بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 8 يوليو 2016

عن العروبة والإسلام (3) ـ د.عصمت سيف الدزلة .

عن العروبة والإسلام ( 3 ) .
د.عصمت سيف الدولة .

الـفـصل الـثـالـث
الـجـواب
اغتصاب العقول

166 ـ كان جوزيف غوبلز ، وزير الدعاية في ألمانيا النازّية ، يحرّض المواطنين الألمان على فتح نوافذ المساكن والأماكن حتى آخر مداها ، ورفع أصوات المذياع حتى أقصى درجاته لكي تستطيع الافكار التي يبثها  عن طريق الاذاعة الوصول إلى أذن كل ألماني واختراقها ، سواء أكان راغباً في الاستماع أم راغباً عنه . من الممكن تصور أن كثيراً من الناس في ألمانيا لم يكونوا يرون فيما يحرض عليه غوبلز إلا نوعاً من الازعاج الذي يؤذي السمع ويقلق الراحة . أما سيرجي تشاخوتين ، الكاتب التقدمي الألماني ، فقد كان يرى غير ما يراه الكثير من مواطنيه . فذهب يتابع ما يذاع ويرصده ويجمعه ويدرسه . ذلك لأنه التفت منذ البداية إلى أن غوبلز يصنع شيئا غير مسبوق في تاريخ البشرية بذلك الجهاز العبقري حديث النشأة : المذياع . كان يصنع ويصطنع ويصوغ مبادىء وأفكار وقيم أمة كاملة لتماثل مبادئه وأفكاره وقيمه ، ليضع أقدام الملايين من أبنائها على الطريق الذي حدّده حزبه ، لتندفع عليه متقدمة إلى الغاية التي أرادها . كل هذا بدون أن يعنى أقل عناية بالحوار المباشر مع أي فرد ، أو مجموعة من الأفراد ، من أولئك الملايين وبدون أن يقيم وزناً ، أي وزن ، لما يتفرد به كل منهم من مبادىء وأفكار وآمال بحكم تفرّد كل واحد منهم بملكاته الخاصة وبموقفه الاجتماعي الخاص ، وبدون أن يتوقف لحظة ليسألهم أو ليسأل أياً منهم عما يريدون . كان قد أراد " لهم " واختار ، وكانت مهمته أن يحملهم على أن يريدوا لأنفسهم ويختاروا ما أراده هو نفسه واختاره .
ولقد صاحب سيرجي تشاخوتين تلك التجربة التاريخية المثيرة ورأى كيف أفلح غوبلز وأعوانه في صياغة أو إعادة صياغة ، أفكار أمة كثيفة العدد ، عريقة التاريخ ، متقدمة الحضارة ، متفوقة العلم ، على ما يريد الحزب النازيّ لتندفع كتلة واحدة تحت قيادة أدولف هتلر على طريق الحرب التي انتهت بهزيمتها ودمارها وانتحار قائدها ، ويبدو أن غوبلز كان يدرك أن مسؤوليته عما أصاب الأمة الألمانية أكبر من مسؤولية قائدها ، فلم يكفه قتل نفسه ، بل قتل أطفاله الخمسة ثم قتلت زوجه نفسها قبل أن يقتل هو نفسه يوم أيار / مايو 1945  .
167 ـ في عام 1938 ، أي قبل أن تبدأ الحرب الأوروبية الثانية ( 1939 - 1945 ) ويشهد أهوالها كان سيرجي تشاخوتين قد أنشأ مما رصد وتابع وجمع ودرس كتاباً ( نشر عام 1939 خارج ألمانيا ) أعطاه عنواناً ذا دلالة مقزّزة : اغتصاب الجماهير ولايخفى ما في كلمة اغتصاب من دلالة الهتك القسري لحرمة العقل والتلويث لطهارة الفكر ، والاستغلال البهيمي لملكات الناس  .
168 ـ لم يكن غوبلز يملك من وسائل القهر الدعائي إلا الصحف والمذياع ومع ذلك نجح في أن يقنع ثمانين مليوناً من الألمان بأن ألمانيا فوق الجميع ، وبأن الجنس الآري أرقى أجناس الأرض وبأن أوروبا الشرقية هي المجال الحيوي لدولة الرايخ الثالث ( الاسم الرسمي لألمانيا النازية ) وبأن أدولف هتلر قائد ملهم لايخطىء ، وبأن انتصار ألمانيا هو عين اليقين . وورث الغرب المنتصر بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية كل ثمار عبقرية الشعب الألماني المنهزم تحت قيادة النازية وكان من بين ماورثه علم صياغة عقول الجماهير وقوانينه الاساسية الذي أسمى علم " الدعاية " أو " الاعلام " . فلم يلبث أن تعمقت جذوره وامتدت فروعه وأينع وأزدهر وأثمر وأنشئت من أجله الجامعات والمعاهد المتخصصة وتفرغ لدراسته وتدريسه مئات الالوف من خلاصة الفلاسفة وعلماء الاجتماع وعلماء النفس ، والمفكرين ، والكتّاب ، وأصبحت له في كل دولة وزارة أو إدارة ونظام أو منظمات . وزوده التقدم العلمي بأدوات بالغة الكلفة وبأسلحة خرافية المضاء . وزوده التقدم الفني بكل ذي جاذبية من أسباب الاغراء والاغواء ، فألغى المسافات ، ووحد اللغات واختصر الأزمنة حتى أحال الأرض إلى قرية على حد تعبير الماريشال ماك لوهان فيما كتبه عن " الاعلام " في كتابه قرية الأرض . وبدأت ظاهرة عالمية ليس للبشر بها عهد . ظاهرة مطاردة عقول البشر ، أيّان كانوا ، لاغتصابها بالكتب والنشرات والملصقات والمحاضرات والصحف والمجلات والاذاعة والتلفزيون ، ووسائل نقلها خرافية السرعة السلكية وغير السلكية ووسائطها العجيبة من الاقمار الصناعية . وحلت الجماعات والجمعيات والأحزاب التي تلبس ملابس وطنية محل بعثات التبشير التي انتشرت في الأرض خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بدون أن تخفي ملابسها الكهنوتية . وبلغ الأمر حداً قال فيه ج . درينكور في كتابه الدعاية قوة سياسية جديدة إن سيادة الدعاية في هذا العصر حقيقة واقعة . إنها مميز لحضارة جديدة . ان المؤرخين سيقولون في المستقبل ان القرن العشرين كان قرن الدعاية  .
الامبريالية الحضارية :
169 ـ حينما تحولت الدعاية إلى " قوة سياسية " في القرن العشرين تملكها بل احتكرها الأقوى ، واستخدمها لتثبيت قوته أو لينمّيها . والقرن العشرون هو قرن بلوغ الاستعمار ذروته الامبريالية وقرن مقاومة الاستعمار في الوقت ذاته ، فاستخدمت القوى الامبريالية السلاح الجديد لاحكام قبضتها على الشعوب وذلك عن طريق إضعاف مقدرتها على التحرر . وهكذا نشأ تعبير " الامبريالية الحضارية " الذي استعمله عالم الاجتماع الامريكي فيكتور بالدريج الاستاذ في جامعة ستانفورد بالولايات المتحدة الامريكية في كتابه علم الاجتماع : دراسة نقدية في القوة والصراع والتغيير ( 1975 ) . يذهب هذا العالم الأمريكي إلى أن كل حضارة لها قيمها الخاصة وهي تساند هذه القيم حين تهاجم قيم المجتمعات الأخرى . إن هذا الهجوم قد يصل إلى أقصى مداه فيتحول إلى " امبريالية حضارية " أي محاولة من مجتمع ما لفرض قيمه على مجتمع آخر كما فرض كل من الأغريق والرومان حضارتهم بقوة السلاح على البلاد الشاسعة التي غزوها ففرضوا عليها حكامهم ودياناتهم ونظمهم الاقتصادية ، وكما فعلت أوروبا ابتداء من القرن الخامس عشر في المستعمرات فحاولت أن تفرض عليها الحضارة الأوروبية ، ولكنها لم تفعل بتلك المحاولة شيئاً أكثر من إشاعة الاضطراب في حضارات تلك المستعمرات. ويقول : " إن غزو الامبراطوريات الأوروبية للهند وأفريقيا وجنوب شرق آسيا قد كان مستتراً بستر شفّافة من البواعث المعقولة ، ولكنه في حقيقته لم يكن إلا اغتصاباً اقتصادياً وقحاً واسع النطاق . إن كثيراً ممن ينتقدون حرب فيتنام ، مثلاً ، لم يثقوا قط فيما كانت تعلنه فرنسا والولايات المتحدة الامريكية من أن غايتهما إنقاذ الفيتناميين من الخطر الشيوعي . بالعكس . إن كثيراً من الناس يعتقدون أن تلك الغاية كانت انقاذهم من أجل استغلالهم بمعرفة رجال الاعمال . من هذه الزاوية فإن اقحام الديموقراطية الامريكية والقيم الاقتصادية لم يكن إلاّ حالة تقليدية من الامبريالية الحضارية . أن تلك الأمة الخاضعة وأهلها من المدنيين الذين لاحول لهم ولاقوة قد فرضت عليهم قيم حضارية من قبل قوى دولية لها مصالح تقتضي حمايتها هذا التغيير . . . "  .
170 ـ يعتمد هذا النشاط الاستعماري بشكل أساسي على البيانات التي يجمعها دارسوا الحضارات في فرع من العلوم انشأه المستعمرون وأسموه " علم الاجناس التطبيقي " ، وأنشأوا له معاهد متخصصة ، منها " الجامعة الاستعمارية " في بروكسل ( بلجيكا ) و " المدرسة الاستعمارية " في باريس ( فرنسا ) وجامعة كورنيل في نيويورك ( الولايات المتحدة الامريكية ) التابعة لوزارة الخارجية ، وأدخلوا مادة تدرس في قسم خاص في جامعات اكسفورد وكمبردج ولندن ( انكلترا ) ، وذلك لتخريج وتدريب اخصائيين يوفدون إلى أطراف الأرض يعاونهم من أبناء الأرض المستهدفة نخبة مختارة من الدارسين في مراكز البحوث ، وأساتذة الجامعات تمّ إعدادهم للتعاون ، تحت شعار البحث الاجتماعي أو العلمي بالمنح الدراسية ، والبعثات ، والمؤتمرات ، والندوات والمكافآت المغرية ، والنشر الواسع ، وبكل أجر مغر مادياً أو معنوياً . فينتشرون في " حملات مشتركة " في المدن والقرى لجمع البيانات ، واستنطاق البشر ، وتجميع الأجوبة ، ورصد الملاحظات فيما يسمى بالمسح الميداني أو المنهج الاحصائي أو الكشفي . ولما كانت الحضارة كنسق معرفي عقائدي مركب يتضمن المعتقدات والفنون والآداب والشرائع والعادات وأية سمة يكتسبها الانسان من انتمائه إلى مجتمع معين كما يقول تيلر ، فإن أنوف علماء علم الاجناس التطبيقي لاتترك مجالاً من مجالات الحياة الخاصة أو العامة بدون أن تندس فيه ، من أول أنواع المأكولات وأسلوب أكلها ومواعيده إلى المعتقدات الدينية والسياسية . ويذهب كل هذا إلى طالبيه ومموليه حيث يدرس بمناهج علمية غاية في التقدم والتعقيد ، ثم تقدم خلاصته إلى مراكز قيادة النشاط الاستعماري متضمنة أجوبة علمية مدروسة عن السؤال : كيف يتم التعامل مع شعب معيّن على الوجه الذي يضعف مقاومته للامبريالية . ولقد استشرى هذا الأسلوب الكشفي الاستعماري في بلاد العالم الثالث ، ومن مادته تزود أجهزة اغتصاب العقول . . وما على الذين يريدون أن يروه رأي العين إلا أن يلتفتوا إلى كل أولئك الكاترة والباحثين ورفاقهم من الأجانب الذين انتشروا في مدن وقرى وريف الوطن العربي منذ بضع سنين لجمع البيانات والمعلومات واستنطاق أهلنا ، حتى من الفلاحين والفلاحات ، وتوجيه اسئلة شفوية ، أو حتى مكتوبة ، وتجميع الاجابات بحجة إجراء دراسات اجتماعية من غير طلب من الدولة وفي غيبة رقابتها ، ثم ليسألوا : لحساب من كل هذا البحث ، ومن الذي يدفع تكلفته وإلى من يذهب في نهاية الأمر ، ولماذا ؟ .
لقد أفزع الاستغلال الاستعماري لهذا الاسلوب الكشفي حتى بعض العلماء في أوروبا . فأصدرت " جمعية علم الاجناس التطبيقي " في انكلترا عام 1951 ميثاق شرف علمي نشرته في كتاب تنبه فيه العلماء والباحثين والدارسين إلى التناقض بين الأمانة العلمية وبين تسخير ما تسفر عنه تلك الأبحاث في الدعاية لخدمة أهداف سياسية عدوانية ضد الشعوب  .
وكان أكثر الناس فزعاً ، بطبيعة الحال ، دول العالم الثالث  .
171 ـ يقول فرانسيس بال عميد المعهد الفرنسي للصحافة والأستاذ في جامعة باريس ، في دراسة كتبها للجمعية الفرنسية للقانون الدولي نشرت في مجلتها عام 1978 ، إنه منذ زمن طويل ودول العالم الثالث تشعر بالخطر المسلط على شعوبها من خلال وسائل الدعاية والاعلام التي تملكها وتوجهها القوى الاستعمارية بقصد الحفاظ على الهيمنة الامبريالية . وكان على رأس قائمة المخاطر تشويه حقيقة مجتمعات العالم الثالث وتفكيك مكوناتها الحضارية التاريخية وإعادة بناء ثقافتها وأفكارها وتقاليدها وقيمها لتكون على ما يتفق مع مصالح دول الغرب ، مستغلة عدم التكافؤ بين مقدرتها الاقتصادية والتكنولوجية على غزو عقول شعوب العالم الثالث وبين التخلف الاقتصادي والتكنولوجي الذي يحول بين دول تلك الشعوب وبين الدفاع الدعائي لتحصين عقول الشعوب أو لتحريرها  .
والواقع أن فزع العالم الثالث من هذا الخطر الحديث قد عمّ فأصبح إدراكه جماعياً ولقد كان الوطن العربي مركز أول حشد لمقاومة هذا الخطر . ففي الجزائر انعقد المؤتمر الرابع لدول عدم الانحياز في أيلول / سبتمبر 1973 . وكان خطر الغزو الغربي لعقول الشعوب أحد الموضوعات الأساسية التي ناقشها المؤتمر وأوصى في إعلانه الختامي بتعاون الدول غير المنحازة في ميدان النشاط الاعلامي " لوضع حد لمحاولة إهدار خصاءصهم الحضارية والثقافية " . وفي تونس انعقد عام 1976 مؤتمر من خبراء الاعلام العرب والأفارقة استجابة لدعوة مؤتمر وزراء خارجية دول عدم الانحياز الذي انعقد عام 1975 . وقد جاء في قرارات المؤتمر أن دول عدم الانحياز تعاني من هيمنة الدول المتقدمة على وسائل الاتصال بالجماهير بحكم احتكارها لأغلب وسائل الاتصال في العالم واستغلالها هذه الهيمنة للتدخل في شؤون الدول الأخرى الداخلية بقصد تحقيق أهداف النزوع الامبريالي والاستعماري الجديدة . وفي تموز / يوليو 1976 انعقد في نيودلهي بالهند مؤتمر وزراء الاعلام في الدول غير المنحازة ، وفيه عبرت السيدة أنديرا غاندي رئيسة وزراء الهند حينئذ ، عمّا تقوم به الدول الاحتكارية من تزييف حقيقة العالم الثالث عن طريق الدعاية والاعلام بالكلام والأقلام والأفلام ثم قالت بمرارة : 
 اننا نريد أن نستمع إلى مايقوله الافريقيون عن الأحداث في أفريقيا وأن نقدم التفسير الهندي لما يحدث في الهند" .
وفي تشرين الثاني / نوفمبر 1976 انعقد المؤتمر العام لمنظمة " يونسكو " في نيروبي ، وفيه عبر ممثلو دول العالم الثالث عن إدانتهم لهيمنة الدول المتقدمة على مقدرات الدول النامية ومصائر شعوبها عن طريق الاعلام بقصد إحلال الثقافة الغربية محل الثقافة الوطنية . ويشهد فرانسيس بال في كتابه " الاعلام والمجتمع " أن قد تألق في حلبة الدفاع عن عقول الجماهير في الدول النامية ، خلال هذا المؤتمر الوزير العربي مصطفى سعودي الذي كان يمثل تونس العربية  .
172 ـ بل ان الفزع قد ارتدّ إلى مصدريه : فنرى رئيس جمهورية فرنسا ، يصدر في 4 تشرين الثاني / نوفمبر 1974 قراراً جمهورياً بتكليف وزير الداخلية بأن : " يقترح على الحكومة في خلال مدة لاتزيد على ستة أشهر التدابير الكفيلة بضمان ألا يؤدي تقدم وسائل الاعلام في القطاع العام والمشترك والخاص إلى مايمس حرمة الحياة الخاصة ، والحريات الفردية العامة " . وقد شكّل وزير الداخلية لجنة برئاسة نائب رئيس مجلس الدولة تتبعها مجموعات عمل متخصصة وقدمت تقريرها في 27 حزيران / يونيو 1975 . خلاصة التقرير - فيما يعنينا - أن خطر اغتصاب عقول الجماهير الفرنسية لم يقع بعد ، ولكن مقدماته تنبىء بأنه وشيك الوقوع ، مما يقتضي أن تتخذ الدولة إجراءات وقائية تحول دون وقوعه . واقترحت اللجنة ما شاءت من إجراءات ملأت كتاباً ، نشر مستقلاً عام 1976 .
فمن أية قوة إمبريالية كانت تخشى فرنسا على عقول شعبها ؟ من قوة أكبر من مناعتها القومية . من الولايات المتحدة الأمريكية قائدة الامبريالية العالمية ، وأكثر الدول تقدّماً علمياً ومالياً ومقدرة تكنولوجية على اغتصاب العقول . ثم انها الدولة التي اكتشفت قبل أية دولة أخرى أحدث واخطر وأخفى وسائل الغزو الحضاري  .
قادة الرأي العام :
173 ـ ففي نطاق هذا التقدم المذهل في عالم الدعاية ، موضوعاً وأساليب ، اكتشف ثلاثة من الامريكيين هم لازار سفيلد ، وبريسلون ، وجوديت في دراستهم المشتركة " اختبار الشعب " ( 1940 ) اكتشفوا أعمق أساليب الدعاية أثراً في صياغة  أفكار الشعوب ، وهم من أطلقوا عليهم اسم " قادة الرأي " وقادة الرأي هؤلاء هم أشخاص يتمتعون في محيطهم بمراكز اجتماعية دينية أو علمية أو مالية أو عشائرية تضفي عليهم مقدرة خاصة على التأثير في صياغة آراء وتحديد اتجاهات مواطنيهم ، إمّا عن طريق التوجيه أو عن طريق التقليد ( أضاف باتلر وستوكس الانكليزيان المركز الحزبي في كتابهما عن التحول السياسي في بريطانيا ( 1969 ) ) . إنهم إن يجمعوا على أن يقودوا الناس إلى حيث يريدون ينقاد لهم الناس طائعين . وقد تأكدت صحة وخطورة هذا الاسلوب في دراسات لاحقة ، أعوام 1948 ، 1955 قام بها لازار سفيلد أيضاً ومعه آخرون . كيف يجتمع هؤلاء ؟ ولماذا يجتمعون ؟ يقول لوي بوكيت في كتابه مقدمة علم النفس الاجتماعي ( 1977 ) إنهم يجمعون فوراء كل جماعة من " قادة الرأي " قد تكون جماعة أقل عدداً وأقل مقدرة على التأثير في الجماهير ولكن أكثر تصميماً على اغتصاب عقولها ، تقود " قادة الرأي " وتؤثر فيهم بوسائل قد لاتجدي مع الجماهير ذاتها . يستأجرونهم خفية في مقابل مادي أو معنوي ليقوموا ، بالنيابة عنهم ولحسابهم ، بعملية التلقيح . على هذا الكشف تأسست تلك الجماعات المفضوحة في الولايات المتحدة الأمريكية التي يسمونها " اللوبي " ، ولكنها غير مقصورة على الولايات المتحدة الامريكية ، بل هي أكثر انتشاراً في مجتمعات العالم الثالث تنشط تحت أسماء غير مفضوحة وترفع شعارات قد تصل في طهارتها اللفظية حد شعار الدين أو شعار الحرية  .
وهي تتبع في أداء وظيفتها عدة قوانين يمكن بمراقبة التزامها في كل دعوة معرفة ما إذا كان قادة الرأي قائمين على دعوة أم قائمين على دعاية . إنها القوانين التي أسماها الكاتب الفرنسي جان ماري دوميناش في كتابه الدعاية السياسية ( 1959 ) " قوانين القهر الدعائي "  .
174 ـ فقد استطاع دوميناش أن يستقرىء من كتاب سيرجي تشاخوتين الذي أشرنا إليه من قبل ، وما كتب بعده ، خمسة قوانين للقهر الدعائي . أولها التركيز على مقولة بسيطة : مبدأ أو شعار تبثه أجهزة الدعاية وتكرر بثه ، ويدعو له قادة الرأي ويركزون عليه بدون تثبيت انتباه الجماهير إلى فرعياته أو تطبيقاته أو آثاره حتى يصبح جزءاً لصيقاً بالعقل الواعي أو بالعقل الباطن بحيث أن مجرد ذكره يضع المتأثر به في وضع نفسي وعصبي وفسيولوجي معين يجعله قابلاً للتصرف المستهدف كما اكتشف بابولوف في نظريته عن الفعل المنعكس الشرطي . أما عن الفرعيات والتطبيقات والآثار التي لابد أن تتوقع الجماهير الواعية الحديث عنها فتنصّب - طبقاً للقانون الثاني - على المبادىء أو الشعارات المضادة . فيختار القهر الدعائي ، ويجسّم ، ويبالغ في إبراز ما لابد أن يكون فيها من قصور فكري ، أو ما صادفها من فشل تطبيقي ولو كان فشلاً آنياً أو مرحلياً أو جزئياً . وهكذا يبقى " المبدأ - الشعار " آمناً بعيداً عن أي حوار جماهيري ، وتنصرف ملكات الجماهير في الحوار إلى ماهو ضده . ولما كان الحوار ذاته يعني أن موضوعه ما يزال محل خلاف ، وبالتالي أنه ما يزال غير يقينيّ الثبوت أو الصحة فإن عوامل الشكّ تتجمع حوله وتنحسر في الوقت ذاته عن " الشعار - المبدأ " الذي أراد القهر الدعائي عن طريق إبعاده عن دائرة الحوار ، تحويله إلى مقولة مسلمة . ثم يأتي القانون الثالث ليحاصر عقول الجماهير ويحصرها في ثنائية " الشعار وضدّه " فلا يسمح لها ، بكل وسائل الإغواء الفكري والفني ، بأن تلتفت إلى قضايا أو مبادىء أو شعارات أو مشكلات أو حتى آمال أخرى قد يؤدي الالتفات إليها إلى الإفلات من الحصر أو الحصار الثنائي . ولما كانت المبادىء أو الأفكار المراد تلقيح عقول الجماهير بها لاتقذف في فراغ بل تردّ إلى رحم حضاري مليء بتراث تاريخي متراكم من المعتقدات والتقاليد والخبرات ، فإن جهد القهر الدعائي يجب أن يتجه - طبقاً للقانون الرابع - إلى تفكيك المكونات الحضارية بالتشكيك في صحة المعتقدات وملاءمة التقاليد وصدق الخبرات التي تسد نوافذ العقول دون الطارىء الجديد . وليس أسهل من قياس الواقع الماضي على الأمل المستقبل ، ليصبح كل ما مضى مديناً . وأخيراً يأتي القانون الخامس وهو توجيه الدعاية بدون التعرض - لاسلبياً ولا إيجابياً لما قد يكون بين الأفراد والجماعات من فروق روحية أو فكرية أو مادية أو اجتماعية لإخفاء واقع التمايز والتميز بين الأفراد والجماعات ، وما قد يثيره من خلاف أو صراع . إخفاؤه في جوف كتلة هائلة من أفراد نمطيين مجرّدين من واقعهم الاجتماعي فملتقين بالضرورة عندما يتوفر في كل منهم بالتساوي وهو الحد الأدنى من الوعي ، بالاضافة إلى مايصدق على كل منهم من أنه " إنسان " . حينئذ تبدو محاولات طرح المشكلات الاجتماعية الواقعية خروجاً على " الجماهير " يستحق الردع باسم " الجماهير " أو تنكراً مشيّأً لمبدأ مقدس  .
وهذا هو على وجه التحديد ما يفعله في الوطن العربي الذين يناهضون العروبة بالإسلام والذين يناهضون الإسلام بالعروبة .
كيف ؟
الإنسان الهدف :
175 ـ ليس ثمة اتفاق على دلالة كلمات الحضارة والمدنية والثقافة أو على الفوارق بينها . وكثيراً ماتستعمل كمترادفات في الدراسات التاريخية . وقد اخترنا استعمال كلمة الحضارة في هذا الحديث للدلالة على نسق معرفي مركّب لاتساق هذه الدلالة مع منهجنا في أن المعرفة تسبق الفعل ، وأن الإنسان قائد مسيرة التطور الجدلي المتصلة من الواقع إلى الفكر إلى الواقع ، ولأنه الاستعمال الراجح في علم تاريخ الأجناس البشرية خاصة في عناصره العقلية التي هي موضوع حديثنا . وطبقاً له لاتكون الحضارة شخوصاً قائمة خارج الإنسان . إن ماهو خارج الإنسان من تراث فكري أو فني وصروح مادية ، هي آثار حضارته ودلائلها ورموزها . وهكذا يكون الإنسان من كل جيل حامل حضارته من الماضي ومنمّيها جدلياً ، فناقلها إلى جيل مقبل من هنا كانت " شخصية " الإنسان المجال الرئيسي لاكتشاف المكونات الأساسية لحضارة الأمة التي ينتمي إليها والميدان الرئيسي لغزو الامبريالية الحضارية ، كما رأينا من قبل ؛ إذ لايتم نقض المكونات الأساسية لحضارة أمة ما إلا من خلال تحطيم الهيكل الأساسي لشخصية المنتمين إليها . فما هي " الشخصية " وكيف تتكون على هيكلها وكيف تنقض ؟ هذي أسئلة لايمكن إدراك مدى خطورة الامبريالية الحضارية إلا إذا عرفنا الإجابات عنها . فلنحاول  .
176 ـ يستعمل علماء النفس في حديثهم عن الشخصية لفظين متلازمين هما الوحدة والتفرد . يعنون بالوحدة جماع الشخص ، أي الشخص كلّه : بكل مكوناته الفسيولوجية والعقلية والاجتماعية . ويعنون بالتفرد ما يميز شخصاً عن آخر . ويكاد يجمع علماء النفس وعلماء الاجتماع وعلماء الاجناس البشرية ، والاخصائيون في فروع تلك العلوم ، على أن الهيكل الاساسي لبناء شخصية الانسان يكون قد اكتمل حين يبلغ السادسة عشرة . كل مايكتسبه بعد ذلك ويتميز به هو بناء حول هذا الهيكل لايقوم معتدلاً ومستقراً إلا بقدر اتفاقه نوعاً وكماً مع هيكله الأساسي . ففي تلك السن يبلغ الهيكل الفسيولوجي للشخصية أقصى معدلات سرعة نموّه ، ثم يبدأ في الهبوط حتى يتوقف تقريباً في سن الواحدة والعشرين ( أوليفر هوبلز ، الشباب -1937 ) ، إلا المخ فإنه يستمر في النمو وزناً حتى يصل إلى أقصى درجات نموّه في الفترة مابين الخامسة والعشرين والثلاثين ( مارتن البرت علم الاعصاب الاكلينيكي والشيخوخة -1984 ) . أما في مجال الذكاء ، الوجه الثاني لعملة الانسان ، فطبقاً لما لاحظه بياجيه من اختبارات الذكاء التي أوردها في كتابه أصل الذكاء عند الأطفال ( 1953 ) ، وما أورده غاستون فيو في كتابه الذكاء : تطوره وأشكاله ( 1951 ) ، وما جاء في كتاب علم النفس التمريضي ( 1971 ) تأليف جنيفر جارفي و جون جبسون ، وما هو وارد في الموسوعات المتخصصة ، يبقى الذكاء ملكة كامنةً في الطفل منذ ولادته ، ثم ينمو بسرعة كبيرة من سن الثالثة حتى السادسة ، ثم يتصاعد تدريجياً حتى نهاية سن الرابعة عشرة . ولاينمو بعد ذلك إلا بدرجة تافهة لايعتدّ بها .  
بقي الهيكل الحضاري . والهيكل الحضاري الأساسي للشخصية يتكوّن من مجموعة من الضوابط الذاتية أي الداخلة في تكوين الشخصية ذاتها ، التي تتحكم وتحدد لكل فرد موقفه واتجاهه وسلوكه في مواجهة الغير من الأشياء والظواهر والناس ، أي في المجتمع ذاته . من أين تأتي هذه الضوابط ؟ كيف تدخل في تكوين الشخصية في البحث عن الجواب نعود إلى ماهو مجمع عليه من أن المجتمع هو مصدر تلك الضوابط . إنه يدس بذورها في نفس الطفل وهو بعد كائن بيولوجي لم يمّيز حتى ذاته . ثم يتابع الطفل في نموه الفسيولوجي والعقلي داسّاً في تكوينه بذور ضوابطه بذرة بذرة ، راعياً لها ومنميها . حتى إذا بلغ الطفل أشدّه واكتمل تكوينه ، كان ذلك الكائن الذي خلقه الله إنساناً ، قد خلقه المجتمع شخصية متميزة عن غيره من بني الإنسان  .
أما مصنّع هذا الخلق الجديد ، أو أداة تشكيل الشخصية المتماسكة من شمع الإنسان اللّدن كما اختار أن يقول فيكتور بالدريدج ، فهو الأسرة . الأم أولاً ، ثم الأب معها ، ثم الأخوة والمرافقون الأقربون . هذه أيضاً حقيقة علمية لم ينكرها أحد منذ مطلع القرن العشرين . وقد تأكدت أولوية تأثير الأم في الخلق الاجتماعي من أن الطفل لايدرك ذاته منفصلةً عن ذات أمه بالولادة ، بل بعد ذلك بوقت طويل ، قد يمتد إلى عامين . خلال هذين العامين أو أقل قليلاً ، يتأثر تأثراً قوياً وتلقائياً بها كمصدر إشباع حاجته البيولوجية ، كما تنتقل إليه على وجه يكاد يكون عضوياً أو ميكانيكياً ، آثار نبرات صوتها وتعبير وجهها ولمسات يدها . وينفعل انفعالاً مباشراً غير شعوري بانغعالاتها تجهّماً أو ابتساماً . ويحرّك شفتيه متمتماً ، أو يصدر أصواتاً ، أو يبكي ، في محاولة تكرار الشرط اللفظي ليحصل من أمه على لذة إشباع حاجته ، الشرط اللفظي الذي حدده سلوك الأم نفسها  .
وحين تأتي الوثبة الكبرى في النمو في سن الثالثة يكون قد وعى ذاته وتعلم اللغة معاً . وعيه ذاته منفصلاً عن غيره ، يفسح مجاله النفسي لتلقّي ضوابط علاقته مع الغير : الضوابط الاجتماعية . وتعلّمه اللغة يمكنّه من إدراك تلك الضوابط مجردة عن الموقف الآني في رموزها اللغوية ، فيحتفظ بها في ذاكرته النامية ويسترجعها كلّما أراد أن يتصوّر أو يتوقع متعلماً من بين الماضي المذكور والمستقبل المتصوّر ، الملاءمة بين ما يرغب في وقوعه وما يمكن أن يقع في عملية متنامية يسمونها التكيّف . كل هذا ومجتمعه الذي يدسّ في شخصيته بذور الضوابط الاجتماعية في أسرته كمصدر أول وأساسي ، حتى بعد أن يضاف إليها المدرسة ورفاق الفصول . المهم أن الشخصية من خلق المجتمع وليست موروثة بيولوجياً ، وأنها تكتمل من خلال التفاعل مع الآخرين وهم أساساً أفراد الأسرة ، وأن هذا الاكتمال يتم في سن السادسة عشرة أو نحو ذلك . لاخلاف على محصلة هذه الخلاصة ، وإنما يختلف العلماء تبعاً لتركيز كل مدرسة منهم على أسلوب دس هذه الضوابط الاجتماعية في تكوين الشخصية  .
فثمة مدرسة " المرآة " التي أسسها شارلز كولي في كتابه التنظيم الاجتماعي ( 1909 ) ، التي تقول إن كل إنسان يرى نفسه ويفهمها من خلال نظرات الآخرين إليه ويتعلم كيف يضبط سلوكه من خلال حكم الناس عليه ، وهكذا تنتقل الضوابط الاجتماعية إليه وهو يرى ويفهم ما يقبله الآخرون وما يرفضونه طبقاً لتلك الضوابط الاجتماعية ذاتها . وثمة مدرسة جورج ميد التي عرض نظريتها في كتابه العقل والنفس والمجتمع ( 1934 )، التي يركز فيها على دور اللغة في انتقال الضوابط الاجتماعية إلى الطفل من خلال الأسرة . وثمة المدرسة السلوكية التي يمثلها روجر براون في كتابه علم النفس الاجتماعي ( 1966 ) والتي ترى أن عاملي العقاب والثواب هما الموّجهان للطفل حتى يتوافق سلوكه مع الضوابط الاجتماعية ، فيتعلم من الثواب وما يصاحبه من لذة ما هو مطلوب منه ، ويتعلم من العقاب وما يصاحبه من ألم ما هو ممنوع عليه وثمة - أخيراً وليس آخراً - مدرسة التقليد التي شرحها باندورا وولترز في كتابهما التعلم الاجتماعي ونمو الشخصية ( 1963 ) والتي ترى أن الطفل يتمثل الضوابط الاجتماعية حتى تصبح جزءاً أساسياً في بناء شخصيته من خلال تقليده ، أو محاكاته تصرفات أفراد أسرته . . الخ .
هذه الخلافات لاتهمنا كثيراً في هذا الحديث . الذي يهمنا الآن معرفة ما هي هذه الضوابط  .
177 ـ لايجدي حصر عددها ، ولايمكن . لايجدي لأنها مجموعة من المعارف تختلف كثيراً أوقليلاً وقد تتناقص من مجتمع إلى مجتمع . وبالتالي لاتكون محاولة حصرها مجدية - حتى إذا كانت ممكنة - إلا منسوبة إلى مجتمع معين .وحصرها غير ممكن لأنها ما لا حصر له من المعارف . أقصى ما يمكن أن يقال عنها إنها معرفة قواعد سلوك مميزة ما بين الصواب والخطأ في التعامل مع الأشياء والناس والوجود الشامل ، الأشياء والناس معاً . تنتمي إليها الأديان والمعتقدات والشرائع والتقاليد والآداب والقيم والمعايير الجمالية للفن والأدب والموسيقى والعمارة . . إنها كل تلك المعارف التي تسمى مجتمعة " حضارة " . والتي تتضمن المعايير الاجتماعية التي تحدد للانسان في كل مجتمع ما ينبغي أن يكون عليه موقفاً واتجاهاً ومسلكاً ، وما يتوقعه من الآخرين . وهي التي تفسّر وتبرر وتجمل تلك المعايير . وإنها تنتقل من جيل إلى جيل فيما يقال له تواصل الأجيال . وإن هذا الانتقال يتم من خلال تلقي الأطفال المعرفة الحضارية عن مجتمعهم بالترغيب أو التهديد أو التقليد . . لايهم ، المهم أنهم يتلقونها غير واعين ، من آباء وأمهات تلقوها حين كانوا أطفالاً غير واعين ، عن أجداد تلقوها غير واعين عن أسلاف كانوا يتلقونها أطفالاً غير واعين . وتلعب اللغة الدور الأساسي في حمل الحضارة من جيل إلى جيل وضمان استمرارها  .
يقول وليم مكدوغال في كتابه علم النفس - دراسة في السلوك : " ينمو كل إنسان سويّ تحت التأثير المستمر للمجتمع الذي ولد فيه ، ويشكل المجتمع كل جزئية من تطوّره الذهني . فيصبح وارثاً لصرح من التقاليد الثقافية والخلقية قام بناؤه بطيئاً بإضافة لبنة إلى لبنة خلال الجهود التي بذلتها آلاف الأجيال . . إن اللغة هي أكثر أجزاء التقاليد الثقافية أهمية . إنها أداة وشرط أية مكتسبات لاحقة . إن الطفل من خلال تعلمه لغته القومية يستطيع أن يحصل من المعرفة أكثر مما يستطيعه الرجل البالغ من خلال تمكنه إجادة لغة أجنبية . إن هذا الأخير لايفعل إلا أن يعبر عن الشيء المألوف بألفاظ جديدة . أما الطفل فبتعلمه كيف يستعمل الكلمات يتعلم أيضاً كيف يحوّل كل العالم الذي حوله إلى أشياء ويكتشف مميزات كل منها والعلاقات فيما بينها وليست كل تلك الأشياء والمميزات والعلاقات إلا انتقاء من بين العدد اللاّنهائي الذي قد يكتشفه عقل كامل النضج . ولكن الطفل لاينتقي أساساً إلا ما يعتبر من أساسيات حضارة مجتمعه مقوداً في ذلك باللغة التي خلقها أسلافه الأقدمون للتعبير عن تلك الأوجه المنتقاة من العالم . ويرث الطفل السويّ من مجتمعه أيضاً عدداً كبيراً من المعتقدات المتعلقة بما انتهى إلى اكتشافه من أشياء . وسيبقى الطفل حاملاً تلك المعتقدات طوال حياته كلها بدون تساؤل عن صحتها ، أو حتى بحث عن كيف أصبحت معتقداته . . . " ويقول برغسون في كتابه التطور الخالق (1907 )  " اننا نرغب ونريد ونعمل بماضينا كله "  .
ويصوغ عالم النفس السوفياتي ميخائيلوف المفاهيم ذاتها صياغة طريفة في نهاية كتابه الرائع لغز النفس (1980) فيصور إنساناً يحدث نفسه وهو على عتبة مدخل مرحلة الشباب فيقول : " الآن ، أنا قادر على أن أقوّم نفسي وسلوكها حتى في مواجهة أكثر المواقف تعقيداً ، إذ أنني ، بصفة أساسية ، الخلاصة الكلية لخبرة النشاط المعقد التاريخي الذي انتهى إليّ ويعيش داخلي كما تضمنته لغة أمتي فبالإضافة إلى أصدقائي وأولياء أمري ومعلمي وأساتذتي ، لي محاورون وموجهون ومساعدون في أولئك الذين واجهوا أصعب المشكلات وحلولها خلال القرون الماضية "  .
إن هذه الصورة الشعرية قد تولّد وهماً بأن الحضارة كهيكل أساسي للشخصية منظّم احتياطي للسلوك يلجأ إليه الشخص أو لايلجأ . الواقع العلمي غير هذا . إن الإنسان يتلقاها بدون إرادة ، وهي تنظم وتضبط سلوكه بدون انتباه ، ويستجيب لها تلقائياً بدون جهد ، ويتبع توجيهها بسلاسة اتباع ما هو " فطري " لاشذوذ فيه ، لأنه حينئذ لايتبع إلا ذاته  .
من هنا ، يبدأ كل إنسان مسيرته إلى المستقبل . فكيف يتصور هذا المستقبل ؟ إنه يتصوّره محدداً شكلاً ومضموناً بما لايتناقض مع المعايير الحضارية الكامنة في ذاته . إنه لايتصوره هكذا لأنه يريده ، ولكن لأنه لايستطيع تصوره إلا هكذا ، إذ هو التصور المنبثق من ذاته الّمتسق مع شخصيته . ومن هنا يصح القول بأن وحدة التاريخ ( صانع الحضارة ) تحدد وحدة المصير ( صنع الانسان ) . كما يصح القول بأن " المستقبل الأفضل " لأي مجتمع ذي حضارة متميزة هو ما لايتناقض شكلاً أو مضموناً مع المعايير الحضارية لهذا المجتمع . بل إنه المستقبل الأفضل " الممكن " لأنه " وحده الذي يحقق صانعوه من البشر ذواتهم به وفيه بجهد سلس لاشذوذ فيه .واخيراً قد يصح القول بأنه لايساوي قلامة ظفر كل ما كتبه الغربيون وغير الغربيين عن التفاضل بين الحضارات المختلفة للمجتمعات المتعاصرة . كما لم يكن يساوي تلك القلامة كل ما اصطنعه الغربيون من لاهوت وفلسفات وأفكار عن " رسالة الرجل الأبيض في نشر الحضارة " بين الشعوب المختلفة لتغطية الغزو الاستعماري . لقد انكشف الغطاء بعد حجب الحقيقة الاستعمارية وراء حجب التفاضل الحضاري . وفهم حتى بعض الأوروبيين مدى الصدق فيما كان يقوله الصينيون القدامى بعد استماعهم إلى المبشرين يدعونهم إلى نور الحضارة الأوروبية . كانوا يتهامسون - في أدب جم - بأن أولئك الأوروبيين مخلوقات غريبة وبدائية وبربرية وأقل تحضراً من الخنازير لأنهم ، بالرغم من معرفتهم القراءة والكتابة ، لايستطيعون فهم تعاليم كونفوشيوس . كان الصينيون في ذلك الوقت مشغولين ببناء مستقبلهم على أسسهم الحضارية المتميزة برفع القيم الخلقية إلى مستوى أسمى من أية قيم اخرى ، وبتقدير يصل إلى حد التقديس للإنسان ، فحرموا تعاطي الأفيون (1729 ) الذي كان يزرعه المستعمرون الانكليز في الهند ويبيعونه في الصين . . ولكن التجار الأوروبيين  "المتحضرين " من انكلترا وفرنسا وهولندة والولايات المتحدة الامريكية كانوا يحشدون سفنهم المحملة بالأفيون في ميناء " مكّاو " ، ويهربون بضاعتهم خلسة إلى داخل الصين . فلما حاولت حكومة الصين منع التهريب وضبط الأفيون شن الانكليز ضد الصين الحرب المعروفة في التاريخ باسم " حرب الأفيون " (1839-1844 ) وأرغمت الصين بالقوة على إباحة الأفيون تجارة وتعاطياً ، ثم بعد حرب أخرى استمرت أربع سنوات ( 1856 -1860 ) شنتها انكلترا وفرنسا معاً ، أرغمت الصين على إباحة زراعة شجر الأفيون في أرضها . يدمرون عقل الإنسان لكي يستولوا على ثروات الأوطان  .
ولكن ذلك كان أيام الاستعمار المباشر والقهر العسكري السّافر ، أما في أيامنا هذه ، أيام الاستعمار الخفي ، وعصر الدعاية ، فإن اغتصاب العقول بالكلمات يغني عن تدميرها بالمخدرات . إنه ليس أقل تكلفة فقط ، بل انه أكثر جدوى بكثير . فباسم البحث العلمي تدرس حضارة المجتمع الضحية ( علم الأجناس وعلم الأجناس التطبيقي ، وعلم الحضارات المقارنة . . . الخ ) ، وبالعلم تكتشف عناصر الهيكل الأساسي لشخصية المنتمين إليه ( علم الاجتماع وعلم الأعصاب ، وعلم النفس . . . الخ ) فتدمّر تلك العناصر ( بالدعاية الموجّهة من الخارج ، وإعداد قادة الرأي في الداخل ) فتضعف مناعة المجتمع الحضارية ويتهيأ لاستقبال الغزو بدون مقاومة فيتم الاستيلاء على مستقبله بيسر قد يصل إلى حد استدعاء الغزاة ليغتصبوا - سلمياً - مجتمعاً هيأه لهم نفر من أبنائه ، كانت عقولهم قد اغتصبت من قبل  .
اعتراض جانبي :
178 ـ لولا أن الحديث ينبىء بأن قد يطول أكثر مما ينبغي لكان مما ينبغي أن نتحدث حديثاً وافياً عن المفهوم الماركسي للانتماء حتى نرّد مقدماً على ما قد يثيره بعض الماركسيين من اعتراضات على أساس أن انتماء كل إنسان إنما يكون إلى طبقته ، وأن شخصية كل إنسان هي شخصية طبقته بحكم أن اسلوب انتاج الحياة المادية هو الذي يحدد الانتماء الاجتماعي " حتماً " ، بدليل أن الشخصيات غير متجانسة في أي مجتمع طبقي . هذا الاعتراض مردود ووارد معاً . فقد عرفنا من قبل أن العلماء المتخصصين في دراسة الشخصية يستعملون في التعبير عنها لفظين متلازمين هما الوحدة والتفرد . يعنون بالوحدة جماع الشخص ، أي الشخص بكل مكوناته الفسيولوجية والعقلية والاجتماعية ، ويعنون بالتفرد ما يميز شخصاً عن آخر ( فقرة 177 ) . وحديثنا منصب على الهيكل الأساسي للشخصية فهو يتناول مكونات وحدة الشخصية المتجانسة بين كل الأفراد الذين ينتمون إلى مصدر حضاري واحد . وهو ما كان يعنيه عالم النفس السوفياتي ميخائيلوف بقوله إن الإنسان هو الخلاصة الكلية لخبرة النشاط التاريخي المعقد الذي انتهى إليه ويعيش داخله ، كما تضمنته لغة أمته لغز النفس ( 1980 ) . فالاعتراض مردود - أما عنصر التفرد في الشخصية فهو بناء مكتسب على هيكلها الأساسي من مصادر بيولوجية وفسيولوجية وفكرية واقتصادية وروحية أيضاً . فالاعتراض وارد ولكنه ليس داخلاً في نطاق الحديث . وسنقدم إلى من يخطر لهم الاعتراض المردود مثلاً من تجربة تاريخية طويلة ، رائعة ومروعة أيضاً ، جرت في الاتحاد السوفياتي ، تثبت أن التجانس الفكري والاقتصادي والسياسي في مجتمع اشتراكي ، لم يستطع أن يلغي عدم التجانس الحضاري بين أعضاء ، وقيادات الحزب الشيوعي السوفياتي نفسه ( فقرة 223 ) .
أما إذا كان ثمة من يريد أن يتخذ من الاعتراض فرصة ليعود إلى المقولة المادية المنهجية القديمة : إن اسلوب إنتاج الحياة المادية هو الذي يحدد الانتماء الاجتماعي حتماً فيكفينا أن نحيله إلى ما حمله إلينا د . مراد وهبة على صفحات كتابه محاورات فلسفية في موسكو ( 1974 ) من خلاصة ما اكتشفه زائراً الاتحاد السوفياتي لمدة عام ( تشرين الأول / اكتوبر 1968 - تشرين الأول / اكتوبر 1969 ) . وهي خلاصة بالغة الثراء ينقلها ماركسي بالغ الأمانة . خلاصة الخلاصة أن الفلاسفة وعلماء الاجتماع وعلماء النفس في الاتحاد السوفياتي يراجعون " المادية الجدلية " ( المنهج الماركسي ) في اتجاه التشكيك في صحة الحتمية المادية والإقرار بأنه : في نطاق التأثير المتبادل بين الأشياء والظواهر يكون الإنسان هو قائد مسيرة التطور الجدلي ( جدل الإنسان )  .
وأن هناك اتجاهاً يمثله الينكيف رئيس قسم المنطق في معهد الفلسفة التابع لأكاديمية العلوم في موسكو عرضه في كتاب صدر عام 1968 بعنوان عن الأصنام والمثليقصر الجدل على الإنسان دون المادة ودون الفكر . وأن ثمة عالماً من أتباع مدرسته أنشأ كتاباً في هذا بعنوان ماهية الإنسان الفاعلة كمبدأ فلسفي ( 1968 )  .
وقد ظهر أثر هذا الاتجاه الذي نقله إلينا د . مراد وهبة فيما كتبه بعض علماء النفس في الاتحاد السوفياتي في السنين الأخيرة . ففي كتاب يحمل عنوان مشكلات النمو العقلي ( 1981 ) يبدأه مؤلفه أ . ن . ليونييف بقوله : " حين يتأثر الكائن الحي على وجه أو على آخر بمؤثر خارجي فإنه يهضمه ويتمثله . ولايكفي من أجل هذا أن يبقى سلبياً متأثراً ، بل لابد له هو أن يفعل شيئاً في الوقت ذاته . هذا الفعل قد يأخذ شكل عملية داخلية أو حركة خارجية ولكن لابد من أن يحدث " . . . ثم يأخذ هذه القاعدة مطبقاً إياها باستفاضة مصحوبة بخلاصات التجارب وجداولها إلى أن يصل إلى آخر الكتاب لينفي صحة " وجهتي نظر " في كيفية عمل الإنسان المؤثر بما هو خارجه . أولاهما ترى أن في الانسان وظائف عقلية ونشاطاً معرفياً يعمل ذاتياً بمجرد التأثر بظاهرة خارجية ( وجهة نظر مثالية ) ، وترى الثانية أن الإنسان لايفعل حين يتأثر إلا أن يعيد ما اكتسبه بالمران والتكرار من خبراته السابقة ( وجهة نظر مادية ) لينتهي إلى أن الإنسان يعي تجاربه وما يصل إليه من تجارب تاريخية ، ويهضمها ويتمثلها لا ليكررها ولكن ليستخدمها في تغيير ظروفه  .
مثل هذا الاتجاه واضح الظهور أيضاً في كتاب ف . ت . ميخائيلوف لغز النفس ( 1980 ) فبعد عرض مطوّل لما قاله هيغل وما قاله رسل ، يتبنى تعريفاً طريفاً للإنسان ، ينقله عن عالم سوفياتي آخر اسمه أموسوف تشكيل الفكر والعقل ( 1965) ، فيقول إن الإنسان " كائن منظم قادر على إدراك المؤثرات الخارجية واستخراج معلومات منها ، وإدخال معلومات في قوالب ذات مستويات مختلفة ، والتأثير في محيطه الخارجي طبقاً لخططه ذاته على مستويات متعددة . فالإنسان في النهاية هو ضابط ذاتي لخططه " . ويضيف ميخائيلوف من عنده : " حتى نستبعد أي مكان لسوء الفهم نقول إن الإنسان ضابط ذاتي طالما أن نشاطه مؤسس على خطة قائمة في داخل ذاته وليس خارجها على أي وجه " . . . الخ  . . . وبعد ؟
وبعد ، فلنعد إلى موضوع حديثنا  .
ذو الحدين :
179 ـ يتحدد الهيكل الأساسي لشخصية الإنسان ، إذن ، بانتمائه إلى حضارة معينة . ومن خلال دراسة حضارته يتم كشف شخصيته ومعرفة كيفية التعامل معه عن طريق الإعلام والدعاية والرأي بأكبر قدر من فرص النجاح . النجاح في تطويره أو في تدميره . ذلك لأن سلاح الإعلام والدعاية والرأي ، ككل سلاح علمي ذو حدين . فكما تكون غايته الإجهاز على الضحية في القتال ، تكون غايته حمايتها بدفاع فعّال . وكما يصلح لاغتصاب العقول يصلح لتطهيرها . وإذا كنا قد بدأنا تاريخه كأداة اغتصاب فلأن تلك كانت بداية تاريخه كعلم. ولكنه الآن أصبح سلاحاً في أيدي كل الشعوب ، لايختلف أداؤه إلا تبعاً لاختلاف القوى التي تستعمله والغايات التي تستهدفها . ولن يكون غريباً أن يزعم كل داعية ، صاحب دعوة أو دعاية أو رأي ، أنه إنما يستهدف التطوير لا التدمير . ولن يكون غريباً أن يتصدى له داعية ( صاحب دعوة أو دعاية أو رأي ) لينقض ما يزعم ، ثم يزعم أنه بمناقضته إنما يدافع عن التطور ضد الانحراف المدمّر . وكل هذا لن يكون أكثر من اختلاف في حقيقة الرأي أو رؤية الحقيقة ، إن دل على شيء فإنما يدل على أن ليس من بين المختلفين من يصلح حكماً فيما يختلفون فيه .
وتبقى الحقيقة الموضوعية هي الحكم الموثوق بدون ظلم أو نفاق . والبحث العلمي هو وحده الدليل إلى حيث توجد الحقيقة الموضوعية . إذ " العلم هو معرفة المعلوم على ماهو به " . من هنا فإن أية دعوة أو دعاية أو رأي موجه إلى الإنسان العربي ، لايتوقف تقويمه ، ومعرفة ما إذا كان مطهّراً أم مدمّراً ، على ما يقوله الذين يخالفونه دعوة أو دعاية أو رأياً ، بل على الآثار الموضوعية التي يحدثها في شخصية الإنسان العربي . وهذا ينطبق علينا ، ويلزمنا ونلتزم به . ففي الجزء الأول من هذا الحديث اختلفنا مع الذين يناهضون العروبة  بالإسلام خلافاً قائماً على الأساس الإسلامي ذاته ، الذي يبنون عليه رأيهم ، حتى نحتج عليهم بما لايستطيعون ردّه ، إذ هم ونحن نحتكم إلى كتابنا : القرآن . واجتنبنا الاحتجاج بالأحاديث وأقوال الفقهاء لنتجنب مواطن الخلاف فيها ، وهي كثيرة . هذا بالرغم من علمنا أن الأحاديث الآحاد ، وإن كانت محل خلاف ، والمذاهب الفقهية ، وإن اختلفت ، قد طبقت في الوطن العربي قروناً طويلة وصاغت حياة الناس ، وتحول كثير من قواعدها إلى قيم وتقاليد وعادات وآداب دخلت في التكوين الحضاري للأمة العربية ، فأصبح الناس يلتزمونها بدون بحث عن أصلها التشريعي أو الفقهي . وهي بهذا قد غدت أكثر تأثيراً في حياة العربي - مسلماً كان أم غير مسلم - لأنها جزء من بناء هيكل شخصيته . وسنرى تجربة تاريخية واضحة الدلالة على صحة ما نقول.  ومع ذلك لم نثرها في خلافنا مع الظالمين حتى لانحتكم إلى ما يقبل الخلاف  .
كذلك كان موقفنا من الذين يناهضون الإسلام بالعروبة ، يزعمون التقدم غاية ؛ فاختلفنا معهم في الجزء الثاني من هذا الحديث خلافاً قائماً على الأساس العلمي ذاته الذي يبنون عليه رأيهم حتى نحتجّ عليهم بما لايستطيعون ردّه إذ هم ونحن نحتكم إلى العلم وأبحاثه . واجتنبنا الاحتجاج بالآراء والمذاهب المثالية أو الميتافيزيقية لنتجنب مواطن الخلاف فيها ، وهي كثيرة . هذا بالرغم من علمنا أنّ لتلك الآراء أنصاراً واتباعاً كثيرين في الوطن العربي ، وأنها تصوغ حياة قطاع كبير من الناس فيه منذ أكثر من قرن تحولت قواعدها إلى قيم وتقاليد وعادات وآداب ذات طبيعة حضارية ، وهي بهذا قد غدت مؤثراً قوياً في حياة كثير من العرب ( المتعلمون والمثقفون والأثرياء خاصة ) ، لأنها تخالط بناء هيكل شخصياتهم ، وإن لم تتحول إلى حضارة عربية . وسنرى تجربة تاريخية واضحة الدلالة على صحة ما نقول . ومع ذلك لم نثرها في خلافنا مع المنافقين حتى لانحتكم إلى ما يقبل الخلاف  .
الآن ، في هذا الجزء الثالث والأخير من حديثنا جاء وقت الاحتكام لغير أطراف الخلاف جميعاً . تمهيداً لقبول هذا الاحتكام طرحنا فيما سبق ( فقرة 176 و 177 و178 ) ما قاله ويقوله ويكاد يجمع عليه علماء متخصصون عن " الشخصية " ، وهم بعد ليسوا أطرافاً في الخلاف موضوع هذا الحديث . وهذا أقصى ما نستطيع أن نقدمه من إنصاف إلى الذين نختلف معهم . فلنتقدم إذن إلى الإنسان العربي ، الهدف ، لنعرف أولاً شخصيته ، ولنعرف ثانياً ماذا يفعلون بها ، ثم لنعرف أخيراً لماذا يفعلون .
الشخصية العربية :
181 ـ مالذي يعنيه ، على وجه الدقة ، وصف إنسان بأنه عربي ؟ إنه لايعني أنه ينتمي إلى دولة عربية ، فهو يحمل هويتها ويوصف بها ، ذلك لأن ليس في الوطن العربي قطر عربي متميز بهذا الوصف عن الأقطار الأخرى . في الوطن العربي بلدان تحمل أسماء جغرافية أو شعوبية أو عشائرية ، وتوصف جميعها بأنها بلدان " عربية " وصفاً غير منكور ، لافي داخلها ولا في خارجها ، ولافي أي مكان من العالم . فيرد السؤال ذاته بالنسبة إليها : مالذي يعنيه القول عن مجموعة محددة ومحدودة من البلدان مختلفة الأسماء والمواقع والنظم والحكام أنها بلدان " عربية " ؟ الجواب عن السؤال في الحالتين واحد . إن وصف إنسان بأنه عربيّ يعني تمييز انتمائه إلى شعب متميز بأنه عربيّ . ووصف دولة بأنها عربية يعني أن رعاياها ينتمون إلى شعب متميز بأنه عربي . هذا الجواب لايكفي لتحديد دلالة قطعية لكلمة " عربي " فهي كلمة أطلقت على مدى قرون طويلة على تجمعات بشرية أسرية وعشائرية وقبلية وشعوبية ، ولم تكن شاملة كل البشر الذين يوصفون الآن بأنهم عرب . وقد أدى تجاهل هذا فيما يسمى الفكر القومي إلى الحديث عن " العرب " بدون تفرقة في الزمان ، كما لو كان عرب اليوم هم سلالة عرقية لعرب الجاهلية . كما أدى تجاهله في الفكر اللاّقومي ( الأمي أو الاقليمي ) إلى الحديث عن شعوب عربية متعددة . بدون أن يقول لنا الأولون إلى أين إذن ذهبت الشعوب التي كانت تملأ الأقطار التي نصفها الآن بأنها عربية قبل الفتح العربي خاصة ، والتاريخ لم يذكر لنا أن العرب الفاتحين قد أبادوا تلك الشعوب ، وبدون أن يقول لنا الآخرون على أي وجه يصفون شعوباً متعددة بأنها عربية ؟ من أين جاء هذا الوصف المميز ؟ وما هو مضمون تميزه ؟ بدون معرفة الإجابات الصحيحة عن كل تلك الأسئلة سيبقى الوصف " عربي " بدون دلالة تسمح بالحديث عن " الشخصية العربية "  .
181 ـ من المسلم أن التكوين البشري للمجتمعات في حركة تطور مستمرة من الأسرة إلى العشيرة ، القبيلة ، إلى الأمة . . . إلى ما لا ندري الآن كيف يكون التكوين في المستقبل غير المنظور . ما ندريه هو أن انتقال مجتمع من طور إلى طور لايتم إلا بعد أن يستنفذ الطور الذي قبله كل إمكاناته المادية والبشرية لإشباع احتياجات البشر المادية والفكرية والروحية المتجددة أبداً . وهو أمر قد يستغرق قروناً أو عشرات القرون تبعاً لظروف النشأة ومكانها والتأثير المتبادل بين المجتمعات المتعاصرة . ولكن ، كما يقول عالم الاجتماع أوستاس شيسر في كتابه الحياة الناجحة ( 1952 ) : إن الاتجاهات الاجتماعية كانت دائماً متطورة من الأسرة إلى القبيلة إلى الأمة . تماماً كما هو الحال في الحياة العضوية التي تبدأ بالخلية وتنتهي نامية إلى حيويات معقدة "  .
وأكثر ماندريه أهميةً بالنسبة إلى هذا الحديث أن الانتقال من طور إلى طور لايتم إرادياً بقرار فردي أو جماعي بل يتم تدريجياً على مدى القرون من خلال الكفاح الإنساني الطويل لإشباع حاجاته ، وما يصاحبه من صراع داخليّ وخارجيّ ضد الطبيعة وضد الناس . ومن خلال هذا التطور ذاته ، تتطور حضارة كل مجتمع ، مصاحبة تطوره ، لاتتقدم عليه ولا تتأخر عنه . فثمة حضارة عشائرية ، وثمة حضارة قبلية ، وثمة حضارة شعبوية ، وثمة حضارة قومية . . . إلى ما لاندري الآن كيف تكون عليه الحضارة في المستقبل غير المنظور . المهم أنه في زمان معين ، في مكان معين ، يكون لكل مجتمع معيّن ، في الزمان والمكان ، حضارته ، لاتتخلف عنه كما لاتتخلف خصائص المادة عن أي من عناصرها في حالة نقائه . فهي الحضارة الملازمة ، المناسبة ، الملائمة أفضل الحضارات بالنسبة إليه ، حتى بدون أن يعرف لماذا  .
182 ـ ونحن نزعم - وكنا على مدى ربع قرن ثابتين على الزعم - بأن العرب أمة مكتملة التكوين . ماالذي يعنيه هذا من بين مايعني ، عن الشخصية العربية ؟ يعني كبداية أن الحضارة العربية حضارة قومية لاعشائرية ولا قبلية ولا شعبوية . لدينا وفينا كل ما نقلته إلينا لغتنا من تراث حضاري موروث من الأطوار العشائرية والقبلية والشعبوية قبل أن نكون أمة في طور التكوين إلى أن أصبحنا أمة . انتقل إلينا عبر الأجيال المتعاقبة في مسيرة تقودها اللغة من أطفال ، إلى أطفال ، إلى اطفال ، وتشكّلت به الشخصية العربية من جيل إلى جيل . ولكن لغتنا المتطورة أيضاً لم تنقل إلى أي طور مررنا به إلا ما يناسب اطّراد النمو إلى الطور الذي يليه . إن الاهرام الخالدة أدلة على حضارتنا البائدة ، ولكنها لاتعني شيئاً بالنسبة إلى حضارتنا السائدة  .
وحين تم الفتح العربي الإسلامي فجمعنا في دولة ، ووفّر لنا الاستقرار على الأرض الخاصة ، والتفاعل فيما بيننا وبينها ، ودخلنا به طور التكوين القومي إلى أن أصبحنا أمة تمت حضارتنا وأينعت وأثمرت عقائد وتقاليد وعادات وقيماً وآداباً وفنوناً متطورة ، متميزة عمّا سبقها بتلك الإضافات التي تميز الحضارات القومية . أهم هذه الإضافات ما يدخل في عناصر التكوين القومي " الاختصاص بالأرض دون باقي البشر " . وطننا : نمجد تاريخه ، نطمئن فيه ، نغترب بعيداً عنه ، نحافظ عليه ، نفديه بالحياة ، نعيش من خيره ، نشترك معاً ، ودون غيرنا ، في التمجيد والاطمئنان والاغتراب والمحافظة والفداء والخير . وتعبر أجيالنا المتتابعة عن هذا الانتماء والولاء والوفاء فكراً وأدباً وفناً وغناء وموسيقى وأناشيد . . وأحزاناً ودموعاً أيضاً . إنه ليس أرضاً ولكنه تجسيد ماديّ لمفهموم دخل ، في خلال التفاعل معه ، إلى صميم تكوين شخصية كل عربي ، وأصبح جزءاً من هيكلها الأساسي الاجتماعي ، تحرسه ضوابط اجتماعية من التقاليد والعادات والقيم والآداب  . . .
هكذا وبدون وعي ، أو بوعي ، يتجه الإنسان العربي السوي إلى المستقبل ، مقوداً بانتمائه إلى الوطن بدون أن يعرف كيف يقاد ، وإن كان يشعر أنه لايقود إلا نفسه . وتقاتل أجيال من أطراف الأرض العربية من أجل تحرير فلسطين السليبة بدون أن تعرف ، أو تسأل ، لماذا تقاتل . إلا أنه من مرارة الشعور بالهزيمة ومن أمل الفرحة بالنصر ، يشعر كلّ منهم في ذاته أنه يقاتل من أجل تحرير شخصيته ذاتها . . . الخ .
183 ـ ما هو الدليل على صحّة هذا الحديث عن العشائر والقبائل والشعوب ولأمم غير هذا الشعور بالانتماء الذي يقود البشر بوعي أو بدون وعي ؟ هل من المستبعد أن يكون كل هذا تصويراً ذهنياً لتاريخ لم يقع لمجرد مساندة رأي دسّته قوى في بعض العقول العربية التي اغتصبتها بالاعلام والدعاية وقادة الرأي ، خاصة بعد أن عرفنا مدى القدرة على اغتصاب العقول ؟ نريد أدلة من الواقع الموضوعي بدلاً من الصيغ الفكرية المجردة  .
فليكن  .
فيما يلي دليلان . الأول من بحث علمي في التاريخ . والثاني من تاريخ البحث العلمي  .
مصر العربية :
184 ـ لو شئنا لتناولنا تاريخ الشعب العربي في كل قطر منذ أن كان أسرة ، فعشيرة ، فقبيلة ، إلى أن أصبح جزءاً من الأمة العربية . ولكن هذا يطول . نكتفي لأسباب يمليها الواقع العربي الذي نحياه بأن نضرب مثلاً من مصر كيف كانت فرعونية وكيف أصبحت عربية . وما يصدق على مصر يصدق على كل قطر ، وإن اختلفت الوقائع والأسماء . وليعرف المفتونون " بشخصية مصر " أن كل إنسان من مصر ذو شخصية عربية إسلامية  أعجبهم هذا أم لم يعجبهم . لا لأننا نتصور ذلك أونريده ، ولكن لأنه الواقع الموضوعي . وليعرف الشعب العربي في مصر ، وغير مصر ، لماذا نشطت حتى الضراوة ، دعوة مناهضة العروبة بالإسلام ومناهضة الاسلام بالعروبة ، في مصر ، في السنين الأخيرة  .
عن الماضي الاقليمي :
185 ـ قبل أن توجد أية دولة فيما يسمى الآن الوطن العربي ، بل قبل أن توجد الأمة العربية ، وقبل أن توجد الدول والأمم جميعاً ، كانت مصر موقعاً جغرافياً يسمى مصراييم . وكانت فيما بين الخليج والمحيط بمثابة واحة كبيرة من الأرض الخصيبة ذات المناخ المعتدل يجري فيها الجزء الشمالي من النيل بدون عوائق أو مساقط موفراً لها أكبر قدر من انتظام أسباب الري والزراعة والنقل والمواصلات . تطل على بحرين عند ملتقى قارتين ، فكانت ، مثل كثير من أودية الأنهار ، ولكن بدرجة أفضل ، موطناً نموذجياً للحياة المستقرة على يسر النماء الزراعي والبناء الحضاري والتبادل التجاري مع ما حولها من أقاليم . فكانت بهذا كله ذات قوة جذب هائلة للجماعات القبلية الجائلة فيما يليها ، شرقاً وغرباً وجنوباً ، تغزوها ، أو تحاول أن تفزوها ، لا لتنهبها ثم ترتد عنها ، شأن الغزاة في العصور القبلية بل لتستولي عليها ، وتستقر فيها  .
حينما غزتها الجماعات القبلية الوافدة من الشرق بقيادة من أطلق عليهم المصريون اسم " الملوك الأجانب " أو " حقا خاسوت " الذي حرف في اللغة الأغريقية إلى " هكسوس " عام 1675 ق . م استولوا عليها ، واستقروا فيها قرناً ( حتى عام 1567 ق . م ) . وكانت منهم أسرتان حاكمتان هما الأسرة الخامسة عشرة والأسرة السادسة عشرة ، وثلاثة عشر ملكاً فرعوناً ، أولهم شيش ، وآخرهم أبيبي الثالث  .
حينما غزتها الجماعات القبلية الوافدة من الغرب من نسل يوبو  واوا الليبي عام 1950 قبل الميلاد استولوا عليها واستقروا فيها قرنين ( حتى عام 1730 ق . م ) ، وكانت منهم أسرتان حاكمتان هما الأسرة الثانية والعشرون والأسرة الثالثة والعشرون ، وأربعة عشر ملكاً فرعوناً أولهم شاشانق الأول وآخرهم أوسركون الرابع  .
وحينما غزتها الجماعات القبلية الوافدة من الجنوب عام 751 قبل الميلاد استولوا عليها واستقروا فيها قرناً ( حتى عام 656 قبل الميلاد ) وكانت منهم أسرة هي الأسرة الخامسة والعشرون ، وخمسة ملوك فراعنة : يغنجى وشاباكا وشهتاكا وطهرقا وتانون اماني  .
وحينما غزتها التجمعات القبلية الوافدة من فارس تحت قيادة قمبيز عام 525 ق . م استولوا عليها واستقروا فيها أكثر من قرن ( حتى عام 414 ق . م ) ، وكانت منهم أسرة حاكمة هي الأسرة السابعة والعشرون ، وخمسة ملوك فراعنة أولهم قمبيز وآخرهم دارا الثاني . وبعد أن طردتهم ثورة قادها الفرعون آمون حر لم يلبثوا أن عادوا اليها قبل يمضي نصف قرن ، فغزوها عام 341 ق . م واستولوا عليها واستقّروا فيها قرناً آخر ( حتى عام 232 ق. م ) ، وكانت منهم أسرة حاكمة هي الأسرة الحادية والثلاثون ، وثلاثة ملوك فراعنة أولهم ارتخشاشا الثالث ، وآخرهم دارا الثالث  .
ثم جاء البطالمة فاستقروا فيها ثلاثة قرون ، ثم الرومان فاستقروا فيها أربعة قرون ، ثم البيزنطيون فاستقروا فيها نحو قرنين ونصف قرن ، ثم العرب عام 640 ميلادية فاستقروا فيها وتعّربت جملة ، ولم تزل  .
وهكذا فرضت جغرافية إقليم مصر على مصر مفهوماً مصرياً لأمن مصر ، أم وجودها وحدودها وأمن مبادلاتها ومواصلاتها . مؤداه : بما أن مصر - جغرافياً - ذات قوة جذب للغزاة من ناحية ، وبما أنها توفر لمن يغزوها أفضل أسباب الاستقرار فيها ، من ناحية ثانية ، فإن المواقع المناسبة للدفاع عن مصر تقع خارج حدودها الجغرافية في جميع الاتجاهات شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً . أو بصيغة أخرى إن خطوط الدفاع عن مصر تقع فيما يجاورها من أقاليم بعيداً عن حدودها . فيمكن القول ان جغرافية إقليم مصر وما يحيط بها من أقاليم قد فرضت على مصر أن تقوم ، فيما يحيط بها من أقاليم ، بدور دفاعي عن ذاتها  .
186 ـ ويكاد تاريخ مصرالفرعونية أن يكون تاريخاً لهذا الدور . وأغلب ما عني ملوك مصر الفراعنة بتسجيله حفراً على جدران المعابد هو قصص خروجهم إلى جميع الاتجاهات لمواجهة التجمعات القبلية التي تجهّز نفسها لغزو مصر ، وضربها ضربات وقائية مبكرة قبل أن تقترب منها  .
أما في الشمال فنقرأ على جدران معبد الكرنك بعد أن استطاع الفرعون أحمس الأول ( 1570 - 1546 ق.م ) .
طرد الهكسوس من مصر ، طردهم من جزيرة كريت ، وأراد أن يكرم جدته الملكة " أعج حوتب " للدور العظيم الذي قامت به في تعبئة الجيوش وتحريضها على القتال فيسميها ملكة كريت . ونقرأ على جدران معبد الرمسيوم في الأقصر ماأمر بحفره الفرعون رمسيس الثاني ( 1290 - 1223 ق . م ) ثبتاً للبلاد التابعة لمصر ، من بينها قبرص وكريت  .
أما في الغرب ، فمنذ بداية التاريخ المكتوب تذكر الآثار أنّ فرعوناً من الأسرة الثانية اسمه خع سخم أو حورس، لايعرف أحد تاريخ حكمه ، قد خرج من مصر لمقاتلة القبائل الليبية التي تهددها . وتحكي بردية سنوهي مأساة اغتيال الفرعون العظيم أمنمحات ( 1991 - 1961 ق . م ) فنقول إن أعداءه تمكنوا منه وقتلوه ، منتهزين فرصة غياب ابنه وولي عهده وقائد جيشه سنوسرت ، إذ كان قد أرسله قائداً لحملة للقضاء على التجمعات القبلية التي تجهّز نفسها لغزو مصر في قواعدها في ليبيا . وتحكي الآثار أن امنحوتب الأول فرعون مصر ( 1546- 1526 ق. م ) قد أرسل جيشاً كبيراً بقيادة " أحمس آباتا " إلى ليبيا لتشتيت القبائل المتجمعة هناك تستعد للسير على مصر . وعلى جدران معبد الكرنك يسجل الفرعون سيتي الأول ( 1303 - 1290 ق . م ) قصة مثيرة عن خطر مزدوج المصدر من الشرق والغرب . فقد اجتاحت الشرق قبائل هندو - آرية فهاجرت قبائلها مطرودة بحراً ولجأت إلى شاطىء شمال أفريقيا . فلما أن تجمعوا هناك تعرّضوا لقوة جذب النماء والرخاء والاستقرار في مصر ، فاتجهوا إليها ، فخرج إليهم الفرعون سيتي الأول وطاردهم  .
وتشهد بقايا الأواني الفخارية التي اكتشفت في الخرطوم وغرب السودان وفي قريتي البداري في صعيد مصر ( أسيوط ) أن علاقة مصر بالجنوب ترجع إلى العصر النيوليتي ( العصر الحجري الحديث ) أي إلى ما قبل 4000 سنة ق . م . وعلى صخور جبل الشيخ سليمان على مقربة من بوهن ، أمام وادي حلفا ، نقرأ نبأ وصول جيوش مصر بقيادة الملك الفرعون اتىالثاني من ملوك الأسرة الأولى ، لتأمين طرق التجارة مع الجنوب . ويحكي لنا الرحالة الفرعوني حرخوف في تاريخ حياته المسطور على واجهة قبره في أسوان أنه صاحب حملة قادها أبوه إلى الجنوب ، وأنه قاد هو نفسه ثلاث حملات متتالية بأمر من الفرعون بيبى الأول ( 2402 - 2377 ق . م ) . وبينما ذهبت الحملات إلى بلاد لم يعرفها أحد من قبل - كما قال - خصص قصة الحملة الثالثة التي تمت في عهد بيبى الثاني لنبأ عثوره على قزم حي وإبلاغه فرعون النبأ ، ويورد رسالة الفرعون إليه أن " تعال إلى الشمال . تعال سريعاً إلى القصر ، واحضر معك هذا القزم الذي جئت به من أرض الأرواح حياً سالماً وفي صحة جيدة ليرقص للإله " . ولم يكن ذاك غريباً ، فقد كان بيبي الثاني طفلاً . ولكن الفرعون الطفل قد أصبح فرعوناً شاباً فأدرك أن دور مصر في الجنوب ليس لهواً ولعباً بالأقزام ، بل مسألة حياة أو موت ، فمنه يجري شريان مصر ( النيل ) . فأرسل إلى الجنوب قائده بيبي لنخت ليؤدي دوراً آخر ذكره القائد في سجل تاريخ حياته المحفور فقال : " أرسلني جلالة مولاي لأؤدب بلاد أرثت فقمت بما جعل مولاي يثني عليّ ، وقتلت منهم عدداً كبيراً ، من بينهم أبناء الزعماء ورؤساء المحاربين واحضرت منهم أسؤى إلى القصر . كان عددهم عظيماً لأني كنت شجاعاً ومعي جيش كبير من الجنود الأشداء " . وحيث توجد كرمة في السودان أسس امنمحات الأول ( 1991 - 1961 ق. م ) مركزاً للتجارة تحرسه قوة مرابطة في حصن شيّده في سمنه جنوبي الشلال الثاني . ثم توالت الحصون فأصبحت سبعة عشر حصناً ، ترابط فيها قوات تحرس النيل وتدافع عن مصر عند خطوط على بعد مئات الكيلومترات من حدودها . ومع ذلك فليست العبرة بالسّن دائماً ، فما أن تتعرض حصون مصر وخطوط تجارتها في الجنوب لخطر ناشىء حتى يخرج إلى حيث موقع الخطر الفرعون الصغير أمنحوتب الأول ( 1546 - 1526 ق . م ) ويعيد الأمن إلى مصر بمعارك ناجحة في السودان . أما الفرعون تحوتمس الأول ( 1525 - 1495 ق. م ) فقد مد حدود حكمه إلى السودان وعين حاكماً له فرعوناً أسماه " الأبن الملكي لكوش " ، وأصبح محرماً على من هم جنوب تلك الحدود عبورها إلى الشمال . وحينما حاول أمراء قبائل كوش تحدي تلك الحدود هزموا ، واستقبل تحوتمس قادة جيوشه المنتصرة وكرّمهم في أسوان . ثم تحوتمس الثالث ( 1490 - 1436 ق . م ) ، الذي قاد بنفسه حملة إلى السودان وبقي هناك سبعة أشهر يقاتل القبائل التي تهدد مصر وتجارتها ، ولم يعهد بذلك إلى أحد قواده ، بالرغم من أنه كان قد قارب السبعين من عمره . أما الفرعون امنحوتب الثالث ( 1436 - 1411 ق . م ) فإن تمثاله في قرية النجعة ، على مقربة من شندي شمال الخرطوم شاهد على اين كان يدافع عن مصر و . . إلى آخر  . .
أما عن الشرق فقد خرج إلى الشرق قائداً منتصراً وعائداً الملك الفرعون ساحورع من الأسرة الخامسة ( 2553 -2539 ق . م ) وبيبي الأول من الأسرة السادسة ( 2402 - 2277 ق . م ) الذي طاردت قواته بقيادة البطل العسكري " ونى " التجمعات القبلية ثم دحرتها عند جبال الكرمل . وامنمحات الأول ( 1991 - 1961 ق . م ) من الأسرة الثانية عشرة الذي أراد أن يحصن حدود مصر الشرقية نهائياً ، فبنى على طول الحدود سوراً فرعونياً عظيماً لم يصمد طويلاً فاضطر أحد خلفائه سنوسرت الثالث ( 1879 - 1841 ق . م ) إلى أن يطهّر كل شرقي البحر الأبيض المتوسط ، وأن يترك هناك فصائل تجوب الشواطىء وتراقب الطرقات وتنذر مبكراً بأي مشروعات غزو لمصر . وأحمس ( 1570 - 1546 ق. م ) يطرد الهكسوس من مصر ، ويتعلم من الجغرافيا ، فيعلم أنهم لن يكونوا قد خرجوا من مصر إلاّ إذا خرجوا من فلسطين ، فيخرجهم منها  .
فتعلم الجغرافية فراعنة مصر أن هذا البعد لايكفي فيأتي تحوتمس الثالث ( 1490 - 1436 ق . م ) وما ان يصل إليه نبأ وصول قوات قادش مدينة مجدّو في سورية ، حتى يعتبر ذلك اعتداء على حدود أمن مصر فيخرج إليهم ويقاتلهم ويدمرهم في مدينة نوخاخش الجاورة لمكان حلب الحالية  .
ويواصل حملاته دفاعاً عن أمن مصر التي بلغت ست عشرة حملة مطاردة أوصلته إلى الفرات . ويفكر ذلك الفرعون العبقري فيما سيصنعه التاريخ بعده بعشرات القرون . إن التآخي وليس القهر هو الذي يحفظ أمن مصر . فيجمع أبناء ملوك القبائل التي قهرها وأولياء العهود فيها ويحملهم إلى مصر ويحشدهم مع أبنائه في قصوره ويؤاخي بينهم ليتعلموا جميعاً أن أمن مصر هو أمن جيرانها وأنها لاتغزوهم إلا مضطرة فإن تحالفوا على التعاون لردّ المخاطر عنهم جميعاً فهذا يكفي مصر أمناً . وقد كان : عاد أولياء العهود أخوة وأصبحوا ملوكاً وقادة ، وحالوا دون أن تكون مواطنهم مراكز تجمعات تهدّد مصر ، فنعمت مصر بفترة طويلة نسبياً من الأمن والهدوء والرخاء والتقدم الحضاري الذي تجاوز أمور الدنيا إلى أمور الدين ، فأنجبت امنحوتب الرابع ( 1370 - 1349 ق . م ) الذي أنهى عبادة امون وأشاد بعبادة آتون ( الشمس ) وحمل لقب أخناتون فكان أول الموحدين من فراعنة مصر . وفي عهده اكتمل مفهوم أمن مصر : فهو إدراك لمواطن الخطر عليها في مواقعه وليس عداءً لمواطني تلك المواقع  .
فحين تجمع على حدود مصر الشرقية جلّ مواطني سورية وفلسطين يريدون دخولها ، وتبين القائد الفرعوني حورمحب أن جيوش ملكة خيتا قد غزت ديارهم وطردتهم وطاردتهم حتى حدود مصر ، فتح لهم الحدود ، وآوتهم مصر وعقدت معهم ما يمكن أن يسمى " معاهدة دفاع مشترك " فكونوا جيشاً مشتركاً خرج إلى حيث مواقع الخطر المشترك وقضى على جيوش خيتا . فلما تحررت سورية وفلسطين أمنت مصر . وكانت تجربة علمت الجميع ما يمكن أن نسميه المصير المشترك مدخرين تعبير وحدة المصير إلى مرحلة تاريخية لاحقة .كذلك حين عادت جيوش ملكة خيتا إلى الاستعداد لغزو مصر وجمعت له من استوردهم قائدهم المسمى موتللي من جند المرتزقة من سكان بحر ايجه ( اليونان ) وإمارات آسيا الصغرى ( تركيا ) ، وخرج إليهم رمسيس الثاني ( 1290 - 1223 ق. م ) كادت الدائرة تدور على جيش فرعون المصري وفرّ كثير من جنده ، وباتت الهزيمة وشيكة وأصبح مصير مصر ذاتها معلقاً على نجدة من الحلفاء ، فتقدم لنجدتها الوف من شباب فلسسطين مكونين تشكيلاً عسكرياً يطلق عليه في الآثار اسم " ثبارونا " ويعني " فرقة الشبيبة " ، وناصروا رمسيس الثاني فانتصر ، وأنقذت مصر وفلسطين وسورية معاً . وحينما بدأ الخطر الآشوري يدق أبواب سورية كرر المصريون والفلسطينيون التجربة الناجحة فشكلوا جيشاً مشتركاً بقيادة الفرعون المصري تفت نخت ( 730 - 720 ق . م ) وخرجوا معاً في هذه المرة للدفاع عن سورية ، دفاعاً عن فلسطين ومصر . . . وحين انهزموا استولى الأشوريون على سورية وفلسطين ومصر أيضاً  .
187 ـ نستطيع ، بدون خسارة كبيرة ، أن نسقط من حديثنا قرون الحكم البطلمي والروماني والبيزنطي جميعاً فخلالها جميعاً أصبحت مصر مجرد أداة تؤدي الدور الذي يختاره لها من لهم السيطرة والحكم ، وقطعت هذه السيطرة نموها الحضاري مرة أخرى ، فأبقت سكان مصر شعباً لم يتطور أمة . وسيبقى كذلك إلى أن نصل إلى الفتح العربي عام 640 ميلادية .
188 ـ لم يكن غريباً أن يتم الفتح العربي لمصر بسهولة . ذلك لأن البيزنطيين لم يتعلموا من الجغرافية ما تعلمه الفراعنة . فقد تم الفتح العربي لسوريا عام 636 ميلادية . وهو الإنذار الذي ماكان أي فرعون مصري يسمعه حتى يعبىء قواته ويخرج من مصر إلى حيث تتجمع النذر لتؤدي مصر دور الدفاع عن ذاتها في المواقع التي حددتها الجغرافية . لم يفعل البيزنطيون هذا ، بل تحصنوا في بابليون جنوبي القاهرة ، وهم يسمعون نبأ دخول عمرو بن العاص على رأس أربعة آلاف مقاتل لاغير ، من العريش حتى الفرما (شرق بور سعيد حاليا) حتى بلبس ؛ لتدور أول معركة بينهم في عين شمس ضاحية القاهرة . . فطلب عمرو بن العاص مدداً . وبينما عاد البيزنطيون إلى حصن بابليون اجتاح عمرو بن العاص على مرأى ومسمع منهم الدلتا واخترقها ، واستولى على الفيوم ، ثم عاد شرقاً ، فعبر النيل ليلتقي بالمدد الذي جاء وحاصر البيزنطيين في حصنهم ، واستولى عليه بعد سبعة أشهر قبل أن يتوجه إلى الاسكندرية ، العاصمة . فيعود البيزنطيون إلى الخطأ ذاته . خطأ تصور إمكان الدفاع عن مصر من داخل مصر ، أو ردّ الذين يتمكنون من دخولها فعلاً ، فيتحصنون في الاسكندرية فيتركهم عمرو بن العاص محاصرين ويوجه قواته إلى صعيد مصر فيفتحه . مات الامبراطور الغبي هرقل عام 641 م والاسكندرية محاصرة . وخلفه كونستانز الثاني ، الذي تبين أن قد تم الفتح العربي لمصر منذ أن تم الفتح العربي لسورية ، وسبق السيف العزل ، فطلب الصلح ، فأبرم معه عمرو بن العاص اتفاقاً منحه به فرصة عام للانسحاب من الاسكندرية . ولقد انسحب البيزنطيون في نهاية العام ( أيلول / سبتمبر 642م ) بعد أن حملوا معهم مابقي ، بعد الذي أخرجوه في سنة الهدنة ، ودخلها العرب بدون قتال . مهلة العام هذه تكذب تكذيباً قاطعاً ما قيل من أن العرب قد حرقوا مكتبة الاسكندرية . فالذين يحرقون عادة هم المنسحبون منها وليس المتقدمون اليها  .
على أي حال ، من بداية الفتح العربي ، وعلى مدى ثلاثين عاماً فقط ، تؤدي مصر دور نقطة الانطلاق إلى شمال أفريقيا . أي حتى بنى عقبة بن نافع مدينة القيروان لتصبح هي مركز التجمع وقاعدة الانطلاق إلى ما يليها غرباً  .
الانتماء القومي :
189 ـ هنا يبدأ دور مصر في التطور ، فيتغير نوعياً ابتداء من الفتح العربي : فبعد ستين سنة فقط تصبح اللغة العربية هي لغة مصر . ابتداء من عام 706 م على وجه التحديد . ويدخل الناس في دين الله افواجاً . ويعفي التاريخ مصر مما فرضته الجغرافية فلن تدافع عن ذاتها بعد ذلك . لقد أصبحت جزءاً في موقع القلب من الامبراطورية العربية الاسلامية . تحيط بها أقطار بعدها أقطار ، تباعد بينها وبين مسارح المعارك الضارية التي لم تنقطع على حدود الامبراطورية شرقاً وشمالاً وغرباً . وطالما كانت القيادة المركزية في دمشق أو في بغداد قادرة على الدفاع عن حدود الامبراطورية التي انتقلت إليها حدود مصر ، كانت مصر تؤدي دور الشريك في الدفاع عن الدولة المشتركة . وقد بدأت في اداء هذا الدور منذ وقت مبكر في أول معركة حربية خاضها أسطول عربي ضد البيزنطي ، في عهد الخليفة عثمان بن عفان عام 655 م بقيادة عبد الله بن سعد بن أبي السرح ، المعروفة بمعركة ذات الصواري البحرية . إلا أنها قامت أساساً ، وعلى مدى قرون بدور الميتقر الآمن الذي يجذب إليه بناة الحضارة من الفقهاء والعلماء والصناع ، ودور القاعدة الآمنة التي تعبأ فيها الجيوش وتبنى فيها الأساطيل ، وتخزن فيها الإمدادات ، المؤهلة بهذا كله لتصبح عاصمة آمنة للدولة العربية الإسلامية وهو ما فطن إليه الفاطميون حين انطلقوا من أقصى الغرب يريدون الخلافة ، فما ان بلغوا مصر حتى شيّدوا القاهرة واتخذوها عاصمة ، وما اضطر إليه الخلفاء العباسيون بعد سقوط بغداد عام 1258 م ، فاتخذوا من مصر مقراً للرمز الباقي لوحدة الدولة  .
أما حين تضعف السلطة المركزية فقد كانت مصر تعود إلى دورها الدفاعي ولكن بصيغة صنعتها الجغرافية والتاريخ معاً . فهي لم تقم بالدفاع عن ذاتها منفردة أبداً ، بل موحدة القوة مع أكثر من قطر عربي آخر ، ومع سورية على الدوام . وقد بدأ هذا الدور حينما غلب الترك الخلافة العباسية على أمرها  .
استشعر أحمد بن طولون حاكم مصر الخطر ، فتجاهل الخليفة المعتمد ، ووحد مصر وسورية عام 877 م . وحين تسقط الأسرة الطولونية ستعود مصر وسورية إلى سلطة الخلافة ، ولكن موحدتين عام 905 م . وفيما عدا سنوات معدودات من الانفصال ، نتيجة انتقال الولاية من حاكم إلى حاكم ، ستبقى مصر وسورية موحدتين نحو ستة قرون ونصف قرن ، أي من عام 877 م حتى الغزو العثماني عام 1517 م . وستنضم الحجاز واليمن إلى هذه الوحدة تحت قيادة محمد بن طغج الإخشيد من عام 925 حتى عام 969 م . ثم سينضم المغرب العربي إلى مصر والشام والحجاز واليمن حين تصبح القاهرة عاصمة الخلافة الفاطمية لتبدأ من عام 969 م حتى عام 1171 أي لمدة قرنين . ويسقط حكم الأسرة الفاطمية وتعود الأسرة العباسية إلى ولاية الخلافة على كل تلك الأقطار موحدة ابتداء من حكم صلاح الدين ومن بعده ما يستحق الانتباه  .
إننا نحن العرب نحب أن نتذكر صلاح الدين البطل العربي ويجدر بنا أن نعرف لماذا انتصر ولماذا هزم ، وما دور مصر في الحالتين . ونحن نعرف أن سورية قد انفصلت عن مصر على أثر وفاة السلطان نور الدين محمود . ولقد حاول صلاح الدين حاكم مصر ، بمصر وحدها ، أن يتحدى الصليبيين مرتين فانهزم في المرتين الأولى عام 1171 م والثانية 1173 م . هزمه أقل ملوك الصليبيين شأناً ، حاكم إمارة مونتريال الصليبية . وقد أدرك صلاح الدين أسباب الهزيمة فأدرك أسباب النصر ، فظلّ يجهز للنصر أسبابه أربع عشرة سنة . انطلق أولاً إلى دمشق ، وهناك هزم الملك الصالح بالقرب من حماة يوم 13 نيسان / ابريل 1175 وصفّى قلاع الحشاشين الطائفية المتناثرة في سورية وأعادها إلى الوحدة . بعد هذا ، وليس قبله ، استطاع أن يتحدى الصليبيين في معركة حطين بجيش عربي شاركت فيه مصر وقاده حاكمها صلاح الدين ، وليس بجيش مصري ولو كان بقيادة صلاح الدين ، فحرر القدس يوم 2 تشرين الثاني / اكتوبر 1187 م . ومن بعد صلاح الدين ، سيقود قطز ، حاكم مصر ، جيشاً عربياً يهزم المغول في معركة عين جالوت في أيلول / سبتمبر 1261 م . وتصبح القاهرة ابتداء من العام التالي ، ولمدة ثلاثة قرون ، مقر الخلافة وعاصمة الدولة بعد أن سقطت بغداد عام 1258 م . وتؤدي مصر بكفاءة دور القاعدة والقائدة في تحرير الوطن العربي من بقايا الإمارات الصليبية فيحرر الجيش العربي بقيادة الظاهر بيبرس الكرك وقيسارية وأرسوف وصفد ويافا وأنطاكيا ، ويحرر الجيش العربي بقيادة قلاوون عكا وصور وحيفا وبيروت . فينتهي الاغتصاب الصليبي عام 1291 م  .
190 ـ كل هذا يستحق الانتباه لأنه مؤشر إلى ما كان التاريخ يصنعه بمصر منذ الفتح العربي . لقد دخلت مصر بالفتح العربي طوراً جديداً من تاريخها الطويل ، فخلقت من جديد . بدأ هذا الخلق التاريخي العظيم جنيناً في مجتمع المدينة بعد هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام . وفي مجتمع المدينة نبتت بذرة الأمة العربية . تحولت القبائل إلى شعب . وتحول الأعراب إلى عرب . واختصّوا دون غيرهم بمدينتهم فأصبحت لهم وطناً ؛ وانشأوا فيها دولتهم . أول حاكم لها محمد بن عبد الله وأول دستور لها " الصحيفة " التي أقامت نظاماً عاماً للعلاقات الداخلية والخارجية ملزماً لكل المواطنين فيها ، مسلمين وغير مسلمين ، على أساس وحدة الدفاع عن الوطن الواحد  .
ثم انطلق العرب بالإسلام إلى ما يجاورهم فالتقوا واختلطوا بمجتمعات كانت قد تجاوزت الطورالقبلي واستقرت شعوباً متجاورة ، ولكن السيطرة الفارسية والرومانية عليها جميعاً ، قروناً عدة كانت قد أوقفت نموها فلم تتحول إلى أمم متجاورة . الحميريون في جنوب الجزيرة العربية تحت السيطرة الحبشية أم الفارسية منذ عام 575 م حتى ظهور الإسلام . الغساسنة في الجزء الشمالي الغربي وما يحيط بتدمر في سورية تحت السيطرة البيزنطية منذ القرن الثالث الميلادي حتى ظهور الإسلام . القبائل العربية من بني لخم في الجزء الشمالي الشرقي من الجزيرة فيما كان يعرف باسم " العراق العربي " تحت السيطرة الفارسية . كلّ الشعوب فيما بقي من سورية وفلسطين ثم مصر غرباً ، حتى شاطىء المحيط الأطلسي مستقرة متجاورة على الأرض ، عبيداً فيها ، بمعنى الكلمة ، للرومان منذ قرون عديدة  . . . .
فجاء الفتح العربي الإسلامي ليحررهم جميعاً ، ويرفع عنهم قيود العبودية أولاً ، ثم يلغي الحدود فيما بينهم ثانياً ثم يقدم لهم لغة مشتركة ثالثاً ثم يعرض عليهم عقيدة أرقى من عقائدهم ، رابعاً . ثم ينظم حياتهم جميعاً طبقاً لقواعد عامة واحدة ( الشريعة الإسلامية ) ، خامساً ؛ ثم يتركهم قروناً في حماية دولته ضد أي تهديد خارجي ، فيتفاعلون تفاعلاً حرّاً فيما بينهم ، ومع الأرض المشتركة قروناً متصلةً بدون حدود أو سدود أو قيود على حرية الانتقال والمتاجرة والعمل والتعليم والتعلم ، سادساً . ثم يشركهم معاً في الدفاع عن حدود الدولة المشتركة ، وفي الجهاد من أجل العقيدة المشتركة ، حتى إذا ما اشتركت أربعة أجيال متعاقبة منهم في الدفاع ضد الغزو الصليبي الذي استمر قرابة خمسة قرون من الحياة المشتركة ، كان الشعب قد أصبح واحداً ، وأصبح الوطن واحداً وارتفع بناء الحضارة الواحدة ، وتاهت الأنساب ، واندثرت المواطن الأولى وانتشر البشر على اتساع الوطن الواحد ، فأصبحوا جميعاً أمة عربية واحدة ؛ ولم تعد مصر جارة للعالم العربي ، ولا حليفاً في الدفاع ضد الخطر المشترك ، ولا شريكاً في مصلحة عابرة ، بل أصبحت جزءاً من الأمة العربية التي صنعها التاريخ ولم يصنعها أحد على عينه ( راجع فقرة 22 وما بعدها .
191 ـ الأمة العربية وجود موضوعي غير متوقف وجوداً أو عدماً على إرادة أحد . فمصر جزء من الأمة العربية بدون توقف على إرادة أحد من مصر أو من غير مصر . كما أن العربي عربي ولو كره ذلك . هكذا تعلمنا من أساتذتنا الرواد . ثم أضفنا أن مجرد هذا الوجود القومي دليل موضوعي غير قابل للنقض ، على أن ثمة روابط وأسباباً موضوعية ، قد نعرفها ، وقد لانعرفها ، توحد مصير الأمة ، بحيث يكون من العبث الفاشل أن يحاول أي عربيّ ، أو جماعة عربية ، أو قطر عربيّ ، أن يفلت بمصيره الخاص من مصير أمته . سيفشل حتماً ولو في المدى الطويل . روابط وأسباب موضوعية قد نعرفها إذا درسنا تاريخنا وواقعنا لنكشفها لالنختلقها فإذا لم ندرس فإننا نكتسفها - بسهولة - في خلاصتها الحضارية . في ذلك الشعور بالانتماء القومي إلى الأمة العربية الذي ما يزال يحدد مواقف عشرات الملايين من العرب البسطاء ، الذين لم تتح لهم فرص التعليم والدراسة . ثم اننا نكتشفها كل يوم من مواقف غيرنا منّا . فنحن عندهم عرب بصرف النظر عن أقطارنا ، سواء كانوا أعداء لنا أم حلفاء وأصدقاء ، وسواء أعجب هذا الانتماء أحداً منا أم لم يعجبه  .
192 ـ في قلب هذا الوجود القومي يعيش ثلث الشعب العربي في مصر ، وتختزن فيها أنضج عناصر الحضارة العربية الإسلامية من العلوم والآداب والفنون والخبرة المتراكمة اقتصادياً وسياسياً ، وتتمتع بأكبر قدر من التجانس الاجتماعي بفضل احتضان الأمة العربية لها وحمايتها من آثار التخريب العشائري والطائفي الذي أحدثته الاعتداءات الشعوبية على أطراف الأمة العربية . فهي القاعدة لأية تعبئة قومية . وهي القائدة لأية  مسيرة قومية . وهي الرائدة لأية نهضة قومية . وهي كما وصفها بحق الأديب المؤرخ الفرنسي بنوا ميشان في كتابه الازدهار العربي بأنها " مخّ العرب " الذي يتلقى من كل أعضاء الجسم ما تحسه وتعانيه ، فيدرك ، ويوجّه اعضاء الجسم فيستجيب . اعجبني هذا التشبيه لأن المخّ بدون أعضاء في جسم واحد قطعة من اللحم الرخو سريع التلف . كما أن الأعضاء في جسم واحد تختل حركاتها وتطيش ، وقد تهلك ، إذا ما فقد المخ ملكة الإدراك السليم أو " غسله " أحد من تراثه وحشاه فكراً غريباً عن تكوين الأطراف  .
193 ـ هكذا سيكون دور مصر في الوطن العربي منذ صلاح الدين حتى أواخر القرن التاسع عشر ، لن تتأثر كثيراً بتنازع الأسر على تولّي الخلافة . فقد بقيت تؤدي دورها كجزء من الأمة العربية ، وولاية الخلافةللأسرة الفاطمية ثم العباسية ، ثم العثمانية . انتهت ولاية الخلفاء الفاطميين في مصر ظهر يوم جمعة . سمع المصلون خطباء المساجد يدعون للخليفة العباسي بدلاً من الخليفة الفاطمي بأمر من صلاح الدين فأنتهى الأمر . وحين تولت الأسرة العثمانية الخلافة بعد هزيمة الجيش العربي في معركة برج دابق يوم 12 آب / اغسطس 1516  م ودخول مصر في كانون الثاني / يناير 1517 ، وعزل الخليفة العباسي لم يتغير شيء من مصر . اكتفى العثمانيون بأن يحصلوا على ربع حصيلة الضرائب ، وبأن يولوا الولاة لجبايتها . وبعد أربعة قرون لم يتركوا بها أثراً سوى مسجدين مفرطين في تواضع العمارة أحدهما مسجد السنانية في بولاق الذي بناه سنان باشا عام 1571 م والآخر مسجد " أبو الدهب " الذي انشىء عام 1774 م . ثم انهم فصلوا إدارة سورية عن إدارة مصر لأول مرة بعد ستة قرون ونصف قرن . ولكنهم لم يستطيعوا أن يعزلوا مصر عن الأمة العربية ، ولم يقبل الشعب العربي في مصر حتى الفواصل الإدارية . فما ان يتولى الأمر حاكم قادر حتى يلغي تلك الفواصل وينزع نزوعاً يكاد يكون غريزياً إلى الوحدة العربية . وما هي إلا استجابة لروابط موضوعية تشد أجزاء الأمة الواحدة بعضها إلى بعض . هكذا حاول أن يفعل محمد علي ابتداء من 1815 ، وهكذا ستكون مصر مأوى العرب الأحرار الهاربين إليها من القهر الطوراني حينما يستولي الترك على الدولة فيحولونها من دولة مشتركة ( امبراطورية ) إلى دولة مسيطرة ( استعمارية ) ، فيأتي رد الفعل العربي متدرجاً من طلب المساواة ، إلى طلب اللامركزية ، إلى طلب الانفصال ، إلى الوحدة العربية .
لقد كنا نقول هذا ونردده ونبشر به وندافع عنه على مدى ربع قرن في كتب منشورة ابتداء من عام 1965 . وما كان يجرؤ على إنكاره الا القليل يوم أن كانت مصر تؤدي دورها المنتصر كقاعدة ورائدة تحت راية عبد الناصر . ومن فوق قمة النصر في شباط / فبراير 1958 لم ينسب عبد الناصر النصر إلى مصر ، بل إلى الأمة العربية . سئل عما يتوقع أن يحدث للعرب لو أنه مات فقال لسائله : " هل تظن أنني أنا الذي خلقت القومية العربية ؟ . . أبداً . ان القومية العربية هي التي خلقتني . لست أنا الذي أثيرها بل هي التي تحملني . إنها قوة هائلة ولست أنا الا أداتها . ولو لم أكن موجوداً لأوجدت واحداً ، عشرة ، الفاً غيري ، يحلّون محلي . ان القومية العربية لايمثلها رجل واحد أو مجموعة من الرجال ، انها لاتتوقف على جمال عبد الناصر ولا على الذين يعملون معه . إنها قوة كامنة في ملايين العرب الذين يحمل كل منهم شعلة القومية . إنها تيار جارف ، ولاتستطيع أية قوة في العالم ، ولن تستطيع ، تحطيمها طالما احتفظت بالثقة في ذاتها "  .
نعم . " طالما احتفظت بالثقة في ذاتها " . هكذا قال عبد الناصر رحمه الله  .
ولكن كثيرين كانوا لايثقون في القومية العربية بالرغم مما كان يقول أكثر حكام العرب في التاريخ تجربة وأغناهم خبرة بدور مصر في الوطن العربي . بل كانوا يرجعون الالتقاء تحت الراية المنتصرة إلى جاذبية النصر ذاته بدون أن يتوقفوا للرد على السؤال : ولماذا لايلتقي العرب تحت راية منتصرة إلاّ أن تكون راية عربية ، ومن حولهم أمم كثيرة انتصرت فلم يلتقوا تحت رايتها ؟  على أي حال لقد قدم التاريخ الدليل الحاسم على وحدة المصير من الردة فالقطيعة فالعزلة فالعداء بين مصر السادات والوطن العربي فما الذي جرى ؟ . لاأحد ينكر الآن ما جرى لا في مصر ولا في باقي الوطن العربي .
حينما تكف مصر عن دور الجزء من الأمة العربية تتقلص إلى حد الشلل مقدرة بقية الأجزاء عن أداء دورها ، فتتقلص إلى حد الشلل مقدرة مصر ذاتها على أن تؤدي الدور الذي اختارته ، فتكاد تنهار كل القوى في الوطن العربي بما فيها مصر . المسألة - إذن - ليست مسألة قيادة فذّة وقيادة شاذّة ، ولا مسألة انتصار أو انكسار ، بل هناك تحت جلد الوطن العربي شبكة من الروابط الموضوعية التاريخية التي تقاوم تجزئة الأمة الواحدة ، وتحافظ على وحدتها ، وتوحد مصيرها ، وتعلّم من لايريد أن يتعلّم أن غاية شرود الجزء من الكلّ الفشل والشلل للأجزاء جميعاً  .
هذا من التاريخ ، فماذا من البحث العلمي ؟
اتجاهات الشباب العربي :
 194  ـ في عام 1953 تكونت في القاهرة " جماعة البحوث الحضارية المقارنة " بقصد القيام بدراسة مقارنة عن اتجاهات الشباب في كل من مصر ولبنان والعراق وسورية والأردن والولايات المتحدة الأمريكية . وكانت تضم مجموعة ممتازة من العلماء والخبراء والباحثين وأساتذة علم الاجتماع وعلم النفس المتخصصين ، من بينهم 13 من مصر ، و9 من لبنان و 3 من العراق و3 من سورية و14 من الولايات المتحدة الأمريكية . وضمت إليها من غير أعضائها هيئة استشارية من تسعة خبراء ثلاثة من مصر ، واثنين من لبنان ، وواحداً من العراق ، وثلاثة من الولايات المتحدة الأمريكية ، ثم ألحقت بها جماعة من المساعدين من كل دولة من الدول ميدان البحث  .
بدأ جمع البيانات الرئيسية للبحث عام 1955 بتسهيلات كريمة من الحكومات والجامعات ومعاهد التعليم والاخصائيين في تلك الدول . واستعملت في جمعها وتحليلها واستنباط النتائج منها أرقى مناهج البحث الميداني والتحليل العلمي . وبعد جهد متصل استمر نحو ست سنوات نشرت الدراسة ونتائجها في القاهرة عام 1962 تحت إشراف د . محمد عثمان نجاتي ، عضو الجماعة وأستاذ علم النفس في جامعة القاهرة حينئذ ، كما سلمت نسخة منه إلى الفريق الأمريكي  .
جاء في مقدمة الدراسة المنشورة عن منهجها الذي اسموه " النهج الحضاري المقارن " : " إن مشكلة استقلال الحالات التي يتناولها البحث الحضاري المقارن من المشكلات الهامة التي يجب أن يحتاط لها في تصميم البحوث الحضارية المقارنة . وهناك رأيان متطرفان في هذا الصدد رأي يذهب إلى أنه إذا كان هناك مجتمعان مستمدان من أصل واحد ، أو إذا أخذ أحدهما عن الآخر بكثرة ، فلا يجب اعتبارهما حالتين مختلفتين بل حالة واحدة . ورأي آخر يذهب إلى أنه مادام المجتمعان مستقلّين سياسياً فإنهما يعتبران مستقلين كأي فردين في مجتمع واحد . إن هذه المشكلة كما يقول هوايتنج مشكلة معقدة ولم تحل بعد حلاً كاملاً . وفيما يتعلق بالبلاد العربية التي تناولها البحث الحالي فإن كل شخص وثيق الصلة بهذه البلاد لابد أن يلاحظ أن الروابط التاريخية والجغرافية واللغوية والدينية بينها وثيقة جداً . ولكن بالرغم من هذه الروابط فإن هذه البلاد ليست متشابهة في جميع ظروفها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وفي المشكلات السيكولوجية والاجتماعية التي تصادف الشباب في كل منها . فلا شك أن الاستقلال السياسي لهذه البلاد وتعرضها لبعض المؤثرات الداخلية والخارجية المختلفة قد أوجد فروقاً في بعض المتغيرات التي يقوم البحث بدراستها . ومثل هذه الفروق توجد عادة بين أفراد المجتمع الواحد . ولذلك فإننا نميل في هذا البحث إلى اعتبار هذه البلاد العربية المختلفة سياسياً وحدات حضارية مستقلة يمكن أن تعقد المقارنة بينها "  .
واضح من هذا التقديم أن " جماعة البحوث الحضارية المقارنة " في اتجاهات الشباب لم تقطع برأي فيما إذا كانت الاقطار العربية الخمسة التي اختارتها تنتمي إلى أصل حضاري واحد ، بحكم ماهو ملحوظ من أن الروابط التاريخية والجغرافية واللغوية والدينية بينها وثيقة جداً ، أم أنّ كلاً منها يعتبر وحدة حضارية مستقلة عن الأخريات بحكم استقلالها السياسي وما ترتب عليه من فروق في الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، وفي المشكلات السيكولوجية والاجتماعية التي تصادف الشباب في كل منها  .
لم تقطع برأي ولكنها " مالت " إلى اعتبار الاقطار العربية وحدات مستقلة  .
على هذا الأساس " المائل " استمر جمع البيانات والبحث والدراسة والتحليل واستنباط النتائج الخاصة بكل قطر عربي على حدة بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية .وسجلت وثائق البحث في جداول كثيرة ومتننوعة أدق الفروق الفردية والتفصيلية بين اتجاهات الشباب من الذكور والنساء ، من المتعلمين والأميين ، من العاملين والعاطلين ، من سكان المدن وسكان الريف وسكان الصحارى من المسلمين والمسيحيين . . . باختصار لم تترك وجهاً للمقارنة إلاّ درسته . وكان المفروض ، اتساقاً مع الاختبار الثابت في المقدمة ، أن تتم مقارنة النتائج بين اتجاهات الشباب في ست دول . خمس عربيات وواحدة أمريكية . ولكن النتائج لم تقبل ميل الجماعة . النتائج الموضوعية لم تقبل الاختيار الذاتي . إذ انتهى البحث إلى أن يكون مقارنة ثنائية بين الأقطار الخمسة العربية من جانب والولايات المتحدة الأمريكية من جانب . وعللت الجماعة هذا في خاتمة بحثها تحت عنوان  "استنتاجات عامة " بأن التشابه في اتجاهات الشباب في جميع الأسر العربية المسلمة والمسيحية في جميع البلاد العربية التي أجرى فيها البحث تشير إلى التشابه الحضاري في جميع هذه المجتمعات بالرغم من اختلاف درجة التأثر بالمدنية الغربية  .
195 ـ 195 وهكذا يثبت عن طريق دراسة تطور المجتمعات من أسر وعشائر ، إلى قبائل وشعوب وامم ، وعن طريق دراسة التطور التاريخي للمجتمعات منذ ظهور الإسلام في هذا الجزء من الأرض الذي نطلق عليه اسم الوطن العربي ، وعن طريق نموذج من التطور التاريخي لأكبر الأقطار العربية منذ عشرات القرون ( مصر )  ومن دراسة اتجاهات الشباب في عدة أقطار عربية منفصلة ، ومستقل بعضها عن بعض باعتبار أن الانتماء  الحضاري في بداية مرحلة الشباب يكون أكثر نقاء مما يخالطه خلال رحلة الحياة بعد ذلك ، بالإضافة إلى مالا حصر له من دراسات منصبّة على إثبات وحدة المميزات الحضارية في الشعب العربي وعلى رأسها اللغة والشعور بالانتماء إلى أمة واحدة شعباً ووطناً بالإضافة إلى الإجماع العالمي في كل دراسة تاريخية أو فلسفية أو فنية أو سياسية على وصفنا ككل بأننا عرب ، ووصف كل واحد منا بأنه عربي ، ووصف البلدان المتعددة في وطننا بأنها بلدان عربية ، ووصف كل قطر على حدة بأنه قطر عربي ( رؤيتنا من الخارج ) . .  كل هذا يثبت أننا أمة مكتملة التكوين . أصبحنا هكذا بفعل قوانين التطور ، لم يصنعنا أحد وما اصطنعنا انفسنا  فيثبت أولاً وقبل كل شيء أن حضارتنا حضارة قومية لاقبلية ولاشعوبية ولا عشائرية بدون إنكار أنها لم تصل إلى أن تكون حضارة قومية إلاّ بعد أن تطورت نامية من حضارات عشائرية متميزة ، إلى حضارات  قبلية متصارعة ، إلى حضارات شعوبية متجاورة ، فهي المحصلة الحضارية الأرقى لتفاعل كل تلك الحضارات على مدى قرون طويلة  . وقد عرفنا من قبل كيف كانت الثورة الحضارية الإسلامية هي محركة هذا التفاعل وحارسته وقائدته إلى تجاوز الطور القبلي إلى الطور الشعوبي إلى الطور القومي ( فقرة 22 وما بعدها ) ، فكانت حضارتنا القومية ذات مضمون إسلامي  .
فإذا صح كل هذا ، وهو عندنا صحيح ، وكانت الحضارة هي صانعة الهيكل الأساسي للشخصية فيمكننا القول بأن الشخصية العربية السوية هي شخصية عربية إسلامية أياً كانت عقيدة صاحبها . مع التأكيد مرة أخرى وأخيرة على أنه لم يكتسب هذه الشخصية بإرادته ، بل انتقلت إليه عبر آلاف الاجيال قبل أن يصل إلى سن السادسة عشرة ، لاحيلة له في هذا ولا إرادة .
مشكلات الحياة :
196 ـ نحن نتحدث عن الشخصية السوية وسنعرف فيما بعد ماأصاب هذه الشخصية السوية من خلل وأسباب تلك المصائب . ذلك لأننا لانستطيع أن نعرف المنحرف إلا قياساً على المستقيم . يكفينا الآن أن نعرف أن كل إنسان عربي سوي قد تشكلت شخصيته على أساس حضاري عربي إسلامي معاً ، رويداً رويداً ، منذ ولادته بدون وعي منه . وإذا كان المثل يقول " إن السمكة لاتعرف الماء " - تعبيراً عن أنها إذ تعيش فيه ولاتعيش بغيره تفتقد تمييزه من غيره - فإن الإنسان العربي لايدرك شخصيته الحضارية إلا إذا صادف ما يتميز عنها من شخصيات حضارية . ويعرف كلّ منا من تجربته الخاصة أنه لايشعر بأنه عربي الانتماء إلا إذا غادر الوطن العربي فأحس بالغرب والحنين ، أو إذا رأى الحضارة الغربية تعرض على وعيه من خلال وسائط الثقافة والإعلام والدعاية ، أي إلا إذا رغب في المقارنة أو فرضت عليه . حينئذ يشعر بأنه مختلف عن " الغير"  من حيث هو عربي والآخر " غير عربي " . فيما عدا تلك المناسبات العابرة في حياته فإن الإنسان العربي مشغول بأن يختار دوراً يلعبه في مجتمعه . وهو لن يختار - بدون اضطرار - إلا الدور الذي " يرتاح إليه " ، أي الدور الذي يؤديه مستجيباً تلقائياً لميوله بدون افتعال أو اضطراب . وسيكون ذاك هو الدور الذي لايتعارض مع " شخصيته " . ستصادفه خلال ادائه ، كل يوم أو كل ساعة أو كل لحظة ، مشكلات الحياة السوية : العمل على إشباع حاجاته المادية والفكرية والروحية المتجددة أبداً بما هو ممكن في ظروف الزمان والمكان الذي يعيش فيه ، ولكنه سيكون قادراً دائماً على حل تلك المشكلات لأن كل طاقاته المادية والفكرية والروحية أيضاً ستكون موجهة إلى حلّها بدون تشتت أو إحباط أو تردد . ولايكون الحل إلا تحقيقاً لذاته  .
لن يدهشه أن يدرك أن أمته العربية ، مجتمعة ، أمة نامية ولكنها متخلفة . ان النمو هو النقيض الواقعي لحصيلة الماضي ، أما التخلف فالنقيض المتصور من خلال مقارنة مستقبل أمته بما حققته بعض المجتمعات المعاصرة . فلن يلبث - مادام سوياً - أن يدرك الحل الصحيح لهذه المشكلة : مضاعفة ما هو ممكن ، وليس القفز من فوق القرون اختزالاً غير واقعي للفرق بين ماهو واقع وما هو متصور . حينئذ يتعلم الإنسان العربي من تلك المجتمعات أساليب مضاعفة عائد الواقع المادي والبشري والفكري والروحي ، ويقتني أدوات هذه الأساليب إبداعاً أو صنعاً أو شراء ، ويتدرب على إتقان استعمالها ، ويستخدمها في مضاعفة عائد ما هو متاح له في مجتمعه من أسباب التنمية ، فيتضاعف ما هو ممكن ، وتزداد سرعة نمو أمته  .
قد تصاحب عملية التنمية هذه إضافات من النظم أو العادات أو التقاليد أو القيم مثل إعادة تقويم العمل الاجتماعي أو الهجرة من الريف إلى المدن ، أو ازدحام المدن بالشباب الوافدين إليها بحثاً عن فرص عمل أفضل ، أو إبدال الأسرة الممتدة بأسرة صغيرة ، أو ارتفاع القيمة الاجتماعية للعمل على حساب قيمة الاستغناء عنه بالثروة ، أو استقلال الشباب مبكراً عن أسرهم . . . الخ . . وقد يتعب أو يفشل أو يضيق بعض الناس بهذه المستحدثات على حياتهم ولكنهم على مدى حياتهم ، وقبل أن تنقضي ، سيكتسبون تلك الخبرة بالحياة التي سبقهم إليها من كانوا من قبل قد صادفوا التعب والفشل والضيق ثم تجاوزوها أكثر نمواً ونضجاً . إنّ كل هذه لاتعتبر مشكلات إلاّ حين تنسب إلى جدل الحياة ، إلى التفاعل المحتوم بين الناس والطبيعة ومجتمعهم ، إلى قانون التطور ، حيث لايتم التطور إلا من خلال حل تلك المشكلات . . وليس من خلال أي شيء آخر  .
كل هذه المشكلات ومتاعب حلها تهون أمام حهد الإنسان العربي علماً وفكراً وعملاً . وهي - بعد - مشكلات الحياة ومتاعب تطويرها كما يحياها كل الناس في كل زمان ومكان وان اختلفت مضامينها وأساليب حلها زماناً ومكاناً . وحين يواجهها الإنسان كما هو سويّ الشخصية لن تلبث حضارة أمته التي يحملها في ذاته دون أن يدري إلا أجيالاً معدودة حتى تهضم وتتمثل ، بدون أن تدري الأجيال ، مالا يناقض بنيتها وإن كان طارئاً عليها من مستحدثات وأساليب حل مشكلات الحياة علماً وفكراً وعملاً ، فتنمو به وتتطور ويصبح جزءاً منها مصوغاً صيغتها تعبر عنه بلغتها علماً وفكراً ومذاهب وتقاليد . . الخ . فلا يجد دارسوا تاريخ الحضارات عسراً في معرفة مصدر أي عنصر من عناصر تكوين الحضارة ومتى اتصل بها ، ومتى التحم ، ومتى تمثلته فأصبح جزءاً منها ، وما اصابه خلال ذلك من تطوير وصياغة ( المثال القريب منا اتصال بعض مقولات الفلسفة اليونانية بالحضارة الاسلامية ، وانتقاء ثم هضم وتمثيل ما لا يناقض الاسلام منها ثم صياغته فإذا هو جزء من الفلسفة العربية  )  .
هكذا نشأت وتطورت كل الحضارات ذلك التطوير البطيء الذي لاتلحظه الأجيال . وهكذا نشأت وتطورت الآراء والمذاهب والنظم والتقاليد والآداب والفنون . . . إلى آخر مكونات الحضارة العربية الإسلامية . وهكذا نشأت وتطورت شخصية الإنسان الاعرابي ، والفرعوني ، والاشوري . . الخ حتى أصبحت شخصيته عربية ، ولم تزل قابلة للنمو والتطور الحضاري بما تضيفه الأجيال اليها ، قائماً على هيكلها الاساسي : العروبة والإسلام . وهكذا لم يكن هناك سبب من الحضارة العربية الإسلامية يعجز الإنسان العربي أو يعوقه عن التقدم العلمي والفكري والعملي لو كان الإنسان العربي قد ترك يمارس حياته بدون قهر خارجي وتخريب داخلي ، مهما كانت حدة المشكلات التي تواجهه على طريق التقدم ، ومهما كانت متاعب حلولها ، ما دام سويّ الشخصية .
ولكن الأمور لم تجر ، ولا تجري ، في الوطن العربي على هذا الاستواء  .
القهر المادي :
197 ـ فمنذ بداية القرن التاسع عشر تعرضت الأمة العربية لموجة غزو بربريّ عنيف شنته القوى الرأسمالية في أوروبا ، وسخّرت لإتمامه كل ما أستطاعت أن تعدّه من قوة حتى شعوبها نفسها ، غايته الاستيلاء على الأرض ( الوطن ) بما هي ثروة ومصدر ثروات ، واستغلال الشعب كقوة عمل وكمستهلك لتغذية وتنمية وتطوير النظام الرأسمالي في أوروبا طبقاً لقوانينه الصمدي مثلّث القواعد : الفردية ، والمنافسة الحرة ، والربح ولقد تنافست في السباق إلى استعمارنا القوى الرأسمالية الأوروبية الى حد الاقتتال ( فرنسا وانكلترا على مصر) ، وداهمونا فرادى ، ومتفقين ، وانتهى الأمر بأن استولت انكلترا وفرنسا واسبانيا وايطاليا على كامل الأمة العربية أرضاً وشعباً . واصطنعت كل دولة منها نظاماً للحكم والإدارة يحقق لها غايتها الاستعمارية ، وفرضته بالقوة الباطشة على الشعب العربي في كل قطر احتلته ، تحرسه قوة مسلحة من جند المستعمرين أو من جند المستعمرات مقيمة فيه . كان ذلك هو الاستعمار الرأسمالي الأوروبي السافر الوقح في ظل وحراسة احتلال عسكري قاهر و قادر . وكان - على وجهه الاستعماري والعسكري - صريحاً في الولاء لغايته . فلم يعن المستعمرون إلا بما يحقق تلك الغاية ويحفظها . وهكذا كان المستعمرون قلة إدارية تحرسها كثرة عسكرية ، منعزلة عن الشعب مستعلية عليه لايهمها من امره إلا ان يبقى قادراً على العمل ، ولايهمها من أفراده إلا من تختارهم ليؤدوا عنها مايلزم من وظائف الحكم والإدارة لحماية وجود الاستعمار وأمن جنده ، وذلك بالقدر الكافي ، كماً وكيفاً لأداء خدماتهم . وتركوا للناس ما عدا ذلك من شؤون حياتهم . وكان من بين ما تركوه بدون بدون تدخل الإسلام كعقيدة ومناسك بعد استبعاده - بحسم - كنظام للحياة العامة والمعاملات بين الناس ( ماعدا قواعد الأحوال الشخصية ) ثم إنهم قد تركوا لهم العادات والتقاليد والآداب على ألا تمس وجودهم ومصالحهم وأمن جندهم والترفيه عنهم أيضاً  .
198 ـ لم تكن موجة الغزو البربري العنيف الذي شنته القوى الرأسمالية في أوروبا مقصوراً على الأمة العربية لقد اكتسحت العالم كله فتحول العالم كله إلى مستعمرات . ولأنه استعمار رأسمالي فإنه كان محكوماً في تعامله مع المستعمرات المتعددة بالقانون الرأسمالي : الربح ومزيد من الربح . والربح يزداد كلما زاد الطلب على السلع ثم يزداد كلما قلت تكلفة الانتاج ، ثم يزداد كلما زاد انتاج كل سلعة . . . باختصار ، يزداد الربح كلما اقترب المشروع الرأسمالي من الانتاج الكبير واتسع السوق وتوحد . فكان الرأسماليون منذ البداية سباقين الى توحيد الاقاليم ، واولها قيادة حركات الوحدة القومية في أوروبا المعاصرة للنمو الرأسمالي ، وهي الظاهرة التي أوحت الى الماركسيين بأن يستنتجوا من ملاحظة تزامن الوحدة القومية والنظام الرأسمالي في أوروبا ما ذهبوا إليه من أن الأمم صناعة بورجوازية . ( فقرة 48 ) . ولكن هذا الوحي لايلبث أن يصبح وهماً بعد ملاحظة أن التكوين القومي سابق على الوحدة القومية ( السياسية ) . ثم ان الوهم يتبدد حين يتحول النظام الرأسمالي الى نظام استعماري . فأينما ذهب الغزاة المستعمرون فاستولوا على الأرض والشعب وحّدوا المستعمرات المتجاورة وشعوبها المتنافرة واقاموا لها إدارة مركزية لتحقيق أفضل الظروف الاقتصادية اللاّزمة للربح ، ومزيد من الربح ، بصرف النظر عن التمايز أو الخلاف بين الأوطان والشعوب  .
احتلت انكلترا القارة الهندية ولم تكن موحدة لاسياسيا ولا إدارياً ولا شعبياً ولا لغوياً ولا حضارياً ، فوحدتها تحت ادارة استعمارية مركزية واحدة وبقيت موحّدة إلى أن تحررت فانفصلت دولاً . واحتلت فرنسا جنوب شرق آسيا ( فييتنام وكمبوديا وتايلاند ولاوس ) ولم تكن موحدة من قبل لاسياسياً ولا إدارياً ولا شعبياً ولا لغوياً ولا حضارياً فوحّدتها تحت اسم الهند الصينية الفرنسية تحكمها ادارة استعمارية مركزية ، وبقيت موحدة إلى أن تحررت فانفصلت دولاً . واحتلت هولندا مئات الجزر المنفصلة بحراً ، ولم تكن موحدة لاسياسياً ولا إدارياً ولا شعبياً ولا لغوياً ( 17 لغة ) ولا حضارياً ، فوحّدتها واقامت فيها ادارة مركزية استعمارية واحدة وبقيت موحدة إلى ان تحررت ، وحاولت أن تبقى موحدة تحت اسم " الولايات المتحدة الاندونيسية " ( 1949 ) فلما فشلت الوحدة ، انفصلت غينيا الجديدة ( 1954 ) . واحتلت مجموعات استعمارية مهاجرة من دول أوروبية غير موحدة لاسياسياً ولا إدارياً ولا شعبياً ولا لغوياً ولا حضارياً ، شمال القارة الأمريكية ، وبعد إبادة شعبها أو شعوبها ، تنافس المستعمرون عليها واقتتلوا ولكنهم خضعوا أخيراً لحكم القانون الرأسمالي فتوحدوا تحت ادارة مركزية واحدة في كندا ، وفي الولايات المتحدة الأمريكية . واحتل الايطاليون الحبشة واريتريا والصومال وجيبوتي ، ولم تكن موحدة لاسياسياً ولا إدارياً ولا سعبياً ولا لغوياً ولا حضارياً فوحّدوها تحت ادارة استعمارية مركزية واحدة وبقيت موحدة إلى ان تحررت فانفصلت دولاً . . . الخ .
كان كل هذا الاتجاه التوحيدي خضوعاً لقوانين النظام الرأسمالي ولم يرتكب الاستعمار الرأسمالي مخالفة أو جنحة أو جناية خروجاً عليها . . . إلا في الأمة العربية  .
لماذا ؟
199 ـ لأن الاستعمار الأوروبي الرأسمالي للأمة العربية بدأ استقطاعاً ، جزءاً بعد جزء حتى الحرب الأوروبية الأولى ( 1914 - 1918 ) . وكل جزء سقط عزله المستعمرون عن باقي الأمة العربية . ثم إن القوى الاستعمارية التي استولت معاً على كامل الأمة العربية كانت متعددة ومتنافسة ، فتوزعت الأمة العربية أجزاء بين تلك القوى . ثم ان الوطن العربي كان مقسماً إدارياً إلى ولايات من قبل داخل الدولة المركزية الواحدة ، فسهل تحويل الخطوط الإدارية الى حدود سياسية . ولكن كل هذا وحده لم يكن ليحول دون أن توحّد كل دولة مستعمراتها المتجاورة خضوعاً لقوانين النظام الرأسمالي . فهو لايفسر مثلا لماذا لم توحّد فرنسا تونس والجزائر والمغرب كما فعلت في جنوب آسيا ؛ ولماذا لم توحد انكلترا السودان ومصر وفلسطين والعراق والخليج كما فعلت في الهند . ولماذا لم توحد اليمن الجنوبي وعمان .ولماذا لم تعترض على وحدة نجد والحجاز ، واعترضت على وحدتهما واليمن . ولماذا احتلت السودان باسم مصر ، ثم عزلتها عنها ، وهي تستعمر القطرين  ولماذا أحبطت الدول الاستعمارية مشروع محمد علي ، العربي التوحيدي ، ثم ضغطت على الدولة العثمانية لإطلاق يده في مصر . . . الخ . اكثر من هذا ، لماذا جزأت فرنسا ما استعمرته من الشام وكان موحداً ؟ ولماذا جزأت انكلترا مااستعمرته في المشرق العربي ، وكان موحداً ؟ وقبل هذا وفوقه ، لماذا تواطأوا جميعاً على تجزئة الوطن العربي المجزأ بإقامة حاجز بشري غريب في فلسطين بفصل مشرقه عن مغربه ؟
200 ـ  في عام 1937 نشر في فرنسا كتاب مترجم عن الألمانية يحمل عنوان الله أكبر يتضمن تقريراً كتبه عميل صهيوني اختار لنفسه اسماً مستعاراً " محمد أسعد بك " ، قدمه إلى أحد قادة الحركة الصهيونية المستشرق النمساوي د . فولفجانج ف . فايست ، يقول فيه : " إن خلاصة الاسباب الجديّة للكفاح من أجل الأرض المقدسة هو موقعها الاستراتيجي وتأثيره في المستقبل . فلو عادت فلسطين الى دولة وحدة عربية تشمل مصر لقامت هناك قوة من 25 مليوناً من المسلمين تتحكم في قناة السويس وفي الطريق الى الهند . أما إذا بقيت فلسطين مستقلة ، أو إذا أصبحت دولة يهودية ، فإنها ستكون عقبة في سبيل قيام تلك الدولة الكبرى ، حتى لو توحدت دول عربية أخرى . إن دولة صغيرة عازلة تقوم على 100,000 كيلومتر مربع على ضفتي نهر الأردن ستحول - من ناحية - بين كل دولة عربية وبين دولة عربية أخرى : ستحول بين سورية الفقيرة اقتصادياً وبين الاتحاد مع مصر ، وهو اتحاد لايمكن منعه بغير إقامة تلك الدولة العازلة . وستحول بين مصر المسالمة وبين مد الحركة الوهابية المقاتلة . إن التوازن حول قناة السويس يتوقف ، إذن ، على حياد فلسطين . يتوقف على فلسطين تكون مثل سويسرا عند نقطة اتصال ثلاث قارات . إن هذا الحياد سيكون موازياً لتطور الاستيطان اليهودي . ذلك لأن اليهود هم وحدهم أصحاب المصلحة في هذا الحياد ، وليس العرب أو المسلمون . فهؤلاء هم الدعاة المتحمسون للاندماج في دولة كبرى " - أورده بيتر ديستريا في كتابه من السويس الى العقبة( 1968 )  .
والواقع التاريخي أن إقامة دولة عازلة في فلسطين تحرس الشريان الملاحي الذي يجري من الأرض العربية من بور سعيد إلى السويس إلى باب المندب من ان تسترده دولة واحدة عربية قادرة على استرداده والتحكم فيه باعتباره طريقاً بحرياً داخلياً ، كان مشروعاً استعمارياً منذ أن حصلت فرنسا على امتياز حفر قناة السويس ( 30 تشرين الثاني / نوفمبر 1854 ) ، فاتجهت انكلترا ، المنافسة الاستعمارية لفرنسا ، إلى وضع مشروع شق قناة تبدأ من حيفا ، ثم تجري في منخفض الغور وتنتهي في العقبة ، تقوم على حراستها دولة عازلة في فلسطين من العرب الدروز تحشدهم فيها انكلترا .  وفشل المشروع ، أو صرف النظر عنه " لأن العرب أو المسلمين هم الدعاة المتحمسون للاندماج في دولة كبرى " . واستطاعت انكلترا ان تستبدل به هيمنتها على قناة السويس  .
وبينما كانت الدولة العازلة ، الحائلة دون قيام دولة الوحدة الكبرى ، مشروعاً استعمارياً معين المكان والأسباب كانت ثمة بدائل كثيرة عن فلسطين مطروحة لتنفيذ مشروع الاستيطان الصهيوني . كان من بينها ما يدخل في إطار الوطن العربي ( شمال غرب الجزيرة العربية أو " أرض مدين " ، سهل البقاع ، سيناء ، حوران ، الخليج العربي ، شرق الأردن ، ليبيا ) . وكان من بينها ماهو خارج الوطن العربي مثل الارجنتين وقبرص واوغنده ( راجع دراسة بالغة الجودة عن مشاريع الاستيطان اليهودي منذ قيام الثورة الفرنسية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى  تأليف الدكتور أمين عبد الله محمود - سلسلة عالم  المعرفة - العدد 74 )  .
لم يكن المشروع الاستعماري والمشروع الصهيوني ، اذن ، مرتبطين نشأة واسبابا . ولكنهما اتفقا غاية عندما تحددت فلسطين العربية مكاناً لتنفيذ المشروع الصهيوني حيث تحول الدولة العازلة دون الأمة العربية ووحدة دولتها ، فتحمي المصالح الاستعمارية ، وحيث تمكن الصهيونية من اقامة دولة عنصرية يحميها الاستعمار . وطالما كانت انكلترا تحتل فلسطين كان وجودها يغني الاستعمار عن المشروع الصهيوني . ولكن الحرب الأوروبية الثانية قد اندلعت ( 1939 - 1945 ) وانتهت بتدمير المانيا النازية وحلفائها المنهزمين تدميرا . ولكنها انتهت ايضا بإفلاس انكلترا وفرنسا المنتصرتين إفلاساً لم تعد أي منهما معه قادرة على الاستمرار في تحمل تكلفة إدارة المستعمرات وحراستها . فانسحبت انكلترا من المستعمرات بما فيها فلسطين وتولت الولايات المتحدة الامريكية ، قائدة انتصار الحلفاء ، والرابح الوحيد من الحرب ، قيادة المرحلة التالية من مراحل الاستعمار الذي أصبح امبريالياً . وبإعلان انكلترا أنها ستنسحب من فلسطين لم يعد ثمة مبرر لتأجيل المشروع الصهيوني ، وتولت الولايات المتحدة أمر إنشاء دولة عازلة صهيونية في فلسطين باسم " اسرائيل " واعترفت بها الولايات المتحدة الأمريكية فور إعلان قيامها عام 1948 ، وستبقى الولايات المتحدة الامريكية فيما يلي ذلك من سنين ، كفيلة بتأمين الوجود الصهيوني في فلسطين . وستبقى المؤسسة الصهيونية ( اسرائيل ) كفيلة بحراسة المصالح الاستعمارية . ففي عام 1948 أمدت الولايات المتحدة الامريكية العصابات الصهيونية بكل الأسباب المادية والعسكرية والسياسية ، والدبلوماسية العلنية والخفية لتهزم جيوش الدول العربية المتدخلة " لانقاذ فلسطين" أو لتنهزم لها . فقامت الدولة الصهيونية الحارسة لدى الامبريالية الامريكية مصالحها في الوطن العربي . واعترفت الولايات المتحدة الامريكية بالدولة الحارسة فور اعلان قيامها وأفسحت لها مكاناً في هيئة الأمم المتحدة .
وفي عام 1956 اشتركت المؤسسة الصهيونية ( اسرائيل ) في العدوان الثلاثي على مصر الثورة لحساب الامبريالية الأمريكية على وجهين . الوجه الأول لردع مصر الثورة التي ماأن تحررت حتى راحت تشارك على اتساع الوطن العربي في معارك التحرير فتقود الجماهير العربية ضد المشروع الاستعماري ( مشروع ايزنهاور ) وتسقط مصيدة الامبريالية ( حلف بغداد ) وتستأنف دورها كمركز قيادة وإمداد فتصبح القاهرة مركز قيادة وإمداد الثورة التحررية في الجزائر ، ثم ترفض التبعية للإمبريالية الامريكية فتكسر احتكار السلاح وتتعامل مع المعسكر الاشتراكي ، وترد ثورياً على محاولة الولايات المتحدة الامريكية فرض تبعيتها في شكل شروط اقتصادية وسياسية ورقابية للمساهمة في بناء السد العالي ، وسحب الوعد بالمساهمة إثر رفض الشروط  فتؤمم " مصر الثورة " قناة السويس وتشترك اسرائيل في العدوان الثلاثي ضد مصر لحساب الإمبريالية  الأمريكية ، كان ذلك وجهاً ، أما الوجه الثاني ، فالاشتراك مع انكلترا وفرنسا في معركة استعمارية قد يؤدي الانتصار فيها الى عودة الدولتين الاستعماريتين إلى الوطن العربي ، وذلك لحساب الولايات المتحدة الأمريكية أيضاً ، بالحيلولة دون عودتهما منافستين غير مرغوب فيهما . أدت دورها وأمرت بالانسحاب من سيناء ، فانسحبت بعد أن تم انسحاب القوات الانكليزية الفرنسية وليس قبل ذلك ، وقبضت الثمن المرور في مضيق تيران في حراسة قوات دولية .
في الذكرى الثانية لحرب 1956 ستعلن الصهيونية عن وظيفتها في تجزئة الوطن العربي وحماية تجزئته ، فتنشر مجلة " الأوبزرفاتير دي مويان أوريان " مقالاً في تلك المناسبة ( تشرين الثاني / نوفمبر 1958 ) تقول فيه إن التفوق الاسرائيلي قدم ضماناً لحماية الوضع القائم ضد المحاولات الوحدوية . لقد أصبح واضحاً أن حفظ التوازن فيما بين الأقطار العربية المجاورة لإسرائيل والاقطار العربية عامة مهمة يتولاها الاسرائيليون ، وتدخل في نطاق واجباتهم . إننا نقوم هنا على تنفيذ " مبدأ مونرو " خاص بالشرق الأوسط ، إذا صح التعبير . إن القرار الذي اتخذناه بهذا الخصوص منذ عشر سنوات ( أي منذ 1948 ) قد أدى إلى الاستقرار والسلام بدلاً من الخوف . فنلاحظ أن قرار التجزئة وحراستها قد اتخذ منذ انشاء الدولة الصهيونية في عام 1948 . ونلاحظ من الحديث عن " التوازن بين الأقطار العربية المجاورة لاسرائيل " انه إعادة حرفية للصيغة التي مرت بنا من قبل في اقتراح الدولة العازلة التي تحول دون الوحدة العربية قبل أن تنشأ الدولة الصهيونية بسنين طويلة .
201 ـ  وفي عام 1956 ، أيضاً ، دخلت الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج معركة الدفاع عن مصر الثورة بكل سلاح متاح ، بما في ذلك قطع أنابيب النفط ، والاشتراك الايجابي في القتال ، فلما أسفرت الحرب عن فشل العدوان الثلاثي أدركت قيادة مصر الثورة أن الوطن العربي ليس مجرد دائرة حول مصر ، ولا مجالاً حيوياً لها ، بل الوطن القومي للأمة العربية ، التي ليست مصر إلا جزءاً منها . فتحولت الثورة التي بدأت مصرية إلى ثورة ذات اهداف قومية ، ووثّقت هذا التحول المادة الأولى من دستورها الأول ( 1956)   .
وأصبح جمال عبد الناصر رئيس دولة مصر القائد المعترف به عربياً ودولياً للجماهير العربية . فلم تلبث أن فرضت الجماهير العربية الوحدة مع سورية ومصر ( 1958 ) . نفضل أن نقول ألغت الجماهير العربية التجزئة بين سورية ومصر . فلما اراد المستعمرون عرقلة المد الوحدويّ ، واصطنعوا لذلك اتحاداً عشائرياً ( هاشمياً ) بين حكام الأردن وحكام العراق ، أطاحت الجماهير الوحدوية بالحاكمين في العراق ( 1958 )  .
هنا توقف المد الوحدوي فلم يلتحق العراق بدولة الوحدة ، فبدأ الانحسار وتوالت الهزائم التي لعبت فيها التجزئة دوراً أساسياً  .
202 ـ كانت غاية تجزئة الأمة العربية ، منذ البداية ، الحيلولة - بالقهر المادي - بين الشعب العربي والوحدة العربية . والوحدة العربية تتجسد سياسياً في وحدة الدولة القومية على كامل تراب الوطن العربي ، وتتجسد نضالياً في وحدة قوى الثورة العربية من أجل التحرر . فكانت التجزئة بالرغم من عدم توافقها مع مقتضيات الاستعمار الرأسمالي أنسب الوسائل في واقع الأمة العربية القومي لتمكين الاستعمار ، إذ هي تجزئة لقوى مقاومته ، ثم لتأمينه ، إذ هي تجزئة لقوى الثورة عليه . اما انها تحد من مدى التزايد الممكن للأرباح الرأسمالية ،  فيمكن تعويضه من اتساع الوطن العربي وثرواته المتنوعة الموزعة على أقطاره . وإذا كان العرب ، وهم لم يكونوا عرباً إلا بوحدة انتمائهم الحضاري إلى أمة واحدة " سيكونون من الدعاة المتحمسين للاندماج في دولة عربية كبرى " واحدة ، فإنهم ، استجابة لوحدة الانتماء القومي هذه ، سيكونون من المتحمسين للمساهمة في ثورة عربية واحدة . ولقد كان المستعمرون يعرفون من تاريخهم القريب كيف وحّدت القومية قوى التحرر فهزمت المشروع الاستعماري البونابرتي في اوروبا ، وكيف وحدت قوى الشعب فأقامت دولاً قومية على أنقاض التجزئة الإقطاعية . وما كان كل ذلك ليصحّ إلا لأنهم كانوا يعرفون أنهم يواجهون أمة مكتملة التكوين . وهو طور من النمو الاجتماعي لم تصادفه الموجة الاستعمارية في المجتمعات القبلية والشعوبية التي استعمرتها فوجدتها خليطاً تحت إدارة مركزية واحدة  .
203 ـ  وقد أدت التجزئة دورها في تمكين الاستعمار من الأمة العربية وتأمين وجوده . فقد بدأت مقاومة الاستعمار في جميع الأقطار فور الاحتلال . فما أن احتلت فرنسا الجزائر عام 1930 حتى قامت الثورة التحررية الأولى عام 1932  . وفي ذات الليلة التي أجبرت فيها فرنسا السلطان عبد الحفيظ على توقيع وثيقة احتلال مراكش ، قامت الثورة التحررية الأولى ، وحاصر الشعب العاصمة ، فدكّتها المدفعية الفرنسية لتنقذ السفّاح الماريشال ليوتي . وعلى أثر احتلال تونس قامت ثورة التحرير بقيادة علي بن خليفة ، وفي مصر بدأت ثورة التحرير بقيادة أحمد عرابي فور الإنذار بالاحتلال وقبل أن تطأ الجيوش الانكليزية شاطىء الاسكندرية . فلما انهزمت ثورة " أولاد العرب " - كما كانوا يسمونها في مصر - ثار العرب بقيادة المهدي في السودان . وأنذر المهدي الخديوي توفيق ، الخائن ، بأنه قادم بجيشه لتحرير مصر من الغزاة . فلما مات قبل أن ينفّذ وعيده نفّذه خليفته التعايشي ، فأرسل حملة إلى مصر بقيادة النجومي عام 1885 . وما ان استأثر الأتراك الطورانيون بالسلطة في الدولة المشتركة وبدأوا محاولة " تتريك " العرب قهراً حتى بدأ الإعداد للثورة التحررية في المشرق تحت قيادة الشريف حسين لتحريره من القهر التركي . فلما افتقدت مساندة القوى الشعبية في المغرب العربي ، بفعل التجزئة التي فرضها المستعمرون ، قبلت مساندة المستعمرين فارضي التجزئة التي حرمتها من مساندة القوى الشعبية ولم تفطن قيادتها إلى التناقض الموضوعي في موقفها من أعدائها وكان في ذلك مقتلها . فلما انكشف هذا التناقض ونكثت القوى الاستعمارية عن الوفاء بوعود الاستقلال ، اندلعت ثورات التحرر في مصر ( 1919 ) وفي العراق وسورية ولبنان ( 1920 ) . ثم لم تتوقف الثورات التحررية أبداً على الأرض العربية . ما ان تنتهي ثورة في مكان ، ولو بالهزيمة الموئسة ، حتى تبدأ ثورة في مكان آخر كلّها أمل في النصر . وكان أمل النصر في كل ثورة أملاً عربياً في نصر عربي تهفو إليه وتتطلع جماهير الشعب العربي التي تحول التجزئة دون اشتراكها في تحقيقه . ويخاطر بعض الأفراد والجماعات باختراق الحواجز إلى حيث الثورة ليسهموا فيها أو ليحملوا إليها الامدادات ، ويستضيفوا اللاجئين إليهم بعد الهزيمة ، ويعانوا ما يعانون من مرارة الشعور بالهزيمة في انتظار جولة ثورية أخرى  .
برغم هذا ، وبرغم البطولات الأسطورية والتضحيات الجسيمة لم يكن النصر حليفاً لأية ثورة عربية على مدى أكثر من قرن . لأن قوى الثورة كانت فصائل متفرقة بين الأجزاء المعزولة بالحدود التي فرضها المستعمرون فافتقد الثوار في كل الأجزاء وحدة الجماهير المساندة ، ووحدة القوى الثورية الرائدة ، ووحدة المنظمة القائدة ، فافتقدوا وحدة الخطة الثورية ، ووحدة الغاية الاستراتيجية ، ورحابة المناورة للتحركات التكتيكية ، فانهزم كل فصيل وهو يدافع عن امة واحدة . قاد عبد القادر الجزائري الثورة التحررية في الجزائر خمس عشرة سنة ( 1832 - 1847 ) ، ثم انهزمت الثورة في الوقت الذي كانت فيه الجيوش العربية في مصر كافية لردع فرنسا ذاتها . ففي تاريخ غير بعيد قبل هذا وبعده كان الجيش العربي من مصر ، يقاتل براً وبحراً في القرم (روسيا ) ، وفي المورة ( اليونان ) ، وفي اواسط أفريقيا وفي الحبشة ، وعبرت كتائبه مياه المحيط الاطلنطي لتحارب في المكسيك دفاعاً عن امبراطورها الالماني الأصل فرديناند ماكسيميليان ( 1832 - 1867 ) بناء على طلب من فرنسا . وفي عامين اثنين كانت الثورات التحررية قائمة على قدم وساق في المغرب وفي تونس وفي ليبيا وفي مصر وفي العراق وفي سورية وفي لبنان ، وانتهت جميعاً الى هزيمة كاملة ، أو إلى شيء يشبه - في أفضل الحالات - معاهدة 1936 بين مصر وانكلترا  .
ولما توقف المد الوحدوي دون العراق عام 1958 فقدت دولة " الجمهورية العربية المتحدة " سمتها القومية وأصبحت دولة قائمة على التجزئة تلتزمها وتحميها بقوة الدولة فيها . فهزمت التجزئة كلاً من ثورة العراق ، ووحدة 1958 . اغتالت القوى الشعوبية ثورة العراق في حماية التجزئة ( 1959 ) . وانفصلت سورية عن مصر ( 1961 ) انفصالاً سهلاً لأن وحدة 1958 لم تقبل التجزئة ممثلة في حدودها الخارجية فقط ، بل أبقت عليها في نظامها الداخلي أيضاً . توحّد الإقليمان في : رئاسة الجمهورية ، وفي حكومة مركزية ، وفي مؤسسة تشريعية ، أي توحّدا حكّاماً ، ولكنهما بقيا مجزأين نظاماً ، لكل حكومة ، وجيش ، واقتصاد ، ومالية ، ونقد ، وتجارة واتفاقات دولية . وكانت الجماهير العربية الملتقية على هدف الوحدة تحت قيادة واحدة ما تزال مجزأة أفراداً وشللاً وجماعات ومنظمات وأحزاباً ، فأعجزتها التجزئة عن الدفاع عن الوحدة ضد حفنة من الانفصاليين فجاء الانفصال سهلاً . فلما ردّت مصر الثورة على المؤامرة الاستعمارية الانفصالية بالمساهمة الايجابية العسكرية دفاعاً عن ثورة اليمن الشمالي ( 1962 ) ثم مدت مساهمتها إلى اليمن الجنوبي ، وفجّرت فيه ثورة التحرر فتحرر ( 1964 ) ، ثم توقفت ثورات التحرير دون الوحدة : لم تتحقق حتى وحدة شطري اليمن لأن قوى الثورة فيهما كانت مجزأة . وفي عام 1963 اجتمع في القاهرة قادة مصر والعراق وسورية واتفقوا على ميثاق فكري واحد . ودستور واحد ، وإقامة دولة واحدة تضم الأقطار الثلاثة ، وحدّدوا لقيام الدولة موعداً قريباً كان فشل المشروع أقرب منه ، لأن القوى التي اجتمعت وتحاورت واتفقت على كل ما يلزم لقيام الوحدة كانت مجزأة منظمات ونظماً . ولم يلبثوا جميعاً أن تلقوا إنذار دولة الصهاينة ، حارسة التجزئة ، على لسان ليفي اشكول ، رئيس وزرائها ، في رسالة أذيعت في كانون الأول / ديسمبر 1966 : إن سياسة إسرائيل منذ 1958 ( أي منذ عام الوحدة بين مصر وسورية . . . ! ! ! ) أن تحول بالقوة دون أي تغيير يحدث في الوضع القائم للبلدان العربية . واستمعوا إلى تأكيد أبا ايبان وزير الخارجية الصهيوني في تصريح أدلى به في لندن في شباط / فبراير 1967 : يجب أن يكون واضحاً ( لمن . . . ؟ ! ) أن مصير المنطقة العربية لايمكن أن يكون في الوحدة . بالعكس انه في الاستقلال القائم على التجزئة  .
كان ذلك إنذاراً مبكراً ، بان الولايات المتحدة الأمريكية تعد لتصفية النظام المتحرر من التبعية ، المتحول إلى الاشتراكية ، في مصر العربية التي لم تقبل على مدى تاريخها الجغرافي قبل الفتح العربي أن تنعزل داخل حدودها عما يحيط بها من أقطار ، ولم يحدث على مدى تاريخها القومي أن عزلت أو انعزلت عن الأمة العربية التي هي جزء منها إلى ان عزلها الاستعمار بالقوة الباطشة . فكانت حرب 1967 والهزيمة العسكرية القاسية . ولقد حاولت كل من سورية والأردن والعراق أن تقفز فوق التجزئة في سلسلة اتفاقات دفاع مشترك انعقدت على عجل قبيل الحرب . وحاولت الأقطار العربية جمعاء أن تشترك في " العزاء " بعد الهزيمة في مؤتمر الخرطوم ( آب / اغسطس 1967 ) ، فدفع الأردن الثمن هزيمة في الضفة الغربية . ودفعت سورية الثمن هزيمة في الجولان . أما العراق فقد اعتذر عن عدم المشاركة بأن حدود التجزئة حالت دون وصول قواته في الوقت المناسب . . واكتفت البلدان النفطية بما دفعته ثمناً قليلاً من عائد النفط العربي . وكان كل هذا في منطق التاريخ القومي عدلاً . فقد دفعت مصر وسورية الثمن العادل لقبولهما الانفصال بعد الوحدة . ودفع الاردن الثمن العادل لموقفه من الوحدة ، ولم تكن اتفاقيات الدفاع المشترك قبل 1967 وبعد 1967 ، ولم يكن التضامن العربي قبل الخرطوم وبعد الخرطوم الا محاولات غير ذكية ليحصل حراس التجزئة العرب على وثائق تستر جريمة التجزئة وتوهم الشعب العربي ببراءتها من الهزائم  .
قامت المؤسسة الصهيونية ( اسرائيل ) بدورها لحساب الامبريالية الأمريكية . فبدأ دور الولايات المتحدة الأمريكية فور الهزيمة . فاستصدرت من مجلس الأمن قراراً بإيقاف اطلاق النار غير متضمن انسحاب القوات المتحاربة إلى مواقعها قبل بدء القتال لأول وآخر مرة في تاريخ هيئة الأمم المتحدة . وأصبح واضحاً ، بل ومعلناً ، أن الولايات المتحدة الأمريكية قد احتفظت بسيناء وغزة والضفة والجولان رهينة تحت حراسة الصهيونية حتى تحقق الحرب الغاية التي قامت من أجلها : اسقاط عبد الناصر قائد الجماهير العربية ، وانعزال مصر عن الأمة العربية أو عزلتها ، قطع العلاقات الاقتصادية خاصة مع الاتحاد السوفياتي ، الارتداد إلى النظام الرأسمالي ، انهاء حالة الحرب مع المؤسسة الصهيونية والاعتراف باسرائيل . ولم تكن احلامهم لتصل إلى حد تطبيع العلاقات معها  .
أما اسقاط عبد الناصر فقد كاد يتم حينما أعلن تنحيه عن موقع القيادة ، ولكن الجماهير العربية في مصر وخارج مصر ردته إلى مكانه ( 9 و 10 حزيران / يونيو 1967 ) . أما انعزال مصر عن الأمة العربية ، أو عزلها ، فقد طلبته الولايات المتحدة الأمريكية من عبد الناصر مقابل " فك رهن " سيناء وإعادتها كاملة السيادة لمصر فرفض عبد الناصر . أما قطع العلاقات الاقتصادية خاصة مع الاتحاد السوفياتي فكان يعني قطع الشريان الوحيد الباقي لإمداد مصر عسكرياً واقتصادياً ودولياً بما يلزم ، حتى لا تستسلم . أما الارتداد إلى النظام الرأسمالي فإنه لم يتم ، لأنه كان انتحاراً فقد تولى القطاع العام بعد الهزيمة الدفاع الفعلي والفعّال عن بقاء مصر دولة ، والإنفاق على إعادة بناء القوات اللازمة لتحرير سيناء . أما إنهاء حالة الحرب والاعتراف باسرائيل وتطبيع العلاقات معها ، فقد كان هو الاستسلام بعينه . ثم مات عبد الناصر ( 28 أيلول / سبتمبر 1970 ) وتولّى أنور السادات قيادة مصر العربية . . . وفي عام 1973 حشدت الاقطار العربية كل ماسمحت لها به التجزئة من قوة عسكرية واقتصادية ومالية ودبلوماسية ودعائية ، في مناخ دولي مؤات ، وخاضت مصر وسورية حرباً هجومية محدودة ، وحققتا نصراً عسكرياً محدوداً ، وانتهى إلى هزيمة عربية بلا حدود ، بدأت نذرها منذ بدأ كل شريك ومشارك في المعركة يجري حساباته على قواعد التجزئة ، وراح أنور السادات ، منفرداً ليوقع في الولايات المتحدة الأمريكية تحت إشراف رئيسها جيمي كارتر ، مع الصهيوني مناحيم بيغن اتفاقيات كامب دافيد ( 1979 ) التي قبل فيها كل ما كان يريد الحلف الأمريكي الصهيوني أن يحققه من حرب 1967 ، بما فيه الاعتراف بإسرائيل وأكثر ( لم يكونوا يحلمون بالتطبيع والتعاون والصداقة ) . وكان ما كان . وقد أشرنا إليه من قبل ( فقرة 179 ) . وبلغت الهزيمة مداها حينما اعترف اغلب قادة العرب ، دولاً ودويلات ومنظمات وأحزاباً بإسرائيل . بعضهم اعترف بجسارة ، وبعضهم على استحياء . بعضهم علناً ، وبعضهم خفية بعضهم صراحة وبعضهم ضمناً ، يستوي الإجرام في الاستسلام ، ولا نهدر حبراً رخيصاً في التعليق على الاعتراف بأساليب أرخص  .
204 ـ  لم تكن تجزئة الأمة العربية لتلعب هذا الدور الأساسي في الهزائم العربية لو أنها مجرد فواصل سياسية بين دول متجاورة . هذه ملحوظة على أكبر قدر من الأهمية لفهم أسباب الهزائم العربية أمام المؤسسة الصهيونية ( اسرائيل ) . فالواقع أن كلاً من مصر وسورية تملك بشرياً ومادياً كل الامكانات الكافية ، وهي منفردة ، لمواجهة اسرائيل وهزيمتها . وكثير من الاقطار العربية قادرة وهي منفردة ، على مواجهة اسرائيل وهزيمتها أو ردعها على الأقل . وليس ثمة أي حائل جغرافي لايمكن التغلب عليه ليصل أي ذراع عربي إلى عنق الصهيونية في فلسطين المغتصبة أو خارجها . فقد أضعف التقدم التكنولوجي مقاومة الحائل الجغرافي . ضربت الصهيونية في صعيد مصر ، وفي العراق ، وفي تونس ، بل وفي عينتبي ( أوغندا ) . واستولت خلسة على زوارق الطوربيد من شمال فرنسا . وحين أرادت مصر أن تشن حرباً محدودة ضد الصهاينة عبرت القوات المصرية القناة ، أمنع الحواجز المائية على الاطلاق ، بدون خسائر تذكر وسحقت الصهاينة شرق القناة حتى الحدود المحددة للعمليات الحربية . وليس انفراد الشعب بالدفاع عن ارضه عقبة في سبيل التحرر . ففي لبنان استطاعت المقاومة الشعبية أن تهزم الغزو الصهيوني والتدخل الأمريكي معاً . ومن قبل استطاعت الثورة الشعبية أن تنتصر على الاحتلال الاستيطاني في الجزائر ، ومنذ خمس سنوات يقاتل الشعب العربي دفاعاً عن العراق ضد محاولات الغزو الإيراني بكفاءة مشهودة وبطولة فذة وعلم فائق بفنون الحرب الحديثة ، واستخدام ماهر لمعداتها المتطورة ويحقق كل يوم نصراً وهو يقاتل منفرداً . . . الخ .
ثم أن ثمة دولاً كبيرة في أمم عريقة موحدة غير مجزأة انهزمت مثل فرنسا والمانيا وايطاليا وبولندا واليابان . ليس النصر والهزيمة إذن متوقفين على الوحدة أو التجزئة وحدهما . إنما هي موازين قوى سياسية واقتصادية واجتماعية وعسكرية ودولية أيضاً  .
هذا صحيح لاشك فيه . فتجزئة الأمة العربية ليست وحدها السبب في الهزائم العربية في معارك التحرر أو التقدم انها سبب عجز الشعب العربي في كل الأقطار بأن يتحرر ويتقدم بالقدر المتكافىء مع إمكانات أمته لأن ماهو متاح في أمته من إمكانات غير متاح له بفعل التجزئة . هذا لو كانت التجزئة مجرد فواصل سياسية بين بلدان عربية متجاورة . ولكنها أكثر من ذلك بكثير . انها كجرثومة مرض " الإيدز " اللعين ، لاتقتل بذاتها ، ولكن تضعف مناعة الجسم الحي فتقتله أوهى الأسباب . ولهذا أسميناها السبب الأساسي . وله أسباب نذكرها  .
التخريب والتغريب .
205 ـ منذ أن بدأ الاستعمار الرأسمالي للأمة العربية ، بدأ تخريب حضارتها القومية . وحضارتها القومية إسلامية كما عرفنا من قبل ( فقرة 11 وما بعدها ) . كان التخريب خفياً حينما كان الاستعمار ظاهراً ، وأصبح التخريب ظاهراً حينما أصبح الاستعمار خفياً . اختلف الاسلوب في الحالتين ولكنه كان في الحالتين منصباً على الحضارة العربية من حيث هي حضارة قومية ( التخريب الاقليمي ) ومن حيث هي حضارة إسلامية ( التخريب العلماني  .
1 ـ الاقليمية :
206 ـ الأصل في الاقليم أنه تعبير عن مكان . وقد ينطوي على بعض التميّز الطبوغرافي أو الجغرافي ولكنه على أي حال لايتضمن في ذاته مفهوماً حضارياً . بل لعل استعمال كلمة اقليم للدلالة على مكان أن يتضمن نفياً لاختصاص المكان الذي نعنيه بحضارة خاصة .
في حدود هذا المفهوم لاينكر أحد أن الوطن العربي يضم أكثر من إقليم ، وأن بعض الأقاليم تتميز عن البعض الآخر طوبوغرافياً وجغرافياً ، وبما تنطوي عليه من مصادر الثروة الاقتصادية . كما لاينكر أحد أن ذلك التمايز أو التنوع على الأصح قد يقتضي تنوعاً في أساليب الادارة والانتاج اللازمة لتنظيم الحياة في الأقاليم على أفضل ما يناسبها . وسواء في دولة الوحدة أو بدونها ، لن يستوي نجد والعراق إدارة وتنظيماً ، كما أن الصحراء الغربية لاتخضع لكل النظم الادارية التي تحكم القاهرة مع أنهما جزآن من قطر واحد .
هذا امر مسلّم في كل الدول التي يشمل وطنها أكثر من إقليم ، ولم يكن هذا قط مشكلة دستورية أو إدارية أو اقتصادية لا في الوطن العربي إبان وحدته السياسية ولا في الأوطان الأخرى التي لم تنكب بالتجزئة .
غير أن للاقليم في الوطن العربي دلالة خاصة : فعندما نتكلم عن الأقاليم من الوطن العربي نعني تلك الأجزاء من الوطن العربي الواحد التي أرسى الاستعمار حدودها وأقام عليها دولاً فأصبحت وحدات سياسية مستقلاً بعضها عن بعض .
فالأقاليم في الوطن العربي هي الأقطار في أجزائه . وبعض تلك الدول لاتقوم حتى على " إقليم " بمعناه الأصيل . فإن أهواء المستعمرين لم تكن تتفق دائماً مع تضاريس الطبيعة فجاءت خطوط التجزئة مستقيمات هندسية رسمت على الخرائط فوق مكاتب المستعمرين . بهذا فقد " الأقليم " في الوطن العربي مضمونه الأصيل ؛ ولكنه بهذا أيضاً كسب مضامين جديدة سياسية واجتماعية وفكرية لايستهان بقوة تأثيرها على كثير من العرب حتى بعض الوحدويين منهم .
فقد حول المستعمرون ، وعملاؤهم ، والمستفيدون من ورائهم ، واليائسون من التحرر. . . حولوا دول التجزئة إلى مدارس ضخمة وحقول فسيحة للتخريب والتدريب السياسي والاجتماعي والفكري خلق كائنات حية من أشلاء أمة ممزقة . وحشد لها المستعمرون كل طاقاتهم المادية والاقتصادية والثقافية على وجه خاص . واصطنعوا لها عملاء وأساتذة ومعلمين وتلامذة ورصدوا حتى العروش مكافأة للمتفوقين منهم . وكانت غايتهم اختلاق مضمون حضاري ، غير عربي ، للاقليم وتنمية على حساب المضمون الحضاري للقومية العربية ليتحول الانتماء من الأمة إلى الشعب ، فيتحول الولاء من الوطن العربي إلى : مصر ، العراق ، سورية . . . الخ . ومع أن الولاء للوطن القومي يشملها إلاّ أن غاية المستعمرين كانت تجزئة الولاء حتى لاتتوحد قوى التحرير . وهكذا في مواجهة وحدة اللغة تحل اللغات الأوروبية محل اللغة العربية في بعض الأقاليم . وعندما يكون ذلك غير ممكن يدرس الشباب أرقى علومه بغير اللغة العربية .ثم إبراز اللهجات المحلية التي قد تختلف من قرية إلى قرية واتخاذ لهجة سكان العواصم أدوات للتعبير في الأدب والفن والصحافة والإعلام والإشادة بها " كلغة " أكثر واقعية ويسراً . وفي مواجهة وحدة الوطن القومي اختلاق نزاع على الحدود " الوطنية " بين دول التجزئة والزجّ بابناء الأمة الواحدة وأصحاب الوطن الواحد في معارك يدافع فيها كل منهم عما يتوهم أنه وطنه الخاص . وفي مواجهة وحدة التاريخ ، إعادة صياغة التاريخ العربي وتقسيم احداثه على الأقاليم ليبدو لكل دولة تاريخ خاص . ونبش الماضي البعيد ورفع تراب التاريخ عن العهود القبلية والشعوبية لاستخراج رفات أحداثها ومحاولة إلباسها ثوب التراث التاريخي الإقليمي المنفصل عن التراث القومي ، واختلاق أبطال قوميين لأمم موهومة ، تحت أسماء الأشورية والفينيقية والفرعونية . . . الخ  .
وقد استطاع الاستعمار فعلاً أن يخلق على التجزئة ، ومنها ، صيغاً إقليمية للحياة الفكرية والاقتصادية والاجتماعية ، وأن يربط مصير فئات كثيرة في الأقاليم بالتجزئة وجوداً وعدماً ، وأن يخلق للتجزئة رموزاً مميزة من الحكّام والأعلام والأناشيد والتقاليد ؛ وأن يحرك تياراً فكرياً على قدر من القوة يبرر الوجود الإقليمي المستقلّ ، ويستبدله بالوجود القومي ، ويجتهد في هذا فلسفةً أو سفسطةً  . . وأدى كل هذا ، وغيره من مثله ، لدى قطاعات عريضة من العرب في كل إقليم إلى قدر من الشعور المستقر بالانتماء إلى الإقليم هو القاعدة النفسية اللازمة لنمو الولاء القومي . . وهكذا لم يعد الانتماء إلى الأقاليم تحديداً لمواطن الإقامة ، بل أصبح  "إقليمية "  ، مضمونها الحضاري شعوبي مرتدّ إلى مرحلة الطور الاجتماعي السابق فهي نقيض الحضارة العربية ومحاولة لنقض التكوين القومي  .
2 ـ الاغتراب :
207 ـ عرفنا من قبل كيف أن العلمانية ليست ضد الدين ولا مع الدين ( فقرة 84 وما بعدها ) وعرفنا أن جوهر الدعوة العلمانية في مجتمع من المسلمين هو أن تستبدل بالشرائع والقواعد والاداب التي جاء بها الإسلام شرائع وقواعد وآداب وضعية ( فقرة 142 ) وأنها ركن من نظام شامل متكامل للحياة الدنيا ، علماني في موقفه من الدين ، فردي في موقفه من المجتمع ، ليبراليّ في موقفه من الدولة ، رأسمالي في موقفه من الاقتصاد كان محصلة عوامل نفسية وثقافية وتاريخية وحضارية سادت أوروبا على مدى نحو سبعة قرون ( فقرة  125 )  .
وقد بدأ الاستعمار القاهر الظاهر بفرض نظامه على الحياة العربية فاستبعد الإسلام نظاماً وتركه للناس عقيدة ومناسك وأحوالاً شخصية . وأقام له حارساً باطشاً من جنده المسلحين ، وترك له ان يغير ما بالناس من خلال اضطرار الناس إلى الملاءمة بين حياتهم اليومية وبين قواعد النظام المفروض بالقوة ، ثم اطّراد تلك الملاءمة خلال زمان غير قصير ليصبح النظام تقاليد وعادات وآداب يغذيها تيار فكري من " المشايخ " والاساتذة والمعلمين والتلامذة وخريجي جامعات أوروبا من الموفدين ، وعملاء الاستعمار من المبشرين الوافدين ، لتبرير استبعاد الإسلام نظاماً والاكتفاء به مناسك وعبادات ، ويرشون الشعب المتخلف بأوهام التقدم الأوروبي . . الخ .  وأدى كل هذا ، وغيره من مثله ، إلى قدر من الشعور المستقر بالانتماء إلى الحضارة الغربية ( يسمونه الاغتراب ) هو القاعدة النفسية اللازمة لنمو الولاء للنظام الفردي الليبرالي الرأسمالي على حساب الولاء للنظام الإسلامي . وهكذا لم تعد العلمانية دعوة ضد الدين عامة ، أو الإسلام خاصة بل أصبحت ذات مضمون حضاري فردي ليبرالي رأسمالي فهي نقيض للتكوين القومي الجماعي في جوهره ، ونقض للحضارة العربية الإسلامية في جوهرها  .
أمثلة من التناقض والنقض  :
208 ـ تقول دراسة وضعتها " لجنة المجتمعات الأوروبية " في بلجيكا عن الشباب الأوروبي ( 1985 ) أن علاقة الشاب بأسرته تنتهي عند سن السادسة عشرة ، وأنه يعتبر نشاطه الجنسي منذ بدايته مع سن المراهقة من شؤونه الخاصة التي لايجوز لأحد أن يتدخل فيها ، وأنه ابتداء من مرحلة الشباب لايهمه الا الخوف من البطالة وأن الشباب عديمو الاهتمام بما يدور في مجتمعاتهم . ويقول جيرالد باكمان  الاستاذ في معهد الدراسات الاجتماعية في جامعة ميتشجان بالولايات المتحدة الامريكية في كتابه نظرة الشباب إلى المشكلات الوطنية (1971 ) إن الشباب لايعيرون المشكلات الوطنية أي اهتمام ، وحين يثار اهتمامهم لايجدون ما يقولون ، وإن كانوا مهتمين إلى أقصى درجة بحرب فييتنام يريدون أن تنتهي حتى لا يتعرضوا لمخاطر الموت فيها ، ولكن ليس لديهم أية فكرة عن كيفية إنهائها . وقد وصل عدم اهتمامهم بالشؤون الوطنية أن ثلث الطلاب في الجامعات ميدان البحث ، لم يعرف أي منهم اسم عضو مجلس الشيوخ في ولايته . وتقول نشرات هيئة الأمم المتحدة أنقد انعقد في مرسيليا ( فرنسا ) ما بين 24 و27 تشرين الأول / اكتوبر 1983 مؤتمر دولي لدراسة ظاهرة " ابناء الشوارع " . وابناء الشوارع هؤلاء ليسوا أبناء الريف في العالم الثالث الذين تسمح لهم التقاليد بأن يعيشوا أيامهم جائلين شاردين خارج الدور والمنازل ثم يعودون ، وليسوا يتامى أو ضالّين أو لقطاء ،   ولو كانوا كذلك لهان الأمر ، ولكنهم دخلوا عالمهم من أبواب اليتم أو الضلال أو التخلي أو الشرود ثم تكيفوا مع البيئة التي تشكلها الشوارع والأزقة والأبنية المهجورة بما يسودها من قواعد التشرد وتقاليده وآدابه أيضاً ، وهي قريبة الشبه بما يذكره لنا التاريخ عن حياة الانسان البدائي قبل أن تعرف البشرية ضوابط السلوك الاجتماعية والدينية والخلقية والتشريعية . انه عالم اغتراب عدائي من مجتمع الآخرين ، اتخذ من الشوارع حدوداً عازلة بينه وبين مجتمع آخر يرفضه ويقاوم بأساليب " شوارعية " حقاً العودة إلى الاندماج فيه . لقد بلغ نمو عالم أبناء الشوارع في بعض مدن فرنسا حداً حمل السلطة الفرنسية على أن تعترف بوجوده ، وتتعامل معه وتسمح له بقدر من الاستقلال في تنظيم وإدارة شؤون رعاياه وأن يشكلوا من أنفسهم جماعة قيادية ، قريبة الشبه بالحكومة ، مقرها مدينة " بيسين " قريباً من مرسيليا ، تباشر سلطاتها بالتشاور مع ممثلي السلطة الرسمية  .
أما في الولايات المتحدة الامريكية حيث تقاس كل الظواهر الاجتماعية بمقاييس مالية فتقول مارغريت جوردون في كتابها عن مشكلات الشباب ( 1979 ) أن 16 بالمائة من صغار البشر في نيويورك ينتمون إلى هذا العالم القائم خارج حدود المجتمع وقوانينه . وتنقل عن ستانلي فريدلاندر ما قاله عن دراسة ميدانية في ثلاثين مدينة أمريكية ، ما قلب رأساً على عقب كل ما يعرفه عالمنا من علاقة بين البطالة والجريمة . كان المستقر من المعرفة أن البطالة من أسباب الجنوح إلى الإجرام ، أما في الولايات المتحدة الامريكية فقد أصبح الإجرام أحد أسباب البطالة . ففي عالم أبناء الشوارع وجدت " المنظمات الإجرامية " أو " الجريمة المنظمة " جيشاً متزايد العدد من الذين يعرضون قوة عملهم في مقابل أجور أكثر ارتفاعاً من الأجور المتاحة في العمل المشروع ، بالاضافة إلى متعة الاعتداء على المجتمع الذي يرفضونه . وقد بلغت جملة ميزانيات منظمات الاجرام في الولايات المتحدة الأمريكية ، كما تقول مارغريت جوردون ، 25 مليار دولار سنوياً  .
إنهم أبناء الاسر التي قال عنها فيكتور بالدريدج في كتابه علم الاجتماع المشار إليه من قبل ان جدار العفة فيها يتصدع تحت ثقل التقدم الرأسمالي الصناعي ، وان الإحصاءات المتحفظة تشير إلى أن 25 بالمائة من الزوجات لهن علاقات جنسية برجال غير أزواجهن ، وأن مابين 50 و 60 بالمائة من الرجال يمارسون الزنى ، وأن استطلاعات الرأي قد أثبتت أن هناك اتجاهاً عاماً نحو التسامح مع هذا " النشاط " ، ثم يرتب نتائج هذا " النشاط" فيقول ، إن 25 بالمائة من حالات الزواج تنتهي بالطلاق سنوياً ، أما عن الأسر التي لاتنتهي بالطلاق فيقول فرديناند لوندبرج ، الامريكي ، في كتابه الثري والثري الفاحش ( 1968 ) " ان قانون المنافسة الحرة بين الأفراد في المجتمع الأمريكي قد أدى إلى نشوء عقيدة مدمرة هي عبادة النجاح الفردي ، خرّبت الحياة الاسرية حتى للناجحين " . وينقل عن كتاب كليفلاند أموري : من الذي قتل المجتمع ؟ قوله : " إنه طبقاً للدراسات التي قام بها علماء النفس والاطباء والباحثون الاجتماعيون في { شؤون الأسرة } ، تستهلك الشركات الرأسمالية الجانب الأكبر من وقت وجهد وحماس العاملين فيها ، فيتحولون إلى نفايات في منازلهم عاجزين عن أن يكونوا ازواجا أو آباء . وحين لايؤدي هذا إلى الطلاق تبقى علاقة الزوجية قائمة اسمياً بين زوجين متآكلين لايهتم أحدهما بالآخر ، يعانيان كل أنواع المشاعر المريضة بما فيها الشعور المزمن بالوحدة ، والإحباط الجنسي ، وادمان المخدرات والخمور "  .
ويذكر فرديناند لوندبرج أن دراسة شاملة للزوجات في منطقة شيكاغو قد أثبتت انهن لاينظرن إلى شخصيات ازواجهن كأزواج بل " كممولين " لابد منهم لتكلفة الزواج والأبوة ، وأن قليلاً جداً منهن لديهن أية فكرة أو أي اهتمام بنوع العمل الذي يقوم به الأزواج ، وأن ثلث الزوجات في منطقة شيكاغو يعتبرن أن الزوج خارج تكوين الأسرة ، وأن الأسرة هي الأم وأولادها فقط ، أما الأب فهو العائل المالي من خارجها ، فهو لايقوم بوظيفة " الوالد " أصلا . . . الخ .
وليست هذه إلا امثلة اخترناها عامدين من آثار الحضارة " المادية الفردية الرأسمالية " في صياغة الشباب وتكوين الأسرة في الولايات المتحدة الامريكية . اخترنا الشباب مثلاً لأنه أصفى مراحل العمر للكشف عما يحمله الإنسان من حضارة قبل أن يكتسب ما قد يخالطها من مؤثرات خارجية ، هذا بإجماع الدارسين . واخترنا الأسرة لأن الأسرة هي حجر الأساس في التكوين الاجتماعي وأداة التواصل الحضاري بين الأجيال ( فقرة 175 ) . واخترنا الولايات المتحدة الامريكية لأنها تفتقد الوجود الاجتماعي أو الحضاري قبل نشأة النظام المادي الفردي الرأسمالي ، فليس وراء قيمها الحضارية السائدة تراث حضاري غير ما ولده هذا النظام . واخترنا كل هذا ، اخيراً ، حتى لايخفى على أحد التناقض بين تلك الحضارة الغربية وبين الحضارة العربية تناقضاً غير قابل للتوفيق أو للتلفيق أو للتزويق  .
خلاصة :
209 ـ كانت خلاصة ماتقدّم من تخريب وتغريب أن نشأت في كل قطر عربي طبقة قومية الانتماء إقليمية الولاء ، مادية الباطن اسلامية الظاهر ، فردية البواعث جمعية الغايات ، رأسمالية النشاط اجتماعية الأرباح ، تتعلق بها وتتغذى عليها شخوص من الفلاسفة والمفكرين والكتاب والأساتذة والتلاميذ . . في مقابل أن تخدم غايتها وتروج بضاعتها بما يغرزونه من مذاهب وأفكار وآراء . وهي طبقة نشأت مع الاستعمار وأحاطت به في عزلته واستعلائه على الشعب واحتقاره للجماهير ، لتؤدي بالنيابة عنه ، ولحسابه ، نقض الحضارة العربية من بناء شخصية الإنسان العربي ، ليسكت ، ثم يقبل ، ثم يرضى بالتعايش مع الاستعمار في الوطن العربي المجزأ تبعاً لدرجات التخريب والتغريب وتأثيرها في إضعاف هيكل شخصيته  .
الاستعمار الجديد :
210 ـ كانت أولى ضربات الاستعمار الجديد تمكين الصهاينة ، بالدعم المستور أو المنكور ، وليس بالعدوان الظاهر القاهر ، من اغتصاب فلسطين وإقامة دولة صهيونية عليها ( اسرائيل ) سنة 1948 وهي السنة التي يؤرخ بها لبداية تحول الاستعمار القديم إلى استعمار جديد . وهي السنة التي حلّت فيها الامبريالية الأمريكية محل الاستعمار الأوروبي . وهي السنة التي أصبح فيها علم الدعاية واغتصاب العقول علماً معترفاً به ذا أصول وفروع ، وهي السنة التي اكتمل فيه علم " السبرنيطيقا " ( التأثير غير المباشر ) بعد أن نجحت تجاربه الأولى نجاحاً فائقاً خلال الحرب الأوروبية الثانية . ومنذئذ ، ستبقى القوات المسلحة الامريكية " جاهزة " للتدخل عند الفشل ، ولكن في حدود ضيقة لايسمح بتجاوزها الخوف من اشتعال حرب ثالثة مع قوة دولية موازية ومعادية وقادرة هي الكتلة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفياتي ، شريك الولايات المتحدة الامريكية في الحرب الأوروبية الثانية ، وفي الانتصار ، وفي النفوذ الكوني . وفي هذه الحدود ضربت الولايات المتحدة الامريكية عن طريق حارسة مصالحها إسرائيل ضربتها عام 1967 وأوقعت بمصر وسورية والأردن هزيمة مزلزلة  .
211 ـ في الأمة العربية ، وفي غير الأمة العربية من الأمم والشعوب الحية ، كلما انهزم الشعب ، بدأت قوى الحياة فيه تتجمع للمقاومة . ويكون أول سؤال تطرحه المقاومة الحية هو : لماذا الهزيمة ؟ ومن قبل 1967 ، ومن قبل 1948  ، بل ومنذ دوهم العالم كلّه بالاستعمار الأجنبي ، طرح هذا السؤال وأختلفت الإجابات عنه . ونحن نعرف من تاريخ الشرق ( كان يطلق في القرن الماضي على كل ما أحتله الأوروبيون ) كيف كانت إجابة المسلمين كافة عن هذا السؤال . نعرفها من تاريخ حركات الاصلاح الديني : الوهابية والمهدية والسنوسية والقادرية . . الخ . ونعرفه من تاريخ حركة التجديد الاسلامي التي بدأها الغزالي ونماها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وابن باديس وحسن البنا . . الخ . كانت كلها تدفع بالإسلام الغزو الأجنبي وتدافع بالإسلام عن " الوطن القومي " فيقول جمال الدين الأفغاني في " العروة الوثقى " : " أنا لا أطلب أن يكون مالك الأمر في الجميع شخصاً واحداً ، فإنّ هذا ربما يكون عسيراً ، ولكني أرجو أن يكون سلكان جميعهم القرآن ووجهة وحدتهم الدين ، وكل ذي ملك على ملكه يسعى بجهده لحفظ الآخر ما استطاع فإنّ حياته بحياته وبقاءه ببقائه " . وحينما يذهب إلى روسيا ثم يعود يترك تلاميذه من قادة حركة التجديد الإسلامي : عبد الرشيد إبراهيم ، وعلي ماردن ، ويوسف اكتشورا ، وأحمد اغا اوغلو ، وعبد الله اناباي ، وشاكر محمدية ومائة آخرين ، ليؤسسوا حزب " اتفاق المسلمين " ( 1905 ) لقيادة معارك التحرر الوطني من الاحتلال الروسي . ( لم تسمح روسيا القيصرية بعقد مؤتمره التأسيسي ، فاستأجر المؤسسون سفينة بضائع حملتهم على نهر الفولجا وقبل أن تصل إلى حيث تفرغ البضائع كان من حملتهم قد فرغوا من تأسيس الحزب ) . ويذهب داعية الجامعة الإسلامية عبد الرحمن الكواكبي إلى اعتبار جبهة " الجامعة الإسلامية " رابطة دفاع وطني ضد تسلط الأتراك المسلمين . وما أن تبدأ محاولة اغتصاب فلسطين حتى يندفع " الإخوان المسلمون " من مصر ويقاتلوا قتالاً باسلاً دفاعاً عن فلسطين العربية ، ويستدركوا ما فات في وثائقهم فيضيفوا " الوحدة العربية " قبل الوحدة الإسلامية ، وفي الإتجاه إليها ، هدفاً من اهداف جماعتهم ( فقرة 104 ) . وفي المشرق العربي ، حيث التحرر العربي يواجه السيطرة التركية لم يلبث الوعي القومي أن يفلت من مرحلة التضاد الظاهري الذي خلقه تظاهر المسيطرين الترك بلإسلام ، فيجمع ابتداء من عام 1943 بين القومية والإسلام في علاقة " استقلال وتكامل " في سبيل البعث . . ( 1960 ) . ثم مايزال الوعي القومي على حقيقه العلاقة بين العروبة والاسلام ينمو من خلال التجربة ومن خلال العلم إلى ما تخوض فيه من حديث قريب مما يخوض فيه كثيرون من أبناء هذه الأمة العربية المسلمة ، بعضهم يجتهد في الإسلام وبعضهم يجتهد في العروبة ، وغاية كل اجتهاد أن يرد على حملة التخريب والتغريب التي شنّها على الأمة العربية الاستعمار الظاهر وطبقته العميلة . وقد بلغ الاجتهاد في الإسلام حدّاً احتضن فيه ، بالإضافة إلى هدف التحرر ، وهدف الوحدة ، هدف الاشتراكية ، وطالعتنا من صفوف العلماء بالدين ، و " الإخوان المسلمين " كتب وكتابلت ومواقف تساند حركة التقدم العربي بما تعرفه من الآيات والأحاديث وسوابق التراث  . . .
وكان كل هذا مصدر قوة هائلة لحركة التحرر العربي . وكان مزيد منه لابد أن يؤدي إلى اجابة حاسمة ونهائية عن السؤال : لماذا كانت الهزيمة 1967  ، وما العمل ؟
ولكن  . .
212 ـ ولكن قد حقق الاستعمار الامريكي اهدافه من حرب 1967 في اتفاقيات كامب دفيد ( 1979 ) ، واصبحت مهمته التالية " استقرار الوضع نهائياً " ، ولن يكون ذلك إلا بتدمير " الإنسان العربي " وليس بتخريبه فقط . لابد من تفريغ هذه الأمة من مصدر قوتها الحضاري . لاتكفي التجزئة . لابد من التفتيت . لقد قطعت التجزئة الاقليمية حبل الاعتصام القومي . واثبتت هزيمة 1967 أن حبل الوطنية الاقليمية أوهى من أن يعتصم به . فلاذ كل مذعور من الضياع بما يعصمه من علائق أدنى : الطائفية . ولم يكن غريباً أن تبدأ طائفة في لبنان الحرب الأهلية لتقسيم لبنان بعد أقل من شهرين من توقيع اتفاق فض الاشتباك الثاني بين حاكم مصر والصهاينه ( أول أيلول / سبتمبر 1975 ) وأن تبدأ بعدها محاولة انفصال طائفي بربري في المغرب ، وفي السودان ، وفي مصر . . . ولم لا ؟ !
منذ 1948 والصراع العربي الصهيوني دائر حول نقطة مركزية : لمن تكون أرض فلسطين ؟ وليس ثمة أيّ خلاف بين العرب والصهاينة حول هذه النقطة . يقول العرب ان فلسطين أرض مغتصبة من الشعب العربي . فلسطين ليست محتلة أرضاً وبشراً كما كان الوضع قبل 1948 ، بل فلسطين الأرض اغتصبت وأخليت من الشعب العربي إلا القليل واستوطنها الصهاينة الغاصبون ، وأقاموا عليها دولة أسموها اسرائيل . إن واقع أمرها قريب الشبه بالواقع الاسترالي والامريكي بعد ابادة البشر إلا القليل وإقامة مجتمعات ودول من المهاجرين عليها  ينحصر الفرق في أن الشعب العربي لم يبد ولكنه يحيط بأرضه المغتصبة إحاطة كثيفة يريد استردادها  .
هذا هو الواقع من وجهة نظر عربية . ولاتختلف الرؤية الصهيونية لهذا الواقع عن الرؤية العربية إلا في التقويم فعندهم فلسطين أرض اغتصبها العرب من الشعب اليهودي منذ الفتح الإسلامي . فلسطين لم تكن محتلة أرضاً وبشراً قبل 1948 ، بل فلسطين الأرض اغتصبت منذ أربعة عشر قرناً واخليت من الشعب اليهودي إلا القليل ، واستوطنها العرب الغاصبون وضموها إلى دولة سموها دولة الخلافة إلى أن احتلها الانكليز . ان واقعها كان قريب الشبه بالواقع الاسترالي والامريكي بعد إبادة البشر واقامة مجتمعات ودول من المهاجرين إليها . ينحصر الفرق في أن الشعب اليهودي لم يبد ولكنه تشتت في أقطار الارض إلى أن قادته الحركة الصهيونية إلى فلسطين لاستردادها خالية من البشر فاستردها واقام عليها دولته اسرائيل  .
بصيغة أخرى يرى العرب أن فلسطين قد تعربت أرضاً وبشراً منذ الفتح الإسلامي ، وهم لايستطيعون تفسير أو تبرير هذا التعريب إلا بقوانين تطور المجتمعات من القبائل إلى الشعوب إلى الأمم ، وتطور الحضارة من قبلية إلى شعبوية إلى قومية ، ودور الإسلام في البناء الحضاري العربي ، أي لايستطيعون تفسيره أو تبريره إلا بردّه إلى أصوله القومية ، حينئذ تكون فلسطين جزءاً من الأمة العربية ويكون تحريرها داخلاً في نطاق حركة التحرر القومي العربي  .
وبصيغة اخرى يرى الصهاينة أن الفتح الإسلامي ليس إلا غزواً وعدواناً غير مشروع ، مجرداً من الفاعلية الحضارية ، بل هو مثل كل الغزو العدواني معطل للتطور الحضاري ، وبالتالي فإن من حق اليهود أن يقاتلوا الغزاة ويطردوهم من الأرض ويستردوها ليستأنفوا مسيرتهم الحضارية . وهكذا أسموا حرب 1948 حرب التحرير  . .
ومن هنا كانت قضية الصراع حول أرض فلسطين " لمن تكون ؟ " قضية المسلمين في جميع أنحاء الأرض . لأنه صراع يتصل بمشروعية الفتح الإسلامي وحق المسلمين في العيش في سلام على الأرض التي أسلموا فيها أو حملهم الإسلام إليها منذ 14 قرناً . ولكنها من ناحية أخرى كانت قضية كل الشعوبيين الذين بقوا من سلالة الذين كانوا يقيمون في تلك الأرض قبل الفتح الإسلامي ، مثل الأشوريين في الشام ، والاقباط في مصر ، والبربر في المغرب . وكان انتباه كل الأطراف مشدوداً لمعرفة ما الذي سينتهي إليه الصراع . ولم يكن الصراع لينتهي بالانتصار في الحروب ، ولكن بإقرار أحد طرفي الصراع بحق الطرف الآخر في أرض فلسطين . إن أقر اليهود بأنها أرض عربية ينتهي الصراع وتبدأ مشكلة السكان وماذا يفعل العرب باليهود منهم . وإن انتهت بإقرار العرب بحق الصهاينة ، فقد اقروا في الوقت ذاته بحق كل بقايا الشعوب التي فتحها الإسلام بحقهم في تحرير أوطانهم من الغزو الإسلامي وتحريرها واستردادها كما فعل الصهاينة . . وكان كل طرف يحضر نفسه لمواجهة الموقف حين يثبت لمن الحق . وإذا بهم يشهدون في أول أيلول / سبتمبر 1975 أكبر دولة عربية إسلامية ، تقرر فجأة الاعتراف باسرائيل . الاعتراف بأن بقايا الشعب الذي كان في فلسطين يوم الفتح الإسلامي من حقّه أن يسترد أرضه ، وما يعنيه من الإقرار ضمناً بأن الفتح اإسلامي كان غزواً عدوانياً غير مشروع . . فدخل المسلون مرحلة الخطر الحالّ عليهم وعلى دينهم وأرضهم  ..
وكان المفروض والمتوقع من أي شخصية مسامة سوية تكثيف الجهود والتحامها على المستويات المادية والبشرية ، والفكرية والدعائية والقتالية ، دفاعاً عن العروبة باسم الاسلام  .
213 ـ ومن ناحية أخرى كان القوميون يدركون ، منذ بداية وعيهم القومي ، أن فلسطين جزء كأي جزء من أمة عربية مكتملة التكوين ، وأن اغتصاب فلسطين هو اغتصاب واقع على جزء من الوطن العربي لابد أن يسترد بصرف النظر عن هوية أو جنس أو دين أو لغة أو لون المغتصبين .
وما كانوا يستطيعون تبرير هذا الموقف أو تفسيره إلا بردّه إلى وحدة التكوين القومي الحضاري الذي انشأ به الإسلام أمتهم بعد أن كانت قبائل وشعوباً ، فإذا بهم يشهدون في أول أيلول / سبتمبر 1975 اكبر دولة عربية إسلامية تقرر فجأة الاعتراف باسرائيل . الاعتراف بأن القبائل والشعوب ماتزال باقية كما كانت في مراحلها المتخلفة ، وأن أمتهم العربية لاوجود لها أو لاتستحق الوجود  .
فدخل القوميون مرحلة الخطر الحال على أمتهم  .
وكان المفروض والمتوقع من أي شخصية عربية سوية تكثيف الجهود والتحامها على المستويات المادية والبشرية ، الفكرية والدعائية والقتالية ، دفاعاً عن الإسلام باسم العروبة  .
214 ـ كان هذا هو المفروض والمتوقع والممكن . ولو تحقق لكان قميناً إن عاجلاً وإن آجلاً بأن يحشد الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج تحت راية قومية واحدة ، رمزاً لوحدة وطنها العربي وحضارتها الإسلامية ، ولاستجاب لدعوته كلّ عربي سويّ الشخصية لأنه حينئذ لايستجيب إلا لنزوعه التلقائي على السجية  ولاشتعلت الأرض العربية ثورةً تحرق حدود التجزئة ، وتطهّر فلسطين وتهزم الإمبريالية الأمريكية ، ولأسهم فيها كل عربي سويّ الشخصية ، لأنه حينئذ يثور دفاعاً عن ذاته  .
ولاشك عندنا في ان الإمبريالية الأمريكية ، بما هو في حوزتها من إحصاءات ومعلومات ، وبما لديها من علماء وباحثين ودارسين ، وبما هي متقدمة فيه من علوم تاريخ الحضارات ، والحضارت المقارنة ، علم الحضارات التطبيقي ، وبما تملكه من تفوق في أدوات الإعلام والدعاية وغزو العقول ، كانت تتوقع هذا المفروض المتوقع ، وتعدّ العدّة حتى لايكون ممكناً . فسلطت وبطرق مباشرة وغير مباشرة ، على الشعب العربي جماعة سبق أن ضربتهم التجزئة وغرّبتهم ، فكانوا أوهن شخصية من أن يتمرّدوا على مايراد منهم أو ان يرفضوا ، وكوّنت منهم ، سواء عرفوا أو لم يعرفوا ، فرقة هدامة ، غايتها ، سواء قصدت أو لم تقصد ، الإجهاز على الأمة العربية ، بالاسلوب نفسه الذي عرفناه من قبل ، وقوانينه الخمسة المسمّاة قوانين القهر الدعائي ( فقرة 173 )  .
فهم أولاً بدون استثناء يتمتعون في محيطهم الاجتماعي العربي " بمراكز اجتماعية دينية ( فمنهم الائوة ، والمشايخ ، والمتخرجون من المعاهد الدينية وقادة الجماعات الاسلامية ، وأساتذة الشريعة في الجامعات ، وموظفوا الإفتاء في الدول ) ؛ أو علمية ( فمنهم الكاترة ، والأساتذة في الجامعات ، والكتّاب والمثقفون ) ؛ أو مالية ( فمنهم كل أصحاب الملايين من الرأسماليين ورجال الأعمال وأصحاب البنوك ومن قاربهم ثراء من " النفطيين " ) ؛ أو عشائرية ( فمنهم أمراء ورؤساء طوائف ، وقادة أقليات ) . . أي أن كلاً منهم ذو مركز يضفي عليه مقدرةً خاصة على التأثير في صياغة آراء وتحديد اتجاهات مواطنيهم إما عن طريق التوجيه أو عن طريق التقليد " ، وليس من بينهم - على امتداد الوطن العربي - شخص عربي واحد يمكن أن يقال إنه  "عادي " . . فهم " لوبي " نموذجي ، غاية هذا " اللوبي " ( الفرقة ) ، نقض البناء الحضاري العربي . ولما كان الذين يحركونهم مباشرة ، أو بطريق غير مباشر ، يعلمون علم اليقين من دراسة الحضارة العربية أنها قومية إسلامية ، فقد انشطرت الفرقة إلى فريقين . فريق لنقض المضمون الحضاري القومي الذي يتجسد في وحدة الوطن العربي ، وفريق لنقض المضمون الحضاري الإسلامي الذي يعبر عنه بالدين . ولكن هذا الانشطار لم يلغ وحدتهم كأداة ، ووحدة غايتهم كوظيفة . دلالة هذا أن كلاً منهم يبرر وجود الفريق الآخر ويدعمه ويغذيه . فالاجتهاد في الاسلام مباح ومرغوب . كان كذلك دائماً ، وما يزال كذلك ، سواء كان ثمة دعوة إلى العلمانية أو لم تكن . فيركز الفريق الأول على ما يسميه التيار العلماني ، ويجسم خطره ، ويسند إليه الكفر البواح ويحرض عليه المسلمين ليبرر وجود فريق علماني ويدعمه ويغذّيه . والفكر العلماني ( الفردي الليبرالي الرأسمالي ) كان موجوداً منذ وجود الاستعمار ، وقد تأثر به دعاة الإصلاح الديني والاجتماعي ممن اتصلوا بأوروبا وأعجبوا بنهضتها حتى قبل الاستعمار ومثالهم رفاعة الطهطاوي ؛ بل ان حركة التجديد الاسلامي كانت رداً على الموجة العلمانية الأوروبية تأثرت بها بما تنطوي عليه من اقرار بأن " التقليد " السلفي كان حائلاً بين المسلمين وبين مباراة الأوروبيين في التقدم ، ولكن الفريق الثاني من اللوبي يركز على ما يسمّيه التيار الإسلامي ، ويجسم خطره ويسند إليه الجمود الرجعي ، ويحرض عليه المتطلعين إلى التقدم ، ليبرر وجود فريق ديني ويدعمه ويغذيه . وهما ، الفريقان ، يتبادلان " الاعتراف " ليكون وجودهما مشروعاً . فمع أن كل دعاة العلمانية يعرفون أن ليس في الاسلام كهانة ولا رجال دين ولا مؤسسة دينية ، إلا أنهم يتحدثون عن الفريق الآخر بصفتهم " رجال الدين " ، وبهذه الصفة يميزون أنفسهم عنهم ويميزونهم ، ويمدونهم بأسباب الكهانة ويعترفون لهم بها ، فإذا بالكهنة يتخذون من الدعوة العلمانية وفريقها مبرراً ليحتكروا لأنفسهم الإسلام عنواناً وعقيدة وشريعة وتفسيراً وفقهاً واجتهاداً بحجة أنهم يردون عن الأمة مخاطر فريق العلمانيين . وهما معاً يثيران معركة فيما بينهما محرّكها من منهما أكثر مقدرةً على نقض التكوين الحضاري للأمة العربية . فباسم الإسلام يناهض فريق منهم القومية حتى يندسّ في العقول ، انه لاتوجد قومية ، فلا توجد أمة عربية ، فلا يوجد وطن عربي ، فلا يهم الإسلام من الصراع العربي الصهيوني إلا تحرير " بيت المقدس " أولى القبلتين وثالث الحرمين فيختصر الصراع على الوطن إلى صراع على مبنى . وباسم التقدم يناهض الفريق الآخر الإسلام نظاماً ، ليفسح مجالاً لقبول الناس نظاماً فردياً في ذات جوهره ، لتنفرط الأمة العربية أفراداً ، لكل واحد منهم انتماؤه إلى ذاته ، وولاؤه إلى مصلحته  .
وليس ما يقوم به أي فريق منهما دعوة إسلامية أو علمانية ، بل هي " دعاية " صريحة " لاعلاقة لها بالاجتهاد الفكري في شؤون الدين أو في شؤون الدنيا  .
215 ـ فكل فريق منهما  يركز على مقولة بسيطة : مبدأ أو شعار " يبثه ويكرر بثه بدون تشتيت انتباه الجماهير إلى فرعياته أو تطبيقاته أو آثاره حتى يصبح لصيقاً بالعقل الواعي أو بالعقل الباطن ، بحيث أن مجرد ذكره يضع المتأثر به في وضع نفسي وعصبيّ وفسيولوجي معيّن يجعله قابلاً للتصرف المستهدف " ( قانون القهر الدعائي الأول - فقرة 159  .
فريق يرفع شعار " الشريعة الاسلامية " ويركز على أن الهدف الوحيد الأوحد الذي يجب أن تتجه إليه الجهود هو تطبيقها وفوراً ، ولكنه لايقول ماالذي يقصده على وجه التحديد بالشريعة الإسلامية ، هل هي شرع الله كما جاءت به الآيات المحكمات في القرآن ، أم هي المذاهب الفقهية ؟ وإذا كانت المذاهب الفقهية ، فهل هي مذاهب القرون الأولى بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام ، أم هي مذاهب تقوم على أصول من القرآن حتى لو اجتهد فيها المعاصرون ؟ وإذا كانت المذاهب الفقهية السلفية فأي مذهب يعنيه بالشريعة الاسلامية ؟ وإذا اختار مذهباً ، وفي كل المذاهب آراء مختلفة وراجحة ومرجوحة ، فأي رأي يريد له أن يكون هو الشريعة الاسلامية؟ فإن كانت الشريعة الإسلامية هي انتقاء مايلائم مصالح المسلمين في هذا العصر ، فمن الذي ينتقي ويختار ؟ وإذا كان هو الذي  ينتقى ويختار فما الذي انتقاه واختاره ؟ وإذا كان قد انتقى ، فما هي قواعد الشريعة الاسلامية التي يرى أنها ملاءمة لتنظيم وتحقيق مصالح المسلمين في هذا العصر ولم يكن لها سابقة في المذاهب؟ . . . . لو كان داعية لأجاب وكتب ونشر الصيغة التي يراها لعلاقات البشر في هذا العصر بما يحقق مصالح المسلمين ، كما فعل بعض الدعاة في الوطن العربي وخارج الوطن العربي . ولكنه ليس داعية ، إنه جهاز دعاية لاأكثر ولا أقل ، فيكتفي بالشعار ، المبدأ  .
216 ـ أما فريق العلمانيين من " اللوبي " الموّحد فهو يرفع شعاراً أصبح " مودة " هو " حقوق الإنسان " . وقصة حقوق الإنسان هذه من أغرب قصص الفكر الليبرالي ومؤلفات عصر التنوير الأوروبي . لعلنا نقصها يوماً بالتفصيل . يكفينا الآن أن نعرف أن " حقوق الإنسان " عنوان أو شعار أو مبدأ مجرّد . وهي على مستواها هذا تعتبر نموذجاً مثالياً لإغواء العقول واغتصابها . وأين الإنسان الذي لايستهويه أن تكون له حقوق مقدسة سلبقة على مجتمعه ، وأسمى من أي نظام فيه ؟ ان العنوان وحده يكفيه ويرضيه ويغريه . أما ماهي هذه الحقوق ؟ وما هو مصدرها ؟ وكيف تتحقق في الواقع ؟ وفي أي مجتمع ؟ وفي أي زمان ؟ فلا أحد يقول ولا أحد يسأل إلا بعد أن تصبح " حقوق الإنسان - الشعار " لصيقة بالعقول الواعية وغير الواعية . حينئذ قد يعرف الضحية أن اغتصاب عقله أو تدمير حضارته يستحق الاستسلام ، لأنه ممارسة لحرية الرأي وحرية التعبير " دون تقيد بقيمه الحضارية " فيستسلم . أما إذا سأل : ماهي هذه الحقوق ، فإن العدّ لاينتهي . فمنذ صدور ديتور ولاية فرجينيا الامريكية ( 12 حزيران / يونيو 1776 ) ثم صدور إعلان استقلال الولايات المتحدة الامريكية الذي صاغه جيفرسون ( 4 تموز / يوليو 1776 ) ثم إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي أصدرته الثورة الفرنسية ( 27 آب / اغسطس 1789 ) ثم إعلان حقوق الشعب العامل الذي أصدرته الثورة الروسية (16 كانون الثاني / يناير 1918 ) حتى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أصدرته هيئة الأمم المتحدة ( 10 كانون الأول / ديسمبر 1948 ) ، وحتى الآن ، صدر نحو خمسين إعلاناً وميثاقاً واتفاقاً دولياً حول حقوق الإنسان ، وقد يمتد العدّ راجعاً ليشمل العهد الكبير ( 1215 ) وبيان الحقوق ( 1627 ) وقائمة الحقوق (1668 ) التي صدرت في انكلترا واستقت منها اعلانات حقوق الانسان الامريكية كثيراً من مبادئها المعلنة . ولابد أن يمتد العد إلى ماتزال هيئة الأمم المتحدة مشغولة بصياغته من حقوق . ولن يفتقد هواة العد والاحصاء في أغلب الدول دستوراً أو وثيقة تعتبر بالنسبة إلى مصدريها بياناً أو إعلاناً لحقوق الإنسان . وحين يصل العدّ إلى دول امريكا الجنوبية حيث إعلانات حقوق الإنسان أكثر شمولاً وأكثر صرامة ، سيجد أن تلك الدول قد تقدمت منذ عام 1948 في جميع المجالات ، ولو تقدماً بطيئاً ، إلا في مجال احترام حقوق الإنسان فإنها تتخلف سنة بعد سنة كما قال جروس اسبيل الاستاذ في جامعة مونتفيديو ( أورغواي ) فيما نشرته منظمة يونسكو عام 1978 .
ولقد ظن أنور السادات الرئيس السلبق لجمهورية مصر العربية ، يوماً ، ان مصر العربية لم يعد ينقصها ، في ظلّ حكمه ، إلا أن تصدر إعلاناً لحقوق الإنسان ، فاستفتى الشعب في هذا الظن يوم 20 نيسان / ابريل 1979 ، ثم أعلن أنّ الشعب العربي في مصر قد وافق بأغلبية تتجاوز 99 بالمائة على إصدار " إعلان حقوق الإنسان المصري " .ولم يصدر الإعلان قط . ربما لأن القضاء العالي في مصر كان له رأي ىخر . فقد كانت المحكمة العليا منعقدة لتقضي في دستورية بعض القوانين ( الدعوى رقم 1 لسنة 36 قضائية ) فقضت يوم 5 نيسان / ابريل 1975 ، بأن الميثاق " الذي قدمه جمال عبد الناصر إلى المؤتمر الوطني للقوى الشعبية فأصدره يوم 30 يونيو 1962 هو بمثابة إعلان لحقوق الإنسان في مصر . . . "
إن واحداً من حقوق الانسان التي تبهر المثقفين والساسة ، ويضفون عليها القدسية ، ربما من أجله ، هو حق العمل الجماعي المنظم في صيغه المتعددة من أول الجمعيات الخيرية إلى النقابات المهنية إلى الأحزاب . لقد نصت المادة العشرون من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فقالت : " لكل شخص الحق في حرية الاشتراك في الجمعيات والجماعات السلمية " ومنذئذ أصبح عنواناً ثابتاً في برامج أغلب الأحزاب . ومن غرائب قصة حقوق الإنسان أن هذا الحق ذاته كان يعتبر في إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي أصدرته الثورة الفرنسية " اعتداء" على حقوق الانسان المقدسة . إذ أن التزام الفرد المنتمي إلى جماعة بما تقرره الأغلبية هو إهدار لحريته الفردية المقدسة في أن يختار لنفسه ما يشاء . فأصدرت الثورة الفرنسية فيما بين 14 و17 حزيران / يونيو 1791 مجموعة من القوانين عرفت معاً باسم " قانون شابليير " تدين وتحرم تأسيس الجمعيات أو النقابات أو المنظمات الجماعية . . . الخ .
إن الطرح الليبرالي لشعار " حقوق الإنسان " مجرداً من مضمون محدد في زمان معين ومجتمع معروف ، قد استفز من قبل كثيراً من المفكرين في أوروبا ذاتها فأنكروا واستنكروا فكرة الحقوق المقدسة السابقة على وجود المجتمع ( اميل دوركهايم - جورج دافي - دي بونالد -جوزيفدي ميستير - هانس كيلس ) . . الخ : ( فلسفة الليبرالية تأليف اميل ميرو ( 1950 ) . أما في العالم الثالث الذي ننتمي إليه فيكفي أن نضرب مثلاً من المؤتمر الذي انعقد في كلبول عاصمة افغانستان ، مابين 12 و14 أيار / مايو 1964 لدراسة " حقوق الانسان في الدول النامية " حيث كاد الاجتماع أن ينعقد على أن المفهوم المجرد لحقوق الانسان يمثل على المستوى التطبيقي ترفاً قد تستطيع الدول المتقدمة تحقيقه ، أما الدول النامية فهي في حاجة إلى دولة " راعية " مسؤولة عن أن تحقق لرعاياها التنمية الكافية ليكون الإنسان إنساناً ، وهو لايكون إنساناً إذا أخضعه الفقر والمرض والجهل لما يخضع له البهائم من قوانين غريزية  .
في يوم 22 تشرين الأول / اكتوبر 1984 نشرت جريدة الأهرام القاهرية مقالاً مضيئاً أنشأه الفيلسوف العربي ، شيخ الفلاسفة ، د . زكي نجيب محمود أطال الله بقاءه . كان المقال عن حرية التفكير . والتفكير عند الأستاذ الجليل هو : "عملية ذهنية ترسم خريطة ، أو خطة ، العمل المؤدي إلى تحقيق هدف ما " . والتفكير الحر هو الذي لايتدخل أحد ذو سلطان في طريقة رسم الخريطة . واستنكر د . زكي نجيب محمود هذا التدخل وأسماه قتلاً لحرية التفكير ، ثم أراد أن يثبت الجريمة بأدلة علمية قائمة على " أرض في صلابة الحديد " كما قال . خلاصة تلك الأدلة أن الكلمة ليست هي الشيء الذي يعبر عنه ، بل هي رمز تنوب عن الشيء الذي اصطلح أصحابها على أن تنوب عنه .فتحول الفكرة إلى كلمة لايعني أن الكلمة قد حولت الفكرة إلى شيء ، إلى واقع  .
ولكن إذا كانت الكلمة هي لاشيء ، فلماذا ، إذن ، لايقف المفكر عند حدود التفكير بل يتجاوزها - في بعض الأحيان - إلى التعبير ؟
إن المفكر لايكف ، الوقع أنه لايستطيع وهو يقظ أن يكف ، عن التفكير . أو بتعبير د . زكي نجيب محمود لايكف المفكر عن رسم خرائط وخطط عمل تؤدي إلى تحقيق أهداف معينة ، فيعبر عنها أي يعرضها على الغير . يصوغها مقالاً من لبكلمات مثلاً والغير هنا هم الناس . وهو لايعرضها على الناس تخلصاً منها كما لو كانت إفراز مخّه ولكنه يعرضها عليهم ليحدث فيهم أثراً هو إقناعهم بصحتها ، ثم ليحدث بهم أثراً هو تحويل  "الفكرة - الخطة " إلى حركة ، وتحقيق الهدف في الواقع : واقعه وواقع الناس ، أي الواقع الاجتماعي المشترك. ولقد قال د . زكي نجيب محمود إن حرية الفكر لاتبدأ من فراغ ، وهذا حق . وقال إن هناك طرفين لكل موقف فكري ، الواقع والتفسير . وهذا حق أيضاً . ولكن عندما يضاف التعبير إلى التفكير يصبح لكل موقف فكري أطراف ثلاثة : الواقع - الفكر - الواقع . إذن ، فإن اكتمال العملية الذهنية المسماة تفكيراً بالتعبير عنها يحوّلها من اختبار للذات إلى اختبار للغير ، وهذا لايمكن أن يخفى على شيخ الفلاسفة . وبالتالي تتحول العملية الذهنية إلى نشاط اجتماعي وتتحول حرية التفكير من حرية فردية ذاتية لاتهم أحداً ، إلى حرية اجتماعية تهم عارض الفكرة ومتلقيها . وهكذا نرى أن الكلمة التي ليست هي " الشيء " الذي ترمز إليه هي دعوة موجهة إلى الناس إلى تحقيق هذا الشيء في مجتمعهم  .
نصل هنا إلى صلب الموضوع  .
هل لأي إنسان حرية دعوة الناس إلى إحداث " أي شيء " ؟ . أجيب عنه إجابة أرجو أن ترضيه : نعم لأي إنسان حرية دعوة الناس إلى إحداث أي شيء في المجتمع . مصدر هذه الحرية ، أو الحق ، كما أفضل أن أسميها ، أنه شريك لهم ومعهم في واقع هذا المجتمع ومصيره . وهو المصدر ذاته الذي يخوّل كل إنسان آخر الحرية أو الحق في أن يدعو الناس إلى أفكار وخطط وأهداف تناقض أو تلغي ما دعا إليه الأول . وهكذا لا يملك أحد ، ولا السلطة ، حق التدخل في حرية التفكير مطلقاً ، ولا في حرية التعبير إلا في حالة واحدة : إلغاء المصدر المشترك لهذه الحرية . أعني المساس بوحدة المجتمع المشترك . المساس بوحدة المجتمع ، أو المساس باشتراك الناس فيه  .
نضرب أمثلة للايضاح  .
يولد الناس فيجدون أنفسهم منتمين ‘لى وطن معين لم يختاروه لأنفسهم . من هنا تصبح العلاقة بالوطن (الوطنية) علاقة المواطنين جميعاً بالوطن المشترك ، علاقة مشاركة تاريخية ، كما يقولون ، تعبيراً عن أنها ناتج تطور تاريخي طويل ، وليست من ‘نشاء إرادة منغردة وقتية . وهو ، أي الوطن ، مشترك بين أفراد كل جيل وفيما بين الأجيال المتعاقبة . وحدة الوطن المشترك هي ذاتها العامل الرئيسي ، أو أحد العوامل الرئيسية التي تحول الناس من أفراد إلى مجتمع . وقد لايتفق المواطنون في رسم خرائط أو خطط لما ينبغي أن يكون في المجتمع ، وفي هذا يمارسون حرية التفكير بلا حدود وحرية التعبير بلا قيود . وقد تنتهي حرية التفكير بأحدهم إلى رسم خطة هجرة ، وتنازل عن جنسيته . . الخ ولكن أحداً منهم لايملك حرية دعوة الناس إلى" أفكار - خطط " عمل ، لتحقيق هدف التنازل عن جزء من الوطن ، أو تقسيمه ، أو قبول اغتصاب جزء منه أو قبول تجزئته  .
مثل آخر . من العوامل الرئيسية التي تحوّل الأفراد إلى مجتمع " النظام " . المجتمع هو أفراد منظمون بقواعد سلوك عامة ومعلنة تتدرج صاعدة من اللائحة إلى القانون إلى الدستور . وقد لايتفق المواطنون في مدى مطابقة خطة العمل المعلنة في قواعد هذا النظام لأفكارهم . وفي هذا يمارسون حرية التفكير بلا حدود وحرية التعبير بلا قيود . وقد يصل الأمر بهم أو ببعضهم إلى حد الدعوة إلى تغيير النظام جملة . ولكنّ أحداً منهم لايملك حرية دعوة الناس إلى " أفكار - خطط  "عمل لتحقيق الفوضى  .
لست أتوقع إنكاراً لما تقدم ، وعلى من يشك في صحته أن يراجع أي قانون عقوبات في أية دولة ، فسيرى أن عقوبة الإعدام وما يقاربها قسوة مدّخرة جزاءً على محاولة المساس بالتحريض ، أو بالاتفاق ، او بالمساعدة ، او بالفعل ، بسلامة الوطن ووحدته ، أو بالمبادىء الأساسية التي يقوم عليها النظام في المجتمع ( تعاقب المادة 78 أ من قانون العقوبات المصري بالاعدام كل من تدخّل لمصلحة العدو " لإضعاف روح الشعب المعنوية أو قوة المقاومة عنده " ) . فنسأل : أليس الاقليمي إنساناً ، أليس المستغل إنساناً ، أليس الخائن إنساناً ، أليس الظالم إنساناً ، أليس الصهيوني إنساناً كما أن العربي إنساناً ؟ فلماذا لايقول حملة شعار " حقوق الإنسان " من هو الانسان الذي يعنونه ؟ وما هي الحقوق التي يقصدونها في الوطن العربي ؟ ثم ، أليس من حق الإنسان العربي أن يختار وطنه ويختار النظام الذي بعيش في ظلّه اختياراً حراً بدون إكراه ؟ إذن فدعوه يختره حراً ، فإنه سيختار الوحدة العربية دولة والإسلام نظاماً لأنه - وهذا من سوء حظ الليبراليين العرب - شعب عربي جميعاً ، مسلم الأغلبية ، فهل يقبلون ؟ إنهم لايقبلون ولا يرفضون لأنهم لايقولون ، لأنهم أصلاً ليسوا قائمين على دعوة ،  بل قائمين على دعاية . وإلا فليقل لنا واحد منهم ماهو على وجه التحديد الذي لايعجبه في الإسلام نظاماً ؟ ولماذا ؟ وماالذي يقترحه بدلاً منه ؟ وأرجو ألا يقول لنا أحد منهم : لااعتراض على الإسلام أو الشريعة الإسلامية لولا أن الذين يطبقونها بشر ، لأنه قد يسأل : أين الشريعة أو القانون أو المبدأ أو النظام . . . الذي لايطبقه بشر ، حتى لو كانت الليبرالية ؟
217 ـ وكل من فريقي " اللوبي " ينفذ على وجه صاخب ومنفعل القانون الثاني من قوانين القهر الدعائي . فليس همّ أي واحد منهما منصباً على إقناع الناس بشعاره وما ينطوي عليه من حلول لمشكلات الحياة ، بقدر ماهو منصب على تجسيم وإبراز القصور الفكري أو الفشل التطبيقي في " المبدأ - الشعار " الآخر . ليبقى " شعاره - مبدأه " بعيداً عن أي حوار جماهيري وتنصرف ملكات الجماهير في الحوار إلى ماهو ضده ، ويتحول هو إلى مقولة مسلّمة أو تبدو مسلّمة . وهما في هذا يثيران معركة نكراء لاهم لأحدهما إلا نقد الآخر  .
218 ـ وفي هذه المعركة يحاصران انتباه الشعب ويحصرانه في ثنائية الشعار وضده ( الشريعة الإسلامية والعلمانية ) ولا يسمحان للناس بأن يلتفتوا إلى قضايا أو مبادىء أو شعارات أو مشكلات أو حتى آمال أخرى . مازال كل منهما يثير معركته ضد " مبدأ - شعار " دفاعاً عن " مبدأ - شعار " ، حتى كادا يلهيان الشعب عن الأرض المغتصبة ، والاستعمار المسيطر ، والديون الثقيلة ، والفقر المدقع ، والثراء الفاحش ، والفساد الإداري وعذاب الحياة اليومية الذي ينصب على رؤوس المعذبين في الأرض العربية . ذلك لأنهما ليسا أصحاب دعوة ، ولكنهما يقومان بالدعاية لحساب أصحابها ، فهما يلتزمان قانون الدعاية الثالث في الحصر الثنائي  .
219 ـ وكل منهما لايكف عن اتهام الماضي وإدانته ويلتقط من بين أحداثه أحداتاً ، ومن بين مراحله مرحلة ، ومن بين أشخاصه أشخاصاً لبنسب إلى الماضي بكل أحداثه ومراحله وأشخاصه ، على مدى قرونه الطويلة ، الهزيمة والفشل والتخلف ، قياساً على مستقبل يصوغه من آماله وأحلامه التي لايعرف أحد كيف تتحقق ، وهي عند فريق آمال وأحلام أوروبية ولكن بدون أوروبا الأرض والبشر والتاريخ والحضارة . وهي عند فريق آمال وأحلام عصر الرسالة والخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، ويضيفون إليهم الأموي عمر بن عبد العزيز ، ولكن بدون خاتم الرسل ، وبدون مكة والمدينة والأعراب والردة والفتوح والفتنة ، وعصر ماقبل نشوء الأمم والدول ، وعلى وجه خاص عصر ما قبل نشوء النظام الرأسمالي الاستعماري الاستغلالي الذي هو مشكلة البشرية في هذا العصر . هذا بالرغم من أت كلاً من الفريقين يعرف تماماً أن لماضي لايعود ولايلغى ، وأنه غير قابل للاستعادة أو الإلغاء ، وأن مانحن عليه هو المحصلة النهائية لما لاحصر له من هزائم وانتصارات ، وما لاحصر له من التخلف والتقدم ، سواء أعجبنا مانحن عليه أم لم يعجبنا ، وأن البكاء على الأطلال لايغير الحال ، وتفاخر العبيد بالجدود لايحطم القيود ، وليس السلف الصالح مسؤولين عن تحقيق مالنا من مصالح . وقد يعلم الفريقان أن ذلك الماضي الذي يدينانه هو الذي خلقنا أمة أرقى تكويناً من كل القبائل والشعوب التي كان أسلافنا ينتمون إليها ، وحوّل الإسلام بنا وفينا من رسالة إلى حضارة . ولكنهما معاً يدينان الإنسان العربي القوي السوي الحضاري بما كان من امره يوم أن كان في براءة الطفل وعجزه . ذلك لأنهما غير قائمين على دعوة حضارية بل قائمين على دعاية ضد الحضارة العربية فهما يطبقان القانون الرابع من قوانين القهر الدعائي  . 
220 ـ وأخيراً فهما على التزام حديدي بالقانون الخامس من قوانين القهر الدعائي . فهما غير معنيين بالحديث عما بين الأفراد والجماعات من فروق روحية أو فكرية أو مادية أو اجتماعية ، وما تولده تلك الفروق من خلاف وتنافس وصراع وقهر ومذلة ، وآثار كل هذا في حياة الناس الواقعية . إنهم يخفون كل هذا " الواقع " في جوف كتلة هائلة من الأفراد النمطيين المجردين من واقعهم الاجتماعي ، يطلق عليهم فريق منهما لفظ " الإنسان" ،  ويطلق عليهم الفريق الآخر لفظ " المسلمون " حتى لايلتفت فيتمرد واحد من بني " الإنسان " على ما يعانيه في حياته من قهر ومذلة وفقر بفعل واحد آخر من بني " الانسان " . وحتى لايلتفت فيتمرد واحد من " المسلمين " على ما يعانيه في حياته من قهر ومذلة وفقر بفعل واحد آخر من " المسلمين " ( كما التفت الإمام ابن تيمية فحرّض العرب المسلمين على قتال التتارالمسلمين دفاعاً عن وطنهم أو ديارهم كما كان يسمى الوطن ) . ذلك لأن فريقي " اللوبي " العربي لايقومان على دعوة إلى مايصلح الحياة من المساواة والحرية والتقدم ، بل يقومان على دعاية تغلق عقول الناس دون إدراك واقع حياتهم لتبقى مفتوحة لما يدسه فيها " قادة الرأي " من دعاية حتى يفرغوها من الحضارة العربية ليسهل على " قادة الرأي " حشوها بحضارتهم الغربية الغريبة ، اغتصاباً للعقول .
فهل يفلحون ؟
221 ـ هذا سؤال له أهمية سنتبينها بعد قليل . نكتفي الآن بطرحه لنعرف من الجواب عنه مإذا كان الاستلاب الحضاري ممكناً ، بانتزاع شعب من حضارته أو انتزاع حضارته منه ، وإذابته في بوتقة حضارة الغزاة . والجواب : محال ، إلا بانقراض الشعب نفسه ، إما بالإبادة الجماعية أو بمحاصرته وعزله في ظروف مادية لاتسمح له بالنمو حتى ينقرض كما فعلوا بسكان استراليا الأصليين وبالهنود الحمر في أمريكا . والشعب العربي عصي على الإبادة والمحاصرة ، بالإضافة إلى الإبادة الجماعية أو الحصر حتى الإنقراض قد أصبح في هذا العصر محالاً . وقد أفاد الهنود الحمر وسكان استراليا الأصليون من هذه الاستحالة فبدأوا في التكاثر والنمو . لاتنقرض الحضارات ولكن تنمو نمواً بطيئاً يستغرق قروناً طويلة في الزمان وفي المكان . في الزمان بمواكبة النمو الحضاري لنمو التكوين الاجتماعي خلال التطور من الحضارة الأسرية الى الحضارة العشائرية إلى الحضارة القبلية إلى الحضارة القومية . هنا لايوجد استلاب بل حضارة تنمو ، أو روافد حضارية تتجمع ، لتكوّن حضارة اكثر نمواً . وفي المكان بالتأثير المتبادل بين الشعوب والأمم والحضارات المتعاصرة الذي أصبح ، مع اتساع نطاق ومجالات الاتصال ، يزود بكل حضارة بما يتفق وبنيتها من مصادر حضارية أخرى تأخذه وتتمثله فيسهم في نموها بدون أن تفقد خصوصياتها المميزة . وإنما يرجع وهم انقراض الحضارات الى أن كل حضارة نامية تتغير بعض مظاهرها خلال عملية النمو ذاتها ، حتى إذا ما كثرت المتغيرات وتراكمت حتى أصبحت مميزة ، اعتبر بعض الدّارسين ، لمقتضيات فنية في دراسة الظواهر ، ان تلك حضارة جديدة ، وان ماسبقها قد انقرض ، وهو غير صحيح لثلاثة أسباب : ان التواصل الحضاري ليس فعلاً إرادياً . انه يتم في مرحلة الطفولة غير المدركة كما قلنا من قبل ( فقرة 177 ) وما دام الناس يتكاثرون بالميلاد فإن الاطفال سينقلون حضارتهم إلى من بعدهم من أطفال حتى يباد أو ينقرض المتكاثرون وليس بغير هذا .السبب الثاني هو أن الحضارة هي ناتج تفاعل جماعي بين الناس وفيما بينهم وبين الظروف البيئية التي يعيشون فيها رحلاً أو مستقرين . وما دامت الجماعة قائمة فإنها تحمل وتنمي حضارتها إلى ان تنقرض الجماعة أو تباد ، وليس بغير هذا . وما تزال بعض القبائل الأفريقية تحمل حضارتها القبلية بالرغم من أن أفرادها قد أصبحوا رعايا في دول تضم قبائل أخرى ويلعب هذا التمايز الحضاري دوراً أساسياً فيما تعانيه تلك الدول حديثة النشأة من صراع وحروب داخلية وانقلابات عسكرية ومذابح بشرية . وسيبقى هذا الصراع قائماً سنين طويلة إلى أن تنشأ ثم تنمو من خلال التفاعل السلمي وغير السلمي ، حضارة وطنية من روافد الحضارات القبلية . السبب الثالث ، الذي يهمنا أكثر من أي سبب آخر ، هو أن الحضارة القومية ، ييميز عن باقي الحضارات بأن الأرض المحددة الخاصة بالشعب المعين ثابتة في الزمان وفي المكان . وبالتالي فإن دورها في بناء الحضارة القومية ، من خلال تفاعل الشعب معها تأثراً وتأثيراً ، وما يسفر عنه من خصائص حضارية يتسم بما لها من ثبات واستمرار . فتتميز الحضارة القومية بثباتها واستمرارها في أفراد الشعب ( شخصياتهم ) ، حتى الذين يهاجرون منها اختياراً أو يغادرونها اضطراراً . وستبقى الحضارات القومية ثابتة في المكان مستمرة في الزمان ، إلى أن تتخطى البشرية مرحلة التكوين القومي إلى أنماط أوسع ، تنشيء حضارات أكثر نمواً ، تكون الحضارات القومية روافدها ، وهو احتمال يقع أبعد من المستقبل المنظور أو المتصور وبالتالي لايعنينا أن ننشغل به قبل أن يقع بقرون  .
محال ، إذن ، على "اللوبي" العربي الذي يحاول نقض الحضارة العربية ، ومن هم وراء " اللوبي " من قوى إمبريالية ، أن يفلحوا في نقض الحضارة العربية . ولنا على هذه الاستحالة دليلان من تجربتين تاريخيتين معاصرتين . أولاهما بدأت منذ نحو قرنين ، وثانيتهما بدأت منذ قرن ونصف . اخترناهما لاتصالهما بموضوع هذا الحديث عن العروبة والإسلام . فالتجربة الأولى جرت في الولايات المتحدة الأمريكية بقصد استلاب مضامين حضارية قومية مختلفة ؛ والثانية جرت في اتحاد الجمهوريات السوفياتية بقصد استلاب مضامين حضارية إسلامية . والتجربتان تجريان الأن إلى ماتستحقانه من الفشل النهائي  .
نبدأ بالتجربة الامريكية  :
ثورة الشباب :
222 ـ في أيار / مايو 1968 اندلعت في جامعة باريس ( السوربون ) ماسميت بثورة الطلاب حيث استولى الطلاب على الجامعة وتولوا ادارتها بما في ذلك اختيار المواد التي تدرس فيها ومناهج تدريسها . ولم يتم إخماد تلك الثورة الطلابية إلا بعد أن اقتحمت قوات الأمن الفرنسي حرم الجامعة العتيدة بالقوة العنيفة حركة المقاومة فيها ، وفضت اعتصام الطلاب ، وقبضت على مئات منهم وفرقت الآخرين . وقد روع الرأي العام الفرنسي أن تنتهك حرمة الجامعة أكثر مما روّعته ثورة الطلاب وضحايا العنف المتبادل بينهم وبين قوات الأمن . فقد كانت حرمة الجامعات وحضارتها قد تحولت على مدى قرون طويلة الى أن تكون إحدى التقاليد الحضارية المستقرة التي يجزع الناس كافة إذ تخترق أو تضطرب . ومن خلال الالتفات المتوتر إلى خطورة خرق هذه التقاليد الحضارية التفت الرأي العام إلى ماوراء ثورة الطلاب  .
كان أول ماتبين أن ثورة الطلاب في جامعة باريس هي امتداد لثورة أكثر شمولاً تجتاح الولايات المتحدة الأمريكية يسمونها " الثورة الثقافية المضادة " ويرمزون لها باسم " الزهرة الطفلة " يقوم بها الشباب عامة ، وليس الطلاب خاصة ، ضد أغلب ضوابط السلوك التقليدية في مجتمع رأسمالي صناعي متقدم تكنولوجياً . كما تبين أن احد المحركات الاساسية لتلك الثورة الشبابية الممتدة عبر القارات كتاب من تأليف مفكر اسمه هربرت ماركوز عنوانه الانسان ذو البعد الواحد ( 1964   .
وأفكار ماركوز هي محاولة توفيق ، أو تلفيق ، مابين مذهب سيغموند فرويد في علم النفس ، وبين مذهب كارل ماركس في علم الاجتماع . كلاهما حاول أن يحدد العوامل الأساسية التي تتحكم في اتجاهات الفرد ومواقفه وسلوكه في المجتمع . فرويد يردّها إلى المحاولة الفردية الشعورية وغير الشعورية لحل التناقض بين الغريزة الجنسية كمحرك أساسي للفرد ، وبين الضوابط الاجتماعية التي تحول دون " حرية " إشباع تلك الغريزة . وماركس يردّها إلى المحاولة الطبقية الواعية لحل التناقض الكامن في أسلوب الإنتاج بين قوى الإنتاج وعلاقاته في المجتمع غير الاشتراكي . فيأتي ماركوز ويلاحظ أن مجتمع الوفرة الرأسمالي الصناعي المتقدم قد أذاب التناقض في أسلوب الإنتاج فأصبح الأفراد والطبقات الذين كانوا من قبل قوى معارضة متحدي الموقف مع الطبقة الرأسمالية بدون حاجة إلى إرهاب مكشوف ، وتحولوا إلى مساهمين في تدعيم المجتمع الرأسمالي الاستهلاكي ، فلم يعد التغيير ممكناً من خلال الصراع الطبقي ولا أصبحت الطبقة العاملة ( البروليتاريا ) أداة تغيير المجتمع الرأسمالي الصناعي المتقدم ذي الإنتاج الوفير . فالتفت ماركوز إلى مالا يزال باقياً من ضوابط الغرائز الجنسية واعتبرها قهراً وإعداماً للحرية بالقدر الكافي لبدء عملية التغيير منها لتتحول بعد ذلك إلى التغيير السياسي . فاختار الشباب كقوة مرشحة للتغيير وقادرة عليه . فدعا الشباب دعوة حارة وملحة إلى الثورة . . . وكانت الثورة . وقال : إنني أرى في معارضة الشباب بالذات لمجتمع الوفرة اهمية تفوق أهمية النتائج المباشرة لهذه المعارضة . إن معارضة الشباب - وهذه هي الأهمية - أصبحت تربط بين الثورة الغرائزية وبين الثورة السياسية في نفس الوقت "  .
وقد لخص ماركوز نظريته كلّها خلال حوار علني في " مسرح الأفكار " في نيويورك عام 1968 دار بينه وبين نورمان ميلر الشاعر الامريكي صاحب كتاب لماذا نحن في فييتنام ؟ وآرثر سلزنجر المؤرخ الامريكي واشترك فيه روبرت نويل الشاعر الامريكي الحاصل على جائزة بولتزر ( نشر ملخص وقائع الحوار في مجلة الهلال القاهرية في أول تشرين الأول / اكتوبر 1968)  .
قال ماركوز وهو يتحدث عن المجتمع الامريكي : " إنني اعتبر المجتمع سوياً - أو غير معتوه - إذا كان يستخدم موارده التكتيكية والمادية والثقافية لا لزيادة الإسراف ، والتخريب ، والاستهلاك الكاذب ، ولكن لكي يقضي على الفقر ، والغربة ، والتعاسة . ففي مجتمعنا القائم لسنا نجد الأغلبية التي تتكون على أساس الوعي الحر والرأي الحر . ولسنا نجد هذه الأغلبية التي تتكون على أساس التعليم المتساوي بالنسبة إلى الجميع . ولا على أساس إتاحة الحرية المتساوية لمعرفة جميع الوقائع . إننا أمام أغلبية مصطنعة و " نمطية " يصنعها تعليم مصطنع ونمطي وإعلام مصطنع نمطي . بمعنى آخر ، لااظن هذه الأغلبية حرة مع أن روح الديمقراطية ذاتها هي أن يكون الشعب سيداً وحراً . كانت هذه فكرة جان جاك روسو وفكرة ستيوارت ميل . وهذه هي الفكرة التي دافع عنها كبار المدافعين عن الديمقراطية منذ البداية . ولم يكونوا يقصدون الشعب كمجموعة ، ولكن الشعب " كأفراد " حقاً يستطيعون التفكير لأنفسهم ، ويحسّون لأنفسهم ، ويكونون أفكارهم الخاصة دون أن يخضعوا للضغوط المرعية التي تمارسها القوى الخاصة والأحزاب السياسية وكل الأطر القائمة الآن "  .
223 ـ ويقول فيكتور بالدريدج عالم الاجتماع الأمريكي في كتابه " علم الاجتماع " إن ثورة الشباب التي بدأت في الستينات في الولايات المتحدة الأمريكية قد انتشرت وانتصرت ، وأصبح كثير من الأمريكيين يتطلعون الى التغيير ويحاولونه على هدي مبادئها . وتبدو دلالة هذا الانتصار من تغير معايير الانتماء التي كانت سائدة من قبل . فمنذ سنين طويلة كان ثمة اعتقاد سائد في الولايات المتحدة الامريكية على أن كل فرد أن يلتزم قيماً ومعتقدات اجتماعية واحدة . ولما كان الشعب الامريكي يتكون من مهاجرين وافدين إليها من أمم أخرى يحملون في ذواتهم القيم والمعتقدات واللغات والتقاليد الخاصة بالأمم المهاجرين منها ، فقد سادت فكرة أن وضع كل أولئك البشر في " بوتقة صهر " تهيمن عليها وتحركها الطبقة الوسطى البيضاء البروتستانتية السائدة ، كفيل بأن تطرح كل فئة قيمها الخاصة وتذوب في تلك الطبقة الوسطى وتتمثل قيمها ومعتقداتها وتقاليدها . وكانت الطبقة الوسطى البيضاء البروتستانتية تعول تعويلاً حاسماً على برامج التعليم ووسائل الإعلام حيث تعرض خصائصها كمثل أعلى  .
غير أنه ابتداء من الستينات رفضت كثير من الجماعات هذه النظرية وطالبت بأن تحتفظ بمميزاتها الحضارية وأن تكون تلك المميزات محلّ حماية واحترام . وبأن يسمح لكل جماعة أن تعيش حياتها الخاصة طبقاً لقيمها الحضارية الخاصّة ، وأن تتكلم لغتها ، وأن تكون لها مدارسها الخاصة ، وأن تتحول الولايات المتحدة الأمريكية إلى مجتمع من جماعات متميزة ومتعددة حضارياً ومتعايشة بدون قهر ، وقد أدى هذا إلى أن حلت فكرة قبول التمايز محل فكرة المجتمع المتجانس  .
لقد أخطأ ماركوز خطأ جسيماً فيما نسبه إلى جان جاك روسو . ولكن هذا لايهم بالنسبة إلى موضوع حديثنا . المهم أن ماركوز قد كشف في الفقرة الأخيرة من حديثه أنه الابن الشرعي لذات الحضارة الفردية التي يحرض الشباب على الثورة ضد مراحل نضجها وإثمارها . فهو معني بالفرد وغرائزه وحريته وتفكيره وثورته ضد الضوابط الاجتماعية . فلنقل ضد المجتمع . انه يرى الانسان الفرد الحر اللامنتمي إلا لذاته ، ويتصور أن المجتمع الرأسمالي الصناعي المتقدم تكنولوجياً ذا الوفرة ، الذي يتحول الناس فيه إلى حيوانات استهلاكية غريبة أو مغتربة ، طارئاً على مجرى تطور الحضارة الفردية ، في حين أنها أقصى ماوصل إليه تطورها . . انه يراها تنهار فيحرض الشباب على الثورة ليبقيها قائمة . لقد فضحه مفهومه عن الاغتراب ، انه عنده الاغتراب عن " الذات " ، فالأصل عنده والبداية ان الانسان ينتمي لنفسه ، لغرائزه ، لمصلحته ، لقيمه ، لما يريد أن يحققه ووراء هذا المفهوم الخاطىء خطأ أكثر جسامة وهو اعتقاده أن الانتماء اختبار إرادي فهو يدعو إلى شحذ الإرادة لإلغائه أو استبداله  .
فما الذي أسفرت عنه ثورة الشباب ؟ انتهت إلى لاشيء في فرنسا حيث الحضارة القومية تقاوم منذ قرون الاغتراب الفردي . أما في الولايات المتحدة ، حيث اجتمعت أخلاط من الجماعات الحضارية " الإثنية " المهاجرة فقد انتهت ثورة الشباب إلى الانتصار على محاولة تغريبها وصهرها في بوتقة الجماعة البروتستنتية سكسونية الأصل . وفشلت محاولة قرنين من التغريب . وأظهر حتى أطفال الذين استجلبوا بالقوة من افريقيا منذ قرنين ، أنهم ما يزالون يحملون في شخصياتهم بقايا من حطام الهياكل الحضارية التي حملها أجداد أجداد أجدادهم  .
اسطورة الامام شامل :
224 ـ التجربة التاريخية في الاتحاد السوفياتي أكثر ثراء من التجربة الامريكية بخبرة فشل محاولة انتزاع الانسان من حضارته أو انتزاع حضارته منه أو إحلال هيكل حضاري في شخصيته بدلاً من هيكل شخصيته الحضاري . كما أنها قاطعة الدلالة على عبث الدعوة العلمانية في مجتمع ذي حضارة إسلامية . ذلك لأن التجربة التاريخية لبعض شعوب الاتحاد السوفياتي تقدم نموذجاً فذاً لكيفية تحول الإسلام إلى حضارة ثم بقائه هيكلاً أساسياً لشخصية الإنسان ، ومقاومته كل محاولات الاستلاب أو الاغتراب بدعوى التقدم العلمي والاقتصادي والاجتماعي الذي لاشك فيه ، حتى بعد انحساره عقيدة ، واندثاره نظاماً . ففي الاتحاد السوفياتي، وعلى مدى قرن ، قبل أن يصبح اتحاداً سوفياتياً ، تغيرت " الدولة " من دوقية روسية إلى امبراطورية قيصرية إلى اتحاد جمهوريات سوفياتية ، وتغير أسلوب الانتاج من الزراعة إلى التجارة إلى الصناعة ، وتغيرت علاقاته من الإقطاع إلى الرأسمالية إلى الاشتراكية ، وتغيّرت العقائد من وثنية إلى دينية إلى ماركسية ، وتوالت الأجيال ما بين أدنى مستويات التخلف إلى أرقى مستويات التقدم حتى انتهت إلى جيل سوفياتي العقيدة والانتماء والنظام ، ومع ذلك ، وعلى مدى الزمان الذي مضى ، لم تستطع الدولة ، ولا استطاع نظامها ، ولا استطاع رعاياها ، أن ينتزعوا من الإنسان في عديد من جمهوريات الاتحاد السوفياتي الهيكل الحضاري الإسلامي لشخصيته . لانعني - طبعا - الإنسان السوفياتي المؤمن المسلم الذي يؤم المساجد ويؤدي المناسك على واحد من المذاهب السائدة هناك ( الحنفي والشافعي من المذاهب السنية ، والإمامي الاثني عشري والإسماعيلي من المذاهب الشيعية ) ، بل نعني على وجه التحديد الإنسان السوفياتي الملحد الماركسي الشيوعي العضو القيادي أو العضو القائد في الحزب الشيوعي نفسه . لأن الأول ليس حجة على صحة مانقول ، والأخير حجّة لا ترد  .
ولقد كانت اسطورة الإمام شامل ، وأساطير وملاحم أخرى محكاً لتمايز الحضارات في شخصية الإنسان السوفياتي وميداناً لصراع لايمت بصلة قريبة للصراع الطبقي وعلاقات الإنتاج ووسائله بالرغم مما أهدرت خلاله من دماء المتصارعين  .
225 ـ وليس الإمام شامل من خلق الأساطير ، بل هو محمد عبد القادر شامل إمام المسلمين في داغستان  (القوقاز ) وخليفة الإمام غازي محمد الكمراوي في الإمامة وفي قيادة ثورة التحرر الوطني ضد الاحتلال الروسي على مدى أكثر من ربع قرن ( 1832 - 1859 ) ، وزائر مصر عام 1863 ( بور سعيد ) ، المتوفى بالمدينة المنورة عام 1871 . أما الاسطورة فتحكي في ملحمة شعرية غنائية مثيرة وقائع وبطولات شعب القوقاز في حربه ضد الروس منذ أن بدأ القتال تحت قيادة الإمام منصور ( 1785 ) حتى قيادة الإمام شامل التي حقق فيها من الانتصارات ما تعتبره الملحمة معجزات لاتتحقق لبشر . لقد كان الإمام شامل بطلاً وطنياً وقائداً عسكرياً مقتدراً بكل المعايير ، ولكن شامل الأسطورة هو البطل القومي المسلم الذي تسند اليه الملحمة أفعالاً وصفات تحوله إلى" الرمز " المجسّد لكل قيم وآمال شعبه . فهو المثل الأعلى والحلم الذي يتطلع إليه ويحلم به شعب مقهور . وهو حضارة هذا الشعب في حالة انتصاره ، وعزاؤه في حالة الهزيمة . ولم تكن أسطورة شامل كما هي مصوغة في الملحمة الشعرية إلا واحدة من عديد من الملاحم التي تلعب الدور الحضاري ذاته في الشعوب المسلمة الأخرى التي احتلتها روسيا القيصرية وضمتها إلى روسيا أرضاً وبشراً ، وانتزعت الخصيب من أراضيها ووزعتها على بطانة القياصرة من النبلاء والفرسان ( كان اكثر التوزيع اسرافاً ما وزعته الامبراطورة كاترين الثانية على عشّاقها العديدين )  .
ودارت الأيام على القيصرية والقيصر واندلعت ثورة تشرين الأول / اكتوبر 1917 الشيوعية فوجه لينين ، قائد الثورة ، نداء إلى الشعوب المسلمة المقهورة في 24 تشرين الثاني / نوفمبر 1917 يقول " يامسلمي روسيا . . ياأيها الذين هدمت مساجدكم ، ومعابدكم ، وكانت معتقداتكم وتقاليدكم موضع سخرية القياصرة والمستبدين الروس ، إن معتقداتكم وتقاليدكم ومؤسساتكم القومية والثقافية ستتحرر ولن تمسّ بعد اليوم . مارسوا حياتكم القومية ونظموها بحرية وبدون عقبات . إن هذا حقكم . ولتعلموا أن حقوقكم مثل حقوق كل شعوب روسيا ، محصنة بقوة الثورة وقواها . . . هيا اذن وساعدوا الثورة . . . أيدوا الثورة  " ..
226 ـ فانضمت إلى الثورة وقاتلت خلال الحرب الأهلية ، جنباً إلى جنب الجيش الأحمر أغلب القوى الشعبية المنظمة من الشعوب المسلمة المقهورة ( حزب المساواة بقيادة أحمد أمين رسول زاده " 1884 - 1954 "  الذي تولى رئاسة جمهورية أذربيجان السوفياتية بعد النصر ، اتحاد نقابات العمال المسلمين في كازان ، والقوى الوطنية في القوقاز الوسطى ، قادمين من صحراء تورجو التي طاردهم اليها القياصرة منضمين الى الجيش الأحمر بقيادة جانح الدين ، ومنظمة " الأوش جاز " من طشقند ، ومقاتلوا الطرقة الفيظية بقيادة عنان فيظي الذي قتل دفاعاً عن الثورة في شباط / فبراير 1918 ، وحزب الوحدة بقيادة عبد الله أباناي ، وحزب " مللي شورو " بقيادة محمد عياد اسحق أحد قادة حركة الاصلاح الديني ، واللجان الإسلامية ، ولجان الاشتراكية الاسلامية بقيادة نورباهي في حوض الفولجا ، والجماعات الاشتراكية الإسلامية بقيادة أمين محيي الدين ، وابراهيم فولي ، وشهاد جاد الدين ، وغالي مينولا ، وشاهد أحمد . . . الخ ) و . . .كان دورهم في انتصار الثورة غير منكور إلى درجة أن أحد قادتهم وهو سلطان غالي ( غالييف ) الاستاذ في جامعة شعوب الشرق ، وكان ذراع ستالين اليمنى ، وعضواً معه في اللجنة المصغرة في وزارة الشعوب والقوميات وصاحب نظرية  "وحدة المقهورين " التي أنشأهامن واقع خبرته داخل " مطبخ القوميات الستاليني " عام 1918 التي أدان فيها محاولة صهر الحضارات القومية في البوتقة الروسية ، وقال فيها " إننا نرى أن استبدال ديكتاتورية طبقة أوروبية ( بورجوازية ) بديكتاتورية طبقة ضدها ( عمالية ) تحمل حضارة المجتمع الأوروبي ، ليس إجراء تقدمياً بالنسبة إلى الشعوب المستعمرة المقهورة ، وحتى إذا كان هذا تغييراً فإنه تغيير إلى الأسوأ وليس إلى الأفضل . . . " فقبض عليه ستالين عام 1923 ، ثم اعاد القبض عليه عام 1928 . . . كما قبض على ، وصفىّ أغلب حاملي الأسماء التي ذكرناها من رفاق السلاح المنتصرين للثورة في عهد ستالين وإن كان قد رد إليهم اعتبارهم بعد وفاته  . . .
تلك على أي حال كانت " الستالينية " التي يدينها الجميع  .
فلنصل إلى ماهو قريب منا تاريخياً ، وبعيداً عن تاريخ ستالين ، لنضرب أمثلة لما نريد أن نقول  .
227 ـ كان المسلمون في ظل الاحتلال الروسي يمارسون حياتهم طبقاً لقواعد مايمكن أن نسميه " الإسلام التطبيقي " لايعرفون اللغة العربية إلاقليلاً ، فغير قادرين على استنباط قواعده ، يمارسونه طبقاً لمذاهبه الفقهية التي ذكرناها من قبل ، وهي مذاهب لم تحط بواقعهم القبلي والشعوبي ولا بتراثهم الحضاري ، فأكملوا مالم يجدوه فيها بقواعد وطرق وتقاليد وآداب " سلوك " يومي تتفق مع روح الإسلام وقواعد مذاهبه ولكنها أكثر تفصيلاً وواقعية وأسهل إدراكاً ، يتبعها من " يريد " أن يتبعها كطريقة للتعامل مع غيره . فكانت الطريقة النقشبندية نسبة إلى أول واضع لمسالكها محمد بهاء الدين النقشبندي ، فانتشرت وأصبح لها مريدون من أغلبية الشعوب المسلمة التي احتلتها روسيا . وأدّى اطراد الحياة على مسالكها طبقاً لقيمها وصيغة آدابها إلى أن تكون لتلك الشعوب حضارة مشتركة إسلامية المضمون نقشبندية التقاليد والآداب ، قبل أن يداهمها الاحتلال الروسي فلمّا لم يصمد القادة من الخانات والأمراء وفرّوا أو استسلموا ، تولى أئمة المسلمين قيادة المريدين في حرب التحرير ، وكان من بينهم الإمام شامل الذي تحول إلى أسطورة تقصّها ملحمة شعرية غنائية . وبما ان شامل لم يكن البطل الإسلامي الوحيد ، فقد تعددت الملاحم الشعرية الغنائية التي تحكي قصص الحروب التي استمرت قروناً ضد البوذيين في الشرق وضد الروس المسيحيين في الغرب . ولما كانت الملاحم ذات شكل إسلامي ، فقد عمرت بالحديث عن وقائع قتال " المسلمين " ضد " الكفار " في الشرق والغرب ، وتمجيد الإسلام ، وقوة الإيمان ، وبطولات الأئمة الذين يأتون بما يشبه المعجزات بتوفيق الله الذي وعد المؤمنين بالنصر . . إلى آخر مانجده مردداً في كل الملاحم الشعرية ، السجلات الأولى ، لتاريخ كل الشعوب والأمم في جميع أنحاء الأرض ، والتي ماتزال تتردد أغاني ، وطقوساً ، وأمثلة شعبية ، وذكريات مروية ، وروايات مسرحية ، وفنوناً . . . الخ في كل شعب  . . .
نكمل حديثنا عن التجربة التاريخية مما أورده بننجسن ولميرسيية كلكيجاي ، الاستاذان في معهد الدراسات العليا في جامعة السوربون ( باريس ) في كتابهما " الموضوعي " عن الاسلام في الاتحاد السوفياتي ( 1968 ) أفضل ماوقعنا عليه من بين كتب دعائية ودعائية مضادة كثيرة  .
228 ـ يمهد المؤلفان لما سنلخصه عنهما بقولهما إنه لاشك في أن الأغلبية العظمى من المثقفين المسلمين في الاتحاد السوفياتي اليوم يعتبرون أنفسهم ، بصدق وإخلاص ، ماركسيين واوروبيين . يحتقرون الماضي القريب لبلادهم ، ويقفون بحزم ضد العودة إلى النظم الاقطاعية والرأسمالية السلبقة على ثورة 1917 . فيبدون كما لو كانوا قد انسلخوا عن الماضي . وهو مايبدو مبرراً لآمال الحكومة السوفياتية في أن ترى أولئك المثقفين الذين شكلت شخصياتهم يقودون الجماهير المسلمة على طريق الاشتراكية . ولكن حقيقة الواقع أكثر تعقيداً من هذا . وقبل القطع بماإذا كان المثقفون المسلمون في الاتحاد السوفياتي قد قطعوا علاقاتهم بماضيهم ، لابد من اختبار مواقفهم من حضارة شعوبهم وتاريخها  .
مثال نموذجي للاختبار ، سلوك القوميين من المثقفين المسلمين وردود أفعالهم الحادة فيما يتعلق بالدفاع عن تراثهم الحضاري ، قدمته الأزمة الطويلة التي واجه فيها المسلمون الهجوم الروسي على الملاحم القومية ، واستمرت من عام 1951 حتى عام 1954 . فقد شنت الحكومة السوفياتية حملة تطهير من التقاليد الموروثة لدى الشعوب المسلمة في كل عناصرها التي اعتبرتها غير متفقة مع العالم الاشتراكي الجديد . بدأت الحملة بهجوم شامل على الملاحم القومية التي تعرضت لنقد قاس ثم منعت باعتبارها عوائق في سبيل بناء الاشتراكية . ولما كانت تلك الملاحم هي صيغ لمضامين حضارية ، فإن دلالة الحملة لم تخف على المثقفين القوميين . إن الهدف الحقيقي من الحملة لم يكن إلا تدمير الحضارة القومية ليقوم بدلاً منها ما يسمّيه الكتّاب الروس الحضارة السوفياتية وهي في حقيقتها الحضارة الروسية في شكل اشتراكي . وقد جرى الهجوم طبقاً لخطة واحدة . تبدأ أولاً إحدى صحف موسكو : برافدا أو ليتراتورنايا جازيتا . ثم تتناوله اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الجمهورية المعنية ، ثم كل الأجهزة والمنظمات واللجان المحلية للحزب ، وتنتهي بإدانة الملاحم والمفكرين والكتاب المسلمين الذين أشادوا بتلك الأعمال غير المشروعة  .
بدأت الحملة في 17 تموز / يوليو 1950 . كان باجيدوف سكرتير أول اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الأذربيجان يلقي محاضرة على بعض المثقفين ، هاجم فيها الإسلام بشكل عام هجوماً عنيفاً ، وأدان بقسوة كل حركات مقاومة الروس في القرون الماضية ، واتخذ موضوعا للإدانة وسببا ملحمة " يدقرقوط " وهي سجل أسطوري شعري لتاريخ أسلاف الأتراك السّلجوق ، وقد وصف الملحمة بأنها عنصرية ، ومضادة للشعوب . ثم أدان بالقسوة نفسها ملحمة " شامل " وأعادت نشرها مجلة " البلشفيك " في موسكو ( العدد 9 ، تموز / يوليو 1950 ) ومجلة باكينسكي رابوتشي في باكو ( أذربيجان ) في ليوم التالي تحت عنوان : " طبيعة حركة المريدين وشامل " . وتلتها مقالة بقلم دانيالوف ، السكرتير الأول للجنة الإقليمية للحزب الشيوعي الداغستاني نشرتها مجلة فويروسي استوري في موسكو ( العدد 9 سنة 1950 ) ، ومقال فادييف في المجلة ذاتها ، وكتيّب من وضع سمير فوف بعنوان الطبيعة الرجعية لحركة المريدين وشامل في القوقاز نشر في موسكو . وامتدت الحملة إلى ملحمة " المانا " ، أجمل الملاحم الشعرية التي تسجل تاريخ حروب المسلمين ضد المنغول في القرنين السابع عشر والثامن عشر . . ثم ملحمة " قرقوط عطا " التركمانية ، ثم ملحمة " الباميش " التي تحكي نضال القبائل المسلمة ضد البوذيين ، ثم ملحمة " ايرسين " وملحمة " شوراباتيل " . .. الخ . وكانت أسباب الادانة المتكررة لجميع الملاحم أنها ذات جوهر إقطاعي وايديولوجية رجعية وتعصب إسلامي وتمجيد للحروب العدوانية ، فهي عقبات في سبيل الصداقة بين الشعوب  . .
وقد مرت الحملة بدون مقاومة ظاهرة في كل الجمهوريات إلا في جمهورية " القرغيز " الصغيرة . ذات الحضارة المدوّنة شعراً في ملحمة " المانا " الجميلة ، وآخر جمهورية وصلتها حملة التطهير . فما أن نشرت في موسكو أول مقالة - المقالة التمهيدية - ضد " المانا " وما تضمنته عن تمجيد جهاد المسلمين ضد الكفار حتى أثارت فوراً عاصفة مقاومة حقيقية في صحافة " قرغيز " ، شارك فيها المثقفون وأساتذة الجامعات والكتاب ؛ وقادها ، وهنا موضع الدلالة ، الحزب الشيوعي المحلي أو " الملحدون الماركسيون ، أعضاء وقيادة الحزب الشيوعي الذين لايمتّون إلى الإسلام إلا برابطة حضارية " . ولما كانت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي يصدر صحيفتين إحداهما " سوفيتسكايا " يكتب فيها الأعضاء الروس باللغة الروسية ، والثانية " ديكزيل " يكتب فيها الأعضاء الوطنيون باللغة القومية ، فقد انتقلت المعركة إلى الصحيفتين : الأولى تتّهم  "امانا"  بما تتهم به بقية الملاحم ، وتتهم المثقفين الوطنيين بالانحراف القومي والبورجوازية ، والثانية تدافع عن التراث القومي ، وتشنّ هجوماً مضاداً صاخباً تتهم فيه الروس باحتقار الاستقلال الحضاري لشعب قرغيز . . . وانهزم الوطنيون إلى حين . . إلى حين أن مات ستالين . فبدأ المسلمون هجوماً مضاداً في كل الجمهوريات شاركت فيها وقادت بعضها الأحزاب الشيوعية للإفراج عن التراث القومي ، واحترام التمايز الحضاري ، والكف عن السلوك العدمي المعادي للقومية ، وعن عبادة الأشخاص . وانهزمت الحملة ، وعادت الملاحم يردد الشعب اغانيها ويفخر بالانتماء إلى ابطالها ويطلق اسماء اولئك الابطال على المواليد الجدد  . . . .
وفي عام 1956 ، اعدم باجيدوف الذي بدأ الحملة ، وانعقد المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي السوفياتي الذي أعاد الاعتبار إلى كل الذين اعدمهم ستالين بتهمة الانحراف القومي والرجعية الإسلامية . فدعت المجلة نفسها التي بدأت الحملة " فوبروسي ارستوري " إلى مؤتمر حضره اكثر من 600 من المفكرين ، لوضع " منهج "جديد"  للدراسات التاريخية ، وفيه عرض دانيالوف دراسة بعنوان " حركة الجبلين تحت قيادة شامل " أشاد فيها اشادة هائلة ببطولة شامل وكل حركات مقاومة المسلمين للغزو الروسي القيصري . فحركة المريدين القائمة على أساس الشريعة الإسلامية لم تكن حركة متعصبة ولكنها كانت ردّ الفعل الطبيعي ضد الاحتلال الروسي . أما شامل فقد كان رجل دولة مرموقاً ، وبطلاً قومياً ، وكل ماوجه إليه من اتهامات في مرحلة عبادة الأشخاص من أتصال بتركيا أو بانكلترا لاأساس له من الصحة . . الخ . إنه الدانيالوف نفسه الذي نشر في عام 1950 ، في المجلة " فوبروسي استوري " ذاتها ( العدد 9 ) يتهم فيها حركات مقاومة المسلمين للغزو الروسي بأنها حركات " قومية بورجوازية " . . . وفشلت محاولة تاريخية أخرى في انتزاع الحضارة من الإنسان ، أو انتزاع اإنسان من حضارته لإذابته في بوتقة حضارة غريبة  . .
إذن ، لن يفلح " اللوبي " العربي فيما فشل فيه السكسون الأمريكيون والسوفيات الروس  .
لماذا اذن ؟
229 ـ طائفة تناهض العروبة بالإسلام لو كانت حسنة النية في الدعوة إلى إقامة نظام إسلامي في الوطن العربي فإن مناهضتها العروبة تهزم غاية دعوتها ( الجزء الأول من الحديث ) وإن كانت سيئة النية تريد أن تنقض الحضارة العربية القومية فإنها ستفشل كما فشل البروتستنت في الولايات المتحدة الامريكية ( فقرة 221) ،  وطائفة تناهض الاسلام بالعروبة ، لو كانت حسنة النية في الدعوة إلى التقدم العربي حتى على الطريق الاوروبي فإن مناهضتها الاسلام بالعروبة تهزم غاية دعوتها ( الجزء الثاني من الحديث ) وإن كانت سيئة النية تريد أن تنقض الحضارة العربية الاسلامية فإنها ستفشل كما فشل الروس السوفييت في اتحاد الجمهوريات السوفياتية ( فقرة 228 ) . . فلماذا إذن كل هذه الدعوات والمنظمات والكتابات والمحاضرات والنشرات والسفه السفيه في الإنفاق ، والجهد الجهيد من أجل غاية فاشلة ؟ . . ولماذا يختار أصحابها ضياع اعمارهم في سبيل الفشل ؟
لا مبرر للحديث عن الفشل . لأنهم لايجاهدون في سبيل الإسلام ، وإنما يستعملون اسمه نداء ليستمع إليهم شعب ربته حضارته على أن يلبي نداءه . ولا يناضلون في سبيل الوطن العربي ، وإنما يستعملون اسمه ادّعاء ليجتمع إليهم شعب تحمله حضارته على أن يجتمع حول وحدته وانتمائه . ولا يعملون في سبيل أنفسهم ، فثمة من يغنيهم عن العمل وعنائه ، و‘نما هم يكملون ما بدأه الاستعمار منذ قرون : جزّأ الأمة دولاً فخلق الإقليمية تخريباً ؛ وفرض نظاماً رأسمالياً فخلق الفردية تغريباً ، ثم جاء في عصر الإعلام والدعاية واغتصاب العقول ليدمّر الإنسان العربي في شخصيته . يحاول بفريق أن ينزع هيكلها الأساسي باسم الإسلام ؛ ويحاول بفريق ثان نزع هيكلها الأساسي باسم العروبة . ويتعاون الفربقان ليكوّنا فرقة غايتها أن يصبح الإنسان العربي حطاماً ،  "فيستقر الوضع نهائياً " على حطام الأمة العربية بعد أن تحطم مصدر مناعتها ومقاومتها ، وأداة تحررها ووحدتها وتقدمها : الانسان العربي السويّ  !
هل يعرفون ؟
230 ـ خلال الحرب الأهلية في اسبانيا التي نشبت في ايلول / سبتمبر 1936 وانتهت في آذار/ مارس 1939 اقتحم الجنرال فرانكو مدينة مدريد بأربعة طوابير عسكرية ، فلما استولى عليها قال ، أو قيل ، ان الفضل في الاستيلاء على المدينة العاصمة يرجع أساساً إلى " الطابور الخامس " ، وكانوا يعنون به عملاء فرانكو داخل المدينة الذين اندسوا بين المدافعين وأشاعوا روح الهزيمة في نفوسهم ، وخربوا ما أعدّوه للدفاع عن المدينة ، فانهزموا . وإلى عهد قريب كان يطلق وصف " الطابور الخامس " على أولئك الذين يخدمون أغراض الغزاة من داخل الأرض المعرّضة لخطر الغزو كما فعل عملاء فرانكو . ولم يعد منكوراً ولا خفياً أنّ للولايات المتحدة الأمريكية " طابور خامس " في كل دولة من دول الأرض صديقة أو عدوة . فقد أصبحت الطوابير الخامسة أجهزة من نظم الحكم الحديثة . كل ما يفرق بين " الطابور الخامس " في عام 1939 ، و " الطابور الخامس " " بعد الحرب الاوروبية الثانية ( 1945 ) ، أنه لم يعد من الممكن القطع بأن المنتمين إليه عملاء مأجورون . قد يكونون وقد لايكونون . فإن التقدم العلمي في " تشكيل الطابور الخامس " لم يعد يشترط في جنده حتى معرفة أنهم مجندون  .

آذار / مارس 1986 .

عن العروبة والاسلام (2) 

                                            
 ذهاب الى صفحة عصمت سيف الدولة




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق