بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 17 يناير 2020

ستبقى حيّاً في ذاكرة العرب يا ناصر / صبحي غندور .


ستبقى حيّاً في ذاكرة العرب يا ناصر ..
د.صبحي غندور .
خمسون عاماً تقريباً مرّت على وفاة جمال عبد الناصر، ورغم طيلة هذه الفترة الزمنية، فإنّ لهذا القائد العربي الكبير، الذي عايشته مصر والأمّة العربية في حقبتيْ الخمسينات والستّينات من القرن الماضي، محبّة خاصّة لم يشهد مثلها التاريخ العربي المعاصر. ومنتصف شهر يناير هذا العام هو الذكرى 102 لميلاد عبد الناصر الذي نجح، وهو في بدايات سنّ الثلاثينات، أن يقود تغييراً كبيراً في مصر وفي عموم المنطقة العربية. صحيح أنّ المصريين عرفوا ناصر كحاكم لحوالي 16 سنة جرت فيها الكثير من الإيجابيات والسلبيات كمحصّلة لتجربة حكم قامت على أسلوب "التجربة والخطأ"، لكن العرب غير المصريين نظروا إلى جمال عبد الناصر كقائد تحرّر قومي وملهم وداعم لثورات عربية تحرّرية في مشرق الأمّة ومغربها.    
ورغم مرور نصف قرنٍ من الزمن على غياب ناصر، فإنّه استمرّ حيّاً في ذاكرة معظم العرب الذين عاصروا فترة قيادته للأحداث العربية بحلوها ومُرّها. فيكفي لهؤلاء أنّ ناصر كان رمزاً لوحدة الهموم والآمال العربية، ولصرخة الكرامة والعدل والحرّية ضدّ الاستعباد والاستعمار والظلم والاستغلال. ويكفي شهادة لمقدار قيمة عبد الناصر ومحبّته في عموم المنطقة العربية ما حدث في مناسبتين: يوم استقالته بعد حرب 1967 (مظاهرات 9 و10 يونيو/حزيران)، ويوم وفاته في 28 سبتمبر/أيلول 1970، حيث خرجت ملايين من الجماهير العربية إلى الشوارع، من المحيط إلى الخليج، ومن دون دعوة من أيّ جهة، لتؤكّد تأييدها وحبّها الجارف لجمال عبد الناصر.
لكن المشكلة بثورة 23 يوليو التي قادها عبد الناصر أنّ ساحة حركتها وأهدافها كانت أكبر من حدود موقعها القانوني، أي مصر، وكانت قضاياها تمتدّ لكلّ الساحة العربية، وأيضا لمناطق أخرى في إفريقيا وآسيا، بينما هي دستورياً وقانونياً تتعلّق بمصر وحدها. وواقع الحال هو أنّ "ثورة يوليو" بدأت ثورةً مصرية فقط تتعامل مع جانب محلّي داخلي هو أساساً مبرّر حدوثها عام 1952 (المبادىء الستّة للثورة كانت كلّها محلّية مصرية)، ثمّ نضجت كثورة عربية، ثمّ ارتدّت إلى حدودها المصرية بعد وفاة ناصر.
كذلك من المهمّ النّظر إلى تجربة عبد الناصر في إطار الأوضاع التي كانت سائدة مصرياً وعربياً، وفي إطار الظروف الدولية التي كانت تهيمن على العالم كلّه (الحرب الباردة وصراع المعسكريْن)، وفي إطار طبيعة النظام السياسي في مصر الذي قام على "جبهة ضبّاط" وليس على تنظيم سياسي موحّد الانتماء والفكر والأهداف، علماً أنّ معظم "الضبّاط الأحرار" كان في مطلع الثلاثينات من العمر. فناصر قاد الثورة وله من العمر 34 سنة، وواجه أزمة السويس والعدوان الثلاثي وهو في عمر ال38 سنة، وكان رئيساً لمصر وسورية معاً وزعيماً عربياً ودولياً وهو في عمر الأربعين، ثم وافته المنية وهو في مطلع الخمسينات من عمره.
ويخطئ كثيرون حينما لا يميّزون المراحل في تاريخ التجربة الناصرية، أو حينما ينظرون إلى السياسة التي اتّبعها جمال عبد الناصر وكأنّها سياقٌ واحد امتدّ من عام 1952 حينما قامت ثورة 23 يوليو، إلى حين وفاة ناصر عام 1970.
فقد جعل عبد الناصر من هزيمة عام 1967 أرضاً صلبة لبناء وضعٍ عربيّ أفضل عموماً، وكرّس ذلك في قمّة الخرطوم التي شهدت توافقاً عربياً على كيفية استعادة الأراضي المحتلة وعلى دعم دول المواجهة مع إسرائيل، كما أشرف ناصر على إعادة بناء القوات المسلّحة المصرية وخاض حرب الاستنزاف ممّا مهّد الطريق أمام حرب عام 1973.
"عاش من أجل فلسطين ومات من أجلها"… كان هو الشعار الذي رفعه شعب فلسطين عقب وفاة جمال عبد الناصر عام 1970. ففي 28 أيلول/سبتمبر 1970، مات عبد الناصر بعد أيامٍ طويلة من الإرهاق والسهر المتواصل لوقف سيلان الدم العربي في شوارع الأردن آنذاك نتيجة الصراع بين الجيش الأردني والمنظمّات الفلسطينية، ومن خلال جهدٍ قام به ناصر لجمع القادة العرب في قمّة طارئة بالقاهرة.
وكان ناصر يردّد دائماً: "القدس والضفّة قبل سيناء، والجولان وغزّة قبل سيناء"، و"لا صلح ولا اعتراف بإسرائيل ما  لم تتحرّر كلّ الأراضي العربية المحتلّة عام 1967، وما لم يحصل الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة".
فعبد الناصر أدرك هدف حرب 1967 الذي أشار إليه وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك موشي ديان والرئيس الأميركي السابق جونسون، بضرورة تخلّي مصر عن دورها العربي، وإعادة سيناء لها مقابل ذلك، فرفض ناصر استعادة الأرض عن طريق عزلة مصر وتعطيل دورها العربي التاريخي. كما أدرك عبد الناصر  مخاطر الصراعات العربية/العربية التي كانت سائدة قبل حرب 67، فأوقف تدخّل الجيش المصري في اليمن وأقام "تحالف المدفع والنفط" الذي تأكّدت أهميّته في حرب عام 1973.
عبد الناصر أكّد بعد حرب عام 1967 حرصه على تعميق الوحدة الوطنية في كلّ بلدٍ عربي، وعلى رفض الصراعات العربية البينية التي تخدم العدوّ الإسرائيلي (كما فعل في تدخّله لوقف الصراع الداخلي في لبنان عام 1969 بعد صدامات الجيش اللبناني مع المنظّمات الفلسطينية)، فإذا بالأرض العربية بعد غيابه تتشقّق لتخرج من بين أوحالها مظاهر التفتّت الداخلي والصراعات المحليّة بأسماء مختلفة، ولتبدأ ظاهرة التآكل العربي الداخلي كمقدّمة لازمة لهدف السيطرة الخارجية والصهيونية.
نعم يا جمال عبد الناصر، فنحن نعيش الآن نتائج "الزمن الإسرائيلي" الذي جرى اعتماده بعد رحيلك المفاجئ عام 1970، ثمّ بعد الانقلاب الذي حدث على "زمن القومية العربية"، والذي كانت مصر تقوده في فترتيْ الخمسينات والستّينات من القرن الماضي. فاليوم يشهد معظم بلاد العرب "حوادث عنف تقسيمية" و"أحاديث طائفية ومذهبية وإثنية" لتفتيت الأوطان نفسها.. لا الهويّة العربية وحدها!.
هو "زمنٌ إسرائيلي" نعيشه الآن يا ناصر على مستوى العالم أيضاً. فعصر "كتلة عدم الانحياز لأحد المعسكرين الدوليين"، الذي كانت مصر رائدته، تحّول إلى عصر صراع "الشرق الإسلامي" مع "الغرب المسيحي"، بينما يستمرّ تهميش "الصراع العربي / الصهيوني"، وفي هاتين الحالتين،  المكاسب الإسرائيلية ضخمةٌ جداً!.
رحمك الله يا جمال عبد الناصر، فأنت رفضت إعطاء أي أفضلية لعائلتك وأولادك، لا في المدارس والجامعات ولا في الأعمال والحياة العامّة، فكيف بالسياسة والحكم!! وتوفّيت يا ناصر وزوجتك لم تكن تملك المنزل الذي كانت تعيش فيه، فكنتَ نموذجاً قيادياً عظيماً بينما ينخر الفساد الآن في معظم مؤسّسات الحكم بالعالم.
اليوم، نجد واقعاً عربياً مغايراً لما كان عليه العرب في أيامك يا ناصر.. فقد سقطت أولويّات المعركة مع إسرائيل وحلّت مكانها "المعاهدات" والمعارك العربية الداخلية. اليوم أُستبدلت "الهويّة العربية" بالهويّات الطائفية والمذهبية ولصالح الحروب والانقسامات الوطنية الداخلية. اليوم تزداد الصراعات العربية البينية بينما ينشط "التطبيع مع إسرائيل "!!.
اليوم، وجد البعض في المنطقة العربية الحلَّ بالعودة إلى "عصر الجاهلية" وصراعاتها القبلية، تحت أسماء وشعارات دينية!. وبعضٌ عربيٌّ آخر رأى "نموذجه" في الحلّ بعودة البلاد العربية إلى مرحلة ما قبل عصرك يا ناصر، أي العقود الأولى من القرن العشرين التي تميّزت بتحكّم وهيمنة الغرب على الشرق! فهكذا هو واقع حال العرب اليوم بعد غيابك يا عبد الناصر، ما يُقارب نصف قرن من الانحدار المتواصل!. لكن ما لم يتغيّر هو طبيعة التحدّيات المستمرّة على العرب منذ مائة سنة، هي عمر التوأمة والتزامن بين وعد بلفور وبين تفتيت المنطقة وتقسيمها لصالح القوى الكبرى.
ما يحدث الآن في البلاد العربية هو تأكيدٌ جديد على أهمّية إعادة قراءة "المشروع الناصري" الذي لم يمنحه القدر الفرصة الزمنية الكافية لإثبات جدارته. وهناك الكثير ممّا هو صالح للحاضر وللمستقبل معاً كخلاصات من تجربة وفكر جمال عبد الناصر، وما هو مهمٌّ للعرب الآن من ترشيدٍ فكري وسياسي. فلقد كانت ثورة ناصر حركة تغيير شعبية ترفض التغيير عن طريق العنف أو الصراع الطبقي، وتؤمن أنّ الشعب هو "تحالف قوى الشعب العاملة" المؤلفة من: العمّال، والفلاحين، والمثقّفين الوطنيين، والجنود، والرأسمالية الوطنية غير المستغلّة. وكان فكر جمال عبد الناصر مزيجاً من أساساتٍ فكرية شخصية عنده، عبّر عنها في مبادىء ثورة 23 يوليو وفي كتاب "فلسفة الثورة" وفي خطبه بالخمسينات، ثمّ تبلورت حصيلة التجربة والخطأ في إعداد "الميثاق  الوطني" وتقريره عام 1962.
ولقد تَعزّز وتَعمّق فكر جمال عبد الناصر (بدعوةٍ منه أصلاً للمثقّفين) من خلال كتاباتٍ عديدة ساهم بها مفكّرون عرب، ومن مصر تحديداً، لبلورةٍ أكثر عمقاً لما وضعه عبد الناصر من خلاصات أهداف وغايات للأمّة العربية:
  • حرّية بمعناها الشامل لحرّية الوطن ولحرّية المواطن.
  • حرّية المواطن التي تستوجب الجمع بين الحرّية السياسية والحرّية الاجتماعية.
  • العدل الاجتماعي الذي كان يُعبّر عنه كمطلبٍ باسم الإشتراكية.
  • الوحدة بمعناها الوطني الداخلي، وبمعناها العربي الشامل شرط الإجماع الشعبي عليها ورفض العنف كوسيلةٍ لتحقيقها.
  • الاستقلال القومي في مجال السياسة الخارجية ورفض التبعية الأجنبية.

وقد ارتبطت هذه الغايات لدى عبد الناصر بمسائل ثلاث:
- الأولى : من حيث نبذ العنف كوسيلة للتغيير الاجتماعي أو السياسي أو للعمل الوحدوي القومي.
-  الثانية : من حيث الاستناد الى العمق الحضاري الديني والدور الإيجابي للرسالات السماوية عموماً وللقيم الروحية في المجتمع.
-  الثالثة : من حيث مفهوم ناصر للدوائر الثلاث التي تنتمي إليها مصر: العربية والإفريقية والإسلامية، وبحالٍ من التفاعل والتكامل بين الوطنية والعروبة والانتماء الحضاري الإسلامي.
وفي مناسبة ذكرى ميلادك يا ناصر، ما زال شعب مصر وأمّته العربية يفتقدونك بينهم، ولديهم الحنين لماضٍ عاشوه في ظلّ قيادتك، لكنً الكتابة عنك ليست ابتعاداً عن الحاضر أو تجاهلاً للمستقبل أو مجرّد حنينٍ لماضٍ، بل هي دعوةٌ للاستفادة العربية والمصرية من نهجٍ "ناصري" واجه أزماتٍ وصراعات لعقدين من الزمن (1952-1970)، وما زالت هذه التحدّيات والصراعات تنخر في جسد الأمَّة العربية. وهاهي الأمّة العربية الآن تعاني من انعدام التضامن العربي ومن الانقسامات والصراعات، ومن هشاشة البناء الداخلي في معظم البلاد العربية مما سهّل ويسهّل الهيمنة الخارجية على بعض أوطانها.
مصر تغيّرت، والمنطقة العربية تغيّرت، والعالم بأسره شهد ويشهد في عموم المجالات متغيّراتٍ جذرية.. لكن رغم كلِّ تلك المتغيّرات تبقى يا ناصر في ذاكرة العرب بأنّك كنتَ رمزاً لحقبة زمنية عاش فيها الإنسان العربي مرفوع الرأس، حقبة الكرامة والعزّة والتوحّد.


السبت، 4 يناير 2020

"الثورات العربية" بين موقف القوى القومية والموقف من وجهة نظر قومية .

"الثورات العربية" بين موقف القوى القومية والموقف من وجهة نظر قومية .

الموقف من الثورات العربية يثير لغطا كبيرا منذ 2011 الى الآن الى درجة اننا صرنا نرى العديد من القوى التي لا يوجد في قاموسها السياسي كلمة واحد عن الثورة تتحدث اليوم باسهاب كبير عن هذا المنجز الجماهيري العظيم ، بل اننا لو رجعنا الى كل تاريخها السياسي منذ نشأتها لوجدناها مجرد قوى رجعية لا يتعدى هدفها المشاركة في السلطة ولو مع أعتى الانظمة استبدادا وتخلفا في الوطن العربي وأولها قوى الاسلام السياسي التي تحالفت تاريخيا مع كل انواع الأنظمة وقبلت مهادنتها من أجل السلطة ، وحتى بعض صراعاتها مع بعض الأنظمة لم تكن باي حال من الأحوال من أجل الثورة التي تخوضها القوى التقدمية عادة من أجل شعوبها ، وهذا ما لمسناه بوضوح بعد " ثورة " 17 ديسمبر في تونس حيث اتجهت حركة النهضة مباشرة بعد تسلمها السلطة اثر انتخبات 2011 الى اصدار قوانين العفو التشريعي العام التي وظفتها بالكامل من أجل التعويضات لأتباعها وعقدت الصلح مع جلاديها بتوقيع قانون المصالحة ثم تحالفت معهم لتشاركهم الحكم بنفس السياسات ونفس الخيارات التي انتهت صلاحيتها بقيام الثورة ، مؤكدة نظرتها السياسية الضيقة وطبيعتها الاصلاحية الغنائمية التي تحدّد هدفها المصلحي من المشاركة في الحكم .. وقد كان هذا واضحا منذ زمن من تجارب الاخوان المسلمين الذين كانوا أكثر القوى استعدادا للتنافس مع أكثر الأنظمة فسادا وجورا واستبدادا في جميع الدول العربية التي قبلت انظمتها بفسح المجال أمامهم لخوض الانتخابات والاكتفاء بتمثيل نسبي هش في العديد من الدول بعد فترة الثمانينات مثل المغرب والاردن والكويت ومصر والسودان .. حيث كانوا يتعايشون معها دون أي حرج وهم يساهمون في اضفاء الشرعية عليها وتبييض فسادها ، ولعلنا لا نكون مغالين حينما نقول انهم مستعدون لما هو اكثر سوءا من ذلك وقد شاهدنا احدى الفصائل الاخوانية تقبل بلعبة السياسة في ظل الاحتلال الأمريكي للعراق بعد الغزو في ظل دستور بريمر ..
وقد اختلط هذه الأيام التخبط الفكري والنفاق السياسي بالأكاذيب المغرضة والتشويه للحركة القومية ، حتى اصبحنا نسمع ان حفتر والسيسي محسوبين على القوى القومية .. ورغم ان بشار الاسد والشهيد معمر القذافي يحضيان بتأييد واسع من الشرائح القومية سواء على خلفية ما سمّي " بالربيع العربي " الذي دبر في هذين القطرين بتدخل سافر من القوى الخارجية أو قبل ذلك ، ولكنه من المؤكد انهما ليسا محل تأييد مطلق بخصوص كل السياسات الداخلية والمواقف المعلنة من جميع القضايا المطروحة على الساحة السياسية العربية والدولية ليس فقط في علاقة بالديمقراطية وحقوق الانسان ، بل حتى في جوانبها المتعلقة بالقضايا ذات الاهتمام المشترك بين القوميين انفسهم كقضية الوحدة والعلاقات العربية العربية والمحاور الدولية وغيرها من القضايا التي شهدت تذبذبا في المواقف من فترة الى أخرى بعضها أضر بالقضايا القومية أكثر مما أفادها .. وهذا يعني ان ترويج فكرة التاييد المطلق التي تحيل الى الفهم بان غاية القوى القومية هي تثبيت سياسات الأنظمة التي تنسب نفسها الى المرجعية القومية وتكرار فشلها وخيباتها وعجزها انما هو ليس من باب الجهل بالمواقف القومية فقط ، بل أيضا ـ وحينما يُحشر المشير خليفة حفتر عمدا ضمن المؤيًّدين ـ فهو من باب المغالطات والتضليل الذي يُستعمل أولا وأخيرا لتشويه الموقف القومي .. فما هو الموقف السليم للقوي القومية من الثورات العربية عموما وما هو الموقف من وجهة نظر قومية ؟
بداية فان المسألة تحتاج الى توضيح عام يهم الموقف القومي الذي شهد تبلورا ونضجا واضحا في أهداف الثورة العربية الشاملة وأدواتها منذ الستينات وما تلاها من مراجعات ، وصل الى حالة من الاجماع العام لدى جميع المرجعيات والفصائل القومية المعروفة على الساحة العربية تتلخص في ناحيتين مهمتين تكاد تكون كلاهما من الثوابت القومية للحركة القومية العربية الى حد الآن :
أولا : اهداف الثورة العربية : وهي بناء دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية ، التي تعبر عنها مختلف الفصائل القومية بشعار " الحرية والوحدة والاشتراكية " مهما كان الترتيب الذي عرف اجتهادات مختلفة حسب الأولويات التي يمكن ان تشهدها مراحل الثورة العربية الشاملة .
ثانيا : آداة الثورة العربية : وهو قيام ما عرف في ادبيات الفكر القومي بـ " الحركة العربية الواحدة " والتي تحضى باجماع عام تقريبا من جميع الفصائل والمرجعيات القومية بالرغم من وجود اختلافات في مستوى آلية البناء ومراحله في ظل التشتت التنظيمي الذي فرضه واقع التجزئة على الاقل من الناحية الموضوعية فضلا عن بعض النواحي الذاتية المتعلقة بالقوى القومية ذاتها .
اذا كان هذا مهما وواضحا فان تحديد مبرراته الواقعية تعتبر أكثر أهمية في حديثنا عن الواقع العربي وتقييمنا لآداء الحركة القومية على امتداد الساحة العربية منذ سقوط الخلافة العثمانية وما تلاها من فترات الاستعمار الى اليوم ، في واقع قومي قائم الذات يفتقر الى أي جهة رسمية تدافع عن وجوده ومصالحه وتتحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية كما يحددها دورها التاريخي مثل ما هو موجود في سائر الأمم : فمن ناحية اولى يعيش الوطن العربي حالة التجزئة التي فرضت غياب الدولة العربية المركزية المدافع الطبيعي عن المصالح القومية والمسؤول الوحيد عن التخطيط والفعل السياسي كطرف مسؤول يحاسب قوميا على سياساته وخياراته ، ومن ناحية ثانية غياب الحركة القومية الواحدة كطرف ثوري مسؤول أمام جماهيره على رسم السياسات العامة لتنظيم يفترض انه ثوري ، يبني التحالفات ، ويخوض المعارك السياسية والميدانية على المستوى القومي والدولي بثقل قومي وامكانيات قومية بكل ما يعنيه ذلك من اضافة للقدرات النضالية عكس ما تتيحه الامكانيات الاقليمية لتحقيق اهدافه القومية . بمعنى أن كل ما ينسب للحركة القومية أو لأي دولة تسمّى قومية نسبة لقيادتها في بعض الأقطار وفي بعض المراحل التاريخية من فشل انما هو منسوب لأطراف غائبة عن الساحة . فلا الدولة القومية المركزية وجدت ، ولا الحركة القومية الجماهيرية موجودة ..
الملاحظة الثانية التي لا تقل أهمية هو ان كل هذا الكم من الفشل يعتبر حجة على الاشكال النضالية الاقليمية التي يحذر منها الموقف القومي حتى وان كانت ممثلة في دول وأحزاب وقيادات ذات مرجعية قومية ، وليس على دولة الوحدة أو على الحركة القومية بتلك المعاني والمفاهيم والمضامين القومية الغائبة الى حد اللحظة ، فالمعارك التي خاضتها الانظمة القومية كلها معارك قطرية بامكانيات الدول الاقليمية ومؤسساتها التي تعمل لحساب الدولة القطرية طبقا لدساتيرها  وليس لحساب المصلحة القومية ، وهي معارك تُحسب فيها جل الحسابات لفائدة الدولة الاقليمية والمصلحة النظامية في السلطة على حساب المصلحة القومية ، وهو ما يجعل الموقف القومي دائما ضدها سواء لطبيعتها الاقليمية أو لانحرافها عن الأهداف القومية مهما كانت مرجعيتها ..
وأمام هذه الثنائية والتداخل في الأدوار بين القوى القومية كما هي موجودة في واقع التجزئة وبين الحركة العربية الواحدة كما يفترض أن تكون لتغيير ذلك الواقع  فان المسألة تحتاج الى توضيح خاص لبيان الفرق بين موقف القوى القومية  والموقف من وجهة نظر قومية من الثورات العربية :
الموقف من الثورات العربية من وجهة نظر قومية يعني الثورة العربية كما يجب ان تكون بالنسبة للقوى القومية حينما تشارك في الثورة أو تفجرها من موقع الطرف الفاعل حتى تصل الى أهدافها المعلنة : دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية عبر مسيرة طويلة ممثلة في تنظيم قومي واحد وقيادة واحدة واستراتيجيا واحدة ، فهو الذي يرسم سياساته بعيدا عن وصاية الدول الاقليمية ، ويبني تحالفاته ويختار اصدقائه وحلفائه ويحدد أعدائه ، فيحاسب على فشله أو نجاحاته .. 
أما موقف القوى القومية الحالية ممّا يسمّى " الثورات العربية " وهي تفتقد الفاعلية المطلوبة للتأثير المباشر في الأحداث الجارية التي تجبرها على اختيار تقاطعات وتحالفات قد لا تلقى اجماعا كاملا وهي تفتقد حاليا الى وحدة التنظيم ووحدة الممارسة الديمقراطية التي تحسم خلافاتها ، يفترض أن يتحدّد على ضوء طبيعة القوى النشيطة ميدانيا وأهدافها المستقبلية قياسا على المصلحة القومية من حيث نتائجها المحتومة كما يجري التخطيط لها في الواقع وليس استنادا الى ما ترفعه من شعارات أو ما تصرح به قياداتها ، فتخرج عن سياق الثورة كل القوى الغريبة عن الواقع المتدخلة من الخارج ، وكل القوى التي تستهدف تدمير الدولة والمجتمع وتغيير نسيجه ونمطه المجتمعي بالقوة الغاشمة على غرار ما وقع في سوريا وليبيا وبقطع النظر عن أي مسؤولية للسلطة ـ أي سلطة مستبدة ـ في اساليبها ومناوراتها ، اذ لا تنتظر القوى الثورية عادة من أنظمة الاستبداد غير ذلك الرد ، وفي هذه الحالة وحينما تتهدد المجتمع والدولة أخطارا خارجية تستهدف وجود المجتمع وتسيء للثورة ـ اذا تجاوزنا الخلاف حول المفاهيم ـ مثلما حدث في سوريا وليبيا تصبح من مسؤولية الثوار الحقيقيين تطهير الثورة مما يسيء اليها ويحرفها عن أهدافها النبيلة قبل استئناف عملها الثوري لتجنيب مجتمعها مخاطر الوقوع في مشكلات أكبر من مشاكل الاستبداد .. ومثل هذا الموقف الذي عبرت عنه أغلب الفصائل القومية ـ وبقطع النظر عن مواقفها من الأنظمة ـ يستند الى حقيقة علمية مهمة تقول بأن " الوجود شرط التطور " أي أن كل ما يهدّد المجتمع في وجوده يصبح ذا أولوية ، فوجود المجتمع وأمنه وسلامته مقدمة على مطالب الديمقراطية والحرية وغيرها من الشعارات ، وهذا ينطبق على أي حالة أخرى أينما وجدت في الساحة العربية ، فلو حدث مثل هذا في تونس قبل الثورة أو في قطر أو في السعودية وكلها أقطار يعارض القوميون أنظمتها بشدة ، لما تغير الموقف كثيرا بالنسبة للغالبية العظمى .. وهو ما يعني ان معارضة اسلوب التدخل في تغيير الأوضاع الداخلية للمجتمع مثلما حدث على يد حلف الناتو في ليبيا لا يعني بالضرورة مطلق المعارضة للثورة في أي قطر اذا كانت بوسائل شعبية صرفة مثلما حدث في تونس ومصر .. وواجب القوى القومية حينما تكون غير قادرة على قيادة الجماهير لبلوغ أهدافها ان تبحث عن التحالفات والتقاطعات المرحلية التي تستطيع من خلالها تحقيق الحد الأدنى الممكن بأخف الأضرار على السلم الاجتماعي والحفاظ على وحدة المجتمع وسلامته واستقلاله وتحقيق المكاسب الحقيقية في جوانبها السياسية والاقتصادية مع التركيز على أولوية الاشتباك مع الأعداء الاستراتيجيين للمشروع القومي ..
وفي النهاية فان مواقف القوى القومية اليوم وتقاطعاتها السياسية واساليبها النضالية وهي في المرحلة الأولى من البناء لآداة الثورة العربية الشاملة كما تراها القوى الصادقة منها ـ سواء كانت على هذا الموقف أو ضده ـ تعتبر بمثابة حالات الضرورة البعيدة كل البعد عن الاسلوب القومي كما يجب ان يكون ، فهي لا تمثل بأي صغة أو صفة كانت الموقف القومي من وجهة نظر قومية ، فلا الدول ولا الأنظمة ذات المرجعية القومية تمثل الدولة العربية المركزية ، ولا الفصائل المختلفة ، ولا القياداة تمثل الحركة القومية الواحدة .. وهو ما يجعل الموقف القومي القائم على الثوابت القومية وجماهيره المؤمنة بها في حل من تبعات أي فشل يصادف مسيرتها ، ويحملها المسؤولية الأخلاقية والقومية في تدارك العجز والجمود الذي يهدد وجودها ذاتهه أمام الأخطار المحدقة بالوجود القومي ، وهي تدرك منذ البداية ان الاقليمية فاشلة ، وأن المعارك القومية لا يتم فيها النصر الا بوسائل وامكانيات قومية .. 


القدس