بين الوجود القومي والمصير القومي .
عصمت سيف الدولة .
إن أية محاولة ” لتغيير الواقع ” على
ضوء التسليم بأن الانسان هو العامل الاساسي في عملية التغيير تفرض علينا
أن نبدأ بتحديد واقعنا البشري من خلال الاجابة عن السؤال : من نحن ؟ .. نحن
مجتمع من البشر. إذن . فما هو مجتمعنا ؟. وعندما نعرف من نحن وماهو
مجتمعنا لن تكون عملية التغيير تجريداً . لن تكون هناك مشكلات بل مشكلاتنا ،
ولن تكون هناك قوى بل قوانا ، ولن تكون هناك معركة بل معركتنا ، ولن يكون
هناك اعداء بل أعداؤنا ، ولن تكون هناك حرية بل حريتنا … الخ . كل شيء
سيكون أكثر وضوحاً وتحديداً لأنه منسوب الى مجتمع واضح ومحدد .
فما هو مجتمعنا الذي ننتمي اليه .
أسهل الاجابات وأقربها الى الذهن هي : أن
مجتمعنا محدد ” بالدولة ” التي نحن رعاياها . فلكل دولة شعب معين ، ووطن
معين ، وواقع اجتماعي واقتصادي معين ، ومشكلات معينة … الخ . ذلك هو ” الأمر
الواقع ” . وليس من المنكور أن ” الأمر الواقع ” هو بداية الطريق لأية
ممارسة . وأن تجاهل الأمر الواقع أو القفز من فوقه الى غيره ” مثالية ”تهدر
الطاقات ولا تغير من الواقع شيئاً . ولكن ” الدولة ” واقع سياسي في مجتمع .
والمفروض انها تمثل وتجسد الواقع الاجتماعي الموضوعي . وهو فرض قد يكون
صادقاً او قد لايكون تبعاً لظروف قيام الدولة في كل مجتمع . أي أن صدق
التجسيد السياسي للمجتمع في دولة ما متوقف على مدى مطابقة الشكل الياسي
للمضمون الاجتماعي . وهذا يعني أن الدولة لا تحدد المجتمع على هوى الذين
أقاموها ليحكموا بها ، ولكن المجتمع هو الذي يحدد الدولة على ما تقتضيه
حقيقة وجوده الموضوعي . وعندما
تكون الدولة متفقة مع الوجود الموضوعي للمجتمع تصبح تجسيداً سياسياً
صحيحاً لهذا الوجود . أما إذا لم تكن متفقة معه فإنها تكون قائمة على غير
أساس سوى القهر ويجب ان تزول . وهنا فقط يفرض الأمر الواقع ذاته على مسيرة
التغيير وأسلوبه . لأن إقامة الدولة الحقيقية لابد أن يبدأ من الدولة
المصطنعة ذاتها : بتحطيمها .
فالأمر الواقع حجة ملزمة في ” ممارسة
” التغيير ، ولكنه ليس حجة ملزمة في ” النظرية ” . لأن نظرية تغيير الواقع
تعني تحديد الواقع من اجل تغييره ، وليس احترام الواقع والابقاء عليه. ومن
هنا نعرف لماذا لا نقبل الاحتلال وهو أمر واقع ، ولا اسرائيل وهي أمر واقع
، والاستبداد وهو أمر واقع ، ولا التخلف وهو أمر واقع .. الخ . لأننا
نعرف أن ” كل شيء في تغير مستمر ” وان مهمتنا على وجه التحديد هي تغيير
الأمر الواقع إلى ما هو أفضل ، ونظرية تغيير الواقع هي التي تحدد لنا ما
الأمر الذي نغيره من الأمور الواقعة وإلى أين يكون التغيير . إذن فكون ” الدولة
” أمراً واقعاً يحدد لنا مجتمعنا لا يعني بالضرورة انها التحديد الصحيح
للمجتمع الذي ننتمي اليه . إنما نكون كذلك عندما تكون تجسيداً للحقيقة
الموضوعية للمجتمع ، ويكون علينا ان نبحث عن تلك الحقيقة الموضوعية لنرى
بعد هذا ما إذا كانت الدولة تتفق مع تلك الحقيقة أو لا تتفق .
فكيف يمكن أن نكتشف الحقيقة من أمر مجتمعنا الذي ننتمي إليه ؟
بمعرفة كيف تتكون المجتمعات البشرية .
وخلاصة
ما نراه في هذا ، طبقاً وتطبيقاً ” لجدل الانسان ” انه إذا اجتمع اثنان
وتطورا معاً ، خلال الزمان ، فإن هذا يعني أن ثمة مشكلة ، أو مشكلات ،
مشتركة بينهما لا تحل إلا بارتباطهما ، وتطورهما ، معاً . وهما يحلان تلك
المشكلة أو المشكلات عن طريق تبادل المعرفة فيعرف كل واحد منهما ما هي
المشكلة المشتركة وكيف نشأت . وتبادل الفكر بينهما فيعرف كل واحد منهما
وجهة نظر الآخر في كيفية حل المشكلة . وتبادل العمل ، أي مساهمة كل واحد
منهما بجهده في حل المشكلة المشتركة وإشباع حاجتهما المشتركة والاضافة الى
الإثنين ، خلال الزمان ؛ تمد أبعاد المجتمع الصغير ، أو الجماعة ، على
مستويات ثلاثة : إمتداد
أفقي حيث يتعدد الناس وحيث يحمل كل فرد حاجته معه وتتعدد المشكلات الفردية
بتعدد الافراد. وإمتداد رأسي يبدأ بالحاجة الفردية إلى الحاجة الجماعية أو
المشتركة . وإتجاه إلى المستقبل حيث تنشأ كل يوم مشكلات فردية وجماعية
جديدة تضاف إلى ما كان موجوداً وتكسب كل مشكلة اولويتها في الحل بقدر ما
تكون حادة ومشتركة … وهكذا .
وقد
تكون الرابطة الأولى التي جمعت بين اثنين هي الاجتماع على حل مشكلة ” حفظ
النوع ” التي يؤدي حلها إلى أن يضاف إلى الاثنين ثالث فتوجد الاسرة ثم
العائلة ثم السلالة … الخ . تلك وحدة الاسرة تظل واقعاً مشتركاً بين الناس
تميزهم عن غيرهم حتى يتجاوز التعدد ـ في الزمان ـ ما يميز الناس بأصلهم
الواحد فتتوه الانساب المشتركة في الكثرة . غير ان مجرد اجتماع اثنين ، ولو
على مشكلة حفظ النوع ، ينشيء مشكلة مشتركة جديدة على كل منهما ، أي انها
وليدة التناقض بين اجتماعهما في مشكلة واحدة وانفصالهما ـ كل منفرد
بذاته ـ في الوقت نفسه ، مضمونها كيف يفكران ويتبادلان الرأي ويسهمان في حل
مشكلتهما الأولى . وقد حلت تلك المشكلة الجديدة بأول إضافة رائعة ابتكرها
الانسان ونعني بها اللغة . فعن طريق اللغة أمكن الوصول ـ بين المتعددين ـ
إلى وحدة الادراك والفكر والعمل لمواجهة المشكلات المشتركة . وباللغة وجد
التطور الاجتماعي أول أدواته فانطلقت كل أسرة تواجه ـ مجتمعة ـ ظروفها
المشتركة وتحقق مستقبلها المشترك . ثم
يستمر النمو بالتعدد ، وتتعدد المشكلات ، وتتنوع في مضامينها ، بحيث
تتجاوز في اتساعها ، وفي مضمونها ، رابطة الدم التي تصبح عاجزة عن ان تجمع
جهد كل الأسر ، والعشائر ، لحل المشكلات المشتركة فيما بينها ولتحقيق
مصالحها المشتركة ، فتتكون المجتمعات القبلية حلاً لمشكلات مشتركة بين
أفراد كل قبيلة ، وتكون القبيلة بذلك طوراً جديداً ، نامياً ، يتجاوز
بمقدرته المشتركة مقدرة الأسر فيه على حل المشكلات المشتركة .
فقد
أتى على الانسان حين من الدهر ، استنفذه في الصراع ضد الظروف الطبيعية
للحصول على ما يحفظ حياته من ناتج الأرض والصيد . وكان شكل صراعه متابعة
ثمار الطبيعة المتاحة تلقائياً الى حيث هي ، والبقاء المؤقت على الأرض حيث
يحدها ، إلى ان تنضب فيهجرها الى مكان آخر من الأرض . كانت الهجرة تغييراً
للظروف المادية ( الطبيعية ) بالانتقال
من مكان الى آخر . وبالهجرة ، وخلالها ، إلتقاء بجماعات أخرى تسعى وراء
الغاية ذاتها . فيلتقيان على مصدر انتاج واحد فيقتتلان عليه . وبغلبة
أحدهما يدخل مرحلة من التطور بدأت بحل مشكلة التزاحم فيستقر على الأرض
ويبدأ في مواجهة المشكلات الجديدة التي تطرحها ظروفه الجديدة. فيبتكر
في الأرض التي استقر عليها ما يحل مشكلات جمع نتاجها وتخزينه وتوزيعه
وحراسته من فؤوس ومنازل وحراب ونبال … الخ . وإذ يكون هذا هو الطريق الوحيد
لحفظ الحياة وإشباع حاجاتها المتجددة ، يصبح جهد الأسر والعائلات قاصراً
عنها فيكون الحل الحتمي أن تتجمع الأسر والسلالات والعشائر ـ تدريجياً ومن
خلال مواجهة المشكلات ذاتها ـ لتكون قبائل . أي لتكون بكثرتها ومقدرتها
أقدر على حل مشكلات الظروف المشتركة . ويطرح تعدد الأسر والعشائر في
المجتمع القبلي مشكلات جديدة تحلها القبيلة بما تضيفه من نظم وتقاليد
وعادات تضبط سلوك الجميع ويحتكمون اليها فلا يتفرقون . وقد يتحقق لهم
جميعاً نصر مشترك ضد عدو مشترك فيمجدون انتصار ” قبيلتهم ” على الطبيعة
وعلى الأعداء شعراً وغناء وألحاناً … إلى أن ينضب رزق الأرض ، أو يغلبوا
على أمرهم ، فتبدأ مرحلة جديدة من الصراع ضد الطبيعة والأعداء بهجرة جديدة
يصاحبها قتال جديد … الخ .
وهكذا كانت المجتمعات القبلية وحدات متماسكة داخلياً ، مهاجرة ، مقاتلة دائماً .
ذلك هو الطور القبلي من المجتمعات : داخل
المجموعة الانسانية الواحدة ، ينفرد كل جماعة وحدة قبلية متميزة عن
القبائل الأخرى بأصلها الواحد ولغتها الواحدة ثم بنظمها وتقاليدها وثقافتها
القبلية . ولا تميزها عن غيرها ” الأرض ” التي تعيش فيها ، لتبادل المواقع
من الأرض كراً وفراً خلال الصراع القبلي .
وقد
انتهى الطور القبلي أو كاد أن ينتهي . فخلال احقاب طويلة من الهجرة
المقاتلة ، أهتدت بعض الجماعات والقبائل الى الأرض الخصيبة وأودية الانهار
فاستأثرت بها خلال مشكلة ندرة الرزق التي كانت تعالجها بالهجرة من مكان إلى
مكان . ولم تعد حركتها خاضعة لما تمنحه الطبيعة تلقائياً ، بل ” استقرت ”
على الأرض وابتكرت الزراعة وأدواتها . حينئذ افترق تاريخ الشعوب والمجتمعات
ولم يعد من الممكن الحديث عن ” التاريخ الانساني ” أو ” تاريخ البشرية ”
بل لابد من تتبع كل جماعة على حدة لنعرف تاريخها الخاص على ضوء ظروفها
الخاصة .
فالجماعات
القبلية التي استقرت على أرض معينة خاصة بها دخلت مرحلة تكوين جديدة هي
مرحلة تكوين الأمم ، التكوين القومي ، لتتميز بهذا الاستقرار على أرض خاصة
عن الطور الذي سبقها . الطور القبلي . غير أن هذا لا يعني أنها قد أصبحت
أمماً فنحن لا نقول أن أية جماعة من الناس لها لغة مشتركة وتقيم في منطقة
معينة من الأرض قد أصبحت أمة. بل
ننظر الى المجتمعات خلال تطورها الجدلي وحركتها التي لا تتوقف من الماضي
الى المستقبل . فالأمة تدخل مرحلة التكوين باستقرار الجماعات القبلية (
تحمل كل منها لغتها وثقافتها وتقاليدها ) على أرض معينة ومشتركة وبها تحل
مشكلة الهجرة وتتميز بالاستقرار على الأرض عن الطور القبلي . ثم تبدأ في
التكوين وتتحدد خصائصها خلال مواجهة المشكلات المشتركة والمشاركة في حلها .
وقد تكون أول مشكلة واجهتها الجماعات المستقرة هي المحافظة على هذا
الاستقرار . أي حماية الأرض المشتركة . ذلك لآن القبائل لم تستقر كلها في
وقت واحد . بل بينما استقر بعضها ودخل مرحلة التكوين القومي ظلت الجماعات
القبلية الأخرى مهاجرة مقاتلة معاً . تغزو أطراف الأرض التي استقر عليها
الأولون فتقيم فيها مختلطة بسكانها الاصليين مبتدئين معاً مرحلة من الحياة
المشتركة المستقرة لن تلبث أن تكوّن منهم أمة واحدة . أو محاولة غزوها
فمنحسرة عن حدودها . وقد يثير الغزاة حروباً مضادة تخرج فيها الجيوش
لمطاردة المغيرين والقضاؤ عليهم وضم مراكز تجمعهم الى الأرض الخاصة فتمتد
حدودها ليشملها جميعاً الاستقرار مقدمة لتكوين أمة. وقد
استمرت فترات الغزو القبلي وحروب المطاردة فترات طويلة من التاريخ عوّقت
تطور الجماعات المستقرة الى أن تكون أمماً مكتملة . وان كانت قد أسهمت ـ من
ناحية أخرى ـ في ان يتجاوز المستقرون على الأرض الخاصة المشتركة ، رواسب
الطور القبلي فيلتحموا معاً خلال العمل المشترك لحماية الأرض المشتركة في
مواجهة العدو المشترك . وعندما تثبت حدود الأرض مؤذنة بانتهاء الصراع حول
الاختصاص بها تكون الحدود ذاتها حدوداً لما يليها من ارض خاصة بجماعات
مستقرة أخرى .
الى
هنا تكون قد توافرت للجماعة المستقرة على ارض معينة ( الامة في دور
التكوين ) وحدة اللغة ووحدة الأرض المشتركة . غير أن هذا لا يميزها عن
غيرها من الجماعات المستقرة التي لها بالضرورة لغتها وأرضها . انما تكتمل
خصائص الأمة من تكوينها القومي المنطلق فمن استقرار الشعوب على أرض خاصة
فتفاعل الناس مع الناس مع الطبيعة ينتج حصيلة مادية ( انتاج زراعي ، انتاج
صناعي ، أدوات انتاج ، مبان … الخ ) وتفاعل
الناس في المجتمع ينتج حصيلة اجتماعية من الأفكار والمذاهب والنظم والقيم
والتقاليد والفنون … الخ . والنظر الى هذه الحصيلة من تفاعل الانسان مع
الطبيعة ومع غيره في المجتمع نظراً الى ما يسمى ” الحضارة ” . فإذا اضيف
الى هذا ـ في دور التكوين القومي ـان الطبيعة محددة بأرض معينة متميزة عن
غيرها ” وليست ممتازة ” وان الناس قد تحددوا بشعب معين متميز عن غيره (
وليس ممتازاً ) كان مؤدى هذا التحديد أن حصيلة تفاعل الناس مع أرضهم الخاصة
وفيما بينهم ستكون متميزة في مضمونها المادي والثقافي عن غيرها ، أي تكون
متميزة ” حضارياً ” . وتكون بذلك قد اكتملت ” أمة ” .
وعندما
تكتمل الأمم وجوداً قد تظل فلولاً من الجماعات القبلية محاصرة او محصورة
على أطراف الأرض الوعرة فيما بين الأمم . أو متخلفة في أماكن متفرقة داخل
الأمة . وقد تحاول من حين الى آخر أن تكمل مسيرتها التاريخية مستقلة وان
تدخل هي ايضاً مرحلة التكوين القومي خاصة بها ، وهذا لا يكون إلا بأن تقتطع
لنفسها جزءاً من الأرض تختص به . ولكن الأمر لا يكون قد حسم تاريخياً
باختصاص الأمة التي سبقت تكويناً بالأرض المعينة المشتركة حتى اقصى اطرافها
بصرف النظر عمن قد يكون مقيماً على أرضها ، وفي كنفها ، من أفراد ، أو أسر
، او عشائر لا ينتمون اليها او من يكون متخلفاً من ابنائها لأن التكوين
القومي الجديد هنا لن يكون إلا على حساب تكوين قومي اكتمل تاريخياً .
وحدة الوجود القومي :
يقولون في تعريف الأمة : ” انها جماعة من البشر تكونت تاريخياً لها لغة مشتركة وأرض مشتركة … الخ ” . فلماذا ـ اذن ـ نسرد كل هذا لنصل الى ما يقولون ؟ لأن هناك اقوالاً أخرى في ” الأمة
” غير صحيحة وان كانت متداولة في الفكر العربي . ونعني بها تلك الآراء
التي لا تدخل ” الأرض المشتركة ” عنصراً في التكوين القومي . وهو خطأ كبير .
اذ أن اية نظرية في ” الأمة ” لا تسلم بأن ” الأرض المشتركة ” عنصر لازم لأية جماعة بشرية لتكون امة هي نظرية فاشلة في التعريف بالأمة . ذلك
لأن كافة العناصر الأخرى مثل وحدة اللغة التي ترتكز عليها النظرية
الألمانية ، أو وحدة الحياة الاقتصادية التي يرتكز عليها الفكر الماركسي ،
أو وحدة الثقافة التي تشيد بها الكتابات العربية ، أو حتى وحدة الارادة
التي تركز عليها النظرية الفرنسية . الخ ، كل هذه عناصر ممكن ان تتوافر ن
وان تجتمع ، لجماعات بشرية لا ترقى الى مستوى ” الأمة ” كالمجتمعات القبلية
مثلاً . ان هذه نقطة هامة لا نعتقد ان الأدب القومي قد منحها كل العناية
التي تستحقها ، مع انها ـ كما سنرى ـ من العناصر الجوهرية في نظرية
القومية .
على
أي حال لقد عرفنا من حديثنا عن كيف يتكون الوجود القومي ، وكيف تكتمل
الأمة تكويناً ، ان المميز الاساسي للأمة عن الجماعات الانسانية السابقة
عليها هو عنصر الأرض الخاصة المشتركة . الخاصة
بالجماعة البشرية المعينة دون غيرها من الجماعات الانسانية الاخرى ،
المشتركة فيما بين الناس فيها . ومن هنا تكون الأمة تكويناً واحداً من
الناس ( الشعب ) والأرض ( الوطن ) معاً . فنحن عندما نقول ـ مثلاً ـ اننا
امة عربية ثم نتحدث عن الوطن العربي لا يكون حديثنا عن شيئين منفصلين بل عن
الكل ( الأمة ) الذي يتضمن الجزء ( الوطن ) . فالشعب العربي ( الناس ) والوطن
العربي ( الأرض ) يكونان معاً الأمة العربية التي ما تحولت من شعوب لا
تختص بالأرض التي تقيم عليها الى امة ، أو من أرض لا تخص شعباً بعينه الى
امة ، الاعندما التحم الشعب العربي بالوطن العربي واختص به ليكونا وجوداً
واحداً هو الأمة العربية .
وإذا كان لابد من تعريف فإن الأمة : مجتمع
ذو حضارة متميزة ، من شعب معين مستقر على أرض خاصة ومشتركة ، تكوّن نتيجة
تطوّر تاريخي مشترك . أما كل ما تعلمناه من مميزات الأمة كاللغة او الثقافة
او الدين … فتلك عناصر التكوين الحضاري وهي تختلف من أمة الى أمة تبعاً
لظروف التطوّر التاريخي الذي كوّنها . اما عن المصالح الاقتصادية المشتركة
فهي متوافرة في كل مجتمع حتى لو لم يكن أمة . واما الحالة النفسية المشتركة
، والولاء المشترك … الخ فتلك معبرات في الأفراد عن انتمائهم الى امة
قائمة . وتختلف من فرد الى فرد في الأمة الواحدة تبعاً لوعيه علاقته
بمجتمعه القومي . ولكن الوجود القومي لا يتوقف عليها . وقد قلنا ان الأمة
مجتمع تكوّن نتيجة ” تطور ” تاريخي مشترك لأن القول بأنها تكوّن تاريخي لا
يكفي للدلالة على انها طور من المجتمعات أكثر تقدماً من الأطوار السابقة
عليه .
ولا
بأس في ان ننبه ـ هنا ـ الى أن معرفة أو تعريف ” الأمة ” ليست مباراة في
المقدرة على الصياغة ، بل هي ضرورة لازمة لمعرفة الظاهرة الاجتماعية التي
سيكون كل الحديث ـ بعد هذا ـ دائراً حول تطورها . ولقد نعرف من كثير مما كتب عن الأمة في الأدب العربي ” تساهلاً
” في معرفة الأمة والتعريف بها . فإذا بالانطلاق منها الى قضايا المستقبل
يصل بهم الى مآزق غير سهلة ز ونضرب لهذا ثلاثة امثلة حية : المثل الأول ”
التساهل ” في عنصر الأرض الخاصة والمشتركة والتركيز على الوحدة الثقافية أو
الروحية وهي النظرية في الأمة التي قامت عليها الحركة الصهيونية . والمثل
الثاني ” التساهل ” في عنصر التطور التاريخي والتركيز على وحدة الارادة وهي
النظرية التي ادت وتؤدي بكثير من المثقفين العرب الى الخطأ في فهم مشكلة
الاقليات القومية . والمثل الثالث هو الاختلاف في الرأي حول تقييم الحركة
القومية الراجع الى الاستعمالات المتباينة لكلمة ” أمة ” . ويغذي هذا
الاختلاف ان اللغات ذات الأصل اللاتيني تتضمن ، وتستعمل ، مفردات لغوية لا
تتفق مع المفردات العربية المستعملة في الأدب القومي . أهمها ما يترجم عادة
الى كلمة ” قوميات ” . انهم
ـ هناك ـ يقصدون بها ما يمكن أن تدل عليه كلمة : ” أمم ” او ” اقليات
قومية ” . ونحن نعرف اللبس الذي أدت اليه الترجمة ـ الخاطئة أو المتعمدة ـ لما
كتب في الأدب الماركسي عن ” المسألة القومية ” فإذا بها تصبح ” المسالة
الوطنية ” . وقد عرفنا من قبل ما يؤدي اليه هذا اللبس من خلط بين ” حركات
التحرر الوطني ” و ” الحركات القومية ” ( فقرة 11 ) .
أياً ما كان الأمر فإن فيما سبق بياناً للأمة كما نفهمها . وبذلك المفهوم سنستعملها فيما يلي من حديث .
وحدة المصير القومي :
والآن نعيد السؤال :
ما
هو مجتمعنا الذي ننتمي اليه ؟ ما هي حقيقته الموضوعية كتكوين تاريخي . هل
نحن ما زلنا مجموعات من القبائل ، أم أننا مجموعة من الأمم ، أم اننا ننتمي
الى امة عربية واحدة ؟
والاجابة
هنا تكاد تكون جاهزة . نحن امة عربية واحدة . والأمة العربية هي مجتمعنا
الذي ننتمي اليه . وهي إجابة غير منكورة من كل الذين يعنينا أن نقيم معهم
حوار بناء حول المستقبل العربي ونظريته . وقد اكتشف كثيرون حقيقة الوجود
القومي العربي من شعورهم بالانتماء الى هذه الأمة العربية التي تتجاوز
مجتمعاتهم السياسية بشراً وأرضاً ، أي من خلال ما يسمونه ” الحالة النفسية
المشتركة ” التي تعبر بذاتها عن اكتمال التكوين الاجتماعي الذي تعكسه .
واكتشفه آخرون عن طريق البحث العلمي في تاريخ الأمة العربية . واكتشفه
غيرهم عن طريق الممارسة حيث تعاملها شعوب الأمم الأخرى على أساس أنهم ” عرب
” ينتمون الى امة عربية .بل
ان كثيرين قد اكتشفوا انتماءهم القومي الى الأمة العربية من خلال صدمة
النكبة سنة 1948 ، وصدمة النكسة سنة 1967 . المهم انه قد اصبح مسلماً بأننا
ننتمي الى امة عربية مكتملة التكوين ، وهذا يعفينا من جهد لا مبرر له
لإثباته . فنحن مقبولون ” كأمة ” وهذا يكفي . يكفي لنقول اننا امة عربية . وبعد ؟
هذا
هو السؤال الدقيق . ان مجرد القول بأننا امة عربية واحدة قد لا يعني شيئاً
عند الكثيرين . ونحن نعرف أن كثرة من الناس يسلمون معنا باننا أمة عربية
ثم لا يرون ان لهذا اثراً في مخططات النضال من اجل المستقبل . ومعنى هذا ان
ثمة فجوة في الحوار لا بد من ان تملأ لنلتقي . خاصة ونحن نتحدث عن الوجود
القومي في إطار نظرية النضال من اجل المستقبل .
لا
يمكن فهم العلاقة بين الوجود القومي ووحدة مصيره إلا إذا عرفنا ” لماذا ”
تكونت الأمم ؟ لماذا كنا امة عربية مثلاً ؟ هل كان ذلك مصادفة تاريخية ، أو
تم اعتباطاً لا أحد يدري لماذا ؟ إنه سؤال لم يكن لنا حظ التعرف على أية
اجابة عليه في اية دراسة أخرى . مع انه سؤال حاسم.
” في
الانسان نفسه يتناقض الماضي والمستقبل . ويتولى الانسان نفسه حل التناقض
بالعمل . إضافة فيها من الماضي ومن المستقبل ولكن تتجاوزهما الى خلق جديد ”
. هذا هو قانون التطور الجدلي كما عرفناه من ” جدل الانسان ” وترجمته
الاجتماعية هي : ان
المجتمعات تتطور من خلال العمل المشترك ( الجماعي ) لحل التناقض بين
الواقع ( حصيلة الماضي ) والمستقبل ( كما تعبر عنه حاجاتها ) أو بتعبير
أسهل : ان المجتمعات تتطور خلال حل المشكلات التي يطرحها واقعها مستهدفة
دائماً اشباع حاجاتها المادية والثقافية المتزايدة ابداً .
إذا
نظرنا على ضوء هذا الى تطور المجتمعات ” نجد ان التكوين القبلي كان حصيلة
نمو واضافة تحققت خلال حل مشكلات الطور الذي سبقه . فهو اكثر منه تقدماً ،
وأكثر منه شمولاً ، فيتضمنه ولا يلغيه ولكن يضيف اليه ما يحدده كما يحدد
الكل الجزء . فالمجتمع القبلي لم يلغ الاسرة فيه ، بل ظلت أسراً وبطوناً
وأفخاذاً يقوم الدم فيها رابطة بين ذوي الدم الواحد في حدود مشكلاتهم
العائلية ، تضاف اليها الرابطة القبلية الواحدة فيما يتجاوز حدود الاسرة
الى القبيلة . اضافة كانت حلاً لمشكلة تحققت بها للافراد حتى من الاسرة
الواحدة حريات لم تكن لتتحقق لهم بما تهيئه رابطة الدم وحدها من مقدرة على
التحرر . اللغة الواحدة بقيت كما كانت وسيلة للمعرفة ولتبادل الرأي ولكنها
أصبحت أكثر غنى بما أضاف الناس اليها في المجتمع القبلي من معارف وآراء
جديدة طورتها فتجاوزت لغة الأسر والبطون والعشائر التي بقيت لهجات تشملها
اللغة الواحدة وتتخطاها ولكن لا تلغيها . ومثل هذا تحقق في العلم والمعرفة
والعقائد والمقدرة على العمل فكسب به كل فرد من أية أسرة حريات أكثر مما
كانت له وهو محصور في امكانيات بني دمه … ( كذلك ) التكوين القومي
للمجتمعات ( كان ) حصيلة نمو وإضافة تحققت خلال الحل الجدلي لمشكلات الطور
الاجتماعي الذي سبق القوميات فهو أكثر منه تقدماُ ، أي فيه من الحريات
للانسان أكثر مما كان . وهو اكثر منه شمولاً فيتضمنه ولا يلغيه ولكن يضيف
اليه ويحدده كما يحدد الكل الجزء . فكما ان المجتمع القبلي لم يلغ الاسرة بل ظلت اسراً وبطوناً وافخاذاً . يقوم
الدم فيها رابطة مميزة بين ذوي الدم الواحد ، بقيت الاسر في الأمة الواحدة
واضيفت اليها الروابط المحلية والاقليمية فيما يتجاوز التمييز العائلي ،
تمييزاً للخلف المستقر للجماعات القبلية ، قرى ومدناً ومناطق واقاليم ، ثم
اضيفت اليها الرابطة القومية إضافة كانت حلاً لمشكلات الاسر والاقاليم
ذاتها ، وتحققت بها للافراد من الأسر ومن الاقاليم حريات لم تكن لتتحقق لهم
بما تهيئه رابطة الدم وحدها او الروابط المحلية وحدها . اللغة الواحدة
بقيت كما كانت من قبل وسيلة مشتركة لتبادل المعرفة وتبادل الرأي ، واصبحت
اكثر غنى بما اضاف اليها الناس في المجتمع القومي من معارف وآراء جديدة
طورتها فتجاوزت لغة الاسر والاقاليم التي بقيت لهجاتها تشملها اللغة
الواحدة وتتخطاها ولكن لا تلغيها . ومثل هذا تحقق إضافة في العلم والمعرفة
والعقائد والمقدرة على العمل ، فكسب به كل فرد من اية اسرة ، ومن اية اقليم
، علماً وثقافة وحريات اكثر مما كان له وهو محصور في امكانيات بني دمه او
عشيرته أو اقليمه . والاضافة لا تلغي المضاف اليه ولكن تكمله فتغنيه … الخ .
وهكذا جاء كخلاصة لدراسة طويلة في ” اسس الاشتراكية العربية ” باللغة المنتقاة على ما تفرضه الدراسة هناك . ونقوله
هنا باللغة البسيطة التي تناسب الحوار المفتوح : اننا لم نكن أمة عربية
اعتباطاً ، بل تكونا أمة عربية من خلال بحث الناس عن حياة افضل ، فإذا كنا
قد بلغنا من خلال تلك المعاناة التاريخية الى الطور القومي ، أي ما دمنا
أمة عربية واحدة ، فإن هذا يعني ان تاريخنا ، الذي قد نعرف كل احداثه وقد
لا نعرفها ، قد استنفذ خلال بحث اجدادنا عن حياة افضل كل امكانيات العشائر
والقبائل والشعوب قبل أن تلتحم معاً لتكون أمة عربية واحدة . وانها عندما
اكتملت تكويناً كانت بذلك دليلاً موضوعياً غير قابل للنقض على أن ثمة ”
وحدة موضوعية ” قد نعرفها ، وقد لا نعرفها ، بين كل المشكلات التي يطرحها
واقعنا القومي ، أياً كان مضمونها . وانها ، بهذا المعنى ، مشكلات قومية لا
يمكن أن تجد حلها الصحيح إلا بإمكانيات قومية ، وقوى قومية ، في نطاق
المصير القومي . قد يحاول من يشاء ان يحل مشكلاته الخاصة بإمكانياته
القاصرة ، ثم يقنع بما يصيب ، ولكنه لا يلبث أن يتبين ، في المدى القصير او
الطويل ، ان الحل الصحيح المتكافيء مع الامكانيات القومية ، المتسق مع
التقدم القومي ، قد أخطأه عندما اختار ان يفلت بمصيره الخاص في الوحدة
الموضوعية للمشكلات التي تشكل حلولها المصير القومي الواحد .
ذلك هو ما تعنيه ” وحدة المصير القومي ” .
انه
ذات التعبير في مجنمع قومي عن البدهية التي عرفناها من قوانين التطور
الاجتماعي ( فقرة 18 ) : ” ما دام الواقع الاجتماعي محدداً موضوعياً فإن
الحل الصحيح لأية مشكلة اجتماعية محدد موضوعياً … فلو استطعنا أن نحصر كل
ما يحتاجه الناس في مجتمع معين ونعرف في ذات الوقت كل ما يستطيع الواقع ان
يقدمه لعرفنا ما هي المشكلات الحقيقية التي يطرحها الواقع الاجتماعي وكيف
تحل . أي لعرفنا الحل الصحيح للمشكلات الاجتماعية كما هي محددة موضوعياً .
مؤدى هذا ان كل مشكلة اجتماعية لها حقيقة واحدة مهما اختلف فهم الناس لها
وبصرف النظر عن مدى ادراك صاحبها لحقيقتها . وان اية مشكلة اجتماعية ليس
لها الاحل صحيح واحد في واقع اجتماعي معين في وقت معين . قد يكون لها أكثر
من حل خاطيء ، قاصر أو متجاوز أو مناقض ، يحاوله صاحبه فيفشل في حلها ،
ولكن حلها الصحيح لا يمكن إلا أن يكون واحداً بحكم أن الواقع الاجتماعي
واحد ” .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق