بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 24 أبريل 2016

نعم سجل انا عربي .

نعم سجل انا عربي .

علاء حسين الاديب .


نعم سجل أنا عربي ..

أنا أنشودة التاريخ منذ بداية الحقب ..

أنا الابقى ..

وان جارت صروف الدهر بالنوب

أنا الاقوى ..

وويل البغي من غضبي ..

أنا عربي ..

و أمي الامة الكبرى ..

وان ابي .. عظيم راسخ النسب ..

نعم سجل انا عربي ..

واني ان ذوى جسدي

فروحي ترتقي بالمجد للشهب ..

أنا درويش .. مازلت

أنا عربي .. يرددها

لسان الفخر من ابنائي النجب ..

نعم سجل انا عربي ..


 وحسبي انني عربي ..

تجربة الوحدة الألمانية في العصر الحديث .. درس التاريخ والمستقبل ..

تجربة الوحدة الألمانية في العصر الحديث ..
 درس التاريخ والمستقبل ..
دكتور صفوت حاتم .

1  -   في فبراير عام 2008 ..  أقيمت في القاهرة " إحتفالية " عربية لتدارس تجربة الوحدة الأولى في تاريخ  العرب المعاصر .. الوحدة بين مصر وسوريا في 22 فبراير عام 1958 .
وبقدر ما أثبتت " الإحتفالية " عمق الشعور الوحدوي لدى " بعض " النخب المثقفة والسياسية العربية .. ألا أنها أثبتت .. بالمقابل .. سطحية التعامل النقدي مع قضية الوحدة .. داخل هذه النخب .. تلك النخب  عاشت طرفا من تجربة الوحدة بفورانها العاطفي وأحلامها الجارفة المتفائلة  .. وعانت .. بعد ذلك ..  تجربة الإنفصال عام 1961 .. أو حتى  تلك التي سمعت عن التجربة أو قرأت عنها .. فقد كانت المشاركات -  في معظمها -  نوعا من الإجترار لوقائع وخطب قديمة غير مفيدة  ..
الأكيد .. أن هاجس الوحدة العربية لازال يجري في الوجدان العربي .. بإعتباره .. على الأقل .. النقيض من واقع الإنحطاط العربي الحالي .. قد يبدو مستحيلا لدى الكثيرين .. لكن هذه " الإستحالة " هي   .. تعبير عن أمل  " ميئوس  " منه  .. وليست تعبيرا عن أمل  "مرفوض حدوثه "  .. أو رغبة " منكورة  "  ..
أن الحديث عن المستقبل العربي بدون وحدة عربية .. ربما يكون هو الحديث المرفوض والمنكور ..  
لكنني أندهش كثيرا من هؤلاء الذين يجادلون في  امكانية  تحقيق الوحدة العربية   بإعتبارها " وهما " وحلم غير واقعي .. بينما  يعرفون من واقع أقطارهم .. كل منها منفردا .. أنه  هو واقع بائس ولا مستقبل له  حيث  تتهدده المخاطر من كل حدب وصوب .. من قوى النهب والتفتيت الداخلي الحاكمة والمتحكمة .. فضلا عن قوى التفتيت الخارجية التي لا تهدأ عن التآمر والتخريب  ..
ان الذين يتمحكون بضرورات النضال القطري .. أي في كل قطر على حدة .. لم ينجزوا – في واقعهم القطري – أية  إنجازات سياسية أو شعبية يستحقون عليها التهنئة أو الإشادة .. أو على الأقل ..  تجعل من إنتصاراتهم القطرية دليلا على صدق فرضية الإهتمام بالقطري على حساب القومي .. وحيث أن القطري يتدهور يوميا أمام التحديات الأمنية والإقتصادية والمذهبية والطائفية .. فنحن نفترض أحد إحتمالين : إما أن الجهد القطري غير قادر على وقف التدهور وبالتالي ينبغي البحث عن صيغ غير قطرية .. أو أن دعاة الوحدة قد تراجع جهدهم وتعبئتهم الجماهيرية أمام  دعاة العمل القطري .. وهي بهذا المعنى هزيمة لتيار الوحدة العربية لا تبرر اندماجه في شعارات الأقليميين والإنفصاليين والطائفيين .. وهو فرض يقتضي مراجعة الشعارات والأهداف والخطط .. وقبل كل شيئ وبعده .. مراجعة النوايا الوحدوية  !!
فالنضال الوحدوي .. هو نضال .. من أجل المصلحة القطرية في الاساس .. وهو البداية  ..
ان الذين يهرولون لعقد الإتفاقيات التجارية والإقتصادية والسياسية  وإتفاقيات الشراكة مع أوروبا ومع أمريكا  .. بل  مع العدو الإسرائيلي .. كإتفاقية " الكويز " المصرية الأمريكية الإسرائيلية ٍ  ..
كل هؤلاء لا يفسرون لنا ولا لشعوبهم  .. هذا  الجموح الغريب  والتهليل العجيب  للتعاون مع الآخر  غير العربي  .. والنفور   المريب  من التعاون والإندماج العربيين  ..
نحن هنا نتعدى شعور " الياس " من الوحدة العربية  .. الى المصالح " المضمرة " التي يحققها البعض من التعاون مع الغريب .. والخوف من إختطاف هذه المصالح في حالة التعاون أو الإندماج العربي  !!!
لقد قيل الكثير في تفسير جريمة الإنفصال عام 1961  والتي انهت أول تجربة وحدوية في التاريخ العربي المعاصر .. لقد فسر البعض جريمة الإنفصال بالتعجل الذي حدث – ورافق – الوحدة المصرية السورية عام 1958 .. وتحدث البعض عن غياب الديمقراطية والحكم الفردي .. وعزاها البعض لتفاوت المستوى الإقتصادي بين مصر وسوريا وخطأ تطبيق الأصلاح الزراعي والتأميمات على المجتمع السوري ذو الصبغة التجارية بالأساس .. وتحدث البعض عن الطابع " المركزي " للمجتمع المصري وللدولة المصرية مقارنة بنظيره السوري .. هذه الأسباب – كلها أو بعضها – تحتاج الى اختبار وتدقيق قبل إطلاق الأحكام والإقتناع بها  .
على أية حال .. وجدت في تجربة الوحدة الألمانية من الدروس والعبر ما قد  يفيد المستقبل العربي ...
على الأقل ... هذا ما أتمناه !!!
ألمانيا .. قرنان من النضال الوحدوي :
2     لكل هؤلاء اليائسين .. اهدي هذه التجربة الرائعة لتجربة وحدة بدت في لحظات طويلة " وحدة ميئوس " منها .. وارجو أن يتسع صبر من يقرأ هذا الكتاب لإستيعاب هذه التجربة فقط .. فهي تجربة وحدة طويلة ومريرة .. ربما كانت أحد التجارب القليلة التي نجحت في القرن العشرين.. ولكنها تجربة مملوءة بالخبرات العظيمة .. والآمال المحبطة .. والإنتصارات المرهقة ..
يقول استاذنا " ساطع الحصري " فيلسوف ومفكر القومية العربية :
"  ان تاريخ الوحدة الألمانية من أهم وأمتع صفحات التاريخ في القرون الأخيرة  ..
كانت الأمة الألمانية تتمتع بأدب راق وثقافة عالية .. ومع هذا كانت مجزأة الى دويلات ودول كثيرة .. أما الموانع التي كانت تحول دون اتحاد هذه الدول والدويلات .. فكانت تأتي – في الدرجة الأولى – من  " أنانية  "  الملوك والأمراء وتمسكهم بالإمتيازات التي كانوا يتمتعون بها  ، لأن ألمانيا كانت – في العقد الأخير من القرن الثامن عشر – منقسمة إلى 360 وحدة سياسية .. مستقلة عن بعضها استقلالا مطلقا .. غير ان عدد هذه الوحدات السياسية .. أخذ يقل شيئا فشيئا .. بسبب اندماج واتحاد بعضها ببعض : فقد نزل هذه العدد الى 248  دويلة  عام 1803 .. ثم الى 39  دويلة عام 1815 .. ثم  الى 25  دويلة عام  1871 ( اي بعد ثمانية وستون عاما من بداية أول عملية توحيد  !! ) .. إلا أن هذه الوحدات .. كونت في السنة المذكورة ( 1871 ) .. دولة اتحادية فيدرالية .. وتنازلت لها عن جميع السلطات المتعلقة بجميع الشؤون العسكرية والخارجية  ..
ولم يبق عدد هذه الدول المكونة على حاله .. بل نزل الى 17 سنة 1918 .. وفي الأخير زالت هذه الدول من الوجود وتركت محلها  " الرايخ الألماني " أي الدولة الألمانية الموحدة توحيدا تاما عام 1923 ..  اي بعد قرن كامل وثلاث عقود !!  ( ساطع الحصري , محاضرات في نشوء الفكرة القومية , دار العلم للملايين  ) .
ولكن ألمانيا ستعود الى التجزئة مرة أخرى بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية .. وتلك قصة سنعود إليها في موضع آخر .. لكن دعونا نرى كيف جاهدت ألمانيا لكي تتوحد عبر قرن كامل وثلاث عقود .. لتعود لتتجزأ مرة أخرى في أقل من عقدين .. ثم تعود للوحدة النهائية بعد نصف قرن تقريبا من التجزئة القسرية التي تمخضت عنها هزيمتها في الحرب العالمية الثانية ..
بداية القصة :
3 -   كانت ألمانيا في نهاية القرن الثامن عشر في وضع غريب وشاذ جدا من الوجهة السياسية .. لأن معظم أقسامها كانت في حالة شبيهة بإقطاعيات القرون الوسطى .. انها كانت مقسمة لعدد كبير من الدول والدويلات والمدن الحرة .. وكان الحكم يعود في بعضها ألى حكام دينيين .. وفي بعضها الآخر الى حكام مدنيين .. وكان من بين هؤلاء الرؤساء .. ملوك وأمراء ودوقات وغراندوقات ..وكان بجانب ذلك كله مدن حرة عديدة .. مستقلة في إدارة شئونها متمتعة بسيادة تامة في الامور الداخلية والخارجية  ..
في الواقع .. كان هناك ما يسمى – بصورة رسمية – " الإمبراطورية المقدسة " .. ولكن هذه الإمبراطورية كانت " إسما بلا جسم " .. لا تتمتع بأي سلطة حقيقية .. فكانت كل واحدة في هذه الوحدات السياسية .. الكبيرة والصغيرة .. مستقلة في شؤونها إستقلالا تاما .. فكان لكل واحدة منها حكومة خاصة وجيش خاص وقوانين خاصة .. وإذا إستثنينا منها " مملكة بروسيا " .. استطعنا أن نقول أنها كانت في منتهى الضعف من جميع الوجوه السياسية والعسكرية  ...
صراعات الحكام الألمان :
كانت ألمانيا  المثال الكلاسيكي للتعصب المحلي والصراعات الأقليمية ( كما هو الحال في الأمة العربية ) ففي العصور القديمة كانت هناك عداءات متوارثة بين القبائل الألمانية وبخاصة بين السكسون والفرانك .. وكان ألمان الشمال وألمان الجنوب لا يكادون يفهمون بعضهم البعض .. وكانوا يلجئون الى اللاتينية إذا أرادوا التواصل والإتصال ببعضهم البعض ( !! )
وصعد عدد كبير جدا من النبلاء الى مصاف حكام الأقاليم ووضعوا سياستهم الخاصة وفق مصالحهم الخاصة وقاموا بحروبهم المنفصلة دون أدنى إعتبار للأهداف القومية المشتركة . وكانت السياسة " المحلية " لكل إقليم تقوم على اساس المصالح للبيوت والعائلات الحاكمة ( !! ) .. والغريب أن هذه السياسات كانت تحظى بتأييد كبير من سكان كل أقليم ( !! ) . فالإمبراطوية القديمة لم تكن دولة بالمفهوم الصحيح بل اتحادا فضفاضا كان يضم في القرن الثامن عشر 1800 حاكم ( ألف وثمانمائة حاكم !! ) وكان بعضهم ملوكا ودوقات ومركيزات وكونتات وبعضهم بطاركة واساقفة وما الى ذلك  .
ولكن 1475 منهم كانوا مجرد فرسان احرار لا يخضعون لأحد إلا الإمبراطور ويحكمون جميعا مائتي ميل مربع . وكان هناك أيضا احدة وخمسون " مدينة حرة " بل وبعض القرى الحرة أيضا . وكان كثير من الأمراء يحكمون دولا أجنبية بجانب أراضيهم الألمانية مثل بريطانيا وروسيا ( فقد صار الدوق هولشتاين قيصرا لروسيا عام 1762 ولكنه لم يحكم سوى فترة قصيرة ) .. كما كان هناك حكام المان يحكمون اقاليم في السويد والدنمارك وبولندا وهولندا وبلجيكا وبوهيميا وهنغاريا وبعض الاقاليم الفرنسية وايطاليا وسويسرا  .
وحتى الإمارات الألمانية الصغيرة جدا كانت تدعي أنها أمم منفصلة ( كإمارات ودول الخليج العربي !! )
وكان التطرف في المشاعر المحلية ( والإقليمية ) سببا في قدر كبير من المهانة للأمة الألمانية وتفتتها وانقسامها .. وصار الصراع بين الحكام والعائلات الحاكمة سببا من اسباب ضعف وتشتت الالمان وهزيمتهم في الحرب أمام نابليون  .
وقد بلغت صراعات الحكام الألمان حدا مزريا .. فلقد كان التعصب المحلي والتنافس بين الأقطار الألمانية الكبرى .. وحتى بين الأقطار الصغرى ..   أحد أهم اسباب تدهور الشعب الألماني ..  فقد كانت تنشأ الحروب بين الأمراء على اتفه الأسباب .. مثلا ..  أعلن أحد البارونات " بارون فلمنج " الحرب على دوقة " زاخن جوتا ويسنفلز " لأنها أمرت بذبح كبش في أراضي أقليمه بدون إذنه . وفي عام 1747 نشبت حرب بين " زاخن جوتا " و " زاخن ماينتجن " بسبب شجار بين اثنين من النبلاء حول حق التقدم في البلاط الملكي  ... وهناك أمثلة كثيرة حول هذا النوع من الحروب والصراعات بين الحكام الأمان . ( القومية في التاريخ والسياسة . فردريك هرتز . ترجمة دكتور عبد الكريم أحمد , سلسلة من الفكر السياسي و الإشتراكي  , دار الكتب العربي , القاهرة ) .    
ألمانيا والخطر النابليوني :
4  -ولكن رغم حالة التفتت والإنقسام والتناحر السياسي .. كانت " ألمانيا " قد وصلت لمرحلة متقدمة من التقدم والرقي في ميادين العلوم والثقافة والفنون والآداب .. وكان من أبنائها أدباء عباقرة مثل " شيلر " و " جوته " .. وفلاسفة عظماء مثل " كانط " و " هيجل " .. وعلماء مشهورون في كل الفروع مثل " جوس " و " هومبولد " و " وفرنر " .. وكان لها جامعات راقية .. إشتهرت كل واحدة منها بعدد غير قليل من الأساتذة والعلماء  ..
بإختصار : كانت ألمانيا راقية وموحدة من حيث الثقافة .. لكنها ضعيفة ومشتتة ومتأخرة من حيث السياسة  !!
وكان العلماء والأدباء والمفكرون لا يلتفتون الى الاوضاع السياسية .. وكثيرا ماكانوا يفكرون تفكيرا عالميا ويسترسلون وراء الأحلام الإنسانية  ..
هذه كانت حالة ألمانيا عندما قامت الثورة الكبرى في فرنسا .. وقد قوبلت أخبار هذه الثورة بالحماس والإستحسان من كل شعوب أوروبا المضطهدة  .
كان رجال الثورة الفرنسية قد أعلنوا أن هذه الثورة ستخوض الحروب  التحريرية ضد حكم الملوك : " لتضمن الحرية والسلام للشعوب .. وتخاصم القصور لتساعد الأكواخ  "
وكان من الطبيعي أن تستقبل أمثال هذه التصريحات والإعلانات بالتصفيق والتحبيذ .. وكان من الطبيعي .. أيضا .. أن تتقوى في نفوس المفكرين الألمان  " النزعة العالمية " التي كانوا يحملونها .. وحب الإنسانية الذي كانوا يدعون إاليه  ...
5 ـ  ولكن قبل أن تمضي سنة كاملة كانت فرنسا تحشد الجيوش وتخوض غمار حروب طويلة .. حروب من أجل الفتح والتوسع .. وصرح أحد قادة الثورة الفرنسية من على منابر مجلس الثورة  عام   1795 : " أنه يحق للجمهورية الفرنسية .. بل يجب عليها .. أن تضم وتلحق بها البلاد التي تلائم مصالحها .. سواء عن طريق الفتوحات أو طريق المفاوضات والمعاهدات  "  !!
ووصلت الأطماع الفرنسية أقصاها عندما تم تويج " نابليون " وتنصيبه إمبراطورا على فرنسا ..
ومما يلفت النظر .. أن " ألمانيا " صارت أول أهداف وأطماع " نابليون " .. وكان إنقسام    " ألمانيا " الى دويلات كثيرة متناحرة هو السبب الرئيسي وراء الإطماع الفرنسية .. وكان هو أيضا الذي سهل " لنابليون " أن يتغلب على الدويلات الألمانية .. وأن يتصرف في شؤونها كما شاءت أطماعه وأهواءه  ..
بدأ  " نابليون " إجراءاته في شؤون ألمانيا بالسيطرة على الدول والدويلات الجنوبية المتصلة بنهر الراين .. وألحق قسما منها بفرنسا إالحاقا مباشرا .. وكون من قسم آخر مملكة جديدة سماها مملكة " وستفاليا " ونصب أخاه " جيروم " ملكا عليها .. ثم كون دولة إتحادية تجمع عدد غير قليل من الدويلات الألمانية سماها باسم " إتحاد الراين " .. وأعلن نفسه حاميا  ..
وبعد ذلك هجم نابليون على " مملكة بروسيا " .. أكبر الدويلات الألمانية واقواها .. فدحر جيوشها جيوشها في موقعة " يينا " المشهورة .. ثم زحف على برلين واستولى عليها .. وأملى على ملك " بروسيا " ما شاء من الشروط : فصل من المملكة أكثر من نصف أراضيها .. وفرض عليها غرامة مالية باهظة .. ورقابة عسكرية قاسية .. وبعد ذلك جعل من شمال ألمانيا  قاعدة للأستعدادات الفرنسية لغزو روسيا  ..
ولم يكتف " نابليون " بتمزيق المانيا والسيطرة عليها وإهانتها .. بل جند عددا كبيرا من الألمان .. وإستخدمهم في غزوه لروسيا .. وقد بلغ عدد الألمان الذين جندهم " نابليون " مئات الالاف .. وقد قدر الخبراء عدد الضحايا من هؤلاء الجنود بأكثر من مائة وخمسين ألفا  !!
دور الثقافة والمثقفين :
6 ـ كان من الطبيعي أن تولد هذه الكوارث والمصائب رد فعل شديد في نفوس الشعب الألماني .. فقد صار الكل يشعر شعورا واضحا أن سبب هذه الرزايا والمصائب هو فقدان الشعور القومي .. فكان من الطبيعي أن تؤثر هذه الوقائع على نفوس المفكرين والمثقفين الألمان .. فتولد تيار جارف من الحماسة القومية المقرونة بالرغبة الملحة في الإتحاد .. وقد سرى هذا التيار في نفوس الجميع بوجه خاص رجال السياسة والفكر والثقافة .. ودفعهم هذا أن يعملوا عملا متواصلا في سبيل تخليص ألمانيا من ربقة الهيمنة الفرنسية  ..
إندفع الأدباء والشعراء – وعلى رأسهم – " آرنت " و  " جور " ..  يصورون الرزايا التي ألمت بالبلاد تصويرا مؤثرا .. ويلهبون روح الوطنية .. ويثيرون روح الوطنية والإستقلال والإتحاد باشعار حماسية جدا .. ويقول مؤرخو الأدب الألماني : أن تاريخ ألمانيا لم يشهد في أي دور من أدواره هذا التدفق من الأدب الحماسي الوطني المثير للهمم والحافز على العمل .
وإندفع كذلك المفكرون والمعلمون .. وعلى رأسهم " فيختة " .. الى نشر الخطب والمقالات وإالقاء الدروس والمحاضرات لإستثارة روح التضحية .. وتقوية نزعة الإتحاد في النفوس ..
إحتقار اللغة الألمانية :
في اثناء القرن الثامن عشر تسربت افكار الإستنارة والرومانسية المبكرة , كما عبرت عنها كتابات الفلاسفة والشعراء وكتاب القصة الإنجليز والفرنسيين .. وقد قوبلت الثقافة الأجنبية بحماسة شديدة من الطبقات العليا والطبقات الوسطى في ألمانيا .. بل كانت الطبقات العليا تفضل كل ماهو فرنسي ( !! ) . وعندما اسس " فردريك الثاني " أكاديمية " برلين " , جعل اللغة  الفرنسية لغتها الرسمية ( !! ) .. بل عين لها سكرتيرا فرنسي الجنسية ( !! ) .
وفي سنة 1783 وضعت الأكاديمية جائزة لمقال عن أسباب إنتشار اللغة الفرنسية عالميا وحصل على هذه الجائزة " أنطوان ريفارول " .. والذي عزا إنتشار اللغة الفرنسية في أوساط الطبقات العليا  والطبقات المتعلمة من الشعب الألماني الى الصفات المتفوقة للغة الفرنسية ولا سيما وضوحها ومنطقها الذين تفوقت بهما على جميع اللغات الأخرى ( !! )
المدهش أن " ريفارول " قد حظي بتكريم كبير من الملك والأكاديمية من أجل مقاله هذا ( !! )
بيد أن المركز المسيطر الذي أحتلته اللغة الفرنسية والأدب الفرنسي في أوساط النخبة الألمانية  ملبث أن دفع الكتاب الألمان الوطنيين الى تأكيد مزايا اللغة الألمانية .. ويمكن تفسير إشادة " فيختة " المبالغ فيها بمزايا اللغة الألمانية كرد فعل متأخر على مقالة " رفارول  "  .
الإصلاح الطبقي :
7  ـ ومن جهة أخرى .. أخذ رجال السياسة أيضا .. يقدمون السبل والإقتراحات من أجل إجراء إصلاحات إدارية وإجتماعية .. لتهيئة السبيل للوحدة والإستقلال .. لأنهم إعتقدوا إعتقادا جازما بأن الناس لن ينزعوا الى الاستقلال نزوعا قويا .. مالم يذوقوا طعم الحرية  ..
كانت القوانين المرعية  في " بروسيا " في هذه الحقبة .. تميز طبقات المجتمع تمييزا صريحا فعليا .. فقد كانت تحرم  الفلاحين ورجال الطبقة الوسطى من حق تملك أراضي النبلاء عن الطريق الشراء .. كما أنها كانت تمنع النبلاء من ممارسة المهن مهما كان نوعها .. وقد أدرك رجال الإصلاح مافي هذه  الأحوال من مجافاة لمقتضيات الوحدة القومية .. فألغوا القوانين المذكورة .. واستعاضوا عنها بقوانين جديدة .. تزيل هذه القيود .. وتبيح لجميع افراد الشعب حق إمتلاك الأراضي وحق ممارسة المهن في وقت واحد .. وتجعل الناس يشعرون بأنهم ابناء وطن واحد وأمة واحدة  ..
وبجانب هذه الإصلاحات والتنظيمات الإدارية والإجتماعية .. قام رجال الجيش أيضا بتنظيم الحياة العسكرية على اسس جديدة تماما  ..
معاهدة  الإستسلام  والعار :
8 -  كان " نابليون " قد إشترط على    "بروسيا "   .. أكبر واقوى دولة ألمانية .. في المعاهدة التي أملاها عليها .. أن لايزيد عدد أفراد جيشها على 42 الف جندي .. وإحتفظ لنفسه بحق مراقبة الجيش المذكور للتأكد من مراعاة هذه الشرط ( أتمنى من القارئ أن يعود الى النصوص العسكرية التي فرضت على مصر في معاهدة كامب ديفيد!!  )  ..
لذلك بحث رجال الجيش من الألمان الوطنيين المخلصين-  مثل " شانهورست "  و  " وجنايز ناو " ..  عن طريقة   تضمن تدريب جميع   المواطنين .. دون زيادة في عدد أفراد الجيش المقرر في المعاهدة .. فقرروا تقصير مدة التدريب العسكري والخدمة العسكرية الفعلية .. لهذا أخذوا من جهة يهتمون بتعميم الرياضة البدنية بين الشباب .. وابتدعوا من جهة أخرى .. انظمة عسكرية  بارعة .. واستطاعوا بهذه الصورة أن يعدوا جميع المواطنين للخدمة العسكرية إعدادا تاما .. دون أن يخرجوا على أحكام المعاهدة التي كانت فرضت عليهم فرضا  !!
وقد استمرت هذه الجهود والتدابير التنظيمية بدون انقطاع مدة سبع سنوات .. وخلقت في " بروسيا " روحا جديدة تختلف عن الروح التي كانت سائدة أيام هزيمة " يينا " اختلافا بينا ..
حتى إذا ما بدأ " نابليون " يتراجع عن موسكو .. اقدمت روسيا على التجنيد العام وكونت بغتة جيشا كبيرا .. انضم الى جيش الحلفاء .. وانتصر على الفرنسيين في معركة " لايبسيك " .. ومحا بذلك العار الذي كان قد لحق بالجيش البروسي وبالأمة الألمانية في موقعة " يينا  "
وحدويون ومتدينون  !! :
9 - كان من العوامل التي ساعدت  على نهضة " بروسيا " .. أكبر الدويلات الالمانية .. الخطب والمقالات التي كان يكتبها المفكر الألماني " فيختة " .. فقد كانت كلماته تؤثر تأثيرا كبيرا في الشباب الألماني لعدة عقود من السنين .. فصارت تعتبر من أهم عوامل ودوافع الوحدة  ..
كان   " فيختة " أستاذا للفلسفة في جامعة " يينا " قبل بدء الحوادث " النابليونية " .. كان يبحث بوجه خاص في مهمة رجال الفكر في المجتمع  .. وأخذ يجتمع مع الطلاب أيام الآحاد .. ليتحدث إاليهم في هذا الموضوع .. غير أن رجال الدين .. الذين توهموا أنه يريد أن يحدث دينا جديدا  .. تهجموا عليه .. وأتهموه بالخيانة .. فإضطر الى الإلتجاء الى  " برلين " .. وكان في برلين عندما حلت كارثة " يينا " .. ولكنه إلتجأ الى الدانمرك عندما علم بتقدم جيوش  " نابليون " الى العاصمة البروسية .. ولم يرجع اليها إلا بعد سنة .. مع انها كانت تحت الإحتلال الفرنسي .. ولكنه خلال هذه المدة كان يتأمل في نكبات ألمانيا .. وعندما عاد الى برلين أخذ يلقى سلسلة من المحاضرات موجهة للأمة اللألمانية ضمنها أراءه في الموضوع  ..
كان " فيختة " مثل غيره من المفكرين الألمان .. لا يعرف حدودا لألمانيا إلا حدود اللغة الالمانية .. وكان ممن يقولون على الدوام : ان الفروق التي تشاهد بين " البروسيين " وغيرهم من الألمان .. كلها فروق عارضة ومصطنعة .. أما الفروق الموجودة بين الألمان وغيرهم من الأمم الأخرى فهي فروق طبيعية وجوهرية .. وقد استمرت خطب " فيختة " حتى بعد انتهاء الحروب " النابليونية " .. من أجل تحقيق الوحدة الألمانية تحقيقا فعليا ..  
الإنتصار على الإحتلال الفرنسي  وعودة الهيمنة الأجنبية  :  
10 - ان الجهود التي بذلها رجال الفكر والسياسة ورجال الجيش الوحدويين في " بروسيا " بعد كارثة " يينا " كانت تستهدف غايتين أساسيتين  :
تخليص البلاد من الإحتلال الفرنسي والنير النابليوني من جهة .. وتوحيد الأمة الألمانية سياسيا وعسكريا .. من جهة أخرى  ..
ولقد تكللت المهمة الأولى بالنجاح .. وتخلصت ألمانيا من اللإحتلال الفرنسي بمؤازرة جيوش الحلفاء .. وقد أوجد هذا النصر شعورا كبيرا بالأمل في نفوس الوحدويين الألمان عن قرب تحقيق وحدة الأمة الألمانية  ..
إلا أن السياسة التي قامت عليها الدول المتحالفة بعد الإنتصار على فرنسا والتخلص من نابليون .. خيبت أمال الوحدويين الألمان  ..
فقد قررت الدول المتحالفة تنظيم أوروبا على اساس " الحق الشرعي للملوك " .. وقد حال هذا التنظيم دون وحدة ألمانيا  ..
فقد أبقى التنظيم الجديد على ألمانيا مجزأة الى تسع وثلاثين دويلة سياسية .. بين ملكية .. ودوقية .. وجراندوقية .. وإمارة .. ومع هذا حاول أن يوجد نوعا من التحالف بين هذه الدويلات .. وذلك بواسطة " مجلس تحالف " .. يتألف من أعضاء يمثلون جميع الدول  الألمانية  ..
11 -  ومن الغريب أن هذا التنظيم خول البعض من ملوك الدول الأوروبية أيضا حق الإشتراك في المجلس المذكور .. فكان لملك بريطانيا العظمى الحق في ان يوفد لمجلس التحالف عضوا يمثله فيه بصفته أميرا وحاكما على مقاطعة " هانوفرا " الألمانية  !!
وكان لملك الدانمرك الحق أن يوفد من يمثله في  مجلس التحالف الألماني بصفته إميرا وحاكما على دوقية " هولشتين الألمانية  !!
ولا حاجة إلى القول .. أن مجلس التحالف الذي تالف على هذا المنوال .. لم يستطع أن يقوم بعمل إيجابي يذكر ( كأننا بصدد مشابهة طريفة مع مجلس دول جامعة الدول العربية !! )
ولذلك استمرت كل دولة من هذه الدول الآلمانية الكثيرة .. على العمل مستقلة عن غيرها تمام الإستقلال .. وفضلا عن ذلك صارت هذه الأحوال تفسح المجال واسعا للدسائس والمؤامرات الداخلية والخارجية التي تهدف الى تقوية النزعة الإقليمية في كل واحدة من هذه الدويلات السياسية .. وتسعى وراء مكافحة فكرة الإتحاد فيما بين  هذه الوحدات  ..
ومع كل ذلك  .. كانت فكرة الوحدة الألمانية تتغلغل في النفوس .. ولا تموت .. رغم المصائب والنكسات والإنقسامات  ..
وقد نجحت " بروسيا " ..  أكبر الدول الآلمانية .. في عمل مفاوضات كبيرة وشاقة لإقناع كل دويلة من الدويلات الآلمانية بعقد معاهدات لرفع الحواجز الألمانية .. وفي النهاية تكللت جهود بروسيا بالنجاح  وتكون الإتحاد الجمركي الذي عرف باسم " الزولفرين "  ..
12 ـ   ولكن .. الوحدويين الألمان .. ماكانوا يكتفون بالإتحاد الجمركي .. بل كانوا يدعون  الى الوحدة في سائر الميادين  ..
كان البعض يقول بضرورة توحيد ألمانيا على اساس النظام الجمهوري .. في حين يقول البعض الآخر أن هذه الطريقة غير واقعية .. ويقولون على ضرورة السعي الى تحقيق الوحدة عن طريق التفاهم بين الملوك والأمراء والحكام الألمان ( نحن نقترب جدا  هنا  من الواقع العربي   !! )
أما القائلون بهذا الراي الأخير فكانوا ينقسمون الى حزبين مختلفين : أحدهما يقول بضرورة تحقيق الإتحاد تحت زعامة أسرة " هابسبورج " .. وهي العائلة المالكة في الامبراطورية النمساوية  ..
أما الإتجاه الثاني فيقول بوحدة ألمانيا تحت زعامة أسرة " هو هتزولرن " .. وهي العائلة المالكة في المملكة البروسية  ..
وقد عرف انصار " الهابسبورج " بحزب ألمانيا الكبرى " .. اما انصار " الهو هنزلرن " فقد عرفوا بحزب " ألمانيا الصغرى "  ..
كانت أسرة " الهابسبورج " تتمتع بشهرة أقدم وأوسع من شهرة الأسرة المنافسة لها .. لأنها تحكم " إمبراطورية النمسا " العظيمة .. وكانت ترأس " إمبراطورية جرمانيا المقدسة " ولو بصورة أسمية .. ألا أنها كانت تتألف من عناصر وقوميات عديدة .. القسم الأكبر منها لم يكن ألماني الصل .. فقد كانت حدودها تمتد من غاليتشيا شمالا الى لومبارديا وفيسنيا جنوبا .. وكانت تضم تحت لوائها .. كتلا كبيرة وكثيفة من المجريين والطليان والطاجيك والكروات والسلوفان ..
وفضلا عن ذلك  كانت أسرة " الهابسبورج "  كاثوليكية .. وكانت تعتبر نفسها حامية الكاثوليك .. وكانت تجد في هذه الحماية الوسيلة الفعالة لحكم هذه الشعوب والأمم المختلفة .. تحت شعار الدين !!!
وكانت هذه الأسباب مجتمعة تجعلها غير قادرة على اتباع سياسة " ألمانية " خالصة .. سياسة تقدم المصلحة الألمانية على المصالح العرقية والدينية الأخرى ..
أما أسرة " هوهنز ولرن " فكانت تحكم بروسيا التي كانت ألمانية صرفة .. فكان في استطاعتها ان تسير على سياسة آلمانية خالصة تقدم المنافع الآلمانية على أية منافع أو إعتبارات أخرى .. من غير تردد أو إلتواء ..  
وفعلا إلتزمت " بروسيا " بالسير على سياسة توحيد ألمانية صرفة وصريحة .. وسعت الى الاستفادة من جميع مفكري الألمان .. مهما كانت الدولة التي ينتسبون اليها .. وبتعبير اقصر كانت تعمل بكل قوتها لتكوين دولة وحدة ألمانية .. بكل معنى الكلمة ..
ولهذا صار القائلون بوجوب توحيد الدول الألمانية تحت زعامة بروسيا يزدادون يوما بعد يوم..
الثورة :
13 ـ فجأة .. قامت الثورات الشعبية في مختلف أنحاء أوروبا عام 1848 .. عام الثورات الشعبية والعمالية  ..
وسط هذا الجو المشحون بالثورة على حكم الأسر والعائلات المقدسة .. خرجت فكرة الوحدة من ساحة النظريات الى ساحة العمل ..
فقد رأى الملوك والأمراء أن " حكمة الحكومة " تقتضي عليهم مسايرة الرأي العام في هذا المضمار .. فوافقوا على دعوة مؤتمر شعبي عام .. لوضع دستور يسري على البلاد الآلمانية بأجمعها .. وذلك بغية تأسيس دولة ألمانية .. تجمع شمل الدول والدويلات القائمة على أراضي جرمانيا القديمة ..
اجتمع المؤتمر في مدينة فرانكفورت وأخذ يعمل في بادئ الأمر بنشاط وحماس .. وقرروا بإتفاق الآراء .. تكوين حكومة فدرالية – إتحادية  - ثم أخذ يتذاكر في نظام هذه الحكومة .. وقرروا بأغلبية الآراء أن تكون " إمبراطورية وراثية " .. ثم أخذوا يتناقشون في أمر رئاسة هذه الحكومة .. وبعد مناقشات طويلة انتهوا الى قرار يقضي بتقديم تاج الى " أمبراطورية ألمانيا الجديدة " الى ملك مملكة بروسيا ..
الثورة المضادة :
14 ـ   ولكن .. خلال فترة المناقشات والمذاكرات .. كان قد حدث تطور مهم في الجو السياسي العام .. في جميع انحاء أوروبا .. ذلك أن معظم الحكومات التي كانت قائمة .. آنذاك .. كانت قد استطاعت أن تتغلب على الحركات الثورية .. وأخذت تتراجع شيئا فشيئا عما كانت وافقت عليه من نظم وتشكيلات شعبية  ..
وكانت النمسا من أول الدول التي قضت على الثورات الشعبية .. ولذلك انقلبت على مقررات مؤتمر " فرانكفورت " وأجبرت ممثل النمسا على الإنسحاب  !!
أما الملك المنافس للنمسا ..أي ملك بروسيا .. فقد كان منذ البدء مترددا أمام مقررات مؤتمر فرانكفورت .. على الرغم من موافقة مقررات هذا المؤتمر لمطامح بروسيا .. فلقد كان الملك مسايرا للمؤتمر على مضض وبتأثير الثورات الشعبية التي اندلعت في أوروبا آنذاك ..
كان يرى أنه لا يليق بمقامه الملكي ان يقبل تاج الإمبراطورية من يد مجلس شعبي  منبعث من ثورة شعبية .. ولذلك عندما زالت من نفسه مخاوف الثورة .. أعلن ان لا يقبل تاج الإمبراطورية الألمانية الا اذا قدمه له الملوك والأمراء الذين يحكمون الشعوب الألمانية ...
ولا حاجة للقول .. أن ذلك أدى الى فشل مشروع الأمبراطورية الالمانية الموحدة وانحلال مؤتمر " فرانكفورت "  ..
وانهار مشروع الوحدة الآلمانية  ..
ثقافة الهزيمة واليأس :
15 -  لم تكن الكارثة التي حاقت بالنضال الوحدوي الألماني هينة بعد انهيار مؤتمر " فرانكفورت " .. انهارت الثورات الشعبية .. وانهار الحلم الوحدوي .. وانهار أعز ماكان يحتضنه الآلمان في جوانحهم : إيمانهم بالوحدة  ..
تعالوا نسمع ونقرأ .. ماكان يقال ويكتب بعد هزيمة مقررات مؤتمر " فرانكفورت " الوحدوية ..
لقد ظن الكثيرون  من رجال الفكر والسياسة في أوروبا .. وفي ألمانيا بالذات ..  أن فكرة الوحدة الألمانية قد " تلاشت " .. نعم تلاشت .. بعد مؤتمر فرانكفورت .. وأن أحلام الوحدة الألمانية  دخلت حيز النسيان .. واعتبر الكثير منهم أنها وهم من الأوهام والأحلام لا يمكن أن تتحقق في وقت من الأوقات  .
وقد قال قيصر روسيا : ان فكرة الوحدة الألمانية .. ليست إلا نوعا من أضغاث الأحلام التي تليق بالروايات الخيالية  ..
أما ملك فورتمبرج فقال : ان فكرة الوحدة اآلمانية من أسخف الأوهام واضر الأحلام  .
وانبرت الصحف والمجلات الألمانية والأوروبية تكتب وتنشر المقالات عن إفلاس فكرة الوحدة الألمانية .. وقد أخذ الكثيرون يسخرون منها بأحط الألفاظ وأقسى العبارات .. فهذا يقول عنها : خيال محال لا يؤمن به الا الشعراء .. وثان يقول : سراب خداع لا يسير وراءه الا المغفلون وأصحاب الأطماع  !!
وتساءل أحد الكتاب مرة : ماهي ألمانيا ؟ واين هي ؟ ثم أجاب على السؤال قائلا : انها خيال واه .. لا وجود له الا في عالم الأحلام التي يتلهى بها الفلاسفة ويتغنى بها الشعراء  !!
وكان مما كتبه أحد محرري السياسة العالمية في هذا الصدد : " ان الفشل التام الذي انتهى اليه مؤتمر فرانكفورت يجب ان يعتبر من أهم الوقائع التي سجلها تاريخ القرن التاسع عشر .. ومن أفيد الدروس التي أعطاها للساسة والباحثين .. لأن أعمال المؤتمر أظهرت للعيان ماهية الأوهام التي كانت مستولية على الأذهان .. ان جميع الجهود التي بذلت في المؤتمر المذكور لتحقيق وهم الوحدة الألمانية .. ذهبت سدى .. وفي الوقت  نفسه الذي نكتب فيه هذه السطور .. نستطيع أن نقول ان حزب الإتحاد الألماني قد زال من عالم الوجود  "   !!
انها ذات الجمل والتعبيرات التي يطلقها البعض على فكرة  الوحدة العربية منذ  هزيمة مشروع الوحدة الأولى بين مصر وسوريا بالإنفصال عام 1961 .. ولكن هذا حديث آخر نؤجله لحينه .. ونبقى مع تجربة الوحدة الألمانية .. تلك التجربة  المليئة  بالدروس والعبر .. التي  تستحق أن نستفيد منها  في نضالنا الوحدوي  ..
ولم تنته القصة  ...
فقصة بناء سور برلين  قصة مثيرة تحتاج الى تفصيل .. فهي قصة تفاعل الياس مع الأمل تفاعلا خلاقا .. وقد كتبها بشكل رائع الكاتب الصحفي " محمود صلاح " في كتابه المثير  " سور برلين .. هزيمة حائظ " ..
قصة سور برلين :
 16 ـ اذا كانت باريس هي حقا مدينة النور .. ولندن هي مدينة الضباب .. فلابد أن برلين هي مدينة الكوميديا السوداء ..
فألمانيا التي كانت قد  توحدت تحت راية " الرايخ الألماني " .. كانت قد ألقت بنفسها في  أحضان  " هتلر " عام 1936  وسلمت نفسها طواعية لمغامراته العسكرية التي بدأت في التعثر بعد النجاحات المبهرة والخاطفة .. ومع المراحل النهائية للحرب .. وبالتحديد في عام 1944 .. كان " هتلر " يحاول بقواته الإنتحارية محاولات يائسة ومستميتة لإعاقة تقدم قوات الجنرال الأمريكي " إيزنهاور " وقوات القائد البريطاني " مونتجمري " التي كانت تتجه بسرعة صوب " برلين " .. بينما كان على الناحية الشرقية للمدينة طلائع الجيش الأحمر السوفييتي  بقيادة الجنرال " زكوف " التي تمكنت من الوصول أولا  !!
وكان الحلفاء قد إتفقوا .. مقدما قبل دخولهم ألمانيا – على تقسيمها وتقسيم عاصمتها برلين الى أربعة اقسام  ..
لكن السوفيت .. الذين كانوا قد وصلوا أولا.. قرروا الحصول على القسم الشرقي من برلين لأنفسهم  بعد أن خاضوا معركة شرسة .. وهكذا آل الجزء الغربي من " ألمانيا " الى حماية وسيطرة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا .. ووضعت بها قواعد عسكرية أمريكية .. وسارت دولة ألمانيا الغربية على طريق الراسمالية الغربية .. بينما إتجهت ألمانيا الشرقية الى طريق الشيوعية  .
وفي ألمانيا الشرقية تم تفكيك مئات الأطنان من آلات المصانع ونقلت هذه الآلات والأجهزة والمعدات الى مصانع الإتحاد السوفيتي .. ولأن إقتصاد ألمانيا الشرقية كان يسير نحو الحضيض .. بالإضافة  الى إعدام الحريات السياسية .. وهكذا تزايدت المعارضة للنظام السياسي  ..
وبينما كانت ألمانيا الغربية تعيد بناء نفسها .. كانت ألمانيا الشرقية تسير نحو الهاوية ..  فقد أنفقت معظم مواردها وثرواتها على دعم جهاز " الاستازي " .. أي البوليس السري .. لمراقبة وقمع الشعب الألماني .. وكان لابد من إنتفاضة الشعب الألماني  ..
وفي 17 يونية 1952 تفجرت إنتفاضة شعبية كبرى .. وخرجت المظاهرات في شوارع برلين الشرقية .. لكن الإتحاد السوفييتي سارع بقمع الإنتفاضة وإستخدام كل أنواع القمع البشع ..
وهكذا لم يجد المتمردون والرافضون للنظام سوى سبيل واحد .. الهرب الى برلين الغربية .. ومنها الى ألمانيا الغربية ..
في ذلك الوقت .. تزايدت أعداد الفارين من ألمانيا الشرقية الى ألمانيا الغربية .. وتردد أن " خروتشوف " زعيم الإتحاد السوفييتي .. تقدم بطلب لضم برلين الغربية الى برلين الشرقية .. وفصلها نهائيا عن ألمانيا الغربية ..
وعندما سمع الناس بذلك .. تزايدت أعداد الفارين والهاربين ..
بناء سور برلين .. الخطة إكس :
17 ـ   وهكذا أصدر " إريك هونيكر " ذراع المستشار " أولبريخت " .. اوامره بإقامة السور .. وهي الخطة التي كانت موضوعة أصلا تحت الإسم الكودي " إكس "   ..
وفي عام 1961  اثارت الدعايات الهيسترية التي كانت تطلقها حكومة ألمانيا الشرقية مشاعر الناس وهلعهم .. وزادت أعداد الفارين .. وكان هؤلاء يتم تجميعهم بعد فرارهم في معسكرات أعدت خصيصا للأجئين في برلين الغربية ..
وقامت السلطات في برلين الشرقية بالقبض على أعداد كبيرة من الناس بتهمة " العمالة " للغرب وصدرت ضدهم أحكام بالسجن تتراوح ما بين عشر سنوات  الى السجن مدى الحياة  ..
واستيقظ سكان برلين الشرقية صباح يوم 13 أغسطس 1961 ليجدوا القوات المسلحة تحاصر مدينتهم .. وأن سور برلين قد بدأ العمل في بنائه ..
كان الأمر أكبر من أن يصدقه عقل  !!
وفي الناحية الأخرى .. في برلين الغربية .. تظاهر عشرات من الألمان الغربيين أمام بوابة " براندنبيرج " الشهيرة .. يعترضون على إقامة هذا السور الللا معقول .. وويرفعون لافتات تصرخ : " هناك ألمانيا واحدة فقط " و " ستظل ألمانيا واحدة لكل الألمان «  ..
وهكذا اصبح اللامعقول  واقعا .. فقد اصبح شارع واحد يمثل الحدود بين برلين الشرقية وبرلين الغربية .. في البداية .. كان مجرد اسلاك شائكة .. ولكن بعد ايام قليلة تم غستبدالها بالحائط .. وفي نهاية سبتمبر 1961 كان طول سور برلين ثلاثة كيلو مترات .. كانت الحرب الباردة تنتظر الجميع .. فقد انقسم العالم الى قسمين .. وانقسمت ألمانيا أي شطرين .. وظهر سور برلين كاضخم حائط اسمنتي .. أمامه سور طويل من الأسلاك الشائكة .. وخلفه سور أطول من الدبابات والكشافات الجاهزة  ..
وكانت كوميديا سوداء بالفعل  ..
فلقد تم هدم معظم البيوت الملاصقة للحدود لإتاحة الفرصة لرؤية أكثر وضوحا لجنود نقط الحراسة والمراقبة بإطلاق النار على الهاربين .. وكان على السكان إخلاء منازلهم فورا بمجرد صدور الأوامر ودون إخطار مسبق  
ولكن كل ذلك لم يكن أقوى من رغبة الانسان في الحرية .. فلم يكن هناك ما يمنع أي ألماني بسيط من أن يعرض حياته للخطر لمجرد أن يحصل على حريته .. وحدث هذا أكثر من مرة .. وفي هذا حدث قصص كثيرة في منتهى الإثارة  
18 ـ  في البداية كانت محاولات هروب الألمان الشرقيين عبر السور سهلة نسبيا .. فعلى سبيل المثال في شارع " برناور " لم يكن هناك سوى رصيف واحد .. كان في استطاعة الكثيرين منهم الهروب عبره الى برلين الغربية .. كان يكفي الواحد منهم أن يقفز من نافذة بيته ليصبح في برلين الغربية  !!
لكن سلطات برلين الشرقية لم تكن تسمح بأن يستمر ذلك .. فسرعان ما أمرت بوضع اسلاك شائكة على كل النوافذ في بيوت هذا الشارع .. بل تعدى الأمر ذلك .. فقد تم إغلاق هذه النوافذ بالأحجار .. كان الألمان على جانبي السور يحاولون الإتصال ببعضهم البعض بأن يرفعوا ايديهم ليحيوا بعضهم بعض .. ولكن هذا أيضا .. أصاب سلطات الأمن في برلين الشرقية بالجنون  !!
وحتى يمنعوا " التحية المتبادلة " بالأيدي بين الألمان وبعضهم البعض .. تم بناء عازل من الخشب المرتفع في معظم الأماكن .. كما تم وضع اسلاك شائكة وممكهربة في مياه الأنهار والبحيرات .. وعندما حاول أحد الألمان الشرقيين التسلل الى برلين الغربية قام الجنود بقتله .. وبعد ذلك بعام تم بناء 130 برج للمراقبة لإصطياد الهاربين الذي يحلمون بالحرية  ..
وفعلت سلطات برلين الشرقية كل ما يمكن فعله للفصل بين سكان المانيا الشرقية والمانيا الغربية ,, وقد وصل هذا الى حد مثير للسخرية  ..
مثلا .. كان هناك بيت في برلين الشرقية شاء سوء حظ أصحابه .. أن البيت يقع في منتصفه تام على نفس خط السور .. وجاءت الأوامر الغليظة بأن يقسم السور البيت الى نصفين .. نصف في برلين الشرقية .. ونصف في برلين الغربية  !!
لقد فعلت سلطات برلين الشرقية كل ما يمكن فعله من أجل بناء السور .. حتى لو أدى الأمر الى هدم الكنائس .. وهو ما حدث فعلا ..   ففي أوائل عام 1975 .. أقدمت سلطات ألمانيا الشرقية على نسف كنيسة " الكفارة " البروتستناتية .. وهي الكنيسة التي كان اسمها يشتق من آلام السيد المسيح وموته تكفيرا عن خطايا البشر .. وهي الكنيسة التي كان قد تم بناؤها في عام 1894  !!
ولكن سلطات برلين الشرقية قامت بنسف هذه الكنيسة حتى يمكن بناء السور
ولم يكن السور عاديا ..   فبعد خمس سنوات فقط من بناءه .. بلغ عدد ابراج المراقبة 210 .. لقد بدأ في 13 اغسطس بالسلاك الشائكة .. التي تم استبداله فيما بعد بحائط من الصاج المقوى .. ثم بعض القوالب الأسمنتية ..  لكن لأن هذا النوع من الحواجز لم يكن مقاوما لصدمات السيارات ولا الهجوم بالقنابل .. فقد استبدلوه بألواح اسمنتية .. وفي سنة 1964 تم انشاء 102 حظيرة لكلاب الحراسة التي كان في استطاعتها ان تجري لمسافة مائة متر وهي مربوطة في سلاسلها .. وقد تم تدريب هذه الكلاب على مهاجمة كل شيئ بشراسة !!
وهكذا بلغ أجمالي طول سور برلين 25 كيلو مترا
أنفاق الحرية  !!  :
 19 ـ  ولعلها أول مرة في التاريخ المعاصر يبتدع المحاصرون على الحدود فكرة الآنفاق .. فمع تشديد السلطات الألمانية الشرقية الحراسة حول السور .. بدأت محاولات الهروب عبر حفر الانفاق التي تمر تحت السور في أعماق الأرض .. وقد تمكنت مجموعة  من أبناء برلين الشرقية من حفر أطول نفق للأعداد لأضخم هروب جماعي ..
وكان  طول ذلك النفق 145 مترا .. ويقع على  عمق 12 مترا .. وكان مدخله يبدأ من مرحاض عمومي يقع في فناء تحيط به عمارات كثيرة .. أما مخرجه فكان في بدروم مخبز مهجور في شارع " برناور " .. وقد تم إستئجار هذا المخبز بمبلغ الف مارك في الشهر لهذا العرض .. كان إرتفاع النفق من الداخل لا يزيد عن 70 سنتيمتر .. وكانت المشكلة الرئيسية هي التخلص من الرمال الناتجة عن الحفر .. والتي كان يتم ارسالها من داخل النفق على عربة يدوية " تروللي " ثم يتم توزيعه على عربات يدوية صغيرة .. ثم تقوم محموعات أخرى من المشاركين في الحفر بنثر الرمال في أماكن مختلفة  حتى لا يثيروا الشبهات .. وقد اشترك 36 شابا وشابة .. معظمهم من الطلبة في مهمة الحفر .. ومع أنهم لم يكونوا من الهاربين عبر السور .. لكنهم كانوا يشعرون بالسعادة لأنهم يساعدون اصدقائهم وعائلتهم في الفرار والوصول الى الحرية ..
وبعد سنة اشهر من العمل الشاق .. تمكن 57 شخصا من الهروب عبر النفق .. وكان بينهم رجل يعاني من مرض القلب .. فاصيب بالبرودة الشديدة وأزرق لون شفتيه من جراء الزحف داخل النفق لمسافة طويلة .. أما اصغر الهاربين فقد كان طفل صغير حمله أحد الرجال عبر النفق ..
20-   لم يكن الهروب عبر الأنفاق عملية مأمونة تماما .. فقد كان على من يقبل الهرب عبر الأنفاق أن يتحمل كل أنواع المخاطر .. فقد كان رجال شرطة برلين الشرقية لا يتورعون عن القاء قنابل الغاز السام أو القنابل اليديوية داخل النفق والناس داخله ..
ولكن هذا لم يمنع 1500 شاب  خلال السنوات القليلة من بناء السور من مساعدة الراغبين في الهروب والفرار من برلين الشرقية .. وكان من بينهم أعداد كبيرة من النساء يعملن كحاملات رسائل .. وكان بعضهم من الطلبة الذين اصبحوا علماء أو أطباء أو رجال أعمال اثرياء ..
وربما لم يشهد التاريخ محاولات هروب كتلك التي حدثت عبر سور برلين منذ إنشائه وحتى هدمه , فقد بلغ عدد الأشخاص الذين تم القبض عليهم لمحاولتهم الهروب عبر السور الى برلين الغربية حوالي 70 ألف شخص  ..
وكان كل من يلقى القبض عليه وهو يحاول الهرب يقدم للمحاكمة .. وكان متوسط الاحكام التي صدرت بحق هؤلاء الهاربين تصل الى 16 شهرا في السجن .. لكن الغريب .. ان الذين كانوا يقدمون المساعدة للهاربين كانت تصدر بحقهم أحكاما أكثر قسوة .. تصل احيانا الى السجن اربع سنوات  .. بل والى السجن مدى الحياة في بعض الأحيان  ..
ورغم تحسن العلاقات بين المانيا الشرقية وألمانيا الغربية في بداية حقبة الثمانينات .. إلا أن الإحصائيات تبين ان عدد  الهاربين من برلين الشرقية الى ألمانيا الغربية بلغ حوالي 500 شخص في السنة .. ولم تقتصر محاولات الهروب عبر السور الى ألمانيا الغربية .. فقد كان كثير من الألمان يهربون الى دول أخرى .. غالبا تشيكوسلوفاكيا أو المجر او بولندا .. رغم كل الأموال التي انفقتها ألمانيا الشرقية على تجهيزات حدودها مع هذه الدول  ..
إنهيار سور برلين :
لم يكن انهيار جمهورية المانيا الشرقية وتوحيد المانيا عام 1990 ممكنا دون التحولات السياسية الجذرية في الاتحاد السوفيتي السابق والتي اخذت بوادرها تظهر منذ منتصف الثمانينيات. فمن اجل انقاذ الامبراطورية السوفيتية من التفتت والإنهيار شرع ميخائيل غورباتشوف، الرئيس السوفيتي الجديد وزعيم الحزب الشيوعي الحاكم آنذاك باجراء اصلاحات سياسية شاملة في البلاد. ومن اهم التغيرات الايدولوجية في هذه المرحلة هو تخلي الاتحاد السوفيتي عن موقع السيد الآمر والناهي في حلف وارسو واتجاهه نحو اقامة علاقات طيبة وتعاون اقتصادي اقوى مع اعداء الامس في حلف شمال الاطلسي .
بهذه السياسة يكون الزعيم الجديد للكرملين قد مهد الطريق تدريجيا امام ارساء مبادئ واسس الديمقراطية في دول اوروبا الشرقية. وكانت كل من هنغاريا وبولندا سباقة في الإنفتاح على الغرب ، ففي أيار/ مايو 1989 اخذت هنغاريا باحداث ثقب في الستار الحديدي الذي فرضه الاتحاد السوفيتي وفي 11 نوفمبر/تشرين الثاني فتحت هنغاريا حدودها بالكامل مع الغرب مما مكن عددا كبيرا من الالمان الشرقيين في صيف عام 1989 من الهرب عبرها واللجوء الى المانيا الغربية.
مظاهرات لا يبزغ الشهيرة :
وفي الوقت الذي زادت فيه اعداد الهاربين من المانيا الشرقية الى الغربية نمت حركة معارضة منظمة داخل المانيا الشرقية. فلأول مرة يخرج الناشطون في مجال حقوق الانسان الى الشارع  ويعلنوا عن مطالبهم الاصلاحية على الملأ كما كان الحال في مظاهرات الإثنين الشهيرة في مدينة لايبزغ التي خرجت تحت شعار "نحن الشعب".وقد أوضحت المظاهرات الضخمة ضد النظام الشيوعي في الفترة التي كان يحتفل فيها هذا النظام بالذكرى الأربعين لتأسيس المانيا الشرقية رفض الالمان الشرقيين لهذا الحزب ولسياساته وان الوحدة مع الجزء الغربي اصبحت امر لا يمكن التنازل عنه . وقد اضطرت هذه التطورات ايريش هونيكر الامين العام للحزب الحاكم ورئيس الدولة لتقديم استقالته في 18 أكتوبر/ تشرين الأول ، ممهدا الطريق امام تفتت الحزب وانحسار قدرته على ضبط الامور، الا ان خليفته على سدة الحكم ايغون كرينتس حاول ضبط الامور واعادة هيبة الحزب وسلطته وتأثيره، ولكنه سرعان ما ايقن بانه يجذف عكس التيار مما اضطر المكتب السياسي للحزب الى تقديم استقالة جماعية في 8 نوفمبر/ تشرين الثاني 1989.
انهيار النظام الشيوعي وإعلان وحدة الالمانيتين :
 في اليوم التالي من استقالة الحزب وفتح الحدود بين شطري المانيا اصبح امر تحقيق الوحدة الألمانية في متناول اليد. وبالرغم من محاولة بعض المثقفين المشهورين في المانيا الشرقية تسويق فكرة القيام باصلاحات جذرية في طبيعة وآلية الحكم  كبديل عن الوحدة التي تعني حسب رأيهم الذوبان كاملا في المجتمع الالماني الغربي وضياع خصوصية الهوية الشرقية، اظهرت غالبية مواطني المانيا الشرقية تفضيلها الوحدة باسرع وقت ممكن. .
15  يناير 1990 نحو 2000 متظاهر يقتحمون مراكز استخبارات أمن الدولة "الشتازي" في برلين الشرقية ونحو 100 ألف يتظاهرون أمام المبنى.
• 28  يناير 1990 ممثلو الأحزاب القديمة والجديدة يجتمعون لتشكيل حكومة جديدة في ألمانيا الشرقية بمشاركة جمعيات حقوق الإنسان في اجتماع الدائرة المستديرة.
• 1  فبراير 1990 رئيس الوزراء هانز ميدروف يطرح التصورات حول الوحدة الألمانية ويؤكد فيه على الحياد العسكري والهياكل الفيدرالية.
• 7  فبراير 1990 الحكومة الألمانية تعرض على ألمانيا الشرقية إجراء مفاوضات عاجلة حول توحيد العملة المالية.
• 18  مارس 1990 أول انتخابات حرة في ألمانيا الشرقية ويفوز فيها التحالف المحافظ المسيحي.
• 12  أبريل 1990 اختيار لوتار دي ميزير رئيسا للوزراء
• 23  أبريل 1990 الائتلاف الحاكم في بون يتفق على اتفاقية توحيد العملة المالية.
• 5  مايو 1990 عقد أول جلسة من مؤتمر اثنين + أربعة بحضور وزراء خارجية الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وألمانيا الشرقية في العاصمة بون ومناقشة اتفاقية الوحدة.
• 18  مايو 1990 توقيع اتفاقية حول الوحدة النقدية والاقتصادية والاجتماعية وهي الساعة التي اعتبرها المستشار كول "الميلاد الحقيقي لألمانيا الموحدة الحرة "  .
• 1  يوليو 1990 سريان الوحدة النقدية وتحول ألمانيا الشرقية للتعامل بالمارك الألماني وسحب أفراد المراقبة على الحدود الداخلية .
• 2  يوليو 1990 بداية المشاورات حول المعاهدة الثانية .
• 16  يوليو 1990 المستشار كول والرئيس السوفيتي جورباتشوف يعلنان التوصل لصيغة حول الوحدة الألمانية تبقى بموجبها ألمانيا عضو في حلف الناتو .
• 22  يوليو 1990 مجلس الشعب في ألمانيا الشرقية يوافق على قانون الولايات الجديد في ألمانيا الشرقية .
• 23  أغسطس 1990 مجلس الشعب في ألمانيا الشرقية يوافق على انضمام ألمانيا الشرقية لجمهورية ألمانيا الاتحادية .
• 31  أغسطس 1990 توقيع معاهدة الوحدة الألمانية في برلين الشرقية والبرلمان الألماني ومجلس الشعب يوافقان في العشرين من سبتمبر بأغلبية الثلثين .
• 24  سبتمبر 1990 خروج ألمانيا الشرقية من حلف وارسو.
• 1  أكتوبر 1990 ألمانيا تحمل كل مقومات السيادة وتوقف تحفظات الحلفاء حول معاهدة الوحدة في الثالث من أكتوبر .
• 3  أكتوبر 1990 في منتصف الليل رفع العلم الألماني بألوانه الأسود والأحمر والذهبي فوق مبنى البرلمان في برلين وعزف النشيد الوطني ومئات الآلاف من الألمان يحتفلون في الشوارع والطرقات بالوحدة الألمانية داخل العاصمة وكافة الولايات الألمانية.
الدمج الإقتصادي والقانوني لألمانيا الشرقية في ألمانيا الغربية :
وقد انعكس هذا الموقف من خلال تصويت الغالبية لصالح حزب " الإتحاد من اجل المانيا " الذي دخل الانتخابات تحت شعار الوحدة الشاملة. وفور تولي الحكومة الجديدة برئاسة لوثار دي ميزيير مهامها شرعت في  التفاوض مع حكومة المانيا الغربية بشأن تهيئة الأرضية الملائمة لتوحيد الالمانيتين. وكانت اولى خطوات ذلك هو توقيع اتفاق بشان الوحدة الاقتصادية والنقدية والضمان الاجتماعي. ونظرا لعدم قابلية النظام الاقتصادي لالمانيا الشرقية البتة للاصلاح، تم الاتفاق على اعتبار النظام الاقتصادي لالمانيا الغربية نظاما موحدا للالمانيتين.
وقبل الانتهاء من المفاوضات صوت مجلس الشعب ( برلمان المانيا الشرقية )  آب 1990 لصالح اعتبار دستور المانيا الغربية دستورا لالمانيا الشرقية على ان يبدأ العمل بذلك في 3 أكتوبر/ تشرين الأول 1990 وهو تاريخ الاعلان الرسمي عن الوحدة الالمانية
يقول البروفسور الألماني " الفرد غروسر" أن من حسن حظ الألمان أن الوحدة تمت بناء على المادة 23 وليس على المادة 146 من القانون الأساسي ( الدستور) .. ففي عام 1945 لم تلغ القوى المنتصرة ألمانيا ولم تتفاوض مع حكومة ألمانية، بل قامت مجتمعة بـ " مصادرة " السيادة الألمانية . وبهذا المعنى كانت جمهورية ألمانيا الاتحادية وجمهورية ألمانيا الديمقراطية تقومان على نفس المستوى من الشرعية.
لكن جمهورية ألمانيا الاتحادية كانت تقوم على الحرية، أما جمهورية ألمانيا الديمقراطية فلم تكن كذلك . فلو طُبقت المادة 146 ، آخر مادة في الدستور، (التي تقول : " هذا الدستور يفقد صلاحيته في اليوم الذي يدخل فيه حيز التنفيذ دستور أقره الشعب الألماني بكامل حريته " ) لكانت كلا الدولتين، جمهورية ألمانيا الاتحادية وجمهورية ألمانيا الديمقراطية، قد حلّتا معاً. أما المادة 23 ( التي تقول : " هذا الدستور يطبق في بادئ الأمر في منطقة الولايات : بادن ، وبافاريا (...) . أما الأجزاء الأخرى من ألمانيا فيطبق فيها بعد انضمامها ") فكانت تعني توسيع نطاق حرية الألمان حتى الحدود البولونية   .
هيلموت كول اول مستشار لألمانيا الموحدة :
في ليلة الثالث من اكتوبر/تشرين اول 1990 تجمع الآلاف في ساحة مبنى الرايخ للاحتفال بهذا الحدث التاريخي الذي انهى أكثر من أربعة عقود من الانفصال وازال آخر مخلفات الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة. ففي تلك الليلة غرقت برلين في جو من  الإحتفالات الصاخبة تخللتها مشاهد العناق والبكاء وتسلق جدران سور برلين وبوابة براندنبورغ الشهيرة وكأن التاريخ توقف عند تلك اللحظة. وفي اليوم التالي عقد اول لقاء في مبنى البوندستاغ للبرلمان الالماني الموحد الذي ضم 663 نائبا من برلمان المانيا الغربية والشرقية . وفي 1990.12.02 اجريت ولأول مرة منذ عام 1933 انتخابات حرة موحدة. وكان الفائز بتلك الانتخابات هو تحالف الحزب المسيحي الديمقراطي (CDU ) وحزب الأحرار ( FDP) بزعامة وزير الخارجية هانس ديترش غينشر. في 17 يناير/ كانون الأول 1991 تم انتخاب هيلموت كول اول مستشار لألمانيا الموحدة ليدخل التاريخ تحت لقب "مستشار الوحدة " ...