىء ” (سفر الخروج ، اصحاح 33   آية 22 ، 23) . وقد ادت تلك الاساطير القبلية الى ان اصبحت اليهودية ، بالنسبة الى المتدينين من اليهود ، تتضمن ” عنصرية ” مقدسة تجمعهم على عداء ”  مقدس ” للشعوب .
ولم يكف كهنة اليهودية عن تغذيتها بحيث اصبحت القيم اليهودية ذات حدين، فبينما تفرض على اليهود التزامات وثيقة بالتضامن الاجتماعي فيما بينهم تبيح لهم ان يعاملوا الشعوب الاخرى بدون قيد اخلاقي أو اجتماعي . قال حكماء صهيون : ” اضربوهم وهم يضحكون . اسرقوهم وهم لاهون . قيدوا ارجلهم وانتم راكعون . ادخلوا ، بيوتهم واهدموها .  تسللوا الى قلوبهم ومزقوها ” . أما ” يهو” الاله الخاص ببني اسرائيل فقد وعد شعبه المختار بان يقوده ” الى مدن عظيمة لم تبنها ، وبيوت مملوءة كل خير لم تملأها ، وآبار محفورة لم تحفرها ، وكروم زيتون لم تغرسها ، ( سفر التثنية . اصحاح 6 اية 11) وتكمل الاساطير البناء الاجتماعي القبلي فتقدم الى اليهود وحدة الاصل لتؤدي وظيفتها في التضامن الاجتماعي الداخلي فتقول ان كل اليهود ، في كل مكان من الارض ، ومن أي جنس، وأي لون ، هم سلالة الاسباط الاثنى عشر ابناء يعقوب (اسرائيل) بن اسحاق بن ابراهيم ، ووحدة الرمز (الطوطم) في جبل صهيون الذي دارت فوقه المصارعة التي اثبتت قوة اسرائيل (يعقوب) التي لا تقهر .
اننا نتعرف في كل هذا على خصائص الطور القبلي الذي مرت به كل المجتمعات : الاله الخاص ، والاصل الواحد ، والتضامن الداخلي ، والعدوان الخارجي ، وتمجيد القوة . وهو طور كان سائدا في جميع انحاء العالم يوم ان ظهرت التوراة لاول مرة في اوائل القرن الخامس قبل الميلاد . وعلى هذا فان اليهود لم يكونوا بدعة قبلية لا في تكوينهم ولا في اساطيرهم يوم ان كانوا طرفا في الصراع القبلي الذي كان يدور في كل مكان من الارض والذي انتصروا فيه مرات وانهزموا فيه مرات ثم انتهى بهزيمتهم النهائية عسكريا بالغزو الروماني وفكريا بظهور المسيحية . ثم جاءت مرحلة الاستقرار على الارض بالفتح الاسلامي فدخلت بقايا القبائل اليهودية في شرق وجنوب البحر الابيض المتوسط مع غيرها من القبائل والشعوب الاخرى ، مرحلة التكوين القومي واصبحوا عربا . ولعل مثل هذا التطور أن يكون قد حدث في كل مكان عاش فيه اليهود ، الا اوربا  .
ففي اوربا عاش اليهود قرونا منعزلين في احياء مقصورة عليهم عرفت باسم ” الجيتو ” حتى نهاية القرون الوسطى . ولم يكن أي ” جيتو” الا مجتمعا قبليا مغلقا على اصحابه حبس تطور الجماعات اليهودية في اوربا عند الطور القبلي لا يتجاوزونه . وكان مرجع ذلك الى ان اليهود في اوربا كانوا محاصرين بتعصب كنسي يظن ان له عند اليهود ثأرا قديما : صلب المسيح . من اجله طردهم فيليب اوجست من مملكته . ومن إجله أمر البابا أنوسنت الثالث بأن يميز اليهود بعلامات توضع على ملابسهم .. ومن اجله احرقت كتب اليهود في الميادين العامة . وقد يكون وراء كل هذه الاساطير ذلك السلاح الاستغلالي الفتاك الذي يجيده اليهود : الربا . فبينما كانت الكنيسة تحرم الربا ، كانت اليهودية تأخذ منه موقفها القبلي ، فى تحرمه فيها بين اليهود وتبيحه إذا كان ضحيته غير يهودي وعن طريقه موّل اليهود في اوربا أمراء الاقطاع في حروبهم التي لا تنتهي وفي ترفهم الذي لا يشبع فسيطروا عليهم وسيطروا على الشعوب من خلالهم وكان رد الفعل تحديد اقامتهم في اماكن خاصة وتحريم كثير من أنواع النشاط المنتج عليهم .
أيا ما كان الأمر فان اليهود في اوربا ظلوا حتى نهاية القرون الوسطى في الطور القبلي بكل خصائصه التي عرفناها . ثم جاءت الثورة الليبرالية فاطاحت بالتعصب الكنسي ، وانهت قضية الثأر القديم ، بل وأدت ، على المستوى الديني ذاته ، الى لقاء  بين المسيحية واليهودية في المذهب البروتستنتي ، وتجسد كل هذا في اعلان حقوق الانسان الذي اصدرته الثورة الفرنسية التي حرصت على الغاء كلمة الدين من أية وثيقة دستورية ، وكانت في كل هذا نموذجا للثورات التحررية التي عمّت اوربا وانهت عهد الاقطاع . وهكذا ، بعد تخلف حضاري طويل ، فتح باب التطور واسعا امام اليهود  ليغادروا الطور القبلي ويندمجوا في المجتمعات الاوربية التي يعيشون فيها . وقد غادرته الكثرة الغالبة منهم خاصة في اوربا الغربية حيث اصبحوا افرادا عاديين في مجتمعاتهم ، وتخلفت عن الركب الحضاري قلة قبلية متناثرة في اوربا الشرقية المتخلفة بدورها . وقد كان من الممكن أن ينتهي الامر بتلك القلة ـ الى ان تتطور وينتهي عهد العصبية اليهودية لولا ان الليبرالية التي جاءت بالتسامح الديني في ظل ” الاخاء والحرية والمساواة ” قد جاءت أيضا بالنظام الرأسمالي .
 بقانون المنافسة الحرة واطلاق الافراد من أي التزام من قبل المجتمع الذي ينتمون اليه . ثم بعدم تدخل الدولة في النشاط الفردي على أساس ان ” مصلحة المجتمع ستحقق حتماً وتلقائيا من خلال تحقيق كل فرد مصلحته ” بحكم القانون الطبيعي . واخيرا باباحة الكذب والغش والخديعة والتعسف والربا والغبن والاكراه الاقتصادي والادبي طبقا للقاعدة القانونية الليبرالية الشهيرة : ” القانون لا يحمي المغفلين “. فاتاحت الرأسمالية للعنصرية اليهودية المتخلفة اوسع الفرص لتجسد ـ ايجابيا ـ عداءها القبلي ” المقدس ” للشعوب بوسائل اصبحت مشروعة في ظل الليبرالية . وتحول كل “جيتو”  الى وكر تآمر وتخطيط وتعبئة نشيط ومعادٍ لكل ما ومن  ليس يهوديا . وانطلقت العنصرية اليهودية بذهنية ” المؤمنين ” بامتيازهم في مجتمعات يرفضون الانتماء اليها، في ظل نظم تبيح لهم الاستغلال، ليفرضوا  سيطرتهم على الشعوب بكل الوسائل . ولم يكن غريبا ان ينتهي كل هذا الى ان يصبح اليهود في المجتمعات الرأسمالية هم سادة ” المال ” المسيطرين على ارزاق الناس من خلال البنوك . ان هذا أمر جدير بالتأمل . لماذا يفضل اليهودي عنصر المال ليكون مجال نشاطه وأداة سيطرته كما لو كان مثله الاعلى هو ” تاجر البندقية ” ؟ .. ألأن تلك هي الصنعة التي احتكروها فاتقنوها في ظل الاقطاع ؟ أم لأن عنصر المال هو، في التحليل الاخير، مناط السيطرة في الاقتصاد الرأسمالي ؟… أم لان ” الفائدة ” اكثر ضمانا من ” الربح ” ؟.. قد يكون السبب واحدا أو اكثر من هذا كله ، وقد يكون هذا كله مجتمعا في تقاليد ” حرفية ” كما كان الامر بالنسبة الى الصناعات الاخرى  في ظل الاقطاع حيث تتجمع كل طائفة من الناس حول ” حرفة ”  واحدة يحتكرونها ويتوارثونها ، ولكنه ما بقى بعد انقضاء عهد الحرفيين الا لأنه يتفق مع العنصرية القبلية الموروثة . ذلك لأن النظام الرأسمالي في نشأته كان نظاما تقدميا بالنسبة الى النظام الاقطاعي الذي كان سائدا في اوربا في قبله . وقد استطاعت الرأسمالية أن تحول المجتمعات الاوربية الزراعية الى مجتمعات صناعية وان ترسي أسس حضارة مادية وعلمية معا حققت قدرا من التقدم الاجتماعي يمثل الجانب الايجابي البناء من اثارها . ويبدو ان الخلفية المعادية للشعوب التي كانت ثمرة الجمود العنصري الذي تربت عليه اجيال متعاقبة من اليهود في اوربا ، حالت دون ان يجد اليهود في البناء الاقتصادي وما يصاحبه من تقدم اجتماعي ما ” يغريهم ”  فاختاروا البنوك كأدوات للسيطرة على المجتمعات ولم يختاروا ” المصانع ” لانها أدوات البناء الاجتماعي . وسيختارون بعد ذلك ا لصحافة والاعلام عندما تصبح أدوات للسيطرة  . وسيختارون الارهاب المسلح ويتقنون استعماله كما اتقنوا استعمال المال والصحافة والاعلام  في المجتمعات التي عاشوا فيها . كل ذلك لسبب بسيط هو انهم لا يعتبرون تلك مجتمعاتهم ليسهموا في بنائها بل يعتبرونها اعداءهم فعليهم بأمر “ يهو” أن يسيطروا عليها أو يخربوها . ان هذا يفسر ـ فيما نعتقد ـ  الصورة الاوربية لليهودي الجبان الذليل الخائن .. وليس الجبن وقبول المذلة والخيانة لصيقة بأي دين وعلى وجه خاص ليست واجبا دينيا على اليهود الذين يعلمهم دينهم الشراسة ويمجد العدوان  ويقيم امتيازهم على القوة الجسدية التي من اجلها اصطفاهم الله شعبا مختارا . انما كان الجبن والخيانة وقبول المذلة تعبيرا عن ـ رفض اليهودي مخاطر المغامرة الايجابية وضريبة الوطنية من اجل المجتمع المرفوض اصلا . وكان قبول المذلة تحايلا على المجتمع الاقوى ” قيدوا ارجلهم وانتم راكعون ” . باختصار يلتزم اليهودي قيمه القبلية الخاصة ويرفض الالتزام بقيم المجتمع الذي يعيش فيه فيبدو شاذا في مجتمعه لانه يرفض الاندماج فيه ، ولا يرى هو في موقفه شذوذا لان الانعزال عن ”  الغرباء ” والعداء لهم فضيلة قبلية .
على أي حال ، عندما انتبهت الشعوب الاوربية الى الاستغلال الرأسمالي الذي ابتلع أو كاد المكاسب التي كانت مأمولة من وراء ثورات التحرر من الاقطاع التفتت الى تلك ” الطائفة القبلية ” التي تقاوم التطور الحضاري وتجسد الكراهية . والاحتقار لكل من لا ينتمي اليها ، وتتآمر خفية فتصنع لها لغات خاصة لا يعرفها غيرها ( الييدش في شرق اوربا وهي مشتقة من الالمانية واللادنيو في غرب اوربا وهي مشتقة من الاسبانية) ، وقبل هذا وفوقه تموّل النظام الرأسمالي وتدير حركته الاستغلالية من مقاعدها في البنوك . وكان للمستغلين الرأسماليين من غير اليهود مصلحة لا شك فيها في ان يوجهوا غضب الجماهير المقهورة بعيدا عن النظام الرأسمالي الاستغلالي فاشتركوا بوسائل شتى في تركيز الانتباه على العنصرية اليهودية ، وحملوها وحدها مسئولية الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي الذي تعانيه الشعوب ، حتى تخرج الرأسمالية بريئة . وهكذا تعاظمت موجة كراهية اليهود واحتقارهم واضطهادهم التي عرفت بـ  ” معاداة السامية ” . اما  لماذا  السامية مع ان يهود اوربا ليسوا ساميين ، فلأنهم لو اسموها اسما ” معاداة اليهودية ”  لفضحت دعاوى التحررية والعلمية التي تروجها الرأسمالية المنافقة . وهكذا نمت مشكلة اليهود في اوربا من بذور عنصرية طائفية متخلفة تغذت من عفن الرأسمالية المستغلة .  
ولم يكن حل المشكلة خافيا حتى على الاغلبية الساحقة من اليهود الذين تحرروا من البداوة القبلية واندمجوا في مجتمعاتهم . فقد كان الحل يقتضي ان تتحرر الاقلية اليهودية من اساطيرها الخرافية وان تتجاوز الطور القبلي لتندمج في المجتمعات التي تعيش فيها كما فعلت الاكثرية . وكانت الاشتراكية المطروحة افكارها بقوة خلال القرن التاسع عشر تمثل الامل الاجتماعي الذي تنتهي به ، والى الابد ، كل أنواع القهر . كان ذلك هو الحل التقدمي لمشكلة اليهود في اوربا ومشكلة المجتمعات الاوربية  بما فيها من يهود . وضد هذا الحل بالذات تحالفت اقلية يهودية متخلفة تقاوم حركة التطور وتتحالف مع الرأسمالية الاستعمارية التي تستغل البشر جميعا بما فيهم الاقليات المتخلفة .
وشهد عام 1897 مولد منظمتين من العنصريين اليهود . كل منهما منظمة ” صهيونية ” . ستحاول المنظمة الاولى افساد حل المشكلة اشتراكيا فتفشل . ينجح الحل ويهرب العنصريون . وتقوم الثانية بالتحالف مع القوى الاستعمارية فتنتجح الى حين فتقوم في الأرض العربية دولة عنصرية في سنة 1948.
أما المنظمة الاولى فهى ” الاتحاد العام للعمال اليهود في روسيا وبولندة ” ( البوند) . ويلاحظ منذ البداية انها منظمة لليهود دون غيرهم في كل من روسيا وبولندة أي بدون اعتداد بالانتماء القومي لأي من الامتين الروسية والبولندية لانها تعتبر أن ” اليهودية ” رابطة ثالثة وذلك هو مميزها العنصري . ومن ناحية ثانية انها منظمة عمالية تستهدف الاشتراكية وقد اصبحت جزءا . من “حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي ” القائم على منطلقات فكرية ماركسية . فقد تشكل ” البوند ” سنة 1897 كواحد من المنظمات العديدة التي كانت تكون ما عرف باسم الحركة الاشتراكية الديموقراطية في شرق اوربا . وقد اجتمعت تلك المنظمات في منسك سنة 1898 واتفقت على أن تتوحد في ” حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي الروسي ” الذي تم انشاؤه فعلا في المؤتمر الثاني (التأسيسي) الذي انعقد في بروكسل ثم في لندن سنة 1903. وفي ذلك المؤتمر التأسيسي اقترح ممثلو ” البوند ” أن يكون هو الممثل ” للبروليتاريا ” اليهودية داخل اطار ” حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي الروسي ” الذي يجب أن يقوم على أساس فيدرالي . ولم يقبل المؤتمر رأيهم استنادا الى أن ” الفيدرالية ” تضعف قوة الحزب المركزية فانسحب ممثلو ” البوند ” من المؤتمر، وحدث الانشقاق بين البلشفيك والمنشفيك ، ولكن البوند ، والبلشفيك، والمنشفيك ، كلهم بقوا اعضاء في الحزب حتى المؤتمر الرابع (التوحيدي) الذي انعقد في استوكهلم سنة 1906. وفيه حصل البوند ” على اعتراف الحزب بوضعه الخاص كممثل للماركسيين اليهود ، في ذلك الوقت كان الحزب يضم عديدا من المنظمات و” الشلل ” التي تتنازع المعرفة بالماركسية وتمثيل الطبقة العاملة ، وكان ” البوند ” واحدا منهم ، ولم يكن البلاشفة بزعامة لينين الا شلة أخرى لم تنتصر بعد في الصراع الايديولوجي الذي كان ثائرا فيما بينهم ودار اغلبه حول ماعرف باسم ” المسألة القومية  . ولما لم تكن ثمة ”  نظرية ماركسية في القومية ” (4) ، وكان الامر متروكا للاجتهاد من خلال الممارسة لم يجد الماركسيون تناقضا بين أن يكون اليهود عنصريين وماركسيين معا . ولقد كانت الممارسة سنة 1906 تقتضي وحدة كل الماركسيين والاشتراكيين لأن الثورة ضد القيصرية كانت قد بدأت سنة 1905 لتنتهي بالفشل سنة 1907.  ولقد شن النظام القيصري ، بعد فشل الثورة ، حرب ابادة وحشية ضد كل الذين حرضوا عليها أو قادوها أو اسهموا فيها أو رحبوا بها . وكانت مجزرة . هاجر على اثرها جانب كبير من اليهود كما هاجر لينين نفسه ثم يعود لينين سنة 1917 ليقود الثورة مرة أخرى  وينجح . ويخوض الماركسيون ابتداء من سنة 1917 حربا اهلية شرسة ضد الثورة المضادة فتهاجر دفعة أخرى من اليهود “ الاشتراكيين ”. اولئك الذين قدموا لنا امثال ويزمان  وبن جوريون  وشاريت . ولنا هنا ثلاث ملحوظات . الاولى ما قيل من أن حرب الابادة التي شنها القيصر بعد فشل ثورة 1905 كانت موجهة ضد اليهود لان القيصر كان من أعداء السامية ، وهو غير صحيح . فقد كانت ثورة مضادة لتصفية قوى ثورة 1905 ولم يكن اليهود ولا ” البوند ” نفسه هم القوى الاساسية أو الوحيدة في ثورة 1905 الفاشلة . الملحوظة الثانية ان كل القوى التي هاجرت بعد فشل الثورة أو نفيت الى مجاهل سيبيريا لم تتوقف عن الكفاح ولم تلبث أن اجتمعت في ساحة ثورة 1917 المنتصرة ، الا العنصريون اليهود من اعضاء البوند . فما ان غادروا أرض الوطن حتى نسوا الماركسية والاشتراكية والطبقة العاملة وتحالفوا مع القوى الاستعمارية . الملحوظة الثالثة ان الكثرة من اليهود المتحررين من العنصرية الذين بقوا في الاتحاد السوفيتى بعد نجاح الثورة واسهموا في بناء الاشتراكية قد اندمجوا في مجتمعهم بيسر ذي دلالة قوية على أن مشكلة اليهود في اوربا هي مشكلة العنصرية والاستغلال وليست مشكلة افتقاد ارض يعيش عليها اليهود . فما ان يتحرر اليهود من التخلف القبلي ويتحرر المجتمع من الاستغلال الرأسمالي حتى تنتهي المشكلة . وليس ادل على هذا  من ان الاتحاد السوفيتى يضم ” جمهورية خاصة باليهود (بيروبيجان) لم تعد عنصرية . يقيم غير اليهود فيها كما يقيم اليهود في كل مكان من الاتحاد السوفييتى بدون أن توجد مشكلة . وهكذا افسدت العنصرية اليهودية على اصحابها أفضل الحلول التي قدمتها اوربا لمشكلة اليهود . كيف اذن كان العنصريون اليهود ماركسيين واشتراكيين ، وكيف انهم في الارض المغتصبة يقيمون المزارع الجماعية ، ويعيشون في جماعات متماسكة ، وينتهجون الاسلوب الجماعي في الانتاج ؟… كيف يتفق أن يكونوا عنصريين ما يزالون في مرحلة الطور القبلى وهم ـ فيما يبدو ـ  ماركسيون أو اشتراكيون ؟
هذه هي الخدعة التي لا يمكن اكتشافها من منطلق مادي على ضوء تطور اساليب الانتاج . ولكنها تصبح واضحة اذا نظرنا اليها من منطلق انساني قومي ” ينظر الى المجتمعات خلال حركتها الجدلية التي لا تتوقف من الماضي الى المستقبل ”. ان بين المجتمع القبلي العنصري اليهودي والمجتمع الاشتراكي تقاربا في اسلوب الانتاج الجماعي . ولكن علاقات الانتاج الجماعي مرتبطة بالطور الذي يمر به المجتمع ولا تكون تقدمية بذاتها . والماركسيون أول من يجب أن يعرفوا هذا فعندهم  يبدأ التطور الاجتماعي بالشيوعية الاولى وهي أكثر مراحله انحطاطا وينتهي بالشيوعية الاخيرة وهي أكثر مراحله تقدما . وفي كليهما تتشابه علاقات الانتاج الخالية من الملكية الخاصة ومع ذلك لا ينخدع أحد في الفارق الحضاري بينهما . فاذا كان اليهود في الارض المغتصبة يقيمون المزارع الجماعية ويعيشون في جماعات متماسكة فلأن اسلوب الانتاج الجماعي هو اسلوب الانتاج القبلي . ويمكن التمييز بين ما اذا كان اسلوبا قبليا أو اسلوبا اشتراكيا من خلال موقف اصحابه من المجتمعات الاخرى . فعندما يكون مصحوبا بالانغلاق الداخلي والعداء للغير يكون اسلوبا قبليا متخلفا حتى عن اسلوب الانتاج الفردي ، وعندما يكون انسانيا سليما فهو متجاوز اسلوب الانتاج الفردي الى الاسلوب الجماعي الاشتراكي . طبقا لهذا المقياس لا نكون في شك من حقيقة العلاقات الجماعية السائدة في الارض المغتصبة ، انها القبائل اليهودية قد انتقلت من ” الجيتو” الى أرض فلسطين لتعيش ذات علاقاتها القبلية المتخلفة : التضامن بين افراد القبيلة والعداء للاخرين . والكابوتز المسلح هو القبيلة التي ما تزال تعيش في القرن العشرين . وفي افريقيا الاف من هذه الجماعات القبلية تعيش معا حياة اكثر جماعية من اليهود في فلسطين ولا يقول احد بانها مجتمعات اشتراكية . ولا يغير من هذا ان المجتمع القبلي في اسرائيل يستعمل ارقى أدوات الانتاج تطورا في هذا الزمان . فمن قبل تعلمت قبائل الهنود الحمر استعمال ارقى أدوات القتال في زمانها ومع ذلك ظلت في طورها القبلي . وتستعمل كل الشعوب ـ الان ـ أدوات انتاج متشابهة في تقدمها الفني ومع ذلك تختلف حضارة وتطورا . لان ” كما يكون الناس يكون تطورهم الاجتماعي ” (فقرة 18) . ثم ان ” التفرقة العنصرية ” المعترف بوجودها في مجتمعات تبلغ فيها أدوات الانتاج أرقى ما وصل اليه العلم ليست الا المميز القبلي للمجتمعات التي تعيش في ذلك الطور المتخلف وتستعمل أدوات القرن العشرين . ان الجماعية  ـ اذن ـ هي التي كانت تغري كثيرا من العنصريين اليهود باعتناق الماركسية ، ولكن الماركسية ليست عنصرية . وعندما تتستر العنصرية بالماركسية يكون على كل ماركسي أن ينظر الى المجتمعات نظرة اشمل من أدوات الانتاج وعلاقاته ، عندئذ سيتبين بوضوح ان العنصريين في الارض العربية المغتصبة يعيشون في الطور الاجتماعي اللاحق للشيوعية البدائية وليس الطور الاجتماعي السابق على الشيوعية الاخيرة ، وانهم ـ بالتالي ـ عندما يتطورون سيدخلون الطور الرأسمالي  . ويقدم تطورهم منذ سنة 1948 حتى الان دليلأ واضحا على انهم يدخلون مرحلة الفردية . وآيتها الكثرة غير المتناسبة مع عددهم من الاحزاب وهو ما نلاحظه في مراحل الليبرالية الاولى ، ويدخلون مرحلة الرأسمالية وآيتها التحالف الذي يزداد يوما بعد يوم مع الرأسمالية الغربية وهذا لا ينفي ان جماعات من الرأسماليين المتحررين من القبلية اليهودية تعيش في اسرائيل أو تحالف الصهاينة خاصة منذ ان اصبحت لهم دولة لتستغل العنصرية الصهيونية ودولتها معا . ولكن ان يكون ـ في الارض المغتصبة عنصري واشتراكي معا ، أو ان يعيش الاشتراكيون في ظل الروابط القبلية التي نسجتها الاساطير والخرافات ، فتلك مقولة لا تستحق الا السخرية .
المهم ان الاشتراكية في الإتحاد السوفيتي قدمت للعنصريين اليهود افضل الحلول التقدمية ليغادروا الطور القبلي . قدمت لهم الارض والامن وفرص الانتاج وعدالة التوزيع . فرفضوها .  لماذا ؟
هنا يأتي دور المنظمة الثانية التي ولدت عام 1897 أيضا وتحالفت مع القوى الاستعمارية . انها المنظمة ” الصهيونية ” التي تأسست في مؤتمر بال وحددت هدفها بانه اقامة دولة لليهود في فلسطين ، وجمعت العنصريين اليهود في اوربا الغربية . وهي المنظمة التي سينضم اليها اصحاب تجربة ” البوند ” والتي ستحقق نجاحا مطردا في مخططاتها فتقيم دولة اسرائيل في سنة  1948  ، انها المنظمة التي جمعت شتات ” القبائل ” اليهودية لتقيم منهم دولة قبلية على ارض فلسطين . واول سؤال تطرحه تلك المنظمة علينا هو لماذا نجحت ؟.. وقبل ان نجيب ينبغي أن نذكر ان المجتمعات الاوربية بالرغم . من تقدمها ما تزال عامرة بالجماعات المتخلفة التي لم تتجاوز الطور القبلي . لا نضرب قبائل الغجر مثلا ، بل نضرب مثلا قبائل اللابيين الذين يعيشون في السويد والنرويج وفنلندا وروسيا . ان هذه ظاهرة متكررة في كل الامم ولنا منها نصيب لا ينكر . ومصير كل هذه الجماعات  المتخلفة ان تدرك تطور مجتمعاتها . اذن ، فمهما تكن اساطير العنصرية اليهودية كان التطور الاجتماعي في اوربا كفيلا في النهاية بان ينتزعها من روابطها القبلية لتلحق بمجتمعاتها ، لولا ان ” قوى ” أخرى كان لديها دور تبحث له عمن يؤديه . تلك هي القوى الاستعمارية .
ففي اواخر القرن التاسع عشر كان الاستعماريون  قد استولوا على العالم كله وبدأت مهمة المحافظة على مواقعهم فيه . ومن اجل هذا انعقد في لندن سنة 1907 مؤتمر استعماري ليوصي بما يراه كفيلأ بالمحافظة على السيطرة الاستعمارية . وقد قدم عدة توصيات كان نصيب الوطن العربي منها ما يلى : ” ان اقامة حاجز بشري وقريب على الجسر البري الذي يربط اوربا بالعالم القديم ويربطها معا بالبحر الابيض المتوسط بحيث يشكل في هذه المنطقة على مقربة من قناة السويس قوة معادية لشعب المنطقة ، وصديقة للدول الاوربية ومصالحها هو التنفيذ العملي للوسائل والسبل المقترحة ”  .
وفي سنة 1937 نشر في فرنسا كتاب تحت عنوان ” الله اكبر” يتضمن تقريرا كان مقدما الى احد قادة الحركة الصهيونية في النمسا هو الدكتور فولفجانج فايست يقول كاتبه : ” ان خلاصة الاسباب الجدية للكفاح من اجل الارض المقدسة هو موقعها الاستراتيجي وتأثيره في مستقبل المنطقة . فلو عادت فلسطين الى دولة عربية موحدة تضم مصر لقامت هناك قوة عربية مسلحة تستطيع أن تتحكم في قناة السويس والطريق الى الهند . أما اذا ظلت فلسطين مستقلة ، أو اصبحت دولة يهودية ، فانها ستقوم عقبة في سبيل انشاء هذه الدولة الكبرى حتى لو تمت الوحدة بين دولة عربية وأخرى على جانبي فلسطين ـ ان دولة صغيرة ” حاجزة ” تقوم على 100.000 كيلو متر مربع على ضفتي نهر الاردن ستحمي كل دولة عربية ضد تدخل أية دولة عربية أخرى … ان توازن القوى حول قناة السويس يتوقف اذن على استقلال فلسطين عن العالم العربي . يتوقف على دولة في فلسطين تكون مثل سويسرا عند ملتقى القارات الثلاث . ان هذا الاستقلال يتفق تماما مع طموح الاستعمار اليهودي، ذلك لان اليهود وحدهم هم الذين ستكون لهم مصلحة في هذا الاستقلال وليس العرب ، اذ ان هؤلاء سيكونون من الدعاة المتحمسين للاندماج في دولة عربية كبرى (5). وهكذا حالت القوى الاستعمارية دون أن تذوب العنصرية اليهودية في حركة التطور الاجتماعي في اوربا ، وغذت تلك العنصرية بادوات القوة وسهلت لها ان تغتصب ارض فلسطين لتكون هناك حارسة لقناة السويس وحائلة دون الوحدة العربية . وضمت صفحات التاريخ اكبر كذبة شهدها التاريخ . اليهود يغتصبون ارض فلسطين فرارا من اضطهاد الدول الاوربية ولكن بمساعدة الدول الاوربية و خدمة لمصالحها .. ابعد ما يكون عن الحقيقة اذن ان يقال ان اليهود ما جاءوا الى فلسطين الا لانهم يفتقدون وطنا يعيشون فيه . انما جاءوا ليغتصبوا الارض العربية ويقيموا دولة حارسة للمصالح الاستعمارية تحول دون أن تحقق الامة العربية كل ما هي قادرة عليه من تطور اجتماعي في ظل دولة الوحدة . جاءوا بمساعدة القوى التي لا تريد لهذا الشعب العريي أن يعيش بما يملك . لم يجيئوا لانهم يهود ، ولا لانهم  اشتراكيون ، ولا لانهم يريدون الاعتداء على دولة عربية معينة ، ولا لأن المجتمع الدولي كان في حاجة ـ حتى يسود قانونه ـ الى وجودهم في فلسطين ، بل ليقيموا على الارض العربية مخفرا مسلحا يكرس تخلفها ويمنع وحدتها .
هذي هي الصهيونية كما نراها من الموقف القومي وطبقا لنظريتنا القومية . ولو كنا قد استوعبنا نظريتنا هذي لادركنا من ابعاد مشكلة فلسطين ومخاطرها المقبلة اكثر مما يدرك سوانا . انها نذر على اكبر قدر من الجدية تنذرنا بها نظريتنا القومية التي علمنا أن الامة تدخل مرحلة التكوين القومي باستقرار الجماعات القبلية ( تحمل كل منها لغتها وثقافتها وتقاليدها ) على أرض معينة ومشتركة وبها تحل مشكلة الهجرة وتتميز بالاستقرار على الارض عن الطور القبلي . ثم تبدأ في التكون وتحدد خصائصها خلال مواجهة المشكلات المشتركة والمشاركة في حلها . اذن ، ولينتبه الشباب العربي ، أن الصهيونية تحاول منذ 1948 أن ” تصنع أمة ” من اشتاتها القبلية بأن تستحوذ على ارض تكون خاصة بها . ولا بد لكي تنجح من أن ” تستقر” على الارض “ وتختص ” بها فترة زمنية كافية تبني فيها حضارتها الخاصة وتصبح بها أمة . وقد كان عام 1948 هو البداية ولكن الزمان أمامهم ما يزال طويلأ ، فان الامم لا تتكون في عشرات السنين فلا نجزع . ان الولايات المتحدة الامريكية ذاتها ما تزال ، منذ الاستقلال ، أمة في دور التكوين ولكن الصهاينة دا ئبون على تنفيذ مخططاتهم، ولقد اغتصبوا الارض ولكن لم يستقروا عليها . وعلى أرضها يعيش ثلاثة ارباع مليون عربي واكثر فهي ليست خاصة بهم داخليا ، وقد قطعت معركة 1967 كل استقرار سابق . ولكنهم على أي حال استطاعوا أن يحيوا لغتهم الميتة فاصبحت لهم لغة مشتركة . ولو سمح الشعب العربي للصهاينة بالاستقرار على الارض حتى تكون خاصة بهم ويبنوا عليها حضارة خاصة ، فانهم سيصبحون أمة ، شاء الشعب العربي أم لم يشأ ، لان فعالية قوانين التطور حتمية ولا تتوقف على رغبات أحد ، والماضي يمتد تلقائيا في المستقبل اذا لم يتدخل الناس ايجابيا لتغييره ، ويوم أن يصبح للصهاينة أمة في فلسطين لن يستطيع أحد ان ينتزعها منهم مرة أخرى . لعل هذا أن يكون واضحا . فانه يحدد لنا التزامات عينية داخل الارض المغتصبة وخارجها حتى قبل أن تزول دولة اسرائيل . هذا ما نقوله نحن .
فماذا تقول الصهيونية عن نفسها ؟.
اذا كنا سنعود الى الاساطير الخرافية مرة أخرى فلعل هذا لا يصدم المعجبين ” بالتقدم الحضاري ” لاسرائيل ذلك لاننا لا نسند الى الصهاينة غير ما يقولون . ولا نستند من بين ما يقولون الا الى الصهاينة العلماء ، الماديين ، الذين لا نظن انهم يرعون شرائع الدين اليهودي . انهم ـ  كما لا بد نتوقع ـ لا يقولون ان الصهيونية حركة عنصرية قبلية متخلفة . بل يقولون انها حركة قومية . والصهيونية هي ذاتها القومية . اما الامة فهم اليهود في كل انحاء الارض ومن جميع الاجناس والالوان . ثم انهم لا ينكرون ان ليس لليهود لغة واحدة وانهم لم يعيشوا منذ عشرات القرون على ارض واحدة ، ولم يشتركوا في بناء حضاري واحد . كل هذا لا ينكرونه . ولكنه عندهم غير لازم لتكون الامة امة . فالنظرية الصهيونية في الامة والقومية تقوم على أساس ان وحدة الثقافة ، والتاريخ الثقافي هو المميز الاساسي للأمة . فاذا قيل ان اليهود المثقفين قد شاركوا في كل ثقافات العالم ، وكل منهم اسهم بقدر ما استطاع في ثقافة مجتمعه الذي يعيش فيه ، قالوا ان العبرة بالاتصال التاريخي للثقافة وهذا متوافر في الثقافة الدينية لليهود منذ الشتات الى الان ، فهم ـ اذن ـ امة . هل هي أمة ممتازة ؟.. لا . ان تعبير ” شعب الله المختار” هو للتمييز وليس للامتياز . فليكن . فليس لكل هذا من آثار فيما يعنينا في هذا الحديث . اذ ان الذي يعنينا هو عنصر الارض .
ان كنتم أمة الآن ، وكنتم دائما أمة ، وأنتم تعيشون فعلا على الأرض وسط مجتمعاتكم فلماذا تتركون " أوطانكم " ؟..
لأن تلك المجتمعات لم تقبلنا قط ، انها رفضت انتماءنا اليها وما تزال ترفض وقد تعرضنا في تاريخنا الطويل لكل أنواع الاضطهاد الظاهر وما يزال هذا الاضطهاد مستمرا . حتى الذين اندمجوا ـ كما يقال ـ في مجتمعاتهم يشعرون بالغربة واذا كانوا يرفضون الانتماء علنا الى الحركة القومية (الصهيونية) فلأنهم يخشون أن ينفجر العداء الكامن ضدهم فهم يساعدونها خفية أو علنا تبعا للظروف . واذا كانت الحركة الصهيونية لا تضم الا القلة من اليهود فلأن تلك هي القلة الواعية انتماءها القومي فهي الطليعة المنظمة التي تقود الحركة القومية ، وآجلا أو عاجلا ، سينضم اليها كل اليهود .
اذا كان الأمر كذلك فلماذا لا تقاومون الاضطهاد في مجتمعاتكم ولو بالتحالف مع باقي المضطهدين هناك بدلا من الفرار ؟..
لا فائدة أن الحل الوحيد أن تكون لنا أرض خاصة نقيم عليها مجتمعنا ونعيش فيها حياتنا .
لماذا اذن لم تقبلوا الاقامة في الأرض الخالية التي عرضت عليكم في أوغندا ؟..
لأننا نريد أرض فلسطين .
لماذا فلسطين بالذات ؟ ...
هنا يعود المثقفون العلماء ، المتحضرون ، الماديون ، التقدميون الى الأساطير . اننا نلخص ما قالته نخبة مختارة من هؤلاء جميعا ونشره سارتر في عدد خاص ( 991 صفحة ) من مجلة الأزمنة الحديثة في يونيو سنة 1967 . قالوا ان الثقافة اليهودية التي هي مناط التكوين القومي للأمة اليهودية قائمة على عدة أساطير دينية وميتافيزيقية . هذا صحيح . ولسنا نحتج بصحتها العلمية . انما نحتج بالآثار الاجتماعية التي أحدثتها تلك الأساطير في الجماهير اليهودية وصاغت بها تكوينها الاجتماعي . فمثلا تلقى اليهود من الله وعدا بأن تكون لهم أرض فلسطين . هكذا جاء في التوراة " لنسلك أعلى هذه الأرض من نهر مصر الى النهر الكبير نهر الفرات " ( سفر التكوين ، اصحاح 15 ، آية 18 ) . ومنذ ذلك الحين انقضت عشرات القرون . لا ننكر أننا خلالها لم نكن نعيش على أرض فلسطين ، وأن شعبا عربيا هو الذي كان يعيش عليها ، ولكن هذا لا يغير من الواقع شيئا . والواقع أنه طوال تلك القرون يعيش اليهود في الشتات على امل العودة الى أرض " الميعاد " كأثر من آثار ايمانهم الديني بأن تلك هي الأرض التي وعدهم الله بها . وبصرف النظر عن الجانب اللاهوتي فان الأثر الاجتماعي كان وما يزال قائما يصوغ حياة اليهود نفسيا واجتماعيا ويرددونه في اجتماعاتهم وفي صلواتهم ، ويذكرون به في كتبهم ، ويقوم محورا في ثقافتهم القومية : ان أرضا تمتد من الفرات الى النيل هي أرضهم . هذا هو الذي أبقاهم أمة لم يذوبوا في الامم الأخرى بالرغم من توالي الأجيال وهم في الشتات . وهذا هو الجانب المهم من الأسطورة ، لأننا قد نكذب الأسطورة ولكننا لا نستطيع أن ننكر أو نتجاهل أثرها الاجتماعي . وقد أخذ علينا الناس ما قاله بعضنا من أن فلسطين أرض بلا شعب فلا بد من أن تعطى لشعب بلا أرض . ولو فهمونا لما أخذوا علينا ما نقول . فالعبرة عندنا ليست بالصلة المادية التي تتمثل في اقامة شعب " غريب " في أرضنا ولكن العبرة بالصلة الروحية بيننا وبين الأرض . ومهما تكن الأرض عامرة بمن يقيم فيها فانها خالية بالنسبة الينا الى أن نعود اليها نحن أصحابها . ان تلك الصلة لم تنقطع أبدا فلم ينسى أي يهودي أرض فلسطين والعودة اليها . ولا يقال لنا أن ذلك ايجابا ذاتيا من ناحيتنا فان القبول الذي يتم به الصلة قد جاء من الأرض ذاتها . فلو راجعنا التاريخ لتبين لنا على وجه لا يمكن انكاره حتى لو لم يستطع العلم اثباته أن أرض فلسطين لم تمنح كل عطاءها الا لنا نحن اليهود الموعودين بها . وهكذا لن تستطيع الأمة اليهودية أن تسهم بكل ما هي قادرة عليه في التقدم الحضاري الا على ارض فلسطين ، ولا تغني عنها ارض أخرى . كما أن أرض فلسطين لن تقدم كل ما تنطوي عليه من عطاء الا للشعب اليهودي ، ولا يغني عنه شعب آخر . انما تثور المشكلة لأن الدول العربية لا تريد أن تقبل المهاجرين من أرضنا في أراضيها الواسعة التي هي في أشد حاجة الى مزيد من البشر . وبدلا من هذا تبقي عليهم في المخيمات ، وتستعملهم " كورقة سياسية " في مناوأة دولتنا لأنها لا تريد أن تعترف بوجودنا في حدود آمنة وفي ظل علاقة جوار نتبادل خلالها الخبرات لنحقق التقدم الاجتماعي في " منطقتنا " .
وما هي حدود دولتكم طبقا لدستورها ؟
صمت مطبق . لأن اسرائيل " الدولة العلمانية المتحضرة " .. تستغني بالتوراة عن الدستور . وهي دولة مسالمة فلا تريد أن ترسم لذاتها حدودا اكتفاء بما نقلته على جدار الكنيست من اساطير التوراة " من الفرات الى النيل ". أما عن مهمة خدمة المصالح الاستعمارية والتحالف مع الامبريالية ، فان الصهيونية تتحالف مع من يحالفها مرحليا ولكنها لا تخدم الا غاياتها ولولا عناد الدول العربية ورفضها الاعتراف باسرائيل وتهديدها بالقاء اليهود في البحر لما استمر تحالف اسرائيل مع الامبريالية . فما على العرب الا أن يعترفوا باسرائيل ويقبلوا التعامل معها حتى تستطيع " القوى التقدمية " فيها أن تحرر اسرائيل من ذلك الحلف لتتحالف مع القوى التقدمية العربية في سبيل مستقبل أكثر تقدمية للجميع .
هذه الخلاصة الأخيرة منقولة مما كتبه الذين يدعون الاشتراكية هناك .
هذا ما يقوله الصهاينة " العلمانيون " بعد عشرين عاما من قيام اسرائيل على الأرض العربية . أما ما يقوله الصهاينة المتدينون فهو أقل علما بكثير . ومع هذا فهم لا يختلفون جميعا فيما يهمنا .. وما يهمنا هنا هو أن نعرف نوايا الصهاينة بالنسبة ، الى أرضنا العربية ، فكلاهما يرى :
أولا : ان اليهود في جميع أنحاء العالم أمة ، وأن الصهيونية قومية ، وأن الحركة الصهيونية حركة قومية غايتها استرداد أرضها الخاصة من الشعب العربي ، ويكون علينا أن نستنتج أنهم يريدون الأرض خالية من البشر لأنها لازمة لاقامة الشعب اليهودي . وهذا مارسوه فيما اغتصبوه من ارض حتى الآن . وهم يريدونها لاستقبال الشعب اليهودي كله الذي يبلغ 12 مليونا . وهذا ما أرسوا قاعدة ممارسته بقانون "العودة " الشهير الذي يمنح كل يهودي الجنسية الاسرائيلية بمجرد الاقامة في اسرائيل . وبالتالي فهم يريدون أرضنا خالية من البشر تتسع لسكنى الشعب اليهودي كله فهي لابد أن تمتد الى أضعاف أضعاف أرض فلسطين . وهذا يمارسونه بقدر ما يستطيعون . ولما كانت الأرض التي يريدونها ليست محددة بقدرتها على استيعاب الصهاينة الذين يهاجرون الى اسرائيل ولكن محددة على أساس أنها " الوطن القومي " للأمة اليهودية فان حدودها لا بد من أن تكون مطابقة " للحدود التاريخية " لأرض اسرائيل . وهذا ما سيمارسونه مرحلة مرحلة ولن يتوقفوا دونه قط طالما كانوا قادرين . نريد أن نقول أنه طبقا لذات " النظرية " الصهيونية التي يلتقي عليها الصهاينة ويلتزمون بها في الممارسة ويحتكمون اليها عند الاختلاف ويثيرون تحت لوائها مشكلة فلسطين ، فان مشكلة فلسطين ، كما ينبغي أن نفهمها حتى من نوايا أعدائنا ، هي مشكلة أرض عربية يريدونها خالية من الفرات الى النيل .
ثانيا : ان الطرف الاصيل الذي نصارعه ليس هو اسرائيل الدولة ، بل هو الصهيونية المنظمة . وليست اسرائيل الا الآداة الرسمية المنفذة لارادة المنظمة الصهيونية . وبالتالي لا ينبغي أن نعول كثيرا على القرارات والمواقف التي تأخذها اسرائيل والتي قد تضطر اليها تحت تأثير المجتمع الدولي . ان تلك القرارات قد تلزم دولة اسرائيل التي كانت قائمة يوم أن قررتها ، ولكنها لا تلزم المنظمة الصهيونية التي لن تكف عن محاولة اقامة اسرائيل أخرى . اسرائيل الكبرى .
ثالثا : ان الحركة الصهيونية ذات منطلقات خاصة وغايات خاصة وأساليب خاصة . ولكنها بحكم تخلفها القبلي تفضل القوة وتمجد العنف فهي عدوانية من حيث هي عنصرية . ومع هذا فمما يدخل في نطاق اساليبها أن تتحالف مع القوى التي تتفق معها في الغايات ولو مرحليا . وهي القوى العنصرية . أو الاقليمية . أو الاستعمارية ، طبقا لما يخدم غايات الصهيونية . ولكنها تظل مستقلة بمنطلقاتها وغاياتها عن تلك القوى مستعدة دائما الى الاحتكام للسلاح . فاذا كانت قد تحالفت مع القوى الاستعمارية المتفوقة ، مع ألمانيا أولا ، ثم مع بريطانيا ، ثم مع الولايات المتحدة الأمريكية ، فلأن ألمانيا كانت ذات مطامع استعمارية في الشرق العربي ، لم يمنعها الا الاستعمار البريطاني الذي حلت محله ـ بالاتفاق ـ الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب الأوروبية الثانية . ان العداء للأمة العربية وتحررها ووحدتها وتقدمها ، هو الذي يجمع بين الصهيونية وحلفائها في حلف تلتقي فيه المصالح ويتم من خلاله تبادل الخدمات ولكن يبقى لكل حليف قدر من استقلاله . فلا الصهيونية اداة للاستعمار الامريكي ، ولا الاستعمار الامريكي أداة للصهيونية . انهما عدوان متحالفان ضد عوهما المشترك : الأمة العربية . وهذا الحلف يتسع لكل قوى أخرى بقدر ما تشترك معه في غايته حتى لو كانت قوى عربية لها منطلقاتها الخاصة ولها غاياتها الخاصة ، ولكن تلتقي مع الصهيونية ـ مرحليا ـ في موقفها المعادي لحرية الامة العربية ووحدتها القومية وتقدمها الاجتماعي .
فهل يرى الذين يشوهون مشكلة فلسطين الى أي منزلق ينزلقون ؟

(5)

43 ـ الحل القومي :

استرداد الأرض العربية للشعب العربي . كل الأرض العربية لكل الشعب العربي . أما كيف فهذا سؤال يتصل بالاسلوب وسنعرف الاجابة عليه فيما بعد . المهم هنا أن ندرك باكبر قدر من اليقين بان حل مشكلة فلسطين هو استرداد الارض المغتصبة من قبضة الصهيونية التي تسميها اسرائيل ” واعادتها الى الشعب العربي . لو بقيت دولة للصهيونية ولو في ” تل ابيب ” وحدها فإن المعركة لن تكون قد انتهت لأن منظمة القوى المعاد ية ما تزال هناك في اوربا والولايات المتحدة واطراف كثيرة من الارض . ومن تل ابيب ستعود فتنقض . هذا بالاضافة الى أن كل ذرة تراب من الارض العربية هي ملك للشعب العربي لا بد من ان تسترد . وعندما تسترد الارض ، كل الارض ، ستحل مشكلتنا ومشكلة اليهود معا . نسترد نحن أرضنا ونضعهم هم أمام الحل الصحيح لمشكلتهم . ولا شك انهم عندما يعرفون بالرغم من كل شيء أن الصهيونية حركة فاشلة سيعيشون في مجتمعاتهم ويندمجون فيها ويتطورون . وهكذا يكون استرداد الارض العربية هو الحل التقدمي الصحيح لمشكلة فلسطين المغتصبة ومشكلة اليهود الهاربين من مجتمعاتهم .
أليس هذا تبسيطا للامور؟
ان في اسرائيل جيل سابق على قيام الدولة لم يعرف له وطنا الا فلسطين . وفي اسرائيل جيل ولد بعد قيام الدولة لا يعرف له مجتمعا الا اسرائيل . فما الذي سيكون من أمر هؤلاء فيما لو استردت الارض المغتصبة ؟… كثيرون يشغلون انفسهم بالاجابة على هذا السؤال كما لو كان سؤالا جادا . وينفعلون في الحديث ويسودون الكتب ويقترحون ” فلسطين الديمقراطية ” كما لو كانت الصهيونية قد انهزمت ودولتها قد زالت ، وعاد  الاباء الى اوطانهم وبقيت مشكلة الجيل الجديد من ابنائهم ؟.. ومع ذلك فعلينا ان نجيب . فلعل للسؤال  وجها جادا نراه من الموقف القومي ولا يراه السائلون . بمجرد أن نكون قوميين نتطهر تماما ، فكريا وحركيا ، من خطيئة التمييز العنصري ونسترد كامل انسانيتنا ، ويعودإلينا الوضوح في رؤية المشكلات ، أية مشكلات ، وحلولها الصحيحة. عندئذ سننسى ” حتما ” كلمة يهودي ونتحرر نحن أولا من رد فعل عنصري تحاول أن توقعنا في شباكه المضللة الحركة الصهيونية فتجرنا من حيث لا ندري الى منطلقاتها ومواقفها . لو فعلنا لرأينا ، الحل القومي واضحا صريحا . فالقومية لا تقبل الاستقلال الاقليمي لفلسطين عن الامة العربية . وفلسطين الاقليمية فاشلة من الان في حل مشكلة الاقامة فيها . فهي ” دويلة ” يواجه فيها مليونان من المجنى عليهم مليونين من الجناة حول جسم الجريمة : الدار المهجورة وقد سكنت والارض المغتصبة وقد زرعت ، والاموال المنهوبة وقد اصبحت اموال الاخرين . ثم يقال لهم لا تذكروا ما كان وعيشوا “ ديمقراطيين ” كأن الديمقراطية تعويذة سحرية تطهر النفوس بأمر من القائلين . القومية لا تقبل الا دولة الوحدة  ودولة الوحدة أكثر رحابة من فلسطين . وفي دولة الوحدة مكان  لكل الذين يريدون أن يعيشوا آمنين . وسيكون من شأن دولة الوحدة أن تعترف بالمواطنة أو بالاقامة لمن يريد أن يقيم في رحابها ممن لا ينتمون اليها أصلا كما تفعل كل الدول بدون أن يكون في هذا مساس بسيادتها. هذا من ناحية . ومن ناحية أخرى فان للأمة العربية أبناء من اليهود في فلسطين وفي كثير من الارض . اولئك العرب اليهود . انهم لسبب أو لاخر . يحملون الهوية الاسرائيلية أو هويات أخرى اجنبية . وهم لسبب أو لآخر قد انتقلوا الى فلسطين أو غادروا الوطن العربي الى اماكن أخرى وبعضهم مجندون في المنظمة الصهيونية أو في  قوات اسرائيل المسلحة . كل هؤلاء عرب بصرف النظر عن معتقداتهم الدينية . وأسلاف كل هؤلاء عاشوا عربا واسهموا بما استطاعوا في تطوير أمتهم العربية . ولكل هؤلاء حق قومي في أن يقيموا في رحاب أمتهم وعلى وطنهم العربي ” المشترك ” في فلسطين أو في غير فلسطين . ولكل هؤلاء حق في أن تكون دولة الوحدة دولتهم القومية التي تحميهم ضد التعصب وتوفر لهم الأمن واسباب التقدم الاجتماعي . وكل هؤلاء مطالبون بأن يعبروا عن ولائهم لأمتهم وان يرتفعوا بوعيهم إلى مستوى المسؤولية القومية وأن يعرفوا أن أرض فلسطين هي جزء من وطنهم العربي الكبير وأن لهم حق الإقامة فيها سواء كانوا فيها من قبل أو كانوا وافدين إليها من أقطار عربية أخرى وأن من حقهم أن يعودوا إليها أو إلى أي مكان في الوطن العربي ان كانوا قد غادروا أرضهم العربية . بل انهم في القومية سواء مع اخوتهم العرب الذين اكرهوا على مغادرة فلسطين لا فضل لأحد منهم علىالآخر إلا بقدر ما يجسد فكراً ومسلكاً ولاءه القومي لأمته العربية .  حتى الذين تورطوا منهم فوجدوا أنفسهم في مواقع الخيانة لأمتهم . ويقتلون أخوتهم العرب طاعة لسادتهم الصهاينة ، فإن جزاءهم سيكون معادلاً لما كان لهم من حرية الاختيار وعلى ما يكون لهم من موقف يختارونه في الصراع العربي ضد الصهيونية المغتصبة . وقد تغفر لهم أمتهم كل ما تقدم لو حرروا أنفسهم من سيطرة الغاصبين الاجانب لجزء من وطنهم العربي فاسهموا في استرداده وتحريره . ولكنهم في كل الإحوال لن يكرهوا على مغادرة الارض العربية ولن يفتقدوا رعاية دولة الوحدة .
هكذا نرى الحل من الموقف القومي . من موقف تتسق صلابته وانسانيته مع انتمائنا إلى أمة عريقة ذات قيم حضارية لا يمكن أن يتدنى أبناؤها إلى القيم القبلية التي تجسدها الصهيونية . اننا أمة وهم مجتمع قبلي فلا ينبغي لنا أن نفهم المشكلات كما يفهمون أو أن نحلها كما يريدون أو أن تكون مواقفنا ردود أفعال لمواقفهم . اننا ، باسم القومية العربية ، نصر على معاملة اليهود العرب معاملة عادلة وطنهم العربي وما على الامم الاخرى الا أن توفي بمسؤولياتها فتحمي ابناءها اليهود من التعصب ضد السامية .
ان نظريتنا القومية ، اذن ، تحملنا مسؤولية تحرير العرب اليهود من القهر العنصري المفروض عليهم في أرض فلسطين . ومسؤولية عودة اليهود العرب الذين غادروا وطنهم العربي وتعويضهم عن أي عسف لم يحترم انتماءهم القومي للامة العربية .
أما الذين خانوا اوطانهم  فهجروها وجاءوا غزاة للوطن العربي فلا مكان لهم في الارض العربية . وعليهم ان يلحقوا بأممهم حيث كانوا. ولسنا مطالبين أن ندفع لهم ثمن الخيانة أو ان نقدم لهم مكافأة على العدوان . لسنا مسؤولين على أي وجه عن ارضاء التعصب الاوربي ضد اليهود أو التعصب الصهيوني ضد البشر جميعا ، بأن نقيم للصهيونية دولة في ارضنا سواء في فلسطين أو حتى في الربع الخراب من الصحراء القاحلة . لا أحد يملك  هذا ولا أحد يستطيعه.
ومشكلة فلسطين هي النموذج لكل مشكلة اغتصاب ارض عربية ، أيا كان المغتصبون .

(6)


44 ـ  مشكلة الاستعمار : 

ويهمس الذين يطيب لهم أن يحولوا كل شيء ذي قيمة الى كلمات فارغة ، ويفصلون بين التحرير والتقدم ، بأن على العرب ان يكونوا أذكياء واقعيين  . أن فلسطين لن تسترد بالخطب الرنانة أو الانفعال العاطفي . أما أكثر وسائل استردادها فشلاً فهو التهديد بازالة اسرائيل . وانما تسترد فلسطين أو يعود العرب المطرودون الى فلسطين بالحركة الذكية في هذا العالم الذي تتناقض فيه المصالح فتتصارع أو تتفق فتتحالف . ولا ينتصر أحد لأحد وانما ينصر كل واحد مصلحته . فان كانت الصهيونية تتحالف مع القوى الرأسمالية وتستمد منها قوتها فلنكن نحن الحلفاء . ونحن أولى بأن نكون . ان لتلك القوى في البلاد العربية مصالح هائلة الان ، وهي تتطلع الى تنمية مصالحها في المستقبل ، ويكاد العرب أن يملكوا شريان الحياة الصناعية هناك ، اذ هنا يملك العرب ” النفط ” (البترول) . ولو كان العرب أذكياء لاستطاعوا أن يضعوا تلك القوى في موقف الاختيار بين مصالحها في الدول العربية وانحيازها الى اسرائيل . ولا يكون ذلك بان نلغي او نخرب او نهدد مصالحها لأننا بذلك ندعم تحالفها مع اسرائيل التي زرعتها فى أرضنا حارساً لتلك المصالح ، فتبقى لها مصلحة في بقاء اسرائيل . ثم اننا ـ واقعياً ـ لا نستطيع أن نناطحها . وعندما لا نستطيع ان نناطح علينا ان نصالح . ان مصالحة نعقدها مع تلك القوى يغلق بها باب الخوف على مصالحها القائمة ويفتح بها باب الامل في مصالحها القادمة ستؤدي الى ان يكون الخيار لصالحنا، فنضرب عصفورين بحجر صائب ، نجرد الصهيونية من المصدر الاساسي لقوتها ، ونضاعف نحن قوتنا . ولو لم نصب الا واحداً منهما لكنا به منتصرين . ولتكن لنا فما يفعل اعداؤنا المنتصرون قدوة ننتصر بها ، اذا كنا نريد حقأ ان نسترد فلسطين . ثم ماذا ؟ … ما الذي سنفعله بأرض فلسطين ما دمنا قد اصبحنا حلفاء القوة الاستعمارية و حراس مصالحها في الوطن العربي ؟.. ولماذا نسترد فلسطين أصلاً اذا كانت الحصيلة النهائية ان يخرج منها الصهاينة ويعود اليها الشعب العربي ، لتئول فلسطين العربية ، أرضأ وبشراً ، الى القوى الاستعمارية ” فائدة ” مضافة الى ما كنا قد دفعناه ثمناً لاستردادها ؟ .
لا .
ان فلسطين مهما تكن عزيزة ليست الا جزءاً من الوطن العربي فلن نستردها مقايضة على جزء آخر منه ولو كان بقدر ما يكفي لبناء قاعدة جوية . والصهيونية مهما تكن معتدية ليست الا احدى القوى المضادة لتحرر الشعب العربي فلن نشتري هزيمتها بحريته . ومشكلة فلسطين مهما تكن حادة وملتهبة ليست الا واحدة من مشكلات تحرر الامة العربية فلن نحلها على حساب تقدمها ، ذلك لأننا لا نسترد ارض فلسطين رغبة في المزيد من الارض بل لأنها ارضنا ويقوم اغتصابها قيداً على مقدرة شعبنا العربي على التقدم الاجتماعي . ولسنا مع الصهاينة في حلبة ملاكمة فنحن نريد ان نهزمها ليصفق العالم اعجابا بقوة عضلاتنا . بل نحن نخوض ضدها صراع الحياة او الموت ، ونتحدى الموت لنهزمها حتى نستطيع ان نصنع الحياة . وما الحرية التي نريد أن نسترد فلسطين من اجلها ونتحدى الموت في سبيلها الا ” المقدرة على التطور الاجتماعي ” ( فقرة 39 ) . ونحن لا نتقدم نحو الحرية  اصبعاً واحداً لو انتزعنا فلسطين من قبضة الصهاينة لنقع نحن في قبضة المستعمرين .
من قال ان حلفاء الصهيونية مستعمرون ؟ .. ان لهم في ” المنطقة العربية ” مصالح ، وهو امر عادي يجري فيما بين الدول مجرى التعاون في هذا القرن العشرين حيث لا يستطيع مجتمع ان يعيش في عزلة عن المجتمعات الاخرى فيرفض التعامل وتبادل المصالح معها . ألم نر كيف ان حلفاءنا انفسهم  يتعاونون ويتبادلون المصالح مع تلك القوى ذاتها في مجالات عدة . فلماذا نسمى كل من له مصلحة في “منطقتنا ” استعمارياً ونثير ضده حملة تشهير عمياء او نزج بانفسنا معه في معارك حمقاء ، فلا نفعل الا ان ننعزل فننهزم ؟ ..
فلنعرف ، اذن ، ما هو الاستعمار وما هي المشكلات التي يثيرها في امتنا العربية . وما هو حلها . نعرفه ـ كما ينبغي أن نفعل دائماً ـ على هدى نظريتنا نحن لا على هدى ما يصوغه المستعمرون من افكار ونظريات تخدم غاياتهم ولو لم يروجوها بانفسهم ، من أول نظرية ” مسئولية الرجل الابيض عن نشر المدنية ، الى آخر نظرية ” مسئولية الدول الكبرى عن حفظ السلام  .
ان كل شيء يبدو لنا ، من موقفنا القومي ، واضحاً وبسيطاً .
فنحن امة ذات وجود اجتماعي خاص محدد تاريخياً من بشر معينين وارض معينة ، هما معاً مصدر امكانيات تطور امتنا . لا اكثر ولا اقل . وحتم علينا ان نتطور . ونحن لا نتطور الا بقدر ما نحل مشكلات الناس في امتنا . وللناس في امتنا مشكلات ذات مضامين مادية وثقافية متجددة ابداً . عن طريق اشباع تلك الحاجات تحل المشكلات وتتطور امتنا . وهي تشبع عندما نوفر لها ـ بالانتاج ـ مضامينها العينية . وفي سبيل انتاجها لا تملك ان نستفيد ألا بما هو متاح في امتنا من امكانيات بشرية ومادية . لا اكثر ولا اقل .
ونحن جزء من العالم الذي نعيش فيه ، يؤثر فينا ويتأثر بنا ” حتماً ” سواء أردنا هذا أم لم نرده ، ولنا فيه غايات مشتركة مع غيرنا في كل ما يسهم في التقدم الاجتماعي للبشر جميعاً ، ان وجودنا الخاص يعني انه وجود ” مستقل ” بذاته عن غيره من المجتمعات الأخرى . مستقل الوجود ومستقل المصير . ولكنه ليس مستقلاً ، لا وجوداً ولا مصيراً ، عن المجتمع الانساني الذي يشمله مع غيره من المجتمعات . فاستقلاله ـ اذن ـ لا يعني عزلته عن المجتمعات الاخرى أو عدم التعامل وتبادل المصالح معها ومن باب أولى لا يعني ” مناطحتها ” سواء كانت فوق مستوى صلابة عظامنا أو كانت مثلنا أو أقل منا صلابة .. إن القومية التي تعلمنا احترام الوجود الخاص لكل مجتمع ترفض مثل هذا الشغب الصبياني . بل أن أمتنا النامية التي تحاول أن تتقدم اجتماعياً من موقع متخلف عن كثير من المجتمعات ، وكثيراً عن بعضها، لفي أشد الحاجة ـ من ناحية ـ إلى أن تستفيد من الخبرة العلمية المتاحة في المجتمعات التي سبقتنا ، وإلى ما هو متوافر لديها من أدوات الإنتاج متقنة الصنع التي كاذت أدوات سبقها وثمرته معاً . وفي في أشد حاجة ـ من ناحية أخرى ـ إلى أن تدخر كل قواها البشرية والمادية لحل مشكلات التنمية فيها . وأفضل وسيلة للحصول عليهما أو على أي منهما هو التعاون وتبادل المصالح مع المجتمعات الأخرى في إطار من السلام والأمن والصداقة .
ولما كان كل هذا يتفق مع حتمية قوانين التطور التي تصح بالنسبة إلى كل المجتمعات ، فإنه كله يصدق بالنسبة إلى المجتمعات كلها . بمعنى أن قوانين التطور الاجتماعي تبلغ أقصى فعاليتها التقدمية ـ على المستوى الانساني ـ عندما يتطور كل مجتمع بكل ما هو متاح فيه من امكانيات بشرية ومادية لا أكثر ولا أقل . وعن طريق تبادل الفائض منها في كل مجتمع تتكامل الجهود الانسانية وتطرد حركة التقدم البشري . ولكن التبادل غير الاستيلاء . الأول إضافة بمقابل والثاني إضافة بدون مقابل . هذا الاستيلاء ، أيأ كان مبرره أو اسلوبه أو غايته ، لا بد من أن يكون ” سلباً ” لمقدرة المجتمع الذي فقد به مـا يملك على التطور الاجتماعي . فهو عائق دون تطوره . لا تتوقف آثاره المخربة على تخلف المجتمع المسلوب بل تتجاوزه إلى استيفاء قدر آخر من طاقته في سبيل التحرر من ذاك العائق . فقد عرفنا ” أنه عندما تحول أية قوة ، لأي سبب ، دون التطور الاجتماعي يصبح الصراع الاجتماعي حتمياً . وتكون غايته تصفية القوة المضادة للتطور ليستأنف التطور الاجتماعي مسيرته بدون صراع    ( فقرة 18 )  .
إن الاستعمار هو عملية السلب هذه .
إنه سلب امكانيات التطور الاجتماعي في مجتمع معين . وهو علاقة ذات طرفين أحدهما السالب والاخر المسلوب ، ولكن طبيعته المعوقة للتقدم الاجتماعي في المجتمعات المسلوبة امكانياتها لا تتغير تبعاً للاسلوب الذي يصل به المستعمرون الى الاستيلاء على امكانيات التقدم الاجتماعي في المجتمع الضحية. وإن هذا لمهم . مهم أن نكتشف طبيعة الاستعمار في مضمونه حتى لاننخدع في اسلوبه . فقد تغيرت أساليب المستعمرين فتحولت من البطش الى الاقناع ، ومن السيطرة بالقهر الظاهر الى السيطرة بالتحكم الخفي .
ففي البدء كان المستعمرون يتجولون في انحاء الارض ويكتشفون اطرافها بحثاً عما يحتاجون اليه من مواد خام أو بضائع ليستولون عليها بالخديعة او عنوة تبعاً لمواقف اصحابها . و تعود اساطيلهم محملة بما يريدون . ثم اقاموا في اماكن متفرقة من الأرض مراكز ثابتة لهم لتجمع ما تريد الى ان تأتي السفن فتحمله الى بلادهم . واصبح تأمين سلامة النقل ذهابأ وإيابأ هدفاً جديداً للمستعمرين حتى تتصل حركة الاستيلاء مما وراء البحار . فأقاموا لأنفسهم مراكز جديدة على طول الطرق المؤدية براً وبحراً الى مصادر ما يسلبون . وقد ذهب اغلب الوطن العربي ضحية رغبة المستعمرين في تأمين طريقهم إلى الهند . رويداً رويداً  تحول الاستعمار من مراكزمسلحة للاستيلاء على ثروات الشعوب ومخافر مسلحة لحراسة السفن الى الاستيلاء على المجتمعات باكملها ، أرضاً وبشراً ، ويحكمونها بقواتهم المسلحة . عندئذ استوفى الاستعمار كامل مضمونه : التبعية. وهي الكلمة التي تترجم بدقة مقابلاتها في لغات المستعمرين التي لا نعرف أي غبي ترجمها الى الكلمة العربية الدارجة : ” استعمار ” مع انه تخريب . على أي حال فهنا لا يكون الاستعمار استيلاء ، بالخديعة أو بالقوة ، على بعض ما هو متاح من مواد في المستعمرات ، بل هو وضع مجتمعات باكملها في خدمة القوى المسيطرة . هنا تصبح الامكانيات البشرية والمادية المتاحة في المستعمرات مسخرة لخدمة الانتاج في الدول المسيطرة . لا تنقل إليها . ولكن توظف في مكانها أو تنقل تبعاً لمقتضيات الانتاج في الدول المسيطرة . وحتى عندما توظف في مكانها ، تتحدد وظيفتها تبعاً لما تحتاجه عملية الانتاج في الدول المسيطرة . و كما تصبح الأرض مصدراً للمواد الخام يصبح البشر مجرد مستهلكين لما يصنع سادتهم . باختصار تصبح المستعمرات بكل ما فيها ، ومن فيها ، امكانيات متاحة، لا لتطورها هي ، ولكن لتطور الدول المسيطرة . فيؤدي هذا ـ من ناحية ـ الى حبس التطور الاجتماعي في المستعمرات عند الطور الذي فقد فيه امكانياتها لا تتجاوزه إلا قليلاً . وبعد قرون سيغادر المستعمرون تلك المجتمعات فاذا هي في مرحلة التطور التي كانت عليها يوم أن دخلوها لم تتغير كثيراً . ولكنه يؤدي ـ من ناحية اخرى ـ وبحكم تحديه لحتمية قوانين التطور الاجتماعي الى مقاومة المستعمرين ، فلا يقوم الاستعمار إلا بالقهر وبالقهرب يستمر إلى أن يسقط ولو بعد قرون . وللقهر تكلفة متزايدة تبعاً لنمو حركة التحرر . فتنتهي ـ منذ وقت قريب ـ مرحلة الاستعمار الظاهـر ليظل الاستعمار الخفي ، أو الجديد كما يسمونه ، قائماً حتى الآن في أكثر من مكان من الأرض .
والخفي خفي فلا بد من جهد منتبه لاكتشافه . لقد اختفت من المستعمرات الجيوش المسلحة . ورفعت اعلام الاستقلال في أكثر انحاء الأرض . واتسعت هيئة الأمم المتحدة لمقاعد كثير من الدول التي كانت منذ وقت قريب مستعمرات . فهل زالت دولة المستعمرين وأصبح الحديث عن الاستعمار تشهيراً اعمى والنضال ضد المستعمرين معارك حمقاء ؟ ما الذي تفعله إذن الجيوش التي انسحبت من المستعمرات لتبقى في ثكناتها ، في بلادها، تنفق  آلاف الملايين لتزويدها باكثر الاسلحة فتكاً ؟ ماهي ” المصالح ” التي تجهز تلك الجيوش ، وتبقى جاهزة ، لحراستها ، واين تقع ؟ .. لماذا تقطع تلك الدول قدراً كبيراً و متزايداً من دخلها القومي لبناء ترسانات الارهاب المسلحة ؟.. لماذا لا يكفون عن التدخل في شئون الناس لو  كانوا حقأ مشغولين بتطوير واقعهم الاجتماعي بقدر ماهـو متاح في مجتمعاتهم من امكانيات بثسرية ومادية لا أكثر ولا أقل ؟..  الحق أن جيوش المستعمرين قد انسحبت الى ثكناتها في بلادها لأنها ـ فنياً ـ قد أصبحت  قادرة على أن تعود إلى أي مكان في الأرض في الوقت الذي تريد . ولتفسح المجال لأسلوب جديد يحافظ به المستعمرون اليوم على الاستعمار، والاستعمار تبعية . وهي كما تتحقق بالاكراه المادي فتفرضها القوة الباطشة ، تتحقق بالاكراه الاقتصادي الذي يجذب ضحيته من امعائها الى الموقع الذي يراد لها بدون بطش ظاهر .
فلقد جلت الجيوش عن كثير من المستعمرات . ورفعت عليها رايات الاستقلال . وتولى ابناؤها الحكم فيهاوأصبحوا بذلك مسئولين عن حل مشكلات التنمية في مجتمع مسلوب منذ قرون . فهم لا يملكون من أسباب التقدم الاجتماعي إلا القليل من العلم و المال والادوات والمهارة وان كانوا يملكون الارض والبشر والرغبة في التطور . هنا يتقدم المستعمرون فيقدمون العلم والمال والادوات والخبرة ثم مطلبأ بسيطأ . أن يقبل ” المتحررون ” نصائحهم في كيفية تطوير مجتمعاتهم المتخلفة . على أن يكون لهم ، وحدهم، حق اختيار الطريقة المناسبة لتحويل تلك النصائح الى قرارات نافذة ، بحكم انهم ” متحررون ” وبحكم انه لا يجوز التدخل في شئون البلاد المستقلة . كيف يختار المستعمرون تلك ” النصائح ” التي يقدمون من أجل نفاذها العلم والمال والادوات والخبرة ؟… هنا الجوهر من المسألة كلها . انهم يختارونها تبعاً لما يتفق مع مصالحهم . ولا يمكن ان في يختاروها الا على هذا الاساس ، وعندما تنفذ لن تكون إلا في خدمة تلك المصالح . وهكذا تظل التبعية قائمة ولكن مغلفة بأكثر الاغلفة تضليلاً : اعلام الاستقلال السياسي . وفي ظلها يجد أكثر الناس حديثاً عن الحرية انهم غير قادرين على أن يتقدموا إلا بقدر ما يريد المستعمرين وفي الاتجاه الذي يريدونه ، أو لا يتقدموا على الإطلاق . فان تمردوا ظهر ما خفي وعرف من لم يكن يعرف لماذا يحتفظ المستعمرون بقواتهم المسلحة ويزيدونها تسليحاً .
انهم يقدمون العلم بمقابل أو بدون مقابل . ويقدمون المال في مقابل فائدة ويقدمون الادوات في مقابل ثمنويقدمون الخبرة في مقابل اجر . ويقدمون ” النصاثح ” بما فيه مصلحتنا. فهل هي مبادلة أم استيلاء ؟.. هذا سؤال كان يمكن أن يطرح في مراحل الاستعمار الأولى ، إنما الذي يطرح اليوم هو : هل هو تعاون أم تبعية ؟.. ان العلم بمقابل أو بغير مقابل يكون تبعية عندما نفقد المقدرة على اختيار من نتعلم منه . والمال بفائدة أو بغير فائدة يكرن تبعية عندما نفقد المقدرة على اختيار  من نقترض منه . والادوات بثمن أو بغير ثمن تكون تبعية عندما نفقد المقدرة على اختيار من نشتري منه . والخبرة بأجر أو بدون أجر تكون تبعية عندما نفقد المقدرة على اختيار من نستعين به . و” النصائح ” مفيدة أو غير مفيدة تكون تبعية عندما نفقد المقدرة على أن نقول : لا. لأننا عندما نفقد المقدره على الاختيار نفقد الحرية . وعندما نفقد الحرية نكون تابعين . يكون المستعمرون قد استولوا على مجتمعنا كله عندما استولوا على ارادتنا ، عندما سلبونا المقدرة على أن نقول تلك الكلمة التي تفرق بين الحر والعبد : ” لا ” . وليس من اللازم أن نفقد الحرية عنوة . هذا اسلوب قديم . بل نفقدها عندما”  نقتنع ” بأنا لا نستطيع أن نتقدم ـ في عصر الدول العظمى إلا إذا كنا تابعين . ونفقدها عندما نقبل التبعية غروراً منا بأنا كما دخلنا  شباكها مريدين نستطيع أن نفلت منها في أي وقت نريد . ونفقدها عندما لا نفطن الى علامات زائفة وضعت لنا خفية على طرق موهومة الى التقدم الاجتماعي فنندفع عليها الى أن نجد أنفسنا في الكمين . ونفقدها عندما يحملنا الطموح المثالي على أن نحقق في زماننا ما يتجاوز امكانياتنا الخاصة ” فنرهن ” المستقبل وفاء لما يزيد حتى اذا ماجاء المستقبل وجدنا أنفسنا تابعين . ونفقدها حتماً اذا توهمنا ان الاستعمار قد انقضى يوم ان غادرت جيوشه المستعمرات ورفعت في اماكنها اعلام الاستقلال . ان هذا الوهم المخدر كفيل بأن يذهب بنا الى مواقع التبعية بدون أن نعرف كيف اصبحنا تابعين ، أو حتى بدون ان نفطن الى اننا قد اصبحنا تابعين . فلا نعرف ما فقدنا الا يوم ان نحاول قول : لا، فنكتشف اننا غير قادرين . وهكذا لم يعد لازماً أن يضعنا المستعمرون في شباك التبعية بل قد نذهب نحن ” بحسن نية ” الى داخل الشباك المنصوبة فنفقد الحرية .
نحن نتحدث عن الاستعمار بدون أن نقول من هم المستعمرون .
ان هذا مقصود .
ذلك لأن الاستعمار تبعية . والتبعية حالة في المجتمع الضحية بصرف النظر عن المتبوعين . الاستعمار قيد يعوق تقدمنا الاجتماعي وما يهمنا أولاً هو القيد ثم يأتي بعد هذا من الذي وضعه وكيف يزول . اننا ببساطة لا نريد ، وما ينبغي لنا ، أن نغفل عن القيود  التي تعوق حركة تطورنا لنبحث عن صانعي القيود ، فان بحثنا عن بعض المستعمرين قد يكون حركة تابعة لبعض آخر من المستعمرين . أي قد تصل بنا التبعية الى ان ندخل مع سادتنا معركة ضد منافسيهم من سيادة البشر . اننا ، ببساطة ايضاً، لا نريد، وما ينبغي لنا ، ان نقيم من أنفسنا أوصياء على البشرية فنفتش في انحاء الأرض ونحاكم الناس فنحكم عليهم بأنهم مستعمرون أو غير مستعمرين . ان لكل مجتمع أن يسلك الى مستقبله الطريق الذي يراه . ولا نريد من أحد إلا أن يدعنا نسلك الطريق الذي نريد. وكل متبوع مستعمر وكل تابع ضحية للاستعمار بصرف النظر عن النوايا والاساليب . ان هذا هو التطبيق الفعلي لما علمتنا القومية من احترام الوجود الخاص لكل المجتمعات . ثم ان العلامات التي كانت تميز الاستعمار في مرحلته الظاهرة قد اختفت . واختلطت علاقات التبعية بعلاقات التعاون في مرحلة من التاريخ تشابكت فيها المصالح المتفقة والمصالح المتناقضة  وسقطت العزلة أو كادت ، وهكذا اصبح اكتشاف الاستعمار عن طريق معرفة ما ينتقص من الحرية في كل مجتمع اسهل من اكتشافه عن طريق معرفة ما يضمره الناس في كل مجتمع من نوايا السيطرة ـ أليست جثة القتيل كافية بذاتها لاثبات وقوع الجريمة ولو كان القاتل مجهولاً . هو كذلك . اذن فإن معرفة الجريمة أولى وأسبق من معرفة المجرمين . والتعرف على افخاخ التبعية أولى وأسبق من التعرف على من وضعها على طريق التابعين . وانا لنضرب هنا مثلاً ، اكثر اساليب السيطرة على المجتمعات خفية وأثراً : الاستيلاء الفكري على عقول الناس . عندما تستطيع أية قوة في الأرض ان تصوغ افكار الناس في أي مجتمع على الوجه الذي يتفق مع مصالحها الخاصة فقد كسبت كل شيء . لأن ” الناس هم أداة التطور الاجتماعي “، وعندما يكون الناس قد اصبحوا ادواتها فإنهم ، بكل وعيهم ” التابع “، سيستخدمون كل امكانيات التطور المتاحة في مجتمعاتهم على الوجه الذي تريده القوى المتبوعة حتى بدون ان يذكر اسمها . انه ” الاستعمار الثقافي ” الذي يتم خفية بأكثر الاساليب علانية : الكتب والصحف والاذاعات والمحاضرات … تحت ستار أشرف الغايات وأكثرها دفعاً للتقدم الاجتماعي : تبادل المعرفة 
دقيقة إذن تلك الحدود التي تفصل ، في هذا العصر، بين الحرية والتبعية . وليس ثمة من سبيل الى التزامها إلا بالاحتفاظ في كل وقت ، وتحت كل الظروف ، وفى مواجهة كل القوى ، بالمقدرة على أن نقول : لا. أن تظل إرادتنا خارج قيود التبعية . وان ندرب أنفسنا على أن نقول : لا، حق في الحالات التي ندفع فيها ثمناً لمقدرتنا على الرفض بعض ما نملك من إمكانيات التقدم ، أو نحرم فيها إرادتنا التقدم من بعض ما نستطيع أن نحصل عليه مما يملك غيرنا . ان ” لا ” هذه غاية في ذاتها . تحفظ بها ونختبر فيها حريتنا . ونتأكد عن طريقها من أننا ما نزال نتعامل ونتعاون ونتبادل المصالح خارج نطاق التبعية . وما نخسره في سبيلها يعوض ولكننا لو خسرناها فقدنا كل شيء . إذ أن ” الانسان أولاً ” ، ولا حرية ـ أبداً ـ بدون أحرار .
ان كان كل هذا واضحاً واستقر قاعدة لموقفنا ، يصبح واجباً علينا أن نضيف أن الاستعمار نشأ وانتشر وتغيرت أساليبه مع نشأة وانتشار وتغير أساليب النظام الرأسمالي في سيطرته على الشعوب . لا لأن النظام الرأسمالي قائم على أساس الإنتاج من أجل البيع كما يقال ،  إذ أن كل الناس في ظل كل النظم بما فيها النظام الاشتراكي ينتجون ليبيعوا . فمنذ أن ابتكرت النقود انقضى عصر المقايضة وأصبح البيع هو أسلوب التبادل . إنما لأن النظام الرأسمالي قائم على أساس الإنتاج والبيع من أجل الحصول على “ الربح ”. والربح هو الفرق بين سعرالبيع وسعر التكلفة. وفي ظل المنافسة الرأسمالية الحرة يتحدد سعر البيع طبقاً لتوازن العرض والطلب في ” السوق ” . وفي السوق تكون كل السلع ” المثلية  والبديلة ”  ذات سعر واحد  بصرف النظر عن تكلفتها . ومن هنا لم يكن الرأسمالي قادراً على أن يحصل على ما يريد من أرباح عن طريق التحكم في سعر السوق يوم أن كان السوق حراً في مراحل الرأسمالية الأولى . فكان الحال المفتوح لزيادة الربح هو عنصر الإنتاج : العمل والمواد . وفي البدء كان العمل متاحاً ، في أوربا بأكثر مما تحتاج إليه الرأسمالية الناشئة، وجذبت المصانع إليها ملايين الفلاحين الذين تحرروا من سيطرة الاقطاع . بقي البحث عن المواد الخام . وقد بدأ الاستعمار بحثاً عن المواد الخام فيما وراء البحار، متاجرة أولاً ، ثم سلباً بعد حين . ومع تطور الصناعة في أوربا وتزايد الحاجة الى المواد الخام ثم الى مستهلكين لفائض الإنتاج ، من أجل مزيد من الربح ، قامت ” الشركات ” الرأسمالية ، في حماية دولها ، بالاستيلاء على العالم وحولته الى مستعمرات . وفي سبيل هذا تنافس المستعمرون  وقاتل بعضهم بعضاً . وأصبحت المستعمرة مخزناً من المواد و البشر ” تابعاً ” للمشروعات الرأسمالية في أوروبا ، تستخدم إمكانيات التطور الاجتماعي المادية والبشرية المتاحة فيها لخدمة النمو الرأسمالي . وتتولى الجيوش المسلحة المحافظة على تلك التبعية بالقوة . ولما أن أصبحت الشعوب قسمة بين الرأسماليين  بدأ قانون المنافسة الحرة يصفي الحساب فيما بينهم ، وخرج من حلبة المنافسة كل الضعفاء والمهزومين وتحولت الرأسمالية القائمة على أساس المنافسة الحرة الى إحتكارات رأسمالية إحتكارات لمصادر الإنتاج وأدواته وسلعه وسوقه . وقضى قانون المنافسة الحرة على المنافسة الحرة . وعرف الرأسماليون قبل غيرهم كذب الليبرالية ، وإن مصالحهم لن تتحقق تلقائياً خلال تحقيق كل منهم مصلحته ، فتعاونوا للابقاء على النظام الرأسمالي . وهكذا تحولت الرأسمالية التي نشأت فردية الى نظام إحتكاري جماعي يتعاون في ظل الرأسماليون من أجل الإبقاء على الشعوب في حالة تبعية . ولم يزل غير انه، حتم على الانسان ، بحكم قانونه النوعي ، أن يستهدف دائمأ حريته . وحتم على المجتمعات أن تتطور، ومن هنا نشأت وانتشرت وتغيرت أساليب النضال التحرري ضد السيطرة الرأسمالية تبعاً لنشأتها وانتشارها وتغير أساليبها . أما في أوربا فقد كان التحرر يقتضي تجريد الرأسماليين من ملكية  أدوات الانتاج ” التي كانت هناك وسيلة تحقيق الربح عن طريق التحكم في أجر العمل . فكانت الاشتراكية هي أسلوب النضال التحرري من السيطرة الرأسمالية . أما في المستعمرات فقد كان التحرر يقتضي تجريد الرأسماليين من ملكية ” مصادر الانتاج “. التي كانت هناك وسيلة تحقيق الربح عن طريق التحكم في المواد الخام . ولقد اكتشف لينين تلك العلاقة بين النضال من أجل الاشتراكية في أوربا والنضال من أجل التحرر في المستعمرات نعرف أن الذين يناضلون من أجل التحرر من الاستعمار إنما يحررون الرأسمالية في أوربا من بعض مقدرتها على مقاومة الاشتراكيين هناك . فأوصى بالتحالف بين قوى التحرر الوطني ” وقوى الاشتراكية ضد العدو المشترك وأشاد بدور ” البورجوازية ” الوطنية في المستعمرات .
وهنا يعرض لنا سؤالان . أحدهما مطروح والثاني نطرحه .
أما الأول فيقول أن النظام الرأسمالي نظام فردي ولو كان احتكاريا بمعنى أن مصادر الانتاج وأدواته والسلع المنتجة مملوكة ملكية خاصة والدولة فيه ليبرالية لا تتدخل في الانتاج أو التوزيع أو الاستهلاك . وفي المجتمعات الرأسمالية تقوم المؤسسات الخاصة بالنشاط الصناعي والتجاري . فنحن عندما نتعامل مع مجتمع رأسمالي لا نتعامل مع الدولة بكل ما تملك من قوة البطش الظاهرة أو قوة السيطرة الخفية . بل نتعامل مع أفراد أو مع مؤسسات من افراد هذه ” الشركات ” ذوات الشخصيات المستقلة عن شخصية الدولة والحريصة نفسها على ألا تتدخل الدولة في شؤونها . وهي شركات متنافسة ولو كان أصحابها ينتمون الى مجتمع واحد . فلماذا نخشى التعامل مع الافراد، ونتوهم اننا إذ نتعامل معهم نقع في شراك التبعية ؟ أليس التعامل مع تلك الشركات الخاصة أكثر أمناً من أن نتعامل مع ” دول ” تملك من القوة ما تفرض به علينا ان نكون لها تابعين ؟… لا . ان الليبرالية تمنع الدولة من التدخل في شؤون رعاياها ، ولكنها تضع الدولة في خدمة رعاياها ورعاية مصالحهم . لهذا كانت الدولة الليبرالية منذ البداية حارسة النشاط الاستمعاري الذي تقوم به المؤسسات الرأسمالية الخاصة خارج حدود دولتها . وبقدر ما تكون الدولة قوية بقدر ما توفر من حماية للرأسماليين . من هنا كانت الدولة الليبرالية هي ذاتها مؤسسة مسلحة تابعة للرأسمالية فلما نمت الرأسمالية وتحولت إلى نظام احتكاري قويت الدولة الليبرالية وأصبحت أ كثر شراسة ، لأن الرأسماليين هم الذين يوفرون لها القوة بقدر ماهم في حاجة الى استعمالها لحماية مصالحهم في الداخل أو الخارج . لقد رأى لينين في هذه  الظاهرة تحول الاحتكارات الرأسمالية من احتكارات خاصة إلى احتكارات “الدولة” وأسماها ” الامبريالية ” للدلالة على سيطرة الدولة على كثير من الشعوب والمجتمعات كما كان يفعل ” الاباطرة ” . والواقع من الأمر أن الدولة فى مرحلة “الامبريالية ” لا تتحول الى أداة احتكار رأسمالي بل تتحول الى اداة في يد ” امبراطورية ” المؤسسات الرأسمالية الاحتكارية التي تبقى احتكاراتها ملكية خاصة لها، لا تشرك في أرباحها حتى الدولة التي تستخدمها اذن فإن كان صحيحاً اننا عندما نتعامل مع الرأسماليين نتعامل مع مؤسسات خاصة ، إلا أنه صحيح أيضأ أن تلك المؤسسات ” الخاصة ” تتعامل معنا في حراسة مؤسسة “عامة ” مسلحة هي الدولة . وهنا يكون الخطر مضاعفاً لان الدولة ستفرص علينا التبعية للاحتكارات الرأسمالية أو تحرسها فلا تفلت منها بأمر من تلك الاحتكارات وبدون قيد حتى من مصلحة شعبها الذي هو واقع بدوره في قبضة المحتكرين . نريد أن نقول ان شراسة الدول الاستعمارية راجعة إلى أنها تقاتل بناء على طلب الرأسماليين وحماية لمصالحهم بجنود لا قيمة لحياتهم عند الرأسماليين . ومن هنا تكون أكثر استعدادا للتضحية بهم في الحروب من الدول التي هي أدوات الشعوب الحريصة على حياة أبنائها .
أما السؤال الثاني فيمكن أن يقول : هل هذه هي كل العلاقة ما بين التحرر والرأسمالية ؟ هل كل ما في الأمر هو أن ثمة نظاما رأسمالياً احتكارياً قائماً بعيداً عنها يفرض علينا التبعية أو يحاول فرضها ؟ … ان يكن الأمر كذلك فان حركات التحرر تحطم كل يوم قيود التبعية بالاسلوب الذي  تعلمته من الممارسة : رفع  تكلفة الاستعمار . ومنذ ان أدرك المستعمرون أنفسهم ان ” ما يدفعونه ” محافظة على وجودهم في المستعمرات المتحررة على سيطرتهم يهدد حسابات ” الأرباح ” التي جاؤوا من أجلها انسحبوا من المستعمرات خوفاً من ” الخسارة ” . ومنذ ربع قرن و هم ينسحبون طائعين أو كارهين . الا تنتهي اذن مشكلة الاستعمار بالتحرر فنتحرر نحن من مركبات النقص ونعود الى تقييم النظم الاجتماعية طبقاً لما أثمرت من تقدم علمي وصناعي في أوربا يوم إن كانت أوربا في مثل تخلفنا ، فنختار الرأسمالية  “الوطنية” وبدون تبعية ؟.
هذا كان زماناً .
كان يوم ان كانت الرأسمالية الناشئة منقسمة الى رأسماليات وطنية متنافسة ، وكانت كل دولة تدخل حلبة السباق الرأسمالي بابنائها من الرأسماليين يستولون على المستعمرات في الخارج ليقيموا المصانع في الداخل . وذلك عصر انتهى منذ ان تحولت الرأسمالية الى احتكارات عالمية لمصادر الانتاج وادواته وسلعه وأسواقه . في ظل هذه الامبريالية الرأسمالية العاتية يكون دخول الدول النامية ميدان المنافسة الرأسمالية انتحار لا شك فيه. انها إذ تواجه تلك الاحتكارات لا يكون أمامها الا أن تسحق فتفرض عليها التبعية فرضاً أو أن تخون فتصبح تابعة  تستمد مقدرتها على البقاء مما تخدم به مصالح الذين أبقوا عليها ولم يسحقوها . وإذ بدولة الرأسمالية الوطنية في المجتمعات النامية المتحررة هي الوسط “ الوطني  الذي تعود به الى التبعية فتخسر خير ما كسبته أولاً . النظام الرأسمالي في المجتمعات النامية المتحررة هو، إذن، اقصر الطرق ” السلمية ” التي يعود عليها الاستعمار الى المواقع التي غادرتها جيوشه . ليس ثمة أمل لأي مجتمع نام ومتحرر أن يحتفظ بحريته في ظل نظام رأسمالي لا لأن الرأسماليين الوطنيين خونة ولكن لأن الاحتكارات الامبريالية أما ان تدفع بهم إلى هاوية الافلاس وإما أن تستدرجهم الى هاوية الخيانة . لا خيار لهم في هذا. فان كان ثمة من يدعي غرورا ان ” وطنيته ” اقوى من ان يقهر او يخون فليتأمل ما جرى ويجري لمن هم اكثر منه قوة واقتدارا . فمن قبل ارادت الرأسمالية الوطنية في المانيا النازية وإيطاليا الفاشية واليابان الامبراطورية ان تزاحم الاحتكارات الامبريالية على مصادر الانتاج وادواته وسلعه واسواقه . وقدم لها الاحتكاريون تنازلات في مواقع عدة واشركوها معهم في استغلال الشعوب . ولكن عند حد معين ، عند ذلك الحد الذي ارادت به ان تنتزع قيادة امبراطورية الاحتكار الرأسمالي ، سحقوها سحقاً في حرب ضارية قدموا لها جميعاً اكثر من خمسين مليوناً من الضحايا البثسرية ، ولم يتردد عميل الرأسمالية وخادمها المطيع ورئيس الدولة الحارسة لامبراطورية الرأسماليين في ان يبيد هيروشيما ، رجالا ونساء واطفالا بضربة ذرية واحدة ، إن كانت المانيا النازية هي التي بدأت القتال فذلك هو الدرس الذي ينبغي ان نعيه . ان الرأسمالية الوطنية في هذا العصر لا تستطيع ان تعيش على ما هو متاح في بلادها من امكانيات مادية وبشرية لا اكئر ولا اقل ، ولا بد لها ، ان عاجلاً او آجلاً، ان تحاول الاستيلاء على ما لا تملك مجتمعاتها من مصادر الانتاج اي ان تتحول الى قوة استعمارية . وستجد هناك الاحتكارات الرأسمالية التي سبقتها والتي لن تتردد في دفعها الى هاوية الافلاس أو استدراجها الى هاوية الخيانة . ولقد افلست المانيا النازية وأحالت المانيا خراباً . ولم تستطع الرأسمالية الألمانية أن تبقى إلا عندما اختارت الخيانة فأصبحت تابعة لامبراطورية الرأسماليين . ولم تستطع المانيا بكل قوتها أن تجمع بين التحرر والرأسمالية معاً . وتحت بصرنا تجري منذ سنوات قليلة معركة لا تقل ضراوة وإن كانت ما تزال سلمية . فمنذ سنوات قليلة تحاول فرنسا تحت قيادة ديجول التحرر من التبحية للاحتكارات الامبريالية التي تقودها الولايات المتحدة الامريكية . وفرنسا رأسمالية . ولقد مات ديجول ، قائد معركة تحرير فرنسا قبل أن تنتهي المعركة . وقبل أن يموت كان قد انتزع من مركز القيادة . وتقف فرنسا اليوم في مفترق الطرق . ان كانت لا تريد أن تسحق كما سحقت المانيا من قبل فليس أمامها الا أن تختار بين الحرية والرأسمالية . إما أن تكون ديجولية وإما أن تكون أمريكية وطالما بقيت امبراطورية الاحتكارات الرأسمالية التي تقودها الولايات المتحدة الامريكية فلا أمل لفرنسا أو لأية دولة أخرى في أن تكون متحررة ورأسمالية معاً . وليس في العالم كله ـ الآن ـ دولة رأسمالية واحدة تملك من امر مصيرها اكثر مما تسمح به الولايات المتحدة الأمريكية . ولاتستطيع اية دولة رأسمالية ولوكانت في مثل قوة انجلترا أن تقول لساكن البيت الأبيض في واشنطن : لا، الا في المجالات وإلى المدى الذي تسمح به  الاحتكارات الرأسمالية . هذا لا شك فيه أيضاً . وعلى من يشك فيه أن يفتش لنفسه في الأرض عن دولة واحدة متحررة ورأسمالية معاً . على أي حال ، فغداً او بعد غد ، طال الزمان او قصر سينقطع الشك باليقين ويتعلم الذين يجهلون العلاقة العضوية بين الاستعمار والرأسمالية ، وتخدعهم اعلام الاستقلال المزيفة في الدول الرأسمالية ، ان الاستعمار الذي نشأ وانتشر وتغيرت اساليبه مع نشأة الرأسمالية وانتشارها وتغير اساليبها لن يموت ويدفن الا مع النظام الرأسمالي في قبر واحد . حينئذ، وحينئذ  فقط ، يمكن للمجتمعات ان تقول انها قد تحررت نهائياً . وتستطيع اليد التي تحمل السلاح ان تلقيه لتتفرغ اليدان للبناء والتنمية والتقدم الاجتماعي بكل ما هو متاح من مجتمعاتها من امكانيات بشرية ومادية لا أكثر ولا اقل . أما قبل هذا فان الذين كسبوا معركة التحرر لا يمكنهم ان يكسبوا معركة التقدم الاجتماعي ما دام الاستعمار الذي يحاصرهم من كل ناحية ويتربص بهم في كل حين يجبرهم على ان يقتطعوا من الامكانيات المادية والبشرية ، التي كان يجب ان تتجه الى حل مشكلات الناس وبناء حياة افضل، قدراً كبيراً للمحافظة على حريتهم . ويظل شعار ” يد تبني ويد تحمل السلاح ” هو أصدق الشعارات لما يجب ان يكون في المجتمعات المتحررة النامية بالرغم من صدق ما يدل عليه من ان يداً واحدة هي التي تبني الحياة الافضل .
إننا لا ندافع هنا عن الاشتراكية ، ولكنا نكتشف جوانب مشكلة الاستعمار . فإذا كنا قد اكتشفنا أن الرأسمالية والاستعمار توأمان ، فلعل الذين يريدون التحرر والرأسمالية معاً أن يكتشفوا انهم يسيرون على طريق مسدود وان غاياتهم غير ممكنة موضوعياً بحكم الواقع الاجتماعي في هذا العصر. اما نحن فقد عرفنا من جدل الانسان : ان التطور الاجتماعي لا يتم بتحقيق كل ما يريده الناس بل بتحقيق ما يمكن تحقيقه فعلاً مما يريدونه في مجتمع معين في وقت معين . وقمة النجاح هو تحقيق كل الممكن . ويكون علينا ان نكتشف هذا الممكن موضوعياً في كل وقت ونحن نحاول ان نعرف الحلول الصحيحة لمشكلات الناس في ” واقعنا الاجتماعي ” ( فقرة 18) . وهكذا نعرف ان الحل الوحيد لمشكلة الاستعمار الرأسمالي كما هو محدد موضوعياً في الواقع الاجتماعي في هذه المرحلة التاريخية التي تمر بها امتنا العربية ليس مقصوراً على قطع علاقات التبعية مع الرأسمالية الأجنبية بل بالتقدم ـ أيضاً ـ عن غير الطريق الرأسمالية . بالقطع نتحرر من التبعية ، وبعيداً عن الطريق الرأسمالي سنكون في مأمن العودة الى التبعية .
هذا هو الاستعمار، فما هي مشكلته في مجتمعنا ؟
لا يمكن لأي انسان في الوطن العربي أن يجيب على هذا السؤال الخطير إجابة صحيحة إلا اذا واجهه من موقف قومي . ذلك لأن على كل من يتصدى للإجابة عليه أن يعرف أولاً ما هو مجتمعه . وبدون ان يعرف ما هو مجتمعه ـ معرفة صحيحة لن يعرف الامكانيات البشرية والمادية المتاحة فيه لصنع التقدم الاجتماعي . وعندما لا يعرفها لا يعرف ما هو مسلوب منها بالاستعمار الظاهر وماهـو مسخر منها لخدمة الاستعمار الخفي ، وبالتالي لا يعرف القوى التي تسلبه أو تسخره لخدمتها ، فلا يعرف لا مشكلة الاستعمار ولا حلها الصحيح . بعيداً عن الموقف القومي ، وخارج نطاق العلاقات القومية وسيظل أكثر الناس في الوطن العربي رغبة في التحررلايعرفون الطريق الى الحرية ، لانهم لن يستطيعوا أبداً معرفة الحقيقة الاجتماعية لمشكلة الاستعمار ما داموا لا يعرفون ” المجتمع ” الذي تثور فيه المشكلة  ـ ولقد كانت لكل هؤلاء في سنة 1967 عبرة اقتضت ثمناً فادحاً . فطوال عشر سنوات كاد فيها درس 1956 أن ينسى ظن ” الاقليميون ” وأعداء القومية العربية أنهم قد كسبوا معركة التحرر من الاستعمار منذ أن جلت الجيوش الأجنبية وسقطت الرأسمالية العميلة وبدأ التحول الى الاشتراكية والتقدم على طريقها في ” مجتمعاتهم  . وكادوا ان يستبدلوا بشعار يد تبني ويد تحمل السلاح ” شعار ” التفرغ للبناء الاجتماعي ” كأن الحقائق الاجتماعية الموضوعية متوقفة ، وجوداً او عدماً ، على ما يرفعونه من شعارات . كأنهم يستطيعون بالكلمات الكبيرة ان يلغوا مجتمعهم الذي صاغه التاريخ الطويل ليصطنعوا لأنفسهم مجتمعات بديلة . وجاءت سنة 1967 لتثبت لهم انهم ينتمون وجوداً ومصيراً الى الأمة العربية التي هي مجتمعهم سواء ارادوا ام لم يريدوا . وصدقت القومية فيما تقول من ان وحدة الوجود القومي تحتم وحدة المصير القومي فإذا بوحدة المصير القومي تفرض ذاتها على الاقليميين فلا يستطيعون ان يفلتوا من تأثيرها فيما يفعلون . ولهم ، ولنا ، في هزيمة يونيو (حزيران) 1967 عبرة ودليلاً من ممارسة  ليؤكد ذلك الدليل الذي لا ينقض على وحدة المصير . فبعد سنين قضاها الاقليميون في وهم التحرر من الاستعمار، يرون بأعينهم الجيوش الاستعمارية وقد عادت تحتل ارضهم قادمة من أرض عربية ظنوا انهم مستقلون عنها … وهكذا يتعلم الاقليميون ، او يجب ان يتعلموا، من اقسى دروس الممارسة انه ، ارادوا ام لم يريدوا ، لن تتحرر دولة عربية حقاً الا اذا تحرر الوطن العربي كله . وعندما يتحرر لن يستطيع احد ان يحافظ على حريته الا بدولة الوحدة .
اننا لا ندافع هنا عن الوحدة ولكنا نكتشف جوانب مشكلة الاستعمار . فاذا اكتشفنا ان الاستعمار والاقليمية حليفان ، وان مشكلة الاستعمار مشكلة قومية ، فلعل الذين يريدون التحرر والاقليمية معاً ان يكتشفوا انهم يسيرون على طريق مسدود وان غاياتهم غير ممكنة موضوعياً بحكم الواقع القومي للمجتمع الذى ينتمون اليه .
اما نحن فإنا نعرف ان مجتمعنا هو الامة العربية . وانه ، ارضاً وبشراً ، ذو حدود تاريخية . وان كل ما هو متاح فيه من امكانيات يجب ان يسخر لتقدمه الاجتماعي هو . وان الاستعمار هو سلب كل او بعض هذه الامكانيات او تسخيرها عن طريق التبعية لخدمة القوى المستعمرة . من هذا الموقف القومي ننظر الى مشكلة الاستعمار ونفهمها ونحلها ثم نرفض ان ننظر اليها او نفهمها او نحلها الا من هذا الموقف القومي . لاننا قد تعلمنا ” ان التطور الاجتماعي يبدأ من الواقع القومي كما هو . بالمجتمع كما هو . بالبشر في واقعهم المعين المشترك كما هو . ويكون علينا، اول ما علينا ، ونحن نحاول معرفة واقعنا لنطوره ان نعرف معرفة صحيحة ، او نحدد بدقة ، واقعنا الاجتماعي . ان نجيب على اول الاسئلة التي يطرحها التطور الاجتماعي : ما  هو مجتمعنا . و أن نحتفظ به كما هو . وان نحافظ عليه كما هو . وان نتعامل معه كما هو . سواء اعجبنا أو لم يعجبنا أو كان منا من يتمنى لو لم يكن منتمياً اليه . ” ووعينا الانذار” بالفشل الذي تستحقه أية حركة تستهدف تطوير الواقع  جاهلة أو متجاهلة او رافضة التعامل مع حقيقته الاجتماعية كما هي ”  (فقرة 18)  .
نحن اذن لا نبحث عن متاعب النضال ضد الاستعمار تطوعاً خارج حدود الدول التي نعيش فيها ، ولكن ببساطة ، لا نريد ان نفشل لا في معرفة حقيقة مشكلة الاستعمار ولا في حلها 
فما الذي نراه من الموقف القومي ؟


(7)

45 ـ المعركة والقائد : 

حتى نهاية الحرب الاوربية الثانية (1939 ـ1945 ) كانت الأمة العربية كلها ، ارضاً وبشراً، واقعة تماماً في قبضة القوى الاستعمارية . كانت كل امكانيات التقدم الاجتماعي المتاحة فيها ، بشرية او مادية ، مسلوبة ومسخرة لخدمة المستعمرين في انجلترا وفرنسا وايطاليا ، ومقسمة فيما بينها بدون فائض تحت حراسة قواتها المسلحة المنتشرة على الارض العربية كلها إلا حيث رأت الدول الاستعمارية انها في غير حاجة الى حراسة مسلحة ( الحجاز واليمن) . وكان اقتسام الوطن العربي ذا دلالة على حقيقة المشكلة . فقد وضعت الامة العربية ” كجتمع قومى واحد ” على مائدة المستعمرين بعد الحرب الاوربية الأوربية (1614- 1918) بدون اضافة من خارجها ليقتسموها فيما بينهم . العراق وفلسطين وشبه الجزيرة العربية ومصر والسودان لانجلترا ، ” في مقابل ” أن تكون سورية ولبنان وتونس والجزائر والمغرب لفرنسا ، على ان تكون ليبيا لايطاليا . وهكذا كان كل جزء من الوطن العربي ثمناً لجزه آخر منه في عملية مبادلة تمت اتفاقاً بين القوى الاستعمارية وهي تقسم الأمة العربية . ولم يكن ثمة دليل على وحدة المصير أقوى من أن يكون تخلي دولة استعمارية أولى عن جزء من الوطن العربي لدولة استعمارية ثانية هو ” شرط ” استيلاء الدولة الاولى على جزء ثان من الوطن العربي . وقد بلغت استهانة المستعمرين بالامة العربية حد اعتبار فرنسا ان الجزائر جزء منها وحد الحاق الفاشية ليبيا بايطاليا . كان ذلك هو الاستعمار الظاهر بكل بشاعته . ومنذ اللحظات الأولى لم تتوقف مقاومة المستعمرين في أي جزء من الوطن العربي . وتوالت ثورات التحرر ولكنها كانت ، بحكم التجزئة ، ثورات تحرر اقليمي . حتى قوى التحرر التي كانت قد بدأت نضالها موحدة في المشرق العربي (1916) فرقتها التجزئة . وهكذا كانت حركات التحرر في الوطن العربي حركات اقليمية تقوم بها فصائل معزولة بعضها عن بعض تواجه كل منها بما هو متاح لها من قوة محدودة الحلف الاستعماري كله بقواه العاتية . فانهزمت في كل مكان . ودفعت الامة العربية من ابنائها عشرات الالوف من الابطال الذين استشهدوا في معارك التحرر الاقليمية الخاسرة . وفي الحرب الاوروبية الثانية بلغت التبعية حد العبودية والرق . واصبح الشعب العربي ” غريباً ” بكل دلالة الكلمة في وطنه العربي . الرؤساء والحكومات والموظفون والمنتجون والعاملون حتى العاطلون … كل هؤلاء كانوا لا يملكون من امرهم الا ان ينفذوا الاوامر الصادرة اليهم عن القوى الاستعمارية . حتى الاعراض العربية ابيحت للترفيه عن جنود المستعمرين وتحولت المدن العربية الى مواخير للدعارة العلنية . ولم يكن الشعب العربي في اي مكان يأكل او يشرب او يلبس الا بالقدر الذي يسمح به المستعمرون ومن فائض ما يستهلكون … فقد استعمل المستعمرون الامة العربية ارضاً وبشراً اداة لهم في حربهم الرأسمالية ضد منافسيهم من النازيين والفاشيين في سباق السيطرة على الشعوب .
ثم تغير اسلوب الاستعمار بعد الحرب فاختارت الدول الاستعمارية سحب قواتها من المستعمرات توفيراً لنفقات الاحتلال بعد الخسائر الفادحة التي لحقت بها في قتالها الطويل باهظ التكلفة . واستأنفت حركات التحرر الاقليمي في الوطن العربي نشاطها فور انتهاء الحرب . واستطاعت دول كثيرة في الوطن العربي ان تكسب معارك الجلاء ضد قوات كانت قد اعدت خطط الانسحاب من قبل . ولكن الانسحاب لا يعني التحرر . فمن كل ارض عربية انسحبت الجيوش المحتلة بقيت التبعية للاستعمار قائمة . وتحت اعلام ” الاستقلال ” المتزايدة في الوطن العربي بقيت كل مصادر الانتاج وكل الاستثمارات ، وكل البنوك وكل شركات التأمين وكل ادوات الانتاج الزراعي والصناعي وكل وسائل الخدمات من اول القاطرات والطائرات والدراجات الى الادوية والاحذية والاغطية والاوعية … تابعة في سوق الانتاج او في سوق الاستهلاك ، تبعية مباشرة للاحتكارات الرأسمالية . وكان الفكر الليبرالي ومبتكراته السياسية من اول الحرية الفردية المقدسة الى آخر الديموقراطية الشكلية يعربد بدون شريك  في الرؤوس العربية الفارغة ويبيع الليبراليون ” اصوات ” الشعب العربي ويشترونها في سوق الانتخابات الحرة . وبينما بقيت معارك التحرر الاقليمي قائمة ضد الاستعمار الظاهر في الأماكن التي بقيت فيها جيوشه كاد الاستعمار ان يصفي حركات التحرر في الاقاليم المستقلة عن طريق التبعية السياسية والاقتصادية والفكرية الكاملة تحت ستار الاستقلال السياسي . في تلك المرحلة الزائفة التي امتدت حتى سنة 1952  كانت اقدام المستعمرين على رؤوس الشعب العربي في الدول ” المستقلة ” اكثر ” ثباتاً ” منها في الاقطار التي تقوم الجيوش فيها علامات ظاهرة على التبعية . كيف يمكن اقناع الجيل الجديد من الشباب العربي الذي لم يشهد تلك المرحلة بالعبودية التي كان يعيش فيها الجيل الذي عاصرها . هل يكفي ان نذكر لهم ان السفير البريطاني في مصر، التي تضم ثلث الامة العربية بشراً وتمثل قمة تقدمها الحضاري ، كان صاحب الكلمة الاولى والوسطى والاخيرة في اختيار حكومة مصر رئيساً ووزراء ، ولم يكن كل جهاز الدولة من اول الملك في قصره حتى خفراء الامن في القرى الا تابعين له تبعية مباشرة يصوغها “البرلمان ” في قوانين وتصوغها الحكومة في لوائح وقرارات ويحكم طبقاً لها القضاء وينفذها الشعب . ان ” الزواج الكاثوليكي ” الذي لا طلاق فيه كان رمزاً للعلاقة بالمستعمرين كما عبر عنه علناً وزير من وزراء حزب الاغلبية (الوفد ) الفخور بمعاهدة الشرف والاستقلال التي عقدتها الاحزاب مجتمعة سنة 1936 .  ولم يكن ذلك الوزير الا نموذجاً لأمثال نوري السعيد في العراق وغيره من العملاء في الاقطار الاخرى . أشنع من هذا وأبشع ان دولنا كانت تعلمنا ان تلك علاقة طبيعية في مصلحتنا لا تستحق الرفض فاستكانت اليها ولم يرفضها الا قليل .
وفي سنة 1952 قامت في مصر ثورة تحرر بقيادة  جمال عبد الناصر . وكانت كمثيلاتها من حركات التحرر في الوطن العربي حركة اقليمية : اقليمية المنطلقات اقليمية القوى اقليمية الغايات . ولم يكن الوطن العربي يمثل في منطلقاتها إلا ” دائرة ” ثانية تحيط بالدائرة الاولى التي هي مصر، وتتلوها دائرة اوسع هي دائرة العالم الاسلامي . وكانت قواها ( منظمة الضباط الاحرار) مصرية خالصة . وكانت غاياتها تحرير مصر من الاحتلال الانجليزي وتحرير المصريين من سيطرة الاقطاع ورأس المال وانشاء جيش قوي يحمي استقلال مصر . ان وضوح المعرفة بهذه البداية بالغ الأهمية في معرفة تطور معارك التحرير في الوطن العربي . ولم تلبث الثورة ان اتفقت سنة 1954 على جلاء الجيوش الاجنبية عن مصر في موعد أقصاه سنة 1956. ولم يكن ذلك شيئاً فذاً في عصره . فمنذ اوائل سنة  1947 كانت انجلترا التي أثخنتها جروح الحرب قد اتفقت مع الولايات المتحدة الامريكية على ان تتنازل لها عن السيطرة على الشرق الاوسط وأن تسحب قواتها . وكان اول تطبيق للاتفاق هو انسحابها من فلسطين لتعلن القيادة الجديدة للقوى الاستعمارية ممثلة في ” ترومان ” اعترافها بدولة اسرائيل فور الانسحاب . وقد دفع ايدن وجي موليه ثمن محاولتهما خرق ذلك الاتفاق سنة 1956. وليس من المنكور أنه بالرغم من الاهداف التحررية الواضحة التي اعلنتها ثورة 1952 منذ البداية لم تقاومها انجلترا ولا قاومتها الولايات المتحدة الامريكية بقدر ما كانت أي منهما تستطيع . واستقل السودان منفصلاً عن مصر تأكيداً لاقليمية الثورة .  وبدأت الثورة منذ 1954 محاولتها في التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية في مصر في انتظار جلاء الجيوش الانجليزية سنة 1956. غير ان تلك الفترة الزمانية القصيرة التي انقضت ما بين سنة 1954 وسنة 1956 قد شهدت تحولا خطيراً في الوطن العربي . ففيها اختبر الاستقلال السياسي اختباراً حقيقياً فانكشفت التبعية التي تحاول القوى الاستعمارية ، او قيادتها الامريكية ، ان تفرضها خفية تحت شعار جلاء الجيوش الانجليزية . وفيها فرض الواقع القومي ذاته فعرفت مصر الثورة ان معركة التحرير ممتدة على نطاق الوطن العربي كله وخاضتها على هذا النطاق . وفيها دخلت الجماهير العربية معركة تحرير مصر ضد العدوان الثلاثي تأكيداً لوحدة المصير القومي . وفيها عرف الذين يناضلون من اجل التحرر انهم لا يستطيعون ان يكونوا احراراً ورأسماليين معاً . وفيها توحدت قيادة معارك التحرر في الوطن العربي فولدت اول حركة تحرر قومي موحدة القيادة في التاريخ العربي الحديث وإن كانت متفرقة القوى والساحات . وفيها كسبت الأمة العربية قائداً فذاً لمعارك تحررها وواحداص من أصلب قادة التحرر من الاستعمار في العالم على الاطلاق هو جمال عبد الناصر .
ذلك لأن فيها قال عبد الناصر ” لا ” رفضاً لشرومل الرأسمالية الاجنبية التي كان يرغب في ان يستفيد بأموالها وخبرتها في التنمية ، ولكن بدون تبعية . وفيها قال ” لا ” رفضاً لمشروع ايزنهاور الذي كان يغلف التبعية بغلاف الدفاع عن ” الدائرة ” العربية ضد عدوان سوفييتي غير محتمل بالرغم من حاجته الى الدفاع عن وطنه ضد كل اعتداء ولكن بدون تبعية . وفيها قال ” لا ” رفضاً لشروط الولايات المتحدة الامريكية عندما حاول ان يحصل منها على السلاح بعد الاعتداء الاسرائيلي على غزة مع انه كان في اشد حاجة الى السلاح ولكن بدون تبعية . وفيها قال ” لا ” رفضاً لشروط الرأسماليين المقترنة بتمويل السد العالي مع انه كان شديد الرغبة في بناء السد العالي ولكن بدون تبعية . وفيها قال ” لا ” رفضاً لانحيازه ضدالمعسكر الاشتراكي فتعامل معه بالرغم من انه لم يكن يرفض التعامل مع المعسكر الرأسمالي ولكن بدون تبعية . ولم يكن عبد الناصر يقول لا ” مشاغبة ”  ولكن لأن  ثورة 1952 التحررية التي كان يقودها كانت في مرحلة اختبار من خلال مواجهة الاستعمار الجديد (التبعية) . كانت كلما تقدمت خطوة على طريق التقدم الاجتماعي تجد الولايات المتحدة هناك تقدم لها ما تريد مختلطاً بالتبعية . وكانت كل قيمتها كثورة تحررية متوقفة على مقدرتها على ان تقول ” لا ” رفضاً للتبعية . وقد قالها عبد الناصر ولم يتوقف عن قولها الى ان يغيب في سنة 1970.
وعندما قال ” لا ” وكلما قال ” لا ” اشتعلت على الأرض العربية أكثر معارك التحرر ضراوة . دفاعاً ضد التبعية التي تريد الولايات المتحدة الامريكية فرضها على العالم العربي . وانكشف الاسلوب الجديد للاستعمار إذ لم يكن للولايات المتحدة الامريكية جندي واحد في مصر بينما هي التي تقود المعركة ضدها . واتضحت الحقيقة القومية لمشكلة الاستعمار . فقد فرض الحصار على مصر من الأرض العربية وسلط عليها كل عملاء الاستعمار من العرب . ومن ناحية اخرى كان على القوى الاستعمارية في انجلترا و فرنسا  واسرائيل أن تهاجم مصر وتسقط عبد الناصر حتى تستطيع ان تبقى في الجنوب العربي والجزائر وفلسطين . فلما ان اعتدت سنة 1956 حسم الأمر . ودخل الشعب العربي كله معركة الدفاع عن مصر واصبح عبد الناصر منذ ذلك الوقت قائد معارك التحرر العربي بدون منازع أو شريك . واكتشفت قوى التحرر العربي العلاقة الوثيقة بين الاستعمار والنظام الرأسمالي فاختارت حلفاءها من الاشتراكيين وضعت في مصر رءوس الأموال الاجنبية . ومنذ 1956 دخلت الولايات المتحدة الامريكية المعركة سافرة كقائدة لامبراطورية الاحتكارات الرأسمالية واستعملت كل الاسلحة : الصداقة والعداء ، المعونة والحرمان ، التدخل والحصار، الدبلوماسية والحرب ، الكلمات التي تريد أن تقنع والاساطيل التي تريد أن ترهب .. ولم تزل .
من الذي كان يواجه المستعمرين في معارك التحرير تحت قيادة جمال عبد الناصر؟
ليست أية دولة عربية . ولا مصر، لقد دخلتها دولة مصر بكل قواها ، خارج حدودها ، وقدم الشعب العربي فيها شهداءه حتى خارج حدود الوطن العربي في معارك التحرر ضد الاستعمار، لا لأن مصر الدولة كانت تنفذ مخططاتها التوسعية بل لأن القاهرة كانت مقر قيادة جمال عبد الناصر الذي هـو رئيس دولة مصر وقائد معارك التحرر العربي في الوقت ذاته ، وفي مصر ـ بعد ـ ثلث الشعب العربي كله . انما الذي واجه المستعمرين في معارك التحرر تحت قيادة جمال عبد الناصر هي الجماهير العربية في مصر وفي كل مكان من الوطن العربي . انها قوة اخرى مختلفة المنطلقات ومختلفة الغايات عن القوى الاقليمية ولو كانت تحررية . منذ سنة 1955 والجماهير العربية ، أعرض الجماهير العربية، تعتبر جمال عبد الناصر قائدها وكان عبد الناصر يقودها فعلاً في معارك التحرر في كل مكان من الوطن العربي من مركز قيادته في القاهرة . من تلك العلاقة ” شبه ” المنظمة بين الجماهير العربية في انحـاء الوطن العربي وبين قائد معارك التحرر في القاهرة ولدت في هذا العصر الحديث أول حركة تحرر عربي .
وقد كانت تلك الحركة من القوة ـ عربياً ـ بحيث يمكن أن نقول ـ بدون خطأ ـ أن كثيراً من القيادات في الوطن العربي كانت تستمد مواقعها الجماهيرية من صلتها بالرئيس عبد الناصر أو ـ  في بعض الاوقات ـ من ادعائها أن ثمة صلة بينها وبين عبد الناصر . وكانت من القوة ـ دولياً ـ بحيث ان الدول العربية ، كل الدول العربية ، التي ما كانت لتكسب دولياً إلا بمقدار وزنها الحقيقي ، وهو خفيف، قد كسبت سياسياً واقتصادياً ومالياً وأدبياً اضعاف اضعاف ثقلها الحقيقي في موازين الدول . نقول كل الدول العربية لأنه لا توجد دولة عربية واحدة ، حتى الدول التي يسخرها حكامها لمناهضة  حركة التحرر العربي ، لم تتمتع فعلياً بحماية الجماهير العربية شبه المنظمة تحت قيادة عبد الناصر . ولا يوجد حاكم أو قائد عربي واحد ، حتى الذين عاشوا يناهضون عبد الناصر، يستطيع ان يزعم أنه لم يكن يقيم حساباته على اساس أن الجماهير العربية تحت قيادة عبد الناصر ستتدخل لحماية الشعب العربي في دولته أو تحت قيادته ضد أي عدوان اجنبي بصرف النظر عن موقفه المناهض . بل ان منهم من كسب واثرى ابتزازاً من سادته تحت ضغط التهديد بانحيازه الى عبد الناصر . كانت حركة قوية الى درجة أن فجرت حفنة من المناضلين بالاتفاق مع عبد الناصر ـ في القاهرة ـ وبدعم ومشاركة منه حتى النهاية أروع ثورات التحرر في الجزائر . إلى درجة أن يسقط  مشروع ايزنهاور . إلا درجة أن يطرد ” جلوب ” من الأردن الى درجة أن يخرج الثوار من كهوف الإمامة في اليمن وينتصروا . إلى درجة أن يستطيع جنوب اليمن أن يخوض ضد بريطانيا حرباً مسلحة ثم ينتصر. الى درجة ان يرى الاتحاد السوفييتي انها حركة ذات وزن يستحق أن ينحاز اليه بكل وزنه الدولي والاقتصادي والفني … برغم موقف الشيوعيين العرب المناهضين لقيادتها . طوال خمس عشرة سنة كانت كل الدول العربية . وكل القوة في الوطن العربى، تعيش ، لا تحت حماية قواها الذاتية ، بل تحت حماية قوى اخرى منتشرة من المحيط الى الخليج ، وقادرة على أن تضرب في أي مكان . تلك هي قوى التحرر العربي موزعة الفصائل في الوطن العربي موحدة القيادة في القاهرة . كانت تلك القوى هي الاضافة الهائلة لوزن اية دولة عربية . ومن تلك القوى استمدت كل الدول العربية، بما فيها الجمهورية العربية المتحدة ، الثقل الذي جعلها أهلاً للصداقة اكثر مما تستحق بذاتها ، وأهلاً للعداء يخشاها الاعداء أكثر مما تقدر بقوتها . وهي هي التي تخوض منذ خمسة عشر عاماً معارك التحرر العربي ضد الاستعمار .
ولقد حققت حركة التحرر العربي هذه انتصارات عدة بلغت ذروتها في الفترة ما بين 1958 الى 1961. ففيها تحققت الوحدة بين مصر وسورية وتحرر العراق وانتصرت ثورة الجزائر وبدأ التحول الاشتراكي . واستطاع فيها جمال عبد الناصر ان يقول للأعداء والأصدقاء معاً ” لا ” ويصدر أمره من مركز قيادته الى جماهيره فيسقط عبد الكريم قاسم في العراق بعد بضع سنين بالرغم من أن كل القوى الدولية كانت تحميه . ولكنها ـ أيضاً ـ منيت بهزائم مروعة بدأت بالانفصال سنة 1961 وانتهت بهزيمة يونيو (حزيران ) سنة 1967.
ولكنها في سنة 1967 لم تكن بدون رصيد . ففي ظلام الهزيمة تألقت المكاسب التي كانت حركة التحرر العربي قد حققتها من قبل ، واسترد الشعب العربي المقابل العادل لتضحياته في المعارك السابقة . فقد انهارت الجيوش وفتحت حدود الأرض العربية للغزاة من الفرات الى النيل بدون عائق ، فتقدمت الدول التي كانت حركة التحرر العربي قد كسبت صداقتها لتحول دون الاجهاز على الدول العربية المهزومة وتعوضها عن خسائرها الفادحة وانهارت القوى ، كل القوى ، فتقدم الشعب العربي ، عشرات الملايين من أبناء الأمة العربية ، في كل مكان من الوطن العربي ، يومي 9 و 10 يونيو (حزيران) 1967 يقولون بقوة هادرة لا تملكها الا الجماهير: لا . كانت تلك هي الأمة العربية بكل ما فيها من اصالة وحضارة ترفض الهزيمة وتتحدى الواقع وتعيد الى مركز القيادة الرجل الذي اختبرت ، من قبل ، مقدرته على ان يقول : لا . والذي لم يكن لدى الجماهير العربية المتمردة ضد الهزيمة أي شك في انه، منتصراً او مهزوماً ، قادراً أو غير قادر، سيقول : لا. وقالت فصائل المقاومة الجماهيرية ” لا ” من فوهات البنادق . حتى رؤساء الدول العربية لم يستطيعوا إلا أن يقولوا في مؤتمر الخرطوم (اغسطس ” آب ” 1967 ” لا مفاوضة . لا صلح . لا اعتراف ”  ثم يقولوا : ” لا ، رفضاً لانهيار قاعدة حركة التحرر العربي ومركز قيادته فقدموا ما استطاعوا من معونة ودعم الى الجمهورية العربية المتحدة .
طبقاً لأي قانون ما عدا قانون حتمية التحرر، وطبقاً لأي منطق مادي أو مثالي سوى المنطق القومي . واستناداً الى أية قوة في الارض غير قوة الجماهير العربية التي تحمل في ذاتها تراث امتها ، لم يكن من الممكن أن ينطق احد في الوطن العربي كلمة ” لا ” في ذلك الاسبوع الاسود من يونيو (حزيران) 1967. ولم تكن الجماهير العربية في ذلك الوقت تملك الا رصيد الثقة بمنطلقاتها وغاياتها وانتصاراتها السابقة تحت قيادة عبد الناصر . واستردت الجمهورية العربية المتحدة اضعاف اضعاف ما كانت قد بذلته من تضحيات خارج حدودها في السنين الماضية. ولو لم يوجد في التاريخ العربي كله سوى يومي 9 و 10 يونيو (حزيران)  1967 لكانا دليلاً من الممارسة لا ينقضي على صحة الفكر القومي وسلامة منطلقاته، فقد كانا دليلاً غير قابل للنقض على وجود الامة العربية ووحدة مصيرها .
ثم بدأت الانتصارات مرة اخرى . اولها واخطرها اثراً هو رفع مشكلة فلسطين من انقاض التشويه الذي حاولت كل القوى المعادية للتحرر العربي ان تدفنها تحته ، فاذا هي ، كما كانت دائماً، مشكلة ارض مغتصبة منذ سنة 1948 وليست مشكلة حدود وجوار بين الدول العربية واسرائيل . وبعد عشرين سنة تعود اسرائيل فتواجه معركة وجودها لا معركة حدودها . وبعد عشرين سنة . تعود الدول العربية لتواجه الاختيار بين ان تعود الى الحدود المحتلة او ان تعترف بالوجود المغتصب . وتتجسد وحدة مصير الارض العربية. وبعد عشرين سنة يعود المجتمع الدولي فيواجه التناقض بين الوجود الاسرائيلي ووجود الشعب العربي على ارض فلسطين . انها المشكلة التي ظن الناس انها قد انتهت منذ سنة 1948 اما الانتصار الثاني فهو عدم السماح لاسرائيل بان تفض الاشتباك الذي بدأ سنة 1967 لتعود الى حياة الامن على ارض فلسطين ، فقد حول الصمود العربي ورفض الاستسلام معركة يونيو ( حزيران) 1967 من حرب خاسرة كما حدث في سنة 1948 الى جولة خاسرة في صراع مستمر تثيره مشكلة مستمرة . اما الانتصار الثالث فهو عدم التراجع عن التحول الاشتراكي بعد الهزيمة ودعم العلاقات مع المعسكر الاشتراكي برغم كل ما قيل فور الهزيمة . اما الانتصار الرابع فهو ثورة مايو 1969 في السودان . أما الانتصار الخامس فهو ثورة سبتمبر  1969 في ليبيا . غير ان قمة الانتصارات كلها ان تعرض الدول المنتصرة ، ذات القوة التي لا شك في مقدرتها الباطشة، على جمال عبد الناصر، القائد الذي فقد اغلب قوته المسلحة ، ان يسترد سيناء في مقابل ان يكف نفسه ودولته عن ” التدخل ” في شؤون الوطن العربي فيقول ” لا . ولو لم يكن في تاريخ عبد الناصركله الا هذا الموقف لكان به واحداً من اصلب قادة التحرر القومي في العالم وبطلاً فذاً من ابطال الامة العربية ..
ان الاقليميين الذين يستحيل عليهم ، من داخل قواقعهم الضيقة، ان يروا مشكلة الاستعمار على حقيقتها  الاجتماعية ، فلا يعرفون كيف يواجهون قوى المستعمرين ، لأنهم لا يعرفون اين يواجهونها ، لن يروا فيما حدث منذ سنة 1967 إلا ان المصريين قد فقدوا سيناء وأن الاردنيين قد فقدوا الضفة الغربية ، وان السوريين قد فقدوا المرتفعات المحتلة . لأنهم عندما لا يعتبرون ارض فلسطين ارضهم لا يرون قوى الاغتصاب المرابطة فيها منذ سنة 1948، فلا يدركون النصر الذي تحقق بطرح مشكلة اغتصابها من جديد بعد سنة 1967، ولا النصر الذي تحقق يفرض الاستمرار في المعركة وعدم السماح لاسرائيل بأن تعود لتتفرغ للبناء الآمن على ارض فلسطين  . ولأنهم لا يعتبرون السودان وليبيا جزئين من الأمة العربية التي يحاول الاستعمار ان يفرض عليها سيطرته ، لا يرون في تحرير الشعب العربي في السودان وفي ليبيا انتصاراً في المعركة ضد الاستعمار. ولأنهم لايعرفون من وطنهم العربي إلا مواقع أقدامهم ولا يرون قوى الاستعمار إلا ما يقتحم عليهم منازلهم ، فلا شك يعتقدون أن رفض عبد الناصر لعزلة الشعب العربي في ” دولتهم ” مقابل استرداد الجزء المحتل من وطنهم ” عناداً ” غير معقول . ثم لا يسألون انفسهم هذا السؤال البسيط : لماذا يقبل المستعمرون التخلي عن سيناء في مقابل تلك العزلة إلا اذا كانت العزلة اكثر اتفاقا مع مصالح المستعمرين من احتلال سيناء ؟ . ثم هذا السؤال  البسيط : لماذا يعرض المستعمرون اعادة الارض المحتلة بعد سنة 1967 في مقابل الاعتراف باسرائيل في داخل حدود آمنة إلا اذا كان الاعتراف باسرائيل في داخل حدود آمنة اكثر اتفاقاً مع مصالح المستعمرين من احتلال سيناء والضفة الغربية والمرتفعات المحتلة جميعاً ..
هل المستعمرون أغبياء فهم لا يعرفون ماذا يريدون ؟ .
كلا . إنما الاقليمية هي العمياء البكماء الصماء .. فلا يفقه الاقليميون مشكلة الاستعمار في الوطن العربي . فهم المهزومون في معارك التحرير ولو كانوا أبطالاً مناضلين . وما ينتصر فيها إلا القوميون التقدميون . ان عبد الناصر نفسه لم يكن اول ابطال معارك التحرر في الوطن العربي . لقد سبقه ابطال آخرون. كثيرون .. انهرموا عنوة او استسلموا للهزيمة اتفاقاً مع المستعمرين . ولكن عبد الناصر هو اول قائد عربي يواجه الاستعمار الجديد، الخفي ، فلا يضلله الأسلوب ، ويعرض عليه ما هو في أشد الحاجة اليه فيقول ” لا ”  ويرفض التبعية . وهو اول قائد عربي يواجه الاستعمار من موقع قيادته لدولة اقليمية فلا تخدعه الحدود ، ويعرض عليه ما هو في اشد الحاجة اليه فيقول ” لا ” ويخوض المعركة في ساحتها الحقيقية . وهو اول قائد عربي يواجة الاستعمار بدون نظرية ، فلا تغريه التنمية الرأسمالية ويعرض عليه ماهو في اشد الحاجة اليه فيقول ” لا ” ويختار الاشتراكية . باختصار ان جمال عبد الناصر هو اول رئيس دولة في الوطن العربي فهم مشكلة الاستعمار علىحقيقتها القومية والاجتماعية وحاول ان يحلها حلاً صحيحاً وهذا هو على وجه التحديد ” خط ” عبد الناصر .
وهنا العبرة ، أبلغ العبر، لمن يريدون ان يتعلموا من تجاربهم شيئاً ينفعهم ، أو حتى للذين لا يريدون ان يذهب دم الشهداء هدراً . ان عبد الناصر قائد ثورة 1952 لم يكتشف كل هذا طبقاً لنظرية سابقة التقى عليها ” الضباط الأحرار ” في مصر . إنما اكتشفها من خلال محاولة تحقيق تلك الغاية المحدودة : تحرير مصر من الاحتلال الانجليزي والتخلف الاجتماعي . ولم يكن يملك في البداية إلا الاصرار على تحقيق هذه الغاية . واذا به من خلال عشرات المحاولات التي تجسدت في اشكال متنوعة ومختلفة ، يكتشف ان مصر التي يصر على تحريرها هي جزء من أمة لا يمكن ان تتحرر إلا معها . وان الحرية التي يصر على تحقيقها لا يمكن ان تتحقق عن طريق الرأسمالية . فنقول هنا انه اكتشف من خلال اصراره على تحرير مصر الحقيقة الموضوعية للوجود القومي ووحدة مصيره . وميزة عبد الناصر انه عندما اكتشف الحقيقة لم ينكرها ولم يتراجع عنها بل قبل التعامل مع الواقع الاجتماعي كما هو ليحرره . ولو بدأ عبد الناصر من اي قطر آخر في الوطن العربي لانتهى الا النتيجة ذاتها . فأولى بأن يعتبر الذين لا هم مثل عبد الناصر في اصراره على التحرر ولا هم حكام دولة كالجمهورية العربية المتحدة في كثافة امكاناتها  البشرية والمادية .
ولقد فقدت الأمة العربية قائد معارك تحررها في سبتمبر (أيلول) سنة 1970 والمعارك ما تزال مشتعلة . بل وحركة التحرر العربي في أدق وأخطر مراحلها . غير ان هذا لا يغبر من حقيقة مشكلة الاستعمار شيئاً . ذلك لأنها مشكلة لم  يصطنعها عبد الناصر لتنتهي معه ، بل هي مشكلة خلقها المستعمرون بما يستولون عليه لأنفسهم من الامكانات البشرية والمادية المتاحة في الأمة العربية عنوة او بالتبعية . وبما يفرضونه على الشعب العربي ، عنوة او تبعية ، من قيود تحول دون مقدرته على التطور الاجتماعي بكل ما هو متاح في أمته العربية من امكانيات بشرية ومادية لا اكثر ولا اقل . لا اكثر لأننا لا نريد ان نسلب من اي مجتمع ما يملك . ولا اقل لأننا لا نريد ان يسلب احد من  مجتمعنا مانملك . وسيظل حلها الصحيح هو ان نسترد من قبضة القوى الاستعمارية ، الظاهرة او الخفية ، كل ما يملكه مجتمعنا القومي  من مواد وبشر كما هو محدد بوجودنا القومي . وجودنا نحن لا وجود اي  مجتمع آخر . فنسخره في بناء مستقبلنا التقدمي . مستقبلنا نحن لا مستقبل اي مجتمع  آخر . والى ان تحل ليس امام الشعب العربي إلا ان يخوض معاركها بكل اسلحتها حتى النصر . أما كيف يخوضها فهذا امر متصل بالأسلوب الذي لا بد له من ان يستفيد من تجارب الهزائم السابقة . و انها لمعركة طويلة ومريرة ومعقدة ضد قوى كبيرة وقادرة وشرسة . ولكن النصر فيها لا شك فيه كما لا  شك في حتمية الحرية . وهي ، بعد ، قدر الانسان العربي الذي لا مفر منه اذ ” حتم على الانسان ، بحكم قانونه النوعي ، ان يستهدف دائماً حريته ” . والأمة العربية ليست قطيعاً من الماشية في زرائب الاقليمية ، يرعاها او يعلفها ثم يحلبها او يذبحها المستعمرون . بل هي أمة عريقة من بني الانسان لا بد لها من ان تنتصر في معركة الحرية طال الزمان او قصر . ان كل ما تقدمه لنا النظرية القومية هو انها تسلحنا بالمعرفة الصحيحة بالقوى المعادية لحريتنا ، ومواقعها ، وساحات الصر اع ضدها ، وغاياتنا من الصراع ، فنصبح بها اكثر مقدرة على اختصار ايام العبودية لتسترد أمتنا ” المقدرة على الحياة بما هو متاح في الأرض .
لا أكثر ولا أقل .





- 2 -
الوحدة .

(1)

46 ـ الوحدة والتحرر:

عرفنا من قبل ان اختصاص الشعب بالارض دون غيره من الشموب والجماعات الاخرى هو ما يسمى في علم القانون ” بالسيادة ” وان ممارسة تلك السيادة هو ما يسمى بالسلطة وان الدولة هي تلك المؤسسة التي تجسد سيادة الشعب وترسم حدود وكيفية ممارسته (فقرة 24) . وعرفنا في الفقرة السابقة ماهية الاستعمار باسلوبيه الظاهر والخفي . ومنهما نعرف ان الاستعمار الظاهر إذ يسلب المجتمع الضحية امكانياته البشرية او المادية يسلب سيادته . يسلب من الشعب سيادته لتكون للمستعمرين . ويسلب الارض التي هي محل سيادة الشعب ليكونوا هم سادتها . وان يسلب بعض هذا يسلب بعض السيادة فتكون في المجتمع الضحية سيادة ناقصة او ـ  كما يقولون في لغة القانون ـ غير مكتملة . وإذ يعود الاستعمار بأسلوبه الجديد فيفرض سيطرته على المجتمع الضحية، بشراً وأرضاً ، عن طريق التبعية فانه يعود فيسلبه كامل سيادته خفية سلباً لا تخفيه اعلام الاستقلال الشكلي . وتكون غاية التحرر هي استرداد الامكانيات البشرية والمادية المسلوبة بتصفية قوى الاستعمار والافلات من التبعية .
عندما يتم هـذا لا يكون قد تحقق من التحرر الا وجهه السلبي . الغاء العائق الذي كان يحول دون الشعب وممارسة سيادته في مجتمعه . ولو وقف الامر عند هذا الحد لكانت حصيلة التحرر سلبية . انما تصبح ايجابية فتكتمل عندما يعود الشعب الى ممارسة سيادته بعد التحرر . وليس من اللازم أن يتم هذا بمجرد تصفية القوى الاستعمارية التي كانت تسلب سيادة الشعب في وطنه . إذ قد يحدث ان تناضل الشعوب من اجل تصفية القوى الاستعمارية التي تسيطر على مجتمعاتها  من اجل الافلات من السيطرة الظاهرة او التبعية الخفية وتستعين في هذا بحلفاء يبذلون لها ما يساعدها على النصر في معاركها فاذا بها تكتشف فور التحرر من قوى استعمارية انها قد وقعت اثناء نضالها ذاته في قبضة  قوى استعمارية اخرى ، فتبدأ نضالها ضد الذين كانوا بالأمس حلفاء نضالها . ان هذا لا يحدث قليلاً بل يحدث كثيراً منذ ان انتهج الاستعمار الجديد اسلوب التبعية . وهي ذات اللعبة التي ارادت الولايات المتحدة الامريكية ان تلعبها في مصر بعد سنة 1956. فقد وقفت ضد الاعتداء المسلح وساعدت في اجلاء القوات الانجلـيزية والفرنسية والاسرائيلية لتحل هي محلها عن طريق استدراج مصر الى شرك التبعية فبدأ الصراع من اجل التحرر من جديد . وهي لعبة نجحت في اماكن كثيرة من العالم ، وفي اقطار عدة من الوطن العربي ، حيث لا نجد آثار الجيوش الأوروبية التي كانت تحرس الاستعمار ولكنا نجد التبعية للولايات المتحدة الأمريكية في أكثر من مكان وأكثر من قطر . وفي أي مكان من الوطن العربي نجد التبعية للولايات المتحدة الامريكية او ولاية قوة اخرى غيرها نفتقد سيادة الشعب العربي . من هنا تصبح اقامة ” الدولة ” التي تجسد سيادة الشعب على الارض المتحررة هو المميز لكون معركة التحرر قد حسمت لمصلحة الشعب .
ولكن اية دولة تلك التي تجسد سيادة الشعب ؟
إنها الدولة القومية ، التي ستكون ـ بدون شك ـ غير كاملة السيادة إلى أن تكون شاملة الشعب والوطن جميعاً . إنما نعرض هنا للدولة القومية وعلاقتها بالاجزاء المتحررة من الوطن العربي ، والتي جرى الأمر على تسميتها دولة الوحدة ” النواة ” . وهي علاقة ذات حدين : أولهما هو أن الدولة القومية لا تقوم ، ولا يمكن أن تقوم إلا على الاجزاء المتحررة من الاستعمار الظاهـر والاستعمار الخفي كليهما . لأنها إذ تقوم في ظل الاستعمار لا تكون إلا أداة لفرض سيادته هو وليست تجسيداً لسيادة الشعب العربي . انها ليست دولة إذ ينقصها عنصر السيادة حتى لو أسميت ـ تضليلاً ـ دولة الوحدة . وهذا الحد يصل وصلاً عضوياً بين دولة الوحدة القومية والتحرر فهما صنوان ويفصل فصلاً حاسماً بين دولة الوحدة التي لا تقوم على أسس قومية وبين دولة الوحدة القومية فهما مختلفان اختلاف العبودية والحرية . ويؤكد أن دولة الوحدة العربية ، النواة أو الشاملة ، لا تكون تحررية ، ولا تجسد سيادة الشعب العربي إلا إذا قامت متفقة مع المنطلقات القومية التي تقول إن الأمة هي تكوين اجتماعي ” يختص ” فيه الشعب بوطنه . ويكشف لنا ، بوضوح ، أن الوحدة السياسية بين الاجزاء التابعة للاستعمار هي القبضة الواحدة التي يمارس بها المستعمرون سيطرتهم ، وإن الوحدة السياسية بين جزء متحرر وجزء محتل أو تابع ليست إلا شركاً يفقد فيه المتحررون حريتهم لأن الجزء التابع لن يكون إلا ” الوسيط ” الذي يلتحم بالجزء المتحرر لتسوى إليه تيارات التبعية الظاهرة أو الخفية .
أما الحد الثاني للعلاقة بين الدولة القومية والاجزاء المتحررة  فهو أن الدولة القومية (النواة) هي وحدها التي تجسد سيادة الشعب العربي على الارض المتحررة . وهو ما يعنى تماماً أن الاجزاء التي تتحرر ولا تتوحد تبقى مسلوبة السيادة بقدر ما يقع خارج حدود كل جزء منها من الوطن العربي . ويبقى الشعب العربي خارج كل جزء متحرر لم تشمله الوحدة مسلوب السيادة بقدر هذا الجزء . وهنا نلتقي بأول آثار السلب (النقص) التي تحدثها التجزئة بعد أن عرفنا السلب الذي يحدثه المستعمرون . وهي آثار لا يمكن أن ندركها إلا على أساس المنطلقات القومية التي تقول ان الأمة هي تكوين اجتماعي ” يشترك ” به الشعب في وطنه ، وبه تصبح ” السيادة ” مشتركة بين أفراد الشعب فلكل فرد فيه حق السيادة على كل ذرة من الوطن وهكذا نرى ـ من الموقف القومي ـ كيف أن ” التجزئة ” ، تجزئة الأرض المتحررة تحرم الشعب العربي في كل دولة اقليمية من ممارسة سيادته علىالأرض العربية التي تقع خارج حدودها ، وتحرم الشعب العربي خارج حدودها من ممارسة سيادته على أرضه فيها ، فتنتقص من ” سيادة ” الشعب العربي داخلها وخارجها معاً . ان هذا هو الترجمة القانونية ( الحقوقية ) لما سبق أن قلناه من ان الاقليمية تهدر حق الشعب العربي في وطنه داخل كل اقليم وخارجه معاً ( فقرة 30 ) وما تهدره هنا هو ” حق السيادة ” الذي من اجله تدور معارك التحرر .
وبين التجزئة والاستعمار علاقات أخر .
إذ نستطيع أن نقول ، بحق ، ان المستعمرين لم يكونوا يعبثون عندما مزقوا الامة العربية الى أجزاء منفصلة ، وأنهم لابد كانوا يحققون  بتلك التجزئة ما يتفق مع مصالحهم . ولايستطيع أحد أن يحتج على ما نقول بأن القسمة وقعت فيما بين المستعمرين أنفسهم لأنهم متعدون ، ذلك لأن القوى الاستعمارية لم يلبث كل منها ان عاد فجزأ نصيبه من الامة العربية الى تلك الاجزاء التي تقوم عليها الان الدول العربية . نعم ، لا يستطيع أي انسان في الوطن العربي أن يزعم ان قد كانت له أو لأجداده ـ قبل خمسين عاماً فقط ـ  دولة بما تعنيه الدولة من اختصاص الارض أو سيادة عليها . ولايستطيع أحد أن يزعم أنه هـو وأجداده قد اختار الحدود التي تقوم فيها دولته . كانت الحدود كل الحدود ، تحدد اما ” بفرمانات ” صادرة من الخليفة أو بمواقع الجنود الاوربية الغازية ، أو بالاتفاق بين كل تلك القوى الميسطرة . أما الشعب العربي فقد كان بعيدا عن هذا كله . ولو لم نكن نعرف من علاقة الـتجزئة بالاستعمار الا هذه العلاقة لكان اول ما نفعله ـ فور التحرر ـ هو ان نطهر الأرض من التجزئة كأثر باق من آثار المستعمرين تمثل ، وما تزال تمثل بصماته كما رسمتها مصالحه .
وبين الوحدة والتحرر علاقات أخر .
ففي هذا العصر، عصر الأمبريالية والقنابل الذرية ، لا نرى أملا، أي أمل ، لأية دولة عربية ، في أن تحافظ على تحررها أو أن تدافع عن حريتها . ان اثمان أدوات التقدم الاجتماعي الحديثة باهظة الى درجة يصبح الحصول عليها بدون تبعية ، ولو كانت تبعية المال وقطع الغيار ، مطلباً عسير التحقق للدول النامية إلا أن تكون في الدول النامية موارد مالية تسمح بشرائها بدون تبعية ، وافضل من هذا تسمح بصنعها بدون تبعية . أما تكاليف الدفاع عن الحرية فلا يكفي فيها حتى المال ولو كان موفوراً . فقد تستطيع دولة عربية أو أخرى أن تشتري السلاح وخبراء التدريب ولكنها لن تجد كفايتها من المقاتلين على الاسلحة التي اشترتها . المقاتلين دفاعاً عن التحرر الا لدحر القوى ” العظمى ” ولكن بمجرد أن يكون الاعتداء عليها أمراً باهظ التكلفة ، أي لمجرد ألا تكون بلادهم مباحة لمن يريد . ولنتأمل ما هي القوى ” العظمى ” في هذا العصر . انها القوى التي استمدت عظمتها ، لا من حضارتها ، ولا من ثقافتها ، ولكن من مقدرتها المادية والعلمية على حشد أعظم الامكانيات لتنفيذ ما تريد . في هذا العصر تناط العظمة بحجم الموارد ، فهل ثمة امل للدول العربية ، أية دولة عربية ، في ان تحافظ على حريتها إلا بمثل حجم موارد أمتها العظيمة ؟ ..
ومع هذا ، 

فنحن لا نبحث عن العظمة . اننا ما نزال نبحث في مشكلات التخلف العربي : عجز الشعب العربي عن أن يوظف كل الامكانيات البشرية والمادية المتاحة في امته العربية لا أكثر ولا أقل . ثم اننا اذ نريد القوة لنتحرر أو نريد السلاح لنحمي أو نريد الادوات لنبني أو نريد العلم لننمي فانا لا نملك إلا الامكانيات البشرية والمادية المتاحة في امتنا العربية لنحصل منها ، وبها ، على ما نريد . ونحن نريد أن نثبت  ـ هنا ـ انه أيا كان ما نريد ، وفي أي مجال أردنا ، وفي كل مكان من الوطن العربي ، وتحت كل الظروف ، ستبقى مشكلة التجزئة مشكلة تخلف عربي ، تقوم التجزئة فيها حائلا بين الشعب العربي وبين تحقيق ” كل ” ما يمكن ـ موضوعياً ـ تحقيقه ، فهي قيد على ارادته تسلبه ” بعض ” مقدرته .

(2)

47  مشكلة التجزئة : 

كيف تكون التجزئة في كل الظروف مشكلة تخلف في الامة العربية ؟
ان العلم هو الذي يقدم الاجابة . ويقدمها ، بوجه خاص ، ذلك العلم ذو القوانين الحديدية : علم الاقتصاد السياسي . وعندما نرى أن في هذا العلم العظيم وقوانينه الحديدية تأكيداً لصحة نظريتنا القومية تتأكد لنا ـ مرة اخرى ـ صحة منهجنا والعلاقة الوثيقة بين القومية والتقدم الاجتماعي . وكما ترجمنا ـ من قبل ـ نظريتنا الى لغة القانون لنفهم المضمون القومي ” لحق السيادة ” . نترجمها ـ هنا ـ الى لغة الاقتصاد لنفهم المضمون التقدمي للوحدة القومية .
ان الامة العربية بعنصريها الشعب والوطن تصبح ” منطقة اقتصادية ” تتميز ” بنيتها الاقتصادية ” بالعلاقات والنسب القائمة بين عناصر الانتاج المتاحة فيها . أما حاجات الشعب العربي المادية والثقافية المتجددة أبداً فهي مصدر عنصر ” الطلب ” المتميز بدوره بانه متنوع ومتجدد مع قابليته للاشباع في موضوع معين (قانون المنفعة الحدية) . والامكانيات البشرية والمادية المتاحة في الأمة العربية هي مصدر عنصر ” الموارد ” . الشعب العربي هو مصدر ” العمل ” . والامكانيات المادية (الأرض والمواد الخام والأدوات المتراكمة تاريخياً) تمثل” رأس المال ” أما التناقض بين الواقع الاجتماعي وبين ما يريده الشعب فيه فمرجعه الى ” الندرة ” أي عدم كفاية الموارد لاشباع الحاجات . والمشكلة التي يثيرها هذا التناقض هي عدم اشباع حاجات الشعب العربي بالموارد المتاحة في الأمة العربية فهي ” المشكلة الاقتصادية “ كما يعبر عنها في علم الاقتصاد . ويعبر علماء الاقتصاد عن كون الصراع الذي تثيره المشكلة يثور في الانسان نفسه بقولهم أن الحاجة ” حالة نفسية ” (ألم ووعي بسببه وارادة التحرر منه) . وحلها الجدلي يتم عن طريق تغيير الواقع ” بالتأليف ” بين الموارد المتاحة في الأمة العربية ليخرج من تفاعلها معاً شيء لم يكن موجوداً من قبل هو ” السلعة ” أو ” المنتج ” . ويتوقف النجاح في حلها على معرفة واحترام حتمية القوانين التي تحكم الأشياء والأنواع . وهو ما يعرف باسم ” فنية الانتاج ” . وعملية ” التأليف ” هذه التي تختار فيها العناصر القابلة بحكم قوانينها النوعية للتفاعل على الوجه الذي يؤدي الى المنتجات المطلوبة هو  عملية ” الانتاج ” . وذلك الجزء من الموارد المادية الذي تتم به عملية الانتاج هي ” أدوات الانتاج ” . والحل الصحيح للمشكلة الاقتصادية كما هو محدد موضوعياً بالواقع العربي ذاته هو ” الناتج الحدي ” الذي يمكن الحصول عليه من كل عنصر من عناصر الانتاج المتاحة فعلاً . وقمة النجاح هو تحقيق هذا الناتج الحدي لنصل الى ” الناتج الكلي ” الأمثل من الموارد العربية .
تلك هي الترجمة الاقتصادية للنظرية القومية ، مع التجاوز عما لا يدخل من عناصر الوجود القومي في مضمون المشكلة الاقتصادية (الحاجات غير الاقتصادية ، وغير الحالة ، والموارد الحرة … الخ) . ولنتجاوز ايضاً عن تقييم سابق للتجزئة فنفترض أحسن الفروض بالنسبة اليها ثم النصر في معارك التحرر . ولا تبعية . ولا خطر من عودة الاستعمار . وفي ظل التحرر تكون كل الموارد المتاحة في الجزء المتحرر (الدولة الاقليمية) متاحة للشعب العربي فيه . وبتوالى تحرر الاجزاء الأخرى يتوالى تحرر أجزاء أخرى من الموارد لتصبح متاحة لجزء آخر من الشعب العربي ، وبتحرر كافة أجزاء الأمة العربية تصبح كافة الموارد المتاحة فيها متاحة للشعب العربي . لو تم كل هذا ـ ولو بسلسلة من المعجزات ـ سيكون اول ما هو جدير بالملاحظة هو ان الموارد المتاحة في الأمة العربية هي هي بذاتها الموارد المتاحة في الأجزاء ثم تبدأ مرحلة الانتاج ، لنصل بذات الموارد الى الناتج الكلي . من هذه الملحوظة الأولى ـ ومن اجل تبسيط الحديث ـ نريد ان نعقد المقارنة . المقارنة بين الناتج الكلي لذات عناصر الانتاج في ظل الوحدة وفي ظل التجزئة .
مع ثبات باقي عناصر الانتاج  تصبح زيادة الناتج الكلي متوقفة على ” فنية الانتاج ” (تقسيم العمل ، واستخدام ادوات الانتاج الحديثة ، والخبرة العلمية ، و المهارة ، والتنظيم … الخ) . و لكي نستطيع أن نعقد المقارنة بين التجزئة والوحدة لا بد لنا من تثبيت عنصر فنية الانتاج ايضاً ، فنفترض ان  فنية الانتاج في كل جزء من الأمة العربية قد وصلت درجة من الكفاءة تحقق بها ” الناتج الحدي ”  لعناصر الانتاج المتاحة للشعب العربي فيه ، وبالتالي حقق كل جزء الناتج الكلي الأمثل بالنسبة الى موارده . ولنتذكر أن كل هذه فروض مجردة  ولكنها فروض لازمة لبيان الآثار الخاصة بعنصر واحد من العوامل التي تؤثر في الناتج الكلي . ففي الواقع تتفاعل عناصر كثيرة وتساهم جميعاً في حصيلة الانتاج النهائية . وما يكون من قصور في أي  عنصر سيكون ذا أثر سلبي في الناتج الكلي . ومن هنا افترضنا ان كافة العناصر ثابتة عند حد كفاءتها الامثل حتى نستطيع ان نعرف الآثار التي يحدثها العامل الذى نبحثه : ” التجزئة . ثم نسأل : اذا تحققت كل هذه الفروض فهل  يكون ” مجموع ” الناتج الكلي في الدول العربية مساوياً للناتج الكلي فيما لو كان الانتاج يتم في ظل دولة الوحدة ؟
والاجابة : لا. فمن ذات عناصر الانتاج وبأقصى قدر من الكفاءة الفنية يزيد الناتج الكلي في ظل الوحدة عنه في ظل التجزئة . لماذا ؟… من أين يجيء الفرق ؟..
لنعرف أولاً القوانين التي تضبط حركة الانتاج والتي تسمى ” قوانين الغلة ” . تقول أن أية زيادة في عناصر الانتاج كلها ، أو بعضها ، تؤدي الى زيادة الناتج الكلي بنسبة اكبر في مرحلة اولى (قانون الغلة المتزايدة)  ثم تصبح نسبة الزيادة في الناتج الكلي مساوية لنسب الزيادة في عناصر الانتاج في مرحلة تالية (قانون الغلة الثابتة) . ثم يبدأ مرحلة ثالثة تقل نسبه الزيادة في الناتج الكلي عن نسبة الزيادة ني عناصر الانتاج ويطرد تناقصها الى ان تصبح ” صفراً ” . أي تصبح الزيادة الاخيرة في عناصر الانتاج، ومن باب أولى أية زيادة أخرى ، بدون غلة ، تصبح عناصر ” مبددة ” (قانون الغلة المتناقصة) . هذا بالنسبة الى الناتج الكلي . ومرجعه في زيادته أو في ثباته أو في نقصه الى اقتراب كل عنصر من عناصر الانتاج من ” ناتجه الحدى ” . ففي ظروف الاستخدام الامثل لعناصر الانتاج يرتفع ناتجها الحدى فيتزايد الناتج الكلي ، وعندما تصل الى ” الناتج الحدى ” يثبت الناتج الكلي، لتبدأ العناصر المضافة بعد هذا في الابتعاد عن الناتج الحدي حتى تصل الى درجة الصفر . ومؤدي هذا ان تلك العناصر تكون مستخدمة استخداماً ناقصاً ، ثم اكثر نقصاً ، الى أن تصبح غير منتجة أصلاً بمعنى أنها لو سحبت من عملية الانتاج لما تأثر الناتج الكلي . وعلى هذا يكون الاستخدام الأمثل لعناصر الانتاج هو ما يصل بكل عنصر الى ناتجه الحدي من ناحية ، ثم الحيلولة ـ من ناحية أخرى ـ دون دخول الانتاج مرحلة الغلة المتناقصة . أي الحيلولة دون تبديد عناصر الانتاج المتاحة . ويكون هذا بالتحكم المستمر في عناصر الانتاج أو في كيفية استخدامها .
ذلك لأنه للحصول على ” وحدة ” معينة من المنتج في فترة زمانية معينة (دالة الانتاج) يقتضي الأمر ـ كما عرفنا ـ ” التأليف ” بين عناصر متعددة بنسب مختارة . واول وسيلة لزيادة الناتج الكلي (استخدام قانون الغلة المتزايدة) هي زيادة جميع عناصر الانتاج بنسبها المختارة فيزيد الناتج الكلي بقدر ما زدنا من عناصره . ولكن عند حد معين يبدأ قانون الغلة المتزايدة في فعاليته ، فتكون نسبة الزيادة في الناتج الكلي أكبر من نسبة الزيادة في عناصر الانتاج أي نصل إلى ما يعرف ” بالانتاج الكبير ” . وفي ” الانتاج الكبير ” يرتفع الناتج الحدي لعناصر الانتاج وبالتالي يزيد الناتج الكلي لذات العناصر . ويرجع هذا الى ما يسمى ” وفورات الانتاج الكبير ” وهي ” وفورات داخلية ” تنتج عما يسمح به الانتاج الكبير من تقسيم أفضل للعمل يرفع مقدرته الانتاجية واستخدام أفضل لأدوات الانتاج الحديثة وتنظيم أفضل للإدارة . ثم ” وفرات خارجية ” تنتج عما يسمح به ” الانتاج الكبير ” من ربط عدة فروع انتاج متخصصة في خط انتاجي واحد يخدم بعضها فيه بعضاً وتتكامل فيه عناصر الانتاج المتاحة في كافة الفروع على وجه يوفر العناصر المشتركة ، فلا تتكرر في كل فرع ، ويرؤمن لكل فرع ما يلزمه من مواد خام او منتجلت نصف مصنوعة او مصنوعة تقوم بها فروع الانتاج الأخرى طبقاً للانماط المطلوبة فيطرد الانتاج بأكبر كفاءة ممكنة . وواضح ان  الانتاج الكبير ” يتوقف على حجم الموارد الاقتصادية المتاحة (عرض الموارد) .
هذه نقطة أولى .
ومنها تبين انه مع افتراض الاستخدام الكامل لكل موارد الانتاج المتاحة في كل جزء من الوطن العربي وبأرقى كفاءة فنية ، تبقى أغلب الدول العربية محرومة ، بحكم حجم الموارد المتاحة فيها ، من الاستفادة من وفورات الانتاج الكبير إذ أن ” بنيتها الاقتصادية ” لا تسمح بالانتاج الكبير . ومؤدى هذا انها حتى إذا وصلت من الكفاءة الانتاجية ما يحقق الناتج الحدي لعناصر الانتاج فيها ، فإن هذا الناتج الحدي سيكون أقل من الناتج الحدي لذات العناصر لو كان الانتاج يتم في ظل الوحدة . إذ في ظل الوحدة تصبح عناصر الانتاج تلك أجزاء في ” بنية اقتصادية ” أكبر تسمح بالانتاج الكبير فيرتفع نتاجها الحدي وبالتالي يرتفع ناتجها الكلي . لأن حجم الموارد المتاحة (عرض الموارد) في ظل الوحدة سيكون أكبر بكثير من حجمها في كل جزء على حدة . مع ملاحظة أن هذا الحجم الكبير سيكون متاحاً ( معروضاً ) لاستخدامه بالنسبة لأي جزء من الأمة العربية . فالوحدة هنا لا تسلب أي جزء من الأمة العربية شيئاً من موارده المتاحة فيه ، ولا تنتقص من بنيته الاقتصادية شيئاً ، بل تضيف الى موارده موارد أخرى تصبح متاحة للشعب العربي فيه ، وتضاعف من بنيته الاقتصادية . ويتم هذا بالنسبة الى الاجزاء جميعاً ، وفيها جميعاً يزيد الناتج الكلي بقدر ما زاد في عرض الموارد . وتكون الحصيلة النهائية زيادة في الناتج الكلي لذات عتاصر الانتاج في ظل الوحدة عنه في ظل التجزئة . هذا الفرق بين الناتج الكلي في ظل التجزئة والناتج الكلي في ظل الوحدة ، لذات عناصر الانتاج وبأرقى قدر من الكفاءة في الدول العربية هو ” بعض ” ما تسلبه التجزئة من الشعب العربي في تلك الدول فتنتقص من مقدرته على التقدم الاجتماعي بقدر ما تسلب . نقول ” بعض ” ما تسلب إذ ان تلك ليست إلا نقطة أولى . قد لا تنطبق على واحدة أو اخرى من الدول العربية ” الكبيرة ” حيث يمكن أن تقوم مشروعات الانتاج الكبير نسبياً .
فلننتقل اذن الى النقطة الثانية .
هنا لا يتم استخدام قانون الغلة المتزايدة عن طريق زيادة عناصر الانتاج جميعأ بنسبها المختارة ، وانما يتم عن طريق زيادة بعض عناصر الانتاج مع  ثبات بعضها . في هذه الحالة تكون الزيادة في  الناتج الكلي منوطة بالعناصر ” المتغيرة ” . وكل عنصر يضاف يصبح عنصراً ثابتاً الى ان يصل الى ناتجه الحدي وتبدأ مرحلة تناقص الناتج الكلي إلا اذا امكن اضافة عناصر متغيرة جديدة . وترجع فعالية قانون الغلة المتزايدة في هذه الحالة الا ما يسمى ” تضافر ” عناصر الانتاج ، بمعنى ان تزايد الناتج الكلي لا يرجع الى  مجرد الزيادة في العناصر المتغيرة ، بل يرجع الى كل عناصر الانتاج الثابتة منها والمتغيرة . وهو ما يعني ان ” الناتج الحدي ” لذات العناصر الثابتة يرتفع مع تغير العناصر الاخرى . ومرجع هذا الى انه طبقأ ” لحتمية القوانين التي تضبط الاشياء ” و ” التأثير المتبادل فيما بينها ” يتوقف الناتج الحدي  من كل عنصر على نوع العناصر الاخرى . وهو لا يعطي ، مهما تكن الكفاءة الفنية ، اقصى ناتج حدي إلا في نطاق تفاعل مع عناصر اخرى معينة او قابلة للتعيين . ويكون الاستخدام الامثل لكل عنصر هو ” التأليف ” بينه وبين تلك العناصر التي تتيح له ان يصل الى أقصى ناتج حدي تسمح به قوانينه النوعية . كيف يمكن الوصول الى هذا ؟.. بان يكون اكبر قدر من العناصر البديلة متاحاً . وهي بديلة بمعنى انه يمكن ان يحل بعضها محل بعض . ولكن عناصر الانتاج ـ وهذه احدى حقائق علم الاقتصاد ـ لا تكون بدائل كاملة فإن كفاءة كل منها تختلف عن الآخر ويسمى ذلك ” الميزة النسبية “. ويكون الناتج الحدي لأي عنصر متوقفأ على تأليفه مع اكفأ العناصر البديلة . وهذا يتوقف بدوره على تنوع الموارد المتاحة (مرونة عرض الموارد) . وهكذا نعرف ان الاستخدام المستمر لقانون الغلة المتزايدة والحيلولة دون الخضوع لقانون الغلة المتناقصة لا يتوقف على حجم الموارد ، فحسب بل يتوقف ايضأ على مرونة عرضها ، أي عدم وجود مواقع تحول دون استخدامها على الوجه الذي يتفق مع ميزتها النسبية .
ومنه نتبين انه مهما تكن الموارد المتاحة في اية دولة عربية متنوعة فانها اقل مرونة منها في ظل الوحدة . وفي ظل الوحدة حيث تكون ذات الموارد المتاحة في الأجزاء ، ولكن كلها معأ ، متاحة كاضافات وبدائل لعناصر الانتاج في كل جزء يصبح عرض الموارد بالنسبة الى كل جزء اكثر مرونة . وتؤدي هذه المرونة لا الى استخدام الموارد ، التي كانت ” خارجية ” ثم اصبحت متاحة ، في الظروف التي تتفق مع ميزتها النسبية ، فقط ، بل ايضأ الى تحقيق ظروف الانتاج التي تتفق مع الميزة النسبية  لذات الموارد ” الداخلية ”  في كل جزء . وبالتالي ترفع الناتج الحدي لعناصر الانتاج الثابتة في الأجزاء  من ناحية والناتج الحدي لعناصر الانتاج المتغيرة من ناحية اخرى . بالوحدة ـ هنا ايضأ ـ لا تسلب عناصر الانتاج في أي جزء من الأمة العربية شيئأ من ميزاتها النسبية ، ولا تنتقص من كفاءتها الانتاجية ، بل تضيف اليها ما يحقق ميزتها النسبية ويرفع من كفاءتها . ويتم هذا بالنسبة الىعناصر الانتاج في الاجزاء جميعاً . وفيها جميعاً يزيد الناتج الكلي بقدر ما تزيد مرونة عرض الموارد . وتكون الحصيلة النهائية زيادة الناتج الكلي في ظل الوحدة ، لذات عناصر الانتاج، عنه في ظل التجزئة. هذا الفرق بين الناتج الكلي في ظل التجزئة والناتج الكلي في ظل الوحدة ، لذات عناصر الانتاج وبأرقى قدر من الكفاءة في الدول العربية ، هو ” بعض آخر ” مما تسلبه ” التجزئة من الشعب العربي في تلك الدول فتنتقص من مقدرته على التقدم الاجتماعي  بقدر ماتسلب .
كانت غاية هذه الفروض المجردة ان تثبت الاثر السالب للتجزئة حتى عندما تصل كل دولة عربية إلى أقصى درجة من التقدم ، لترى باكبر قدر من الوضوح ، انه طبقاً لقوانين حتمية ، موضوعية ، يمكن اكتشافها واستخدامها ولا يجدي تجاهلها شيئاً ، تمثل التجزئة ذاتها ، وبدون تدخل أي عامل اخر، مشكلة تخلف في الامة العربية ـ فهي تسلب الشعب العربي بعض مقدرته على أن يتقدم بقدر ما هو متاح في أمته من امكانيات بشرية ومادية. وهي تسلبه في كل جزء من الأمة العربية مهما تكن الامكانيات البشرية والمادية المتاحة في ذلك الجزء ، أي حتى لو تفجر البترول في كل  شبر من الأرض العربية … إذا كان البترول هو الذي  يداعب احلام الاقليميين . ففي هذه الحالة أيضاً يبقى عائد البترول في ظل الوحدة أكبر من مجموع عائده في الأجزاء الاقليمية . ويمكننا أن نقول الشيء ذاته عن عائد استثمار الأموال ، وعائد زراعة الأرض ، و عائد ا ستخراج المعادن ، وعائد الصناعة ، وعائد النقل .. الخ ، إذ أن تلك قوانين تحكم حركة الإنتاج أياً كان موضوع الانتاج .
من حقنا الان أن نعود إلى الواقع العربي في هذا النصف الثاني من القرن العشرين لنرى كيف أن التجزئة لا تحول دون بلوغ عناصر الانتاج أقصى ناتجها الحدي بل انها تبدد الموارد المتاحة وتحول دون استخدامها اصلاً . انها تحول قدراً كبيراً من الامكانيات البشرية والمادية المتاحة في الأمة العربية الى امكانيات ” عاطلة ” . وحتى لا تحول الحديث عن ” نظرية الثورة العربية ” الى حديث في الاقتصاد السياسي . سنضرب لهذا التبديد مثلاً من عنصر ” العمل ” وحده لنرى كيف ان التجزئة تكاد تحول نصف الشعب العربي العامل الى عاطلين ، او أنها تحولهم فعلاً ، فتشل مقدرة الشعب العربي على التقدم بقدر ما تسببه من ” بطالة ”   




(3)

48  ـ التجزئة والبطالة : 

نفترض البطالة ابتداء المقدرة الذاتية على العمل فهي لا تقوم بالنسبة إلى الأطفال والشيوخ والعجزة . ثم يختلف الرأي في تعريف البطالة فيما بين القادرين على العمل والدارج في أدب الاقتصاد السياسي التقليدي أن البطالة هي عدم العمل مع الرغبة فيه ليستبعدوا من العاطلين أولئك الذين لا يرغبون في العمل أصلا . وواضح انهم ، في هذا، يربطون العمل بالاجر لأن الذين لا يرغبون في العمل هم الذين تتوافر لديهم المقدرة على الانفاق بدون أن يعملوا أي الاغنياء بمواردهم عن الاجر . وربط العمل بالأجر يضيف إلى العاطلين ربات البيوت وأفراد العائلة الذين يعملون في أو يساعدون آباءهم بدون أن يتقاضوا أجوراً . وهو خطأ يتضح عندما يريد رب العائلة أو ربة البيت أن يقوم أخرون بما تقوم به ربة البيت أو أفراد العائلة . عندئذ سيتقاضى من يحلون محلهم في ذات الاعمال أجوراً مقابل ما يعملون .. هو اذن عمل انما يختلف مقابله تبعاً لما إذا كان القائم به فرد من العائلة ام فرد من خارجها . يتقاضى الغريب أجره نقداً ثم ينصرف ، أما أفراد العائلة فيعود اليهم بالمشاركة في الدخل وتبادل الخدمات والتضامن والامن في رحلة الحياة الطويلة، فهم ليسوا عاطلين .
والواقع من الأمر أن البطالة ليست وثيقة الصلة بالعمل من حيث هو جهد مبذول كما يبدو من ظاهر الأمور. إذ أن كل الناس يعملون ، في مجال أو اخر ، على وجه أو اخر ، لتحقيق غاية أو اخرى ، يبذل الناس جهوداً غير مقطوعة ، ذهنية أو يدوية ، ولا يستطيعون أن يفعلوا غيرهذا بحكم قوانينهم النوعية (فقرة 18) . ومن هنا نستطيع أن  نقول أنه إذا كانت البطالة هي التوقف عن العمل الذهني أو اليدوي فلا يوجد على الأرض عاطلون ، إلا العاجزون عجزاً كلياً ، وهم قلة نادرة .
إنما يصبح للبطالة مفهوم عندما يكون العمل هو ” الجهد المبذول في الانتاج الاقتصادي ، مع ملاحظة أن الانتاج هو تحويل الموارد المتاحة الى منتجات مطلوبة لاشباع حاجات قائمة . وأن المنتجات قد تكون منتجات مادية أو ثقافية أو خدمات  تصل بها المنتجات الى من هو في حاجة إليها . فالعمل على هـذا الوجه هو مساهمة بالجهد البشري في ” المشكلة الاقتصادية ” التي تثيرها الندرة .  وبهذا يدخل العمل عنصراً في عملية الانتاج . وتكون البطالة هي خروج العمل من عملية الانتاج فترات من السنة (البطالة الموسمية) أو عند أزمات الكساد (البطالة الدورية) أو عند تغيير اسلوب الانتاج (البطالة الفنية) أو امكانية خروجه بدون أن يتأثر الانتاج ( البطالة المقنعة) . وعلى هذا الوجه يقسمون البطالة الى أنواع في كتب الاقتصاد السياسي . وهو تقسيم لا يفيدنا كثيرآ في معرفة العلاقة بين التجزئة والبطالة في الوطن العربي . فالبطالة الدورية ظاهرة مرتبطة بدرجة متقدمة من النمو الرأسمالي والرأسمالية في الوطن العربي ليست نامية الى حد ان تفرز أزماتها . وما تسببه الازمات الدورية قي النظام الرأسمالي العالمي من بطالة في بعض الاقطار العربية ليس ظاهرة عربية إنما هي أثر من  آثار التبعية الاقتصادية للقوى الرأسمالية الاجنبية . أما البطالة الفنية التي تنتج عن تطور أدوات الانتاج على وجه يستغني فيه الانتاج عن بعض قوة العمل ، أو تطورها بمعدل من السرعة والاتساع يحول بين بعض العاملين وبين اكتساب المهارة  اللازمة للعمل عليها فلا وجود لها في الوطن العربي حيث ما تزال أدوات الانتاج البدائية مستعملة وحيث لا يتوافر في الدول العربية فائض اقتصادي يخصص لتطويرصناعة أدوات الانتاج أو لشراء المستحدث منها فلا تغير أدوات الانتاج فيها إلا عندما تستهلك ـ أما البطالة الموسمية التي يقال أنها لصيقة بالانتاج الزراعي تبعا لمواسم الزرع والحصاد فليس مرجعها إلا أنها ” نوع ” خاص من البطالة بل الى أننا ـ في الزراعة ـ نحدد الفترة الزمانية التي تتخذها مقياسأ لدالة الانتاج بعام كامل فيبدو الناس أنهم عاملون بعض العام وعاطلون بعضه الاخر ـ  في حين أننا لو طبقنا هذا المقياس على فروع الانتاج الاخرى لوجدنا ما يسمى البطالة الموسمية غير مقصورة على الزراعة . ففي مجالات الصيد ، و المباني ، والسياحة ، والصناعات القائمة عليها كحلج القطن وتعبئة التمر، وعصر الزيتون والنقل ، والفنادق … تقوم البطالة الموسمية بهذا المعنى . بل إنها قائمة حتى في مجالات الانتاج المستمرة بالنسبة لقطاع من العاملين يكفون عن العمل فترة كل عام وأن كانوا يتقاضون اجورهم (الاجازات) . تبقى البطالة المقنعة وهي ـ فيما نرى ـ واحدة من حالتين تتحقق فيهما البطالة : البطالة الظاهرة وا لبطالة المقنعة .
أما البطالة الظاهرة فظاهر أمرها . انها عدم القيام بأي عمل منتج مع المقدرة عليه . ويرجع هذا النوع من البطالة لسببين كثيراً ما يتفاعلان ويغذي أحدهما الآخر: عدم وجود مجاال للعمل المنتج (فرص عمل) أو توافر موارد للانفاق بدون عمل . في الحالة الاولى يلجأ القادرون على العمل الى الحصول على موارد للانفاق عن طريق العمل غير المنتج : السرقة ، والنصب والشحاذة ، والقوادة ، والمقامرة ، والدعارة … الخ . وفي الحالة الثانية يتحول القادرون على العمل الى قوة استهلاكية فـينفقون أموالهم في الاشباع المباشر لحاجاتهم عن طريق شراء السلع التي أنتجها غيرهم . ولما كانوا عاطلين فإن كل وقتهم وجهـدهم يكون مبذولا في اشباع رغباتهم . ومن هنا يلتف حولهم العاطلون لأنهم لا يجدون عملاً ليحصلوا منهم علىموارد انفاقهم بسرقتهم أو النصب عليهم أو التسول منهم أو المقامرة معهم أو اشباع رغباتهم . فى الدعارة مباشرة أو عن طريق ” التوريد ” … ويكاد يكون من القوانين الاجتماعية أنه حيث توجد البطالة لانعدام فرص العمل توجد الجرائم (العمل غير المنتج) ، وحيث توجد البطالة لانعدام الحاجة الى العمل يوجد المجرمون والضحايا معاً .
والمثال الحي لهذا النوع من البطالة هو بعض الدول والدويلات العربية التي تعتمد في دخلها على عائد البترول وتحول بنياتها الاقتصادية بدون استثماره في مشروعات انتاجية . هنا يعمل نفر قليل أعمالاً منتجة ، كثيراً ما يكون من الوافدين اليها من خارجها ، بينما تظل البقية من الناس مستغنية عن العمل طوال الوقت ( بطالة كاملة ) أو اكثره ( بطالة ناقصة ) اتكالاً على الأموال النقدية التي توزع عليها من عائد البترول على أسس عائلية او عشائرية أو قبلية او إدارية . ويكفي عائد البترول في بعض الحالات في بعض الحالات التي تحول الشعب كله الى جماعة من العاطلين المستهلكين لما ينتجه غيرهم. ان البطالة هناك مختفية تحت ركام الرفاهية الاستهلاكية . وأسباب التخلف ما تزال قائمة وراء جبال السلع المستوردة . وهناك نلتقي بأولى علاقات التجزئة بالبطالة . ففي تلك الدويلات يمثل عائد البترول دخلاً نقدياً يتجاوز بكثير طاقة البنية الاقتصادية على الاستثمار . ولما كان رأس المال النقدي عنصراً من عناصر الانتاج فهو يخضع لقوانين الغلة التي عرفناها . فع ثبات حجم الموارد المادية والبشرية، وهي ضئيلة هناك ، تصبح كمية الانفاق المنتج ضئيلة و يصبح ثمة فائض نقدي كبير متاح فيها. ولما كانت التجزئة تقيم حواجز سياسية و اقتصادية وقانونية تحول دون استثمار ذلك الفائض في مشروعات الانتاج في باقي أجزاء الامة العربية  فيكون متاحأ إما للاقراض وإما للاستهلاك . اما عن الاقراض فحصيلته النهائية هي زيادة الفائض النقدي بقدر ما يضاف من فوائد الى القروض، فيعود راس المال وفوائده معاً ليصبحا متاحين للوجه الوحيد الباقي ، الاستهلاك . ومع تضاعف موارد الانفاق بدون عمل تتضاعف البطالة الظاهرة بنوعيها ويتحول قطاع نامي من القادرين على العمل الى قطاع من العاطلين السفهاء تحيط  بهم قطاعات نامية من اللصوص والنصابين والمتسولين والمقامرين والقوادين … الخ . اننا لا ندافع هنا عن الفضيل ولكن نكتشف العلاقة بين التجزئة والبطالة، فاذا كنا قد اكتشفنا ان ثمة علاقة بين التجزئة والبطالة التي هي بؤرة الرذائل جميعاً فان على الذين تهمهم الفضيلة ان يدركوا ان الوحدة هي الحل لمشكلة التجزئة . ويبقى ان يدرك الذين يرون الاموال العربية يبددهـا العاطلون ان الوحدة لا تسلب الشعب العربي في دول البترول شيئاً . انها اذ تتيح للاموال فرص الاستثمار المنتج تحول العإطلين في تلك الدول الى منتجين .
ان تكن البطالة الظاهرة تحرم الشعب العربي من بعض امكاناته البشرية فتنتقص من مقدرته على التقدم الاجتماعي بقدر ما يتبدد من قوة العمل في هذه البطالة ، فان ذلك قدر ـ على اي حال ـ محدود . وانما الذي يفتك بقوة ” العمل ” العربي ويكاد يشل مقدرة الشعب العربي على التقدم الاجتماعي المتناسب مع ” عرض العمل ” في الامة العربية ، هو البطالة المقنعة .
ولكل ندرك مدى خطورة البطالة المقنعة في الوطن العربي وعلاقتها الوثيقة بالتجزئة ، ينبغي أن نتذكر أن ” العمل ” من حيث هر عنصر من عناصر الانتاج في يخضع ناتجه للقوانين الثلاثة التي عرفنا. قانون الغلة المتزايدة حيث تؤدي زيادة عدد العاملين الى تزايد الناتج الكلي  . ثم قانون الغلة الثابتة حيث تؤدي نسبة الزيادة في عدد العاملين إلى نسبة مساوية لهـا في الناتج الكلي . ثم  قانون الغلة المتناقصة حيث تتناقص نسبة الزيادة في الناتج الكلي مع كل عامل جديد الى أن تصبح صفراً . أي أن يصبح العامل الاخير، وكل عامل آخر، عاملا غير منتج وان كان يتقاضى أجراً . كل هذا مع ثبات باقي عناصر الانتاج . وتبدأ البطالة المقنعة في الظهور ابتداء من دخول الانتاج مرحلة الغلة المتناقصة . فالعاملون عندئذ إما انهم لا ينتجون انتاجاً متكافئاً مع مقدرتهم ( بطالة ناقصة) أو أنهم لا ينتجون أصلا (بطالة كاملة) مع انهم يعملون طوال النهار ويتقاضون أجوراً عن عملهم غير المنتج . وتقوم هذه  البطالة في حالتين . الحالة الاولى زيادة عرض العمل عن الطلب الفعلي ( فرص العمل المتاحة) . والحالة الثانية انعدام الميزة النسبية المتفقة مع فرص العمل المتاحة . والميزة النسبية ( المهارة ) تلعب دوراً خطيراً في الناتج الحدي للعمل .
اما عن الحالة الاولى فهي من علامات المميزة للبلاد المتخلفة اقتصادياً كثيفة السكان . حيث تكون الزراعة هي المجال الوحيد او الرئيسي للعمل المنتج . وفي الزراعة يعمل الفلاحون ساعات غير محدودة اعمالاً غير منتجة. واذا أخذنا السنة الزراعية مقياساً نجد انهم بحكم موسمية الزراعة يبقون عاطلين فترات زمانية متصلة (البطالة الموسمية)  . بحيث يمكن ان تسحب من مجال الانتاج الزراعي نسبة كبيرة من الفلاحين بدون ان ينخفض الناتج الكلي للزراعة . وقد قدر مكتب العمل الدولي ـ بعد الحرب الاوربية الثانية ـ انه لو سحب ” نصف ” المشتغلين بالزراعة في  مصر لما انحفض الناتج الكلي للزراعة فيها . ومؤدى هذا ان نصف الفلاحين في مصر كان في حالة بطالة بالرغم من علمهم الدائب في الزراعة . ومع هذ فإن البطالة المقنعة غير مقصورة على الزراعة . ففي كل الحرف الصغيرة التي تعمل بها نسبة كبيرة من العاملين تختفي البطالة المقنعة وراء الجهد المبذول في نشاطات تافهة الانتاج يقوم بها بشر قادرون على العمل المنتج . وعندما نرى في شوارع المدن زحاماً من البائعين الجائلين ، وماسحي الاحذية ، وحاملي اوراق ” اليانصيب “، وحراس السيارات ، نتعرف فيهم على جيوش العاطلين النازحين من الارياف الى المدينة هربأ من البطالة الظاهرة الى البطالة المقنعة . وكل ساعة يقضيها عاطل على مقهى ستكون دلالة على ساعة عمل مبددة . ثم نصعد من الشوارع الى تلك المباني المزدحمة بموظفي الحكومة . وفي موظفي الحكومة تقوم البطالة المقنعة باوراق البيروقراطية . وتبدو هذه البطالة واضحة  في الدول العربية التي تحاول ان تتحمل مسؤولية البطالة الظاهرة بتشغيل كل القادرين على العمل . هناك يضاف كل عام الى موظفي الدولة عشرات الالوف من الذين يتخرجون في معاهد التعليم . أو يضاف الى فرص العمل المتاحة في استصلاح الاراضي او الصناعات الناشثة مئات الألوف من الوافدين من الأرياف هرباً من البطالة الظاهرة . ان تشغيل كل هؤلاء هدف في ذاته في أية دولة تتصدى لمسؤولية اتاحة فرصة عمل لكل عامل . وهو لا يقدم عاطلين جدداً ولكن يكشف عن عمق الخلل في البنية الاقتصادية بين عرض العمل والطلب الفعلي عليه . وعندما  نرى ان دولة جادة في اتاحة فرص عمل للقادرين عليه تتحول ببطء او بسرعة الى دولة ” بيروقراطية ”  تزدحم مكتبها بموظفين لا يعملون شيئاً الا البقاء في مكاتبهم وتعطيل العاملين لأن ليس ثمة شيء يعملونه الا قبض مرتباتهم ، أو نرى عدد العاملين في المؤسسات الانتاجية يتضاعف بدون توسعات مقابلة ، ونجد ان السباق الرهيب بين انشاء المصانع وخلق فرص عمل جديدة وبين عرض العمل محسوم لمصالح البطالة المقنعة ، ندرك امرين أولهما : ان البطالة المقنعة تتزايد سنة بعد سنة بالرغم مما يبدو من زحمة العاملين في مواقع العمل ، وتزايد حجم الاجور التي يتقاضونها . بل ان هذه الزحمة المتزايدة هي المؤشر الى ان البطالة المقنعة متزايدة . الثاني : ان الدولة في مأزق الاختيار بين البطالة المقنعة والبطالة الظاهرة . اما ان تدفع الاجور لمن لا ينتجون فعلأ (بطالة مقنعة) او ان تتركهم لا ينتجون ولا يتقاضون اجوراً (بطالة ظاهرة) . فالبطالة في الحالتين متحققة مما يدل على ان توظيف العاطلين بدون ان ينتجوا او عدم توظيفهم لا يحل مشكلة البطالة . فاذا اضيف الى كل هذا السيل المنهمر من المواليد الجدد والخريجين الجدد والهجرة الداخلية المستمرة من الريف الى المدن يبين لنا ولكل الفلاحين والعمال والحرفيين والبائعين الجائلين والمؤهلين المركونين في المكاتب ، ولكل الامهات والاباء الفرحين بابنائهم القلقين على مستقبلهم ، وللطلبة الذين يتطلعون الى استثمار معرفتهم العملية في عمل منتج ، ان الشعب العربي العامل على وشك الاختناق في قوقعة التجزئة . وانهم ـ اعجبهم الأمر ام لم يعجبهم ـ عاطلون بالرغم من كل ما يعلمون وبالرغم من الاجور التي يتقاضونها ، والناشؤون منهم والمواليد الجدد لا ينتظرهم شيء في نهاية الطريق سوى البطالة المقنحة ولو كانت تنتظرهم الوظاثف والاجور . إذ حيث يكون عرض العمل اكثر من الطلب عليه لا يكون امام القادرين على العمل الا ان يختارو بين البطالة الظاهرة او البطالة المقنعة . و كلاهما اهدار لقوة العمل العربي ولا حل لكل هذا الا بالوحدة . ان الوحدة لا تسلب الشعب العربي الذي يزيد عرض العمل فيه عن طلبه شيئأ سوى البطالة . وهي تقدم لكل العاطلين العمل المنتج في وطنهم العربي الكبير . ان ذات قوة العمل المتاحة في الوطن العربي تستطيع ان تنتج في ظل الوحدة اضعاف ما تنتجه دولتها الاقليمية . وهكذا تؤدي التجزنة في الدول العربية التي يزيد فيها عرض العمل عن طلبه الى حرمان الشعب العربي من قدر فائق من قوة العمل فتسلب من مقدرة الشعب العربي على التقدم الاجتماعي بقدر ما تحرمه .
وإذا كان الاقليميون يحسبون أن العلاقة بين التجزئة والبطالة المقنعة غير قائمة إلا في الدول العربية كثيفة السكان فإنهم مخطئون .
ان البطالة المقنعة في الدول العربية الأقل كثافة في السكان اكثر تبديداً لعناصر الانتاج منها في الدول كثيفة السكان . ذلك لأن الناتج الحدي لعنصر العمل لا يتوقف على العرض وحده ، بل يتوقف ـ ربما بدرجة اكبر ـ على الميزة النسبية (المهارة) . وعندما يكون عرض العمل قليلاً بالنسبة الى طلبه ترتفع الأجور. فيتجه العمل الى فروع الانتاج التي تدفع أعلى معدل من الأجور بصرف النظر عن الميزة النسبية في العمل ذاته . وتكون تلك الفروع مضطرة الى تشغيل عمال عاجزين عن الوصول بالانتاج الى مستواه الحدي ، جاءوا اليها ـ تحت اغراء الأجورـ من فروع اخرى كانوا يحققون فيها الناتج الحدي . وهكذا يتجمع عرض العمل كله ، أو أغلبه ، حول فروع محددة ومحدودة الانتاج ، لا لأن العمل فيها اكثر انتاجاً ، بل لأن الاجور فيها مرتفعة . فتتحقق ” كثافة ” عرض العمل حول تلك الفروع . ونحن نعرف ما تؤدي اليه هذه الكثافة من بطالة مقنعة . ولكن الأمر هنا يكون اكثر تبديداً لموارد الانتاج . لأن الكثافة التي اصطنعتها الاجور المرتفعة تكون ـ مع قلة عرض العمل أصلأ ـ على حساب فروع الانتاج الاخرى التي قد يصل الأمر بها الى التوقف عن الانتاج لانعدام العمل المعروض، تاركة الموارد المتاحة مهددة بدون استثمار .
هذا النوع من البطالة بآثاره المدمرة قائم على أوسع نطاق في أغلب الدول العربية يبدد طاقات الشعب العربي فيها ولا يفلت منها ـ تقريبأ ـ إلا الشعب العربي في مصر. ففي كل الدول العربية التي حصلت فجأة على موارد البترول ( العراق ، الخليج ، الجزيرة العربية ، ليبيا ) ، أو على مشروعات انتاجية تركها أصحابها (الجزائر) ، أو حيث عرض العمل ضئيل أصلاً (السودان) ، أو حيث تجذب المؤسسات الرأسمالية الناس الى خدمتها في أعمال غير منتجة كالوساطة والسمسرة والمقامرة والمضاربة ( لبنان) تتجمع قوة العمل تجمعاً كثيفاً حول المصادر التي تدفع أعلى الأجور، تاركة موارد الانتاج الاخرى بدون استثمار . وتكاد بعض تلك الدول أن تكون عبارة عن مدينة أو اكثر لا نسبة بين كثافة السكان فيها وكثافتها خارج المدن .  في وسط هذه الكثافة تقوم البطالة المقنعة بين الذين يتقاضون الاجور المرتفعة ، وخارج المدن تمتد ملايين ملايين الأفدنة من الارض الخصيبة والمزارع المهجورة والمعادن المطمورة بدون استثمار لأنها لا تجد عنصر العمل اللازم لتحويل الموارد الى منتجات . ويبقى العاطلون في المدن مشغولون بإقامة المباني والملاهي والنقل والفنادق وتجارة السلع الاستهلاكية … الخ مع انه لو سحب ثلاثة ارباعهم من المدن لما تأثر الانتاج في الفرع الذي يعملون فيه او يلتفون من حوله . ويستوردون كل سلعة حتى الخضروات بينما وراءهم الارض الخصيبة ممتدة الى ما لانهاية ولكن عاطلة. ذلك لأن التجزنة تقيم حواجز سياسية واقتصادية وقانونية تحول دون ان يلتقي كل مورد بالعمل اللازم له كمياً ونوعياً . فتبدد البطالة المقنعة قدراً من كفاءة العمل المبذول في غير موضعه وتبدد الموارد التي لا تجد عملأ يبذل فيها . وتكون الحصيلة عجزالشعب العربي في كل دولة على ان يتقدم بقدر ما هو متاح فيه من بشر وموارد . ولا حل لمشكلة بطالة البشر وتبديد الموارد في الدول العربية ذات الكثافة المنخفضة في السكان إلا بالوحدة . ان الوحدة لن تسلب الشعب العربي في أي منها شيئاً . لن تسلبه فرص العمل المتاحة ولكنها تقدم العاملين لفرص العمل الضائعة .
وهكذا نرى ان الوحدة تعيد التوازن الى عرض العمل وطلبه في الأمة العربية كلها وفي كل جزء منها على حدة ، فيجد كل عامل العمل الذي يتفق مع ميزته النسبية . وهو ما يعني ان كل عامل سيصل في ظل الوحدة ، بذات الجهد الذي يبذله في ظل التجزئة ، الى ناتج حدي اكثر ارتفاعأ . هذا الفرق بين الناتج الحدي لعنصر العمل في ظل التجزئة وناتجه الحدي في ظل الوحدة ، مع ثبات كافة عناصر الانتاج الاخرى، يمثل ما تبدده البطالة بالنسبة الى كل قادر على العمل في الوطن العربي . فلو افترضنا ـ للايضاح ـ ان نصف الشعب العربي ، أي خمسين مليوناً ، هم وحدهم القادرون على العمل ، وان متوسط الفارق في الناتج الحدي لكل عامل يساوي ناتج ساعتي عمل يومياً ، لكان ما تبدده التجزئة من قوة العمل العربي مساوياً لناتج مائة مليوناً من ساعات العمل يومياً . أي ما يساوي ناتج عمل اثني عشر مليوناً من العاملين باعتبار يوم العمل ثماني ساعات . او لكانت التجزئة سببأ في بطالة 25%  من الشعب العربي العامل . وهو أمر يبدو مفزعاً .
إلا أن مبررات الفزع لم تنته بعد .
إذ أين تقوم تلك البطالة المفزعة ؟ … في الأمة العربية المتخلفة أو النامية. حيث تمثل الزراعة المصدر الأساسي للانتاج . وحيث يكون حل المشكلات الاقتصادية فيها متوقفاً على إضافة مصادر أخرى للانتاج أهمها ـ كما هو معروف ـ الصناعة . والصناعة تحتاج الى أموال وفيرة للاستثمار وأدوات إنتاج حديثة، وتدريب طويل للبشر، وخبرات علمية ، ومؤسسات للبحوث والتجارب ، ومعاهد لاعداد المتخصصين ، وأهم من هذا فترة من الزمان ” للانشاء ” . وهي فترة بالغة الأهمية والخطورة في المجتمعات النامية . إذ خلالها لا يكون ثمة إنتاج صناعي أصلأ أو يكون الناتج الصناعي ناتجاً غير إقتصادي . فمن أين يمكن لمجتمع نام أن يحصل على رؤوس الأموال (النقدية والعينية) ليواجه متطلبات مرحلة الانشاء الصناعي ؟. إنه السؤال المطروح بقوة على كل المجتمعات النامية والذي يمثل بالنسبة إليها أخطر مشكلات تخطي حاجز التخلف . مشكلة تكوين ”  فائض إقتصادي ” يتاح للتنمية الصناعية . أي أن تحقيق  من الانتاج من مواردها المتاحة ناتجأ كلياً بالغأ من التفوق درجة تسمح بتغطية الحاجات الاستهلاكية ثم يفيض منة ما يكفي للاستثمار في المشروعات الصناعية ، والموارد المتاحة هنا ـ أساساً ـ هي الأرض المزروعة والقابلة للزراعة . فمع الحد من الاستهلاك يمكن استثمار الأرض الى أقصى كفاءة إنتاجية تسمح بتكوين فائض إقتصادي لمواجهة متطلبات الإنشاء الصناعى أو الجزء الأكبر منها . كما يمكن استثمار فائض العائد النقدي من الموارد الأخرى في تغطية باقي المتطلبات . وقد عرفنا من قبل كيف أن التجزئة لا تحول ـ فقط ـ دون استثمار الأرض العربية الى أقصى كفاءة إنتاجية بل إنها تحولها الى موارد مهجورة وعاطلة . كما انها تحول دون استثمار فائض العائد النقدي من الموارد الأخرى . (البترول والمعادن) في مشروعات إنتاجية وتحوله الى أموال استهلاكية . فهي تحول ـ على المستوى العربي كله ، وفي كل جزء منه ، دون تكوين فائض إقتصادي كاف لتخطي حاجز التخلف بدون حرمان مرهق للشعب العربي . انها ـ باختصار ـ تسلب الشعب العربي جزءاً كبيراً من مقدرته على تجاوز التخلف لانها تحرمه من الفائض الاقتصادي الذي يمثل أكبر قدر من هذه المقدرة . فلا يبقى أمام الشعب العربي ـ في ظل التجزئة إلا الاقتراض لمواجهة متطلبات التحول الصناعي . والاقتراض لا يحرم الشعب العربي من ثمار عمله طوال الفترة اللازمة لإنشاء المصانع وتشغيلها الى أن لي يصبح الانتاج فيها إقتصادياً فحسب بل تضيف إليها أيضأ فترة حرمان أخرى تمتد الى أن تسدد القروض وفوائدها . وهكذا يمكن ـ  في  ظل التجزئة ـ أن يبدأ التحول الصناعي ويفني جيل كامل من الشعب العربي حياته يعمل ويكدح وينتج ويشقى لسداد القروض وفوائدها بدون أن تتاح له فرصة الحياة الأفضل المتكافئة مع إنتاجه الفعلي . هذا بينما البطالة تبدد الأموال وتميت الأرض وتبقي على موارد الانتاج عاطلة . كل هذا إذا كانت التنمية الصناعية عن طريق الافتراض لا تنطوي على تبعية إقتصادية . أما إذا انطوت فقد عدنا مرة أخرى لنلتقي بالعلاقة الوثيقة بين التجزئة والاستعمار أو العلاقة الوثيقة بين الوحدة والتحرر.
ونعود فنقول أن عنصر ” العمل ” ليس الا مثلا . وإننا نصل الى ذات النتيجة ” السالبة ” أياً ما كان عنصر الانتاج الذي نبحثه . ونصل إليها لو كان بحثنا منصباً على التوزيع أو الاستهلاك . في أي مجال نعمل ، وأياً ما كانت الغايات التي نريد أن نحققها، سنجد ذلك ” الفرق”  بين مقدرة الشعب العربي على تحقيق ما يريد في ظل التجزئة وبين مقدرته في ظل الوحدة . ويصدق هذا على كل جزء من الأمة العربية بدون إستثناء . ونتبين منه أن ” واقع التجزئة ” يحرم الشعب العربي ” بعض مقدرته على التقدم الاجتماعي الممكن ـ موضوعيأ ـ في ظل الوحدة . فنعرف أن التجزنة قيد يشل مقدرة الشعب العربي على التقدم الاجتماعي المتكافيء مع الإمكانيات البشرية والمادية المتاحة فعلاً في الأمة العربية . وهو ما يعني ـ قي التحليل الأخيرـ أن مستوى معيشة الشعب العربي في ظل التجزئة هو أدنى ، وسيظل ، في كل الظروف وفي كل جزء من الأمة العربية ، أدنى من مستوى معيشته في ظل الوحدة . وبالتالي تمثل الوحدة بالنسبة الى الشعب العربي ، دائماً وفي كل جزء من الأمة العربية ، حياة أفضل . أفضل بكثير من أية حياة يحققها في ظل التجزئة وفي أي جزء من الأمة العربية . ويكون من حقنا أن نقول ، وأن نردد ، وأن نتأكد فنؤكد ، أن الاقليمية فاشلة . لا فاشلة في أن تحقق للشعب العربي في الدول العربية أي تقدم إجتماعي ، ولا حتى في تحقيق أفضل حياة تتفق مع بنيتها الاقتصادية ، بل فاشلة في أن تحقق للشعب العربي في أية دولة عربية ، من التقدم الاجتماعي والحياة الأفضل، ما يمكن ـ موضوعيأ ـ أن يحققه الشعب العربي لنفسه في ظل الوحدة .

(4)

49  ـ التعاون أم الوحدة ؟

بحكم الواقع الموضوعي لا يكف الاقليميون عن مواجهة متاعب الفشل في دولهم الاقليمية . إن خطواتهم متعثرة دائماً . فينقسمون الى طائفتين : الطانفة الآولى تنسب كل متاعبها الى العلاقات العربية وتحاول ما استطاعت ، فكرياً وسياسياً وإقتصادياً ودعائياً ، أن تثبت أن الأمة العربية وهم غير موجود ، وأن الخضوع لهذا الوهم هو ما يجر دولهم الى تبديد بعض مواردها في غير المجالات التي ينبغي أن تسخر فيهاويبلغ الأمر ببعضهم الى اعتبار ” أممهم العريقة ” ما تزال منذ أربعة عشر قرناً في قبضة ” الغزو ” العربي ، و قد يحلمون أحلاماً قريبة من أحلام الصهيونية : إسترداد أرضهم بحدودها التاريخية خالية من العرب . إنهم ـ ببساطة ـ يريدون أن يلغوا كل التاريخ الحضاري الذي تطورت خلاله الشعوب طوال أربعة عشر قرناً ليعودوا الى شعوبيتهم البدائية الأولى . وعندما يواجهون بمشكلات التخلف والتنمية التي ” تهم الناس أولأ ولا تحلها المتاجرة في البقايا الأثرية من التاريخ القديم ، لا يترددون لحظة في تقديم إحدى الدول الأوربية أو الأمريكية المتقدمة كبديل في التعامل عن الدول العربية . ولما كان إلغاء التاريخ مستحيلأ فإنا نعرف ان هذا ” الإستدلال ” هو ـ في النهاية ـ  المقصود من وراء كل ما يقوله ويفعله هؤلاء الاقليميون . ولعلنا نذكر أن ” مصر قطعة من أوربا ” كانت شعار المرحلة التي تم فيها الاحتلال الأوربي لمصر. وأن عملاء الاستعمار الفرنسي في المشرق العربي . وفي المغرب أيضاً ، كانوا يرضعون التبعية من خلال علاقة البنوة بالوطن الأم ” فرنسا ” الفخورين بالحماية في أحضانها . والآن يقدم هؤلاء الأقليميون ” بدائل ” أخرى من أوربا أو أمريكا . هذه الطائفة واقعة نهائياً وكليأ في قبضة القوى الاستعمارية وهي الأداة التي تعمل ، واعية أو غير واعية ، لخدمة مخططات الاستعمار الجديد في الوطن العربي . غير أننا يجب أن نقرر بحسم  وبمنتهى الوضوح أن هذه الطائفة الأقليمية المرتدة تغذيها وتحالفها طائفة أخرى من أدعياء القومية العربية الذين يتوهمون أن الشعب العربي هو سلالة تلك الجماعات القبلية التي حملت راية الإسلام من الجزيرة العربية ، أو أن الوطن العربي كان خالياً من البشر قبل أن يصبح وطناً عربياً ، أو أن الأمة العربية هي أول ” مجتمع ” ذو حضارة في هذا الجزء من العالم ، أو أن الحضارات القبلية والشعوبية السابقة على تكوين الأمة العربية قد اندثرت بدون أثر فلم تختلط وتتفاعل وتتطور لتكون هي ذاتها الحضارة العربية . هؤلاء يقعون في ذات الخطأ الذى يقع فيه أولئك إذ يضعون الأمة العربية والشعوب السابقه عليها في مواجهة زمانية واحدة بحيث لا يكون وجود أحدهما إلا نفياً لوجود الاخر. و كما يحاول أولئك ـ عبثأ ـ إلغاء أربعة عشر قرناً من التاريخ يحاول هؤلاء ـ عبثاً أيضاً ـ إلغاء عشرات القرون من التاريخ . وكلها أخطاء لأن التاريخ متصل . في هذا الفهم البدائي للأمة تبدو القومية قهراً وليست تطوراً ، وتبدو الوحدة سلباً وليست إضافة . وعندما تواجه هذه الطائفة ” القومية ” بمشكلات التخلف والتنمية التي تهم الناس أولاً ولا تحلها المتاجرة في الأمجاد التاريحية يقفون عاجزين . كأن الحياة كلها ستتوقف الى أن تتم الوحدة العربية . ولا تزيد هذه الطائفة عن أن تكون اداة تعمل، واعية أو غير واعية. لخدمة مخططات الاستعمار الجديد في الوطن العربي . وتقوم بينها وبين الطائفة الأولى تلك العلاقة الوثيقة بين الفعل الخاطيء ورد الفعل الخاطيء.
ثم تأتي الطائفة الثانية من الاقليميين . اولئك الذين يريدون حقاً ، ويعملون فعلأ ، على تجاوز التخلف في الدول العربية . فيتطلعون الى الموارد المتاحة في الوطن العربي خارج دولهم . ولما كانوا يرفضون الوحدة فإنهم يطرحون ” التعاون ” بين الدول العربية بديلأ عن الوحدة . ويقولون ، أو يمكن أن يقولوا، يكفي للتغلب على التخلف الذي تنسبه الى التجزئة ، تبادل الموارد وتبادل الخبرات وتبادل المنتجات والتسهيلات الائتمانية … الخ . ولا شك في أن التعاون بين الدول مثمر ومفيد بالنسبة الى كل الدول المتعاونة ـ بدون تبعية ـ سواء كان تعاوناً بين الدول العربية أم بين الدول كافة . ولكن التعاون هو عملية مبادلة لا يقدم أحد فيها شيئأ إلا مقابل شيء يأخذه . وهو لا يستطيع أن يقدم إلا من فائض عنده . ليس كل فائض عنده ولكن ذلك الجزء من الفائض الذي يستطيع الطرف الآخر ان يقدم من الفائض عنده مقابلاً له ثم يسوى ” الحساب ” بعد كل فترة من الزمان ( سنة عادة) . فإذا تأكد كل طرف أنه قد استرد المقابل الكامل لما قدم ثم زاد عليه تبدأ فترة تعاون جديدة ، وإلا ، انفض التعاون . وهنا ترد اول ملحوظة على دعوة التعاون ” العربي ” .
لماذا يقصر الاقليميون هذا التعاون على الدول ” العربية ” وحدها ؟ .. لماذا لا تتعاون ـ  مثلاً ـ العراق مع ايران ، وسورية مع تركيا ، والجزائر مع فرنسا ، والمغرب مع اسبانيا ، والسودان مع الحبشة ؟.. الخ . يقولون لأن الدول العربية دول ” عربية “… ان ” العروبة ، تجمعها جميعاً في رابطة ” اخوة ” . وهو كلام جميل ولكنه كلام انشاثي يصلح للخطب الرنانة ولا يصلح لحل مشكلات التقدم الاجتماعي . اذ ما الذي تعنيه العروبة والاخوة اذا لم تكن تعني الانتماء الى مجتمع واحد ؟ .. وما الذي يعنيه الانتماء الى مجتمع واحد اذا لم يكن يعني وحدة المشكلات الاجتماعية فيه ؟.. وما الذي تعنيه وحدة المشكلات الاجتماعية اذا لم تكن تعني وحدة حلولها ؟ . و ما الذي تعنيه وحدة حلولها اذا لم تكن تعني وحدة أداة حلها ؟.. وما الذي تعنيه وحدة أداة حلها اذا لم تكن تعني الوحدة السياسية ؟.. ان ” العروبة ” و” الاخوة ” و ” المصير الواحد ” .. ومثيلاتها من الكلمات الكبيرة ، ان لم تكن تعني ، في النهاية ، الوحدة السياسية فهي كلمات ” فارغة ” يختفي فيها الاقليميون لمحاولة الاستيلاء على ما يعتقدون انه مملوك لغيرهم ملكية خاصة تحت شعار ” التعاون العربي ” . ” التعاون العربي ” بالذات وليس ” التعاون الدولي، عامة. ولسنا نشك لحظة في ان هذه الطائفة ” الانتهازية ” اكثر تعويقاً للوحدة العربية من الطائفة الاقليمية التي ترفض صراحة الانتماء العربي . كلاهما معادية للقومية وتزيد الاولى على العداء تضليلأ . وما يزال المنافقون اشد اضراراً من الكافرين .
ثم تأتي ملحوظة ثانية عن ” التعاون العربي ” كبديل للوحدة . ان الواقع العريى ـ لسوء حظ الاقليميين ـ يحول دون ان يصل التعاون ، بين الدول العربية بالذات الى مثل ثمار التعاون بين الدول عامة . وذلك من ناحيتين :
الاولى هي ان الدول العربية جميعاً دول متخلفة او نامية . وتشكل المواد الخام والحاصلات الزراعية المصدرين الاساسيين لموارد التنمية فيها . او في اكثرها نمواً .. وقد يستطيع التعاون ان يصحح قدراً من الخل في البنية الاقتصادية الراجع الى توزيع المواد الخام والأرض الزراعية بين الدول العربية . ولكن عندما تريد اية دولة عربية ان تتجاوز هذا المستوى المتخلف من البنية الاقتصادية لتدخل مرحلة ” الصناعة ”  لا يفيدها ” التعاون العربي ” شيئاً . إذ ليس في اية دولة عربية فائض صناعي (ادوات انتاج وصناعات تكميلية) تتبادل بها اية دولة عربية اخرى . ومن هنا ستلجأ الدول العربية، واية دولة عربية ، الى ” التعاون ” مع الدول المتقدمة صناعيأ لتحصل على متطلبات التصنيع . وهي اذ تقدم فائض ما تملك من مواد خام او حاصلات زراعية للدول ” المتقدمة ” لن تحصل من ادوات التقدم الا بقدر هذا الفائض وهو ضئيل وفي كل الحالات غير كاف لاقامة صناعة حديثة . ثم انها بعد ان تشتري بفائض المواد الخام والحاصلات الزراعية من الدول المتقدمة لن يكون لديها فانض منها تقدمه لأية دولة عربية هي في حاجة اليه . فينتهي “ التعاون العربي الاخوي ” الى ان يكون كلاماً في خطب او حبراً على ورق . والدليل على هذا انه بالرغم من دعوة التعاون العربي القديمة ، والمستمرة ، ما يزال حجم التبادل التجاري (التصدير والاستيراد)   بين كل دولة عربية على حدة وبين الدول ” غير العربية ” اكبر بكثير من حجمه بينها وبين الدول العربية الباقية مجتمعة . ان الصادرات تخرج من كل بلد عربي الى خارج الوطن العربي لتحول بلد عربي آخر الى استيرادها من خارج الوطن العربي ، لأن السلع ” الوسيطة ” في المبادلة غير متاحة في اي بلد عربي .
الناحية الثانية هي ان التعاون يتضمن ، دائماً وفي كل الظروف وبين كل الدول ، المنافسة . المنافسة التي قد تصل الى حد ” اغراق ” السوق في احد الدول بمنتجات تباع باقل من سعر تكلفتها بقصد شل مقدرتها على الانتاج . بمعنى ان كل دولة تعاون دولة اخرى تكون حريصة ـ قبل كل شيء ـ على الا يؤدي هذا التعاون الى الاضرار بمصالحها الاقتصادية مهما تكن الدولة الاخرى في حاجة الى ذلك الذي تعتبره الدولة الاولى ضاراً . ويؤدي هذا ـ مع استبعاد الرغبة في السيطرة الاقتصادية ـ الى ان يبقى التعاون قائماً عند الحد الادنى المشترك بين المتعاونين وهو قانون . لو طبقناه على مستوى الوطن العربي لوجدنا ان حجم التعاون ومضمونه ومداه بين دولتين عربيتين او اكثر يكون محكوماً بالبنية الاقتصادية الاكثر تخلفاً . ولو استطاع ان يكون ” تعاوناً عربياً ”  شاملأ وجماعياً لما استطاع ان يتجاوز المدى الذي تحدده اكثر الدول العربية تخلفاً . والدليل على هذا ان الدول العربية  قد انشأت من خلال جهاز التعاون فيما بينها (الجامعة العربية ) منذ سنة 1950 ” المجلس الاقتصادي المشترك ”  و ” اتفاقية الوحدة الاقتصادية ” بأجهزتها (مجلس الوحدة الاقتصادية واللجان الدائمة والمكتب الفني الاستشاري) ، ثم انشأت منذ سنة 1964 ” السوق العربية المشتركة ، ثم وافقت في سنة 1967 على انشاء ” صندوق الانماء الاقتصادي والاجتماعي العربي “… وما يزال كل هذا حبرأ على ورق . اما الدول التي تبقيه حبرآ على ورق فهي اكثر الدول العربية تخلفاً . ولا بأس في ان نضرب المثل  المؤلم ” ليكون واضحاً وان كان قاسياً لمن يريد ان يرى بوضوح ولو من اجل الا يتألم انه لا جدوى من وراه تجاهل حتمية القوانين التي تضبط حركة الاشياء والظواهر، وانه في نطاق التعاون يكون المتخلف هو المتحكم في مضمونه ومداه . ففي السنين السابقة على سنة 1967 كانت القوات المسلحة في الدول المحيطة باسرائيل تخضع لاتفاقيات تعاون وصلت الى حد تعيين ” قيادة موحدة  . وكان التعاون بين حكومة سورية والجمهورية العربية المتحدة يخضع لاتفاقية الدفاع المشترك التي انضمت اليها في يونيو 1967حكومة الاردن . فلما ان اختبر التعاون العسكري في حماية مشروع تحويل نهر الاردن حددت مضمونه ومداه  اضعف الدول عسكرياً . ولما تأزمت الامور في الاشهر السابقة على معارك يونيو (حزيران) 1967 كان الذي حدد مضمون قرارات الجمهورية العربية المتحدة هي قرارات الحكومة في سورية . فلما اندلع القتال كان مضمون التعاون في الجبهة الشمالية محكوماً من قبل بارادة حكومة دمشق . أما ما انتهى اليه هذا التعاون فهو معروف .
ثم نأتي الى الملحوظة الثالثة . لو تم التعاون بين الدول العربية على أحسن ما يمكن فما الذي يؤدي اليه ؟ سيؤدي الى ان تستفيد كل دولة عربية منه بقدر ” الفائض الاقتصادي ” فيها . وهو أقل بكثير مما يتحقق للشعب العربي فيها في ظل الوحدة . أما السبب فلا بد أن يكون قد عرفناه . اذ طبقاً لذات القوانين الاقتصادية التي عرفناها من قبل يكون الفائض الاقتصادي في دولة الوحدة اكثر بكثير من مجموع الفائض الاقتصادي للدول العربية مجتمعة ، ان وجد . وهو ما يعنى ان الشعب العربي يستطيع ـ في ظل الوحدة ـ ان يحصل عن طريق الفائض الاقتصادي القومي (استثماراً ومبادلة) من متطلبات التقدم الاجتماعي لكل جزء من الأمة العربية اكثر بكثير مما يستطيع ان يحصل عليه في ظل التجزئة . اي ان ” التعاون العربي ” في احسن ظروفه يفشل في ان يحقق للشعب العربي ما تحققه الوحدة . والفرق تسلبه التجزئة من مقدرة الشعب العربي على التقدم الاجتماعي .
مؤدى هذا ان التعاون بين الدول العربية ليس فشلا محضأ . انه قادر على ان يحقق للشعب العربي في كل دولة ذلك القدر الذي يتفق مع قواعد وقوانين التعاون بين الدول المستقلة . بشرط أن يفهم ويطلب ويتم ويمارس على اساس انه تعاون بين دول ذات مصالح مشتركة ، وفي نطاق تلك المصالح المشتركة، بعيداً عن ” التمحك ” بالعروبة وابعد ما يكون عن القومية . بل نزيد فنقول انه كلما طلب وتم بعيداً عن العروبة والقومية نجح فيما يستطيع وسلمت الأمة العربية من مسئولية عجزه . فهو يحقق ما يتفق مع “الاقليمية ” ولا ينسب فشله إلى ” القومية ” . نقول هذا ـ بوجه خاص ـ إلى بعض ” القوميين ” الذين كلما فشل التعاون بين الدول العربية صبوا جام غضبهم على واحدة أو أكثر من الحكومات في تلك الدول واتهموا الحاكمين أو بعضهم إلى ما قد يصل إلى حد التآمر أو الخيانة ، ولسنا نبرىء الاقليميين ولا ندافع عن الأقليمية . انما الذي يهمنا أن يصحح بعض ” القوميين ”  بعض اخطائهم . انهم إذ يغضبون لفشل التعاون بين الدول العربية في أن تقدم إليهم ما لا يمكن ان تقدمه إلا الوحدة تكون الرواسب الاقليمية ما تزال مختلطة بمنطلقاتهم القومية فيخطئون . انهم ـ  بفعل تلك الرواسب ـ يبنون آمالاً كاذبة على التعاون بين الدول العربية وعندما لا تتحقق آمالهم يغضبون بدلاً من أن يتعلموا من خيبة الامل الا يعقدوا على التعاون العربي آمالأ أكثر مما يطاق ، وأن يحتفظوا بآمالهم الطموحة  للاداة القادرة على الوفاء بها : الوحدة . وإلا فلماذا يغضبون لو كانوا واثقين من صحة المنطلقات القومية التي تحتم أن تكون الاقليمية فاشلة فى أن تحقق ما لا يتحقق إلا في ظل الوحدة ؟… ثم ما هو مبرر الوحدة إذا كان التعاون بين الدول العربية  يستطيع أن يحقق للشعب العربي من أسباب التقدم الاجتماعي كل ما تحققه الوحدة ؟.
إذا كان قد ثبت لنا ـ علمياً ـ الفرق بين مقدرة الشعب العربي على التقدم الاجتماعي في واقع التجزئة ولو في نطاق التعاون العربي ، وبين مقدرته ـ بذات الامكانيات ـ على التقدم الاجتماعي في ظل الوحدة ، فذلك تأكيد جديد لصحة نظريتنا القومية . وعلى ضوئه نستطيع ـ  بسهولة ـ أن نحدد الشكل الدستوري لدولة الوحدة القومية .


(5)

50  ـ دولة الوحدة العربية :

عرفنا ( فقرة 24 ) أن ” للسيادة  مفهوماً ذا حدين : سيادة الشعب على أرضه دون الشعوب والجماعات الاخرى ( الاختصاص بالأرض) . وسيادة كل الشعب على أرضه ( المشاركة فيها) . ولما كان الشعب مكوناً من أفراد عديدين فانه يمارس سيادته في حديها من خلال أفراد يمثلونه وينوبون عنه ويكونون مسئولين أمامه. أولئك الذين يطلق عليهم لفظ الحكومة . هنا تبقى السيادة للشعب وتمارس الحكومة السلطة نيابة عنه . ثم توزع وظائف السلطة على أجهزة متخصصة في التشريع أو التنفيذ أو القضاء…  ويصاغ كل هذا في عديد من القواعد الملزمة لكل واحد من الشعب أياً كان موقعه . وبمجموع تلك القواعد يتحول المجتمع إلى مؤسسة منظمة، منظمة بمعنى أن علاقة الناس فيها بالأرض وعلاقاتهم فيما بينم وعلاقاتهم بمن ينوبون عنهم في ممارسة السلطة تكون محددة بقواعد ملزمة لهم جميعاً ولكل واحد منهم . ونلتقي هنا بكلمة الشرعية . أي اتفاق السلوك الفردي أو الجماعي مع قواعد ذلك النظام القانوني . ويصبح غير مشروع كل سلوك لا يتفق معها . تلك القواعد التي تضبط سلوك الناس في مجتمع منظم هي ما يسمى ” بالقوانين ” التي تطلق عليها بدورها اسماء شتى من أول الدستور (القانون الأساسي) إلى آخرالأوامر الإدارية . المهم أنه أياً ما كان اسم القاعدة الملزمة فهي جزء من نظام  قانوني (حقوقي) غايته أن يضبط سلوك الناس في المجتمع على قاعدتين تمثل كل منهما حداً من حدي السيادة : الأولى اختصاص الشعب بالأرض دون غيره . والثانية مشاركة الشعب في أرضه . وعندما يقوم هذا النظام في أي مجتمع يتحول المجتمع إلى ” دولة ” بعناصرها التي يعرفها فقهاء علم القانون : الشعب ، و الأرض ، والسلطة (السيادة) … وعندما نكون في مواجهة أمة فان وحدة الوجود القومي تحتم وحدة الدولة فيها . بمعنى أن الدولة القومية التي تشمل الشعب والوطن كما هما محددان تاريخياً هي وحدها التي تجسد الشعب على وطنه ومشاركته التاريخية فيه. وهي لا بد أن تكون شاملة البشر والأرض جميعاً لتكون دولة قومية مكتملة السيادة . إذ عندما يخرج من نطاقها أي جزء من الشعب يكون هذا الجزء قد حرم من ممارسة سيادته على وطنه ، وعندما يخرج من نطاقها أي جزء من الوطن يكون الشعب قد حرم من ممارسة سيادته على ذلك الجزء من الوطن  .
هذا واضح من حيث أن الدولة القومية تجسد، بشمولها الشعب كله والوطن كله ، اختصاص الوطن بالشعب . ولكن كيف تجسد الدولة القومية ـ  بنظامها الداخلي ـ اشتراك الشعب في الوطن ؟… أن أول ما يثيره السؤال هو معرفة الشكل الدستوري لدولة الوحدة الذي يتفق مع هذه المشاركة ويجسدها . وفي الشكل الدستوري كلام كثير واراء متباينة تثير غموضاً كثيراً . وقد يكون مرجع هذا إلى أن آراء فقهاء علم القانون في المشكلة الدستورية ما تزال متباينة أو إلى اننا أن نرجع إليهم وتستعيد لغتهم ثم نترجمها تبدو لنا آراؤهم غامضة .
فمنذ قرن لا يكف فقهاء علم القانون عن تقسيم الدول الى أنواع  ثم العودة الى تقسيمها متخذين من الدول في اوربا وامريكا نماذج للأنواع . وعندما يستعصي عليهم إلحاق دولة ما بنوع مما يعرفون يقولون انها دولة من نوع خاص . فنقرأ لهم ونسمع نقلاً عنهم ان الدول قسمان : دول بسيطة ودول مركبة . وان الدول المركبة انواع أربعة : فمنها الدول ” الفيدرالية ” ( الاتحادية) ، ومنها الدول ” الكونفيدرالية ” (التعاهدية) ، و منها دول ” الاتحاد الشخصي ” ومنها دول ” الاتحاد الفعلي ” ، بالاضافة الى دول من “ نوع خاص ”  .
أما الدول ” البسيطة ” ـ عندهم ـ فهي التي تمارس السلطة فيها حكومة مركزية واحدة . أما الدول المركبة فهي التي نشأت ابتداء من دولتين أو أكثر . وتكون تلك الدولة الجديدة ” فيدرالية ” اذا كان دستورها (قانونها الآساسي) يبقى في داخلها وحدات اقليمية (ولايات) تقوم فيها حكومات تقتسم ـ في الاقليم ـ السلطات مع الحكومة المركزية مع بقاء الحكومة المركزية ممثل لدولة “الفيدرالية ” كلها في العلاقات الخارجية . وتكون ” الدولة ” الجديدة اتحاد ” كونفيدرالياً ” (تعاهدياً) بين دولتين أو أكثر تنشيء فيما بينها هيئات مشتركة تنوب عنها جميعاً في ممارسة بعض السلطات الداخلية أو الخارجية التي تحددها المعاهدة المنشئة للاتحاد .  وقد يصل الاتفاق الى حد أن يكون للهيئات المشركة حق التمثيل الدبلوماسي ، وإعلان الحرب وإبرام الصلح نيابة عن دول الاتحاد ومع ذلك تظل كل دولة في الاتحاد محتفظة لسيادتها مستقلة بها عن دول الاتحاد الاخرى . أما ” الاتحاد الشخصي ” فهو اشتراك دولتين أو أكثر، مستقلتين تماماً ، في شخص رئيس الدولة . أما ” الاتحاد الفعلي ” ( او الحقيقي ) فهو اتحاد شخصي تضاف اليه هيئات مشتركة تمثل الدولتين في العلاقات الخارجية وبعض الشئون الداخلية    ..  الخ  .  ونكون معذورين اذا اختلطت علينا الاسماء والمفاهيم خاصة اذا أضيف الى نماذج الدول تلك ذلك النموذج المعروفة بانه ” دولة من نوع خاص ”  .
غير ان الأمر يصبح أكثر بساطة ووضوحاً إذا انتبهنا الى أمرين : الأول عدم الخلط بين نوع الدولة والأسلوب الذي قامت به . والثاني التمييز بين حق السيادة وممارسته . أو كما عرفنا من قبل التمييز بين السيادة التي تبقى دائمأ الشعب وبين السلطة التي يمارسها الشعب من خلال الحكومة التي تمثله وتنوب عنه (فقرة 24) . على ضوء هذا نجد اننا مهما واجهنا من الأشكال الدستورية للدول أو فيما بين الدول فإما أن نكون أمام ” دولة واحدة ” وإما ان نكون أمام ” اتحاد دول ” متعددة .
في الحالة الأولى تكون السيادة للشعب كله ومشتركة فيما بينه في الوطن كله و تجسدها دولة واحدة . ثم يأتي الدستور (القانون الأساسي) للدولة فينظم ممارسة السلطة . فإما أن يعهد بكل السلطات الىحكومة مركزية واحدة فتكون الدولة على ذلك الشكل الذي يسمونه ” دولة بسيطة “ . وإما أن يوزع السلطات بين حكومة مركزية وحكومات في الأقاليم فيخول تلك الحكومات قدراً من السلطات تمارسها في نطاق الاقليم مستقلة في ذلك عن الحكومة المركزية أي بدون حاجة إلى إذن سابق أو تصديق لاحق . غير أنه أياً ما كان توزيع السلطات الداخلية تبقى الحكومة المركزية هي ممثل الدولة في العلاقات الخارجية . ويبقى مصدر سلطات الحكومات الاقليمية هو الدستور (القانون الاساسي ) . وتبقى للحكومة المركزية سلطة مباشرة على كل الشعب في كل الاقاليم . ويبقى كل الشعب في كل الاقاليم منتمياً سياسياً الى دولة واحدة ، بل جنسية واحدة هوية ) . وتكون الحكومات في الاقاليم تابعة لدولة بحكم ان الولايات التي تحكمها هي ذاتها ـ كمؤسسات اقليمية ـ  من رعايا الدولة . ثم ـ وهذا جوهري ـ لا تملك أية ولاية أو اقليم حق الانفصال . هذه هي الدولة التي يسمونها ” فيدرالية ” (اتحادية) . لا لأنها ” مركبة ” من عدة دول مستقلة داخلها ، إذ هي ـ كما هو واضح ـ دولة واحدة ، ولكل لأن نموذجها الذي يقيسون عليه ( الولايات المتحدة الامريكية) قد قام ابتداء عن طريق اتفاق عدة دول على أن تنشىء من أنفسها دولة واحدة مع الاحتفاظ لكل منها بقدر من السلطات تمارسها حكومة اقليمية داخل الدولة الجديدة . فبقي الاسم علماً على الدولة موروثاً من اسلوب قيامها . هذا بالرغم من ان بعض تلك الدول المسماة ” فيدرالية ” ( اتحادية ) لم تنشأ بهذا الاسلوب ، بالعكس، نشأت بإقامة ولايات وحكومات اقليمية في دولة كانت في الأصل دولة بسيطة ( المكسيك والبرازيل ) . على أي حال ان  هذا الاسلوب من توزيع السلطات الداخلية قد أصبح شائعاً ، في أغلب الدول الحديثة لأنه يبقى على وحدة الدولة ويمكنها ـ  في الوقت ذاته ـ  مواجهة التنوع الاقليمي للمشكلات الاجتماعية باكبر قدر من الكفاءة عن طريق اقامة حكومات اقليمية ذات سلطات محلية تضيق او تتسع تبعاً للظروف الاجتماعية والجغرافية في كل دولة على حدة ، ولكنها ـ في كل الحالات ـ لا تمس وحدة السيادة ووحدة الدولة التي تجسدها . الدولة ” الفيدرالية ” (الاتحادية) ـ اذن ـ دولة واحدة بصرف النظر عن الاسماء التي تطلق عليها او على الاقاليم داخلها . ان  اتحاد الجمهوريات السوفييتية ” مثلأ دولة واحدة وليس مجموعة من الدول الجمهورية متحدة . وبحكم مركزية جهاز السلطة فيها (الحزب) ليس لأية جمهورية الحق في الانفصال ” بارادتها ” اي بدون موافقة الحزب . هـذا بالرغم من النص في الدستور على حق الانفصال . بل ان الدولة عادت فاستردت بالقوة الجهوريات التي كانت قد انتهزت فرصة ضعف الدول الناشئة سنة 1918 فانفصلت ( لتوانيا ، وليتونيا ، واستونيا ) . كما أن الترجمة الحرفية لاسم ” الولايات المتحدة الامريكية ” هو ” دول امريكا المتحدة ” مع انها دولة واحدة . ويوحي اسم ” كندا ” بأنها دولة بسيطة مع انها دولة ” فيدرالية ”  .
كل ما عدا ” الدولة الواحدة ” هي انواع من ” الاتحادات التعاهدية ” فيما بين دول مستقلة كل منها بسيادة شعبها في وطنه  تلتقي على الاشتراك في رئيس الدولة فقط (الاتحاد الشخصي) وقد كان ذلك شائعاً يوم ان كانت رئاسة الدولة ميراثاً في النظام  الملكي ، او تشترك في رئيس الدولة وتضيف اليه هيئات مشتركة تمارس الشؤون المتفق عليها في المعاهدة (الاتحاد الفعلي او الحقيقي) ، او تكتفي بهيئات مشتركا تمارس بالنيابة عنها شؤوناً محددة (الاتحاد الكونفيدرالي) . ولكن يبقى المميز للاتحاد هو احتفاظ كل دولة بسيادة شعبها في وطنه واستقلالها بهذه السيادة عن دول الاتحاد الاخرى ثم بحق كل دولة في الانفصال . ويختلف كل اتحاد منها تبعاً للمعاهدة التي انشأته . غير انها جميعاً- بحكم طبيعتها الاتحادية (الاتفاقية) ، مؤقتة او قابلة للانتهاء . بعضها ينتهي الى ان يصبح دولة واحدة ” فيدرالية ” ( الولايات المتحدة الامريكية بدأت اتحاداً سنة 1778  وانتهت  إلى وحدة سنة 1787، ودولة المانيا بدأت اتحاداً سنة 1815 وانتهت الى وحدة  سنة 1866، ودولة سويسرا بدأت اتحاداً سنة 1815 وانتهت الى وحدة سنة 1847) . غير انها قد تنفض وتتحرر كل دولة من الالتزامات التي كانت تفرضها عليها المعاهدة المنشئة للاتحاد (اتحاد السويد والنرويج بدأ سنة 1815 وانفض سنة 1905 ، واتحاد النمسا والمجر بدأ سنة 1867 وانفض سنة 1918 ، واتحاد الدانمرك وايسلنده بدأ سنة 1918 وانفض سنة 1944 )  . والاتحادات التعاهدية المعاصرة قليلة العدد ولكنها تضم اعداد كبيرة من الدول تجمعها على التعاون من أجل غايات مشتركة . وتكاد تكون هي الصيغة العصرية للتعاون بين دول تريد كل منها ان تحتفظ بسيادتها . ومن امثالها ” مجلس اوربا ” و ” منظمة الدول الامريكية ” و ” الكومنولث البريطاني ” و (جامعة الدول العربية )… وفي التاريخ العربي المعاصر تجربتان فاشلتان منه اولاهما اتحاد ” الدول العربية المتحدة ” الذي قام بين اليمن والجمهورية العربية في سنة 1958. والثانية كانت رداً على الاولى فيما اسمى ” الاتحاد العربي ” بين العراق و الاردن سنة 1958 ايضاً .
فعلى أي وجه تكون دولة الوحدة العربية ؟.
من الواضح :
أولأ : أن الاتحاد التعاهدي (الكونفيدرالي أو الشخصي أو الفعلي … الخ) لا يجسد اشتراك الشعب العربي في وطنه العربي ، لأنه إذ يقوم على تعدد السيادة يجزىء السيادة القومية . فهو يسلب الشعب العربي في كل دولة من دول الاتحاد حقه في وطنه الذي تقوم عليه الدول الاخرى . ويسلب الشعب العربي في الدول الاخرى حقه في وطنه في كل دولة من دول الاتحاد . وبالتالي لا يتفق ولا يجسد وحدة الوجود القومي . والواقع أن الاتحاد التعاهدي هو الصيغة الدستورية للتعاون بين الدول . وعلى هذا فان أي اتحاد تعاهدي يقوم بين دولتين أو أكثر من الدول العربية ، أو حتى بين الدول العربية كلها، ليس أكثر من تنظيم تعاهدي للعلاقات بين الدول الاقليمية فهو نظام أقليمي لا يختلط ” بالوحدة العربية ” ولا يغني عنها، بالرغم من أنه قد يحقق للدول العربية المتحدة فيه أقصى ما يمكن أن يحققه التعاون بين الدول. هذا، إذا فهم ، أو طلب، أو قام ، على أساس انه اتحاد بين دول اقليمية وبعيداً عن ” التمحك ” بالقومية أو بالوحدة . بل نزيد فنقول انه كلما فهم فطلب فقام بعيداً عن القومية والوحدة نجح فيما يستطيع ثم تبقى دولة الوحدة القومية غير مسئولة عن فشله . ذلك لأننا نعرف أنه من حيث هو صيغة ”  للتعاون قد يفشل لأسباب اقليمية فينفض ، وفي كل الحالات سيفشل في أن يحقق للشعب العربي ما تحققه له الوحدة بالرغم من كل ما قد يحققه من مكاسب للدول الاقليمية .
هذا بدون تعرض ـ هنا ـ لصيغة ” الاتحاد ” عندما تطرح أو تطلب أو تقوم كخطوة مرحلية ومؤقتة على الطريق إلى دولة الوحدة . وهو أمر سنعرض له عندما نتحدث عن نظرية الأسلوب . انما نتحدث هنا عن الاتحاد بين الدول العربية كغاية بديلة عن دولة الوحدة العربية كغاية .
ثانياً : أن الدولة الوحيدة التي تتفق مع إشتراك الشعب في وطنه وتجسد وحدة الوجود القومي هي الدولة ” الواحدة ” . دولة واحدة لشعب واحد ووطن واحد . دولة واحدة لأمة واحدة .
هذا هو الشكل الدستوري  لدولة الوحدة العربية كغاية تحددها لنا النظرية القومية . أما أن تكون دولة الوحدة العربية هذه دولة ” بسيطة ” ( ذات حكومة واحدة ومركزية) أو أن تكون ” فيدرالية ” ( ذات حكومة مركزية وحكومات في الأقاليم تتولى سلطات محلية يقررها الدستور الواحد) فإن مرجع ذلك سيكون الى دستور الدولة الواحدة كما يرتضيه الشعب العربي نفسه . وان كنا نعتقد ـ على ضوء الواقع العربي القائم ـ أن التنظيم الدستوري المسمى ” فيدرالياً ” أكثر إتفاقأ مع تنوع المشكلات الإجتماعية ـ من أثر التجزئة أو من أثر البيئة ـ  بين أجزاء الوطن العربي . مع ملاحظة انه ليس مما يلزم أن تكون الأقطار أو الأقاليم أو الجمهوريات العربية في دولة الوحدة متفقة الحدود مع الدول العربية القائمة الآن . بالعكس . إننا لو نظرنا الى هذه الحدود من مجرد زاوية كفاءة ممارسة السلطة في الوطن الكبير، وليس من زاوية إحترام مخلفات الاقليمية ، لتبين لنا أنها أسوأ  حدود يمكن أن تقوم بين الأقاليم في دولة الوحدة . إنها ـ بدون أي مبرر جغرافي أو اقتصادي ـ تقسم الأمة العربية الى أجزاء بالغة التفاهة بجوار أجزاء غير متناسبة الكبر، وتمتد مستقيمة كالخطوط الهندسية في الصحراء والجبال والوديان بدون اعتداد لا بتضاريس الأرض ولا بتوزيع البشر . إن تغييرات أساسية لا بد من أن ترد عليها لتعيد التوازن بين الأقطار على الوجه الذي يحقق أعلى مستوى من الكفاءة في مواجهة المشكلات الإجتماعية . أو حتى من أجل المحافظة على وحدة الدولة القومية ضد أية ردة إنفصالية . أو ـ على الأقل ـ من أجل أن تزول الى الأبد بصمات المستعمرين التي تركوها على الأرض العربية والتي نسميها اليوم حدوداً .
هل هذا هو كل شيء ؟
هـل مجرد أن تقوم في الوطن العربي دولة واحدة تضع الشعب والأرض في إطار دستوري واحد يسترد الشعب العربي ” كامل ” مقدرته على التقدم الاجتماعي المتكافئ مع الامكانيات البشرية والمادية المتاحة في  الامة العربية ؟ . لا . " ان وحدة الدولة القومية شرط لازم لامكان معرفة حقيقة المشكلات الاجتماعية في المجتمع القومي ، وحلولها الصحيحة المحددة موضوعيا بالواقع الاجتماعي ذاته وتنفيذ تلك الحلول في الواقع . ان هذا لا يعني أن الناس في الدولة القومية سيعرفون حتما حقيقة المشكلات الاجتماعية وحلولها الصحيحة أو أنهم سيحلونها فعلا ، انما يعني أن كل هذا سيكون متاحا لهم في الدولة القومية أما الباقي فيكون متوقفا على مقدرتهم على الانتفاع به (فقرة 24) . اذن ، فالمشكلة التي كانت تثيرها التجزئة وهي " عجز " الشعب العربي عن التقدم الاجتماعي المتكافئ مع امكانيات أمته لا تحل بمجرد قيام دولة واحدة في الوطن العربي ، بل بأن يكون في دولته الواحدة قادرا على التقدم الاجتماعي التكافئ مع امكانيات أمته . ولما كانت الدولة نظاما من عديد من القوانين التي تضبط سلوك الناس فيها فان مقدرة الشعب العربي على الانتفاع بالامكانيات المتاحة من أجل التقدم الاجتماعي تتوقف على مدى ما تخوله تلك القوانين للشعب العربي من حرية . والحرية ـ كما عرفنا ـ هي المقدرة على التطور الاجتماعي ( فقرة 39 ) .
وهكذا يصل بنا الحديث عن دولة الوحدة العربية الى عديد من المشكلات الخاصة بالنظام الداخلي فيها والتي لا بد من حلها حلا صحيحا حتى يستطيع الشعب العربي أن يطور واقعه الاجتماعي . أولى تلك المشكلات هي تلك المشكلة الخطيرة التي لا يوليها الفكر القومي التقدمي ما هي جديرة به من اهتمام ودراسة مع أنها تمثل واحد من أهم جوانب دراسة دولة الوحدة ، انها مشكلة الديمقراطية . 


(6)

51  ـ مشكلة الديموقراطية :

لم تدرس الديموقراطية ـ بعد ـ دراسة كافية في الفكر القومي التقدمي الذي يتضمن في داخل كافة المدارس الفكرية المختلفة في شأن الديموقراطية . وعلى وجه خاص ليس ثمة في الفكر القومي التقدمي الذي نعرفه بيان للعلاقة بين القومية والديموقراطية . وقد نستطيع أن ندرك أن تيار الفكر القومي السائد في الوطن العربي ، إذ يدعو بالحاح الى الثورة العربية من أجل قيام دولة الوحدة ، لا يجد مكاناً في الحديث عن الثورة للحديث عن الديموقراطية . وبالتالي يبدو الحديث عن الديموقراطية خارج ودون مستوى الدعوة الى الثورة . غير أن هذا الموقف السلبي يعني سكوت القوى القومية التقدمية على الإستبداد الذي قد تتعرض له الجماهير العربية بعض أقطار الوطن العربي أو ممالأته في مقابل وعد بالوحدة . هذا في الوقت الذي  نعد الجماهير العربية المقهورة بالحرية في دولة الوحدة . أن هذا الوعد الأخير يفتقد مبررات الثقة فيه ما دام الواعدون به لا يجدون لهم موقفاً ضد الاستبداد ويبيعون الحرية بوعود الوحدة . إذ ما الذي يضمن للجماهـير العربية ألا يكون الصامتون اليوم عن الاستبداد الاقليمي هم المستبدون غداً في دولة الوحدة ؟.. ثم أن مشكلة الديموقراطية مشكلة قائمة في الوطن العربي وقد أصبحت أكثر حدة منذ هزيمة يونيو (حزيران) 1967. وطرحت بقوة في نطاق محاولة الكشف عن أسباب الهزيمة ، أو تحديد المسئولية عنها. وقيل ، أو يمكن أن يقال ، أن الجماهير العربية، التي هي المصدر البشري للقوى المقاتلة ، كان قد سحقها الإستبداد الداخلي وأفرغها من المقدرة على المقاومة ، وعودها على الإنهزام وقبول المذلة قبل أن تواجه عدوها الشرس فانهزمت . وان ذلك الاستبداد الداخلي المسئول عن الهزيمة ما كان ليقوم لو أن ثمة في الوطن العربي ديموقراطية . ثم أنه ما يزال قطاع كبير منالمثقفين ” في الوطن العربي يعارضون تدخل بعض الدول العربية في مجالات التنمية الاقتصادية، وخطط التحول الإشتراكي ، والتأميم … الخ ، بالحرية والديموقراطية ويرون في ذلك التدخل مساساً بحقوق ” مقدسة ” يزعمونها للأفراد . ثم أن القوى القومية التقدمية تتطلع الى وحدتها الفكرية كمقدمة لوحدتها التنظيمية فلا بد لها من أن تتوحد فكريأ على حل المشكلة الديموقراطية حتى تستطيع أن تتوحد تنظيمياً وحتى تعرف كيف تتعامل داخل التنظيم ذاته … الخ .
أياً ما كان الأمر فان مشكلة الديموقراطية  في الوطن العربي أكثر تعقيداً منها في أي مكان آخر نعرفه . ولكن هذا غير مقصور على مشكلة الديموقراطية . إذ أن إضافة الواقع العربي المعقد إلى أية مشكلة اجتماعية اخرى عرفها غيرنا في بساطتها لا تلبث أن تضفي عليها من تعقيدات الواقع ما يجعلها في حاجة إلى فهم جديد . وهذا لا يعني أن نكف عن فهم واقعنا العربي ومشكلاته المعقدة . بل يعني إننا مطالبون بمزيد من الجهد في هذا السبيل . ونحن نعرف المصدر الاساسي للتعقيد كله . فكما عقدت التجزئة مشكلات التنمية ومشكلات التحرر ومشكلة الدولة تعقد مشكلة الديموفراطيه . ذلك لأننا إذ ندافع عن الشعب العربي ضد الاستبداد في ظل التجزئة وندعو إلى الديموقراطية في الدول الاقليمية ، ثم ندعو إلى الثورة ضد الاقليمية باسم القومية ، ثم نعود فندعو إلى الديموقراطية ، في دولة الوحدة ، يبدو الفكر القومي ـ في كل هذا ـ غامضاً أو متناقضاً ، أو فلنقل أنه لا يقدم الإيضاح الكافي لتبديد ما قد يبدو من غموض أو تناقض .
فكيف يكون حل مشكلة الديموقراطية في دولة الوحدة العربية ؟
لنعرف شيئاً عن المشكلة أولاً .
مشكلة الديموقراطية ثائرة ومطروحة منذ ستة قرون على الأقل . وما تزال ثائرة ومطروحة . وهو ما يعني انها ليست مشكلة بسيطة . ونستطيع أن نقول أنها لا تجد ـ إلى الان ـ حلها الصحيح . و آية هذا ان كل الدول في العالم تزعم انها ديموقراطية بالرغم من نظمها الاجتماعية المختلفة والمتناقضة في بعض الاوقات . و آيته الثانية أننا لا نجد مستبداً واحداً في الأرض لا يتحدث باسم الشعب وحريته وعندما يكون كل واحد قادراً على ادعاء الديموقراطية يكون هذا دليلاً حياً على ان ليس للديموقراطية مضمون عيني يمكن الالتقاء عليه والالتزام به والاحتكام اليه . وما دامت الديموقراطية على هذا الوجه فان مشكلتها في الممارسة ستظل قائمة بدون حل .
ولقد طرحت المشكلة ابتداء تحت عنوان سيادة القانون ” . ولم يكن المقصود بسيادة القانون هو احترام احكامه بل كان المقصود ” وجود ” قانون ينظم العلاقة بين الحاكمين والمحكومين . ففي ظلمات استبداد امراء الأقطاع ورجال الكنيسة في القرون الوسطى لم تكن المشكلة هي ما اذا كان القانون يسود او لا يسود وانما كانت هل ثمة ضرورة لوجود قانون اصلاً ام تغني عنه حكمة رجال الدين والأمراء والملوك الذين يمثلون جميعاً ” كلمة الله ” في الارض ثم يسترون استبدادهم بقدسية الدين . تلك كانت البداية. ومن المهم ان نفطن الى انها كانت مشكلة ثائرة حول العلاقة بين الحاكمين والمحكومين وبالتالي ان حلها كان مقصوراً على تلك العلاقة . ومصدر الاهمية ان المشكلة ذاتها لن تلبث ان تتطور وتتطور الحلول التي قدمت لها .
ولقد تولت الليبرالية حل المشكلة كما كانت مطروحة في البداية . ونحن نعرف أن الليبرالية فلسفة قائمة على اساس ان ثمة قواعد ثابتة وخالدة وسابقة على وجود المجتمع تقود خطا الأفراد فيه على وجه يؤدي تلقائيأ الى تحقيق مصلحة المجتمع من خلال محاولة كل فرد تحقيق مصلحته الخاصة . تلك القواعد التي تسمى ” القانون الطبيعي ” (فقرة 5) . على هذا الأساس كان الحل الليبرالي لمشكلة الديموقراطية ، او سيادة القانون يتضمن ثلاث قواعد : الاولى ان الناس ولدوا احراراً ومتساوين في الحقوق . وهي حقوق يستمدونها من طبيعتهم كبشر فلا يجوز المساس بها . الثانية : انه لا بد ان تنظم العلاقات بين الحاكمين والمحكومين بقوانين وضعية لا تسمح للحاكمين بالمساس بتلك الحقوق . الثالثة : ان تكون وظيفة هذا التنظيم القانوني (الدولة) مقصورة على حماية المجتمع من الخطر الخارجي واقرار الامن الداخلي بدون تدخل في العلاقات بين الناس تاركاً للقانون الطبيعي ان يؤدي غايته الطبيعية . وهو يؤديها على افضل وجه كلما توافرت للناس ” الحرية ” في ان يفعلوا ما يريدون بدون تدخل من الدولة .
وقد تفنن مفكرو الليبرالية في ابتكار النظم الدستورية التي تحول دون تدخل الدولة في شئون الأفراد أو تحصر تدخلها في أضيق نطاق . ولما كانت الحكومة هي التي تمارس السلطة في الدولة فقد واجه الليبراليون الحكومة وسلطتها بما أسموه ” سيادة الشعب “. سيادة الشعب في مواجهة الحكومة . والبداية هي : ما دام الناس قد ولدوا أحراراً فإن للناس أنفسهم أن يختاروا النظام القانوني الذي يريدون (الاستقلال السياسي) ولهم وحدهم أن يعبروا عن هذا الاختيار تعبيراً حراً وسرياً (الاستفتاء) فاذا كانوا من الكثرة بحيث لا يستطيعون أن يقولوا جميعاً ما يريدون فليختاروا من بينهم من يتحدث باسمهم وينوب عنهم في التعبير عن إرادتهم  (التمثيل النيابي) وعندما يختلفون لا يكون ثمة إلا أن يؤخذ برأي الأغلبية إحتراماً للمساواة بينهم ( حكم الأغلبية) . على أن يكون للأقلية دائماً الحق في التعبير عن رأيها إحترامأ للمساواة ذاتها (حق المعارضة) . وعن طريق الأغلبية يضع ممثلو الشعب القوانين التي تعبر عن إرادة الشعب (السلطة التشريعية)  . ويختارون الهيئة التي تقوم على تنفيذ هذه القوانين (السلطة التنفيذية) . فإن اختلفتا أو حاولت إحدى السلطتين أن تحيد عن وظيفتها أو تسيء إستعمال سلطتها أو اختلف الناس في تفسير القانون أو تنفيذه فإنهم يحتكمون جميعاً الى سلطة ثالثة مستقلة عن السلطتين لتحكم بالقانون فيما  يختلفون (السلطة القضائية ) . ويكون لها أن تبطل أي تصرف مخالف للقانون (الرقابة القضائية) أو أي قانون مخالف للدستور (الرقابة الدستورية) . وزيادة في الضمان يجب أن تكون السلطة التنفيذية مسئولة أمام ممثلي الشعب ( المسئولية البرلمانية) . ولضمان أن يظل ممثلى الشعب معبرين عن إرادته يجب أن يعاد إختيارهم من حين الى حين (الانتخاب الدوري) . وكل هذا يتم علناً تحت رقابة الشعب نفسه (رقابة الرأي العام) . فلا يجوز فرض أية قيود على حق في الرقابة وممارستها الفعلية (حرية الرأي  والاجتماع  والنقد وتشكيل الجمعيات والأحزاب واصدار الصحف) كما لا يجوز أن يتعرض الناس في نشاطهم هذا أو أي نشاط آخر لأي عسف أو إكراه فلا يقبض على أحد إلا إذا كانت منسوبة إليه جريمة . ولا جريمة إلا بنص . ولا نص بأثر رجعي . وعلى وجه خاص لا يجوز التدخل في العلاقات الإقتصادية بين الناس (حرية التعاقد) وما على الدولة إلا أن تنفذ ما أراده الناس من إتفاقاتهم (سلطان الإرادة) . ولكل واحد منهم أن يحصل من وراء هذا على ما يستطيع (حرية الملكية) … وكل تصرف تجريه الحكومة لا يتفق مع قاعدة أو أخرى من قواعد هذا النظام القانوني يكون إخلالاً بسيادة القانون وغير مشروع (مبدأ الشرعية) واعتداء على سيادة الشعب ( الديموقراطية )  .
هذه هي خلاصة النظام الديمقراطي في الدولة الليبرالية .
ولا شك في انها تقدم ضمانات قوية ضد استبداد السلطة . وكثيراً ما يتسرع البعض في نقدها من حيث الكفاءة “ الفنية في تحقيق تلك الضمانات . فلا يلبث النقد أن يفقد قيمته عندما يعترف الليبراليون بما فيها من قصور ” عملي ” ويقولون أن الممارسة ومراعاة الظروف الخاصة بكل مجتمع كفيلتان باكمال ما فيها من نقص أو تصحيح ما فيها من قصور . والواقع أن الديموقراطية الليبرالية غير مقصورة على نموذج واحد من الاستفتاء أو الانتخاب أو نظام الحكم . هناك الاستفتاء الشعبي المباشر (الريفرندم) . وهناك الانتخاب على درجة أو على درجتين . وهناك النظام البرلماني والنظام الرئاسي كشكلين من النظام النيابي . وهناك حكومة الأغلبية والحكومة الائتلافية . وهناك الاغلبية المطلقة والاغلبية الخاصة . وهناك سلطة رئيس الدولة في الاعتراض على القوانين … الخ .
لا وجه اذن لنقد الديموقراطية الليبرالية من حيث هي نظام ” فني ” لضمان سيادة الشعب ضد استبداد الحاكمين . أي من حيث  هي نظام ديموقراطي . والواقع أن الحقوق السياسية المترتبة على هـذا النظام قد أصبحت مسلمة فيما يعرف ” بحقوق الانسان ” . ولكنا لو بحثنا في مستوى اعمق من الشكل الديموقراطي فقد نتبين ان العيب كامن في أن ذلك النظام الديموقراطي هو نظام ليبرالي . وبالتالي فإن الديموقراطية قد تكون افضل نظام لتجسيد اشتراك الشعب في سيادته على وطنه لو طهرت من الليبرالية .
ذلك لأن الديموقراطية الليبرالية ليست ضماناً ضد استبداد الحاكمين فقط ، بل ضد تدخل الدولة في العلاقات بين الناس . فهي بينما تحمي ـ  فعلاً ـ الشعب من استبداد الحاكمين فتبقى السيادة للشعب ، تترك الناس يتنافسون فيما بينهم ” منافسة حرة ” على امكانيات التقدم الاجتماعي المتاحة ليستأثر كل قادر منهم على ما يستطيع منها ويحرم الاخرى فلا تضمن للشعب ” الاشتراك ” في السيادة . ومرجع هذا الى ان الليبرالية قائمة على فرض ميتافيزيقى هي وجود قواعد سابقة على وجود المجتمع ذاته تؤدي تلقائيأ الى تحقيق مصلحة المجتمع من خلال محاولة كل واحد فيه تحقيق مصلحته. وعلى اساس هذا الفرض قام النظام الرأسمالي الذي هو النظام الليبرالي للنشاط الاقتصادي . والذي تمثل المنافسة الحرة قانونه الاقتصادي الاساسي . وقد سبق ان عرفنا كيف كذبت الممارسة دعاوي الليبرالية وكيف قضت المنافسة الحرة على حرية المنافسة فانتهى عدم تدخل الدولة (النظام القانوني للمجتمع) وترك كل واحد يفعل ما يشاء الى ان كثيراً من الناس أصبحوا لا يستطيعون أن يفعلوا ما يشاؤون (فقرة 5) . فكأن الديموقراطية الليبرالية تحرر الشعب من استبداد الحاكمين لتمكن الرأسماليين من الاستبداد فيه . أو بتعبير آخر أنه بعد أن تحتفظ الديموقراطية للشعب بسيادته في مواجهة الحاكمين تأتي الليبرالية  فتمكن الرأسماليين من سلب الشعب سيادته . فاذا بالسيادة ليست سيادة الشعب على وطنه بل سيادة الرأسماليين على الشعب الذي يصبح تابعاً اقتصادياً لأقلية من المتحكمين في الامكانيات التي كانت متاحة أصلاً لتقدمه الاجتماعي . وهكذا تنقلب الديموقراطية في دولة الليبرالية الى ” لعبة ” سياسية لا علاقة لها بالحرية أو بالسيادة .
ويبدو كل هذا واضحأ إذا ما راجعنا لعبة الديموقراطية في ظل الرأسمالية . فالديموقراطية قائمة أصلأ على فرض أن الناس في الإستفتاء سيختارون ما يريدون . ونحن قد تعلمنا الا نستعلي على الناس أو نتهمهم بالجهل والإنحراف أو نفرص عليهم الوصاية ( فقرة 18) . كل ما في الأمر اننا نريد أن نتأكد من أن ذلك الغرض الأساسي للديموقراطية متوافر. أن نتأكد من أن الناس قد كانوا قادرين فعلأ ، وأحراراً فعلاً ، في التعبير عما يريدون ، وان ما عبروا عنه هوـ فعلاً ـ ما يريدون ، حتى لو كنا نرى من موقفنا أنهم أخطأوا في معرفة مشكلاتهم الإجتماعية و حلولها . الاحتكام الى الناس في المشكلات الإجتماعية أمر لا يمكن أن يرفضه إلا مستبد  .  و لكن قمة الإستبداد هي أن نحول دون أن يختار الناس ما يريدونه فعلاً . وذلك بأن نؤثر في إرادتهم حتى يقولوا ـ  في الإستفتاء ـ غير ما يريدون فعلاً . فهل التبعية الإقتصادية ، عندما يكون رزق الناخب ولقمة عيشه وأمن أسرته ومستقبل أطفاله متوقفة على ” رضا ” المرشح أو أعوانه أو حزبه ، هل هذه التبعية تحول دون أن يكون رأي الناخب معبراً عما يريده فعلاً أم لا ؟… هل إستعمال المقدرة الإقتصادية لإلحاق الناس بهذه التبعية ، وتجهيزهم فكرياً ونفسياً وإجتماعياً ولو بالابقاه عليهم جهله يحول دون أن تكون آراؤهم في الاستفتاء معبرة عما يريدونه فعلاً أم لا ؟..
نحن نقول إنها تحول . لأننا نعرفأن أي نشاط يقوم به الانسان ، ذهني أو مادي ، سلبي أو إيجابي ، ومهما يكن مضمونه له غاية ثابتة هي تحرره من حاجته كما يعرفها من ذاته . ولا يستطيع أي إنسان أن يستهدف من نشاطه غير التحرر من حاجته كما يعرفها من ذاته . (فقرة 18) . وعندما يكون إشباع حاجته متوقفاً على إرادة شخص غيره فلا بد له من أن تتأثر إرادته بإرادة الذي يملك المقدرة على الاشباع أو الحرمان . وبالتالي يكون التحرر من السيطرة الاقتصادية شرطاً أولياً وضماناً لا يمكن التنازل عنه لحرية الاستفتاء والانتخاب والتمثيل . باختصار ، يكون شرطاً لقيام الديموقراطية . ليس معنى هذا انه عندما يتخلف هذا الشرط سيتجمد الناس أو يقفون سلبيين ” فيقاطعونالانتخابات . فالواقع انهم لا يستطيعون ـ بحكم التبعية الاقتصادية ـ حتى مقاطعتها . و لكن معناه انه في ظل السيطرة الاقتصادية لا يمبر الناس عما يريدونه فعلاً . وقوفهم في طوابير الاستفتاء لا يعني عنايتهم بنتائجه وإنما ثمن ما دفع لهم أو إتقاء البطش بهم . وما يبدونه من آراء ليس تعبيراً عن حقيقة نواياهم بل مداراة للقوى القادرة على عقابهم أو نفاقاً للقوى التي بيدها أرزاقهم . أما ممثلوهم في المجالس التثسريعية فإن ما يثيرونه من مناقشات وما يصوغونه من قوانين ليس ترجمة لما يريده الشعب بل مشاركة في السلطة وتطلعاً الى مزيد من المشاركة أو حتى الى الاستيلاء عليها ، واحتفاظاً لأنفسهم بالامتيازات الاجتماعية أو الاقتصادية التي رشحتهم لتمثيل الشعب ومكنتهم من مواجهةتكاليف ” الانتخاب . أما الصحافة فتجارة تباع فيها الأفكار والمفكرون لمن يستطيع أن يدفع الثمن . أعلى ثمن . وأما رقابة الرأي العام فوهم لانها رقابة الخائفين من سادتهم على سادتهم الذين لا يملكون من أسباب الرقابة إلا ما يسمح به سادتهم … كل هذا يدور في نظام محكم من الديموقراطية ولكنه واقع تماماً في قبضة القوى الاقتصادية التي تسمح لها الليبرالية بأن تستولي على الدولة ان استطاعت . وهي مستطيعة دائماً بحكم تحول النظام الرأسمالي الى نظام احتكاري وبحكم عدم تدخل النظام القانوني للمجتمع (الدولة) لحماية الأفراد من السيطرة الإقتصادية التي يمارسها الرأسماليون .
واضح من كل هذا أن الكفاءة الفعلية لتكون الديموقراطية ضماناً حقيقيأ لسيادة الشعب في  وطنه متوقفة على الغاية الاجتماعية من النظام القانوني كله ، أي على طبيعة الدولة . وإنه عندما تكون الدولة ليبرالية ، ومنذ أن كانت الدولة ليبرالية ، كانت الديموقراطية أداة لسيطرة القوى الرأسمالية على الامكانيات البشرية والمادية المتاحة في المجتمع من أجل تحقيق غاية الرأسماليين : الربح ومزيد من الربح . أو كما يقول ا لماركسيون كانت ديموقرا طية ” بورجوازية  .
وقد أدانت الماركسية الديموقراطية البورجوازية بقوة وفضحت عقمها في الحفاظ على سيادة الشعب . منذ البداية قال ماركس وانجلز في البيان الشيوعي (1848) مخاطباً البورجوازيين ” إن قانونكم ليس إلا ارادة طبقتكم مصوغة في قانون عام ” . وهو حق فيما يعنيه من أن الليبرالية لم تحل مشكلة الديموقراطية . غيير أن قيمته كانت متوقفة على أن تقدم الماركسية الحل البديل لمشكلة الديموقراطية. فهل قدمته ، والى أي مدى؟ .
نحن نعرف ان الماركسية فلسفة مادية . وقد عرفنا ان المادية تعني أولوية الوجود المادي على الفكر. وانه في نطاق التأثير المتبادل بين العناصرالمتعددة والمكونة للمجتمع تلعب القوى المادية الدور الأساسي في حركة الانسان وفكره وتطور المجتمع واتجاهه وغايته . كما نعرف ان الماركسية ليست فلسفة مادية فحسب بل هي مادية جدلية بوجه خاص  (فقرة 10 و 11) . والتجربة الاجتماعية لهذا الجدل المادي هي انه في داخل المجتمع متعدد العناصر يتطور أسلوب انتاج الحياة المادية جدلياً بفعل التناقضات الكامنة فيه. فتنعكس حركة تطوره على ” البناء الفوقي ” في المجتمع . الأفكار والنظم والقانون .. الخ . والدولة هي نظام قانوني فهي من البناء الفوقي التابع للأساس المادي في حركته الجدلية . وأول جديد نقابله في هذه المرحلة من الفكر الماركسي هو هذا التطور المستمر في الأساس المادي وبالتالي في ” البناء الفوقي” . ومنه نتعلم اول ما يجب ان نتعلمه من المفهوم الماركسي للدولة وبالتالي اول تحديد لموقف الفكر الماركسي من الديموقراطية وهو : ان الدولة ذاتها مؤقتة . ويبقى ان نعرف متى قامت الدولة ومتى تزول . مع ملاحظة ان الفكر الماركسي لا يفرق ـ بحق ـ  بين الدولة والقانون ، فهما شيء واحد أو وجهان لعملة واحدة . اذ الدولة هي النظام القانوني للمجتمع . فمتى بدأت الدولة ومتى تزول ؟
يقولون : ان الانتاج ذو طبيعة اجتماعية بحكم انه لازم لحياة الناس في المجتمع . وللانتاج أسـلوب يتضمن عنصرين الأدو ات والعلاقات . الأدوات هي الأساس المادي والعلاقات هي الانعكاس القانوني (الحقوقي) لها . وطالما  احتفظ أسلوب الانتاج ، في أدواته وعلاقاته، بطابعه الاجتماعي لا ينشأ تناقض . وقد كان ذلك متحققاً في مرحلة الشيوعية الأولى . غير أن أدوات الانتاج ( العنصر المادي من أسلوب الانتاج) تطورت أولاً ، وهي تتطور دائماً بمعدل من السرعة اكبرمن تطور علاقات الانتاج الجامدة نسبياً . وعندما تطورت أدوات الانتاج في المرحلة الشيوعية الأولى الى الحد الذي أصبح ما ينتجه كل فرد اكثر مما يحتاج الى استهلاكه  تطورت علاقات الانتاج  فنشأت الملكية الخاصة لأدوات الانتاج . هنا نشأ التناقض في أسلوب الانتاج . وهو حجر الزاوية في المفهوم الماركسي للدولة والقانون والموقف الماركسي من الديموقراطية . فالتناقض الذي نشأ في أسلوب الانتاج لا يلبث أن ينعكس على النظام الاجتماعي فيقسم كل مجتمع الىطبقتين ” تبعاً لموقف كل منهما من علاقات الانتاج . طبقة مالكي أدوات الانتاج وطبقة لا تملك أدوات لانتاج . والصراع الجدلي بين النقيضين في داخل أسلوب الانتاج ينعكس في صراع طبقى في المجتمع . وتصبح الطبقة الساندة اقتصادياً في حاجة الى المحافظة على سيادتها وتأكيدها عن طريق قهر الطبقة الأخرى . فتنشأ الحاجة الى الدولة (والقانون) كأداة قهر طبقي تستعملها الطبقة الساندة للحد من حرية الطبقة المسودة . وهكذا نعرف مزيداً من خصائص الدولة  (والقانون) . فهى أداة قهر طبقي وبالتالي فهي دولة ( وقانون ) طبقة وليست ـ ولا يمكن أن تكون ـ دولة أو قانون الشعب كله . فهي تجسد سيادة طبقة ولا تجسد ، ولا يمكن أن تجسد ، سيادة الشعب كله . وهذا يصدق بالنسبة الى كل الطبقات منذ نشأت الملكية الخاصة الى أن تزول الملكية الخاصة في النظام الشيوعي . فهما أداة فرض سيادة ” السادة ” في  العهد العبودي  وسيادة الاقطاعيين  في العهد الاقطاعي وسيادة ” البورجوازيين ” في العهد الرأسمالي وسيادة ” البروليتاريا ” في مرحلة الإشتراكية ، ثم تزول في ظل الشيوعية. الدولة ـ اذن ـ بحكم طبيعتها لا بد أن تكون ” ديكتاتورية ” ولا يمكن ان تكون إلا ديكاتورية حتى لو كانت السلطة فيها للطبقة العاملة فهي حينئذ ديكتاتورية البروليتاريا . كما قال انجلز : ” لما كانت الدولة ليست إلا مؤسسة انتقالية تستخدم في الصراع والثورة من اجل إسقاط اعدائها بالقوة فمن السخف الحديث عن دولة  شعبية حرة . وطالما تستعمل البروليتاريا الدولة فإنها لن تستعملها من اجل الحرية بل من اجل اسقاط أعدائها . وفي الوقت الذي يصبح من الممكن الحديث عن الحرية فان الدولة تنتهي كدولة ” (ماركس وانجلز، المختارات ـ جزء 2 صفحة 42) ” او كما قال لينين ” كل دولة هي قوة خاصة لردع الطبقة المقهورة ” (الأعمال المختارة ، جزء 2 صفحة 18) و” لا تقوم الدولة إلا حيث ، وعندما ، والى المدى الذي تكون فيه المتناقضات غير قابلة للتوفيق ، (الأعمال الكاملة جزء 25 صفحة 387)  .
الى هنا لا يكون ثمة مجال للبحث عن الديموقراطية بمعنى سيادة الشعب . إذ أن ” الشعب ” بمعنى كل الأفراد المنتمين الى مجتمع معين تعميم لا يتفق مع التناقض الطبقي بين الناس في كل مجتمع . ولكن هذا لا يعني أن ليس ثمة مجال للبحث عن الديموقراطية على ضوء الماركسية . إذ يبقى أن نبحث عنها داخل البروليتاريا في الدولة الاشتراكية . ان الدولة هنا ستكون ديكتاتورية ضد البورجوازية . هذا واضح . من أجل تحقيق مصالح الطبقة العاملة. وهذا واضح أيضاً . فما هي علاقة الدولة (والقانون) بالبروليتاريا ذاتها ؟ يجب أن نتذكر هنا أيضاً انه بحكم المنطلقات المادية للفكر الماركسي تكون مصالح البروليتاريا محددة مادياً سواء كانوا واعين عليها أو غير واعين . أن وعيهم ، أو وعي بعضهم ، قد يكون متأئراً بتضليل البورجوازية أو ببقايا ورواسب الفكر البورجوازي . إنما تمثلهم في معرفتها وقيادتها الى تحقيقها الطليعة الواعية منهم (الحزب الشيوعي) . ولا مبرر للتشكيك في أن تمثيل الحزب الشيوعي الذي يتولى السلطة في الدولة للطبقة العاملة . فان هذا يمكن إثباته عن طريق إنتخاب العاملين للمرشحين الذين يقدمهم الحزب الشيوعي في دولته إنتخاباً مباشراً او غير مباشر طبقاً للقوانين التي وضعها الحزب نفسه . وهنا نصل الى المأزق . ان التنظيم القانوني للترشيح والاستفتاء والانتخاب ، وكل شيء في المجتمع ، سيكون على الوجه الذي يقرره الحزب باسم الطبقة العاملة وتحقيقاً لمصلحتها . والحزب نفسه هو جماعة منظمة من الواعين ماركسياً الانقياء إشتراكياً القادة في الدولة الماركسية. نريد أن نقول انه لا محل لإتهامهم باستغلال الطبقة العاملة التي يحكون باسمها . وفي الحزب لا ملكية خاصة ولا صراع طبقي ولا بورجوازية . نريد أن نقول انه لا محل لإتهامهم بأنهم يسخرون الدولة ليربحوا من ورائها. والحزب يجتمع ويناقش ويتبادل الرأي ثم ينتهي الى قرارات لن تلبث أن تكون قوانين تضبط سلوك الناس في المجتمع وتقوم الدولة (والقانون) التي هي أداة ردع بطبيعتها بردع الذين يخالفون تلك القرارات أو القوانين . ويتم إصدار القرارات التي ستكون قوانين بالاجماع أو الأغلبية . إنها إذن الديموقراطية في نقائها المثالي داخل الحزب الشيوعي قائداً ” لديكتاتورية البروليتاريا “. وعلى هذه الديموقراطية سيتوقف مصير الديموقراطية في المجتمع كله . ولكن عندما نجتمع ونناقش ونتبادل الرأي داخل الحزب ثم نختلف فإلى أي شيء نحتكم . إذا احتكمنا الى ” الأغلبية ” فنحن نحتكم الى وعيالأعضاء ” في قرارات تتعلق بتطور الوجود الاجتماعي المحكومة حركة تطوره ، لا بالوعي ، ولكن باسلوب إنتاج الحياة المادية . أي إننا نحتكم الى وعي الناس في تحديد ما يحب أن يكون عليه أسلوب إنتاج الحياة المادية الذي هو العنصر الأساسي في تحديد تطور الوجود الاجتماعي . وهذا لا يتفق مع المنهج الماركسي . إذ أن ” أسلوب إنتاج الحياة المادية يحدد مجرى الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية بوجه عام . ان وعي الناس لا يحدد وجودهم ، بالعكس، ان وجودهم هو الذي يحدد وعيهم ” (ماركس ـ نقد الاقتصاد السياسي ـ مختارات ماركس وانجلز ـ جزء 1 صفحة 363) . وعندما نختلف ونحن داخل الحزب الشيوعي على ما يجب أن يكون مستقبل الوجود الاجتماعي يكون معنى  هذا أن ” بعضاً ” منا لا يعون وعياً صحيحاً حقيقة الوجود الاجتماعي ذي الحقيقة المادية السابقة على الوعي وغير المتوقف عليه ، وبالتالي لا يعرفون معرفة صحيحة متطلبات تطوره . ولا يغير من هذا عدد هذا البعض أو نسبة عددهم الى الباقين . فكما تكون الاقلية هي التي لا تعي ولا تعرف تكون الاغلبية هي التي لا تعي ولا تعرف . أي ان الاغلبية هنا أو الاقلية ليست دليلاً على صحة الوعي والمعرفة بالحقائق الاجتماعية ومتطلبات التطور الاجتماعي . فكيف يمكن أن تحل هذه المشكلة ” الديموقراطية ” ؟ … أن ينفذ رأي ” أقدر ” أعضاء الحزب وعياً ومعرفة بالحقيقة المادية للوجود الاجتماعي ومتطلباته . واكثرهم وعياً ومعرفة ، بحكم وصولهم الى مناصبهم ، هم قادة الحزب وقمته ، وهنا يصبح موقف القيادة هو عنوان الحقيقة الاجتماعية وتصبح كلمة القائد هي القانون الذي تنفذه الدولة فتكون في مواجهة ستالين ؟ .
فأين هي الديموقراطية ؟
اننا لا نسأل عن الديموقراطية الليبرالية ، ولا عن الديموقراطية بمعنى سيادة الشعب كله ، بل نسأل عن الديموقراطية ” الاشتراكية ” ، عن الديموقراطية بمعنى سيادة الطبقة العاملة في مواجهة قيادتها الممثلة في الحزب . أو عن الديموقراطية بمعنى سيادة قواعد الحزب و” كوادره ” في مواجهة قيادته . ولسنا نتهم ستالينبالديكتاتورية ” لأنه قضى على البرجوازية . فتلك تهمة لا توجه الى ماركسي إلا إذا أريد له ألا يكون ماركسياً . ولكنا نتساءل عن اسلوب ” التعاملفيما بين الاشتراكيين . ولماذا لا يحتكم الاشتراكييون الى الاغلبية . أغلبيتهم هم . ولماذا لايكون الرأي في المجتمع الاشتراكي لا إلى قيادته ولكن إلى اغلبية الناس فيه ؟ والاجابة هي ان الاسس المادية للفلسفة الماركسية لا تسمح بان يكون الاحتكام عند الاختلاف الى الناس . والغلبية في الرأي أغلبية وعي والوعي ليس حجة في الماركسية . وقد ادى هذا الى ان تأتي الماركسية خالية من ” نظرية ماركسية في الديموقراطية ” . فكان موقف الماركسيين من الديموقراطية رد فعل للديموقراطية الليبرالية. فادانوا الديموقراطية البورجوازية ولم يقدموا عنها بديلا . وهو ذات ما فعلوه بالنسبة الى القومية (فقرة 11) . وكما تطور موقفهم من القومية عن طريق التجربة والخطأ خلال الممارسة تطور موقفهم من الديمرقراطية . و كما بدأ التطور بالنسبة الى القومية في عهد لينين ثم انقطع ليستأنف مسيرته بعد وفاة ستالين ، بدأ التطور في عهد لينين ثم انقطع ليستأنف مسيرته بعد وفاة ستالين . فاستناداً الى ما اثبتته ” خبرة الاتحاد السوفييتي والديموقراطيات الشعبية ” صحح المؤتمر الثاني والعشرون للحزب الشيوعي السوفييتي مفهوم الدولة” فلم تعد مؤقتة وديكتاتورية دائماً بل انها باقية بعد ان تنتهي ديكتاتورية البروليتاريا لتكون ” دولة الشعب كله ” . وفي دولة الشعب كله اذا اصبح القهر ضرورياً فانه لا يوجه الى طبقة بعينها ولكن الى المعتدين كافراد . وأن على البروليتاريا ان تقود الناس ومنهم البورجوازية الصغيرة و المثقفين الى الاشتراكية بالوسائل الديموقراطية : الاقناع والتشجيع والقدوة . وانه اذا استطاعت الطبقة العاملة أن تحصل على الاغلبية البرلمانية ، فان هذا الجهاز التقليدي للديموقراطية البورجوازية (البرلمان) يتحول الى اداة حقيقية للارادة الشعبية . اكثر من هذا، انه اذا كان النظام البرلماني يتطلب تعدد الاحزاب ” فان خبرة الديموقراطيات الشعبية قد اثبتت فعلاً امكان الاحتفاظ بنظام  تعدد الأحزاب خلال فترة بناء الاشتراكية ” وكل هذا مطروح من اكثر الماركسيين خبرة بما سببته الديكتاتورية من اضرار بالتقدم الاجتماعي في ظل الاشتراكية وهم الماركسيون في الاتحاد السوفييتي (اسس الماركسية - اللينينية 521  ـ 537) .
ولا بد لنا من أن نشير هنا الى انسيادة القانون ” او ” الشرعية “، بمعنى اتفاق لتصرفات القائمين على السلطة مع قواعد القانون السائد في المجتمع أكثر تحققاً في الاتحاد السوفييتي من أية دولة أخرى . واذا كان الليبراليون يفاخرون باعلان حقوق الانسان والمواطن الذي أصدرته الثورة الفرنسية سنة 1789 فان قائمة اكثر عدداً وأوضح مضموناً من الحقوق اصدرتها ثورة اكتوبر السوفييتية في يولية سنة 1918 تحت عنوان اعلان حقوق الشعب العامل ” . والدستور السوفييتي يؤكد ان القضاء مستقل ولا يخضع في قضائه الا للقانون . اكثر من هذا فان الدولة السوفييتية قد انشأت منذ 28 مايو سنة 1922 جهازاً خاصاً للحفاظ على شرعية تصرفات اجهزة الحكومة والموظفين بما فيهم الموظفون القائمون على تنفيذ القانون أنفسهم . ذلك هو الجهاز الذي يعرف باسم ” البروكوراتورا ”  والذي تنحصر مهمته فى حراسة الشرعية . وهو جهاز لا مثيل له في اية دولة ليبرالية . ذلك لأنة غير تابع لا للسلطة القضائية، ولا لوزارة العدل ، ولا للحكومة ذاتها ، بل يتبع مجلس السوفييت الأعلى مباشرة ليكون بهذا الاستقلال عن الحكومة وأجهزتها قادراً على مراقبة تنفيذ الحكومة ، ووزارة العدل ، والقضاة، والشرطة ، وكل الاجهزة الأخرى ، للقانون ” وضمان شرعية ” تصرفاتهم . وهكذا نعرف ان سيادة القانون لا تحل مشكلة الديموقراطية .. فالواقع اننا اينما ذهبنا في الأرض فنحن في مواجهة جماعة بشرية يقوم فيها نظام قانوني يتضمن مجموعة كبيرة ومتنوعة من القواعد الآمرة ، الناهية ، المكملة ، المفسرة ، تتدرج في قوتها الملزمة من أول اللوائح الادارية الى قمة الدستور. وتتضمن تلك القواعد جزاء جنائياً أو مدنياً أو اجرائياً على مخالفتها ، كما تتضمن الزاماً باحداث آثار معينة في حياة الناس . وتقوم في المجتمع سلطة لها حق ايقاع الجزاء أو ضمان نفاذ القانون بالاكراه اذا لزم الأمر، وذلك بقصد تحقيق انضباط سلوك الاشخاص في المجتمع على قواعد القانون . في هذه المجتمعات المنظمة لا تحل ” سيادة القانون ” مشكلة الديموقراطية لأنه لا شيء يتم ـ  حتى الاستبداد ـ إلا بعد أن يكون قد صدر قانون يبيحه . وتملك كل دولة في هذا العصر ” مصنعها ” الخاص لاصدار القانون . انما العبرة في سيادة القانون والشرعية في الحقوق والواجبات ، في التفرقة ما بين الحرية والاستبداد في مجتمع منظم (دولة) هو بمدى اتفاق القوانين التي تنظم المجتمع مع ما يريده الشعب فعلاً . وعندما تكون ارادة الشعب هي مصدر شرعية القوانين الوضعية  تكون تلك القوانين تجسيداً لسيادته فعلاً . نقصد كل القوانين من اول الدستور (القانون الاساسي) الى آخر اللوائح التنفيذية . وهنا تبرز أهمية مشكلة الديموقراطية وعقدتها ايضاً . إذ ان الديموقراطية هي النظام الذي يضمن ان تكون القوانين مطابقة لارادة الشعب . فهي إذن ضمانة شرعية كل شيء في الدولة . ولكن ممارسة الديموقراطية في الدولة ينظمها هي ايضاً قانون . ويصل بنا هذا الى عقدة مشكلة الديموقراطية : يكون سلوك الفرد في المجتمع مشروعاً اذا كان متفقاً مع القانون . ويكون القانون مشروعاً اذا اتفق مع الدستور. ويكون الدستور مشروعأ اذا اتفق مع ما يريده الشعب . وهو لا يكون كذلك إلا اذا صدر وفقاً للاجراءات التي يحددها القانون . ونعود الى البداية لو قلنا ان هذا القانون الاخير لا يكون مشروعا إلا اذا كان مطابقاً للدستور. ولا يمكن الخروج من هذه الحلقة المفرغة التي تدور فيها مشكلة الديموقراطية إلا اذا توقفنا لنسأل : كيف يمكن أن نعرف ان القانون الوضعي المنظم للممارسة الديموقراطية في مجتمع معين هو ذاته مشروع بدون حاجة الى الرجوع الى قانون وضعي آخر ؟ … بدون معرفة الاجابة على هذا السؤال الحاسم نفتقد أي ضمان ضد ان يكون ” النظام الديموقراطي ” كله في مجتمع معين قد وضع في قانون اساسي (دستور) او قوانين  استفتاء وانتخاب … الخ لمجرد اضفاء الشرعية الشكلية على نظام قانوني باسناده اسناداً شكلياً الى ارادة الشعب . وعندما تكون العلاقة بين النظام القانوني في المجتمع وبين ارادة الشعب علاقة شكلية ، تكون سيادة الشعب سيادة شكلية مهما كثر الحديث عنها في القوانين .
اذن فلا بد من البحث عن الحل الصحيح لمشكلة الديموقراطية خارج نطاق القانون الوضعي . وهذا ما تفعله كل المذاهب السياسية. حاولت الليبرالية ان تقدم الحل من القانون الطبيعي . وحاولت الماركسية أن تقدم الحل من القوانين التي تحكم تطور انتاج الحياة المادية . ولا نستطيع نحن ان نفعل غير هذا. وفيما يلي نحاول ان نقدم حلاً لمشكلة الديموقراطية في دولة الوحدة على أساس من نظريتنا القومية .

(7)

52  ـ دولة العرب الديموقراطية :

طال بنا الحديث وتشعب قبل ان يصل الى مشكلة الديموقراطية الدقيقة . لهذا قد يكون من المفيد ان نسترجع الخطوات التي وصلنا بها الى دولة الوحدة . ولتكون الفائدة مضاعفة نسترجع تلك الخطوات ونحن ندرس مشكلة الديموقراطية . لعلنا نتبين اننا بينما كنا نبني نظريتنا في القومية لبنة لبنة كنا نبني بذات اللبنات نظريتنا في الديموقراطية . ولعلنا عندما نتبين هذا أن ندرك أن القومية ديموقراطية واننا لا نستطيع أن نكون قوميين إلا اذا كنا ديموقراطيين ، لأن الأسس الفكرية التي تقوم عليها كل من الديموقراطية والقومية أسس  واحدة . وقد كنا نستطيع ان نعرض ملخصاً للمقولات المتتالية القائم بعضها على بعض والتي أوصلتنا الى الوحدة ثم نتلوه بالتطبيق في دراسة الديموقراطية . غير أن هذا الأسلوب سيبقى ـ دائماً ـ حاجزاً بين ما قيل أولاً عن القومية وما يقال أخيراً عن الديموقراطية . قد نفتقد عنده بيان العلاقة بين القولين . لهذا فإنا نفضل أن نعرض سلسلة افكارنا التي اتصلت حلقاتها حتى انتهت الى الوحدة ، حلقة حلقة ، لنرى علاقة كل حلقة بمشكلة الديموقراطية .
(1)  لقد كانت المقولة الأساسية في كل البناء الفكري الذي أقمناه هو : ” ان كل شيء منضبط بقوانين تحكم حركته حتماً سواء عرفنا تلك القوانين أو النواميس أم لم نعرفها ” (فقرة 2) . وهي قاعدة أساسية وحاسمة في مشكلة الديموقراطية . اذ نعرف منها ان الديموقراطية من حيث هي نظام اجتماعي لا يمكن أن تخضع للتصورات المثالية أو تقوم على فكرة ميتافيزيقية مستقرة في ضمائر البشر يقال لهما القانون الطبيعي . ان المصدر الصحيح لمعرفتها هو ذات الظاهرة التي تقوم فيها المشكلة : المجتمع . والمصدر الموثوق لحلها هي ذات القوانين الحتمية التي تضبط حركة المجتمعات . بمعنى اننا عندما نبحث عن الحقوق والحريات التي يجب أن يكفلها النظام القانوني للمجتمع (الدولة) ليكون نظاماً ديموقراطياً لا ينبغي أن نبحث عن ” حقوق أو حريات طبيعية ” بل أن نبحث عن ” الحقوق والحريات الاجتماعية ” تلك الحقوق والحريات التي لا ينشئها القانون الوضعي بل تحتمها القوانين الموضوعية التي تحكم حركة المجتمع .
(2) ولقد تعرضنا للمشكلة الفكرية التي تثيرها تلك المقولة الأساسية وهي ما اذا كان الانسان صاحب الارادة الحرة والمقدرة على الاختيار يخضع هو أيضاً لقوانين حتمية أم لا يخضع ؟ ( فقرة 3) . وعرضنا نماذج من المناهج الفكرية التي حاولت الإجابة على هذا السؤال . فعرفنا المنهج الليبرالي (فقرة 5) وقصوره ( فقرة 6) ومناهج التطور (فقرة 7) ومنها المنهج التاريخي (فقرة 8) ثم المنهج الجدلي (فقرة 9) ، وأوضحنا كيف كانت الميتافيزيقا سبباً في فشل المنهج الجدلي في شكليه المثالي والمادي (فقرة 10) . ثم تطور المنهج الجدلي من خلال الممارسة الماركسية (فقرة 11) والاسلامية (فقرة 14) والقومية (فقرة 16) ، ليصبح مستقراً انه ” في نطاق التأثير المتبادل بين العناصر المتعددة في المجتمع يكون الانسان هو العامل الأساسي في التطور (فقرة 17) . وابتداء من هنا نعرف ماهية الديموقراطية وأهميتها أو فلنقل خطرها أو خطورتها . فالديموقراطية هي النظام الذي يحدد العلاقات بين الناس في المجتمع وهم يمارسون دورهم القائد في حركة التطور . فهي اذن العامل الأول الذي تتوقف عليه مقدرة الناس في المجتمع على تطوير واقعهم . ويمكننا ـ  من مجرد هذه البداية ـ أن ندرك ان أي قصور في أسلوب قيادة الناس لحركة التطور ” الديموقراطية ” سيخل أو يعوق أو يوقف حركة التطور ذاتها . ثم نبدأ في معرفة القوانين التي تضبط حركة الناس في المجتمع مقدمة لصياغة النظام الديموقراطي على الوجه الذي يتفق معها .
(3)  ولقد بدأنا بوحدة تركيب المجتمعات ، أو بالعنصر المشترك في كل المجتمعات ، وهو الانسان لنرى القانون الذي يضبط حركته حتماً . فعرفنا (جدل الانسان) من حيث هو القانون الذي يضبط حركة الانسان حتماً ، وعرضنا أحكامه بالتفصيل (فقرة 18) . وفي دراستنا ” لجدل الانسان ” عرفنا ان الانسان يطور واقعه من خلال حل مشكلاته . وان مشكلاته تثور في الانسان نفسه بفعل التناقض بين ارادته وواقعه . فحتم عليه أن يستهدف دائماً حريته . وانه يحقق حريته باشباع غايته . وانه يشبع غايته بتغيير واقعه . وهكذا يطو ر واقعه ولا يستطيع أن يطور واقعه إلا على هذا الوجه . وانه ينجح في تطوير واقعه (حل مشكلاته) بقدر ما يعرف ويحترم حتمية القوانين التي تضبط حركة الأشياء والظواهر . ولو شئنا عندئذ أن نعرض للعلاقة بين جدل الانسان والديموقراطية كما نفعل الان ،  لقلنا ان الديموقراطية حتمية والاستبداد فشل محض . ذلك لأنه في ظل الديموقراطية أو في ظل الاستبداد ، لا يكف الناس ولا يستطيعون ان يكفوا عن ممارسة حرياتهم . لا يكف الناس ولا يمكن ان يكفوا عن مناقشة المشكلات الاجتماعية ولو همساً ، وعن ابداء آرائهم ولو لذوي قرباهم ، وأن يعملوا على تحقيق ما يريدون ولو خفية . هذا امر محتوم بحكم انهم بشر . فالاستبداد لا يحول دون أن يتبادل الناس المعرفة بالمشكلات ولو في شكل اشاعات ، ولا يحول دون ان يتبادل الناس الأراء ولو في شكل مقولات مضحكة (نكت) ولا يحول دون ان يحققوا ارادتهم ولو اختلاساً . انما وظيفة الاستبداد ان يحول دون ان يعرف المستبدون ما الذي يشكو منه الناس وماذا يريدون وماذا يفعلون . الاستبداد عصابة سوداء على أعين المستبدين لا يرون من خلالها شيئاً فيتوهمون ألا شيء هناك فهم أول ضحاياه . أما أثره في المجتمع فهو تعويق حركة التطور الاجتماعي فيه .
(4)  ذلك لأننا بعد ان عرفنا قانون الانسان الفرد رددنا هذا الانسان الى مجتمعه لنرى ما يؤثر فيه ويتأثر به . فعرفنا ان المجتمع هو ” جماعة من الناس يعيشون معاً في واقع معين مشترك فيما بينهم … انهم افراد متعددون ينشط كل منهم في الواقع المشترك طبقاً لقانونه النوعي : جدل الانسان كل منهم يسعى ولا يستطيع إلا ان يسعى لإشباع  حاجاته . وكل منهم يستهدف ولا يستطيع إلا ان يستهدف حريته .. الخ . هذا لا يتغير في المجتمع . فالمجتمع لا يحيل الانسان شيئاً جامداً او يحول الناس الى قطيع من الحيوان . انما الذي يتغير هو الواقع ذاته  . اذ عندما يتعدد الناس في واقع معين واحد يصبح هذا التعدد بما يتضمنه من مشاركة جزءاً من الواقع . جزءاً من الواقع الذي يواجهه كل انسان . يصبح واقعاً اجتماعياً. واقعاً اجتماعياً لا بمعزل عن أي انسان فيه . ولكن بالنسبة الى كل انسان فيه ” ( فقرة 18)  .
وعندما نصل الى المجتمع نواجه مشكلة الدولة اذ الدولة هي التنظيم القانوني للمجتمع . فنلاحظ ان المجتمع ـ اي مجتمع ـ ينطوي في ذات تكوينه على تناقض يين تعدد الأفراد فيه ووحدة الواقع الاجتماعي المشترك . وهو تناقض مصاحب لقيام المجتمع ولا ينتهي إلا بنهايته ان كانت للمجتمع نهاية . وهو يثير مشكلة مشتركة (عامة) بين الافراد المتعددين في واقعهم الواحد . ولقد ابتكر الانسان منذ أن وجد المجتمع حلاً لتلك المشكلة ما اسميناه ـ اخيراً ـ الدولة : تنظيم المجتمع بقواعد عامة وملزمة تضبط سلوك الافراد فيه على الوجه الذي يتفق مع غاية اجتماعية مشتركة وتأتي قوة الردع التي تتضمنها القاعدة الملزمة لتكفل ابقاء السلوك الفردي متفقاً دائماً مع هذه الغاية ، فهو نظام يتضمن ـ اولاً ـ اسلوباً محدد التحقيق غاية اجتماعية مشتركة . وهذي هي وظيفته الأساسية . ومن اجل ضمان تحقيق هذه الغاية يتضمن ـ ثانياً ـ جزاء رادعاً على مخالفة قواعده . وتقوم على نفاذ تلك القواعد وردع المخالفين لها ” اداة ” تكون لها سلطة التنفيذ والردع . هكذا وجد ـ  منذ ان وجد المجتمع ـ ذلك النظام العام (المشترك) المركب من عديد من القواعد الملزمة التي تضبط سلوك الناس في المجتمع باداته التي تنفذ القواعد الملزمة ولو بالاكراه. قد تكون تلك الاداة الوالد في الاسرة او الشيخ في القبيلة او الكاهن او الأمير او الحكومة . وقد يكون مصدر توليته الأمر في المجتمع وضعه العائلي كقرينة على عدالته ، او سنه  كقرينة على حكمته، أو شجاعته كقرينة على قدرته ، او انتخابه من الصفوة او من الشعب انتخاباً مباشراً أو غير مباشر. وقد يسمى النظام قبلياً او ملكياً او جمهورياً . وقد تسمى غايته اقطاعاً او رأسمالية او اشتراكية . وقد يكون اسلوبه في الردع الطرد من الجماعة او الاعدام شنقاً … الخ . غير ان هذا كله لا يغير من طبيعة ذلك النظام الاجتماعي الذي  نسمي شكله الاخير : دولة .  ذلك لأنه مهما اختلفت مضمون السلطة ومن يتولاها فإن وجود الدولة ذاته هو حل لمشكلة طرحها ويطرحها المجتمع بوجوده ذاته .  ومن هنا نعرف أن الدولة كانت قائمة في كل مجتمع وستظل قائمة ما بقيت المجتمعات . انها لا تتلاشى ولا يمكن ان تتلاشى . فحتى لو أصبح الناس امة واحدة ، وانتهى الصراع الاجتماعي في الأرض فلن يتوقف التطور الاجتماعي ابداً . وسيظل اختلاف الأفراد حول الخطوة القادمة للتطور الاجتماعي موجوداً أو قابلاً للوجود ، وستظل ضمانات تحقيق الخطوة التقدمية لازمة . وستظل المقدرة على ردع الأفراد الذين لا يقبلون هذه الخطوة لازمة. وبالتالي تظل قائمة وظيفة الدولة بما تتضمن من سلطة ادارة وردع . والواقع ان القول بان سيأتي اليوم الذي تكون الدولة فيه غير لازمة ـ وهو قول قديم ـ كان قولاً مثالياً قائماً على فرضية طوباوية هي أن سيأتي اليوم الذي يكون ” لكل حسب حاجته ” فيزول التناقض بين الحاجة الفردية والحاجة الاجتماعية ، وتحل نهائياً والى الأبد مشكلة الندرة . وهو طوباوي لأنه يحلم بيوم تكون فيه للحاجات الانسانية حدود نهائية تشبع عندها بفائض الانتاج . وقد تشبع حاجة الانسان الى سلعة او مضمون ما ويفيض الانتاج عنها إلا ان حاجات جديدة ومتجددة  ستظل أبدأ في حاجة الى مزيد من الانتاج المادي او الثقافي . ومهما استقرت أمور الناس على أوضاع مادية او ثقافية فلا يختلفون فيها وبالتالي لا يحتاجون فيها الى القانون او الى الدولة فان التطور الاجتماعي سيطرح اموراً جديدة يختلف فيها الناس او قد يختلفون وتظل للدولة وظيفة الزام الأفراد ـ بالردع ـ السلوك الذي يتفق مع متطلبات التطور الاجتماعي .
الدولة إذن قديمة وقائمة وباقية أبدا .
(5)  ثم انا بعد أن رددنا الانسان الى مجتمعه لنعرف ما يؤثر في قانونه (جدل الانسان) وما يتأثر به عرفنا ان اول اثر هو انه ” مهما تعددت وتفاوتت واختلفت وتناقضت حاجات الناس فإن  حلها الصحيح في مجتمع معين في وقت معين محدد موضوعياً بالواقع الاجتماعي ذاته … ومؤدى هذا ان كل مشكلة اجتماعية لها حقيقة واحدة مهما اختلف فهم الناس لها وبصرف النظر عن مدى ادراك صاحبها لحقيقتها ، وان أية مشكلة اجتماعية ليس لها إلا حل صحيح  واحد في واقع معين في مجتمع معين … وينطبق هذا بالنسبة الى كل الناس في المجتمع فيطورون واقعهم الاجتماعي بيسر ويطرد التطور الاجتماعي إذاً ، وكلما ، استطاعوا ان يعرفوا الحل الاجتماعي الصحيح لمشكلاتهم وان يلتزموه في الممارسة “ (فقرة 18).  وهكذا نعرف ان غاية النظام القانوني للمجتمع (الدولة) ان يمكن الشعب فيه من اكتشاف الحلول الاجتماعية الصحيحة لمشكلاتهم كما هي محددة موضوعياً بالواقع الاجتماعي ذاته وتنفيذها  في الواقع بالعمل . فنعرف ان الدولة منذ أن قامت كانت دولة للشعب كله ، وستظل أبداً دولة للشعب كله بمعنى انها نظام قانوني للمجتمع كله . نظام عام . ولم يحدث أبداً ولا يمكن أن يحدث أن تكون دولة لفرد من الشعب تنظم حياته الخاصة وحده ، أو دولة لمجموعة من أفراد الشعب تنظم العلاقات فيما بينهم دون غيرهم ، او دولة ” الطبقة ” تضبط سلوك المنتمين اليها بقواعد ملزمة لهم مقصورة عليهم . وهذا هو مـا يفرق الدولة عن الاسرة او الجمعية او النقابة . الدولة نظام عام وتلك نظم خاصة . قد يستولي فرد أو جماعة أو ” طبقة ” على ” السلطة ” في الدولة فتسخرها فيما تريد لنفسها فيقال مجازاً انها ” دولتهم ”  بمعنى انها مسخرة ـ بقوة الردع لتحقيق مصالحهم الخاصة دون الشعب ، ولكن تبقى مع ذلك دولة للشعب كله . لأنهم عندما يريدون لا يريدون لأنفسهم فقط بل يريدون للشعب كله من خلال الدولة ولو لم يريدوا له إلا أن يكون خادماً لهم . ان القوانين التي كانت تبيح ملكية العبيد في دولة الرق كانت تنظم سلوك السادة وسلوك العبيد والعلاقة بينهم  جميعأ في دولة واحدة . والمستبدون في الدولة لا يستبدون بانفسهم بل يستبدون لأنفسهم بالشعب كله فهم وضحاياهم في دولة واحدة .
وجوهر مشكلة الديموقراطية هي كيف تكون الدولة دولة الشعب كله  . وهذا هو الفيصل بين الديموقراطية والديكتاتورية . عندما تكون الدولة دولة الشعب كله تكون ديموقراطية ، وعندما تكون دولة فرد أو جماعة أو طبقة تكون ديكتاتورية . أما سلطة الردع فهي من النظام القانوني للمجتمع سواء كانت دولة ديموقراطية أو ديكتاتورية . واستعمالها ليس دائماً علامة على الديكتاتورية . فقد تستعمل ضد الانحراف الفردي ولا تكون ديكتاتورية. وتستعمل ضد الأقلية لنفاذ رأي الأغلبية ولا تكون ديكتاتورية . ولقد عرفنا من حديثنا المقارن بين ” نظرية الصراع الاجتماعي ” و” نظرية الصراع الطبقي ” مصدر الخطأ في الزعم بأن الدولة هي ديكتاتورية دائماً . قلنا ( فقرة 38 ) أن ” الطبقة بمفهومها الماركسي تناضل من أجل مصالحها الطبقية الخاصة . ونحن لا نرى أن التقدميين يناضلون من أجل مصالحهم الخاصة  فهم لا يستوون ـ في نظرنا ـ مع الرجعيين . ذلك لأن المضمون التقدمي للصراع الاجتماعي محدد موضوعياً بالواقع الاجتماعي ذاته . ومهما تكن مصالح الناس متنوعة ، ومختلفة ، ومتفاوتة . طبقأ لقسمة العمل بينهم وللجهد الذي يبذله كل واحد في موقعه فان كل مصالحهم متفقة مع الحل التقدمي لمجتمعهم حتى لو كان بعض الناس لا يعلمون . وهكذا يدور الصراع الاجتماعي حول مصالح الشعب كله من ناحية ومصالح الرجعيين من ناحية . ويبدو هذا أكثر ما يكون وضوحاً في النضال الذي يقوم به العمال من أجل الاشتراكية . فالعمال لا يستهدفون من نضالهم ضد الرأسماليين إلغاء الملكية الخاصة لأدوات الانتاج ، ملكية الرأسماليين لها ، لتصبح بعد هذا ملكية خاصة بالعمال ، بل لتصبح ملكية إجتماعية لكل الشعب . فهم يستهدفون إلغاء ” نظام إجتماعييوفر للرأسماليين إمكانيات إستغلالهم وإستغلال كل قوى الشعب المادية والبشرية واقامة نظام إجتماعي أكثر تقدماً يوفر الحياة الأفضل لهم ولكل أفراد الشعب حتى من غير العاملين . بل إن غايتهم النهاثية إلعاء الصراع الاجتماعي ، أي إلغاء أنفسهم كقوة من قوى الصراع الاجتماعي ليعيش الناس جميعاً بدون صراع ” . ان الخطأ الكامن في الخلط بين قوى الصراع الاجتماعي وأساليبه وغاياته هو الذي أدى بالفكر الماركسي الى المساواة بين القوى واعتبار كلأ منها طبقة ، والمساواة بين أساليبها واعتبار كلأ منها قهراً ديكتاتوريأ ، والمساواة بين غاياتها واعتبار كلأ منها غايات طبقية خاصة ، فقادتها تلك الأخطاء الى النهاية الخاطئة ، عندما ينتهي الصراع الطبقي تزول الدولة . على أي حال نحن لا نسوى بين القوى وأساليبها وغاياتها بل نقيس المواقف على الحل الصحيح المحدد موضوعياً لكل المشكلات الاجتماعية . فلا يمكن أن نخطيء التعرف على الديكتاتورية في دولة الاقطاع أو دولة الرأسمالية فهنا قلة تسخر الدولة لغاياتها دون الشعب كله . ولكنا لا نستطيع أن نقول نفس الشيء عن الدولة الاشتراكية . ان الاشتراكيين ليسوا طبقة لأن مصالحهم غير معزولة عن مصالح الشعب كله . فهم لا يستهدفون مصالح خاصة دون الشعب ليسخروا الدولة في تحقيقها بل يستهدفون نظاماً إجتماعياً تتحقق به وفيه حرية كل الناس في المجتمع من العاملين والفلاحين والمثقفين والفنانين والجنود وحتى من الذين لا يعملون عاجزين كانوا أم  نساء أم أطفالاً أم طلبة . الاشتراكيون يستهدفون النظام الاشتراكي . وهو نظام للشعب كله . وميزته انه يحقق مصلحة الشعب كله. فلا يمكن قبول الزعم بأن ” الدولة هي دائماً ديكتاتورية ” أو ” أداة قهر طبقي ” بل نقول انها تكون ديكتاتورية وأداة قهر طبقي عندما تكون مسخرة لخدمة مصالح فرد أو جماعة أو طبقة . وإن القوى الاجتماعية التي تستهدف التقدم الاجتماعي لا تستهدف مصالحها الخاصة فهي ليست طبقة . وعندما تتولى السلطة في الدولة لن تكون الدولة ديكتاتورية .
هذا من حيث المبدأ لبيان أن الدولة لا تكون دائماً ديكتاتورية . ومع ذلك فان الديموقراطية أو الديكتاتورية ليست منوطة بالغاية التي تدعيها كل قوة إجتماعية تريد أن تتولى السلطة في الدولة . فإن كل قوة إجتماعية ستزعم إنها تريد مصلحة الشعب كله ، أو ان غايتها تتفق مع مصلحة الشعب كله . إنما الديموقراطية أو الديكتاتورية هي نظام وضعي للدولة . فهي تكون ديموقراطية أو ديكتاتورية تبعاً لما تتضمنه من قواعد وقوانين تنظم معرفة المشكلات الاجتماعية وإكتشاف حلولها الصحيحة وتنفيذها في الواقع الاجتماعي . ومن هنا نستطيع أن نحكم على مصير الدولة عندما تتولى السلطة فيها أية قوة إجتماعية تبعاً لاجابة كل قوة إجتماعية على هذا السؤال : كيف يمكن إكتشاف معرفة المشكلات الاجتماعية وحلولها الصحيحة التي ستكون نافذة بحكم القانون ؟ . فنعرف ـ مقدماً ـ ان كل إجابة قائمة   على أسس ” جبرية ” ستترجم فى الدولة الى ديكتاتورية أياً كان مضمونها . وقد عرفنا انه “عندما لا يكون الانسان هو المحرك القائد لعملية التطور يكون التطور مفروضاً عليه من خارجه وتلك هي الجبرية ” (فقرة 10)  .  ومنه نعرف انه بصرف النظر عن كل الوعود فإن المثاليين والماديين معاً ، الذين يبحثون عن غاية التطور الاجتماعي خارج الانسان نفسه لا بد أن ينتهي بهم الأمر الى الاستبداد ، ولا بد أن تنتهي الدولة في أيديهم الى ديكتاتورية . لانهم عندما يحاولون اكتشاف الحلول الصحيحة المحددة موضوعياً بالواقع الاجتماعي المنظم في دولة سيبحثون عنها في ” أفكارهم ” أو في ” أدوات الانتاج المادية ” . وفي الحالتين لن يكونوا في حاجة الى الناس ، ولا يكونلدولتهم ”  إلا وظيفة إلزام الناس بحكم القوانين التي  يضعونها هم على تحقيق ما أرادوه لهم . نريد أن نقول انه طبقاً للنظريات المثالية والمادية . لا يكون للديموقراطية لزوم أصلاً الا أن تكون لازمة لتصديق الناس على ما اختار القادة . أو إلا اذا تعثر القادة وكذبتهم الممارسة  فاستعانوا بالشعب  وهم عندئذ يغادرون منطلقاتهم المثالية و المادية .
(6) أما نحن فقد كنا عرفنا أن معرفة المشكلات الاجتماعية واكتشاف حلولها الصحيحة المحددة موضوعياً بالواقع الاجتماعي ذاته وتنفيذها يتم عن طريق قانون التطور الاجتماعي (الجدل الاجتماعي) : ” المعرفة المشتركة بالمشكلات الاجتماعية والرأي المشترك في حلها والعمل المشترك تنفيذاً للحل في الواقع الاجتماعي لتتحقق به اضافة تحل بها المشكلات الاجتماعية وتثور بها مشكلات جديدة فتحل وهـكذا . مع ملاحظة ان حركات الجدل هذه تمثل ايقاعاً ثابتاً للقانون . معرفة المشكلة قبل معرفة الحل وشرط لها . ومعرفة الحل قبل التنفيذ بالعمل وشرط له(فقرة 18) . ومنه نعرف ـ أولاً وقبل كل شيء ـ ان الرجوع الى الناس في المجتمع لازم لمعرفة المشكلات الاجتماعية وحلولها وتنفيذ تلك الحلول . فنعرف ان الديموقراطية لازمة لإمكان التطور الاجتماعي في المجتمع المنظم (الدولة) . بمعنى ان أولى وظائف الدولة ان تنظم بالقوانين الوضعية كيفية مساهمة الناس في الجدل الاجتماعي . وعندما تخلو أية دولة من هذا النظام اتكالاً على تلقائية اكتشاف الحلول الصحيحة (الليبرالية) أو اتكالاً على وعي قادتها (استبدادية) تكون دولة ديكتاتورية ، فتكون دولة فاشلة . ومرد فشل الدولة الديكتاتورية الى انها لا تضمن نظامها الوضعي نظماً يسمح للناس بأن يكتشفوا الحلول الصحيحة للمشكلات الاجتماعية بأسلوب اكتشافها ( الجدل الاجتماعي) فلا يستطيعون ان يكتشفوها . غير ان ليس هذا هو كل شيء ، اذ يقدم لنا “ الجدل الاجتماعي ” ثلاث قواعد لا يتم إلا بها جميعاً وطبقاً لترتيبها المتفق مع ايقاع حركة الجدل : المشكلة الحل فالعمل ( من الواقع الى الفكر الى الواقع) . فيقدم لنا بذلك أسساً ثلاثة للنظام الديموقراطي :
الأول : العلم بالمشكلات الاجتماعية وتبادل العلم بها بين الناس بدون قيود . هذا هو الشرط الأول للجدل الاجتماعي . حرية التعبير والشكوى والمعرفة والعلم والتعليم بدون قيد . وله وجهان : أولهما سلبي يمثل في الالغاء التام والكامل لكل أسباب الخوف . الخوف من أي انسان او من أي مجهول . الأول : تضمنه  المساواة بين البشر أمام القانون (سيادة القانون) والثاني : تضمنه قاعدة ألاجريمة ولا عقوبة ولا جزاء من أي نوع  كان إلا بناء على قانون عام سابق على وقوع الفعل . أما الوجه الايجابي فيتمثل في ان تطرح جميع المشكلات الاجتماعية بدون تزييف أو تشويه . ان هذا يحتم وضع حد لتلك الجريمة المخربة التي ما تزال مباحة في كل نظم العالم . الكذب ، وما دام الكذب مباحاً بدون عقوبة تحت تأثير القاعدة الليبرالية ” القانون لا يحمي المغفلين ” فان كل شيء في المجتمع سيكون  مخلوطاً بالكذب أو كذباً خالصاً . وعندما يكذب الحاكمون ويكذب المحكومون ، ويكذب الموظفون ، وتكذب الصحف ، وتكذب أجهزة الاعلام .. بدون رادع وبدون مسؤولية فإن الحياة كلها تكون زائفة .  وعندما يكون الخوف من الشعب أو الخوف من الحكومة وراء الكذب فنحن لسنا في  مواجهة حياة زائفة فقط  بل هي حياة زائفة ومتعفنة . وتصبح معرفة حقائق المشكلات الاجتماعية مستحيلة . وعندما تستحيل معرفة المشكلات الاجتماعية على حقيقتها يصبح التطور الاجتماعي مستحيلاً . وهكذا حيثما خاف الناس من ان يقولوا ما يحسونه في انفسهم وحيل بينهم وبين ان يعرفوا ما يعانيه الآخرون يصبح التطور الاجتماعي منطلقاً من مشكلات الناس كما يتصورها أو يزيفها فرد أو مجموعة من الأفراد ، ويصبح تنظيم الخائفين المضللين وحشرهم ليسمعوا من غيرهم تشخيصاً لمشكلاتهم عائقاً أساسياً في سبيل التطور الاجتماعي فلا تكون الدولة دولة الشعب ، ولا يكون القانون تعبيراً عن ارادته .
الثاني : ابداء الرأي في المشكلات الاجتماعية بدون قيود . ان هذا مكمل لمعرفة المشكلات الاجتماعية، فقد عرفنا ان المشكلة الاجتماعية تعبرعن حاجة الانسان الى مضمون مادي أو ثقافي يفتقده . وعندما يعبر كل واحد عن آرائه في حل المشكلات الاجتماعية لا يفعل شيئاً في الحقيقة غير التعبير عما يحتاج اليه وكيفية الحصول عليه مهما تكن صيغة التعبير أي حتى لو لم يتحدث عن  نفسه . إن حرية  الرأي هي الممارسة الفعلية للمشاركة الفكرية في مصير المجتمع . وبالتالي فان القيود التي تفرض على حرية الآراء في حل المشكلات الاجتماعية ليست إلا حرماناً لأحد الشركاء في المجتمع من أن يشترك في تحديد مصيره ، وتعويقاً لحركة التطور بقدر ما كان المحرومون قادرين على  تقديمه من حلول لمشكلات تطوره . انه سلب لمقدرة المجتمع على التطور بقدر حرمانه من جهد أبنائه ولو كان فرداً واحداً منهم .  ونلاحظ ان التعبير عن الرأي يمثل الحركة الثانية من قانون الجدل ، والتالية لمعرفة المشكلات . بمعنى انه حيث تفرض القيود على حرية معرفة المشكلات الاجتماعية ، أو حيث تزيف المشكلات الاجتماعية ، لا تكون الاراء إلا حلولاً زائفة لمشكلات زائفة .
الثالث : تنفيذ الأقلية لرأي الأغلبية ، ان هذا يفترض انه في ظل حرية المعرفة ـ  بدون قيد ـ للمشكلات الاجتماعية ، وحرية الرأي ـ بدون قيد ـ في حلولها لم يتفق الشعب على حل واحد لذات المشكلات . ولما كانت الحلول الصحيحة للمشكلات الاجتماعية محددة  موضوعياً بالواقع الاجتماعي ذاته فان الاختلاف لا يعني إلا أن  الحلول الصحيحة للمشكلات الاجتماعية إما انها غير معروفة أصلاً أو انها معروفة لفريق دون فريق . ولا يمكن أن تكون الأغلبية العددية بذاتها دليلاً على صحة رأي الأغلبية . ولكن الاختلاف يعني أن الواقع الاجتماعي يطرح مشكلة جديدة من مشكلات تطوره  هى عدم اتفاق الناس فيه على ماهية الحلول الصحيحة المحددة موضوعياً بالواقع الاجتماعي ذاته . ولما كان التطور (حل المشكلات) لا يتم إلا طبقاً لقانون الجدل الاجتماعي ، وهو قانون حتمي ، فان حتميته تحتم الصراع بين الناس المختلفين . ولن يؤدي تجاهل هذه المشكلة الجديدة بانكار أسباب الصراع او اخفائه او منعه إلا الى مزيد من الصراع الذي قد يصل في النهاية الى تمزيق المجتمع نفسه (فقرة 18) . ومن هنا تكون مقدرة الشعب على تجاوز الاختلاف منوطة بتنظيم الصراع ذاته على قاعدتين : الأولى ، نفاذ إرادة الأغلبية على الأقلية بمعنى أن يكون من الأغلبية أن تصوغ إرادتها في قانون عام ملزم للأقلية . وذلك لأنه أياً ما كانت مضامين الحلول الصحيحة للمشكلات الاجتماعية فانها حلول لمشكلات الناس كما يحسونها في أنفسهم . وقمة النجاح أن تكون حلولاً لمشكلات الناس جميعاً . فان اختلف الناس ينفذ الرأي الذي يحل مشكلات أغلبهم بحكم أنهم شركاء بالتساوي في مجتمعهم . والقاعدة الثانية، هي إبقاء مجال تصحيح الاراء المختلفة مفتوحاً . بأن يبقى لكل من الأغلبية والأقلية حق طرح رأيها والدفاع عنه والتدليل على صحته بكل الطرق بما فيها ما تفسر عنه الممارسة وهي المحك الأخير لصحة الآراء . ومن خلال التبادل المستمر للمعرفة والاراء ينتهي الأمر الى معرفة موحدة بالحقيقة الموضوعية للحلول الصحيحة كما هي محددة بالواقع الاجتماعي ذاته . فإما أن تصحح الأقلية رأيها وإما أن تصحح الأغلبية رأيها . إن مصدر حق التصحيح هذا هو كون الواقع الاجتماعي واحد أو مشتركاً .
(7)  بعد هذا جاءت نظريتنا القومية منطلقاً من انه ما دام الناس في المجتمع هم قادة التطور فيه فان دراسة مشكلات تطوره يجب أن تبدأ بالناس  أنفسهم ليتحدد من خلالهم المجتمع الذي نريد أن نطوره من خلال حل مشكلاته ( فقرة 20) ولم نقف عند القول بأننا أمة عربية واحدة  بل سألنا عن علاقة كوننا أمة بالمستقبل الذي نريده . وأجبنا على هذا اجابة تعتبر حجر الزاوية في نظريتنا القومية . وكانت اجابة ذات شقين أحدهما خاص بالماضي والاخر خاص بالمستقبل . فقلنا انه بالتطبيق لقوانين التطور التي عرفناها تصل المجتمعات في تطورها التاريخي الى مرحلة الامة عندما يختص شعب معين بأرض معينة فتكون أرضه الخاصة دون غيره المشتركة فيما بينه ( فقرة 21) . أما عن الشق الخاص بالمستقبل فقلنا انه بالتطبيق لذات قوانين التطور التي عرفناها تكون ثمة وحدة موضوعية قد نعرفها وقد لا نعرفها ، بين كل المشكلات الاجتماعية التي يطرحها الواقع القومي ( فقرة 22) . انهما شقان من اجابة واحدة قائمة على أساس فكري واحد طبقاً لمنهج واحد . ومن هنا فانهما غير قابلين للانتقاء . بمعنى اننا لا نستطيع إلا أن نقبلهما معاً أو نرفضهما معاً . أما اختيار احدهما دون الاخر فهو نقض لأساسهما الفكري معاً . وقد وصلنا من خلال ترجمة الشق الأول الى نظام قانوني ( دولة) الى ان الدولة القومية هي وحدها التي تجسد اختصاص الشعب بالأرض والمشاركة فيها ، أي تجسد وحدة الوجود القومي ( فقرة 23) . وسنرى فيما يلي كيف أن ترجمة الشق الثاني الى نظام في الدولة القومية سيصل بنا الى أن “ الديموقراطية ” هي النظام الذي يتفق مع وحدة المصير القومي . وعندما ننتهي من هذا سنكون قد عالنا علمنا علم اليقين أن دولة الوحدة العربية لا تكون دولة قومية إلا اذا كانت دولة ديموقراطية ، واننا لا يمكن أن نكون قوميين إلا اذا كنا ديموقراطيين .
(8)  ذلك لأننا عندما نكون في مواجهة مجتمع قومي (امة) تكون الحلول الصحيحة للمشكلات الاجتماعية فيه محددة موضوعياً بالواقع القومي كله اوـ بتعبير آخرـ تكون حلولاً قومية لمشكلات قومية لا تنفذ إلا بالعمل القومي . أما كيف يمكن اكتشافها فقد عرفنا ان ذلك يتم عن طريق الجدل الاجتماعي . الجدل الاجتماعي على مستوى الأمة كلها . إذ عندما لا يسهم جزء من الشعب في الجدل الاجتماعي (نتيجة التجزئة مثلأ) يكون الجدل الاجتماعي قائماً في جزء من المجتمع فلا يهتدي الشعب فيه إلا إلى بعض حقيقة المشكلات الاجتماعية وبالتالي لا يعرف إلا حلولها الجزئية ثم يعجز عن حلها . ولما كانت الديموقراطية هي الصيغة القانونية للجدل الاجتماعي فهي لا تقوم في أمة إلا اذا كانت تنظيمأ قانونياً لمساهمة كل أبناء الأمة في الجدل الاجتماعي حتى يستطيع الشعب أن يعرف الحقيقة الاجتماعية لمشكلاته وان يكتشف  حلولها الصحيحة و أن يحلها . تطبيقاً لهذا نستطيع أن نقول انه كما ان دولة الوحدة لا تكون دولة الشعب العربي إلا اذا كانت ديموقراطية فان  الديموقراطية لا يمكن أن تؤدي غايتها الاجتماعية في الوطن العربي إلا في ظل دولة الوحدة . وبالتالي يستحيل في ظل التجزئة أن تؤدي الديموقراطية الى المعرفة الصحيحة بالمشكلات الاجتماعية او بحلولها او لا يمكن أن تكون ارادة الناس التي عبروا عنها ” ديموقراطياً في الدول الاقليمية مصدراً  للشرعية في مواجهة باقي الشعب العربي . اننا عندما نتحدث عن ” الديموقراطية ” ونحتكم الى الشعب في مشكلات اجتماعية هي بحكم الواقع القومي مشكلات قومية ، ثم نقبل ـ بحجة الديموقراطية ـ أن نلتزم رأي الأغلبية في الدول الاقليمية ، ننسى ان الأغلبية نسبة ” عدديةفلا نفطن الى انه لا يمكن  معرفة الأغلبية إلا بعد معرفة ” عدد ” أفراد الشعب الذين من حقهم ان  يبدو رأيهم بحكم أن الحلول ستنفذ في واقع اجتماعي مشترك فيما بينهم . ونغفل عن عشرات الملايين الذين حرمتهم التجزئة من  حق الاستفتاء والانتخاب والتمثيل والحكم لأن مليونا في الكويت أو مليونين في لبنان او خمسة ملايين في سورية  قد احتكموا الى الأغلبية منهم فاختاروا لأنفسهم ما أرادوا وهم لا يختارون ـ  بحكم وحدة المصير القومي ـ إلا للامة العربية كلها . فهل من الديموقراطية في شيء أن تستبد أغلبية من الأقلية في تقرير ما يؤثر حتماً في حياة عشرات الملايين من الشعب العربي ؟…  كلا انه استبداد لا يقوم عليه أمر مشروع  ولو  قامت عليه دولة اقليمية . وكل نظام قانوني قائم على أساس التجزئة من اول الدولة ، الى الدستور، الى القانون .. الى آخر القرارات الادارية لا يكون إلا صياغة لارادة الاقليميين فهو بالنسبة الى الأمة العربية غير مشروع وليس مصدراً للشرعية . انه نظامهم القانوني ، و دولتهم ، ودستورهم ، ولوائحهم … يعزلون بها جزءاً من الشعب العربي لتنظيمه ويقيمون به دولة ليحكموه بها … ثم يستعملون قوة الدولة والقانون في ردعه حتى لا يسهم مع باقي الشعب العربي في بناء نظامه القانوني ودولته الديموقراطية . 
(9) وأخيراً ، عندما التقينا بالواقع العربي في هذا النصف الثاني من القرق العشرين عرفنا واعترفنا بتخلف أغلبية الشعب العربي عن كثير من الشعوب الاخرى في المقدرة الذاتية على معرفة الحقيقة الاجتماعية لذات المشكلات التي يعانونها في أنفسهم وحلولها الصحيحة المحددة موضوعياً بواقعهم الاجتماعي وعدم اتقانهم العمل المناسب لتنفيذ تلك الحلول في الواقع (فقره 38) . ورددنا هناك ما عرفناه من جدل الانسان : ” عندما نرى الناس أو بعضهم عاجزين عن معرفة حقيقة المشكلات الاجتماعية أو عن اكتشاف حلولها الصحيحة أو نراهم مفتقدين المهارة اللازمة لتنفيذ تلك الحلول في الواقع لا نعزلهم عنا ولا ننعزل عنهم ولا نستعلي عليهم ، بل ننتبه بقوة الى أننا نواجه فيهم أخطر مشكلات التطور الاجتماعي التي يطرحها واقعنا : تخلف البشر، (فقرة 18) . وعرفنا أن تلكمشكلة يثيرها التناقض في الناس أنفسهم بين ارادتهم التطور وواقع عجزهم عن التطور… وإن حلها يكون بتغيير الواقع في الناس أنفسهم ، بتغيير تخلفهم في المقدرة على التطور الاجتماعي . وذلك باشتراكهم على أوسع نطاق في معرفة المشكلات التي يثيرها واقعهم الاجتماعي . انهم بهذا يطورون مقدرتهم الجدلية ، ( فقرة 18) . ونعرف الان ما هي الترجمة القانونية للمشكلة والحل . انها مشكلة التخلف في الممارسة الديموقراطية وحلها هـي الممارسة الديموقراطية على أوسع نطاق . اننا إذ ندرك أن مشكلات التطور في المجتمعات المتخلفة أو النامية ـ ومنها امتنا العربية ـ ليست مقصورة على مجالات التنمية الافتصادية لتعويض سنوات الفقر فحسب ، بل تشمل أيضاً مجالات تنمية المقدرة الانسانية على التطور لتعويض سنوات الجهل نعرف أن حل مشكلات التطور حلا صحيحاً يقتضى التزام أولوية الانسان . بناء الانسان العربي القادر على تطوير مجتمعه حتى يتطور مجتمعه . ولن تكون الاخطاء في الممارسة الديموقراطية إلا المقابل العادل الذي يدفعه المتخلفون ليتقدموا . الحرية ومزيد من الحرية حتى يتعلم الناس في دولة الوحدة كيف يكونون أحراراً فلا يستطيع أن يستبد بهم مستبد . والديموقراطية ومزيد من الديموقراطية في دولة الوحدة حتى يتدرب الناس على حل مشكلات التطور . الانسان أولا. بدون أحرار لا توجد حرية . وبدون حرية لا توجد ديموقراطية . وبدون ديموقراطية لن تكون دولة الوحدة هي دولة الشعب العربي .
والمصدر الاساسي للخطر على الديموقراطية في الوطن العربي هم البيروقراطيون ، ذلك القطاع المتعفن من المثقفين . ذلك لأن المثقفين ـ أينما وجدوا ـ هم قادة حركات التطور الاجتماعي . وفي المجتمعات المتقدمة كثرة منهم قد تفيض عن حاجة القيادة . ولكنهم في المجتمعات المتخلفة أو النامية ـ ومنها امتنا العربية ـ قوة نادرة ذات قيمة فائقة  . انهم أثمن امكانيات التقدم المتاحة في المجتمع . فهم قوة ذات خطر واكنهم أيضا ، وللسبب ذاته، قوة ذات خطورة لا يستهان بها . ذلك لأنهم أكثر معرفة وعلماً ومقدرة على العمل الاجتماعي من الكتلة البشرية السائدة في مجتمعاتهم فلا تستطيع مجتمعاتهم أن تستغنى عنهم . وهم يحملون في ذواتهم الاسباب التي عرفناهـا ، جرثومة الفردية أكثر المواقف انحطاطاً عن القومية وعداوة لها (فقرة 32) . وعندما يجتمع الامران نكون في مواجهةالبيروقراطية ” ، مصاصة دماء الشعوب التي لا يكف المنتمون إليها لحظة واحدة عن سرقة الناس ثم احتقارهم لأنهم جهلة . ويتخذون من جهل المسروقين مبرراً لاستحقاقهم ما سرقوا . انهم عادة موظفو الدولة ، الخبراء بقواعد الدستور ، ونصوص القانون ، وخبايا اللوائح الادارية ، والقادرون دائمأ على أن يدفنوا آمال الشعوب في اضبارة من الورق ، وأن يعلقوا حياة الناس على توقيع مجهول ، وأن يحولوا أكثر الشعارات ثورية الى حروف ميتة ، باسم القانون . اولئك البيروقراطيون لا يجهلون القانون وأوامره ونواهيه فلا يهدرون غايتة إلا بعد أن يوفروا لما يفعاون شرعية شكلية . بل انهم يفرطون في توفير الشكل الشرعي بما يضيفونه على تصرفاتهم من توقيعات : توقيع يعرض ، توقيع روجع ، توقيع موافق، توقيع يعتمد … ثم توقيع يصرف، حتى تتوه المسئولية بين عديد من المختلسين ، وهم ليسوا اقطاعيين أو رأسماليين أو اشتراكيين ، انهم ـ ببساطة ـ اقطاعيون أو رأسماليون أو اشتراكيون متى ، والى المدى الذي يكون مناسباً للاستيلاء لأنفسهم على أموال الشعب الذي يحتقرونه . و هم ديموقراطيون متى ، والى المدى ، الذي يبقي وصايتهم على الشعب قائمة . انهم المستغلون في كل مجتمع متخلف أو نام لأنهم ثمرة
التخلف ذاته أو علامته .
وعندما يستولي البيروقراطيون على الدولة لا تكون الدولة دولة الشعب.
والديموقراطية هي الحصانة ضد البيروقراطية . إذ باطلاق حرية الشكوى والرأي وممارستها على أوسع نطاق ، وبدون خوف ، يعري المسروقون السارقين ، ولا يجد البيروقراطيون أحداً ينافقونه إلا الجماهير ذاتها وتلك أول الطريق لتدريبهم على احترام الذين يدفعون أجورهم . ان آخر شيء يمكن أن يكون مجتمعنا المتخلف ، وأي مجتمع متخلف ، في حاجة اليه هو حصانة موظفي الدولة . لأن المشكلة في مجتمعنا المتخلف ليست كيف نحمي الموظفين من التطاول عليهم والمساس ، بهيبتهم ، ولكن كيف يتعلم الشعب العربي الجرأة في المطالبة بحقوقه وكيف يتعلم الموظفون أن يهابوا الناس ويتعلم المثقفون إحترام الشعب . بدون هذا، بدون هذا التدربب الديموقراطي الشاق على الممارسة الديموقراطية سيكون الشعب العربي معزولأ في دولته يخشى حكامه وينافقهم . يتجمع اذا دعوه . وينفض اذا أمروه . ويدلي برأيه إن طلبوا رأيه ولكن على ما يريدون . وبغيره إن أرادوا . واذا بدولة الوحدة ليست دولة الشعب العربى بل دولة الذين أقاموا ليحكموا بها . وعندما تكون على هذا الوجه ” الرديء ” لا تكون دولة قومية ولو أسميت دولة عربية ، لانها لا تكون دولة قومية ، أي دولة الأمة العربية ، إلا بقدر ما تكون أداة الشعب العربي في تطوير واقعه ، أي إلا بقدر ما تكون دولة ديموقراطية .
(10) هكذا تتطور المجتمعات وهذه هي القوانين الاجتماعية لتطورها . وهي قوانين حتمية . إن يلتزمها الناس يطوروا واقعهم بنجاح مطرد . وان لم يلتزموها يتعثروا أو يتوقفوا بقدر ما يخالفونها. والديموقراطية هي صياغة هذه القوانين الاجتماعية في قوانين وضعية ملزمة . انها الصيغة القانونية (الحقوقية) للجدل الاجتماعي . فهي نظام لحركة الحياة الاجتماعية قبل أن تكون نظاماً للاستفتاء والانتخاب والحكم . وهي نظام  حتمي للتطور الاجتماعي لأن الجدل الاجتماعي قانون حتمي يضبط  حركة تطور المجتمعات .
أما عن الشكل الديموقراطي فهو أمرفني ” لا يتضمن قيمة في ذاته وإنما يستمد قيمته من مناسبته لمجتمع معين في مرحلة تاريخية معينة ، بحيث يسمح في كل مجتمع وفي أية مرحل بأقصى إمكانيات الجدل الاجتماعي لكل إنسان في المجتمع ، وليس من اللازم أن يكون ذا شكل عام واحد . إن هذا أحد الأخطاء التي ورثناها من الديموقراطية الليبرالية التي تساوي بين الناس في الشكل الديموقراطي ولا تقيم وزناً للممارسة الديموقراطية . تساوي في الحقوق المكتوبة على صفحات الدساتير ” القوانين الأساسية ” ولا تقيم وزناً لاستعمال الحقوق في الواقع الحي . في حين اننا عندما نعرف أن على الشكل الديموقراطي أن يكون متسقاً مع قانون الجدل الاجتماعي قد نستطيع أن نهتدي في كل  مجتمع على حدة وفي كل مرحلة  تاريخية معينة الى وسائل متنوعة للممارسة الديموقراطية تبعاً لمستوى التعليم والثقافة والبيئة والظروف القومية والعالمية بحيث تكون صياغتها محققة في كل مكان وبالنسبة الى كل واحد أفضل الامكانيات ليعرف الشعب مشكلاته الاجتماعية ويساهم بالرأي وبالعمل في حلها . ان هذا يعني أننا لا نستطيع أن نحصي هنا كل أشكال الممارسة الديموقراطية . ولكنه لا يعني أن يكون الشكل الديموقراطي منوطاً بالاهواء بغير ضابط . ان ضابطه هو قانون الجدل الاجتماعي وإيقاع حركته . وقد نستطيع أن نضرب هنا  أمثلة مما يتفق مع منهجنا ونظريتنا .
فمثلا، عرفنا أن العلم بالمشكلات الاجتماعية وتبادل العلم بها بين الناس بدون قيود هو أول شروط الجدل الاجتماعي وأن ” خوف ” الناس من أن يعبروا عن المشكلات الاجتماعية كما يعرفونها من أنفسهم يشوه تلك المشكلات أو يحجبها فتولد الممارسة الديموقراطية شائهة . وعرفنا في سيادة القانون ضماناً ضد الخوف . غير أننا لا نرى  هذا كافياً بل نريد للممارسة الديموقراطية ضماناً ضد الخوف من القانون ذاته . أو بمعنى أدق ضد الخوف من الخطأ الذي يقع تحت طائلة القانون . وتعرف الممارسة التقليدية للديموقراطية مثل هذا الضمان ، وتقره ، ولكن في نطاق محدود هو المجالس التشريعية (البرلمانات) ، حيث من المستقر ، حصانة أعضاء المجالس التشريعية ضد كافة المسؤوليات الجنائية (الجزائية) والمدنية  والادارية عن أية آراء يبدونها وهم يؤدون وظائفهم . ومن المهم أن نلاحظ أنها ليست حصانة ضد المسؤولية عن آراء مباحة أصلا ، بل هي حصانة ضد المسؤولية عن آراء لو قيلت بعيداً عن نطاق العمل التشريعي ومن غير الذين يقومون به لكانت جرائم أو لعرضت أصحابها لمسؤوليات مدنية أو ادارية . انها حصانة ضد القانون ذاته . حتى يكون الذين يطرحون المشكلات الاجتماعية ويناقشونها ويبدون الاراء في حلها متحررين من كل أسباب الخوف من أن يقولوا ما يعتقدون أنه الحق . ولسنا نرى لماذا تكون تلك الحصانة التي يرجع اليها الفضل فيما حققه النظام النيابي من نجاح وما أرساه من تقاليد ديموقراطية ، لماذا تكون مقصورة على المجالس التشريعية (البرلمانات) وحدها . لماذا لاتمتد فتشمل كل المؤسسات والمنظمات واللجان والمجالس والمؤتمرات، سواء كانت حكومية أو شعبية ، وسواء كانت ثقافية أو علمية أو اقتصادية أو اجتماعية أو فنية أو حتى رياضية ، فلا يسأل أعضاؤها على أي  وجه عما يبدونه من آراء وهم يطرحون المشكلات ويتبادلون الرأي في حلها . ثم نخص بالذكر النقابات المهنية والعمالية وجمعيات الفلاحين ، ان كل أولئك تستحق آراؤهم في  مؤسساتهم أن تكون محصنة ضد الخوف من الخطأ والمسؤولية . ان استعمال الحق يعتبر سبباً من أسباب الاباحة في كل تشريعات العالم . فلسنا نعرف كيف يكون من حق العمال ـ مثلا ـ  أن ينتظموا في نقابات واختيار مجالس لادارتها ثم لا يتمتع اعضاء تلك المجالس بالحصانة المقررة لأعضاء المجالس التشريعية . كأن تلك المجالس لا تناقش مشكلات اجتماعية أقوى أثراً في حركة التطور الاجتماعي من كثير مما يعرض ويناقش في المجالس التشريعية . يقال أن ليس لتلك المؤسسات والمنظمات أن تتصدى للعمل ” السياسي ” ، وعلى القانون أن يردعها أن حاولت ، فنقول أن ذلك خطأ آخر ورثناه عن الديموقراطية الليبرالية حيث التفرقة الليبرالية بين المشكلات العامة والمشكلات الخاصة . أما عندنا ، طبقاً لمنهجنا ، فلا توجد في المجتمع مشكلات خاصة ، انها كلها مشكلات إجتماعية ، يؤثربعضها في بعض ، ويتأثر بعضها ببعض ، ولا تحل أي منها إلا في نطاق تقدم المجتمع كله . وبالتالي فليس ثمة حد يفصل مشكلات العمل ـ مثلاً ـ عن مشكلات الحكم حتى تفرض على من يناقشون مشكلات العمل حدود قانونية صارمة لا ينبغي لارائهم أن يتجاوزوها . وعندها ، وطبقاً لنظريتنا، لا يتحدد الموقف الصحيح لكل واحد من مشكلات مجتمعه تبعاً لموقعه من علاقات العمل ، وإنما يتحدد موقفه من خلال وعيه العلاقة الصحيحة بين موقعه ومشكلات مجتمعه ، فلسنا نرى في معرفة ومناقشة وحل المشكلات ” الخاصة ” إلا مدخلأ لمعرفة ومناقشة وحل المشكلات ” العامة “. وبالتالي تسقط حجة التخصص الليبرالية وتستحق الاراء التي تطرح في المؤسسات والمنظمات واللجان والنقابات نفس الحصانة المقررة للاراء التي تطرح في المجالس التشريعية (البرلمانات) ، على أساس أن طرح المشكلات الاجتماعية ومناقشتها بدون خوف هو أول شروط الجدل الاجتماعي .
مثال آخر من الإعلام .
إن أجهزة الإعلام (الصحافة والراديو والتليفزيون .. الخ) أصبحت في كل مجتمع المصادر الأساسية للأخبار. والأخبار هي بيان للواقع الاجتماعي وأحداثه بما ينطوي عليه من مشكلات داخلية وخارجية . وبالتالي فإنه على مدى صدق الوقائع التي تنشر أو تذاع على الناس يتوقف ـ الى حد كبيرـ إتجاه آراء الناس في المشكلات الاجتماعية وحلولها . نريد أن نقول انه قبل أن يبدأ أي إنسان ممارسة الديموقراطية سواء كانت رأياً يبديه ، أو ممثلاً يختاره ، أو موقفاً يأخذه ، يكون وعيه المشكلات الاجتماعية قد تحدد تبعاً لسيل الأخبار التي لم تنقطع أجهزة الإعلام عن صبها في رأسه من خلال حواسه جميعاً ، وبالتالي يكون رأيه قد أصبح محدداً بما وعى . ولسنا نبالغ اذا قلنا أن الحصيلة النهائية للممارسة الديموقراطية ، مهما كان شكلها، أصبحت متوقفة ، إيجابياً  وسلبياً ، على تلك الأجهزة التي حولها العلم والفن الى أدوات بالغة المقدرة على التأثير في عقول الناس ومسالكهم . وهي تؤثر إيجابياً لانها تنقل الى الناس وقائع محيطة بكل أوجه النشاط في مجتمعهم وفي المجتمعات الأخرى فتزودهم بمقدرة هائلة على معرفة ومتابعة حركة التطور الاجتماعي ومشكلاته وبالتالي توفر لهم إمكانيات تكوين رأي أكثر نضجاً بكل تلك المشكلات . وهي تؤثر سلبياً لأن الليبرالية التي تفسد كل شيء تفسد أجهزة الاعلام وتحيلها أدوات مدمرة وقد أفسدتها أولاً عندما أحالتها الى مؤسسات رأسمالية تستهدف الربح وتقيّم نجاحها بقدر ما تقترب من احتكار المستهلكين (القراء والمستمعين) وتقضي على غيرها في سوق المنافسة الحرة . وعندما نرى تلك الأجهزة تبذل قدراً كبيراً مما تنشره أو تذيعه لمجرد اغراء القراء والمستمعين بشرائها والاستماع عليها وتتوسل الى هذا بأحط ما يغري  الغرائز، و عندما نرى الاعلانات الخادعة تنشر وتذاع على مسئولية أصحابها ما داموا يدفعون الثمن ، ندرك كيف تفتك تلك الأجهزة بوعي الناس  مشكلاتهم الحقيقية من خلال اغراق انتباههم في لجة من المشكلات الزائفة . وقد أفسدت الليبرالية  أجهزة الاعلام ثانياً لما أن منحتها الحق الليبرالي الشهير : حرية الكذب . وأجهزة الاعلام الليبرالية تكذب في الخبر بوسائل ” فنية ” شتى صيغته، حجم حروف طباعة، مكانه بين الأخبار، اختصاره أو الاضافة إليه ، عدم ذكر مصدره … الخ ، لأن لكل جهاز رأيأ في الخبر ذاته فهو يصوغ الخبر على الوجه الذي يتفق مع رأيه . من هنا تستر أجهزة الاعلام الليبرالية حرية الكذب بحرية الرأي . وينتهي الأمر يأن تكون معرفة الناس بواقعهم الاجتماعي ومشكلاته تحت رحمة قلة من الأفراد يقدمون إليهم الأخبار على الوجه الذي يريدونه ليتحكموا في آرائهم ومواقفهم . ويحجبون أسماءهم لتبدو الكلمة المنشورة بدون توقيع والمذاعة بدون إسم كما لو كانت تقريراً للحقيقة المجردة . ولا حل لهذه المشكلة التي استفحلت إلا بالتزام إيقاع  قانون الجدل الاجتماعي ، وفصل الخبر(حقيقة المشكلات) عن الرأي (تقييم المشكلات واقتراح حلول لها) . ان الخبر يجب أن يكون صادقاً . يجب أن يكون الحقيقة كل الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة ، تنشر وتذاع كما هي بدون مسؤولية . ثم يردع ردعاً حاسماً اللذين يكذبون . اما الرأي فهو اجتهاد صاحبه ينشر ويذاع على مسؤولية صاحبه ، ينشر ويذاع على مسؤولية صاحبه . أما كيف يتم هذا الفصل فتلك وسائل تبحث في مكانها وزمانها . ولكن الذي يجب أن يؤمن وتوفر له كل الضمانات هو صدق الأخبار التي تنشر وتذاع على الناس . صدقها بمعنى مطابقتها للواقع كما هو بدون حذف أو اضافة أو تغيير ، حتى يستطيع الناس أن يعرفوا معرفة صحيحة حقيقة المشكلات الاجتماعية بدون تزييف ، فلا تكون الممارسة الديمقراطية كلها قائمة على اساس زائف .
مثال ثالث وأخير من تجارب الممارسة في الوطن العربي .
لقد ورثت دول العالم الثالث من المفهوم الليبرالي للديمقراطية سلبية الدولة بالنسبة الى الممارسة الديمقراطية . وفي كل دولة من ذلك العالم المتخلف كانت حصيلة الديمقراطية فشلا ذريعا . وكان من آثار ذلك الفشل ظاهرة الانقلابات العسكرية التي تكاد تكون على مستوى العالم الثالث هي المرحلة التاريخية التالية للتحرر . والمرجع الاساسي لكل هذا هو التخلف الديمقراطي . انعدام أو ضعف التقاليد الديمقراطية بفعل الاستعمار الطويل وما صاحبه من تخلف ثقافي ومادي . في تلك الدول النامية المتحررة حديثا التي لا تملك رصيدا من الممارسة الديمقراطية . تباح عادة ـ بعد التحرر ـ الممارسة الديمقراطية بقوانين صادرة من السلطة لشعب يحمل ميراثه التاريخي من عهد العبودية : العزلة عن السلطة والشك فيها والسلبية ازاء ما تدعوه السلطة اليه ، بالاضافة الى العجز الموروث عن ممارسة الديمقراطية . والذين عاشوا مخدوعين دهرا لا ينسون بسهولة معاناتهم الفعلية من اجل وعود ولو كانت صادقة لمجرد أن يقال لهم : لقد اصبحتم احرارا ، وأصبحت السلطة منكم واليكم . ومن ناحية اخرى لا يتوقع من الذين عاشوا مقهورين دهرا أن يمارسوا الديمقراطية على الوجه المثالي الذي يتصوره المشرعون بدون أخطاء قد تكون جسيمة . عندئذ لن تكون سلبية الدولة بالنسبة الى الممارسة الديمقراطية الا ابقاء على سلبية الناس بالنسبة الى ممارسة حقوقهم الديمقراطية . فيبقى الشعب في سلبيته ، تاركا حقه أو يمارسه بقدر كبير أو قليل من الأخطاء . يبقى الماضي ممتدا في المستقبل ، فينكشف قصور الشكل الليبرالي للمارسة الديمقراطية عن حل مشكلات التخلف الديمقراطي في المجتمعات النامية والمتحررة حديثا . وبالرغم من كل الحقوق المسطرة في الدساتير يكون الشعب " غائبا " فتتاح الفرصة لكل قادر على ان يستولي على السلطة ليضع نفسه موضع الوصي على الشعب " القاصر " ، في مثل هذه الظروف الاجتماعية يصبح للشكل الديمقراطي وظائف ايجابية لمواجهة المشكلات الموروثة تاريخيا . الأخطاء في الممارسة علاجها مزيد من الممارسة ، وذلك بأن يكون الانتخاب الديمقر اطي ، والرقابة الشعبية سائدين في كل مجال من مجالات النشاط ، حتى لو لم تكن للمارسة غاية الا الممارسة ذاتها ، ليتعلم الناس من خلال الممارسة الديمقراطية كيف يمارسونها بدون أخطاء . وليتحرروا من رواسب عزلتهم السابقة عن حركة التطور في المحتمع . مجتمعهم . ليتعلموا قانون التطور الاجتماعي : الجدل الاجتماعي من خلال العمل الجماعي . أما عن السلبية ـ ذلك المرض الذي يحيل الحقوق الديمقراطية الى كلمات ميتة ـ فعلاجه أن تكون وسائل الممارسة الديمقراطية احدى الخدمات الأساسية التي تقدمها الدولة الى الشعب فيها ( تشجيع العمل الجماعي ، وتسهيل ممارسته ، وتحمل أعباءه المالية ، ومده بكل ما يحتاج اليه من الامكانيات الثقافية والمادية ، واشراكه في طرح ومناقشة واقتراح حلول المشكلات الاجتماعية ...الخ ) .
وفي الوطن العربي تجربة فذة لحل مشكلة التخلف الموروثة في الممارسة الديمقراطية ، أضافت الى الشكل الديمقراطي اضافتين بالغتي الأهمية قامتا ابتداء في الجمهورية العربية المتحدة .
الاضافة الأولى قامت تحت اسم " الاتحاد الاشتراكي العربي " . وهي مؤسسة شعبية تضم أغلب الذين لهم حق الانتخاب ، وينتمي اليها ـ كقاعدة ـ كل من يقبل الانتماء اليها . وتقدم للمنتمين اليها تسهيلات مادية وثقافية ومالية لممارسة عملهم . وهي بعد تجربة حديثة لم تتبلور تقاليدها بعد . وقد سمح هذا بالاختلاف في تقييمها من حيث هي شكل مستحدث من أشكال الممارسة الديمقراطية . ذلك لأن كل واحد قد قيمها على الوجه الذي فهمها به . فجماعة اللبراليين الذين لا يعرفون من اشكال الممارسة الديمقراطية الا الأحزاب السياسية المستقلة عن الدولة ، فهموا الاتحاد الاشتراكي العربي على انه حزب السلطة فلم يجدوا فيه خصائص الحزب ، وأخذوا عليه أنه مؤسسة من بناء الدولة فقيموه سلبيا ، وجماعة الطبقات والصراع الطبقي فهموه على انه تحالف طبقي فرضته الدولة للحيلولة دون الصراع الطبقي فقيموه سلبيا الا اذا تحول الى تحالف تحت قيادة الطبقة العاملة . وكان في كثير مما صاحب تلك التجربة من تبريرات وتفسيرات واجراءات ما يسمح بهذا الفهم أو ذاك . فالدور القيادي الذي عهد به الى الاتحاد الاشتراكي العربي سمح بفهمه على انه حزب وليس مؤسسة شعبية . وكونه مؤسسة من مؤسسات الدولة سمح بفهمه على انه حزب السلطة . وما قيل على أنه يمثل تحالف قوى الشعب العامل سمح بفهمه على انه جبهة بين قوى مختلفة . وكل هذا ليس جوهريا في تجربة الاتحاد الاشتراكي العربي ، فلا نفهمه على أي وجه مما ذكرنا ولا نقيمه كما قيموه . ان الايجابي فيه هو الذي يحدد طبيعته ، والايجابي فيه هو انه شكل من اشكال تنمية الوعي الديمقراطي والتدريب على الممارسة الديمقراطية من خلال اشراك الجماهير في طرح ومناقشة المشكلات الاجتماعية واقتراح الحلول لها . يأخذ من تسهيل الممارسة حافزا لاخراج الجماهير من رواسب السلبية الموروثة . وبالتالي فانا نقيمه على قدر ما أحدث من آثار في هذا الاتجاه . وقد كانت آثاره أكثر من رائعة ، فقد أصبح الانتماء اليه والممارسة من خلاله محل اهتمام ذلك القطاع الكبير من الناس الذين كان اتصالهم الشكلي بالعمل السياسي لا يقع الا بضعة أيام كلما جاءت الانتخابات للمجالس التشريعية . ثم ينسون الامر كله ويعودون الى سلبيتهم . لقد حل التنافس على عضوية لجان الاتحاد الاشتراكي في القرى محل المنافسة على منصب العمدة (المختار) ، وأصبحت الانتخابات في القرى ظاهرة " عادية " في حياة الفلاحين ، وهذا غير مسبوق . أما اذا كان الاتحاد الاشتراكي العربي لم ينجح في قيادة الجماهير فذلك لأنه مؤسسة الجماهير وليس مؤسسة حزبية تقود الجماهير . واذا كانت الممارسة الديمقراطية فيه ما تزال مشوبة بالأخطاء ، فلأنه المؤسسة التي يتدرب الناس فيها على الممارسة الديمقراطية الى أن يتعلموا كيف يتجنبون الأخطاء . واذا كانت حصيلة الممارسة فيه لا ترضي القطاعات الأكثر تدريبا على الممارسة الديمقراطية فلأن غايته أن يتدرب الذين لم تسمح الظروف التاريخية بأن يتدربوا وليست غايته أن يكون آداة في أيدي المدربين . واذا كانت القوى فيه مختلطة غير مفرزة فلأن غايته أن يتعلم الناس فيه من خلال الممارسة كيف يتحولون الى قوى مفرزة . ان كل هذه السلبيات جاءت من فهم خاطئ لطبيعة هذه المؤسسة الفذة ، فهي غير مسؤولة عن أخطاء الذين لا يفهمون دورها الايجابي في مجتمع متخلف ديمقراطيا ، فيغفلون عن آثارها الايجابية : توفير شكل الممارسة الديمقراطية المناسب لعشرات الملايين من الفلاحين والعمال والجماهير الأخرى التي لم تكن تهتم أصلا لا بالديمقراطية ولا بممارستها . ادخال القاعدة الجماهيرية العريضة ساحة العمل السياسي عن طريق اخراجها من ركود السلبية الموروثة . وتجربة الاتحاد الاشتراكي العربي التي ما تزال في دور النضج لا شك ستنضج فتتحرر من كل ما هو غريب عن طبيعتها فتتخلص من سلبياتها غير الجوهرية وتبقى على ما هو جوهري وايجابي فيها ، فتكون نموذجا فذا لأحد أشكال الممارسة الديمقراطية في المجتمعات النامية والمتحررة حديثا التي تفتقد التقاليد الديمقراطية ، وتفشل فيها الديمقراطية الليبرالية فشلا ذريعا .
ويمكن أن يقال الشيء ذاته عن الاضافة الثانية : تمثيل العمال والفلاحين بنصف مقاعد المجالس الشعبية على الأقل . لقد قيل أنه تمثيل مهني وهو ليس كذلك ، فان الفلاحين وحدهم يمثلون أكثر من ثلاثة أرباع الشعب . وقيل لأنهم أقدر على معرفة الحلول المناسبة لمشكلاتهم وهو ليس كذلك . فان معرفة المشكلات الاجتماعية التي يعانيها الفلاحون والعمال تتطلب أكثر من أن يكون الانسان فلاحا أو عاملا . تتطلب وعيا متقدما بالمشكلات الاجتماعية وثقافة متقدمة بكيفية حل المشكلات الاجتماعية . انه ببساطة اشراك الفلاحين والعمال في المجالس الشعبية . ان هذا الاشراك هو المقصود في ذاته ، وهو غاية في ذاته لحل مشكلة اجتماعية مقصورة على المجتمعات النامية والمتحررة حديثا : سلبيو الفلاحين والعمال بالنسبة الى العمل السياسي من ناحية ، واستعلاء المثقفين على الفلاحين والعمال من ناحية أخرى .
ان كان المثقف الفصيح يشعر بالضيق من أن محاوره فلاح لا يجيد التعبير ، فهي مشكلة علاجها تدريب المثقفين على الا يضيقوا بشركائهم في المجتمع ولو لم يكونوا فصحاء . وان كان الفلاح يتهيب الحوار مع من هم أكثر منه ثقافة ، فهي مشكلة علاجها تشجيعه على ان يحاور من سبقوه الى المعرفة ولا يهيب أحد . وان كان يبدو غريبا أن يشترك الفلاحون والعمال مع غيرهم من المثقفين فتلك مشكلة علاجها أن يستقر في وعي الناس من كل فئة أنهم شركاء في مصير واحد .
ولقد كانت الآثار الاجتماعية لتلك الاضافة ايجابية الى الحد الذي نستطيع أن نقول معه أنها قابلة للمزيد من مشاركة الفلاحين والعمال في المجالس الشعبية ، وأنه ـ على أي حال ـ لن يجرؤ أحد على المساس بها أو الرجوع عنها .
وبعد .
فلقد اخترنا تلك الامثلة من أشكال الممارسة الديمقراطية ، من خارج نطاق الأشكال التقليدية : الانتخاب والتمثيل ورقابة الرأي العام ، بما استقر فيها من ضمانات لوضع رأي الشعب (أو أغلبيته) موضع التنفيذ الكامل وصياغته في قوانين عامة ملزمة يتولى وضعها عن طريق التشريع وتنفيذها عن طريق السلطة والاحتكام اليها عن طريق القضاء من يختارهم الشعب ديمقراطيا فيمثلونه ويكون له عليهم دائما  ـ بدون قيد ـ حق الأصيل على نائبه : يعينه ، ويراقبه ، ويحاسبه ، ويعزله ، ويعين غيره ، متى أراد . اخترناها من خارج هذه الأشكال التقليدية ، أولا : لأن تلك الأشكال التقليدية ليست محل خلاف جدي ، وثانيا لأنها أردنا أن ندلل من نظريتنا ومن واقعنا على أن شكل الممارسة الديمقراطية ، لا يتضمن قيمة في ذاته وانما يستمد قيمته من منسبته لمجتمع معين في مرحلة تاريخية معينة . واننا نستطيع أن نكتشف أنماطا غير مسبوقة من شكل الممارسة الديمقراطية ونرسي تقاليد ما دمنا نقيس الشكل الديمقراطي بمدى ملاءمته لمتطلبات الجدل الاجتماعي .
هذه هي دولة الوحدة الديمقراطية . أو النظام القانوني للمجتمع العربي على الوجه الذي يتفق مع وجوده الموضوعي ، ويسمح للشعب العربي فيه أن يوظف كل الامكانيات البشرية والمادية المتاحة من أجل التطور الاجتماعي . من أجل حل المشكلات الاجتماعية التي يعانيها الشعب العربي . " انه " " يسمح " بتوظيفها ، فهل تكون مشكلة التخلف قد حلت واسترد الشعب العربي كامل مقدرته على التقدم المتكافئ مع ما هو متاح في أمته ، لا أكثر لا اقل ؟  
لا ، انما تحل بتوظيفها فعلا في حل المشكلات الاجتماعية . وبدون هذا ، بدون أن يوظف الشعب العربي الامكانيات المتاحة في حل المشكلات الاجتماعية التي يعانيها فيتطور ويتقدم ، يبقى كل الكلام الذي قلناه عن التحرر وعن الوحدة وعن الديمقراطية كلاما فارغا ، لأنه لا يكون قد أدى غايته : حياة أفضل للشعب العربي في وطنه . فما هو النظام الاجتماعي الذي يتم به فعلا توظيف الامكانيات المادية والبشرية المتاحة في الأمة العربية من أجل التقدم الاجتماعي . والذي يتحول به التحرر والوحدة والديمقراطية الى حياة أفضل ؟
أنه النظام الاشتراكي .

لماذا ؟              
 

                                   ذهاب الى صفحة عصمت سيف الدولة .




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق