بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 29 نوفمبر 2015

معايير الحرب و السياسة ..

في الوطن العربي أو في غيره من الأوطان في العالم ، يمثل التدخل الخارجي للقوى الكبرى ، اعتداء على السيادة الوطنية والقومية ، وهو عادة لا يكون تدخلا مجانيا ، ودون  مطامع اقتصادية وسياسية وسيادية احيانا .. ولعل من أكثر التدخلات الدولية المرفوضة في الوطن العربي ، التدخل الامريكي المعروف لدى العام والخاص بانحيازه للعدو التاريخي للامة العربية ، ومساندته اللامشروطة لكل مخطاته وسياساته وعدوانه منذ نشأته الى الآن .. والمعروف أيضا بأهدافه في فرض السيطرة والهيمنة والتبعية وغيرها .. 
وهكذا شاهدنا موجة الانتقادات ، والحملات الاعلامية الساخنة ضد التدخل الروسي الاخير في سوريا ، فمن قائل بانه تدخل استعماري مرفوض ، وأنه يهدف لانقاذ النظام .. الى قائل بأنه تدخل  نظام شيوعي ضد الاسلام ، او أنه معادي لثورة الشعب السوري الخ ..   !!
كما نجد في الجانب الآخر قوى متحفضة أو متذبذبة ، أو غير مهتمّة ، وصولا الى القوى المبتهجة والمؤيدة باعتبار ما سيحدثه مثل هذا التدخل من تغيير جذري في موازين القوى ، ثم في نتائج الصراع التي يرجى تحقيقها  .. فكيف يمكن التعامل موضوعيا مع هذه المعادلة ، ووفق أي معايير يمكن الحكم على الاحداث الجارية ..؟؟ 
في البداية لا بد أن نذكّر بتلك المعايير الثابتة في الحرب أو في السلم ، التي تقود التحالفات والعلاقات الدولية ، وهي المصلحة الوطنية والقومية العليا ، بكل ما تعنيه ، من محافظة على كرامة الشعب  واستقلال الوطن وسيادة الدولة على مياهها وثرواتها وقرارها الوطني ، وفي هذا لا نلوم الا أنفسنا اذا كنا نتبع ما يضر بهذه المصالح ، ولا نلوم القوى الدولية على ما تفعله من أجل جرنا للوقوع تحت هيمنتها .. غير أنه من الضروري القول ايضا بانه ليس كل تعامل بين الدول ، او تعاون أو تحالف ، يؤدي بالضرورة الى التبعـية ، والاخلال بتلك المصالح .. وهذا يمكن ان نحكم عليه من خلال عدة معايير ثابتة ايضا في العلاقات الدولية ، وهي المبرّرات الموضوعية التي تؤكد حاجة الدولة والشعب لمثل تلك العلاقة ، والضوابط القانونية التي تحدد مجالات  التعامل ، وبنود الاتفاقيات بما فيها من أهداف وآليات وسقف زمني ، وصولا الى النتائج الحاصلة على الارض  ، والمصالح المتحققة للدولة والشعب والوطن من وراء تلك العلاقات ، وهذا فضلا عما يجب أن يتوفر من شروط  لتحقيق العلاقات المتوازنة لتكون في خدمة المصالح المشتركة ، دون أن تؤدي الى سيطرة طرف على الآخر  فيفقد هيبته ، او قراره السيادي الذي يهدّد استقلاله الوطني ومصالحه ومستقبله الخ ..  وفي خصوص التدخل الروسي في سوريا  لا بد من النظر الى وجهي المعادلة ، حيث يُظهر الوجه الاول الطرف الروسي وهو لاشك يدافع عن مصالحه مثل اي متدخل آخر في الحرب ، حيث لا يعقل ان تعرّض اي جهة مصالحها ، أو معداتها ، و جنودها ، الى الخسائر والمخاطر دون مقابل ، سواء على المدى القريب أو البعيد ، وهو عمل مشروع  تسعى كل الدول الى تحقيقه ، اذا كان  يؤدي فعلا الى التعاون و تبادل المصالح .. أما الوجه الثاني فهو المتعلق بمن يقبل التدخل ـ اي النظام السوري ـ الذي يحق له كما يحق لغيره أن يقدر المصلحة الوطنية في مثل تلك الظروف ليعمل على تحقيقها باي طريقة يراها مناسبة .. غير أن ما يهمنا في هذا الجانب هو مدى مطابقة هذه التقديرات لتلك المصلحة الوطنية والقومية التي حدّدناها ، وانعكاسات هذا التدخل على سيادة سوريا واستقلالها ، وهو المعيار الذي يجب أن تخضع له أيضا كل  المواقف الرافضة والمؤيدة  في نفس الوقت ، وليس الى اي معيار ذاتي ، أو عاطفي ، أو حزبي ، لأي جهة كانت  ..
بالنسبة للظروف والملابسات ـ  وبقطع النظر عن الموقف من النظام ـ  فيبدو أنه النظام العربي الوحيد الذي لم يقبل الى حد الآن أي تنازل من اي نوع ، ولأي طرف ، رغم الحصار والابتزاز الذي ظل يتعرض له  خلال حرب الخليج وما بعدها ، من طرف الولايات المتحدة .. في حين تتنازل باستمرار كل الانظمة والاحزاب اليمينية والدينية ـ التي تنتقد التدخل الروسي وتقبل بالتدخل الامريكي بكل ما يفرضه عليها من تبعية وخضوع للولايات المتحدة ، ولا تتعامل معها على اساس الصديق والحليف والشريك  فحسب ، بل على اساس السيد الذي يأمر وينهى وهي تنفذ ..       
أما بالنسبة للتدخل في حد ذاته ، فيمكن ان يقاس على الوضع الذي أدّى اليه .. هل حدث مثلا في ظرف السلم ، طلبه النظام عمالة ورغبة في الخضوع لروسيا كما تفعل عادة كثير من الدول عمالة وخضوعا وتنازلا عن السيادة  للولايات المتحدة الامركية  .. ؟؟ وهل هو مفروض بالقوة على النظام مثلما يحدث في حالات الغزو ، أو الهيمنة التي تخضع لها الدول تحت الضغط والمساومة والتهديد  ، كما هو جاري بالفعل في دول عربية مغلوبة على أمرها ..؟
 والجواب بلا ، دون شك .. لأن هذا التدخل يكفيه في الجوانب القانونية الغطاء الدولي الذي فرضته الولايات المتحدة " لما يسمى الحرب على داعش " وتظاهرت بالمشاركة فيه أطراف اروبية وعربية  متورطة في دعم الارهاب ..   
ومن الناحية الزمنية والظرفية ، فان التدخل الروسي ليس هو الوحيد ، وليس هو الأول ولا الاخير في هذه الحرب الضارية التي خاضها الجيش العربي السوري ، ضد العصابات التكفيرية المدعومة من أطراف تسمح لنفسها بالتدخل الذي يؤدي الى انتهاك السيادة السورية ، وتنادي بالمزيد من التدخل لاسقاط النظام ، ثم تنتقد التدخل الروسي ، ومثل هذه المواقف الانتهازية واللاأخلاقية تمثلها تركيا وبعض الدول العربية الرجعية العميلة ، التي تفوق النظام السوري عشرات المرات تخلفا واستبدادا  ..  ثم من ناحية الحاجة والظرورة والمصلحة ، فان سوريا يحق لها  بناء التحالفات التي تراها مناسبة دفاعا عن وجودها وسيادتها ومصالحها وهي التي تتعرض منذ خمس سنوات الى حرب ابادة وعدوان همجي لم تشهد البشرية مثله من قبل ، تنفذه عصابات قادمة من جميع انحاء العالم لا علاقة لها بسوريا ، ولا بمشاكلها ، أو بمستقبلها وثورتها .. بل ترتبط فقط بالمخططات الدولية والاقليمية ذات المصلحة في ضرب الثورات الحقيقية وليس العكس ..
 أما من ناحية النتائج ، فان الحكم عليها  يبدو سابقا لأوانه ، وهو يتوقف بالاساس على الأجوبة التي نحتاجها لمثل هذه الأسئلة  :  
هل سيؤدي هذا التدخل الى سيطرة روسية على الشؤون الداخلية لسوريا ؟ وهل هذه الدولة التي يقع تدخلها محل شبهة ، تملي سياساتها وخياراتها على النظام السوري ؟ وهل سينتهي تدخلها بقواعد عسكرية مثلا ، أو باحتلال ، او بتبعية وعمالة للسوفيات الخ ..

الواقع لا يحمل اي مؤشرات دالة على ذلك  .. 


( نشرية القدس 204 ) .

الاثنين، 23 نوفمبر 2015

الاسلام و واقع المسلمين .. (2) .


في الاسلام جانبين مهمين لا بد من الوقوف أمامهما عند محاولة الكشف عن الازمة التي تمرّ بها المجتمعات المسلمة عموما وهما 
ـ الجوانب العامة في الاسلام التي جاءت خالية من قيود الزمان والمكان لتكون صالحة لكل المجتمعات مهما كانت الاختلافات بينها ومهما كانت مراحل التطور التي تمرّ بها ، وهو ما لا يتطلب اجتهادا كبيرا بحكم جاهزيته ووضوح مضامينه ، وهو المعروف بـ" المحكم " ..
ـ الجوانب الخاصة المقيدة بالزمان والمكان وهي التي تركها الشرع مبهمة ليكون فيها الاجتهاد الانساني حاضرا وفق ما يتطلبه الواقع الخاص بكل مجتمع في كل مرحلة تاريخية ، وهو ما يعرف بـ " المتشابه ".. مع الملاحظ أن كلا الجانبين مشترك بين الناس ولكن بصورتين مختلفتين :
فالجانب الاول الذي نسميه المحكم غير مقيد بالزمان أو بالمكان ، وهو بالتالي مشترك بين المسلمين عامة ، والذين يجب عليهم أن يتبينوا مضامين احكامه لتكون رابطا بينهم ومميزا لانتمائهم الجماعي للاسلام .. فيكونون جميعا افرادا من أمة الاسلام التي ارادها الله امة جامعة بما يجمع المسلمين جميعا في أي مكان على وجه الارض .. 
أما الجانب الثاني الذي يتطلب التمعن والنظر والاجتهاد في أمور الحياة فهو متروك للناس في زمانهم ومكانهم لتبين افضل ما يستطيع البشر أن يصلوا اليه بعقولهم للعيش المشترك في كنف القيم الانسانية النبيلة التي منحها لهم دينهم ، مما يحتم على المسلمين التعامل الخاص مع مجتمعاتهم كما هي ، ليكون نجاح أول خطوة من خطوات الاجتهاد اللازم لتقدمهم مرتبطة مباشرة بواقع المجتمع الذي يعيشون فيه ، وهو ما يعني أن نجاحهم يتوقف على ادراك خصوصيات. مجتمعهم الذي سيمارسون فيه اجتهادهم ادراكا صحيحا .. وهكذا نجدهم يواجهون أكثر الاسئلة حسما من هذه الناحية : من نحن وما هو مجتمعنا ؟؟ اذ لا وجود لمشكلات مجرّدة خارج اطار المجتمعات حتى وان كانت جميعا مسلمة ..
وبهذا نكتشف بسهولة ان لكل مجتمع خصوصياته وهي في مرحلتنا الحالية خصوصيات قومية ، لا يستطيع الناس تطوير مجتمعاتهم على الوجه الافضل ، الا بمواجهتها على طبيعتها تلك ، لتكون رابطا ومميزا للانتماء الجماعي الذي أراده الله مميزا لكل أمة من الامم في أي مكان على وجه الأرض ..
ان تحديد الانتماء الموضوعي للمجتمع سيكون على قدر كبير من الأهمية في سعي الناس لتطويره باسلوب صحيح ، لان تحديد المجتمع شرط اولي لفهم مشكلاته ، وفهم مشكلاته شرط مسبق لايجاد حلولها ، وايجاد الحلول ثم تنفيذها في الواقع شرط لازم لنهوض المجتمع في اي مرحلة من مراحل تطوره ..
وهكذا نكتشف بسهولة أيضا الاسلوب الامثل الذي يتوقف عليه تطور المجتمع حينما ننطلق من وضعه كمجتمع من الناس لهم احتياجات خاصة مرتبطة بواقعهم ، وتجمعهم روابط انسانية ودينية واجتماعية متعدّدة ، وتحرّكهم في نفس الوقت نزعات وبواعث مختلفة تحتم على الجميع الالتزام بآليات محدّدة تمكنهم من فهم ظروفهم ، وتنظم مشاركتهم على أوسع نطاق في تحديد مصيره وفقا لتلك الشروط اللازمة لتطوره ، وهو ما نسميه اختصارا : بالديمقراطية .. ونعني بها الديمقراطية الحقيقية في ابعادها الاجتماعية ، وليس الديمقراطية الليبرالية المشوّهة .. 
هذا ما يحتاجه مجتمعنا ليتطوّر : الوعي الصحيح بالانتماء ، ووضع آليات للمشاركة الجماعية في بناء المستقبل  .. لا أكثر ولا اقل ..


 ( نشرية القدس عدد 203) . 

نشرية القدس عدد 203 .

عروبة فلسطين ..

                          عروبة فلسطين ..

( 1 ) .


نقرأ في كثير من الدراسات والكتب اجتهادات الكتاب والباحثين العرب والمسلمين في اثبات عروبة فلسطين من خلال سرد التاريخ القديم للجماعات التي عاشت وأسّست بعض الحضارات والدويلات منذ ما قبل المبلاد .. مع محاولات تبدو احيانا متعسفة على التاريخ ـ لدى البعض ـ من خلال التأكيد على نفي أي علاقة لليهود بفلسطين ، أو جعل تلك العلاقة عابرة ، لا أثر يذكر لها في التاريخ القديم .. وفي كثير من الأحيان نسمع التهجم على بني اسرائيل الذين عاشوا في تلك الفترة وكأن هؤلاء هم الذين اغتصبوا فلسطين اليوم .. وهذا كله مجانب للحقيقة .. وهو قائم على خلط كبير في فهم مراحل التطور التي مرت بها البشرية .... كما نجد قراءات تاريخية موضوعية تتحدث عن أحداث التاريخ على غرار ما ذكره الدكتور رأفت النبراوي ، العميد بكلية الآثار جامعة القاهرة ـ مجتهدا ـ في احدى الندوات المنعقدة في مصر تحت عنوان " القدس عربية " لاثبات عروبتها : (القدس شيَّدها الملك الصادق ، أحد ملوك اللوسيين الأوائل عام 3000 ق . م ، وهم إحدى بطون العرب في مدينة يوبوس ، وخضعت بعد ذلك لحكم فراعنة مصر خضوعًا تامًا عام 1479 ق . م ، وجاء المصريون القدماء وسموها « أورسالم » ، ويلفت إلى أن هذه الكلمة لها شقان هما « أورو» ومعناها مدينة و« سالم » ومعناها السلام ، فسموها « مدينة السلام » ، ومن هنا اشتقت عبارة «أورشاليم » ، وفي ذلك الوقت خرج بنو إسرائيل من مصر سنة 1292 ق . م متوجهين الى فلسطين فاستوطنوها واستولوا عليها وقتلوا 10 آلاف رجل وامرأة من سكانها ، ولم يرحموا كبيرًا ولا صغيرًا ثم تخلوا عنها وتركوها تحت ضغط اليبوسيين ، وجاء الكنعان في ذلك الوقت وترك اسمها «أورسالم » ولم يغيره وتم تشييد الهيكل المنسوب إليها عام 1007 ق .م .. ويواصل النبراوي سرد الوقائع للتأكيد على عروبة القدس بقوله : في عام 18 ق . م رمَّم الإمبراطور الروماني هيرودوس الهيكل ، ولكن تاتانيوس خرَّب بيت المقدس وأخلى القدس من بني إسرائيل ، وجاء أدرينانوس وأخذ عرش الإمبراطور وعقد العزم على القضاء على اليهود ، فشتتهم ودمَّر مدينة القدس بل حرقها تمامًا بما فيها ثم بنى بعد ذلك.. مدينة إيليا ، نسبة للأسرة الحاكمة ، ولا توجد. بقايا للدولة غير بقايا من هيكل سليمان المزعوم ، ولم يتبق لليهود شيء في القدس ، مما يجعل مزاعمهم لا تقوم على أساس من الصحة ومزاعم كاذبة .. " والواقع ان كل هذه الاجتهادات مفيدة وهامة ، بذل فيها المجتهدون جهدا يذكر فيشكر ، سعوا من خلاله لاثبات حق العرب في ارضهم التاريخية التي يحق لهم تعميرها. والاقامة عليها وحدهم لا ينازعهم فيها أحد من الغرباء ، الا في نطاق ما تسمح به القوانين المعروفة في شتى انحاء العالم .. بداية بالاقامة والشغل والتنقل والعبور .. وصولا الى قوانين الجنسية ، وحق المواطنة طبقا للشروط التي يحدّدها القانون الخ  ..
ولكن المشكل أن القرآن الكريم يذكر " بني اسرائيل " في العديد من آياته الصريحة المحكمة كما يذكر جوانب عديدة من حياتهم ، والانبياء الذين بُعثوا اليهم ، حتى أن الله يعتبر جزءا منهم من الصالحين ، قال تعالى في سورة الاعراف  :  وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك (168) " . بل يقول في سورة الجاثية  وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) ".. وهي معضلة حقيقية لا تجدي معها اساليب الانكار والنفي للوقائع التاريخية الثابتة بان بني اسرائيل عاشوا فعلا على ارض فلسطين .. وهنا يتوقف الفهم الصحيح للمشكل على المنهجية المتبعة في قراءة التاريخ ، والتي يجب أن تتطابق دائما مع الطرح القرآني .. قال تعالى متحدثا عن " اسرائيل وهو النبي يعقوب في سورة الاسراء : " ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)  .
ما المشكل اذن ان تكون قبائل بني اسرائيل المنحدرة من اصول عربية وانبياؤهم من الانبياء الصالحين الذين بعثهم الله للهداية والتوحيد مثلما بعث غيرهم من الانبياء ، قد عاشوا قبل الف ومائتي عام من ميلاد المسيح او أكثر على ارض فلسطين ، .. وما المشكل ان كان من بينهم قوم ظالون ذكرهم الله بمثل ما ذكر به أو اقل أحيانا اقوام سابقة عليهم واخرى لاحقة بهم من العرب انفسهم الذين تصدوا للاسلام ، وحاربوا الرسول صلى الله عليه وسلم الخ .. ولكن قد يكون من المهم ان نسأل : هل أن بنو اسرائيل الذين ذكرهم القرآن هم الصهاينة الحاليين .. ؟؟ هل هؤلاء هم الذين جلبتهم الحركة الصهيونية في مطلع القرن العشرين بعد وعد بلفور، من روسيا ورومانيا والمانيا وافريقيا وامريكا وآسيا وغيرها ..؟
ابدا ...
فبنو اسرائيل الذين قصدهم القرآن هم شعوب المنطقة الاصليين الذين عاشوا في تلك الفترة وبعدها ، ودخل من دخل منهم في المسيحية ثم في الاسلام ، ومات من مات ، وتشرد من تشرد مثلما روى الدكتور النبراوي ، ثم تعرّب الباقون واصبحوا من اليهود العرب الذين شمل الرسول الكريم بعضهم بالمواطنة حينما ذكرهم في الصحيفة فاصبحوا يهودا عربا بغثهم وسمينم على غرار ما في العرب المسلمين من غث وسمين ..
والواقع ان المشكلة مع اليهود لم تكن لتطرح بمثل ما هي مطروحة عليه اليوم لولا اغتصاب ارض فلسطين من طرف الغزاة ، وهي التي تشهد السموات والارض بعروبتها .. لان بعد تلك الفترات القبلية التي ارادها الله مرحلة من مراحل تطور البشرية ، والتي كانت تتميز بالروابط الدموية والترحال الخ .. جعل سبحانه الانصهار والاستقرار عوامل جديدة لتكوين الشعوب ، قال تعالى في سورة الحجرات : " وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (13) " . وهكذا فان فلسطين دخلت منذ الفتح العربي الاسلامي مرحلة التكوين القومي لتكون جزءا من الامة العربية ولم يعد ماضيها القبلي حجة على حاضرها ، مثلما يجري في جميع الامم ..


( 2 ) .

الصهانة يتكلمون عن الهوية الدينية للارض ، فيدّعون أن اقامة اليهود في فلسطين في عصر الديانة اليهودية يعطيهم الحق في اقامة دولة دينية يهودية ، بقطع النظر عن انتمائهم الى أمم وشعوب لا علاقة تربطها بفلسطين .. بل ويزيدون على ذلك كذبا وخداعا بان العرب هم الذين احتلوا فلسطين ودخلوها غزاة ، فيسمون احتلالهم لفلسطين وقتلهم للابراياء واغتصابهم للارض العربية منذ عشرينات القرن الماضي ، نصرا  وتحريرا .. كما يعتبرون قيام  دولة اسرائيل سنة 1948 استقلالا  .. متناسين أن ادعاءهم القائم على اسس دينية يسحب من تحتهم البساط لان فلسطين نفسها اصبحت بعد ذلك مهدا للديانة التي تلتها وهي الديانة المسيحية .. غير أن هذه الحجة لا يقبلها اليهود فهم لا يقبلون بغير الديانة اليهودية ، ولعل قصتهم مع السيد المسيح عليه السلام خير شاهد على ذلك ..
كل هذا ليس مشكلة ، لان الصهاينة يستطيعون ان يصوّروا الواقع كما يشاؤون ،  لو لا أن بعض العرب يواجهونهم بنفس الاسلوب الديني ، فيعطونهم المبرر للحديث بلغة دينية متعصبة ، تُحوّل الاديان الى مشكلة ، وهذا من طبع اليهود وحدهم ، في حين ينظر الاسلام  الى الديانات الاخرى نظرة اعتراف ، بل ويجعل الايمان بالرسالات السابقة والكتب السماوية جميعا ـ ومنها اليهودية ـ ركنا من أركان الايمان ..
وفي هذا الخصوص ، نجد اصحاب النزعات الدينية المتعصبة عندنا ،  ينفون الهوية القومية لفلسطين ، ويستبدلونها بهوية دينية ظنا منهم أنهم يخدمون قضيتها ، فيجعلون مشكلتهم مع اليهود مشكلة دينية ، في حين ان اليهودية ديانة فيها الصهاينة  وغير الصهاينة .. وفيها الصالحين وفيها الطالحين .. قال تعالى متحدثا عن بني اسرائيل ( اليهود ) في سورة الأعراف : وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك ( 168 ) " .. كما أنهم يدّعون مواجهة اليهود بأسلحتهم  ، أي دين بدين ، فيقعون مثلهم بتخلفهم في الاساءة الى الاديان جاعلين منها مسرحا للصراعات الدموية  ، حينما يحوّلون مشكلة فلسطين الى قضية صراع ديني ، في حين ان هذا الصراع لم ينشئ بين المسلمين واليهود قبل اغتصابهم للارض العربية التي لم تكن خاصة بشعب فلسطين وحده لانها فـُصلت  عن جسد الامة العربية في اطار المخطط الاستعماري بعد سقوط الدولة العثمانية وصدور معاهدة سيكس بيكو سنة 1916 ، وبعدها وعد بلفور سنة 1917 ، ثم قيام الانداب البريطاني رسميا على فلسطين بقرار دولي  سنة 1922.. 
هذا فضلا على أن  الصهاينة كانوا منذ البداية يستهدفون الوجود العربي في فلسطين ، فكان من ضحاياهم كل من رفض الاحتلال وقاومه سواء كانوا متدينن أو رافضين للأديان ..
وهكذا قان مشكلة الصراع مع اليهود انطلقت منذ انطلق التخطيط لاغتصاب أرض فلسطين في أول مؤتمر صهيوني في بازل بسويسرا على يد ثلة من اليهود الصهاينة المتعصبين .. حيث جاءت النتائج محرّضة صراحة ومشدّدة على هذا النهج الذي يمكن تلخيصه بالقول أنه : " عدوان على الارض العربية والوجود القومي العربي ينتظر التنفيذ " .. وفي هذا السياق تؤكد التوصيات  الصهيونية في المؤتمر الصهيوني  الاول على  ضرورة اتخاذ خطوات عملية تقود الى اعتراف الدول الكبرى بالمشروع الصهيوني ، كما تشدّد هذه التوصيات على ضرورة احياء اللغة العبرية وانشاء صندوق خاص بشراء الارض من الفلسطينيين .. وكلها خطوات عملية لا علاقة لها بالدين ، بقدر ما تتجه الى الاستيطان واحتلال الارض ... ولعل ما يؤكد هذا الجانب العملي في التخطيط الصهيوني ، ظهور المنظمات الارهابية في فلسطين منذ العشرينات مثل الهاجانا والارجون والشتيرن وغيرها ..
 والواقع ان متابعة قرارات المؤتمرات الصهيونية وحدها ، كافية لازاحة اللثام عن طبيعة الصراع العربي الصهيوني كصراع وجود ، تدور رحاه على الارض العربية ومن أجلها ، اجابة عن السؤال : لمن تؤول .. ؟؟  كما يستطيع من يشكك في طبيعة الصراع على هذه الصورة الثابة ، أن يعود  أولا وقبل كل شئ ، الى آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن اليهود ، وعن اصولهم العربية القديمة ، ثم الى التاريخ ، ليتأكد أن اليهودية بكل ما فيها من خرافات وانحرافات هي في الاصل اساطير قبلية ، لا يجب الانجرار وراءها للرد عليها بمثل اسلوبها .. وهي تدل على تخلف اليهود الذين رفضوا الاندماج في القوميات الاخرى والامم التي عاشوا فيها ، وبقوا في عزلة " الجيتو " الذي بنو صرحه على الوهم والاساطير وهم يخلطون بين انتمائهم الديني وانتماءهم القبلي ، حتى جعلوهما شيئا واحدا ، فتحول ذلك الخلط الى عنضرية منعتهم من الاندماج  رافضين الديانات الاخرى والمجتمعات معا .. وهو ما كلفهم تلك المعانات التي يتحدثون عنها ، وهي في الأصل معاملة بالمثل ردا على عنصريتهم اولا وأخيرا .. وهكذا تطوّرت جميع الشعوب قوميا وبقى اليهود بانغلاقهم وتعصّبهم ، متخلفين قبليا .. حتى اصبحوا بالفعل عبءا على تلك الشعوب  والحكومات التي ضاقت بهم ذرعا وباسلوب حياتهم ، فكان مشروع الصهيونية حلا يخلصهم  من عنصرية اليهود أولا ،  ثم يخدم مصالحهم الاستعمارية ثانيا ، ويمنع تقدم الامة  التي يرغبون في نهبها ثالثا ...

( 3 ) .


كثيرا ما نسمع التركيز في وسائل الاعلام ، على مشكلة القدس من طرف االسياسيين ، داخل الجمعيات والأحزاب ونشطاء المجتمع المدني  باعتبار ما يتعرض له سكانها ، من حصار وممارسات عنصرية واعتداءات سواء على المصلين أوعلى المدنيين ، وباعتبار ما تتعرض له المدينة من محاولات تهدّد فعلا بهدم مقدساتها وتغيير معالمها عن طريق الحفريات ..  وهو عمل لازم ومطلوب في كل حين  لرفع المعاناة ، وحماية المقدسات بكل انواع المقاومة الشريفة .. غير ان ما يجب التفطن اليه هو الطرح الاجمالي والاطار  الذي يجب ان تتنزل فيه مثل هذه القضايا ، لان قضية القدس ليست مجرد قضية تهويد للمقدسات ، او منع للمصلين من آداء شعائرهم ، كما أن الحل المطلوب لا يتوقف على استرجاع القدس  باعتبارها قبلة ثانية للمسلمين ، ومسرى للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فحسب ، بل لأنها فوق هذا ،  جزء من قضية مركزية تشمل القدس وغزة والضفة الغربية والجليل الاعلى وكل اراضي فلسطين الواقعة اليوم تحت السيطرة الصهيونية على سواحل البحر الابيض المتوسط ، وفي صحراء النقب ، وعلى كل شبر من فلسطين التاريخية قبل الانتداب البريطاني ، وقبل الغزو الصهيوني الذي انتهى  باقامة هذا الكيان العنصري سنة 1948 ..
 ان ما يحتاجه واقعنا اليوم هو تنزيل مثل هذه القضايا الجوهرية في اطارها الصحيح ، حينما تتقاطع ـ أولا ـ مع الاطار التاريخي الذي صنع هذه الأحداث  ، وحينما تلتقي ثانيا مع التحديات التي يطرحها المستقبل ، لعالم يتجه فيه ـ الكل ـ لبناء التكتلات التي لا مكان فيها لتلك  الكيانات القـزمية التي تسمى اقطارا في الوطن العربي ، الا محتمية ، تابعة ، خاضعة ، مستسلمة ، مستكينة ، مقهورة ، لا حول لها ولا قوة أمام من يقبل بحمايتها مقابل أن يراها دائما على تلك الصورة المذلة  ، وهو يوجّهها الوجهة التي يريد ، وينهب منها كل ما يريد ..
قد تكون القدس محطة من المحطات التي تدور فيها المعارك معزولة عن بعضها البعض ، وهو ما يجعل مأساتها تتواصل في ظل العجز العربي ، الناتج عن واقع العرب اليوم ، وهم أمة مجزأة ، تقع لقمة سائغة لكل الطامعين في اراضيها وثرواتها ، وفي ظل التخلف الذي يعيشه ابناؤها فلا يهتدون الى الحل القومي القادر وحده على تخليصهم من معاناتهم ، واخراجهم نهائيا من هذا المأزق التاريخي الذي وقعوا فيه  ..

( القدس عدد 201 ـ 202 ـ 203 ) .

الأحد، 22 نوفمبر 2015

عروبة فلسطين .. (3)

عروبة فلسطين .. (3) .

كثيرا ما نسمع التركيز في وسائل الاعلام ، على مشكلة القدس من طرف االسياسيين ، داخل الجمعيات والأحزاب ونشطاء المجتمع المدني  باعتبار ما يتعرض له سكانها ، من حصار وممارسات عنصرية واعتداءات سواء على المصلين أوعلى المدنيين ، وباعتبار ما تتعرض له المدينة من محاولات تهدّد فعلا بهدم مقدساتها وتغيير معالمها عن طريق الحفريات ..  وهو عمل لازم ومطلوب في كل حين  لرفع المعاناة ، وحماية المقدسات بكل انواع المقاومة الشريفة .. غير ان ما يجب التفطن اليه هو الطرح الاجمالي والاطار  الذي يجب ان تتنزل فيه مثل هذه القضايا ، لان قضية القدس ليست مجرد قضية تهويد للمقدسات ، او منع للمصلين من آداء شعائرهم ، كما أن الحل المطلوب لا يتوقف على استرجاع القدس  باعتبارها قبلة ثانية للمسلمين ، ومسرى للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فحسب ، بل لأنها فوق هذا ،  جزء من قضية مركزية تشمل القدس وغزة والضفة الغربية والجليل الاعلى وكل اراضي فلسطين الواقعة اليوم تحت السيطرة الصهيونية على سواحل البحر الابيض المتوسط وفي صحراء النقب ، وعلى كل شبر من فلسطين التاريخية قبل الانتداب البريطاني ، وقبل الغزو الصهيوني الذي انتهى  باقامة هذا الكيان العنصري سنة 1948 ..
 ان ما يحتاجه واقعنا اليوم هو تنزيل مثل هذه القضايا الجوهرية في اطارها الصحيح ، حينما تتقاطع ـ أولا ـ مع الاطار التاريخي الذي صنع هذه الأحداث  ، وحينما تلتقي ثانيا مع التحديات التي يطرحها المستقبل ، لعالم يتجه فيه ـ الكل ـ لبناء التكتلات التي لا مكان فيها لتلك  الكيانات القـزمية التي تسمى اقطارا  في الوطن العربي ، الا محتمية ، تابعة ، خاضعة ، مستسلمة ، مستكينة ، مقهورة ، لا حول لها ولا قوة أمام من يقبل بحمايتها مقابل أن يراها دائما على تلك الصورة المذلة  ، وهو يوجهها الوجهة التي يريد ، وينهب منها كل ما يريد ..
قد تكون القدس محطة من المحطات التي تدور فيها المعارك معزولة عن بعضها البعض ، وهو ما يجعل مأساتها تتواصل في ظل العجز العربي ، الناتج عن واقع العرب اليوم ، وهم أمة مجزأة ، تقع لقمة سائغة لكل الطامعين في اراضيها وثرواتها ، وفي ظل التخلف الذي يعيشه ابناؤها فلا يهتدون الى الحل القومي القادر وحده على تخليصهم من معاناتهم ، واخراجهم نهائيا من هذا المأزق التاريخي الذي وقعوا فيه ..

  ( نشرية القدس عدد 203) .

التحدي والارادة .. أين العرب من هذا ..

التحدي والارادة .. أين العرب من هذا ..

 يشهد شهر نوفمبر من كل عام مرور الذكرى السنوية  لسقوط جدار برلين الشهير ، الذي كان بالنسبة للشعب الالماني شاهدا حيا على  الهزيمة والاذلال الذي عاشته الامة الالمانية بعد دخول الحلفاء واحتلالهم اراضيها نهاية الحرب العالمية الثانية ، ثم تقسيمها بالكامل الى أربع مناطق نفوذ تقاسمها الحلفاء الأربعة مطالبينها بالخضوع ودفع التعويضات .. فيما تم تقسيم عاصمتها  مطلع الستينات الى قسمين قسم شرقي تابع للاتحاد السوفياتي ، وقسم غربي تحت هيمنة الغرب .. 
 وقد عاش الشعب الالماني حالة من الانهيار والتفكك والضياع بعد الهزيمة والتجزئة وهو يعاني من الحصار الجغرافي المفروض ، والحصار السياسي والاقتصادي والعسكري بين معسكرين متصارعين ، جعلوا من مدينة برلين المقسمة مسرحا لكل الصراعات  والمعارك الاستخباراتية المفتوحة بينهما ..
ولعل من أغرب ما عاناه الشعب الالماني بعد الحرب ، هو ذلك الفصل المفروض على متساكني مدينة برلين التي قام  فيها الجدار  بعزل الناس بعضهم عن بعض  ، فحرموا من اقاربهم وذويهم وأفراد عائلاتهم ، وجيرانهم واصدقائهم الذين كانوا يعيشون معهم في مدينة واحدة قبل الحرب .. ولم يكتف السياسيون بقسوة الحرب ومآسيها الحاصلة من خلال النتائج الكارثية والخسائر التي عرفتها ألمانيا المهزومة ، بل زادوها قسوة القرارات الصادرة تباعا منذ مؤتمر يالطة  ، بحيث لم يتوقف الأمر ـ عمليا ـ  عند تقسيم الشعب الالماني الى شطرين منفصلين ودولتين عدوّتين ، بل تعدّاه في الواقع الى تقسيم الاسرة الواحدة أحيانا ، والاقارب ، والاحياء التي شقها الجدار العازل ، فضلا عن الأنظمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الجديدة المفروضة  بكل ما افرزته من صراعات وعداء لم تكن كلها باختيار الشعب الالماني الضحية ..
وبقطع النظر عن درجات المسؤولية التي يتحملّها السياسيون النازيون وحلفائهم في ذلك الوقت ، فان العبرة مما حصل للشعب الألماني قد لا يفهمه فهما صحيحا الا من يعاني مثلهم من المآسي التي عاشوها ، وقد لا يكون ماضيهم  مهما ايضا في المرحلة الحالية الا للعرب الذين يعيشون تقريبا نفس المعاناة التي عاشتها ألمانيا سواء قبل الوحدة حينما كانت مجزأة كما يقول ساطع الحصري الى " 360 وحدة سياسية .. مستقلة عن بعضها استقلالا مطلقا .. " مطلع القرن التاسع عشر ، أو حينما ابتليت بالاحتلال و التجزئة والتبعية والضعف بعد الحرب العالمية الثانية .. ولهذا فان سقوط جدار برلين في شهر نوفمبر 1989 ، وتوحيد ألامانيا المجزأة لتعود الى صف الريادة والقيادة في العالم ، انما هو حدث تاريخي فعلا ، يعبر بكل وضوح عن حجم الارادة الشعبية والوطنية ، وحجم الوعي والتحدي الذي يمتلكه أبناء الامة الالمانية من سياسيين وحكام ومواطنين عندما التقت ارادتهم جميعا في انجاز ما يجب انجازه لاعادة الامر الطبيعي لأمة جزأها أعداؤها كما قال الزعيم الراحل جمال عبدالناصر ، متحدثا عن الوحدة العربية .. فاين العرب من هذا وهم أحوج ما يكون اليه  .. ؟؟

( نشرية القدس عدد 203 ) .


        

الاثنين، 16 نوفمبر 2015

نشرية القدس عدد 202 .

حقوق الانسان بين الشكل والمضمون ..

حقوق الانسان بين الشكل والمضمون ..

(1)

بدأت فكرة الحقوق في الظهور كمطلب مقترن بالدفاع عن كرامة الانسان ، منذ زمن مبكر في كل من بريطانيا اثر صدور ما يعرف بشرعة الحقوق سنة 1689 ، وهي وثيقة تطالب الملك وتلزمه بالكف عن ارتكاب التجاوزات ، وتضمن بعض الحقوق للمواطن البريطاني .. وفي الولايات المتحدة اثر صدور اعلان الاستقلال سنة 1776 ، الذي أكد على مبدأ حرية الانسان وتمتعه بالحقوق الطبيعية المتأصلة فيه منذ الميلاد .. ثم في فرنسا ابان الثورة الفرنسية التي صدر فيها اعلان حقوق الانسان والمواطن سنة 1789 ، وقد كان يتجاوز الوثائق السابقة ـ كما يقول الحقوقيون ورجال القانون ، في الوضوح ، والشمولية ، حيث لم يقتصر على حقوق الانسان في فرنسا وحدها ، بل اتخذ بعدا انسانيا عاما ليصبح القانون الفرنسي الذي تضمنه دستورالجمهورية الاولى سنة 1793  وما تلاه من الدساتير حتى الجمهورية الخامسة سنة 1958 ، ركيزة اساسية في جميع دساتير العالم الى الآن ، وخلفية حقوقية لكل المدافعين عن حقوق الانسان ، خاصة بعد صدور الاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي تبنته الامم المتحدة سنة 1948 .. وهذا فضلا عن العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من جهة ، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية من جهة ثانية الصادرين في 16 ديسمبر 1966 ..
والواقع ان كل هذه الحقوق والمكاسب تحققت بفضل التضحيات والنضالات التي خاضتها الشعوب في كل مكان لافتكاك الحقوق الفردية والجماعية التي لا تكتمل بدونها حرية الانسان وكرامته .. غير ان الذي يتأمل أغلب الفصول والقوانين المعلن عنها في تلك الحقبة والتي لا تزال سارية ومعمولا بها الى حد الآن ، ثم الى الاطراف التي صاغتها ، والى النقاشات والصراعات التي تواصلت على مدى اكثر من عامين داخل أروقة الامم المتحدة ، يدرك بسهولة ، ووضوح ، الخلفية التي صيغت بها تلك القوانين والمبادئ التي تحولت تدريجيا الى فلسفة شاملة ، ورؤى ، ومفاهيم عامة وأزلية لحقوق الانسان ، يتساوى فيها الناس في كل مجتمع وفي كل عصر  ..  ومن هنا تأتي الثغرات  ، والمغالطات أحيانا على يد الحقوقيين حيث يتم التأكيد على جوانب دون  أخرى ، فلا يكاد هؤلاء يلتفتون الى غيرها وهي لا تقل أهمية ، وقد يكون تأخر لائحة الحقوق الخاصة بالنواحي الاقتصادية والاجتماعية الى سنة 1966 ، وامتناع دول الكتلة الشرقية عن التصويت سنة 1948 أكبر دليل على ذلك  .. هي اذن خطوات هامة ومصيرية حققتها الشعوب بانتصارها على القهر والاستبداد والظلم ، لكنها تظل منقوصة بدون قوانين عملية تضمن الحقوق الحياتية مثل الشغل ، والتغطية الاجتماعية والعلاج والتعليم المجاني ، الخ  ...  

(2)    

حين اراد جورج بوردو الحديث عن واقع الديمقراطية صنفها ـ كما يقول الدكتور عصمت سيف الدولة ـ الى نوعين : " ديمقراطية محكومة " و " ديمقراطية حاكمة "  ، وهذا وفقا للتقسيم الذي اعتمده بوردو للشعب ، وذكره أيضا الدكتور امام عبد الفتاح قال :  
 " أ ـ الشعب الذي يتالف من مجموع المواطنين ، وهم يتميزون بالغـربة الكاملة عن الحقيقة الاجتماعية ، وهذا الفهم " للشعب " يتجاهل كل ما يوجد داخل الجماعة من أسباب التنوّع ، والانقسام ، والتعارض ، كالمولد والظروف الاجتماعية والموارد الاقتصادية والاذواق .. الخ  
ب ـ الشعب الذي يتألف من " الإنسان " كما هو في الواقع ، وفي الواقع لا يتميز الإنسان بجوهـره أو بعلاقته بنمط مثالي . انما بخصائصه التي يكتسبها من وضعه الاجتماعي الذي يختلف عن وضع غيره من الناس . انه الإنسان الذي تقابله في علاقات الحياة اليومية كما تحدّده مهنته ، وأسلوبه ، ووسائل حياته الواقعـية ، وليس عن طريق التامل الميتافيزيقي في جوهره  . ويؤثر هذا الخلاف الجذري تاثيرا عميقا في نوع الديمقراطية 
فالمواطن يحمل في ذاته امتيازات اكتسبها من كونه انسانا ، أعني من طبيعته الانسانية .
أما الانسان " الواقعي " فهو يكتسبها من الوسط الذي يعيش فيه ، وبمعنى آخر ليست هناك حقوق للانسان بما هو انسان : حق الحياة ، وحق الحرية وحق التملك ، والمساواة ، والتفكيـر والتعـبيـر عن آرائه ..الخ . فهذه كلها افكار " ميتافـيـزقية " ، فالقول مثلا أن الحرية هي أحد الخصائص الانسانية الاساسية أو أنها " ماهية " الانسان اذا فقدها فقد انسانيته معها هو قول " مثالي " " خيالي " ، تلك هي الحرية الميتافـيـزقية التي تعـتبـر الحرية جزءا من طبيعة الانسان اينما كان .. " أما حرية الانسان الواقعي فهي مفـتـقدة دائما بحكم ان احتيـاجاته متجدّدة أبدا .. لهذا نجده ينـزع للتحـرّر من أي علاقات اجتماعية تسمح له بالتمتع بحريات شكلـية لم يكتسب مضمونها الواقعي بعد ، فهو نزّاع دائما الى التغـييـر الاجتماعي .. "
ثم يضيف ناسبا الفكرة للدكتور عصمت سيف الدولة : " على هذا الأساس تفتـرق الديمقراطية المحكـومة عن الديمقراطية الحاكمة . فالأولى قائمة على أساس المفهوم الأول " الزائف " للشعب ويؤدّي الى الاستبداد " المتحضر " : نظام ديمقراطي كامل الشكل والمواصفات التقليدية حيث يحكم فيه الشعب نفسه بنفسه ، لكنه " شعب زائف " ذلك لأن الموجود حقا هو الشعب الحقيقي لا الشعـب المثـالي . ومن ثم فان الديمقراطـية المحكومة ( أي الليبـرالية ) ليست سوى آداة استـبداد ( متحضّـر ) " بالشعب الحقيقي "، وبالرغم من كل ما يتوفـر فيها من أشكال دستورية للمارسة المسمّاة ديمقراطية " ..  
وهكذا فان مأساة الديمقراطية عند أغلب الحقوقيين ، تكمن في مفهومها الهلامي المطلق ، من خلال ارتباطها بالحقوق الفردية ، ومضامينها البراقة ، كحقوق أزلية ثابة في الزمان والمكان ، مفرغة من اي مضمون اجتماعي لا يستوي فيه كل الناس ، فلا يستطيعون الاكتفاء بتلك الحقوق المتصلة بطبيعة الانسان وجوهره الثابت ، دون توفرالحد الادنى من حاجياته المتجدّدة أبدا .. 


( نشرية القدس عدد 201 ـ 202 ) .

الأحد، 15 نوفمبر 2015

حقوق الانسان بين الشكل والمضمون .. (2)



حقوق الانسان بين الشكل والمضمون .. (2)    

حين اراد جورج بوردو الحديث عن واقع الديمقراطية صنفها ـ كما يقول الدكتور عصمت سيف الدولة ـ الى نوعين : " ديمقراطية محكومة " و " ديمقراطية حاكمة "  ، وهذا وفقا للتقسيم الذي اعتمده بوردو للشعب ، وذكره أيضا الدكتور امام عبد الفتاح قال :  
 " أ ـ الشعب الذي يتالف من مجموع المواطنين ، وهم يتميزون بالغـربة الكاملة عن الحقيقة الاجتماعية ، وهذا الفهم " للشعب " يتجاهل كل ما يوجد داخل الجماعة من أسباب التنوّع ، والانقسام ، والتعارض ، كالمولد والظروف الاجتماعية والموارد الاقتصادية والاذواق .. الخ              . 
ب ـ الشعب الذي يتألف من " الإنسان " كما هو في الواقع ، وفي الواقع لا يتميز الإنسان بجوهـره أو بعلاقته بنمط مثالي . انما بخصائصه التي يكتسبها من وضعه الاجتماعي الذي يختلف عن وضع غيره من الناس . انه الإنسان الذي تقابله في علاقات الحياة اليومية كما تحدّده مهنته ، وأسلوبه ، ووسائل حياته الواقعـية ، وليس عن طريق التامل الميتافيزيقي في جوهره  . ويؤثر هذا الخلاف الجذري تاثيرا عميقا في نوع الديمقراطية
فالمواطن يحمل في ذاته امتيازات اكتسبها من كونه انسانا ، أعني من طبيعته الانسانية        .
أما الانسان " الواقعي " فهو يكتسبها من الوسط الذي يعيش فيه ، وبمعنى آخر ليست هناك حقوق للانسان بما هو انسان : حق الحياة ، وحق الحرية وحق التملك ، والمساواة ، والتفكيـر والتعـبيـر عن آرائه ..الخ . فهذه كلها افكار " ميتافـيـزقية " ، فالقول مثلا أن الحرية هي أحد الخصائص الانسانية الاساسية أو أنها " ماهية " الانسان اذا فقدها فقد انسانيته معها هو قول " مثالي " " خيالي " ، تلك هي الحرية الميتافـيـزقية التي تعـتبـر الحرية جزءا من طبيعة الانسان اينما كان .. " أما حرية الانسان الواقعي فهي مفـتـقدة دائما بحكم ان احتيـاجاته متجدّدة أبدا .. لهذا نجده ينـزع للتحـرّر من أي علاقات اجتماعية تسمح له بالتمتع بحريات شكلـية لم يكتسب مضمونها الواقعي بعد ، فهو نزّاع دائما الى التغـييـر الاجتماعي                    .. "
ثم يضيف ناسبا الفكرة للدكتور عصمت سيف الدولة : " على هذا الأساس تفتـرق الديمقراطية المحكـومة عن الديمقراطية الحاكمة . فالأولى قائمة على أساس المفهوم الأول " الزائف " للشعب ويؤدّي الى الاستبداد " المتحضر " : نظام ديمقراطي كامل الشكل والمواصفات التقليدية حيث يحكم فيه الشعب نفسه بنفسه ، لكنه " شعب زائف " ذلك لأن الموجود حقا هو الشعب الحقيقي لا الشعـب المثـالي . ومن ثم فان الديمقراطـية المحكومة ( أي الليبـرالية ) ليست سوى آداة استـبداد ( متحضّـر ) " بالشعب الحقيقي "، وبالرغم من كل ما يتوفـر فيها من أشكال دستورية للمارسة المسمّاة ديمقراطية .. "                           
وهكذا فان مأساة الديمقراطية عند أغلب الحقوقيين ’ تكمن في مفهومها الهلامي المطلق ، من خلال ارتباطها بالحقوق الفردية ، ومضامينها البراقة ، كحقوق أزلية ثابة في الزمان والمكان ، مفرغة من اي مضمون اجتماعي لا يستوي فيه كل الناس ، فلا يستطيعون الاكتفاء بتلك الحقوق المتصلة بطبيعة الانسان وجوهره الثابت ، دون توفرالحد الادنى من حاجياته المتجدّدة أبدا .. 

( نشرية القدس عدد 202 ) .