بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

مشكلة الأحزاب .


مشكلة الاحزاب .


د.عصمت سيف الدولة .

 

الحزب ، مؤسسة جماهيرية ملتقية على رأي واحد في مشكلات التطور الاجتماعي وحلولها ( نظرية ) تعمل معاً ( منظمة ) من أجل تنفيذ رأيها (نظريتها) في الواقع الاجتماعي . ولما كان التنفيذ في مجتمع منظم ( دولة ) يتم عن طريق صياغة العلاقات الاجتماعية في قوانين عامة وملزمة تصدرها السلطة التشريعية وتنفذها ولو بالاكراه فإن غاية كل حزب ان يتولى السلطة ليترجم نظريته الى قانون . اما ممن يتكون الحزب فمن كل الذين يلتقون على نظريته ويلتزمون بها في الممارسة ويحتكمون اليها عند الاختلاف . وهو ما يعني ان الحزب مؤسسة جماهيرية ذات وجود مستقل عن أي عضو فيها . تلزمه عند الاختلاف رأيها أو تفصله . وما دامت ذات وجود مستقل عن أي عضو فيها فلا بد لها ـ لتبقى حزباً ـ من ان تكون ديموقراطية في نظامها الداخلي ، ينفذ رأي أغلبية اعضائها على رأي الاقلية عند الاحتكام الى النظرية . وإلا فإنها تتحول الى مؤسسة ” فرد ” او ” شلة ” فتفقد اول ما تفقد سمتها ” كقوة جماهيرية ” وتصبح جماهير في خدمة فرد او شلة . ولا يهم في الانتماء الى الحزب مصدر الوعي على صحة نظريته والالتزام بها . صحيح ان كل حزب يزعم ان نظريته تمثل الحل الصحيح المحدد موضوعياً للمشكلات الاجتماعية . ولكن الانتماء اليه لا يكفي فيه اتفاق مصلحة أي فرد مع نظريته ، إذ يتعين أولاً ان يعي هذا الفرد ذلك الاتفاق فيقبل النظرية والالتزام بها وينتمي الى حزبه . وعندما ينتمي تصبح مصلحته في تحقيق نظرية حزبه في الواقع الاجتماعي وعندئذ يلتقي على هذه ” المصلحة الواحدة ” مع كل الذين اكتشفوا في نظرية الحزب الحل الصحيح لمشكلات التطور الاجتماعي . وقد يضحون عندئذ بكل مصالحهم الشخصية او حتى بحياتهم من اجل ان تحل مشكلات مجتمعهم على الوجه الذي يعتقدون انه الحل الصحيح . والحزب المنظم على هذا الوجه قادر دائماً على ان يحجب عضويته عن الذين يطلبونها مخاتلة على اساس تقديره لمدى وعيهم الفكري أو صدقهم في الالتزام والمقدرة على الوفاء به ويدخل في تقديره ظروفهم الشخصية وما يؤثر فيهم ويتاثرون به من مصالح وعلاقات .

ويقال ويتردد ان كل حزب هو حزب ” طبقة ” . ويكاد هذا القول أن يكون مقبولاً حتى من الذين لايأخذون بالصراع الطبقي . وهو قول موروث من التراث الماركسي له في تاريخ الماركسية جذور تاريخية ، يوم أن كانت دعوة ” الطبقة ” العاملة الى الالتقاء في حزب سياسي دعوة مقابلة ومضادة لدعوة أخرى ترى اقتصار كفاح العمال ضد الرأسماليين على النشاط النقابي . وكأية مقولة تقطع من جذورها تفقد دلالتها الأصيلة وتصبح مباحة الاستعمال للدلالة على مفاهيم مختلفة أو لا تكون لها دلالة على الاطلاق . والقول بأن كل حزب هو حزب طبقة لا دلالة له . ذلك لأن الحزب كقوة جماهيرية منظمة ملتقية على نظرية في التطور الاجتماعي تعمل على تنفيذها في الواقع لا يمكن ولم يحدث قط ان كان الانتماء اليها مقصوراً على الذين يجمعهم موقع واحد من علاقات الانتاج . لم يحدث قط في التاريخ ، ولا يمكن أن يحدث ، ان وجد حزب يقصر عضويته على من يكون عاملاً أو على من يكون رأسمالياً ، وعندما توجد مثل تلك المؤسسة تصبح ” نقابة ” تلتقي على مشكلات العمل المهني الذي ينتمي اليه اعضاؤها وهي مشكلات اجتماعية ولكنها ليست مشكلة تطور المجتمع كله . ولا يؤثر في هذا ان تعمل النقابات بالسياسة إذ انها ستكتشف من خلال محاولة حل مشكلات العمل التأثير المتبادل بينها وبين المشكلات الاجتماعية الأخرى . إنما الذي يميز هويتها النقابية هو تركيبها البشري . اقتصاره على اصحاب مهنة واحدة وهذا ما لا وجود له في الأحزاب السياسية ، حتى لو كانت أحزاباً بدأت تاريخها كنقابات ( حزب العمال في انكلترا ) . وإن كان قد يحدث العكس فتقوم الاحزاب السياسية بإنشاء النقابات ( الحزب الوطني في مصر ) . كما لا يؤثر فيه ان تكون القاعدة العريضة من المنتمين الى الحزب يقومون بعمل واحد ( عمال أو فلاحين أو رأسماليين مثلاً ) وهو النموذج السائد في الأحزاب السياسية ، ولكنه لن يكون حزب طبقتهم ما دام الانتماء اليه مباحاً لكل من يلتزم نظريته بصرف النظر عن موقعه من علاقات الانتاج . ويبدو هذا واضحاً إذا لاحظنا أن قادة الاحزاب وكوادرها هي دائماً من المثقفين . والمثقفون ليسوا طبقة بل هم أفراد متميزون بثقافتهم بصرف النظر عن نوع العمل الذي يمارسونه . لهذا يقال أن كل حزب هو حزب ” طبقة ” لا من حيث تركيبه البشري ولكن من حيث نظريته ( ايدلوجية ) فلكل طبقة ايديولوجية والحزب الذي يلتقي على تلك الايديولوجية ويناضل من اجلها هو حزب طبقتها بصرف النظر عن تركيبه البشري . ويقدمون هذا تبريراً لكون التركيب البشري لأحزاب الطبقة العاملة ، أي للأحزاب التي تلتزم ايديولوجية الطبقة العاملة ، تنتمي اليه وتقوده عناصر من غير العاملين .

ويتوقف الرأي في كل هذا على الموقف من نظرية الطبقات والصراع الطبقي . وقد سبق ان عرضنا رأياً فيها ( فقرة 28 ) ففرقنا فيه بين المواقف على أساس موقف كل واحد من الحل الصحيح المحدد موضوعياً بالواقع الاجتماعي ذاته . وهو حل واحد . وقلنا أن مواقف القوى من هذا الحل لا تستوي فالرجعيون يدافعون عن مصالحهم الخاصة ضد الحل التقدمي الصحيح ولكن التقدميين الملتقين على الحل التقدمي الصحيح لمشكلات التطور لا يناضلون من أجل مصالحهم الخاصة فقط بل يناضلون من أجل تقدم مجتمعهم كله بما فيه هم ، ولكن بما فيه كثيرون آخرون لا يشاركونهم مواقعهم المهنية وقد لا يشاركونهم الرأي أوالنضال . انهم طليعة الشعب كله في حركة تطويره ضد القوى الرجعية التي تقف عقبة في سبيل تطويره . وعندما ينتصرون لا ينتصرون لأنفسهم بل للشعب كله . والذي يحدث في مجتمع معين في مرحلة تاريخية معينة في ظروف اجتماعية معينة أن يدور الصراع بين التقدميين من ناحية وبين القوى الرجعية حول أكثر المشكلات حدة فيبدو كما لو كان الذين تمسهم المشكلات مباشرة هم وحدهم أصحاب المصلحة في حلها التقدمي ، وان هذا الحل هو ” ايديولوجيتهم ” الخاصة ( الطبقة ) . ولكن الصراع لا يلبث أن يكشف العلاقة الموضوعية والتأثير المتبادل بين تلك المشكلات الحادة وباقي المشكلات الاجتماعية فيستقطب الصراع قوى اخرى فإذا بالفرز قائم على أساس الصراع بين الرجعيين والتقدميين . أي يكتشف الناس في المجتمع ان ما كان يبدو ” ايديولوجية ” قطاع مهني محدود قد كانت منذ البداية الايديولجية الصحيحة لتقدم المجتمع كله . وعندما يكون هذا متجسداً في قوى جماهيرية منظمة ( احزاب ) ينفضح زيف المقولة الاولى ” ان كل حزب هو حزب طبقة ” لأن التقدميين جميعاً ، أياً كانت مواقعهم المهنية ، سيلتقون في الحزب التقدمي ويلتزمون نظريته معبرين بذلك عن كونه حزبهم وكونها نظريتهم بالرغم من اختلاف مهنهم . والاحزاب الاشتراكية في كل العالم نماذج نقية لهذا الذي نقول . حينئذ يصبح التمسك بالكلمة الكبيرة المركبة ” ان كل حزب هو حزب طبقة ” ليس الا تخريباً معوقاً للنضال التقدمي ، لأن تجسده ” العيني ” في الواقع هو تقسيم القوى الملتقية على نظرية واحدة في التطور الاجتماعي ، والملتزمة بتحقيقها في الواقع ، الى اقسام داخلية ، تمهيداً للزعم بان تلك النظرية هي نظرية قسم بعينه دون الآخرين ، وان النضال من اجل تحقيقها في الواقع الاجتماعي هو ” بالدرجة الاولى ” لمصلحة ذلك القسم ، وبالتالي يجب ان تكون له القيادة ، فلا يؤدي إلا إلى اضعاف وحدة النضال واختلاف تناقضات لا يمكن ان توجد بين الذين يلتقون على نظرية واحدة في مشكلات التطور الاجتماعي ويلتزمون بها . وقد تنشأ تناقضات في مرحلة تاريخية لاحقة ، ويؤدي هذا الى الاختلاف بعد الاتفاق ، فيبقى في الحزب من يبقى ويخرج من يخرج ، وقد ينشق الحزب ذاته الى حزبين او اكثر ، ولكن ما دام الحزب قائماً فهو حزب المنتمين اليه ( من حيث تركيبه البشري ) وهو إما حزب تقدمي فهو حزب الشعب كله ( من حيث ايديولوجيته ) وإما حزب رجعي فهو حزب أصحابه . وفي جميع الحالات لا يكون حزباً إذا كان مقصوراً على من يجمعهم موقف واحد من علاقات العمل ( طبقة ) ، وعندما يكون كذلك يكون ” نقابة ” ولو أسمى ذاته حزباً . وستكون النقابة دائماً أقل مقدرة من الحزب على حل المشكلات الاجتماعية ، بما فيها مشكلات المنتمين اليها ، فهي لا تغني عنه .

هذا هو الحزب .

وعندما تختلف ” القوى الجماهيرية ” المنظمة على هذا الوجه في نظرياتها التي تلتقي عليها وتلتزم بها وتحتكم اليها تتعدد الاحزاب في المجتمع الواحد . وبالتالي تتعدد قيادات حركة التطور الاجتماعي ، ويعوق هذا التعدد مقدرة كل منها على قيادة حركة التطور . هل معنى هذا ان الحزب الواحد ” أفضل ” من تعدد الأحزاب ؟ .

هذا سؤال متردد ولكنه سؤال سخيف . لأن الأحزاب لا تصطنع بل يفرزها الواقع الاجتماعي كما هو . ان كان الشعب مختلفاً في مشكلات التطور الاجتماعي وحلولها الى فريقين ، أو ثلاثة ، أو حتى مائة ، ولكل فريق نظرية متميزة يلتقي عليها ويلتزم بها ويحتكم اليها فهو حزبان او ثلاثة أو حتى مائة . ان هذا لن يدل إلا على ان الواقع الاجتماعي بالغ التخلف ، وقد تكون تلك مأساة ، ولكن الخروج من المأساة لا يكون بإنكارها بل يكون بتغيرها طبقاً للقوانين التي تحكم حركة المجتمعات . هذا مع معرفتنا انه ” ما دام الواقع الاجتماعي محدداً موضوعياً ... فإن الحل الصحيح لأية مشكلة محدد موضوعياً … مؤدى هذا ان كل مشكلة اجتماعية لها حقيقة واحدة مهما اختلف فهم الناس لها وبصرف النظر عن مدى ادراك صاحبها لحقيقتها . وان أية مشكلة اجتماعية ليس لها إلا حل صحيح واحد في واقع اجتماعي معين في وقت معين ” ( فقرة 18 ) . معنى هذا انه مهما تعددت الاحزاب ونظرياتها فإنها اما ان تكون كلها خاطئة ، واما أن يكون من بينها حزب واحد تتفق نظريته مع الحل الصحيح للمشكلات الاجتماعية . ولا يمكن ان تكون جميعاً احزاباً صحيحة النظريات . لا تصح في أي مجتمع الا نظرية واحدة لتطويره وبالتالي لا ينجح في تطويره إلا حزب واحد . ولكن المسألة هي : أي الاحزاب ملتق على النظرية الصحيحة . لو وجهنا هذا السؤال الى حزب لقال أنا . وإذا لم لم يقل ذلك فإنه حزب المنافقين . إذ يستحيل على غير المنافقين أن يقولوا ان رأيهم صحيح وان الرأي المخالف صحيح أيضاً . كل حزب اذن لابد من أن يكون مقتنعاً ، بل مؤمناً ، بأن نظريته صحيحة ، وانها النظرية الصحيحة الوحيدة ، وان الاحزاب الأخرى لا تفعل شيئاً إلا حرمان المجتمع من الحلول الصحيحة التي تتضمنها نظريته وان يكون أحد أهدافه الاساسية تصفية الاحزاب الأخرى ليصبح هو الحزب الوحيد . كل حزب إذن هو من انصار الحزب الواحد . وكل حزب لا يكف عن محاولة الغاء وجود الاحزاب الأخرى ، وإنما تختلف الاساليب تبعاً لقوة كل حزب وللظروف الاجتماعية التي ينشط فيها ، فإما ان يقبل المباراة الديموقراطية بقصد الغاء وجود الاحزاب الأخرى عن طريق امتصاص الناس فيها ، واما بالعنف . وسنتحدث عن هذا فيما بعد ) فقرة 72 )  .

إنما الذي نريد ان نستطرد اليه هنا هو الدفاع عن الاحزاب والحزبية ضد مواقف ” مثالية ” قائمة في الوطن العربي على أساس التمجيد المطلق أو الادانة المطلقة . وهي مثالية لأنها تمجد أو تدين بدون اجابة عن ، أية أحزاب ؟ ومتى ؟ وأين ؟ ولماذا ؟ … تلك الاسئلة التي تعلمنا من جدل الانسان ألا نفهم شيئاً أو نقيّمه أو نأخذ منه موقفاً الا بعد أن نجيب عليها .

فالغريب في الوطن العربي ، وكم في الوطن العربي من غرائب ، إن ” المنظمات الجماهيرية ” تملأ الأرض وتنشط نشاطاً جماعياً من أجل غايات تافهة أو حتى مشبوهة فلا يكاد أي حزب في الوطن العربي أن يبلغ في انضباطه التنظيمي وسعة انتشاره ” المنظمة الماسونية ” . ولا احد يتهم أو يدين العمل الجماعي المنظم وفي الوطن العربي آلاف من ” المنظمات الجماهيرية ” تنشط نشاطاً جماعياً في المجالات الرياضية ، والثقافية ، والشبابية ، والطلابية ، والنسائية . ولا أحد يتهم أو يدين العمل الجماعي المنظم . هذا مع ان كل هذا النشاط الجماعي المنظم يؤثر بقوة في حركة التطور الاجتماعي سلبياً أو ايجابياً . فهو نشاط تتعدى آثاره مصالح النشطين فيه . وهو مقبول لأنه ” الاسلوب العلمي ” للقضاء على مرض الفردية وممارسة النشاط الاجتماعي . فإذا ما تجاوز العمل الجماعي المنظم تلك الغايات المحدودة ليقوم على غايات شاملة المجتمع كله ( سياسية ) تتصل بتطوره ونظام تطويره نفزع ونجزع ونتهمه بكل تهمة لأنه عندئذ ” حزب ” .

وتحت تأثير هذا الفزع يكاد الفكر العربي يقف مشلولاً من خوف الحديث عن مشكلة الاحزاب والحزبية . وقد بلغ الخوف حد خداع النفس . ففي الوطن العربي تمجيد انشائي دعائي ” للنضال الجماهيري ” لا يتضمن كلمة دفاع عن الحزبية . وفي الوطن العربي زحام من ” المنظمات الجماهيرية ” السياسية تخاف أن تقول انها احزاب فتسمي نفسها حركات أو جبهات أو منظمات .. الخ . ولا شك أن لهذا الخوف أسباباً تاريخية . اذ أن الحزبية في الوطن العربي قد اقترنت غالباً بالفشل . ان الاحزاب ” سيئة السمعة ” فلا يريد أحد أن يسيء الى ” منظمته ” فيسميها حزباً ان تكن جبهة أفضل مع انه من بين كل الذين يسمون أنفسهم جبهة الآن ( يونيو . حزيران . 1970 ) لا توجد جبهة واحدة . ومع أن كلمة ” حزب ” هي الكلمة العربية الاصيلة التي تدل دلالة صحيحة على ما تدعيه لنفسها تلك المنظمات إن صدقت فيما تدعي . ومع أن ” الاحزاب ” تملأ العالم بدون أن تجد في اسمها سبباً للخوف أو للتشاؤم . ومع أن الذين أسموا أنفسهم حركات أو جبهات أو منظمات في الوطن العربي لم يكونوا أكثر توفيقاً من الاحزاب الفاشلة . إن دل كل هذا على شيء فعلى أن الفكر العربي لم يتجاوز بعد مرحلة طفولته فهو يخاف من الحقائق أو يتشاءم . والواقع أن كل جماعة منظمة تزعم انها ملتقية على غاية سياسية ملتزمة بتحقيقها وتعمل من اجل تحقيقها هي ” حزب ” أياً ما كان الاسم الذي تطلقه على نفسها ، ومهما كان عددها . ولما كان تطوير المجتمع المنظم في دولة يتم عن طريق صياغة العلاقات الاجتماعية فيه بقوانين عامة وملزمة تصدرها وتنفذها السلطة ، فإن غاية كل حزب أن يصل الى الحكم في الدولة ليستطيع ان يترجم غايته الاجتماعية عن طريق التشريع الى واقع اجتماعي ، مهما يكن نصيبه من الأمل في أن يصل الى الحكم . وليس في هذا ما يسيء الى أحد . نريد ان نقول ان محاولة الاحزاب تحقيق غاياتها الاجتماعية عن طريق تولي السلطة ليست تهمة فكرية أو سياسية أو اخلاقية . إنما التهمة الحقيقية هي ” النفاق ” الذي يزعم به أي ” حزب ” ( ولو أنكر اسمه ) انه منظم من اجل تحقيق غاية سياسية ولكنه ” يعف ” عن طلب الحكم لتحقيقها . انها الثعالب التي لم تدرك العنب فزعمت انه فاسد . وابعد ما يكون عن الامانة الفكرية أو السياسية أو الاخلاقية أن يتصدى الذين لا يملكون إلا أفكارهم الخاصة التي لا يشاركهم فيها احد ، العاجزون ـ بالتالي ـ عن أن ينتظموا في حزب ، لإدانة الاحزاب والحزبية بحجة انها تسعى الى ” الحكم ” .  أولئك هم ” المستقلون ” . المستقلون بذواتهم عن الشعب . الذين يعرضون انفسهم عرضاً دائماً ، تحت لافتات شهاداتهم ” العالية ” ، وفي سوق عدم الالتزام بغاية اجتماعية ، ليكونوا خدماً لأي حاكم يشتري كفاءاتهم ” ، منفذين أية غاية تستهدفها اية حكومة . وينتقلون من سيد الى سيد ، ومن مبدأ إلى مبدأ ، طليقين من أي التزام فكري أو سياسي ، بعيداً عن ” الاحزاب ” التي كانت كفيلة بأن تلزمهم ـ أمام الشعب ـ موقفاً محدداً فكرياً وسياسياً فتعلمهم كيف تكون مسؤولية الحكم . وعندما يصلون الى مقاعد الحكم يدينون الاحزاب لأنها تسعى الى الحكم .  وهي نكتة .

ان ” السمعة السيئة ” التي اقترنت بالأحزاب في التاريخ العربي الحديث لم يكن مرجعها الى انها كانت ” احزاباً ” بل كان مرجعها ـ قبل كل شيء ـ الى انها لم تكن ” أحزاباً ” . كانت تجمعات جماهيرية غير منظمة داخلياً حول قيادات غير ملتزمة فكرياً التقت في ملعب السياسة من اجل الاستيلاء على الحكم ” لتوزيع ” الغنائم أو لتؤجر نفسها رديفاً لمن يستزلي عليه في مقابل بعض ما يغنم . تردد الشعارات البراقة وتلوك الكلمات الكبيرة وتلفق الافكار وتتحدث عن الجماهير كثيراً بدون أن تعرف الجماهير من كل ما تقول ما الذي ستفعله على وجه التحديد فيما لو وصلت الى الحكم . كيف ـ على وجه التحديد ـ تترجم افكارها العامة الى قوانين محددة . وما هي ضمانات تنفيذ ما تقول . ان العمل والضمان منوطان بأشخاص القيادة الواعية ، الصلبة ، المخلصة ، المؤمنة … الى آخر هذا الكلام الرخيص المباح لكل قادر على الكلام . وهي قيادات لم تخترها قواعدها بل هي التي اختارتهم . وهي قواعد لا تملك من أمرها إلا حق الطاعة . وهم جميعاً لا يملكون ما يحتمون اليه فيما بينهم إلا ” الزعيم ” الذي يحكم على كل منهم بقدر إخلاصه لشخصه العظيم . تلك هي التي أسماها أصحابها أحزاباً ، كما ينشئونها يحلونها ثم يعيدون انشاءها مرة أخرى . وتنتقل شعاراتها من النقيض الى النقيض اذا انقض واحد على واحد فتغيرت القيادة ، أو إذا وقعت قيادتها ” العبقرية ” على كتاب حديث ، أو اهتدت الى ممول مليء ، أو رضي عنها حاكم قوي ، أو واجهت ” الفضيحة ” التي تستحقها . فعّن لها ـ بعيداً بعيداً عن القواعد ـ أن تغير أفكارها أو اصدقاءها أو حلفاءها أو موقفها من النقيض الى النقيض ، وتخفي سوءتها بشعار أكبر . وتنشق القواعد وتتمزق كلما انشقت وتمزقت ” الشلة ” التي أسمت نفسها قيادة لأنهم جميعاً ليسوا إلا شلة كبيرة أو صغيرة . لا يهم المهم أنهم ليسوا حزباً . فهل من اجل تلك ” البثور” المرضية التي انتشرت على جسم الأمة العربية الحي تدان الأحزاب والحزبية ؟ .

ثم أن الوطن العربي عرف في تاريخه الحديث أسوأ انواع الأحزاب لأنه عرف الأحزاب الليبرالية . وكل التهم التي تدان بها الحزبية : التضليل والمناورة والخداع وطلب الحكم بأي ثمن .. الخ هي قواعد لعبة الأحزاب الليبرالية . إذ كيف يمكن أن يصل الحزب الليبرالي الحكم إلا عن طريق ” المنافسة الحرة ” التي هي قانون التطور ” الطبيعي ” الذي يقدسه الليبراليون ؟ .. وكيف يقوم حزب ليبرالي على مبدأ في حين أن مبدأه أن يربح سباق المنافسة الحرة الى ” الحكم ” الذي يمثل في سوق السياسة ” الربح ” الذي من اجله يتنافسون في سوق التجارة ؟ يكفي ان نتأمل الحزب الليبرالي لنعرف كيف أنه مؤسسة جماهيرية منظمة لتكذب حتى تربح . تكذب على نفسها وتكذب على الشعب لتربح الحكم . فالحزب الليبرالي يدخل لعبة السياسة ” بقائمة ” من الوعود يقدمها الى الشعب حلاً لمشكلاته الاجتماعية . ويطلب من الشعب أن يختاره لتولي السلطة حتى يستطيع ان يحقق ما وعد . ولكنه ـ من حيث هو ليبرالي ـ يكون مبدأه ( نظريته ) عدم تدخل السلطة في النشاط الفردي وترك كل واحد من الشعب يحل مشكلاته الخاصة كيفما يريد وبقدر ما يستطيع . و ” البقاء للأصلح ” . أي أن الحزب الليبرالي ـ بحكم نظريته ـ لا يملك إلا ان يعد الشعب بعدم التدخل في شؤونه الاجتماعية فيما لو وصل الى مقاعد الحكم . وهو إذ يعد بأكثر من عدم التدخل لا يفعل إلا أن يكذب . يكذب على نفسه لأنه يعد بما لا يتفق مع مبادئه . ويكذب على الشعب لأنه يعد بما ينوي الوفاء به . وعندما تتم اللعبة ويصل الى الحكم تكون الوعود الكاذبة قد أدت غايتها فانقضت فينساها الى ان يعد بشيء جديد في جولة جديدة . أما الحزب الليبرالي من الداخل فمؤسسة من أفراد غير ملتزمين إلا بالاحترام المتبادل لآرائهم الفردية . ان التزامهم بتحقيق غاية اجتماعية موضوعية يلتقون عليها ويحتكمون اليها مستحيل . لأن الحزب من حيث هو ليبرالي لا بد له من ان يحتكم ، أو يترك الحكم ، في أي خلاف بين أعضائه للقواعد الخالدة المستقرة في ضمائر هؤلاء الاعضاء بحكم القانون الطبيعي الذي يقود خطا الأفراد بدون أن يدروا . فإن تدخل الحزب لإلزام بعض أعضائه غاية اجتماعية يكون قد ” مس ” الحرية الفردية المقدسة واهدر حق المعارضة ” المقدس ” . ومن هنا لا يقوم الحزب الليبرالي ولا يبقى إلا بذلك القدر الذي يصل اليه ” التلفيق ” بين الآراء الفردية المختلفة داخله . وإلا ، أنشق ثم أنشق ثم انفرط ليعود افراداً ليبراليين حقاً . وهو لا ينشق عادة . بل ان الحزب الليبرالي من أكثر الأحزاب تماسكاً . ذلك لأن الخلاف العقائدي داخله غير محتمل بحكم المذهب الفردي الذي يقوم عليه . ولأن الانضمام الى الحزب والبقاء فيه لا يتضمن التزاماً بشيء ـ بعد دفع الاشتراك المالي ـ سوى الوصول بالحزب الى مقاعد الحكم . ولأن الخروج عليه ضياع لفرصة المشاركة في غنائمه . ولما كان الوصول الى الحكم هو الهدف الأول والأخير المطلوب لذاته ، وفي هذا يتفق كل الليبراليون ، فإن الخروج على الأحزاب الليبرالية يبدأ بعد خروجه من الحكم ، ولكنه لا يلبث ان يعوض الخارجين أضعافاً من الذين يتزاحمون على عضويته أملاً في أن يصيبوا شيئاً من وراء عضويته وهو في الحكم ( وظائف حكومية عادة ) . ويسمح كل هذا الفراغ العقائدي بأن يعيش الحزب الليبرالي طويلاً كما يسمح بأن تتحول قيادته إلى ” زعامة ” فردية ، يعوضون استحالة الالتقاء الفكري بالالتقاء حول الزعيم ويقدمون ” الزعيم ” بديلاً عن النظرية . فيصبح الحزب الليبرالي ـ في الواقع ـ حزب القيادة فرداً كان أو جماعة من الأفراد . تلك هي الاحزاب الليبرالية . انها مؤسسات شكلية . ان تكن غير ذات مباديء اجتماعية فلأن مبادئها الليبرالية تلزمها بألا تكون ذات مباديء . ليس العيب اذن في الأحزاب والحزبية بل العيب في الليبرالية . فهل من أجل الأحزاب الليبرالية تدان الأحزاب والحزبية ؟ .

من الذي يستطيع أن يحول بين الناس وبين ان يتجمعوا في ” أحزاب ” ذات غايات اجتماعية تريد ان تحققها في المجتمع ؟ … من الذي يدينها بانها أسلوب فاشل في الممارسة السياسية ؟ … انه حزب آخر . انهم جماعة كبيرة او صغيرة منظمة ملتقية على غاية اجتماعية وملتزمة تحقيقها وتحتكم اليها فيما بينها عندما تختلف ، حتى لو كانت هذه الغاية هي الغاء الاحزاب . جماعة من الناس يرون الغاء الاحزاب لأن الحزبية اسلوب ” فاشل ” في الممارسة السياسية يجدون ان ” أنجح ” اسلوب يحقق غايتهم هو ان يلتقوا في حزب ، التناقض واضح . لأن نجاحهم ذاته يقدم دليلاً منهم أنفسهم على أن ” الحزب ” هو أفضل أداة لتحقيق الغايات الاجتماعية .

اذن ،

ففي أي مجتمع يختلف الناس حول مشكلات التطور الاجتماعي ، وهو واقع يكتشف ولكن لا يصطنع ، وعندما يكتشف لا يجدي تجاهله شيئاً ، ستتكون من الشعب جماعات ملتقية على رأي موحد في حل مشكلات محدودة او على رأي موحد في حل مشكلات التطور الاجتماعي عامة . وعندما نلتقي ” تصبح قوى جماهيرية ” مفرزة عن غيرها بما التقت عليه . وستنشط في تحقيق ما تريد لا يستطيع احد ان يمنعها ، وإنما تختلف وسائل نشاطها تبعاً للظروف التي تنشط فيها . والقوى الجماهيرية المنظمة من اجل حل مشكلات التطور الاجتماعي عامة ، طبقاً لنظرية تلتقي عليها وتلتزم بها وتحتكم اليها ، هي ” الاحزاب ” . وفي مواجهة السلبية الفردية بالنسبة الى العمل الجماعي تقوم الاحزاب بقيادة حركة الجدل الاجتماعي وتتوقف على مدى نشاطها تحقيق الحلول التي تراها لمشكلات التطور .

ومن هنا فإن قيمتها الاجتماعية تتوقف على مدى ما يتوافر في كل حزب من مقدرة على تحقيق الحلول الصحيحة لمشكلات التطور الاجتماعي كما هي محددة موضوعياً بواقع اجتماعي معين في مرحلة تاريخية معينة . وهي مقدرة تتوقف على أمرين : أولهما مدى صحة نظريته والثاني مدى ملاءمة تكوينه لاداء ما تلزمه به النظرية . الأول بمعنى ان يكون حزباً تقدمياً والثاني يعني أن يكون تكوينه متفقاً مع الوجود الموضوعي لمجتمعه  

 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق