بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 30 يوليو 2013

حرمة الدماء في الاسلام ..

                   حرمة الدماء في الاسلام ..

في الخامس والعشرين من شهر جويلية ، الموافق للسادس عشر من شهر رمضان ، أي بين منتصف هذا الشهـر المعظم  ، وبين ذكرى موقعة بدرالكبرى ، استفاقت تونس والعالم على فاجعة استشهاد المناضل الحاج محمد البراهمي ، وسفك دمه امام بيته ن وأمام أطفاله ، وزوجته ، بغير وجه حق . وهو المسلم المؤمن الذي يشهد جميع  من عرفوه وعاشروه بنبل اخلاقه وتواضعه وتمسكه بدينه اضافة الى حبه لوطنه وأمته .. وهو الصائم ، الحاج الى بيت الله ثلاث مرات ، المعتمر اليه عدة مرات .. فبأي دين يؤمن هؤلاء القتلة المجرمون ؟
 قال تعالى محرما سفك الدماء بين الناس جميعا : " من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ." ( المائدة / 32 ) . وقال : " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق ذلكم وصّاكم به لعلكم تعقلون ." ( الانعام / 151 )  . وقال محرما ذلك الفعل حتى على الانسان لنفسه : " ولا تقتلوا انفسكم ان الله كان بكم رحيما  ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نُصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا . "  ( النساء / 30 ) . وقال صلى الله عليه وسلم : " أوّل ما يُقـضى بين الناس يوم القيامة في الدماء ( رواه البخاري ومسلم ) . وقد قطع الاسلام أي طريق للتأويل في حرمة النفس عندما تكرر ذلك في القرآن بنفس الحسم والتشدّد في العقاب . قال تعالى : ومن يقـتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه واعد له عذابا عظيما " ( النساء / 93 ) .  كما شدّد رسول الله صلى الله عليه وسلم على حرمة الدماء والاموال  والاعراض بين المسلمين قائلا : " كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه " وقال ايضا : "من قال لا إله إلا الله ، وكفر بما يُعبد من دون الله حُرّم ماله ودمه وحسابه على الله – عز وجل " . و هو القائل ايضا في خطبته الشهيرة في حجة الوداع  : " إنَّ دماءَكم ، وأموالكم عليكم حرامٌ ، كحُرمة يومِكم هذا، في بلدِكم هذا، في شهرِكم هذا، هل بلَّغتُ ؟ " . قالوا نعم . قال :" اللهم اشهد ".

ولله الامر من قـبل ومن بعد . 

 ( القدس عدد 82 ) .


لماذا قـتـل الشهـيد محمد البراهمي ؟

                     لماذا قـتـل الشهـيد محمد البراهمي ؟

لقد كان الشهيد محمد ابراهمي يمثل صوت الحق ، والضمير الحي لشعبه  ولامته ، داخل المجلس التأسيسي و خارجه ، يفضح مشاريعهم و يعـري مناوراتهم الخبيثة .. كما كان شوكة حادة في حلق كل من يحاول التلاعب بالثورة ، ليحيد بها عـن أهدافها .. لذلك كانت كلماته تقع عليهم كالصواعق التي تضرب معاقلهم فـتـوشك ان تهدم ما يحاولون بناءه بعد جهد جهيد .. و بعد محاولات يائسة من التلاعب و النفاق و التزييف والتمثيل على الشعب ..
وهذه نماذج حـية من ضرباته الموجعة التي لم يستطيعـوا استمرار سماعها ، فوقعت الواقعة :
** فاليفهم الجميع ان الانتخابات هي اجراء ديمقراطي لامحالة ، و لكنها صورة فـتـوغـرافية محددة في الزمان و المكان ، ومن يحاول ان يأبد هذه الصورة ، فهو لم يفهم التاريخ و لن يفهم التاريخ .
 الاغلبية التي منحكم الشعب اياها يوم 23 أكتوبر، هي محدودة في الزمان والمكان ، ان أردتم الاستناد عليها لكي تمرروا ما تريدون  في هذا الدستور ، و تمرّروا آراءكم وفق منهج و منطق استبدادي فهذا لا يمكن أن يمر بأي شكل من الاشكال ، والثورة لا تزال مسارا مستمرا ، ولعل ما يحدث في مصر خير مثال لمن لا يريد أن يعي التاريخ ...
 بهذه المناسبة أحيّـي شعـب مصر العظـيم ، أحيـي شعـب جمال عبد الناصر و شعـب سعد زغلول وشعب أحمد عرابي الذي أعاد الامور الى نصابها بعد أن كادت  تسرق منه ثورته المجيدة .. تحية الى شعب مصر العظيم ، الذي نسج لوحة رائعة في الثورة ، لوحة رائعة في صفحات تاريخ الثورة ، تحية الى شعب مصر العظيم الذي نسج على منوال شعب تونس العظيم حين فجر ثورته يوم 17 ديسمبر ، والتي كان يراد لها ان تكون ثورة يتيمة ، حادثة عابرة في التاريخ ، ولكن في أقل من شهر يستجيب شعب مصر العظيم ، وينسج ثورته يوم 25 يناير ( 25 جانفي  ) .. فشعب تونس سيستـلهم  العـبرة من شعب مصر كما استلهم شعب مصر العبرة من شعـب تونس .. ( كلمة في المجلس التاسيسي ) .
** أنا في الختام أقول أن العنف ليس له وطن ، ومدمّر للشعوب ، وأنه اذا كنا ندين العنف في تونس بسبب الاحداث التي وقعت للاتحاد العام التونسي للشغل ، أو بسبب الاحداث التي ادت الى استشهاد الشهيد الجلاصي ، لا يمكن ان نبرره في سوريا الشقيقة ، لانه عـنف أعمى ، وعنف يدمر البلد ...    وأتمنى على السياسة الرسمية التونسية ان تراجع موقـفها ، وكنت أتمنى أن تقوم بدور ايجابي ، في الوساطة الاجابية ، وليس الانحياز الى طرف دون آخر ، وحتى المعارضة السورية ذاتها ، الآن هم منحازين للمعارضة المرتبطة بالغرب ، و تاركين المعارضة المتعـلقة بالارض و التي تدين العنف ، وترفض العنف ..
أتمنى من كل قلبي أن نتخلى نهائيا عن أسلوب العنف كخيار لحسم الخلافات الساسية ، و أتمنى من كل قلبي أن تكون مصلحة الاوطان فوق مصلحة الاحزاب ، و أتمنى من قلبي ان نكف عن الحسابات الضيقة ، حسابات المربعات الصغيرة ، ونراعي المسائل بأبعادها الكبرى .. فالذي يحصل في سوريا و الذي حصل في العراق و الذي حصل في ليبيا بعد الانقلاب و تدميرها من حلف الناتو ، ليس ببعـيد أن يعود هنا ، وتونس ليست بمنأى رغم التقدم الذي مشينا فيه ، ليست بمنأى لكي ترتد الى الوراء ، ولا قدر الله لو وقع الارتداد الى العـنف سوف نخسر كل شيئ .. ( حوار التاسعة مساء / التونسية ) .
** باختصار شديد ، نحن الآن في تونس في لحظة فارقة ، لانه اما ان نعيد الثورة الى نصابها ، و نعيد القطار الى سكته الطبيعـية ، و اما سيؤول بنا الوضع الى استبداد أشد من الاستبداد الذي عشنا مع زين العابدين بن علي .. هذه المرة استبداد مغلف بالمقدس ، بالدين ، و للدين مكانة خاصة في قلوبنا و في وجداننا و في عقولنا .. واستبداد مدعوم بقوى دولية اخوانية مُسندة من قوى امبريالية تقليدية .. وهو استبداد شنيع .. لذلك ايها المواطنون ، أيها الاخوة و الأخوات ، أصدقاءنا و رفاقنا في الجبهة الشعبية ، حتى تفهموا كل الحلول من داخل سياقاتها ، مخرجات 23 أكتوبر 2011 قد وصلت الى مأزق حقيقي ، كل الحلول التلفيقية قد وصلت الى مأزق ولا بد أن يكون لنا الجسارة و الجرأة والشجاعة ، لنبحث عن حلول بمنهج صحيح ، لذلك الحديث عن اعادة الامور الى نصابها أمر حيوي بالنسبة لنا ، وبالنسبة للثورة .. فلا مقدس الا مصلحة الشعب ، ولا شرعي الا الشعب ، وكل الشرعيات التي انتجتها انتخابات 23 أكتوبر هي شرعيات قد تآكلت ، من المجلس التاسيسي للحكومة للرئاسة ، لكل ما افرزته قد تآكلت وأصبحت أدوات للتآمر على الشعب .. واصبحت أدوات تتآمر على الثورة .. فاما أن نصحح المسيرة ، و نصحح المسار .. واما سنعـود للاستبداد مرة اخرى ..
انا بودي ان افتح الامل لكن الامل لا يكون الا بعد الصعاب ، بعد التضحية .. (كلمة في صفاقس قبل الاغتيال بيومين) .
** هذه الجبهة كانوا يريدونها أن تكون في زاوية الاحتجاج لكنها تتقدم لتكون البديل ، بديل الحكم ، بديل السلطة ، لانه لا معـنى لثورة لا يملك فيها الثوار ناصية الحكم ، لا يملك فيها الثوريون القرار، لذلك فالجبهة الشعبيّة مصممة على أن تأخذ السلطة " يا إما يا إمّا" ولا خيار بينها ، يا إما بالاسلوب الديمقراطي ونحن من أنصار هذا الاسلوب وإمّا باي أسلوب آخر يفرض علينا ، وقد يكتب علينا القتال وهو كره لنا ، وعسى ان نكره شيئا وهو خير لنا ... نعم ايها الاخوة ، ايها المواطنون الاعزاء ، يا إمّا بالاسلوب الديمقراطي ونحن من أنصار هذا الخيار يا إمّا باي أسلوب آخر يفرض علينا ونحن المنتصرون بإذن الله ...( جزء من كلمة الشهيد بقصيبة المديوني ) .

( القدس عدد 82 ) .

الاثنين، 29 يوليو 2013

من يكرم الشهيد يتبع خطاه ..

                             من يكرم الشهيد يتبع خطاه ..

بسم الله الرحمان الرحيم : "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ، فرحين بما آتاهم من فضله و يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألاّ خوف عليهم ولا هم يحزنون ، يستبشرون بنعمة من الله وفضل وان الله لا يضيع اجر المؤمنين " صدق الله العظيم . 
لقد طالت يد الغدر و الخيانة روح الشهيد البطل الحاج محمد البراهمي ، مفجر ثورة 17 ديسمبر مع ثلة من رفاقه من أحرار سيدي بوزيد الذين راحوا بعد سويعات قليلة من حادثة احراق البوعزيزي لجسده الطاهر ، ليلتقطوا تلك اللحظة التاريخية .. وسرعان ما التأم جمع اولائك الثوار بعـيدا عن الانظار ، لوضع الخطط اللازمة والتصورات الممكنة من أجل تطوير الاحداث و الاحتجاجات باتجاه عمل ثوري حقيقي لا ينحصر مداه في سيدي بوزيد وحدها حتى لا ينطفأ بدون نتيجة تذكر كسائر الاحداث السابقة .. بل يتعداه الى حيث يكتب له النجاح بكسر شوكة النظام  حـتى الاطاحة به .. لذلك تولى ثوار سيدي بوزيد العمل على مستوايين هامين : مستوى داخلي يتم من خلاله مواصلة  الاشتباك مع قوات الامن حتى يتواصل الحراك الثوري في منطقة سيدي بوزيد باعتبارها المعـنية منذ البداية بانطلاق الشرارة الاولى المرتبطة بالحدث المؤلم الذي حرّك عواطف المواطنين تجاه ابنهم الضحية محمد البوعزيزي ..
 ومستوى خارجي حيث تولى ثلة من الثوار ومنهم الشهيد محمد البراهمي التنسيق مع الجهات المجاورة و بقية الولايات لتوسيع رقعة الاحتجاجات ، لذلك بدات الاتصالات المباشرة بابناء بوزيان و المكناسي و الرقاب و كل الجهات القريبة التي ساهمت في فك الحصار عن سيدي بوزيد ، ثم تأجيج الاحداث و تحويلها الى انتفاضة شعبية واسعة النطاق و ثورة حقيقية في كامل انحاء البلاد .. 
أمابعد الثورة ، فلم يكن محمد البراهمي مجرد سياسي يساهم من موقعه داخل المجلس التاسيسي الذي ينتمي اليه في بناء الدستور او في قراءة الاحداث وانتقاد السلطة الحاكمة من حين الى حين ، بل انه سرعان ما تحول الى زعيم حقيقي لشريحة واسعة من التونسيين  في جميع انحاء البلاد الذين اصبح لصيقا بهمومهم  ، و معبرا عن طموحاتهم من خلال دفاعه عن الخيارات الشعبية المتعلقة بالعدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروات ، لذلك كان لا يكف عن تحريضهم باستمرار على استرجاع مسار ثورتهم التي سرقت منهم من طرف الاحزاب الحاكمة وعلى راسها جماعة الاخوان المسلمين التي ارتهنت مصير البلاد حتى أصبح مرتبطا تماما بمصير حركتها ومصالحها الضيقة ، فباتت في نظر المرحوم  وكل الثوار الذين ساهموا فعليا في ثورة 17 ديسمبر ، من ألد أعداء الثورة الحقيين نظرا لما تشيعه من زيف بين المواطنين ، وما تبيعه لهم من اوهام حول المسار الانتقالي والديمقراطية في حين تسعى على ارض الواقع لبناء نظام ديكتاتوري جديد أخطر بكثير من النظام السابق كما قال الشهيد البراهمي باعتبار عملية التستر بالدين الذي يلقى تجاوبا عفويا من عامة الناس في المجتمع .. 
كما كان المرحوم محمد البراهمي متمسكا بمبادئه القومية الواضحة ، من خلال الدفاع على قضايا الامة العربية الراهنة ومنها دفاعه الدائم داخل المجلس التاسيسي لادراج البند المتعـلق بتجريم التطبيع مع العدو الصهيويني في الدستور، الى جانب فضحه لمخططات الاخوان وطواطـئهم مع الرجعـية العربية في ضرب المقاومة واشاعة الفرقة الطائفية في الوطن العربي حتى يتسنى لهم السيطرة على أقطاره الواحد بعد الآخـر كما فعلوا في ليبيا بمساندة حلف النيتو، وهم يحاولون بكل الوسائل الآن في سوريا  ، اضافة الى ما غـنـموه في مصر وتونس ..  
وهكذا تحول محمد البراهمي بعد حادثة اغـتـياله الى شهـيـد حقيقي لتونس واللامة العـربية جمعاء ، باعتبار ذلك الدور الريادي الذي أصبح يلعبه على الصعيدين الوطني والقومي ..
من أجل كل هذا أراد اعداء الحـرية ، وأعداء الانسانية اخماد صوته كما أخمدوا صوت الشهيد شكري بالعيد من قـبل ، ظنا منهم ان محمد البراهمي يمثل شخصه فحسب وهم في هذا واهمون .. لان في اعماق هذا الشعب الابي ، كما في أعماق أمته العربية المجاهدة ، آلاف ، وعشرات الآلاف ، بل ملايين ممن يحملون افكاره ومواقفه .. وهم الذين سيواصلون باذن الله السير على نهجه  ودربه الذي سار عليه  ..  وهوالذي ساهم بدمائه الزكية في انارة الطريق وشحذ الهمم ووصل الحاضر بالمستقبل لرفع الراية القومية جيلا بعد جيل .. لان من يكرم الشهيد ، يتبع  خطاه ..

و انا على خطاك لسائرون .. 
فسر أنت الى جنة الخلد مع النبيين والصديقين ..

 ( القدس عدد 82 ) .   


                                          

الاثنين، 22 يوليو 2013

ثورات يوليو ..

                     ثورات يوليو ..

ستبقى دوما أيام  شهر يوليو أياما تاريخية ، محفورة في ذاكـرة المواطن العربي في مصر مهما كان توجهه وميولاته ..
فمنذ أكثر من نصف قرن اهـتـزت مصر والعالم على وقع انقلاب عسكري لا بد أن من قرأ أهدافه الستة مطلع ذلك اليوم بقي ينتظر ، تحقيقها ..
وبالفعل فان الأيام لم تخف أسرارها لفترة طويلة ، إذ سرعان ما بدأت الثورة في تـنـفـيذ ما وعدت به ، فبادرت بعد مدة وجـيـزة  باصدار قرارها المدوّي المتمثل في قانون الإصلاح الزراعي في  9 سبتمبر 1952 .. وهو القرارالذي حوّل الحدث من انقلاب عسكري الى ثورة حقـيقـية لسبـبـيـن . الأول أنه صنع  شعـبيتها ، نظرا لما لقيته من تأييد شعـبي وفر لها الاستمرارية والحماية الكاملة في مواجهة  الاقطاعـيين الذين رفضوا تلك القـرارات وأعـلنوا عـن استـعـدادهم للدفاع عـن " أملاكهم " وهم الذين  يملكـون السـلاح  والخيول والغـفـير والقوة المادية والمعـنوية ..
لكن ماذا عساهم ان يفعـلوا وسط الجموع الهادرة والحاشدة التي وجدت في قرارات الثورة حلولا لمشاكلها فكانت هي المدافعة عـنها ؟ ولم يحتـج قادة الثورة أبدا للأمن أو الجيش للدفاع عـنها إلا حينما شرع الإخوان المسلمون في التخطيط  للانقلاب عـليها من خلال تـنظيمهم  المسلح المعروف بالتـنظيم السري بقيادة سيد قطب ، والذي وقع اكـتشافه وتفكيكه سنة 1965، بعد أن أقدموا على محاولة الاغـتيال الفاشلة للرئيس جمال عبد الناصر سنة 1954  ..
السبب الثاني تمثل في المضامين الثورية ، حيث لم يطل وقت الانتظار حتى بدأت الثورة في الإعلان عن انحيازها التام لقضايا الشعـب الذي أنهكته مرحلة الاستعمار الطويل والحكم الملكي المتخلف ..  ولقد شاءت الظروف والاقدار ان يكون للشعـب موعدا جديدا مع الثورة في مستهل شهر يوليو 2013، ليعـود بطريقـته بعد61 عاما رافعا صور عـبد الناصر.. في ثورة شعـبية عارمة لم يسجّل لها التاريخ مثيلا من قـبل ، تـنادي باسقاط حكم الاخوان الذين اداروا ظهورهم للناخبين .. وسواء فهموها بـيعة او انتخابا فان كلاهما يمثل عقدا على تحقـيق مصلحة وليس صكا على بياض يهدّدون به الشعـب . وقديما قيل  - بصيغ شتى - أن عمر بن الخطاب رضي الله عـنه قام يخطب فقال : ايها الناس اسمعوا وأطيعوا . فاجابه سلمان الفارسي : لا سمع ولا طاعة ، أتـلبس ثوبين وتلبسنا ثوبا واحدا ؟ ولم يهدأ الا حينما علم ان الثوب الثاني ليس لعمر بل لابنه عبد الله ، وعـندها قال : الآن نسمع ونطيع  يا أميرالمؤمنين ..

 ( القدس عدد 81 ) .



الاثنين، 15 يوليو 2013

الاحتلاف ومظاهر الاعجاز في القرآن .



                    الاختلاف ومظاهر الاعجاز في القرآن  .

ان من أكثر الدعاوي سببا في الفرقة والصراعات الدموية اليوم داخل الامة الواحدة ، صراعات ذات علاقة مباشرة بمفاهيم خاطئة عن القومية من ناحية ، والاسلام من ناحية ثانية .. وخاصة عند الذين يضعون الدعوة الى الوحدة القومية في عداد الدعوة المناهضة للاسلام .. بل ان الامر قد تطوّر بهم الى جعل الاسلام مرتبط بمفهوم واحد ثابت في الزمان ، هو اسلام الفرقة الناجية التي ترفض كل ما هو مختلف معها حتى في الفروع من دون الاصول .. في حين نجد ان الاختلاف في حد ذاته و في جميع مظاهره سنة الهية .. بل أن الاختلاف  قد يصبح  ـ في بعض مظاهره ـ آية من آيات الله ،  كما جاء في قوله تعالى : (ومن آياته خلق السماوات والارض واختلاف ألسنـتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالميـن ) ( الروم / 22 ) .
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو كيف يكون اختلاف الالسن والالوان آية أو معجزة من المعجزات ...؟؟
في الواقع ان المتأمل في هذه الآية  لا يجد فقط أنها قد دلت على ان اختـلاف الألسن والألوان يمثل آية فحسب ، بل يمثل آية تضاهي من حيث الاعجاز آية خلق السماوات والارض ، اذ  ورد  ذكـرهما مقـتـرنا بهما .. وقد تكـرّرت الاشارة الى الاعجاز في خلق السماوات والارض  في العديد من الآيات لما فـيهما من دليل على عظمة الله .. قال تعالى :  ﴿ إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ﴾ (آل عمران / 189-190)   وقال : ﴿وهو الذي خلق السماوات والارض في ستة أيام  وكان عـرشه على الماء ليبلوكم أيكم احسن عملا   ( هود / 7 ) وقال :   ( الله الذي خـلـق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تـتـذكـرون)  ( يونس / 3 ) . وقال : ﴿ خلق السموات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين   (العـنكبوت / 44 ) وقال تعالى ( ومن آياته خلق السماوات والارض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم اذا يشاء قدير ) ( الشورى / 29 ) .. 
 فسبحان الله ... 
لماذا اعـتبـر الله اختلاف الالسن والالوان آية تضاهي آية خلق السماوات والارض  وهما  يمثـلان الكون باكمله ، وبكل ما فـيه من كواكب سيارة وافـلاك ومجرّات  واشياء  محكمة لا نعلم عـنها الا القـليل فـيعجـز عـن وصفها اللسان ، كما يعجـز عـن تصوّرها العـقـل ؟ .. لماذا كل هذه المنـزلة لاخـتـلاف الالسن والالوان ونحـن نعـرف ان خـلـق السماوات  والارض قـد اقـتـضى مدة لا تقـل عـن ستـتة ايايم كاملة كما اخبـرنا بذلك مالك الملك ، وهو القادر على أن يقول للشئ كن فيكون ؟
من المؤكد ان صدق الجواب ومطلق الاجابة علمهما عند الله ... لكن الاجتهاد يمكن ان يقودنا الى أشياء ملموسة ..
 فلو نظرنا  أولا الى اختـلاف الالوان بين الناس لوجدنا وراء ذلك عوامل معـقدة  قد لا يتوقف تأثيرها على الفرد بل يتعداه الى المجتمع بأكمله ، منها العوامل الوراثية التي يحملها الانسان منذ الولادة ، فـتحدّد ملامحه وصفاته  لكنها سرعان ما تنتشر بين الناس من خلال قوانين الوراثة التي تسري بمرور الوقت داخل المجتمع .. ومنها كذلك التفاعل  بين الناس  والمحيط  بكل ما فـيه من عناصر بيـئية مؤثـرة ، الى جانب سلوكهم وعاداتهم الغذائية الخ .. حيث ينشأ التفاعل صامتا بين ما يحمله الفرد ومحيطه ، وبين الناس جميعا من خلال ظاهـرة التكاثـر، مما يجعـل الصفات الوراثية تنتقـل في سكون تام ، ليكتمل التاثـيـر والتاثر بشكل بطـيئ بين مخـتـلف هذه العوامل التي لا يقـتصر تأثيرها على القـلـّـة فحسب ، بل يشمل جميع الافـراد في المجـتمع ، لتتحدّد قسماتهم وسماتهم من خلال لون البشرة ولون الشعـر وبعض الملامح العامة مثل طول القامة وغيرها ...
كما أدّى انتشار الناس واختلاف بيئـتهم ، إلى جانب القطيعة الوراثية الحاصلة بسبب الحواجـز الطبيعية  والامتداد الجغـرافي  وغـيرها من العـوامل .. الى اخـتـلاف الطباع والألوان .. 
ولعل في  تشابه الصفات والالوان داخل المنطقة الجغـرافية الواحدة ، واختلافها في نفس الوقت بين الجهات المتباعدة جغـرافيا ما يفسر خلوها التام من الصدفة .. بل يدل على انضباطها بقوانين هي بمثابة المعجـزة الحقـيقـية التي تتحكم في حـركـتها قوانين وسنن الهـية محكمة يعرفها أهل الاختصاص في علم الوراثة والبيئة والانـتـروبلوجـيا ...
ثم اننا لو نظرنا الى اختـلاف الالسن ، لوجدنا كذلك سببا واضحا لهذه المنـزلة العظيمة ، متمثلا في اثر ذلك الاختلاف على مسيرة الحياة الانسانية كافة ، حيث تـتـعدّد المجـتـمعات وتـتغـيّـر بنيـتها خلال مسيرتها التاريخية ، فـتـكون اللغة عاملا أساسيا في تطوّرها وتـنوّعها ، سواء عـبــر مراحلها المتعاقـبة من العشيـرة إلى القـبيلة إلى الأمة ... أو في كل مرحلة  من مراحل تطوّرها .. حيث جعل الله الحياة على تلك الصورة .. قال تعالى : ( يا أيها الناس إنا خـلـقـناكم من ذكـر وأنثى وجعـلناكم شعـوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقـاكم ) ( الحجرات / 13 ) .
ان موضوع الخلق ، الذي ذكـره الله في جميع الآيات السابقة ، الخاصة بالكون أو بالمخلوقات ، يمثل في حد ذاته دليلا واضحا على عظمة الخالق .. لكنه من ناحية أخرى ينـفي أي نوع للصدفة عن الظاهرة ، ويعطيها صيغة الحتمية ، بحكم ان كل ما أوجده الله متحرك وخال من السّكون ، مما يجعله يخضع في حركـته الى قوانين حتمية لا تتبدل وهو ما يُعـرف في تراثنا بالنواميس والسنن الالهـية ، المشار اليها في العديد من الآيات الواردة في القرآن الكريم . قال تعالى : ﴿ سنة الله في اللذين خلوا من قبلكم ولن تجد لسنة الله تبديلا  ( الاحزاب / 62) ، وقال : ﴿ سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله  تبديلا ﴾( الفتح /  23 ) ، وقال تعالى : ( فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا )  ( فاطر / 43 ) ...
ان حتمية السنن الكونية كما ارادها الله سبحانه هي اعظم حكمة للوثوق في المستـقـبل ، ومعـرفة اتجاهه .. بمعـنى اذا كانت الشروط الموضوعـية التي تتحكم في فعالية القوانين معـروفة ، قد تكون النتائج معـروفة ، وهذا يمنحنا الثقة في أنفسنا أولا ، كما يمنحنا ثانيا امكانية توجـيهها أو توقع حدوثها ..  أما اذ أخطأنا ، فيكون السبب راجعا إلينا ، إما لقصور في المعـرفة أو في التـنـفـيـذ ...  وقد دعانا سبحانه لإدراك هذا التنظيم المحكم بالعـقل عـندما أشار في العديد من الآيات التي تحيل العاقل الى عقـله للتـفـكّـر والتدبـر واليقين بقوله : ( لآيات للعالمين ، لآية للمؤمنين  ، لآيات لاولي الالباب ، افلا تتذكرون ، افلا تعقلون  ، أفلا يسمعون ، افلا يوقـنون ....) . ومنها نتعـلم ان  كل الظـواهـر الانسانية خاضعة لسنن الله بما في ذلك ما يظهـر من اخـتـلاف في الالسن  والالوان بين البشر ..
 ولعل ما يدل فعلا على ان المجـتمعات تخضع في تطوّرها الى قوانيـن علمية محكمة ، هو انتاج نفس الظاهـرة عـبـرالمسيـرة الانسانية الطويلة ، حيث انتـقـلت المجـتمعات البشرية بشكل مماثل من الاسرة الى العشيـرة الى القـبيلة الى الامة .. رغم النشأة المخـتـلفة ، والبيئة المختلفة والطباع المختلفة .. 
ان البحث في الاسباب التي قادت الانسان الى انتاج نفس الظاهرة يمكن أن يكون من خلال التأمل في مضمون النشاط  الانساني الذي نراه يتجه دوما للتحرّر من قيود الحاجة المتجددة ، مستغلا قدرته الجدلية على تصوّر الحلول  لتحقيق حياة افضل .. و لما كان الانسان الفرد غـيـر موجود أصلا بمعـزل عـن المجموعة ، و ان الظروف التي كان يواجهها أكبر من طاقـته ، فانه انصرف يبحث عن الاطـر التي تحميه وتضمن له البقاء على قيد الحياة أولا ، ثم تتيح له امكانيات التطوّر بشكل افضل  ثانية .. وقد كانت الروابط الاسرية والدموية هي الحل الأمثل الذي يتحقق به مزيدا من الحرية للإنسان .. لذلك استمرت تلك الأطر على المستوى الانساني عامة ، وأدّى التفاعل البشري داخلها  إلى إبداع اللغة ..
ان الحصيلة الهامة المترتبة على اختلاف الألسن ، اذا تأمّـلنـاها ، تجعـلنا  ندرك بوضوح بان وجه الإعجاز قد يكون مرجعه الى ما يترتب على تعدّد الألسن من تعدد للأمم التي تملا الأرض قاطبة . فهي تتكون نتيجة مراحل طويلة من التفاعل البشري ، تمثل اللغة  أحد ابرز أدواته . وهي بهذا المعـنى معجـزة حقيقية ، قد تبدأ بالتفاعل والتواصل - قبل ظهور اللغة - عن طريق ما يجري على اللسان من أصوات غـريبة متبوعة بالإشارات  ، إلى أن يكتمل الإبداع الإنساني باكتمال رموز اللغة وأدواتها  ليكونوا بها أقدر على العـيش المشترك والتفاهم . ثم ان الناس وهم يعـيشون واقعهم المشترك ويتواصلون بلسانهم الواحد ، يسهمون معا في صياغة شخصيتهم الحضارية التي تميّـزها عاداتهم وتقاليدهم وثقافـتهم الخاصة ..
 فكيف يحصل كل هذا في الواقع ؟    
خلال المرحلة القـبلية لا تختص القبائل المرتبطة بروابط الدم الحقـيـقـية أو الوهمية  بالأرض . فهي متنـقـلة ، متصارعة ، متقاتلة على مصادر العيش مثل الماء والكلأ  وغيرهما .. ثم مستقـرّة الى ان ينضب عيشها  او ينحصر ، فـتـنازع غـيرها على ما يملك .. واحيانا تترك بعض القبائل الارض دون قتال اذا نضب مورد رزقها او اذا وجدت ظروفا أفضل للعـيش .. وبمثل هذا تقريبا تميّز تاريخ  جميع القبائل التي كانت تملا الارض قبل المرحلة الشعوبية ، فكانت حياتها عبارة عن " صراع الوحدة في مواجهة الاختـلاف " أي وحدة القبيلة في مواجهة القبائل الاخرى .. وهو صراع طويل مرير  تطور بمرور الزمن الى " صراع الوحدة في ظل الاختـلاف " أي التنافس بين القبائل في اطار القبول بالتعايش والتعاون .. فكانت اضافة رائعة تخـرج من رحم المعاناة ، و تؤسّس لمراحل اكثر تقدما ورخاء ... فكانت المرحلة الشعوبية هي المرحلة الأكثر تطورا من المراحل السابقة لسببين . السبب الاول يتمثل في تجاوز التعدّد . اذ ان القبائل المتصارعة لا تلبث ان ينهكها الصراع جميعا  حيث تبدأ القبائل الضعـيفة في التحالف مع من مثلها لتواجه عدوا مشتركا  يهدّد وجودها باستمرار ، فتتحالف وتتعاون وتصوغ فيما بينها علاقات شبيهة بالوحدة ولو ظاهـريا بيـنما لا تزال  مختـلفة ومتمايـزة بما يميـز القبائل  بعضها عن بعض  .. غـيـر ان هذه المصلحة المشتركة تمنحهم المزيد من التفاعل والتقارب الذي سيؤدي الى الانصهار التدريجي ... من خلال التفاعل المستمر الذي سيظهر اثـره في حياتهم بمـرور الوقت  ليشمل كل جوانب الحياة ، من اختلاط رموز اللغة القبلية الى العادات والتقاليد الخ .. وقد يتّسع التعاون والتعايش ليشمل قبائل متعدّدة تعاني من نفس المشكل ، فـيصبح التفاعل بينها قاعدة لحياة جديدة ، لان الغـزو قد ياتي ايضا من اطراف اخرى بعيدة عـنهم فيهدّدهم خطرها جميعا ، فيتوحدون ضدها ، مُـفسحين المجال لنشوء روابط جديدة واسعة ، يتحوّلون من خلالها بشكل بطئ الى شعـب .. وهكذا بمرور الوقت يبرز السبب الثاني متمثلا في ارتباط هذه القبائل الموحّـدة بالارض واستقرارها عليها .. حيث يكون اختصاصها  بها عـنـصـرا جديدا ،  ومهمّا ، لم يكن يميز التشكيلات السابقة التي تمثل الارض بالنسبة لها مجرد عـنـصر استغلال يمكن التخلي عنه  في أي وقت اذا أصبح عائقا امام تطوّرها ، كظهور خطر يهدد وجودها ، أو الوصول الى الندرة التي لا تفي بالحاجة .. في حين اصبحت الارض في هذه المرحلة عـنصرا من عـناصر الوجود ذاته .. يتم الدفاع عـنها من طرف الجميع ، فيقاتلون وينتصرون ويصوغون ملاحم مشتركة وبطولات .. لتتحول  - بعد ذلك  - انتصراتهم الى فن وشعـر وتمجيد الخ .. وقد زاد تطوّر المعـرفة باستغلال الارض وتظافـرالجهـود في حل مشكلة الندرة وقـلة الانـتاج ، في تحقـيـق اضافة رائعة منحتهم مزيدا من الالتحام  بالارض ... معلنة عن تحوّل القبائل المستقرّة الى شعب .. فكانت تلك المرحلة الشعـوبية عبارة عن مرحلة انتقالية من طور محدود الامكانيات ( الطور القبلي ) الى طور أكثر تقدما وتحرّرا (الطور القومي ) ، لان الحياة السابقة قد استـنـفـذت كل طاقـتهم ولم تعد تـفي بالحاجيات المتجددة والمتـزايدة  للامن والغذاء .. وأصبح في قـناعة الجميع ، ولو من خلال الصراع ، ان الظـروف الجديدة افضل بكثير لحل كل المشكلات السابقة ... وتلك هي مراحل الانتقال التدريجي والبطئ لتشكل الامة واكـتمال تكوينها بشطريها وشرطـيها : الارض والشعـب . حيث يكون لسان القوم أو اللغة اضافة انسانية رائعة ، يسهل بها تفاعل الناس وتواصلهم ، فتساهم في صنع استقـرارهم النفسي وقبول الاختلاف والتعايش بينهم حتى يثمر تفاعلهم الطويل في تكوين  تاريخهم المشترك ، وحضارتهم الخاصة .. فيكوّنون أمة مختلفة عما سواها بما يميز الامم  بعضها عن بعض .. لغة وفـنا وعادات وتقاليد وحضارة وتاريخا .. وبذلك كان اختلاف الالسن معجـزة فعلا وآية عظيمة من آيات الله .. حيث تؤدي وحدة اللسان أو اللغة الواحدة الى وحدة المجتمع ، في حين يؤدي اخـتلافها وتعدّدها الى تعدّد المجـتـمعات والأمم .. ولله في خلقه شؤون ..

 ( القدس عدد 80 ) .  





في مواجهة السقوط ..

                            في مواجهة السقوط ..

بقطع النظـرعـن الاحكام ، فان ما حدث في مصرفي مطلع شهر يوليو2013 سيـبقى بلا شك في ذاكـرة الاخوان .. اذ انه بالنسبة  لهم  بمثابة الزلزال الحقيقي الذي أوقع عـرشهم الاكـبـر في أكـبـر دولة عـربية يتـطـلع اليها الاخوان في جميع انحاء العالم ،  وهـو بالتأكيد يعـتبـر حدثا مدويا يهدد بسقوط بقـية العـروش ثم بـزوال المشروع  في المنـظور القـريـب !!  خاصة اذا نجح الـثـوار في رسم ملامح جـديـدة تخـرج الـثـورة الام من عـنق الزجاجة الذي وقعـت فـيه على مدى سنـتـيـن ..
ولعـل من يصف ما حدث بالزلزال لا يكون مبالغا في ما يقول ، باعـتـبار ردة الفعل التي سجلها المراقـبون في الاجـتـماع السريع الذي عقـده " المركـز الدولي للدراسات والـتـدريب " ، في تركيا الايام الماضية ، وهو ذراع التـخطـيـط للتـنظـيم الدولي للاخوان المسلمين ..
لقد حضرالممثلون عـن التـنظيـمات القطرية للاخوان المسلمين والشخصيات القيادية في العالم الى تركـيا رافعـين ناقوس الخطر، معـبرين عما يسكـنهم من قلق تجاه الحدث الذي بات يهدد مستقبل الاسلام السياسي بشكل عام .. لان ما حدث بعد  30 يونيو لم يكن  مجرد حدث كالذي كان يحدث في السابق حيث يقع اقصاء  احد الخصوم السياسيـيـن من طـرف السلطة الحاكمة ، فـيـزيد ذلك الاقصاء من شعـبية الخصم مقابل تـزايد السخط على الحاكم .. بل هو الاقصاء الصادر عـن الشعـب نفسه صاحـب الحل والعـقـد .. والذي لا يُسأل عـن ثورته اذا ثار ..  وحيث تكون ثورته بمثابة الحكم الصادر بالاعـدام على المشروع الذي تستـهدفـه الثـورة .. وهو ما عجّـل في عـقـد المؤتمر العالمي المذكور ..

لا بد ان المجـتـمعـيـن قد تدارسـوا الوضع ، ووضعـوا الخطـط ،  وحـددوا السيناريوهات الممكنة ، في ظل التجاذبات على المسرح الاقـليمي .. فهـناك زحـف الجـيش العـربي السوري على آخـر معاقـلهم في حمص وريف دمشق وحلـب ، حيث باتوا يخسرون المواقع في كل مكان .. وهـنا في تونس أيـن يواجه مشـروع الاخوان نفس الفـشل أمام العجـز المكشوف والتلاعـب المفضوح  بمصيـر الشعـب الذي فـقـد كل الامل في تحسين وضعه ، وصار يهدد بالتمرد والعصيان ..  لذلك فانهم  بالتاكيد سيخسرون أكـثـر لو فكّـروا في سيناريو العـنـف ..  كما لا شك انهم شدّدوا بقـوّة على ماتبقى لهم في تونس من اجل الصمود وانـقـاذ ما ء الوجه ، ومنع السقوط الاخيـر .. وهو على ما يـبـدو قدرهم الذي لا يملكـون  له رد .. 
 ( القدس عدد 80 ) . 

الاثنين، 8 يوليو 2013

بين منظومة الاستغلال والاجتهاد في الاسلام ..

بين منظومة الاستغلال والاجتهاد في الاسلام ..

الثابت في ديننا ان الاسلام بُـني اساسا على مقاصد تهدف لضمان المصلحة  العامة قبل الخاصة ، والاجتماعية قبل الفردية وهو ما يفسر ويبرر مبدأ الحلال والحرام في الاسلام .. لان الفساد يبدأ عادة في مستوى ضيق ، يشمل فردا او مجموعة افراد ثم يتـفـشى ويتـسع ليصبح ظاهرة اجتماعـية قد تصعـب مقاومتها عندما تتسع قاعدتها وتنتشر بين الناس ، فتسبب خراب المجتمعات .. لذلك يأتي التحريم على المستوى الفردي لمنع نشوء الظاهرة من اساسها .. والواقع فان الفقهاء والمجتهدين لم يختلفوا كثيرا في هذه النواحي على مـر العصور.. غير ان مغادرة هذه الارضية التي تاخذ بتلك النظرة الشمولية في علاقة الخاص بالعام ، يجعل الكثير من المجتهدبن قي عصرنا يغـلـّــبون أحكاما خاصة بالفرد على مصلحة المجموعة على غـرار مسألة الملكية  التي يعـتـرف فيها الاسلام بحرية التملك لكنه يجعل لها حدودا ، وهي ان تكون ملكية غـيـر مستغلة .. فمالذي  يدفع بعض الشيوخ لرفض الاشتراكية كنظام اقتصادي لمجرد الاعتقاد بانها وافدة  وملحدة  ؟
ان الحديث في مثل هذه المسألة يزيح الغطاء على الكثير من المسكوت عنه في ديننا . اذ ان المؤسف حقا هو ان العديد من رجال الدين  لا يعلمون ولا يفقهون  شيئا في الاقتصاد وعلومه  ، وتجاربه ..  في حين تجدهم أكثر الناس سخبا ولغطا في مسائل اظهر الواقع ذاته انها مصيرية وملحّة ، مثل العدالة الاجتماعية ومحاربة الاستغلال ..
 والواقع إن رفضهم يقوم منذ البداية على اساس الخلط الواضح بين مفهوم الاشتراكية والشيوعية من ناحية وبين الافكار الفلسفية الالحادية والنظم الاقتصادية التي لا علاقة لها بالكفـر والايمان .. فاذا كانت الاشتراكية ملحدة ، هل الاقطاع والرأسمالية منظومات واقعة في دائرة الايمان ؟ ألا يوجد اقطاعيين أو رأسماليين ملحديـن ؟
ان أكثر ما يحاول رجال الدين المعاصرين توظيفه لاسكات خصومهم  هو التأويل الخاطئ لآيات القرآن الكريم .. على غرار القول ان الاسلام هو البديل الذي يمكّـننا من استنباط كل الحلول دون حاجة للنظريات الوافدة  .. معتمدين على قول الله تعالى : ﴿ ما فرطنا في الكتاب من شيء ( الأنعام / 38 ) وقوله : ﴿ ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ( النحل / 89) .  والواقع فان مثل هذا القول يبين الخلط الشديد بين أمرين :
أولا ان النظم الاجتماعـية هي مسالة متغـيـرة ومتطورة حسب الظروف التي تتـغـيـر بدورها من عصر الى عصر لذلك ترك الاسلام فيها مجالا للاجتهاد ، ولم يذكر حلولا جاهزة تماشيا مع سنة التطور .. وثانيا فان هذا التأويل فوق ما تحتمله الآية ؟ فإذا كان الله سبحانه قد بين كل شئ في كتابه ، هل رجال الدين مؤهلون على طول  للوصول الى معـرفة كل شئ معـرفة يقـينـيـة جازمة ؟
يقولون أن الإسلام لا يسمح بمس حقوق الفرد في التملك والإرث ، وهو صحـيح . ولكن من غير الصحيح  القول بان النظام الاشتراكي يمس بتلك الحقوق الثابتة . لسبب بسيط هو أن الملكية ليست كلها مستغـلة .. وكل ما في الأمر أن بعض الملكيات الكبيرة التي تتسبّب في بناء علاقات قائمة على الاستغلال تخضع لضوابط تحدّدها  الخطط الاقتصادية التي توظف التملك لخدمة المجتمع وتوجّهه حتى لا يكون مستغلا  كما أمر بذلك الشرع من خلال تحريم الاستغلال ومنع الربا .. الم  يقل النبي صلى الله عليه وسلم ان ( الناس شركاء في ثلاثة : في الكلأ والماء والنار ) ، هل هذا  يعني ان يبقى الناس الى يوم الدين شركاء في هذه العناصر الثلاثة  فقط ، ام اننا ننزّل هذه الشراكة في واقعـنا ، و نقيس عليها ما يتفق مع ظروفنا وزماننا ، ومكاننا ..؟ الا يؤكدون على اهمية القياس ؟
ثم لنتأمل ما جاء في كتاب الله أولا  . قال تعالى : ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا   ( البقرة / 275 ) وقال تعالى : ﴿يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله و ذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين ) ( البقرة / 281 ) ، وقال : ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) ( النساء / 29 ) ، وقال : ﴿ وَلا تَأْكُلُوا أموالكم بينكم  بالباطل وتدلوا بها الى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالاثم وأنتم تعلمون ( البقرة / 188 ) ،  وقال : ﴿ واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فـيه وكانوا مجرمين ( هود / 116 ) ..
أليس النظام الاشتراكي  الذي يحارب كل هذه المظاهر الفاسدة التي حاربها الاسلا م ، وحرّمها ، اقرب الى  شريعة الله الداعـية الى العدل والمساواة وصيانة الحقوق الفردية والعامة  ، و اقرب الى  روح الدين ومقاصده التي لا تتبدل بتبدل النظم ؟ ثم هل دعى الاسلام الى النظام الرأسمالي ، او الإقطاعي وهي نظم الاستغـلال ، والاستبداد على مدى التاريخ ؟ لماذ الدفاع عن هذه النظم التي جلبت الكوارث للبشرية ، وخرّبت القيم وهي قائمة على المنفعة .. و الربح والاستغلال ..
ثم فلـنـنـظـر الى التوزيع العادل للفـئ في الآية الكريمة ، قال تعالى : ﴿ و ما أفاء الله عـلـى رسوله من أهـل القـرى فللّه و للرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين  وابن السبيل كي لا يكون دُولة بين الأغنياء منكم وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله ان الله شديد العقاب ) ( الحشر/ 7 )  .  فاذا كان ما جاء من الفئ مقسم بهذه الطريقة العادلة على كل المستحقين في المجتمع ، اليس ثروات الوطن التي يستأثر بها الخاصة أولى بهذا التقسيم ..؟
ان ما يجعـل امر الرفض يتحول الى التضليل هو أن رفض هؤلاء  للفكر الاشتراكي لا يقوم على اساس انه  اجـتهاد خاطئ ، بل على اساس انه فكر الحادي وافد ..  فلا يُـفـيـد المتعصبون المجتمع أو الديـن في شئ لانهم ينصرون أطرافا ونظما استغلالية حاربها الاسلام  .. وهم في الواقع يرفضون ما لا يفهمون ، فيحرّمونه  دون سند شرعي ..  قال تعالى : ﴿ ولاَ تقولوا لما تصف السنتكم الكذب هذا حلا وهذا حرام لتفتروا عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْـتـرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ( النحل  / 116 ) . يقول ابن كثير:  وَيَدْخُل فِي هَذَا كل من ابتدع بدعة ليس له فـيها مستـند شَرْعِـيّ أَوْ حَلَّـل شَيْـئًا مِمَّا حَرَّمَ اللَّه أَوْ حَرَّمَ شيئا مِمَّا أَبَاحَ اللَّه بِمُجَرَّدِ رَأْيه وَتَشَهِّـيه .. "

والله أعلم .

 ( القدس عدد 79 ) .  

مصر بين الامس و اليوم .

                              مصر بين الامس و اليوم .

لقد بدأت ثورة 23 يوليو بانقلاب عسكـري كان من الممكن ان يتحول الى واقع كالذي احدثته بقـية الانقلابات دون تغـييـر يذكـر ، لكنها على عكسها تماما قد استحقت ان تسمى ثورة ، للمضامين الانسانية التي صاغـتها نحو التحرر والوحدة  والعدالة الاجتماعـية ...  وهو ما يبرر استمرار اشعاعها بعد ستة عقود ، حيث ظلت صور جمال عبد الناصر الوحيدة في ميادين التحرير ..
والواقع فان فترة الخمسينات والستينات كانت فترة الانقلابات العسكرية بامتياز في جميع انحاء العالم .. الا ان العـبـرة  بالنسبة لعامة الناس لم تكن متعلقة باسلوب التغـييـر، بقدر ما كانت تخص المضامين التي تتحقق في الواقع .. وهكذا فان الحكم على أي ثورة يكون بما يتحقق من اضافة تكسر بها قيود كثيرة تكبل الناس ..

ولعل ما حدث في 30 يناير 2013 في مصرلم يصل بعد للحكم فيه على المضامين بقدر ما هو على الشكل الذي يجعل من الحدث ثورة حقـيقـية بكل المعايير المعـروفة في تاريخ البشرية .. الا ان تواصل هذا الحكم يكون رهينا بما يتحقق لاحقا .. ويكفي ان نعـرف ما تم رصده بواسطة الاقمار الصناعـية من تقديرات للمتظاهرين فاقت الثلاثين مليونا ، لنعـرف حقيقة الاشياء  فـنسميها باسمائها .. أما لماذا خرجت الجماهير بتلك الامواج البشرية بعد ان انتخبت رئيسها ، فان الشعوب عـندما تثور لا تسال لماذا ثارت ، والاجدى ان لا نلقي اللوم على الضحية ، بل نسال المسؤول لماذا لم يحقق المطلوب ؟ .. ثم ان القول بفكـرة الانقلاب العسكري هي ايضا تجانب الحقيقة لان ما هو معـروف في تاريخ الانقلابات العسكرية انها تفضي لحكم العسكر وهو ما لم يتم الى حد الآن .. اما الحديث عن الشرعـية بدون اسس منهجـية يصبح مغالطة ، اذ  الشرعـية ليست صكا على بياض ، بل هي  عقد لمنح ثقة مقابل  الالتزام بتحقيق اهداف الذين ضحو بارواحهم ، وبالتالي فان الحديث عن الشرعـية الانتخابية خارج وبمعـزل عن الشرعـية الثورية لا يفيد شيئا ، لان الناس الذين قاموا بالثورة لم يقوموا بها نزهة أو فسحة .. انها تضحـية انتهت يالدماء ، خاصة ان عامة الناس لم يجـنوا شيئا ، وهم المحرومين والبطالة والفقراء قي أحياء القاهرة وارياف مصر ، فالى متى نطالبهم بالانتظار ؟ ألم يكن أولى - لو صح هذا - ان ينتظر الشعـب من أسقطهم من قـبل ..؟ 

 ( القدس عدد 79 ) . 

الاثنين، 1 يوليو 2013

بعض الكلام عن العـروبة والإسلام .. (7) .

                  بعض الكلام عن العـروبة والإسلام .. (7) .


تبدو بعض فصول الصراع الدائر في الوطن العربي اليوم ، وكأنها تدور حول طبيعة المجتمع الذي نريده في القرن الواحد والعشرين ، هل هو مجتمع  العـروبة ، أم مجتمع الإسلام ؟  والواقع فان ما يثيره الجاهلون بالقومية والإسلام من معارك جانبية كانت ولا تزال سببا في تأخر العرب  والمسلمين على حد السواء ..  لان هؤلاء لم يفهموا الى حد الآن ان العـرب هم الذيـن بدأوا في نشر الإسلام إلى العالم منذ قرون قـبل أن يصيروا أمة .. وسيظـلون حاملين لواءه الى يوم القيامة .. ولعلهم لو كفوا عـن الجدل العقـيم حول العـروبة والإسلام ، لانـتهـى الأمر في هذه الأمة لما فـيه الخـيـر للعـرب والمسلمين .. فمن ذا الذي  سيأتي بعد توحيدها ليتحدث عن التجزئة والوحدة ان كانت عـربية أو إسلامية ؟ لا شك انه سيكون أمرا غـريبا و مثيرا  للسخرية في نفس الوقت .. في حين سيبقى العمل الإسلامي متواصلا دون انقطاع طالما ان الإسلام دين يتجاوز قيود الزمان والمكان ..
ورغم ذلك فان مواقف المشككين والمناهضين للوحدة العربية ، تقام في أغلب الاحيان على خلفية دينية ، يتزعمها بالاساس دعاة وشيوخ  لا يدخرون جهدا  في التهجم عليها ، والعمل على افشالها .. ثم يطـرحون بديلا عـنها فكرة الوحدة الإسلامية التي لا تستقيم دعوتها عندهم  الا وهي تقطر حقدا وكراهية لكل ماهو فكر وحدوي في الوطن العربي  .. وهي ـ على هذا الوجه ـ دعوة جاهلة وغـبية وفاشلة في أن واحد ..
وهي جاهلة ليس لأنها تدعو لوحدة المسلمين ، بل لانها تتجاهل العوامل الموضوعـية التي تساعد أو تعـيق الوحدة ، و لا تعطي اهتماما للأولويات .. اذ أننا حتى لو سلمنا بفكرة الوحدة الإسلامية فإننا لا يجب ان نرفض فكرة وحدة العـرب باعتبار أنهم مسلمون من ناحية ، ثم ان عوامل توحيدهم قائمة باعتبار العوامل النفسية واللغوية والحضارية من ناحـية ثانية ..
و هي غـبية  لان مناهضة الدعوة الى الوحدة القومية هي في الاصل دعوة مناهضة  لتقدم العـرب الذين يمكن أن يحققوا ـ بتقدمهم كأمة مسلمة موحدة ـ  خدمة كبيرة للإسلام كدين في مشارق الارض ومغاربها ..
ثم انها دعوة فاشلة لأنها ليست قائمة على أسس موضوعـية ، بل مبنية على فهم خاطئ للاسلام  وعلى ردود فعل انفعالية تجاه الفكـر القومي .. فهم لا يلتفـتون إلى حقـيقة الوجود القومي كواقع لم ينشأ اعتباطا أو عـبثا  .. وقد حاولت روسيا تجاهله من قـبل حين ضمّت أمما مختلفة وعمدت لتوحيدها قصرا ، فلم تفلح في إلغاء وجودها القومي رغم كل المحاولات  التي بُذلت ، لان ما صـنعه التاريخ وقوانين التطوّر والسنن الإلهية لن يتغـيّـر بالأمنيات أو بالرغـبات العاطفية البعـيدة كل البعد عـن أي أساس واقعي .. وقد كان ممكنا نجاح التجربة الروسية في توحيد قوميات مختلفة  لو جعلتها تتفاعل في ظـروف ملائمة تؤدّي الى القبول بالتعايش والانصهار التدريجي في ظل الديمقراطية والمساواة ..
ولعـل كل رجال الدين او اغلبهم يستـندون في  رفضهم على فهمهم للدين حتى وهم يجـتهدون في مسائل الدنيا .. على أساس أنهم العارفين وحدهم بكل جوانبه ،  من أول تاريخ الأديان ، إلى السيرة النبوية ،  وسيرة الصحابة ، الى كل الاصول والفروع المتعلقة بعلوم الدين .. بل هم من حفظ  القرآن والحديث   صحـيحه  وضعـيـفه .. وهم من عرف الأسانيد والطبقات ورجالها ،  كما عرفوا ما قاله التابعون وتابعو التابعـين ، واستوعبوا القياس والإجماع  الخ ... !!
فماذا ينقص هؤلاء الشيوخ المجتهدين بعد هذا إذن ؟
ما ينقصهم فعلا هو الموازنة بين علوم الدين وعلوم الدنيا ... اذ هم في الغالب يهتمون بعلوم الدين ولا يلتفتون الى عـلوم الدنيا ، فتاتي آراؤهم الدنوية في اغـلبها غـيـر صائبة ، وغـيـر موضوعـية ، وهذا في أفضل الحالات ، أي اذا سلـّـمنا قطعا بأن ما يقولونه في تلك الاجتهادات المتعـلّقة بالدين ترتقي فعلا الى مرتبة العلم ، وهي مسألة ثانية يطول فيها الحديث ..
أماّ من النواحي الدنوية ، فهم إذا ذُكر الوجود القومي  أنكروه واستـنكروه ، دون برهان علمي ، وإذا  ذُكـر الفكر القومي ، لا يعـرفون منه إلا ما رشح عن تجارب الاروبيين  ، أوما يروّجه السياسيون المعارضون للمشروع القومي .. وهم في الغالب أيضا ، يجهلون المراجعات ، والمفاهيم العميقة ، والاضافات الجوهـرية ، التي شهدها الفكر القومي خلال العـقود الأخيرة ... فتجدهم  إذا اجتهدوا في هذه النواحي ، يخلطون بين وضع الإنسان الاجتماعي حيث تربطه علاقات متداخلة لا حصر لها بمن يعيش معهم ، في وضع إنساني نشأ منذ آلاف السنين قـبل ان يأتي الى الوجود أيّ دين ، ثم لم يستقر على ما هو عليه ، بل انطلق الى الامام  في نمو واضافة ترتقي بالمجتمعات من طور الى طور دون توقف .. وبين الاسلام كدين أنشأ علاقات جديدة ذات أبعاد دينية واجتماعـية بعضها يقـتصر على المسلمين وبعضها الآخـر لا يقتصر عليهم وحدهم ..  فكانت كل مضامينه اغناء لحياتهم دون انتقاص لوجود سابق .. وقد كان للاسلام اثر خاص على كل البنى الاجتماعية الموجودة في عصر النبوة بين المحيط والخليج ، العشائرية منها ، والقبلية والشعوبية ، بعد ان أخذها جميعا ليجعلها تتطور كما لوكان يدفعها دفعا الى ذلك من خلال ما وفره لها من اسباب الاستقرار ، والتفاعل ، والتواصل ، والانصهار ، للانتقال بها جميعا الى مراحل أكثر نمو وأكثر ارتقاء تحولت عـندما نضجت ظـروفها الى أمة مكتملة التكوين  ... 
فهل هذا الوضع صنعه القوميون العرب الذين لم يظهـروا الى الوجود الا في مطلع القرن الماضي مع موجات الغـزو الاروبي ، وبالتوازي مع موجات التـتـريك ، أي بعد ان اكتمل الوجود القومي بالف عام تقريبا ، أم أنه واقع صنعه المسلمون الفاتحون فعلا ، عندما خرجوا حاملين لواء الاسلام  وتكـبّـدوا تلك التضحيات لنشر الدين ،  فوحّدوا شعوبا وقبائل لم تكن لتتـوحّـد تلقائيا وتتحول الى أمة واحدة لو لم يكن ذلك الجهد الخارق للمسلمين الاوائل  ؟
ألا يقولون بأن " العالم " إذا أراد أن يجـتهد في مسائل دينية مثل  الحلال  ،  و الحرام ، والميراث ، والبيع ، والشراء ، والمعاملات ، جميعا ،  عـليه ان يتسلح  أولا بعـلوم الديـن .. ؟              
بلا ..
ولكن هذه القاعدة معناها أيضا أن الاجتهاد  في أمور الدنيا  ، يلزمه التسلح بأسلحتها التي لا يكتمل الاجتهاد الا بحضورها في ذهن المجتهد  ، وخاصة إذا كان المجال يتعلق بمصير الأمم  ومستـقـبلها ..
 وهو ما يعـني ضرورة الإلمام بكل المعارف الدنيوية كالتاريخ  ، والفلسفة  ، والاقـتصاد ، وعلم الاجتماع  وكل فـروع العلوم الحديثة ومناهجها ... 
أما إذا كانت مسالة الإلمام بعلوم الدين والدنيا هي مسالة لا يقدر عليها  رجال الدين ، الا ينطبق عـليهم حينها قول الله تعالى : ﴿ فاسألوا أهل الذكـر إن كنتم لا  تعلمون ﴾  . إذ أن  في مسائل الدنيا  يصبح  أهل الذكـر هم المختصون في جميع هذه المجالات ، وهم المؤرّخون وعلماء الاجتماع ، والفلاسفة ، وعـلماء الاقـتصاد ، وغـيرهم كثير في جميع مجالات العلوم الدنوية .. 

 ( القدس عدد 78 ) .