بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 29 يونيو 2016

سيف الدولة .. وأزمة المنهج في الفكر العربي ..

سيف الدولة .. وأزمة المنهج في الفكر العربي  ..
موفق زريق .

إن أهم ما يميز المشروع الفكري لمفكرنا وأستاذنا الدكتور عصمت سيف الدولة – طيب الله ثراه وأسكنه فسيح جناته – هي تلك النقلة / القطيعة المعرفية ( الأبيستمولوجية ) التي أحدثها فـــي مسار تطور الفكر العربي وبكل اتجاهاته في النصف الثاني من القرن المنصرم .. وهي نقلة / قطيعة لا تتعلق بمضامين ومحتوى هذا الفكر وحسب بل أساساً وبشكل رئيسي بنمط الآليات و الأدوات أو الأساليب التي تتحكم في عملية توليد هذا الفكر و تطوره أو ما يسمى اكاديمــيا (الأبيستمولوجيا ) أو علم نظرية المعرفة .. وهو العلم الذي يعنى باكتشاف ووضع أدق القواعد والضوابط المنهجية التي في حال التزامها نضمن الوصول إلى أفضل ما يمكن من معرفة "الحقيقة" أو ما تسميه الأديان " الحق" وهو من أخطر العلوم المعاصرة وأهمها على الإطلاق لأنه يعنى بأدوات أو مناهج الحصول على المعرفة أكثر مما يعنى بالمعرفة ذاتها وهذا هو الأهم ( لا تعطيني سمكاً بل علمني كيف أصطاد السمك) و لذلك يعرف الآن بأبو العلوم كما كانت تعرف الفلسفة بأم العلوم . اذن ما يعنيني في هذا الورقة هو الجانب المعرفي / المنهجي من المشروع الفكري للدكتور عصمت وما أحدثه من تأثير في سياق الآليات أو المناهج التي كانت و ما زالت سائده في الفكر العربي و في الفكر العالمي أيضاً  .
أزمة المنهج في الفكر العربي ( المنهج القياسي الاستعاري )  :
لقد ساد الفكر العربي و منذ بدايات القرن التاسع عشر ( بدايات الاستفاقة الفكرية ) و حتى منتصف القرن العشرين .. اتجاهان متناقضان في المحتوى و المضمون الفكري ( الأيديولوجي ) إلا أنهما متفقان في الآلية و المنهج و متفقان أيضاً في النتيجة و المآل !!؟... الاتجاه الأول .. اتجاه " قياسي استعاري" انتقائي ذهب يبحث في ماضي الأمة و تراثهاعن الحلول الجاهزة لنهضتها و هو ما يسمى بالاتجاه السلفي الاسلامي و الاتجاه الثاني هو أيضاً اتجاه قياسي استعاري انتقائي ذهب يبحث أيضاً عن الحلول الفكرية الجاهزة و لكن ليس في تراث الأمة القديم بل في تراث الأمم المعاصرة الأكثر نهوضاً وتقدماً ؟!!! وهو ما يسمى بالاتجاه العلماني بفروعه الثلاثة ( لليبرالي , الماركسي , القومي) أي أننا نستطيع القول أنه على الرغم من التباين و التناقض الكبير بين اتجاهات الفكر العربي من حيث المحتوى الايديولوجي و من حيث المرجعية إلا أن ثمة سمات ( آليات ) موحدة لها على الصعيد المعرفي / الابيستمولوجي أي آليات التفكير و المناهج التي تستخدمها في توليد الأفكار و الحلول لمشكلات الأمة المعاصرة  .
وبهذا الشكل كان الفكر العربي في أواسط القرن العشرين فكراً يفتقد الى الجدة و الابداع الأصيل سواء على مستوى بناء آلياته / مناهجه أو على مستوى بناء محتوياته و مضامينه الفكرية و الأيديولوجية ... وهي آليات قديمة و أصبحت غير صالحةعلى الإطلاق و بعد ذلك التطور المذهل على صعيد أدوات المعرفة و ادوات تحليل الواقع و مناهج التفكير المعاصرة و في ظل التعقيد الشديد لمشاكل الواقع المعاصر و منها مثلاً  :
آلية القياس المعروفة في تراثنا الإسلامي وهي آلية فقهية تقوم على قاعدة التشابه او وجود عناصر مشتركة بين حالة / أو مشكلة سابقة معروف حلها في النص الأصلي وبين حالة / مشكلة طارئة أو جديدة تتم فيه سحب الحل السابق للمشكلة السابقة على المشكلة الطارئة أو الجديدة  .
آلية الإستعارة او الانتقاء : وهي تبنى على نتائج الآلية السابقة ... ( القياس ) اي استعارة الحل المشابه لحل سابق بسبب وجود العلة المشتركة أو العلل المشتركة .
وهي آليات تجزيئية فقهية تصلح في فضائها الفقهي الإسلامي و لا تصلح عندما يكون أمامنا قضايا كبرى و معضلات كبرى و تحديات كبرى كما هو الآن   . 
(1)
فلقد سيطرت على وعي وإدراك معظم النخب العربية الإسلامية منذ بداية و أوائل القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين ثنائيات ( غرب .. شرق ، تقدم .. تأخر ، حديث .. تقليدي ، أصالة.. معاصرة .. إلخ ) تعكس الإحساس بحجم الفجوة والهوة القائمة بين الامة العربية الإسلامية والآخر (الغرب) حيث أن الغرب لم يكن مصدر خطر و سيطرة او تهديد و حسب .. بل هو أيضاً في وعي هذه النخب مصدر القوة و العلم و الفكر و الحداثة و التكنولوجيا .. إلخ اي قوة نبذ و جذب في ذات الوقت .
الاتجاه الإسلامي " التجديدي " وهو التيار الرئيسي الغالب في هذه النخبة كان يعتبر أن الهوة بين التراث ( الإسلام ) والحداثة ( الغرب ) يمكن ردمها بمنهج " التوفيق القياسي " .. أما الاتجاه الأخر العلماني وبكل فروعه فقد اعتبر أن الهوة لا يمكن ردمها بالتوفيق وان المطلوب و بالمنهج القياسي فقط تبني الحداثة الغربية تماماً وتعديل هذا التراث " قياساً " عليها و بما تمليه هذه الحداثة !! وقد بدأهذا الإتجاه هامشيا ولم يلق تجاوباً إلا في مراحل لاحقة .. وخصوصاً بعد الحرب العالمية الاولى .!!! إلا أن الاتجاه الإسلامي ورغم انطلاقه من تراث الامة وهويتها وتحت التأثير الطاغي للغرب وتفوقه من جهة .. وبمنهجه " القياسي التوفيقي " لردم وتجاوز هذا التفوق من جهة اخرى .. انتهى الامر به الى تقديم قراءة غربية للاسلام أو تقديم الاسلام على مقاس الغرب ونموذجه سياسة واقتصاد و ثقافة ، فقد دأبت رموز هذا الاتجاه وعلى وجه التحديد محمد عبده وتلامذته على إثبات أن ما أتى به الغرب من علم و نظم وأساليب يوجد ما يقابله أو ما يبرره في الإسلام وفي أسوأ الاحوال لم يكن هناك ما يعارضه شرعاً في الإسلام  وتراثه ؟!.
هذا هو المنزلق المنهجي الجسيم الذي وقعت فيه معظم رموز هذا الاتجاه في محاولتها التوفيقية عند استخدامها آلية " القياس التجزيئي " ضمن ظروف ووضعية تاريخية وثقافية مختلفة تماما حيث قامت – هذه الرموز – بقياس ومقارنة ومعادلة عناصر ونماذج حضارية و ثقافية مجتزأة ( مفككة ) تعود لمرحلة تاريخية سابقة وحالة مجتمعية مختلفة ( إسلامية ) تنتمي لأصول وأسس نظام عقيدي متكامل ( النظام الاسلامي ) ، قامت بقياسها لعناصر و نماذج أخرى مجتزأة أيضاً تم انتاجها في مرحلة مغايرة ( المرحلة المعاصرة ) .. وفي مجتمع مغاير ( الغربي ) وتنتمي لأصول وأسس نظام قكري مغاير بل مناقض للنظام الاول ( الإسلامي ) أي القياس بين نماذج متغايرة من حيث تاريخ انتاجها .. ومن حيث المجتمع الذي أبدعها .. والأصول الفكرية والعقيدية التي استندت اليها ؟!! وبالتالي تصبح العمليةالقياسية التوفيقية .. عملية شكلية لفظية مضللة تخفي وتحجب العمق الثقافي والعقدي والمجتمعي والتاريخي للعناصر والنماذج المقارن فيما بينها ،  بل إنها تفضي في النهاية وعملياً الى إلغاء الدلالة الثقافية الخاصة للمفهوم او النموذج التراثي الاسلامي – المستخدم في المقارنة والمقايسة – لصالح ولحساب الدلالة الثقافية الخاصة للمفهوم أو النموذج الغربي – المقارن به – الاكثر تفوقا و حداثة في إدراك وشعور هذه النخبة , ومن هنا فإن آلية " القياس " تلك وما أفضت اليه من " توفيق " مزعوم لم تكن في حقيقة الامر .. وفي المحصلة النهائية " توفيقاً بل هيمنة وغلبة للمفهوم الغربي بكل دلالاته الثقافية و المجتمعية والسياسية , والأكثر خطورة في هذه الآلية هو أنها لم تكن تستخدم للوصول الى حل لمشكلة واقعية محددة ومعينه في واقعنا الخاص تساهم في الارتقاء به الى الافضل , بل هي في التحليل الأخير ليست إلا آلية لتقديم " حل " لمشكلة نفسية - عند تلك النخبة – تكونت عبر الإحساس العميق بالعجز و الضعف و كذا النقص ازاء الغرب المتفوق و المسيطر ( عقدة الخواجة ) ولذلك عندما تكتشف هذه النخبة أن لديها – في تراثها – ما يعادل الغرب ويوافقه وأحياناً يسبقه .. فحينئذ تشعر بنشوة النصر والاكتشاف ويختفي احساسها بالدونية تجاهه ولا تعود هناك مشكلة ؟!! ويصبح الطريق أمامها مفتوحاً ومشروعاً – موافق للشرع – لأن تأخذ بما جاء به الغرب و بغض النظر عن كونه موافقاً ومتناسباً للمشكلة في الواقع الحقيقي والفعلي .. وبذلك تبقى المشكلة في الواقع بلا حل .. بينما النفوس والعقول تنعم في أوهام الرضى لأن ما لديها يعادل ويوافقه الغرب ونماذجه .. وهكذا تبقى مشكلات الأمة في واد .. وأفكار النخبة في واد آخر وتتراكم المشكلات .. وتتعقد وتتأزم والمحصلة المزيد من التراجع  والتقهقر في الواقع والمزيد من التشوه والتغريب .. والهزيمة تجاه الآخر ( الغرب ) الى أن كانت السيطرة الكاملة له في الثقافة والسياسة وفي كل مجال وعلى كل صعيد  .
(2)
لنرى ما يقول " الطهطاوي" مع بدايات القرن التاسع عشر بعد المقايسة " بأنه لا فرق كبير بين مبادىء الشرع الإسلامي .. و مبادىء القانون الطبيعي" ؟!! ، أما خير الدين التونسي فنراه يحض ويدعو الى ان " السبيل الوحيد في العصر الحاضر لتقوية الدول الإسلامية إنما هو في اقتباس الأفكار والمؤسسات عن أوروبا واقناع المسلمين المحافظين بأن ذلك ليس مخالفاً للشريعة بل منسجماً مع روحها " ثم يضيف قائلاً " عليها فقط أن تتبنى ما يعادل المؤسسات الإسلامية القديمة من مؤسسات حديثة " ونحن نعرف هنا حصيلة التجربة الليبرالية التي استخدم فيها كل المؤسسات الأوروبية التي دعا إليها التونسي وأما الافغاني نراه ينتهي في حواره مع أرنست رينان ودفاعه المستميت عن الإسلام إلى " أن جوهر الإسلام إنما هو جوهر العقلانية الحديثة ذاتها في الغرب " ؟!!.
الإمام محمد عبده مّثل ذروة النهج " التوفيقي القياسي " حين نراه يقوم " بتذويب " جملة المفاهيم الإسلامية ( النماذج ) المبعثرة والمفككة في لجة المفاهيم والنماذج الغربية الحديثة ( فانقلبت " المصلحة " تدريجياً الى " المنفعة " والشورى الى " الديمقراطية البرلمانية " .. و "الإجماع" الى " الرأي العام " والزكاة الى " الضريبة " وحتى " عمران " ابن خلدون تحول الى " تمدن " غيزو ( صاحب كتاب تاريخ المدنية الأوروبية ) أي أصبح الإسلام نفسه مرادفاً للتمدن والنشاط الأوروبيين كما عرفه محمد عبده لدى " غيزو " ... و عندما يصبح الإسلام عند محمد عبده وهو الإمام الإسلامي – مرادفاً للمدنية الغربية فان لسان حال فريق واسع من اتباعه سيقول : اذا كان الامر كذلك فلماذا لا تأخذ بالمدنية الغربية كاملة بدون لف ودوران ؟! وهذا ما حصل بالفعل إذ انتقل تدريجياً فريق من أتباعه من موقع " التوفيق" الى موقع الأخذ الكامل بالغرب والعمل على أقامة العلمانية الكاملة امثال فريد وجدي وقاسم أمين ولطفي السيد وسعد زغلول .. وجماعة حزب الأمة وغيرهم .. وغيرهم .. وانهال السيل العلماني الجارف من منابع الغرب " العظيمة " بفروعه المتعددة الليبرالي والماركسي والقومي ... وبنفس الآلية القياسية .. الغرب متقدم ومتفوق ونحن متخلفون .. الحل ببساطة نأخذ بما لدى الغرب ونتقدم ... وبتعبير أدق " نستهلك ما لدى الغرب من علمانية وقومية وعقلانية مادية وماركسية و وجودية وليبرالية ... ونتقدم  ؟!!!.
مما لاشك فيه أن قادة و رموز " الاتجاه الإسلامي" في محاولتهم تجديد الفكر الاسلامي ، قد انطلقوا انطلاقة صحيحة حين بدأوا من عقيدة الامة وتراثها وكانوا مخلصين وصادقين فيما بذلوا من جهود وقدموا من عطاء إلا أنهم في تقديرنا قد أخطأوا المنهج والأداة ( الأداة المعرفية ) فجاءت النتائج في معظمها معاكسة لأهدافهم ، لأن منهج ( القياس الشكلي التوفيقي ) الذي يعتمد التفكيك == المقارنة == الانتقاء == التوفيق  لا يبني نظاما معرفياً ولا يعيد بناء نظام معرفي سابق على أسس جديدة ونقدية ... ولا يقود إلى تشكيل رؤية شاملة حول واقع مجتمعنا وثقافته تحدياته وخصوصياته .. ولا حول ثقافة الآخر ومعطياته ( الغرب ) .. وبالتالي لايمكن أن يقود إلى نقد أي من الثقافتين أو دراستهما دراسة تاريخية نقدية مقارنة .. إنه يفكك الثقافتين "النظامين " ويتركهما دون اعادة بناء وتاليف بل ينتقي ويوفق بين عناصر مفككة من كلتيهما , وتتراكم لدى أصحاب هذا النهج أشلاء من المعارف الجزئية والتفصيلية الناتجة عن هذه العملية والمقطوعة الصلة – وهذا هو الأهم والأخطر – بالواقع الفعلي ومشكلاته وضروراته ومتطلباته وأولوياته , أي يصبح وعي هذه النخبة .. وعياً يهتم بالتفاصيل المجتزأة في عالم منفصل عن الواقع لأنها لا تتركب بهذا الوعي في كل متماسك , يجسد رؤية شاملة تتألف من أجزاء معرفية تأخذ مكانها وتتناسق كأنها خلايا حية في جسم فكري حي ومترابط !! و لهذا غابت الرؤية الشاملة .. والمنهج الشامل في فهم الذات ( الامة ) وفهم الآخر المعاصر ( الغرب ) الذي ينظم العلاقة ويوجهها مع كليهما على أساس محدد وبرنامج واضح , و كان الوعي بالتالي مفككاً ومضطرباً دون مرجعية واضحة .. أو رؤية واضحة ومترابطة , وهذا النوع من الوعي .
(3)
" المتفكك " لن يستطيع أن يكون حركة مؤثرة في الواقع .. ولا أن يرسم وجهتها الصحيحة ولا أن يختار الوسائل والادوات المناسبة للفعل والممارسة .. مما أدى الى التخبط والتضعضع الثقافي والسياسي والمزيد من التراجع والانحسار  .
الاتجاه العلماني لم يكن توفيقياً بل بلغ في آليته القياسية الشكلية حد الغيبوبة الكاملة عن ضرورات وخصوصيات مجتمعه والانبهار الشامل بأنماط الغرب ونماذجه وأساليبه وايديولوجياته وكان تأثره بها طاغياً ، وكان يرى وبالمقارنة مع واقع مجتمعه في الغرب سر القوة والتقدم ، وكان همه الوحيد أن يقلد ويحتذي ويستورد ويستعير ويستهلك لا أن يبحث ويفتش وينقد ويكتشف .. لم يذهب الى العمق وبقي على السطح مستهلكاً .. لم يتمكن من دراسة الغرب فكراً ونمطاً ومن ثم تحليله ونقده فهمه , ولم ينفذ الى العمق للكشف عن منهجيته في العقل و التفكير التي تمثل و تشكل الخلفية الحقيقية و السر الخفي وراء تفوقه و " حضارته " المعاصرة .. بل كان دائماً يلهث وراءه ليبتلع ويفترس المزيد من منتجاته وسلعه ، وعلى كل المستويات سياسة وفكراًو اقتصاداً واجتماعاً ، وحتى أخلاقاً ( ولو دخل في جحر الضب لدخلوا وراءه ) صدق رسول الله .
الاتجاه القومي التقليدي ( العلماني ) استورد كل نظريات الغرب في القومية وأخذ يبحث عن ما يسوغها ويسوقها في واقع الامة العربية حيناً يأخذ بنظرية وحدة اللغة الألمانية .. وحيناً يذهب الى نظرية وحدة الإرادة الفرنسية .. وحيناً يذهب الى وحدة المصالح المشتركة .. وكلها نظريات غربية لها ظروفها ومعطياتها التاريخية الخاصة .. القومية في الغرب علمانية ولا ترى للدين أي دور وتأثير في تكوينها .. وهكذا أرادوا لها في واقعنا العربي وكان الشرخ والتناقض بين " فهمهم " هم للقومية .. وبين " فهمهم" هم للإسلام ، وهل يوجد في تاريخنا أمة عربية بدون إسلام أو إسلام  بدون عروبة ؟!
لم يخطر ببال اصحاب الاتجاه القومي العلماني أن يقوموا بأي جهد حقيقي في البحث التاريخي للإجابة عن سؤال بسيط .. كيف تكونت الأمة العربية ؟؟ ليعرفوا من ثم ما هي عوامل وحدتها وتكوينها القومي ...!! وليعرفوا من ثم كيف تكونت العلاقة التاريخية بين العروبة والإسلام وليعرفوا من ثم استحالة أي ربط بين القومية العربية والعلمانية أو استحالة أي علمنة للأمة العربية أو المجتمع العربي .. لأن الاسلام هو ثقافة هذه الأمة وهويتها ..هكذا يقول التاريخ .
إن الفكر القومي العربي التقليدي لم يكن إلا صدى للفكر القومي العلماني الغربي بكل ألوانه ومدارسه.
أما الاتجاه الماركسي فإن تاريخ نشأته وانتشاره في الحياة الفكرية العربية يحكي لنا قصصاً وأساطير فكرية عجيبة ، فقد صنع لنفسه واقعاً وهمياً لتسويغ وتسويق مبررات استنباته في التربة العربية .. توهم لنفسه نظاما ً رأسماليا ً .. و توهم طبقات متصارعة في هذا النظام .. وقدم حلوله الشيوعية لذلك الواقع الموهوم , وأعتقد هنا ان مصير الاتجاه الشيوعي في الوقع العربي – العالمي أيضاً – يكفينا عناء المناقشة والنقد  .
ويكفيني هنا أن ألفت النظر أن أصحاب هذا الاتجاه انشغلوا كثيراً بجانب التوظيف الأيديولوجي من التراث الماركسي الغربي أكثر من انشغالهم واهتمامهم واستفادتهم من جانب التوظيف المعرفي / المنهجي لما ينطوي عليه هذا الجانب من خبرات بحثية منهجية ذات أهمية بالغة من زاوية تطوير أدوات البحث المنهجي لصالح الفكر العربي , و مازال هذا التراث متاحاً من وجهة نظرنا لكل المهتمين على هذا الصعيد .
" نظرية الثورة العربية " وأزمة المنهج :
إن أي قراءة متأنية لـ " نظرية الثورة العربية " بأجزائها السبعة يستطيع صاحبها ان يلحظ وببساطة عمق وحجم الاهتمام الكبير للدكتورعصمت لهذه الأزمة / المشكلة في الفكر العربي – ازمة المنهج – وعلى الوجه الذي بيناه آنفاً وأستطيع القول أن جل مشروعه الفكري النقدي كان منصباً على معالجة هذه القضية / المشكلة والتي كان يعتبرها بمثابة حجر الزاوية لأي مشروع فكري نهضوي مبدع وأصيل  .
(4)
لقد كان انتباهه شديداً لحجم وعمق الضغط والتأثير الذي يمارسه الفكر الغربي بشقيه المنهجي والأيديولوجي على عقل ونفس النخب العربية بمعظم اتجاهاتها السياسية والفكرية والذي تجلى بذلك الاستسلام والانبهار وحتى الاستلاب له .. والبحث عن كل الذرائع والحجج  والبراهين الشكلية القياسية لتسويفه وتسويقه في حياتنا الفكرية العربية والاسلامية حتى أستطيع القول أن العوامل النفسية السلبية .. من ضعف ثقة بالذات .. والإحساس بالدونية من جهة .. وتفوق الغرب وسطوته وسيطرته وتطوره العلمي والمنهجي الهائل بالمقارنة مع تخلفنا ، قد شكلت الأساس الأعمق لتفسير هذه العلاقة الاستلابيه / الإرهابية للنخب العربية في علاقتها مع الغرب والفكر الغربي وأيضاً الصناعة الغربية ، الاخلاق الغرية والمرأة الغربية والسياسة الغربية والعائلة الغربية وكل شيء غربي واخذنا نستورد كل شيء حتى الفكر  !!
بهذا الإدراك الواضح والانتباه الدقيق لحجم التحدي الذي يمثله الفكر الغربي وبكل مدارسه واتجاهاته ولعمق الأزمة التي يعاني منها الفكر العربي تجاه هذا التحدي وبروحية الصعيدي الواثق من نفسه والمؤمن ايماناً راسخاً بعروبته واسلامه .. والمتحرر من كل أنواع الاستلاب الذاتي والفكري تجاه الآخر المتفوق ، خاض مفكرنا معركة فكرية نقدية شاملة تجاه الآخر احتلت المساحة الأكبر من مؤلفاته مستفيداً ومستخدماً أحدث ما توصلت إليه الإنسانية في مجال أسلحة وأدوات النقد ومناهجه في ذلك الحين  .
هذه المعركة أثمرت مشروعاً فكرياً نقدياً هائلاً لكل مدارس الفكر الغربي و مناهجه سواء كانت ماركسية أو ليبرالية او قومية أو وجودية ... إلخ كاشفاً جوانب الخلل و القصور فيها وعجزها بالتالي عن التفسير الصحيح والكافي لظواهر الاجتماع الانساني و تطوراته كما أسفرت – تلك المعركة – عن ظهور إبداع منهجي عربي اسلامي أصيل و لأول مرة في تاريخ الفكر العربي المعاصر أحدث – وكما أرى – نقلة / قطيعة معرفية هائلة في أليات و مناهج التفكير السائدة في ذلك الحين والتي أشرنا الى أهمها فيما سبق من حديث,كما وضع الفكر العربي ولأول مرة في موقع الندية و الجدارة العلمية والثقافية إزاء الفكر الغربي وطغيانه على العقل والنفس العربيتين وشكل من وجهة نظرنا لحظة معرفية فاصلة بين تاريخين .. تاريخ التبعية والاستلاب للآخر .. وتاريخ الانعتاق والاستقلال والإبداع الثقافي والعلمي للفكرالعربي وهل تتحرر الامم والشعوب بدايةً إلا بأفكارها ؟؟؟!

ولازلت اذكر ونحن في عنفوان شبابنا نحمل هموم الأمة في سبعينيات القرن الماضي كيف استقبلنا أعمال الدكتور عصمت ، استقبال الذي يغرق في بحر الافكار والمناهج المتلاطمة لسفينة النجاة .. كانت فرحتنا بها عظيمة ، لقد أمدتنا وزودتنا بكل الأسلحة العلمية و المنهجية لمقاومة اتجاهات التغريب من ماركسية وعلمانية وليبرالية .. واتجاهات الجمود السلفية في ذلك الحين ، وكانت حصناُ حصيناً لنا من الضياع والتيه  .
لقد عاش سيف الدولة عصره بحق وهضم وتمثل انجازاته المعرفية / المنهجية في أقصى درجات تطورها المعاصر ومن كل الاتجاهات والمدارس كما تلمس ذلك واضحاً في مؤلفاته وأعماله المتنوعة .. ولم يقف عندها وقفة الأكاديمي ملخصاً أو مكرراً أو ناسخاً بل كان يصول ويجول باحثاً ناقداً مبدعاً مستخدماً أدواته بروح وشفافية الفنان المبدع.. ودقة العالم المجدد و عزيمة المجاهد المقاتل المؤمن بقضايا أمته في الحرية والانعتاق والاستقلال وقضايا حرية الانسان في كل مكان ( ذلك الكائن العظيم الذي أحبّه )  . 
كان إحساسه بالإنسان و دوره و انسانيته عميقاً ومستمداً – باللاشعور – من تراثه واسلامه جعله يأنف كل تلك المذاهب والمناهج المستلبة لإنسانية الإنسان سواء مادية أو مثالية كما دفعه للمزيد من البحث عما ينقذه – للانسان – من ذلك الاستلاب  .
وكما عاش عصره مستوعباً معطياته .. فقد عاش اسلامه وتراث أمته العريق مستلهماً إشارات الوحي الإلهي في قرآنه العظيم .. وهو يدعو للتأمل والنظر ( البحث ) في آيات الله وسننه ونواميسه " قل سيروا في الارض و انظروا كيف بدأ الخلق " ..." سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق " ... " وتلك سنة الله ولن تجد لسنتنا تحويلا " ... " وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً " ... " و كرمنا بني آدم " ... " اسجدوا لآدم " ... " ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " ( راجع الأسس والمنطلقات ج1 ج2 ج3 ) . 
(5)
هكذا علمنا الإسلام . وهكذا ربّانا و نحن نسينا وهكذا تعلم سيف الدولة من تاريخ الإنسانية و تاريخ الشعوب والمجتمعات وتطوراتها المذهلة على كل صعيد " وخلقناكم أطواراً " بأن الإنسان أولاً وأنه هو الذي يقود مصيره وأن التغيير يبدأ من داخل النفس الإنسانية وما يضطرم فيها من تدافع وصراع ونتيجة هذا الصراع هو الذي يحدد نوع ومحتوى مدى هذا التغيير ( ونفس وماسواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها .. وقد خاب من دساها ) ، سنة الله إذن في الإنسان تقوم على الصراع الداخلي بين نوازع الفجور – التي فطر الإنسان غليها – و نوازع التقوى – التي فطر الإنسان عليها أيضاً ، وحسم الصراع متوقف على " إرادة الإنسان " وواضحة هنا في " زكاها " و " دساها " لايغير الله ما بقوم ( النتيجة ) حتى يغيروا ( هم ) ما بأنفسهم ( هم ) ...أي حتى تحسم ارادتهم الأمر في اتجاه التزكية أو الخير أو الصلاح أو في اتجاه الفجر والشر والفساد ( التدسية )  .
التقط سيف الدولة ذلك ولم يقف عنده لأن المنهج الإسلامي يدعوه للنظر والبحث و التأمل والإبداع وكان السؤال : على أي وجه.. و على أي إيقاع .. ووفق اي قاعدة / سنة تضطرد الحركة الإنسانية ( النوع الإنساني ) وهي تحاول التغيير والتطور نحو الافضل .. نحو التزكية والفلاح والصلاح حسب التعبير القرآني ؟! واذا عرفنا هذه القاعدة / السنة / القانون عرفنا كيف نتطور ونتغير نحو الفلاح وما هي شروط ومتطلبات هذا التطور علمياً بدون مغامرات وتضحيات لا طائل منها و اذا عرفنا كيف يتطور الانسان وما هو قانون تطوره وما هو منهج تطوره عرفنا ايضاً قانون تطور المجتمعات ومنها مجتمعنا وأمتنا أي عرفنا منهج تطور المجتمعات ومن ثم ستصبح محاولتنا في تطوير أمتنا محاولة علمية ومدروسة ومخططة وليست مجرد مغامرة وتجريب بالبشر وقدر الامكان ستكون بأقل الخسائر أقل التجارب وأقل التضحيات و ستكون حركة مضطردة باتجاه أهدافها لحد كبير أو في حدود قدرتنا على استيعاب شروط هذا التطور ومتطلباته و من ثم حدود قدرتنا على توفيرها فعلياً في الواقع  .
سؤال بسيط ولكنه عميق .. سؤال بديهي و لكنه يحتاج إلى عقول عظيمة للإجابة عليه وجهود جبارة تستوعب الملحمة الإنسانية بكل تاريخها البعيد والقريب و بكل شمولها و تضاريسها وبكل أغوارها وأعماقها وهذا ما اقتحم أهواله عصمت سيف الدولة !!
وكان السؤال الإشكالي الذي حير العقل البشري منذ أمد بعيد و منذ نشوء القكر الفلسفي : كيف يستوي أو يستقيم خضوع الإنسان في حركة تطوره لسنن أو قوانين موضوعية و هو في ذات الوقت الكائن الحر الوحيد في هذا الكون ؟؟!أو الكائن الوحيد الذي يمتلك قدراًمن الحرية ؟! و انقسم العقل البشري منذ فجر التاريخ إلى خيارين : إما التضحية بحرية الإنسان من أجل ضبطه وإخضاعه ( الجبر التاريخي ) وإما انكار وجود قانون موضوعي يضبط حركة النوع الإنساني للحفاظ على حرية الإنسان  ...
الخيار الأول كان خيار المذاهب الجبرية المادية التي حّولت الإنسان إلى مجرد كائن مادي طبيعي شأنه شأن كل الأشياء و الظواهر في الطبيعة و هكذا أفقدته خصوصيتة الإنسانية و كرامته الألهية .
والخيار الثاني كان خيار المذاهب الذاتية الفوضوية و التي جعلت من الإنسان الكائن العشوائي الوحيد في هذا الكون و الغير قابل للخضوع لأية سنة أو ناموس ؟
وكان رد سيف الدولة أو جوابه جواباً قاطعاً و حاسماً بأن هذا السؤال الإشكالي يصبح سؤالاً وهمياً يجري في العقل الإنساني الذي لم يستوعب الحقيقة الموضوعية للحركة الإنسانية عبر التاريخ لأن الحرية ذاتها هي القانون / السنة . ولكن على أي إيقاع ؟! و هذا ما أجاب عليه سيف الدولة أو ما اكتشفه و قدمه للبشرية وللفكر العربي حلاً لأزمته في المنهج  !!
جدل الإنسان ..الجدل الاجتماعي .. منهج تطور الإنسان والمجتمع عند سيف الدولة الإنسان لا يملك وليس حراً مثله مثل أي شيء في الكون و الطبيعة إلا أن يؤثر و يتأثر ولا يملك إلا أن يكون في حركة دائمة ولا يملك إلا أن يتغير و لا يملك إلا أن يجوع مثل الحيوانات و لا يملك إلا أن يموت و لا يملك أو يتحكم في ولادته أو أن يتحكم في طفولته وشبابه وهرمه وشيخوخته..... الخ . ولكنه يملك ان يكون فاجراً أو تقياً .. يملك أن  يكون جاهلاً أو متعلماً .. صادقاً أو كاذباً .. مستقيماً او منحرفاً .. جباناً او شجاعاً .. مؤمناً او كافراً .. شاكراً أو جاحداً .. خيراً او شريراً .. باراً أو عقوقاً ..... إلخ . " من شاء فليؤمن و من شاء فليكفر " " وهديناه النجدين إما شاكراً أو كفورا " " ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها ... إلخ " أي ان الإنسان مجبوراً ومحكوماً مثله مثل بقية الأشياء والظواهر والكائنات الاخرى " قانون الضرورة الحتمية للطبيعة " وهذا ليس فيه جديد من عند سيف الدولة سبقه إليه غيره , ولكن الإنسان يملك ما لا تملكه الأشياء والظواهر والكائنات الأخرى يملك الاستعداد والملكة ( الحرية ) لأن يختار محتوى التأثير والتأثر ومحتوى الحركة ومحتوى التغير أو التطور .. يملك القدرة والأستعداد على أن يطوّر نفسه وظروفه وبيئته يملك العلم والعقل مع معرفة قوانين الأشياء والظواهر ويملك الادوات على الإستفادة منها لتطوير نفسه وحياته وبيئته وطبيعته و وسائله وأدواته .... الخ . و هذا ليس بجديد و معروف للبشرية .. ولكن ما الجديد عند سيف الدولة ؟
(6)
الجديد هو جدل الإنسان الذي يحدد لنا ويرسم لنا القانون الذي وفقه تضطرد حركة النوع الإنسان وهذا هو جوابه على السؤال الإشكالي الذي حير العقل الإنساني  حتى الآن ؟!
يقول سيف الدولة شارحاً جدل الإنسان في كتلبه الأسس ج 1     : 
" النقيضان في جدل الإنسان هما الماضي و المستقبل اللذان يتبع أحدهما الآخر ولا يلغيه ولا يلتقي به قط وعلى هذا يجمعهما الانسان ويضعهما وجهاً لوجه في ذاته " .. " والماضي بالنسبة للانسان مادي جامد غير متوقف عليه وغير قابل للتغيير وبمجرد وقوعه يفلت من امكانية الإلغاء ولكن الإنسان إذ يعرف عن طريق استرجاعه كيف وقع يدرك امتداده التلقائي في المستقبل ، والمستقبل بالنسبة للإنسان تصور لا يحده قيد من الزمان أو المكان واقصى مستقبل لأي انسان أن تتحقق جميع احتياجاته وفي الإنسان يجتمع النقيضان وتثور المشكلة بالصراع بين الماضي ممتد تلقائياً في المستقبل .. وبين المستقبل الذي يريده الانسان بين الماضي يريد أن يمتد فيلغي ما يريده الانسان ، وبين ما يريده الانسان أن يتحقق فيلغي امتداد الماضي وتكون المشكلة : هي ذلك الفرق بين الواقع المسترجع من الماضي وبين المستقبل الذي يريده الانسان ويعبر عنه تعبيراً سلبياً ( بالحاجة ) اي شعور الذات بعدم الاكتفاء ( من تجربة الماضي ) ونزوعها الى الاكتفاء ( في المستقبل ) ومقاومة الظروف ( الماضي ممتد تلقائياً في المستقبل ) لاشباع تلك الحاجة , وبقدر ما يكون الفرق كبيراً يكون التناقض عميقاً فيكون الصراع قوياً ومحتدماً فتكون المشكلة حادة وبقدر ما يسترجع الانسان من ماضيه يتصور من مستقبله ويتحدد شمول المشكلة التي لا بد من حلها ، ويظل الصراع قائماً  "   .
و كيف يتم حل الصراع والتناقض ؟ يجيب سيف الدولة " يستفيد الانسان من مقدرته على ادراك ومعرفة الماضي وقوانين وشروط وقوعه ليعدل في تلك الشروط و حول دون استمرار الماضي في المستقبل .. كما يستفيد من معرفته العلمية للظروف وشروطها لتعديل المستقبل الذي يتصوره الى المستقبل الممكن علمياً أي يجد حلاً يتضمن ما يريده الانسان وتسمح به قوانين الظروف معاً ( الحل الممكن ) هذا الحل يتحقق بالعمل المادي أو الذهني تبعاً لطبيعة المشكلة ( مادية أو فكرية ) هذا الحل يلغى من الظروف كما يحددها الماضي ما لا يتفق مع المستقبل كما يريده الانسان ويلغي من المستقبل الذي أراده الانسان ما لا يتفق مع امكانات الظروف وقوانين تغييرها النوعية فيجعله في كل لحظة وفي كل مكان مستقبلاً متفقاً مع حاجة الإنسان وظروفه أي خالياً من جمود الماضي وخيال المستقبل , اما اداة الخلق فهو العمل الذي يحل التناقض وتتم به الحركة الجدلية ثم تناقض جديد .. و صراع جديد .. ومشكلة جديدة .. وحل جديد .. وعمل جديد " راجع الأسس ج1 ..
وينفي سيف الدولة ان تكون هذه الجدلية جدلية فكرية كونها تتضمن التذكر فالأدراك فالتصور لأن التذكر هو تذكر يشمل المادة / الواقع والإدراك يشمل إدراك قوانين المادة والتصور تركيب ذهني للمادة فالمادة هي محتوى الفكر ، والفكر محيطها الذي يتحدد بها وتتحدد به وتكون معه وحدة لا يمكن انفصامها ، ولذلك قلنا إنه جدل الإنسان ولم نقل إنه جدل الفكر  ..
(7)
فالفكر ليس إلا خاصة من خصائص ذلك الكائن من مادة وذكاء ( روح ) والذي يسمى الانسان وقد قلنا أن العمل وهو مادي هو الحركة الاخيرة في الجدل النساني فالحركة الجدلية إذ تبدأ من مشكلة ( صراع ) تسهم فيها المادة تنتهي مع حل مادي يسهم فيه الفكر  .
ويؤكد سيف الدولة أيضاص بأن الانسان هو يمارس جدله لا يمكن أن يفلت من قوانين الضرورة العامة أو الكلية إذ يقول " اذا كان الجدل قانوناً خاصاً بنوع الانسان فإن الاخير لا يفلت من القوانين الكلية التي تحكم الطبيعة والظواهر ، وهو جزء منها يتأثر و يؤثر في حركة دائمة و تغير مستمر ، وتحكمه تلك القوانين كوحدة من الروح والمادة أي أن حريته ليست حرية مطلقة بل تتم في اطار الخضوع لقوانين الضرورة العامة وهو في هذه الحدود مسير غير مخير ( الأسس ج1 , ص127 ) .
* جدل الإنسان والدين :
لقد اجتمعت الأديان جميعاً آخرها الإسلام ان الأساس أو العامل الأساسي في تقرير مصير الحركة الانسانية ومن ثم الاجتماعية هو ما يدور من صراع في داخل النفس الانسانية بين الخير والشر .. بين الفجر التقوى .. بين الهوى والعقل ..في حركتها من الماضي الى المستقبل .. وان هذا المصير متوقف على نتيجة هذا الصراع " و نفس وما سواها فألهمها فجورها و تقواها " .. " وقد أفلح من زكاها ... وقد خاب من دساها ".. الفلاح والتزكية : يعني النجاح و الفوز و النمو والتطور .. التّدسيه والخيبة : يعني الخسران والتدهور والانحطاط الإنساني .. وهذه هي دورة الحضارة الانسانية في كل مجتمعاتها القديمة والحديثة  ....
الفكر الجديد == القيم الجديدة == الصعود == النمو == الازدهار == الحضارة == الترف == الهوى == الفجور == الخيبة == والتدهور والانحطاط .
أي ان البنية التحتية ( كما يقول علم الاجتماع ) في جدل الأديان وأيضاً جدل الانسان هي البنية النفسية والصراع الداخلي فيها عبر الزمن من الماضي الى المستقبل ومصير الأقوام يتحدد باتجاه هذا الصراع فجوراً أم تقوى تدهوراً أم ارتفاعاً و ازدهاراً ..." ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " وهذا بخلاف المدارس المادية التي ترى أن قوى الإنتاج وأدواته هي التي تشكل العامل الأساسي والبنية التحتية لمسار التطور الجتماعي  .
وهنا مكمن اللقاء والتوافق التام بين جدل الانسان .. وجدل الاديان حتى أستطيع القول أن جدل الانسان الذي ابتكره سيف الدولة هو الدليل القاطع من العلم والتجربة الانسانية على صحة ما جاءت به الأديان وما جاء به الوحي الإلهي من آدم و ابراهيم عليه السلام حتى محمد ( صلى الله عليه و سلم ) ، كما يمكنني القول والزعم والقطع أن جدل الانسان هو الهيكل العام الذي تضطرد على أساسه حركة النوع الانساني ( تناقض في النفس الانسانية , صراع ..حل .. عمل .. و دورة اخرى ..) و ان الأديان ( وأهمها الاسلام ) جاءت اساساً لدفع محتوى هذا الصراع والتناقض من خلال رسالاتها وتعاليمها الاخلاقية والاجتماعية وخصوصاً فكرة التوحيد .. لدفعه باتجاه الغلبة للتقوى والتزكية والفلاح والتطور والعمران وخلافة الأرض . وتحقيق نقلات نوعية له على مسار التاريخ وفي كل المجالات ( الاخلاقبة والاجتماعية وحتى العلمية " سفينة نوح " ) و من هنا كان ديدن الأديان والرسل والانبياء التركيز على اصلاح النفس البشرية والانتصار لفريق وحد التقوى والتزكية ( جهاد النفس هوالجهاد الاكبر ) .. " ولو ان أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا غليهم بركات من السماء والأرض .. ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون   " .
كما ان جدل الانسان هو الذي يفسر لنا اهتمام الرسالات السماوية والوحي الإلهي بسرد قصة الخلق من بدايته " الخالق و الخلق " وحتى نهاية القيامة و الجنة والنار .. لأن الدين هنا يقدم لجدل الانسان أعمق ماضي .. وأبعد مستقبل يتصوره ويتمناه أو يخاف منه ويتجنبه حيث العذاب المطلق في النار .. الحيوات المطلقة .. والنعيم المطلق في الجنة ( لهم ما يشاؤون خالدين وهنا وبذلك الفرق الشاسع والمسترجع من بداية الخلق والوجود الإلهي .. وذلك المستقبل للنعيم المطلق أو العذاب المطلق ) يكون التناقض عميقاً .. فيكون الصراع قوياً .. و تكون المشكلة حادة .. ويكون الدافع للحركة والنمو والتطور هائلاً ومن هنا يفسر جدل الانسان .
(8)
سر وعظمة الفتوحات الاسلامية المذهلة بسبب الطاقة الهائلة التي ولدتها الرسالة الاسلاميه في داخل نفوس المؤمنين في ذلك الحين بسب التناقض والصراع الهائل بين اعمق ماض و أبعد مستقبل و اليقين الايماني الهائل من مصدر هذه الرسالة .. وصدق نبؤتهاومن هنا يفسر لنا أيضاً جدل الانسان لماذا كانت الاديان هي الأكثر تأثيراً وعمقاً في النفس الانسانية .. وهي الاكثر انتشارا و استمرارية .. و من كل المذاهب الوضعية والفلسفية عبر التاريخ فهذه الاخيرة انقضت جميعها و بقيت الأديان . الأديان كانت تخاطب جماع النفس الانسانية .. والأكثر قبولاً من الجماهير بعكس المذاهب الوضعية التي تبقى أسيرة النخب و القلة و لذلك فإن جدل الانسان في محتواه الديني هو الاكثر قدرة على تفسير حركة التاريخ والمجتمعات ؟؟!!
* التوحيد وجدل الانسان :
جدل الانسان " هو المنهج الوحيد بزعمنا الذي يفسر ويبرر ويؤكد على ضرورة " التوحيد الإلهي " للإنسان لكي تستوي وتستقيم حركة التاريخ البشري الى الأمام .. الى النمو والعمران .. لأن التوحيد هو الذي يشكل الضمانة الوحيدة و الرقابة المطلقة والكلية " يعلم السر وأخفى " على خريطة الصراع داخل الوجود الانساني وداخل النفس الانسانية في حركتها عبر التاريخ .. وهو الذي يحرضها لحسم هذا التناقض و الصراع في داخلها باتجاه التقوى و التزكية و النمو و العمران " فتحنا عليهم بركات من السماء والأرض " طبعاً في حال الايمان و اليقين بوحدانية هذا الإله . و لذلك فإن الاديان هي التي انجزت أكبر واعمق النقلات التاريخية في التطور البشري والانساني وهي التي أرست كل القيم الاخلاقية في حركة العمران الانساني وأيضاً الاجتماعية وحتى التكنولوجية " سفينة نوح , انزال الحديد واذابته , السدود .... إلخ
فكرة الأسرة وتحريم الأخ والأخت والأب والأم ....... ومن ثم العائلة .... إلخ
إن الرقابة من داخل النفس الانسانية ( الضمير ) غير كاف للتأثير على حركة و مصير النوع الانساني لأن النفس الانسانية منقسمة ومتصدعة على نفسها بين استعدادين والهامين الهيـين .. النفس اللوامة (التقوى) .. والنفس الأمارة بالسوء ( الهوى ) لذا لا يمكن الرهان عليها ولذلك لا بد من رقابة خارجية (خارج صراع النفس الداخلي) موضوعية يقينية ومطلقة ( لا يخفى عليها شيء ) ولا يمكن الانفلات من شمولها وإطلاقها ولا يمكن الانفلات من عذابها وعقابها وأيضاً ثوابها وجنتها . ولذلك حسب نظرية " جدل الانسان " لابد من خالق لهذا الكون ولابد من إله لهذا الكون .. ولابد من " التوحيد " له والتسليم به ( الاسلام ) لان التوحيد اعظم ضمانة ورقابة لحركة النوع الانساني لتحقيق فلاحه وعمرانه , هكذا يقول لنا التاريخ أيضاً تاريخ المجتمعات .. وتاريخ البشرية .. وتاريخ الأديان  .
الانسان في حركته يمكن ان يفلت من رقابة ضميره الداخلي ( النفس اللوامة ) ويمكن ان يفلت من رقابة اهله ومجتمعه ( وهو بمفرده ) ويمكن ان يفلت من من رقابة القانون والسلطة .. إلا انه لا يمكن ان يفلت من رقابة الله المطلقة .. وثوابه المطلق .. اذا آمن به طبعاً  .
ولذلك فإنه حسب جدل الانسان فإن جدل الدين او الاديان أكبر قوة محركة للتاريخ .. وأكبر قوة محركة للانسان وأكبر قوة محركة باتجاه الحضارة والعمران والفلاح في الدنيا وفي الآخرة سواء بسواء لمن آمنوا  .
ويكفينا من التاريخ عبرة كيف كان حال الانسان .. عندما سادت وسيطرت المذاهب الوضعية ولو لحين .. الحروب والطغيان والاذلال والاستبداد .... إلخ  ، وكيف كان حال الانسان عندما جاءت الرسالات السماوية وبشر بها الأنبياء وكيف هو الفرق بين سيرة الرسل و الأنبياء وسيرة جبابرة التاريخ الطغاة ( من الاسكندر المكدوني الى جنكيز خان .. الى بوش هذا الزمان )  .
(9)
 منهج سيف الدولة والواقع :
* عندما كانت التجربة الثورية القومية في ذروة صعودها في ستينات القرن الماضي كتب سيف الدولة ينبه ويحذر من مخاطر الردة على التجربة من داخلها داعياً إلى ضرورة التحرك لقيام حركة ثورية قومية من خارج جهاز الدولة في مصر لحماية التجربة واستمراريتها ( الحركة العربية الواحدة ) ولحماية افقها الوحدوي العري لأنه رأى استحالة المراهنة على تنظيم الاتحاد الاشتراكي وحزبه الطليعي ( النواة الطليعية ) لاستمرارية التجربة و الثورة لأنها تنظيمات تم تشكيلها من فوق و عبر أجهزة الدولة نفسها و بهذه الطريقة رأى أن هناك استحالة لقيام تنظيم شعبي ثوري حقيقي ( راجع مؤلف وحدة القوى الثورية العربية و بيان طارق ) وهذا ما حصل فعلاً بمجرد غياب قائد الثورة " عبد الناصر " و ما نعرفه من ردة ساداتية و انقلاب تنظيم الاتحاد الاشتراكي الى حزب الردة الساداتية .." الحزب الوطني الديمقراطي " المعروف حالياً و صدق تنبؤ سيف الدولة ؟!
* بعد انطلاق حركة المقاومة الفلسطينية " فتح " عام (1965مـ) بعدها بثلاث سنوات فقط عام (1968مـ) كتب سيف الدولة محذراً أو منبهاً في دراسة ألقاها أمام مؤتمر المحامين العرب.. من مخاطر الوصول الى " طريق مسدود " اذا استمرت الثورة على نهجها القائم .. " النهج الاقليمي " لأن هذا النهج – حسب سيف الدولة – سوف يضعها امام خيارين إما الاعتراف بإسرائيل و إما التصفية و هذا ما حصل فعلاً فقد اضطرت المقاومة تجنباً للتصفية الى الاعتراف الرسمي بدولة اسرائيل المغتصبة وهذا بحد ذاته أيضاً تصفية لقضية المقاومة و أهدافها بل تصفية لقضية الأمة كلها ؟؟ و صدق تنبؤ سيف الدولة  .
* مع الساعات الأولى لقيام حرب أكتوبر(1973مـ) وعبور خط بارليف و مرتفعات الجولان من الجيشين المصري و السوري , كتب سيف الدولة رسالة سريعة الى الشباب العربي و القوى القومية الشريفة محذراً ومنبهاً ومتنبئاً بأن هذه الحرب .. حرب التسوية.. حرب التفريط بالقضية الفلسطينية .. حر تحريك وليس حرب تحرير .. في الوقت الذي كانت فيه الامة مهللة ومستبشرة بمقدمات الانتصار وما هي الا أيام معدودة حتى انكشف المخبوء و صدق ما توقعه سيف الدولة و ما هي الا سنوات قليلة حتى كانت معاهدة كامب ديفيد واخراج مصر بكامل ثقلها من ميزان الصراع و المواجهة ... الى ميدان التطبيع و الاعتراف والانخراط في الإستراتيجية الأمريكية الصهيونية للمنطقة ؟؟ وأيضا صدق سيف الدولة  .
* مع تألق التوجه الوحدوي لقيادة الفاتح من سبتمبر في ليبيا في سبعينات القرن الماضي كتب سيف الدولة في مجلة الشورى الليبية محذراً من مخاطر الاقليمية في ليبيا و بين أسباب هذه المخاطر واحتمالاتها – لا يتسع المجال هنا لسردها – وكانت الدراسة محل استهجان ونقد شديدين .. ولكن ما هي الا سنوات حتى انكشف المخبوء الذي نبه اليه سيف الدولة و ارتدت ليبيا الثورة من " العروبة " كلها الى " الأفرقة " ؟؟!! وصدق تنبؤ سيف الدولة .
(10)
مع انهيار الدولة اللبنانية عام  ( 1978مـ) وقيام الاجتياح الإسرائيلي بجنوبه لتصفية المقاومة الفلسطينية ، كتب سيف الدولة موجهاً رسالة الى الشباب العربي لانتهاز هذه الفرصة التاريخية المتاحة لتحقيق مواجهة شعبية مع العدوان الصهيوني في بقعه محررة من الإقليمية ودولتها وجيوشها لدحر هذا العدوان وتوسيع هذه المواجهة .. وبالفعل تمت أول حرب شعبية في تاريخ الصراع مع الدولة الصهيونية تحقق أول تحرير حقيقي في التاريخ المعاصر واليوم مع عودة الدولة الاقليمية في لبنان مجدداً فإن اول أهدافها هو تفكيك هذه المقاومة وتصفيتها وبالتعاون مع امريكا واسرائيل ؟؟ 
وصدق تنبؤ سيف الدولة  .
 في آخر لقاء لي معه في اواسط الثمانينات قال لي متنبئا أن مصر تتهيأ لثورة رابعة بعد ثورة عرابي وثورة 19 و ثورة يوليو ؟ فهل يصدق تنبؤه هذا ايضاً!!!! 
نرجو ذلك و ندعوا الله سبحانه وتعالى قبل أن ندعوكم ...؟!!
والسلام عليكم ورحمة الله .

يوليو 2009 .

جدل الإنسان رسالة إلى الأجيال العربية.

عصمت سيف الدولة : جدل الإنسان رسالة إلى الأجيال العربية.
                                 حبيب عيسى . 

 أيها الحفل الكريم : إنني إذ أشكر لكم هذه المشاركة الممتازة في إحياء الذكرى السنوية الأولى لرحيل شيخ القوميين العرب عصمت سيف الدولة ، فإنني أجد نفسي مشدوداً إلى مستقبل الأمة العربية ، وإلى مستقبل الإنسانية جمعاء ، كما رسمه الراحل العظيم ، حيث الإنسان متحرر من العبودية ، والاستبداد ، والاستغلال ، والاستلاب ، وحيث تحيا الأمة العربية ، بما تملك ، وتنتج ، وتجهد ، وحيث يختفي من العالم التمييز العنصري ، والمناطقي ، والطائفي ، والمذهبي ، والطبقي ، والاجتماعي ، وحيث يختفي هذا النظام العالمي ، القديم ، الجديد ، الذي يستمد قوانينه من أعراف القراصنة ، وتجار العبيد ، ورعاة البقر ، وحيث تسود الإنسانية عدالة اجتماعية يستحقها الإنسان ، في كل مكان ، وعلى امتداد الزمان  .
 (1) 
وقبل أن أدخل إلى موضوع البحث الذي خصّني فيه “المنتدى القومي العربي” لابد أن أتقدم بشكر ، وباعتذارين ، إثنيّن :
– أما الشكر ، فهو للجنة التنفيذية “للمنتدى القومي العربي” (رئيساً وأعضاء) ، ليس لأنها تحيي الذكرى  السنوية الأولى لشيخنا الجليل الراحل ، وحسب ، (وهذا ليس بالقليل على أية حال) ، ولكن أيضاً لأنها حتى الآن لم تفكر بتغيير اسم “المنتدى القومي العربي” رغم هذا الحشد من اليافطات المذهبية ، والطائفية ، والإقليمية المعروضة في سوق النخاسة هذه الأيام ، مع الإغراءات ، والهدايا ، وهذا يؤكد أن المعركة مستمرة ، وأن الحديث عن “وفاة العرب” سابق لأوانه…. هم ، الأعداء ، يقولون أنهم كسبوا جولة…. ، ونحن نقول : إنها محنة ، و ستمضي ….  
 – وأما الاعتذار الأول ، فهو ، في حقيقة الأمر ، اعتراف ، و إقرار بأنني لن أدعّي الحياد ، وأنا أتحدث إليكم  عن منهج : “جدل الإنسان” ، لأن هذا مالا أستطيعه . فأنا قادم لأصدقكم القول ، فيما أعتقد ، أنه الصحيح ، لا من أجل المجاملة …… ، فالموقف عصيب ، والأمة جريحة ، والأعداء يرتعون في كل مكان ، والذين أمسكوا العصا من منتصفها ، لسنوات طويلة ، يمسكونها الآن من الطرف الذي يختارونه ، أو يجبرون عليه ، بالعجز ، وقلة الحيلة ، ولا فرق في ذلك …
وإذا كان أجدادنا ، قد قالوا سابقاً : ( آفة الرأي الهوى) ، فأنا أعترف أمامكم ، أنني أهوى ، وأنني متيمّ  بمن أهوى إلى حد اليقين ، وبالتأكيد ، فإن أجدادنا ، لم يقصدوا ،  بأية حال ، أن يكون الإنسان بلا موقف  يدافع عنه ، ويمنحه حياته كلها ، إذا اقتضى الأمر ، ذلك ، بل كانوا يحرضوّن على موقف كهذا ، خاصة إذا كانت الأمة معتدى عليها ، من خارجها ، استعلاء ، ومن داخلها ، خيانة ، واستبداداً ، تدق في ساحاتها ساعة النفير إلى موقف حاد ، كحد السيف ، في زمن يشهر فيه الأعداء ، والخونة سيوف الغدر ، ويقهقهون حتى تنفسخ أشداقهم على مشاهد أشلاء شهدائنا ، ويذرفون الدموع ، حتى تجحظ عيونهم ، على قتلى الأعداء ، فقد حتمّ على جيلنا ، أن يخوض معاركه الفكرية ، في خنادق معركة الدفاع ، عن الوجود ، وعن الحياة ذاتها .
 وأما الاعتذار الثاني ، فهو أنني لن  أتمكن في الدقائق التي حددها لي “المنتدى القومي العربي” ، أن أفي موضوع البحث حقه ، فجدل الإنسان ، الذي استغرق عمر صاحبه ، وجهده ، وبحثه ، لا يمكن أن أحيط في جوانبه المتعددة بدقائق ، لكنها دقائق ثمينة ، على أية حال ، وهي فرصة نادرة ، بالنسبة إليّ ، أن أخاطب هذا الحضور الممتاز ، من أبناء أمتي .
(2)  
وللحديث الجاد عن منهج ” جدل الإنسان ” لابد من الوقوف في محطات رئيسية ثلاث :
– المحطة الأولى : هي الظروف ، والملابسات الفكرية ، والفلسفية ، التي هيأت لولادة منهج  ” جدل الإنسان ” وجعلت منه  ضرورة ، وحاجة …!          
– المحطة الثانية : هي المنهج ذاته ” منهج جدل الإنسان ” .          
– المحطة الثالثة : هي التطبيقات ، والنتائج التي ترتبّت على إعمال المنهج ، في الواقع .
 (3) 
عن المحطة الأولى نقول : أن العالم ، كان قد نفض غبار الحرب العالمية الثانية منشطراً ، انشطاراً حاداً ، إلى كتلتين رئيسيتين ، تتصارعان معاً ، لكنهما تتفقان ، من غير اتفاق ، على مجابهة أية كتلة ثالثة. ولكل من هاتين الكتلتين منهج محدد ، وتجارب في بناء النظم ، والحياة ، والتفكير تريدان نشرها في العالم كله :  
– الكتلة الأولى : فيها بريق الحرية الفردية ، ” دعه يعمل، دعه يمر” ، لكنها انتهت إلى عنصرية استعمارية للعالم ، واستغلال حاد للبشر، وإحياء لأعراف القراصنة في العلاقات الدولية، باختصار شديد فإن التجربة الرأسمالية التهمت ما سمي عصر الأنوار ، وعصر النهضة في أوربا ، وأكلت حتى الليبرالية ، و المساواة ، والعدالة، وأصبح قانون المنفعة الأمريكي ، هو السائد.         
– الكتلة الثانية : فيها بريق العدالة الاجتماعية ، والتخطيط  الاجتماعي ، وإلغاء استغلال الإنسان ، للإنسان لكن ديكتاتورية البروليتاريا ، انتهت إلى ديكتاتورية الأمين العام ، ثم ، إلى تأبيده.. ، وباختصار شديد أيضاً فإن التجربة هناك أكلت أحلام ثوار أكتوبر بالتنمية ، و التطور ، والعدالة، وأكلت أحلام الإنسانية جمعاء ، ببناء تجربة نموذجية ، لمواجهة قراصنة الرأسمالية ، الذين يجوبون العالم .           
– ثم إلى جانب تلك الكتلتين ظهرت كتلة ثالثة ، تتلمس طريقها. يقودها رجال أفذاذ ، حاولوا رسم ملامح طريق ثالث أخذوا فيه من الجدلية المادية ، ومن القانون الطبيعي ، ومن الأفكار المحلية ، والدينية تحت شعار عريض يقول : ” نأخذ ما يناسبنا ، ونطرح ما سواه ” ، لكن التجربة ، أكلت الحلم ، مرة أخرى ، وأكلت قادته الأفذاذ . فتبيّن ، أن هذه الكتلة أخذت أسوأ ما في الكتلتين الأخريين .
(4) 
الوطن العربي كان في القلب ، من ذلك كله ، وأطراف الصراع  الدولي على العالم كانت نشيطة هنا، وتجلياتها الفكرية ، والنظرية ، والمنهجية كانت تتصارع في ساحة الوطن العربي ، صراعا عنيفاً ، وعندما بدأت حركة القومية العربية تتبلور ، بأطر تنظيمية ، في الخمسينات ، من هذا القرن ، فان القضايا السياسية الملحة ، لمواجهة الاعتداء الكثيف على وجود الأمة ، احتلت الأولوية ، وأصبح الاهتمام ، ببلورة منهج فكري محدّد ، يحتل المرتبة الثانية ، من الاهتمام ، وعندما بدا أن حركة القومية العربية انتقلت إلى الهجوم بإقامة دولة “الجمهورية العربية المتحدة” ، وبضرب القوى المعادية ، ضربات موجعة ، بين المحيط والخليج ، وعندما بدا أن عروش حكام الدول الواقعية العدوانية ، التي تحتل أرض الأمة ، بين المحيط والخليج ، تهّتز ، اهتزازا عنيفاً ، فإن الحماسة ، والشعارات ، والانخراط في المعارك اليومية شغل الحركة القومية العربية ، عن الالتفات إلى التأصيل الفكري ، والمنهجي ، والنظري حيث لا وقت للتفلسف ، خاصة ، وإن الإنتاج الفكري للإنسانية ، عبر التاريخ ، معروض لمن يريد ، فلماذا نضيّع الوقت في إنتاج نظري لا حاجة لنا فيه …؟ ، ولماذا هذه “الشوفينية” في المطالبة بنظرية من إنتاج العرب خاصة …؟    
 لكن المسألة ، لم تكن بهذه البساطة ، خاصة بعد الإنذار بالغ الدلالة صبيحة يوم 28 أيلول / سبتمبر 1961 عندما استطاع حفنة من الانفصاليين أن يغتصبوا الإقليم الشمالي للجمهورية العربية المتحدة ، بينما الجماهير العربية الهادرة ، بالحماسة ، عاجزة ، مذهولة رغم غلبتها العددية الساحقة فلا تعرف كيف تواجه الانفصاليين ، ولا تعرف كيف تعيد الوحدة ، كما لم تعرف من قبل كيف تحصّن “الجمهورية العربية المتحدة” ، وتمد حدودها إلى حيث حدود الأمة ، بين المحيط ، والخليج .
 في هذه المحطة بالذات بدأ الإدراك يتبلور ، بأن الحاجة إلى منهج يكون ضابطاً للحركة المطرّدة إلى التقدم ، والوحدة ، ليس ترفاً ، وأن منهج ” دعه يعمل دعه يمر ” لم يؤد إلى سعادة البشرية ، وحريتها  ، وإنما إلى استغلال مزدوج ، فالرأسماليون يستغلون شعوبهم ، ثم يجندونهم ، لاستغلال البشرية بأسرها ، وأن منهج ” ديكتاتورية البروليتاريا ” لم يؤد إلى العدالة الاجتماعية ، فالاستبداد هناك بات نموذجاً ، لأنظمة الطغيان في العالم كله ، وأن منهج التلفيق ، والتجريب ليس ناظما لحركة مضطردة إلى التقدم ، وأن منهج العودة إلى المذاهب ، والأديان ، لا يعني ، أكثر من العودة ، إلى أوحال الفتنة ، والنزول بالأديان إلى ساحة الخلط بين مفاهيم الانتماء الوطني ، والانتماء الديني ، وحدود كل منهما .              
تلك كانت هي الأرضية التي انطلقت منها الحاجة إلى منهج جديد يتجاوز المناهج التي تدمّر الإنسانية ، هذه الأيام . إن لم يكن ” جدل الإنسان ” فليكن سواه ، وباب الاجتهاد مفتوح ، على أية حال ، المهم ، أن يكون اجتهاداً ، لا فتنة .               
 أريد من ذلك ، كله ، أن أقول ، باختصار شديد ، أن المناهج الفكرية ، والفلسفية ، لا تولد من فراغ ، وليست منقطعة الصلة بالواقع ، وإنما ، وإن كانت ، في النهاية ، من إبداع فردي ، لرجل معين تحمل أسمه ، فيما بعد ، فإنها حصيلة لجملة من الإرهاصات الفكرية ، والتفاعل ، والتجريب ، والهزائم ، والانتصارات ، والتراكم الفكري ، فكل إنتاج فكري ، يتضمن شيئاً من النتاج الفكري ، السابق عليه ، ثم إضافة إليه ، يبدعه صاحبه ، ليتحول بدوره إلى تراث فكري ، وهكذا .. فالمناهج النظرية ، هي حاجة للبشرية ، بعد إن تكون المناهج السابقة ، قد استنفذت أغراضها .
 (5) 
ومنهج “جدل الإنسان” الذي أبدعه عصمت سيف الدولة لم يأت من فراغ ، وليس مقطوع الصلة بالإنتاج الفكري الإنساني ، فهو يتضمن شيئاً من هذا النتاج ، وإضافة من مبدعه ، من جهة ، وهو استجابة لحاجة قومية ملحة ، في أخصب مناطق العالم ، التي تتعرض لعدوان عنيف لا يوّفر فيه المعتدون استعمال أي سلاح ، من أي نوع . وبالتالي فإنه من الطبيعي أن يأتي الحل ، من هنا ، مرة أخرى ، في عصر يطرح فيه المترفون ، الذين يستنذفون ثروات العالم ، ويلوثون أجواءه ، بأن “عصر الإيديولوجيات” ، قد انتهى ، ليس لأنه انتهى فعلاً ، ولكن ، حتى لا يفكر أحد في تغيير هذا النظام العالمي الفاسد ، الظالم ، التي يتربّع فوقه ، حفنة من القراصنة ، واللصوص ، بينما الملايين من البشر ، في القاع ، يعانون أقسى ظروف القهر ، والظلم ، التي عرفتها البشرية ، حتى ، في عصورها الأولى .
 (6) 
عن المحطة الثانية ، التي تتعلق بالمنهج ذاته …. “منهج جدل الإنسان” ، فإننا نجد أنفسنا مشدودين للحديث عن مبدع هذا المنهج ، بعد أن تحدثنا عن الظروف الموضوعية التي أحاطت ، به ..
يقول التاريخ : انه في بداية عقد الخمسينات من هذا القرن توجهت فصائل من الفدائيين العرب المصريين إلى قناة السويس لخوض غمار حرب فدائية ضد جنود الاحتلال البريطاني ، ويضيف كتاب التاريخ ، أنه ، قد كان بين تلك الفصائل كتيبة يقودها “عصمت سيف الدولة” ، وأن ما دفع المؤرخ للحديث ، خاصة ، عن تلك الكتيبة بالذات ، والتي كانت تحمل اسم “كتيبة محمد فريد” ، أنها الكتيبة الوحيدة التي حملت معها ، بالإضافة إلى العتاد ، والسلاح ، والزاد … حملت ، مكتبة ضخمة ، بحيث كان أفرادها ، يقاتلون ، ثم يتناوبون على القراءة ، وهكذا …   
ثم ، يقول التاريخ مرة أخرى … أن مجموعة من الشباب العربي في مصر ، وأثناء معركة القناة ، عام 1956 ترسّخت لديها قناعة بأن معركة الأمة العربية ، واحدة ، وأنه لا بد من تشكيل حزب قومي عربي ، لتوحيد الأمة العربية ، وعندما عاد أحد أفراد هذه المجموعة من جولة له في بلاد الشام ، أعلمهم أن مجموعة من الشباب العربي ، في بر الشام ، قد أسسوا حزباً قومياً عربياً أسموه حزب البعث العربي الاشتراكي ، فاتصلت تلك المجموعة ، بالحزب ، واتصل الحزب بها ، وجرت محاورات ونقاشات جادة ، حول مفهوم القومية العربية ، ويقول د. جلال أمين عن تلك الفترة : ” كنا قد أنشأنا فرعاً “لحزب البعث العربي الاشتراكي” في مصر ، في منتصف الخمسينات، ولم يعمّر هذا الفرع ، أكثر من ثلاث سنوات ، إذ اضطررنا لحله ، تنفيذاً للاتفاق الذي تم بين جمال عبد الناصر ، وحزب البعث ، عندما اتفقا على إنشاء وحدة مصر ، وسورية ، في مطلع عام  1958″ ، ويضيف د. جلال أمين: ” اتصل بنا ، وقتها ، عصمت سيف الدولة ، الذي كان يكبرنا ، بنحو عشرة أعوام ، كان متحمساً ، طلق اللسان ، واسع الثقافة ، قاطعاً كحد السيف ، في أحكامه ، وعنيفاً في تقييمه للناس ، والأحداث ، مما جعلنا نتهيب من انضمامه للحزب ، فترددنا في قبوله ، ولم نكن ندري ، وقتها ، أنه ، سيصبح عما قريب ، ملء السمع ، والبصر ، ورائداً ، من رواد الفكر القومي العربي ، ومناضلاً صلباً ، من أجل القومية العربية ، والعدل حتى آخر لحظة في حياته ، نادر المثال ، في جرأته ، وإصراره على المبدأ ” .              
ثم يقول التاريخ ، أنه ، إثر انفصال الإقليم الشمالي عن الجمهورية العربية المتحدة ، وخلال فترة المراجعة ، والدعوة لتأسيس “الاتحاد الاشتراكي العربي” بديلاً عن “الاتحاد القومي” ، أصدر “عصمت سيف الدولة”  مجموعة من الكتيبات ، تحت عناوين : ( قومية عربية يعني إيه ؟ ) ، ( حرية يعني إيه ؟ ) ، ( وحدة يعني إيه ؟ ) ، ( اشتراكية يعني إيه ؟  ) .
(7)  
تلك  الإرهاصات ، كلها ، موضوعياً ، وذاتياً . أدت ، إضافة إلى عوامل أخرى ، أن يبدع عصمت سيف الدولة  “منهج جدل الإنسان” ، الذي ظهر أول مرة ، بتاريخ 15 كانون الثاني ( يناير) 1965. حيث تضمنه كتاب “ أسس الاشتراكية العربية ” ….                     
جاء في المقدمة : ” المنهج العلمي ، يجب أولاً ، وقبل كل شيء ، أن يكون علمياً ، أي مجرداً من التحيّز ، والتعصب ، والخوف . لهذا ، كان على أي عربي ، يريد أن يؤدي دوراً فكرياً ، في هذا الميدان ، أن يبدأ من أصعب النقاط : من الصفر ، لا تبهره الانتصارات ، فيجنح إلى تبريرها ، ولا تخيفه النكسات ، فيحتاط لها ، ولا تستفزه الاعتداءات ، فيتعصب لنفسه ، أو لغيره ، ولا تضغطه الشعارات ، فيجري وراء الجماهير يرفض ما ترفضه ، ويقبل ما تقبله ، وتلك بداية ثقيلة ، إن تجاوزها ، وجد نفسه أمام تراث فكري عريض ، كل تيار فيه ، بالغ الخصوبة ، وعليه عندئذ أن يقبله كتراث ، وأن يستفيد منه ، وأن يطهّر نفسه ، تماماً ، من التعصب معه ، أو ضده ، وأن يفهمه على ضوء الأحداث التي صاحبت نشوءه ، ثم يعزله عنها ليختبره على ضوء الأحداث التي يعيشها … ثم ، لو استطاع أن يهتدي إلى قاعدة علمية بسيطة أصبح محتوماً عليه أن يعود مرة أخرى إلى أمته ليختبر مقدرة القاعدة التي اهتدى إليها … تجيب عن الأسئلة التي تطرح ، عن الإنسان كفرد ، والإنسان في جماعة ، والجماعة في الطبيعة ، وحركة كل هذا في الزمان … كل هذا على ضوء مشكلات العصر ، الذي يعيش .. فيه … ” .                
ماذا يعني هذا في الواقع العربي ؟               
 “يعني ضرورة تجاوز الفراغ العقائدي ، إلى عقيدة ، وتجاوز “التجربة ، والخطأ” إلى منهج علمي ، وتجاوز التجمعات الجماهيرية المتعددة ، إلى حركة جماهيرية واحدة ، ذات منهج علمي ، وعقيدة واضحة ، تعلو بها ، على وحدة الصف  ، أو وحدة الهدف ، أو التضامن ، أو المنظمات الحزبية ، والجماهيرية الإقليمية ، وتتجاوز ، بها ، حتى طاقة الحكومات ، ومقدرتها ، بالقوة التي تستمدها من طاقة الجماهير ، ومقدرتها .. ”                
ثم يقول عصمت سيف الدولة عن “منهج جدل الإنسان” : لقد أعطيته كل ما أمكنني من جهد ، واستطعت فيما أعتقد ، أن أوفر له من ضمانات البحث العلمي ما قدرت عليه من نفسي ، فجاء مجرداً من التحّيز ، والتعصب ، والخوف ، أمّا المضمون فهو كل ما عندي من اجتهاد ، مهما كنت مقتنعاً به ، فإني مقتنع أيضاً ، بأن مناط الصواب ، والخطأ ، هو الحقيقة الموضوعية ، لا ما يدعيه المؤلفون … ولمّا ، أن رأيت أن تلك الفكرة الواحدة قد استطاعت أن تكون قاعدة لمفاهيم عديدة ، دون تناقض بينها ، توهمّت أنني قد أتيت بشيء يستحق أن يخرج للناس ، وربطت بينه كقاعدة انطلاق ، وغايته كحياة مقبلة … ” .
(8)
ان “منهج جدل الإنسان”  يرتكز على أربعة قوانين أساسية ، ثلاثة منها هي : قوانين الجدل ، التي جاء بها هيجل ، وأعملها في الفكر المجرد ، وحملت اسم “الجدلية المثالية” ، ثم أخذها عنه كارل ماركس ، وأعملها في المادة الصماء ، وحملت اسم “الجدلية المادية” ، ثم أخذها عنهما عصمت سيف الدولة وأعملها في الإنسان ، باعتباره ظاهرة نوعية ، تنفرد بأنها ” وحدة من الذكاء والمادة ” ، وحملت اسم “جدل الإنسان” ، وبذلك يقوم “منهج جدل الإنسان”  على القوانين التالية :  
  إن كل الأشياء ، والظواهر منضبطة حركتها من الماضي إلى المستقبل ، بقوانين حتمية معروفة ، أو يمكن معرفتها ، وأن الإنسان نفسه ، لا تفلت حركته ، من هذا النظام .
2- كل الأشياء ، والظواهر يؤثر بعضها ، في بعض ، خلال حركتها ، التي لا تتوقف ، فتلحقها تغيرات مستمرة ، وهذا قانون كلي ، يضبط حركة كل الأشياء ، والظواهر ، بما فيها الإنسان .
3- في نطاق القوانين السابقة ( التأثير المتبادل ، والحركة ، والتغير ) تخضع حركة كل شيء ، وأي شيء في الكون ، لقوانينه النوعية .
4- ينفرد الإنسان “بالجدل” قانونا نوعيا ” للتطور” ، وذلك ، لأن “الجدل” قانون للتطور ، والإنسان وحده ، والمجتمعات البشرية وحدها ، تتطور ، أما الأشياء ، والظواهر الطبيعية الأخرى ، فهي تتحول . وبذلك نصل إلى النتيجة القائلة : أن التغيرات التي تصيب الأشياء ، والظواهر عامة ، تتضمن نوعين : أولهما : ” التحول ” ، وهو ، ما يصيب كل الأشياء ، والظواهر من تغيرات تلقائية ، بفعل التأثير المتبادل ، فيما بينها ، خلال حركتها ، التي لا تتوقف . وثانيهما : ” التطور ” وهو إضافة للأشياء ، والظواهر ، ما كان لها أن تتحقق تلقائياً ، بفعل التأثير المتبادل بين الأشياء ، والظواهر خلال حركتها التي لا تتوقف ، إلا بتدخل ( واع ) بفعالية في القوانين التي تضبط حركة الأشياء ، والظواهر ….، والإنسان ” قادر ” على استخدامها ، لتغيير الأشياء ، والظواهر إلى ما يريد ” .
يمكن القول ، بناء على ذلك : أن ” التحول ” يصيب المادة في كل جزئياتها ، وأنواعها ، من أول الذرات إلى آخر المجرات … أما “التطور” فلا يصيب إلا الظواهر الإنسانية حيث تخضع حركة الإنسان وحده لقانون ” الجدل ” ، بالإضافة إلى خضوعه ، للقوانين الأخرى .
(9)
 إن أعظم دروس “الجدل” على الإطلاق هو : ” أولوية الإنسان ” لا بأي مفهوم ميتافيزيقي ، أو مثالي  ، أو أخلاقي ، ولكن في حركة التطور الاجتماعي ، يعتبر الإنسان وحده ، هو أداة تغيير واقعه ، وأن الناس وحدهم هم أداة الخلق في التطور الاجتماعي ، وبذلك نقول :  يتوقف “التطور الاجتماعي” من حيث مضمونه ، واتجاهه ، ومعدل سرعته ، ونصيبه من النجاح ، أو الفشل ، على العنصر البشري ، في أي مجتمع ، وكل ما عداه من قوى الطبيعة ، وموادها ، فهي إمكانيات متاحة ، والبشر ، وحدهم ، قادرون على استخدام تلك القوى ، والمواد في صنع “التطور الاجتماعي” . أما كيف يسير قانون “الجدل” في الإنسان … ؟ فيقول عصمت سيف الدولة : ” في الإنسان نفسه ، يتناقض الماضي ، والمستقبل ، ويتولى الإنسان نفسه ، حل التناقض ، بالعمل ، إضافة فيها من الماضي ، والمستقبل ، ولكن تتجاوزهما ، إلى خلق جديد ” . والنقيضان في “جدل الإنسان” هما الماضي ، والمستقبل ، اللذان يتبع أحدهما الآخر ، ويلغيه ، ولا يلتقي به ، قط ، ومع هذا يجمعهما الإنسان ، ويضعهما وجهاً لوجه ، في ذاته .
(10)  
لكن ، كيف يسير “قانون الجدل” في المجتمع … ؟ ، يقول : عندما نرّد الفرد ” الإنسان ” إلى مجتمعه ، لنرى ما يؤثر في فعالية قانونه ، وما يتأثر بها ، نجد : أن الواقع الاجتماعي ، هو محصلة تطور تاريخي ، وهو الذي يسهم في إثارة المشكلات ، وهو محدد موضوعياً ، لذلك فإن الحل الصحيح لأية مشكلة اجتماعية محدد موضوعيا ، والإنسان يشق طريقه الحتمي إلى الحرية ، بقدر ما يكتشف الحل الصحيح ، وينفذه ، ويفشل في تحقيق الحرية ، بقدر ما يجهل ، ذلك الحل الصحيح ، فلا ينفذه بالعمل ، ويهتدي الناس في مجتمع معين إلى الحل الصحيح بالجدل المشترك ، أو ما نسميه ” الجدل الاجتماعي ” أي المعرفة المشتركة ، بالمشكلات المشتركة ، والرأي المشترك ، في حلها ، والعمل المشترك تنفيذاً للحل ، فيتحقق به ، إضافة تحل بها المشكلات الاجتماعية ، وتثور بها مشكلات اجتماعية جديدة ، فتحل … وهكذا … فإن المجتمعات تتطور من خلال حل مشكلات الناس فيها ، بالعمل .                
 وبما أن الناس يختلفون في درجة معرفتهم ، وفي تقديم الحلول الصحيحة ، لمشكلاتهم ، فإنه ينشب بينهم صراع اجتماعي ، و”الصراع الاجتماعي” يكون حتمياً لإزاحة أية عقبة تقف في سبيل الجدل الاجتماعي ، ويتوقف التطور على قدر ما يستنفذ الصراع الاجتماعي ، من قوة ، إلى أن تزاح العقبة التي أقامها موقف الذين حاولوا تعويقه .
 (11)
إذن ، فالتطور الاجتماعي ، استناداً إلى ” جدل الإنسان ” ، ثم إلى ” الجدل الاجتماعي ” ، يبدأ من الواقع الاجتماعي ، كما هو ، بالمجتمع ، كما هو ، بالبشر في واقعهم المعين المشترك ، كما هو ، ولا يتم التطور إلا بقدر ما يشارك الناس في طرح المشكلات الاجتماعية ، ومناقشتها ، ومحاولة معرفة حلولها الصحيحة ، والمساهمة في العمل لحلها . بعد ذلك يمكن تحديد صيغة واحدة “لقانون التطور الاجتماعي” كما يلي : ” في حدود الكل الشامل للطبيعة ، والإنسان ، كل شيء مؤثر في غيره ، متأثر به ، وكل شيء ، في حركة دائمة ، وكل شيء ، في تغير مستمر ، وفي هذا الإطار الشامل ، يتحول كل شيء طبقاً لقانونه النوعي ، وينفرد الإنسان ، بالجدل ، قانوناً نوعياً لتطوره ، وفي الإنسان نفسه ، يتناقض الماضي ، والمستقبل ، ويتولى الإنسان نفسه حل التناقض ، بالعمل ، إضافة ، فيها من الماضي ، ومن المستقبل ، ولكن تتجاوزها إلى خلق جديد ” .                
يترتب على ذلك ، أن أية محاولة لتغيير الواقع ، على ضوء “جدل الإنسان” تفرض علينا أن نبدأ ، بتحديد واقعنا البشري ، من خلال الإجابة على السؤال ؟ من نحن … ؟ ، وعندما نعرف ، من نحن ؟ ، وما هو مجتمعنا ؟ ، فلن تكون عملية التغيير ، تجريداً . ويترتب على ذلك ، أن لكل أمة ، أبعاداً ثلاثة ، هي : 
– البعد الأول : يحددها ، من حيث علاقتها بالجماعات البشرية ، الخارجة عنها . 
– البعد الثاني : يحددها ، من حيث علاقتها بالجماعات الإنسانية ، الداخلة فيها . 
– البعد الثالث : يحددها ، من حيث مسيرتها ، كأمة . 
بالإضافة ، إلى حدها الرابع ” الحد الزماني ” الذي هو الواقع الاجتماعي للأمة ، في وقت معين .
 (12) 
لماذا “جدل الإنسان”  ؟ ، وما هي ضرورة المنهج … ؟               
 إن المسألة ، لا تتعلق بترف فكري ، ولا بالمباهاة بإنتاج نظري ، ولا مماحكة أصحاب المناهج الأخرى ، والدخول معهم في معارك لا تنتهي ، وإنما يتعلق الأمر كله ، بأمة عربية ممنوع عليها أن تتطور ، ممنوع عليها أن تعيش بما تملك ، ممنوع عليها أن تقول ـ أنها موجودة ، هكذا ، ممنوع علينا ، أن نكون عرباً ، كونوا ما شئتم ، إلا أن تكونوا عرباً ، ولا أتحدث عن العروبة ، هنا ، بمعنى الانتماء ، ولكن بمعنى الفعالية ، والشخصية الاعتبارية، والتأثير في عالم ، هي جزء منه… ممنوع عليها ذلك كله .. فإن قلتم إن هذا المنع جار بقرار دولي… فهو صحيح ، وإن قلتم أنه جار بخيانة من بعض أبناء الأمة ذاتها ، فهذا صحيح أيضاً ، وان قلتم أنه نتيجة عجز أبناء الأمة المخلصين ، فهذا صحيح كذلك .. ما يعنينا ، هنا ، هو معالجة هذا العجز، هو الانتقال ، من هذه السلبية التي تضع الكتلة الكبيرة من جماهير الأمة في موقع الفرجة على ذبح الأمة ، وتقطيع أوصالها ، إلى حالة يتحمل كلٌ مسؤوليته .              
وهذا يعني ، أن الذي يعنينا ، هو الفكر المسمى “قومي تقدمي” ، أو ما ينسب إليه ، وهو كثير ، وأزمة المنهج فيه واضحة ، ففيه يتحدث الكثيرون عن الأمة العربية ، والقومية العربية ، وعن الوحدة العربية ، وعما يجب ، أو لا يجب في الوطن العربي … دون أن نستطيع معرفة كيف توصلوا إلى ما يتحدثون فيه ، إلا أن يكون ترجمة لشعورهم ، بالانتماء القومي ، والشعور ، بالانتماء القومي ، قد يكون ذا دلالة صحيحة على وجود أمة ينتمي إليها المتحدث ، ولكنه لا يصلح مصدراً لمعرفة منطلقات تغيير الواقع القومي ، وغايته ، وأسلوبه ، يترتب على هذا ، أن الوحدة الفكرية ، بين القوميين التقدميين ، متوقفة على حل مشكلة المنهج في الفكر القومي التقدمي ، ذلك ، أننا في حاجة ماسة ، إلى معرفة كيف يكون الوجود القومي ، الذي هو محصلة تاريخ ماض ، ضابطاً لحركة تصنع المستقبل …؟ ، كيف يكون الانتماء القومي السلبي التزاماً حركياً ايجابياً ….؟ ، ونحن لا نعرف هذا ، إلا إذا عرفنا القوانين ، التي تضبط حركة المجتمعات ، من الماضي ، إلى المستقبل  .
 (13) 
أما عن المحطة الثالثة : المتعلقة بالتطبيق ، والنتائج التي ترتبت على إعمال المنهج في الواقع ، ودراسة المشكلات ، والظواهر ، بالاستناد إلى “منهج جدل الإنسان” نلحظ موقفاً استراتيجياً ثابتاً ، من مجمل القضايا المبحوثة ، يصمد أمام المتغيرات العنيفة ، فعلى مدى ثلاثين عاماً ، بدءاً من عام 1965 ، عالج   د . عصمت سيف الدولة ، كافة القضايا المطروحة ، والملحّة ، التي عاصرها استناداً إلى “منهج جدل الإنسان” ، فلا نعثر على تناقض بين موقف ، وآخر ، وإنما خط متسق من المواقف ، لم تقطعّه الأحداث ، والمتغيرات ، وكأنه سبيكة متجانسة ، لمواجهة الظروف المتغيّرة ، والصمود في وجه أعاصيرها :
1- إن المجتمعات تتطور ، خلال حل المشكلات التي يطرحها واقعها مستهدفة دائما إشباع حاجاتها المادية ، والثقافية المتزايدة ، أبداً .
2- ما دمنا أمة عربية واحدة ، فإن هذا يعني أن تاريخنا ، الذي قد نعرف كل أحداثه ، وقد لا نعرفها ، قد استنفذ خلال بحث أجدادنا عن حياة أفضل كل إمكانيات ، العشائر ، والقبائل ، والشعوب ، قبل أن تلتحم لتكوّن أمة عربية واحدة ، وأنها عندما اكتملت تكويناً ، كانت بذلك تقدم دليلاً موضوعياً ، غير قابل للنقض  ، على أن ثمة وحدة موضوعية ، قد نعرفها ، وقد لا نعرفها ، بين كل المشكلات التي يطرحها واقعنا القومي ، أياً كان مضمونها ، وإنها بهذا المعنى ، مشكلات قومية ، لا يمكن أن تجد حلها الصحيح ، إلا بإمكانات قومية ، وبقوى قومية ، في نطاق المصير القومي .
 3- إن وحدة الوجود القومي ، تحتم وحدة الدولة فيها ، بمعنى أن الدولة القومية ، التي تشمل الشعب ، والوطن ، كما هما محددان تاريخياً ، هي وحدها ، التي تجسّد سيادة الشعب ، على وطنه القومي ، ومشاركته التاريخية ، فيه .
 4- إن التقييم القومي ، للدولة الإقليمية ، أنها مؤسسة ، رجعية ، وفاشلة ، وهذا يصح بالنسبة إلى جميع الدول الإقليمية ، بدون استثناء .
 5- إن الأحزاب الإقليمية ، نماذج مثالية ، للفشل ، لأن أقصى نجاح لأي حزب إقليمي ، هو أن يستولي على السلطة في دولته الإقليمية ، التي هي ذاتها ، مؤسسة فاشلة ، فإن فشل في الاستيلاء على السلطة ، فهو أكثر فشلاً من الحاكمين أصحاب الدولة الإقليمية .
6- ليس صحيحاً أن القومية ، هدف برجوازي ، وأن العمال لا وطن لهم ، فقد ثبت ، أن للعمال وطن ، وأن البرجوازيين لا وطن لهم ، وأنهم يبحثون وراء الربح إلى أقصى موقع في هذا العالم ، ويتعاونون عن طريق الشركات متعددة الجنسيات ، وجواسيس الدول المهيمنة ، على النظام الدولي ، في سرقة ثروات الشعوب ، في كل مكان متاح لهم ، في هذا العالم .
 7- إن فلسطين ، كجزء من الوطن العربي ، إقليم مملوك ، ملكية مشتركة ، للشعب العربي كله ، وليس ملكاً خاصاً لشعب فلسطين ، وأن الشعب العربي كله ، ومن باب أولى شعب فلسطين وحده ، لا يملك الحق في التنازل ، أو التفريط ، أو المساومة على حرية فلسطين ، وأن مسؤولية تحرير فلسطين واقعة على الشعب العربي كله ، وليس على الشعب الفلسطيني وحده ، وأن كل الاتفاقيات ، أو المعاهدات ، أو القرارات ، والدساتير ، والمواقف ، والتصريحات ، سواء كانت صادرة عن دول أجنبية ، أو عن دول عربية ، أو عن بعض الفلسطينيين ، في الماضي ، أو الآن ، أو في المستقبل ، تمس حرية فلسطين ، غير مشروعة قومياً ، فهي ليست حجة على الأمة العربية ، ولا قيداً على حقها ، في تحرير فلسطين .  
8- لما كانت الأمة العربية ، تكويناً تاريخياً ، فإن اشتراك الشعب العربي ، في الوطن العربي ، هو مشاركة تاريخية بين الأجيال المتعاقبة ، وهذا يعني أنه ، ليس من حق الشعب العربي كله ، من المحيط إلى الخليج ، ولو كان ممثلاً في دولة الوحدة ، أن يتنازل عن أرض فلسطين ، أو أن يقبل الوجود الصهيوني على الأرض المغتصبة ، إنه بهذا يتصرف فيما لا يملكه وحده ، لأنه ملك مشترك بينه ، وبين الأجيال العربية القادمة ، ولو فعل ، لما كان ما يفعله حجة على الأجيال القادمة من الشعب العربي ….
(14)
 لم يترك د. عصمت سيف الدولة ، حدثاً يمر ، دون أن يشارك فيه ، لم يجامل أحداً ، منذ عام 1965، فقد أدرك أنه ، واستناداً إلى “منهج جدل الإنسان” ، أن الأمة تتعرض لمخاطر جسيمة ، وأن على الجماهير العربية ، أن تنتظم ، بتنظيم قومي ، فصاغ بياناً تأسيسياً لذلك ، حدد فيه كيف يمكن أن يولد هذا التنظيم ، من القاعدة ، إلى القمة ، وهو البيان الذي طاف الوطن العربي ، في تلك الأيام ، وأطلق عليه الشباب العربي في ذلك الوقت أسم ( بيان طارق ) تعبيراً عن حرق المراكب مع الإقليمية تماماً ، ثم أصدر كتبه عن الطريق إلى الوحدة ، والطريق إلى الاشتراكية ، والطريق إلى وحدة القوى العربية التقدمية ، والطريق إلى الديمقراطية ، ثم حلتّ بالعرب نكسة 5 حزيران ، يونيه ، فصاغ رسائله الشهيرة إلى الشباب العربي تحت عنوان ( ما العمل ؟ ) ، وعندما رحل جمال عبد الناصر ، أحس د . عصمت سيف الدولة ، بالخطر الداهم ، فجمع أوراقه كلها ، ودفعها إلى بيروت لنشر كتابه ” نظرية الثورة العربية ” ، وما كاد المخطوط يصل إلى بيروت ، حتى كان عصمت سيف الدولة قد أودع السجن ، تحت لائحة اتهام ، بأنه كاتب بيان ” طارق ” من جهة ، وأنه يؤسس لتنظيم قومي يهدف إلى إزالة الدول ” العربية ” كلها ، وكانت المفاجأة ، أنه لم ينف التهمة الأولى ، ولا الثانية ، وإنما قدم دفاعاً ، أو هجوماً ، لا سابق له في تاريخ القضاء ، استند فيه إلى “منهج جدل الإنسان” ، وإلى ، أن الثورة القومية على دول التجزئة ، هي عمل مشروع قانوناً ، ثم ، وعندما خرج من السجن جمع أوراق السجن في كتابه ” إعدام السجان ” ، وعندما وقع الرئيس السادات اتفاقية فصل القوات الثانية أرسل رسالة تاريخية إلى مجلس الشعب في مصر يحذرّه فيها من التصديق على المعاهدة ، لأنها خرق للدستور ، ثم اتبعها بكتاب تم توزيعه سراً تحت عنوان ” حكم بالخيانة ” تضمن إصدار حكم قضائي باسم الشعب العربي في مصر ، بإعدام الرئيس السادات ، وترك تنفيذ القرار للشعب العربي ، بالطرق المناسبة ، ثم كتب عن الأحزاب ، ومشكلة الديمقراطية في مصر ، وكتاباً آخر عن النظام النيابي ، وتقدم بدفاع تاريخي عن المشاركين في مظاهرات 18 و 19 يناير 1977 صدر بكتاب تحت عنوان ” دفاع عن الشعب ” وقد تقدم بدفاع آخر عن الجماعات الشيوعية في مصر صدر بكتاب آخر تحت عنوان ” دفاع عن الوطن ”  ثم تقدم بدفاع هام عن جماعة الجهاد وتلاه كتاب عن جمال عبد الناصر ، ثم زج به الرئيس السادات بالسجن مرة أخرى ، في أواخر أيامه ، وعندما ألقى الصهاينة ، بعرب فلسطين ، بالبحر أمام شواطيء بيروت عام 1982  ، التحق بهم في “مجلسهم الوطني” في الجزائر ، يناشدهم ، أن لا يعترفوا “بدولة إسرائيل” تحت أي ظرف ، وأنه ، إذا لم يعرفوا كيف يحررون فلسطين ، فليكفوا على الأقل عن التفريط بها ، ثم عاد إلى مصر ، ليدافع عن “ثورة مصر” ، ويقدم مرافعة ، قل نظيرها ، في التاريخ ، وليكتب عن “العروبة والأسلام” كتابه الهام الذي حمل الاسم ذاته ، يدافع فيه عن الأمة ، وهويتها ، وأصالتها ، وعن الدين الحنيف معاً ، ويحّذر فيه من الفتنة ، ومن الخلط بالمفاهيم ، ونراه يتحدث عن فصائل الحركة العربية القومية ، التي بدأت في المشرق خلال الفترة الأخيرة ، من الحكم العثماني ، مثل ” المنتدى العربي ” ، و ” الجمعية القحطانية ” وإلى آخرهم ثم يتساءل ( هل كان القادة مسلمين ، أو غير مسلمين ؟ ) ، فيقول : هذا سؤال لا ننزلق إلى أوحال الإجابة عليه ، نحن نعرفهم جميعاً ، عرباً ، دافعوا عن أمتهم ، واستشهد الكثير منهم في سبيل الدفاع عنها ، ونعرف منهم دفعة واحدة من الذين استشهدوا ، على أعواد مشانق السفاح التركي ” جمال باشا ” ، وبعد أن يعدد أسماءهم ، يتساءل مستنكراً ، ( فمن الذي يجرؤ أن يخوض في دماء شهداء الأمة العربية ليبحث عن الدين الذي كانوا إليه ينتمون …. ؟ )              
ثم يقول : ( لا يمكن الاحتجاج بالإسلام لإنكار الوجود العربي ، ولا الاستناد إليه في موقف مضاد للقومية العربية ، إلا إذا أنكرنا على الإسلام ، مضمونه الثوري الحضاري ، الذي أسهم في تكوين الأمة العربية ، و من ناحية أخرى ، لا يمكن إسناد الوجود العربي ، إلى الإسلام وحده ، لأن الأمة العربية كانت ثمرة تفاعل حضاري ، أسهمت فيه كل الشعوب ، والجماعات السابقة على وجود الإسلام ، بكل ، من فيها ، من مسلمين  ، وغير مسلمين  ) ....
(15) 
 ذلك كان بعض من “عصمت سيف الدولة” ، وبعض من منهجه ، وبعض من تراثه الفكري الخصيب الأصيل ، وذلك كان بعض من مواقفه الشجاعة الأصيلة ، فمن النادر ، أن نجد في التاريخ ، رجلاً تتسق فيه الفكرة ، مع الممارسة ، مع السلوك ، مع الموقف ، كعصمت سيف الدولة ، ففي غياب المؤسسة الاعتبارية التي تمثل الأمة العربية ، كان عصمت سيف الدولة ، يعتبر نفسه ، أنه صاحب هذه الأمة ، وأنه مسؤول عنها ، وبالتالي فإنه لا يمكن أن يسكت ، حتى عن مجرد التلميح الذي يسيء إليها .                
 في أواخر أيامه ، دعي إلى ندوة على هامش معرض القاهرة الدولي للكتاب ، وأراد أحدهم ، أن يفتح حواراَ تحت عنوان ” الموضوعية والواقعية ” حول التطبيع مع الصهاينة ، ففوجيء الحضور ، بعصمت سيف الدولة ، يدق على الطاولة بيده ، معلناً أن ” فلانا ” هذا يريد أن يقول كلاماً عن التطبيع ، ثم يقول ، أن هذا الكلام قد قيل بحضور عصمت سيف الدولة ، وهذا غير مسموح فيه أبداً . إنني أفضّل الانتحار على أن ألتقي بالصهاينة ، أو أبحث ، مجرد بحث ، أو أشارك في بحث عن التطبيع معهم  . ووقف معلناً فض الجلسة على الفور .                      
هذا هو عصمت سيف الدولة ، الذي رحل عنا ، منذ عام ، صحيح انه رحل حزيناً قلقاً على مستقبل أمته ، لكنه رحل شامخاً ، واثقاً ، بأن الأمة ستنهض لحمل رسالتها التاريخية ، وعندما تقرر الأجيال العربية القادمة ، أن تنتقل إلى ساحة الفعل القومي الثوري ، لإحياء الأمة ، والانتصار لها ، ستجد أن عصمت سيف الدولة ، قد ترك لها نهجاً ، وتراثاً ، ومدرسة لن تضل الطريق ، إن هي اقتدت ، وتمثلت . وأما ، ما لاقاه عصمت سيف الدولة ، من عداء ، واستعداء ، فلن ينال من مصداقية نهجه ، ونضاله ، وسيرته العطرة ، وأما ، ما ينفع الناس ، فيمكث في الأرض ...

 بيروت : 2 / 4 /  1997   “ المنتدى القومي العربي”