من الحد الادنى الممكن ... الى الحد الادنى المطلوب ... !!
ان الحديث عن مستقبل الحركة القومية حديث جاد يستند الى مبررات واقعية اثبتتها كل التجارب القومية في الوطن العربي ، وهو حديث مرتبط مباشرة بالمشاكل المطروحة التي تعاني منها الامة باعتبارها الآداة الموضوعية القادرة ـ وحدها ـ على التصدي للعدوان المفروض عليها من داخلها ومن خارجها على حد السواء .. ومثل هذا العدوان ـ مثلما هو معروف ـ مسلط على كل فرد من ابنائها قهرا واذلالا وحرمانا واحتلالا .. فهو حديث عام يهم كل مواطن عربي معني بمصير امته ، وهو ايضا حديث خاص يهم كل من توصل فهما وادراكا وقناعة وايمانا الى ضرورة الحل القومي والاداة القومية الملائمة لتغيير الواقع .. ومن هذه النواحي تحديدا يكون الاجتهاد مفتوحا على العام والخاص ليكون التعاطي معه من طرف المعنيين بالمشروع القومي على درجة كبيرة من الموضوعية والحكمة لتحويل هذا المشروع الى مشروع جماهيري يحضى بالقبول والمساندة والتاييد لكسب قاعدة شعبية تحتضنه وتحميه حتى يحقق التغيير المطلوب مما هو كائن الى ما يجب ان يكون .. وهذا من حيث الاطار العام الذي يتنزل فيه المشروع .. اما من ناحية خصوصيته النضالية فهو موضوع خاص لا يهم الحديث في تفاصيله الا المؤمنين به من القوميين المستعدين فعلا لتحمل تبعات اعبائه وتضحياته على المدى القريب والبعيد ، ليستمد كل واحد منهم مشروعية المساهمة في رسم خريطة الطريق للمستقبل ..
طرح المشكل على هذا الوجه يحمّل القوميين اصحاب الحق في المشروع منذ اللحظة الاولى مسؤولية التواصل مع الناس اصحاب الحق في الاختيار والانخراط في ما يرونه صالحا لمستقبلهم .. فهي علاقة بين طرفين يحتاج كل منهما الى الآخر لتحقيق الاهداف المطلوبة لاحداث تغيير جذري في الواقع العربي بكل ما يلزمه من اعداد وتاطير والتزام اخلاقي وممارسة نضالية قد تستمر على مدى عقود متتالية تتقاسم فيها الاجيال المهام المطروحة في كل مرحلة .. وهذا يعني قبل كل شيئ ان أسلوب التشنج والصراعات المجانية والاتهامات والتخوين ليس من الممارسة النضالية أو من المبدأ في شيء ..
قد تكون هذه المقدمة من البدهيات التي لا تحتاج الى توضيح ، لو ان مثل هذه المقدمات مقطوعة الصلة بالواقع .. فعلى مدى عشرين عاما من التجربة القومية لثورة 23 يوليو شاهدنا زخما شعبيا داخل مصر وخارجها ملتفا حول قائدها ، استطاع عبد الناصر ان يجمعها من خلال تصديه لمشاكل الامة : الاستعمار والتجزئة والتخلف حتى صارت الحركة القومية الجماهيرية حقيقة موضوعية لا تحتاج الا لاعلان رسمي ولو من القاهرة وحدها عن مؤسسة القيادة للحركة العربية الواحدة لتتحول بعد ذلك الى واقع ملموس يمكن ان تتبعه ولادة الهياكل الشعبية التي تدين بالولاء والارتباط والحركة المتماهية مع المركز لو لم تكن ظروف القيادة في قمة السلطة تحول دون تحقيق تلك الغاية .. وهذا الواقع لم يكن في الحقيقة سوى تجسيدا للحالتين المذكورتين في المقدمة .. حالة عامة تنطبق على عامة الشعب داخل مصر وخارجها ، لم تكن تربطها سوى العواطف القومية الجياشة وثقتها اللامتناهية في قائدها بعيدا عن النظريات والصراعات الفكرية وهي ترى الدور الريادي الذي لعبته ثورة يوليو في خوض معارك التحرر القومي بكل اشكالها سواء ضد الرجعية والاستبداد أو ضد الهيمنة الاستعمارية والاحتلال أو ضد قوى الاقطاع والراسمالية والاستغلال ، لم تستطع القوى القومية – بعد غياب القائد - المحافظة عليها بما ارتكبته من أخطاء ... وحالة خاصة من النخب والقيادات متفاوتة الفهم والادراك والمصلحة والولاء للمشروع القومي تتحرك وسط الزخم الثوري لثورة 23 يوليو بحسب المصلحة احيانا أو حسب المواقع والمصالح والعلاقات داخل السلطة ومؤسسات الدولة ، تبدي الولاء للقيادة وتؤيد سياساتها وقراراتها ولا احد يعرف الخلفيات التي تحركها ، ولا مدى الاختلاف أو الاتفاق حول جملة المفاهيم التي كانت تتطور بتطور التجربة ، فلم تستطع ان تحافظ على وحدتها بعد رحيل عبد الناصر ..
فالجماهير التي اصطدمت بتغير الواقع بعد انقلاب السادات الذي داس على كل المبادئ والشعارات ونسف كل احلامها وتطلعاتها تاهت وسط الزحام الذي فرضته سياسة الانفتاح والمنافسة الراسمالية المبنية على الجشع والتشهير بثورة يوليو ، وبقيت عاجزة عن حماية المكتسبات والانجازات الثورية التي طالتها يد التصفية ، ولم يبقى لها سوى الذكريات الجميلة وهي تعيش النقيض من احلام المشروع الذي تحول ـ في ظرف سنوات قليلة ـ من واقع حي يلامس همومها ومشاكلها الى سراب ..
والقيادات على اختلاف مواقعها ومصالحها تحولت الى شلل ومجموعات تؤوّل المشروع بحسب فهمها وظروفها ومواقعها الجديدة سواء في منظومة الردة عن الثورة ، او على الهامش بعد ضرب اقطاب وقيادات النظام الناصري ، الذين وقفوا ـ في البداية ـ عاجزين عن مقاومة الهجمة الشرسة على منجزات ثورة يوليو وتحويلها الى ركام خرجت من تحته تصورات واجتهادات متعددة بتعدد المفاهيم والتاويلات المتاثرة بالتجربة أو بالقيادة ومرجعياتها الظرفية كالميثاق والخطابات والبيانات ، دون الوصول الى حسم خلافاتها حول مشروع المستقبل ، ثم انتهت بعد فترة طويلة من الجدل والصراعات الى الانقسامات التي افرزت ازمة متواصلة وقفت بمسيرتهم في طريق مسدود الى حد الآن .. وهي ازمة بكل ما في الكلمة من معني لما لها من تاثير سلبي على الجماهير المتعلقة بالمشروع ، فلا يجدون السبيل للالتحاق به وهم يعيشون بمرارة حالة الانفصام في صفوف النخبة بين الغاية الوحدوية وواقع التشرذم ..
فلا القيادات والتنظيمات الناشئة استطاعت ان تلملم صفوفها لتجمع الجماهير المتعلقة بمشروع عبد الناصر ، ولا الجماهير الوفية لثورة يوليو ومنجزاتها وقيادتها كانت قادرة على احياء مشروعها كما تقتضيه الضرورة داخل مصر وخارجها .. فكانت الحصيلة سنين من الردة والمعاناة والضياع المتواصل على مدى خمسة عقود دون انقطاع .. ولا يزال الجدل حول الازمة متواصلا .. !!
هذا داخل مصر بشكل تفصيلي ، أما بشكل اجمالي وعلى المستوى القومي عموما ، فالامر لا يختلف كثيرا في المحصلة النهائية التي تعيشها الحركة القومية وهي تعاني من التشتت والانقسامات والصراعات رغم كل المراجعات الجدية والقراءات الجديدة والاجتهادات والاضافت التي اكسبت الفكر القومي صلابة فكرية وحركية نضالية في حجم التحديات من جهة .. ورغم المواقع المتقدمة للاحزاب القومية في السلطة سواء في ليبيا او في سوريا او في العراق من جهة أخرى ، لكنها ظلت متخبطة في الاخطاء حتى اتت الهجمة الشرسة عليها جميعا بانهاكها وتحطيم معاقلها بالرغم مما ابدته من صمود ومقاومة باسلة في كل المواقع التي طالتها أيادي التحالف الصهيوني الاستعماري الرجعي بكل مكوناته وتفرعاته المعروفة بداية بالانظمة وصولا الى الجماعات المتسترة بالدين ..
قد يكون كل هذا الحديث عن الماضي معروفا ولا ياتي بجديد ، غير أن الاسلوب الانفعالي لا يزال يقود الحركة نحو المزيد من التوتر فيزيد من تنامي الفجوة بين الحركة القومية والجماهير من ناحية ، وبين القوميين انفسهم في مختلف المواقع سواء داخل الفصائل القومية أو خارجها .. وبعض مظاهر هذا السلوك تظهر مع كل تغيرات على الساحة السياسية بشقيها القطري والقومي ، مما يجعل العلاقة بين الاحداث والمتغيرات من جهة وردود الفعل من جهة أخرى اشبه بعلاقة المثير بالاستجابة في جسم الكائن الحي .. وهي حركات غير واعية في طبيعتها الفيزيولوجية ، قد تكون لازمة بالنسبة للجسم لدفع الاخطار ، لكنها في السياسة غالبا ما تكون مسببة للازمات ..
هذا جزء مهم من الازمة وليس كلها يحتاج الى وقفة طويلة ودراسة ومراجعة للتخفيف من حدة الازمة والانتقال الى المستوى العملي في ما هو أكثر اهمية ، وهو توجيه المسار العام داخل الحركة القومية نحو هدفها الرئيسي : بناء الحركة العربية الواحدة ..
وقد يتساءل البعض : وهل هذا ممكن في مثل هذا الوضع بالنسبة للحركة القومية وهي على هذه الصورة القاتمة كما يبدو ؟ لذلك نحتاج الى صياغة اخرى حتى تكون ملائمة للواقع :
اذا كان الهدف هو بناء الحركة القومية الواحدة ، فكيف السبيل الى ذلك في الوقت الراهن ..؟
طرح السؤال على هذا الوجه يعني اولا ان الدعوة الى بناء التنظيم القومي ستظل مطروحة في كل الظروف ، كما يعني ثانيا اننا بطرح الاسئلة المناسبة نعبر عن فهمنا لخصوصيات كل مرحلة حتى لا يكون الجهد المبذول اهدارا للطاقات ومضيعة للوقت ، حيث من غير الممكن أن تبدأ عملية الاعداد من الصفر فتتجاهل ما هو موجود في الواقع ، كما لا يمكن لمثل هذا المولود ان يرى النور دفعة واحدة ، أو أن ينجح في تاسيسه جيل واحد من المؤنين به .. لذلك يبدو أن أي حديث جاد في هذا الموضوع لا بد ان يبدأ من البحث عن صيغة ملائمة لاحداث تغيير ذاتي يتعلق بارضية التواصل التي تعيق الى حد كبير عملية التغيير الهيكلي المطلوب .. وهو ما يعني ان استمرار العجز الذاتي في اتجاه المزيد من الضعف الناتج عن تنافر القوى القومية يخدم الى حد بعيد العوامل الموضوعية التي تتعاظم باتجاه المزيد من القوة الناتجة عن تظافر جهود القوى المعادية للمشروع القومي ..
اليس هذا ما نراه في الواقع ..؟
الا يزداد الواقع العربي تعقيدا خلال كل فترة بتزايد الهجمات على الوجود القومي ..؟
وفي المقابل الا يزداد القوميون تقهقرا وتراجعا عن الاهداف ..؟
الم يعد القوميون اليوم يدافعون عن وجود الدول القطرية بعد ان كانوا ـ قبل ثلاث عقود ـ يلعنون الانظمة الاقليمية والدول القطرية ..؟
المشكل أن البعض يعتقد ان مسالة الدعوة للتنظيم القومي تتعلق فقط بالجانب المبدئي ، وهذا خطأ فادح .. لان التنظيم القومي لن يقوم على اسس متينة بمجرد ان نجمع الالاف من الوطن العربي مهما كانت صلابتهم الفكرية والنظالية ونعلن عن التاسيس .. بل على اساس ما يتهيا له من ظروف النجاح والاستمرارية وعلى راسها الحاضنة الشعبية من ملايين الناس المؤمنين به من جميع الفئات الشعبية حتى دون ان يقرؤوا الكتب والنظريات وهذا يعتمد الى حد بعيد على الخطاب الموجه للناس في كل مرحلة من مراحل البناء .. فاذا نظرنا الى الواقع العربي كما هو في الوقت الحالي سنجد ان كل المعارك التي تدور على الساحة معارك تحررية بامتياز .. تحرر من الاستبداد ، تحرر من الهيمنة الاستعمارية ، تحرر من الاحتلال .. فلا شك ان الحركة القومية تحتاج خلال هذه المرحلة الى كل من يساندها في انجاز هذه المهمة على الوجه الاكمل .. وبصفة أدق واشمل ، ان المشروع القومي يمكن ان يستوعب اي مشروع حزبي ذي افق تحرري او اشتركي او وحدوي في اي مرحلة سواء كان ممثلا في حركة واحدة او قبلها .. فكيف لا يستوعب ـ من باب أولى ـ التجارب النضالية للاحزاب القومية القطرية في هذه المرحلة ..؟؟
وكيف لا يستوعب المنتمين الى هذا المشروع الذين يختلفون فيما بينهم في بعض التاويلات الثانوية المتعلقة بالتحالفات أو ببعض الأحداث الظرفية المتغيرة .. ؟
ثم – وهذا اهم - كيف لا يستوعب اسلوب التمهيد المرحلي في كل قطر لتجاوز الفرقة والشللية القطرية ..؟
قد يكون من اسباب التشنج الذي يعيشه القوميون في علاقة بالداخل او بالخارج هو غياب التصور عندهم ـ وهم يدعون لقيام الحركة العربية الواحدة ـ لما ستكون عليه الامور بعد تاسيسها .. حيث ستكون مرحلة التاسيس غير هذه المرحلة من حيث الاهوال التي سيواجهها هذا التنظيم .. فلا شك أنها ستكون في امس الحاجة لحاضنة شعبية واسعة ودولة داعمة ، وقد تكون مصر هي الدولة المرشحة موضوعيا بحكم دورها التاريخي وموقعها وحضور الحاضنة الشعبية فيها ..
لذلك يمكن ان نقول جازمين ان الحركة العربية الواحدة :
ـ لن ترى النور عن طريق العمل الاستراتيجي وحده باعتبار حاجة هذا المشروع الى الحاضنة الشعبية الكبرى وليس الى النخبة وحدها ..
ـ ولن تقوم عن طريق الأحزاب القطرية وحدها وهي على شكلها الحالي الذي يجعلها موضوعيا تتنافس كغيرها من الاحزاب على السلطة وهي ملتزمة بقوانين الدولة الاقليمية التي سمحت لها بالنشاط الحزبي ، الا في حالة واحدة وهي وصولها الى قمة السلطة عن طريق الاغلبية الشعبية مع توفر الارادة العامة في تغيير دستور الدولة القطرية او عن طريق الاستفتاء الشعبي بما يسمح لها باحتضان تنظيم يستهدف الغاء وجودها وتحمل تبعات امتداده خارج حدودها وهي الوضعية التي ترشح مصر لهذا الدور القومي ..
ـ ولن تقوم أبدا دون تظافر العمل الاستراتيجي والعمل الحزبي باتجاه استرجاع قاعدة النضال العربي : مصر العربية ، لاسباب تتعلق اساسا بالجوانب اللوجستية وتامين الحركة والتمويل وتوفير السند الاعلامي وجاهزية الحاضنة الشعبية الخ .. ذلك لان مرحلة التنظيم القومي – كما هو مؤكد - هي مرحلة مختلفة جذريا عن المراحل الحالية بالقدر الذي يمكن ان يتجاوز تصور العديد من مناضلي الحركة القومية لمدى ضخامتها على مستوى المواجهة متعدة الواجهات بما يكفي لاستهداف المشروع والتصدي له قصد تصفيته ـ ممثلا في مناضليه وفي الاقليم الذي يحتضنه ـ بوسائل قد تتجاوز في خطورتها اضعاف واضعاف ما استُهدفت به الانظمة القومية في الدول القطرية سابقا سواء في مصر أو في العراق وليبيا وسوريا ، فضلا عن حركات المقاومة المحاصرة والمتهمة بالارهاب .. وهو ما يعني ـ بكل بساطة وجدية ـ ان مهمة الحركة القومية التي تعاني من التشتت والتشرذم والصراعات الداخلية والعجز الذاتي والموضوعي حاليا ، لا تتمثل في تاسيس صرح الحركة العربية الواحدة ، بل في وضع الاسس المتينة لبناء هذا المشروع المستقبلي ، الذي يستحيل ان يتحقق دون تخطيط ودون تمهيد ودون اولويات ودون حد ادنى من الوحدة النضالية الفعالة في الممارسة القطرية كخطوة اولى على الاقل .. وهو ما يقودنا الى موضوع الحديث المتصل بتلك المقدمات كما سياتي لاحقا .. ولنبدأه بتحديد منهجي للاطار العام ..
من المعلوم ان الفكر القومي اليوم وفي الوطن العربي تحديدا مثلما انتهت اليه الاضافات والاجتهادات المميزة لرواده من المفكرين العرب ، هو فكر انساني تحرري بكل ما في العبارة من مضامين عميقة ملامسة لجوهر الانسان .. وكلمة انساني تعني - قبل كل شيء وزيادة على معناها الشمولي - ان هذا الفكر نابع من خصوصية الانسان نفسه ، ككائن تدفعه الضرورة بشكل دائم للعمل على حل التناقض بين احتياجاته المتجددة والقيود التي يفرضها الواقع .. لتكون دائما جوهر مشكلته الحرية ... وهكذا اذا نظرنا الى المشكلات المطروحة في الوطن العربي سنجد ان كل مضامينها تحررية بالدرجة الاولى .. مشكلة الاسبداد ، مشكلة الاحتلال والهيمنة الاستعمارية ، مشكلة الصهيونية ، مشكلة التخلف الحضاري ، مشكلة الحصار الاقليمي والتجزئة .. كل هذه المشكلات سواء كانت في شكل انتقاص من الوجود القومي والثروات القومية كالاحتلال والتجزئة والنهب الاستعماري ، او في شكل قيود مادية وثقافية كالفقر والبطالة والمرض والجهل ... تساهم جميعا في الابقاء على تخلف الانسان العربي وتعيق تطوره وتقدمه ، فيكون الموقف المساند لتحريره من قبضة الحلف المتربص به من الداخل او من الخارج ، وتخليصه من اي قيد يتصل بتلك المشكلات موقفا تقدميا .. بينما يكون اي فعل مساهم في تحقيق هذه الغاية عملا ثوريا بقطع النظر عن الاساليب المتبعة ، حيث لا تعني الثورة - دائما - العنف بالضرورة .. وفي المقابل فان اي موقف مساند او مساعد للقوى المعادية على تحقيق غاياتها هو موقف رجعي ، كما يكون عملها في هذا الاتجاه عملا تخريبيا مهما كانت الشعارات واللافتات المرفوعة .. وهكذا يمكن القياس على جميع القوى النشيطة في الوطن العربي على اختالاف خلفياتها ومرجعياتها وهوياتها وعناوينها .. وما علينا سوى ان نحدد متطلبات المرحلة ونضبط اهدافها على ضوء مصالحنا القومية وولائنا القومي لنعرف من هم في صفنا ومن هم اعداؤنا ثم نبني تحالفاتنا ..
والقوى القومية كقوى معنية دائما بالشان القومي من المفروض ان تتعامل باستمرار مع الواقع كما هو من منطلق مبدئي اولا ، ولكن حسب ظروفها وحسب امكانياتها ، فاذا كانت قواها الذاتية عاجزة عن اداء دورها كما يحتمه الواجب القومي في هذه المرحلة ، فهي بالضرورة ستواجه اكراهات قد يرى فيها البعض حيادا عن المبدا بينما يفترض ان تكون مجرد تقاطعات ضرفية مييدانية وسياسية قد تجعلها تغير تكتيكاتها وتحالفاتها دون ان تغير مبادئها الخ ...
اذا كانت هذه المقاربة صحيحة ، يمكن ان نبني عليها جملة من الترتيبات لعلاج بعض مظاهر الازمة على الوجه الذي طرحت به في سياق الحديث :
ـ حالة " التنافر" او حالة التوتر بسبب التناقض داخل الحركة القومية بين هويتها القومية ووجهها الاقليمي بكل ما فيه من امراض انفصامية .
ـ حالة " النفور" أو حالة التوتر في العلاقة بين الحركة القومية الممثل الوحيد للوجود القومي بمعناه الدلالي الذي يتطابق فيه كليا الاسم بالمسمى ، وبين الاحتياطي البشري الذي يتكامل فيه ـ بالمعنى المجازي ـ العضو بالجسد ..
بالنسبة للحالة الاولى لحركة نشيطة على جميع المستويات وفي علاقة بكل مكونات المجتمع وبكل المتغيرات التي تحدث فيه لا يمكن حل مثل هذا التناقض المقيد للحركة في الوقت الراهن الا بالاعتراف بهامش الاختلاف داخل مكوناتها على قاعدة الفصل بين الثابت والمتغير او بالمعنى الديني : بين " المحكم والمتشابه " ..
أما بالنسبة للحالة الثانية في علاقة بحركة ضعيفة تدافع عن أمة مستهدفة باعتى ادوات العدوان ، تتحرك في ساحة ممتدة على طول الوطن العربي وعرضه ، مجبرة على أن تستقطب من ابنائه ما يكفيها من المؤمنين والملتزمين والمجندين في صفوفها لتحقيق تلك الغايات والأهداف العظيمة ، وهم ينحدرون من مستويات متفاوتة معيشيا ومعرفيا ، ومن أوساط مختلفة جغرافيا وثقافيا ، ولهم معتقدات متباينة دينيا ومذهبيا الخ ..فلا يمكن الوصول اليهم الا بالنزول الى مواقعهم والتوجه اليهم بخطاب متوازن يتجاوز حالة التشرذم اولا ، وياخذ بعين الاعتبار تلك الجوانب المؤثرة في طبيعة العلاقات بين الناس ثانيا .. وبالالتحام بمشاكلهم والتفاعل معها بحسب الاولويات التي يقتضيها اسلوب المعالجة للمشكلات التي يطرحها واقعهم ثالثا .. دون مواقف متشنجة لا تؤدي في النهاية الا الى التنافر الداخلي الذي يفضي بدوره الى تنفير العامة .. حتى ان المتابع يتساءل أحيانا : ماذا يريد القوميون من الناس ..؟؟
لماذا يطلبون من الجميع ومن بعضهم البعض الافضل في كل شيء وفي وقت واحد الى تلك الحدود التي تحول كل شيء الى محاسبة قاسية تصل في بعض الاحيان الى الغاء الاختلاف وتجريم الاجتهاد الخاطئ ..؟
" سفودهم " جاهز دائما على نار حامية لكل السياسيين والاعلاميين والاحزاب القريبة منهم وحتى حركات المقاومة ، واخوة الدرب لمجرد الاختلاف ولو في موقف هامشي ، او في تصريح لوسائل الاعلام ، أو في تبادل زيارات ومحادثات بين شخصيات سياسية محسوبة على هذا الطرف او ذاك ..
صحيح ان تسجيل المواقف هو جزء من لعبة الحسابات السياسية والمنافسة وكشف الخفايا أمام الراي العام وتوضيح الارتباط الوثيق بين القضايا التي يعمل البعض من الاقليميين على تجزئتها الخ .. لكن حينما تنتقل المحاسبة الى الداخل على صفحات التواصل ، فتصل الى الاتهامات والتخوين فهذا غير ذاك ...
ثم لا يجب ان ننسى ان الحركة القومية في الوقت الراهن تعد خارج المشهد ، لانها عاطلة عن الفعل الذي يمكنها من التفوق على بعض الاطراف وهم في الواجهات المفتوحة في جبهات القتال .. والاصح في حالة الاختلاف فيما يتصل بهذه الاطراف من جوانب تتعلق بالتحالفات او بالتاييد ان تعالج الامور عن طريق الجدل والاقناع .. ولكن التعاطي معها ومع كل من يقترب من هذه المناطق المحرمة عند البعض بمنطق السفود الذي يؤدي الى التجريح ، لا يعتبر من الحكمة ولا من المبدا في شيء ، سواء من ناحية الخطاب المنفر للعامة أو المحدث للتنافر بين الخاصة ... وحتى مقولة الفرز هي مقولة مغلوطة من اساسها حينما تطرح بهذا الشكل ، لان الفرز الحقيقي هو الذي يتم من خلال الممارسة ، والغرض منه ـ بين القوميين ـ هو تبين الصدق والاخلاص للمشروع القومي وليس التفوق في فهم الظواهر والتشهير بالمواقف الخاطئة التي يمكن ان يصححها الجدل الاجتماعي بدل ان تدينها المواقف الفردية .. ثم لا ننسى ونحن نقتدي بالدكتور عصمت سيف الدولة وهو يستعمل السفود مع القوميين ، انه يعطيهم حقهم ، فيثني عليهم ، ويسرد مواقفهم الصائبة في جوانب الموضوع ويثمنها ، ثم ينتقد مواقفهم قصد تصويبها وهو يخاطبهم – في اغلب الاحيان - باعتبارهم قدوة الناس وقادة الراي العام ورواد الحركة القومية ، فلنسر على نهجه ومنهجه اذا اردنا الاقتداء به للوصول الى المطلوب ..
ولعل اول الخطوات في هذا الاتجاه ان نحدد الاخطار التي تهدد الامة في كل مرحلة ، ثم نتعامل مع الاخرين بحسب مواقفهم الحالية وليس الماضية ... وبحسب ما تسمح به المصلحة القومية من تقاطعات ظرفية وليس على اساس التطابق الكلي في المواقف والافكار دفعة واحدة .. ولنا في هذا امثلة كثيرة منها المواقف من المقاومة التي تصنف احيانا على اساس مرجعيتها الطائفية ، واحيانا اخرى على اساس مرجعيتها الفكرية .. ومنها ايضا الموقف من ايران ، او من روسيا او من الانظمة العربية الخ ..
فحزب الله الذي التزم بالمقاومة ضد الكيان الصهيوني وقدم مئات الشهداء ولم يثبت انه استعمل سلاحه في غير ذلك ، بل انخرط في المعارك الضارية التي تدور في سوريا وساهم في تغيير موازين القوى ، ووقف في وجه الحلف الامريكي الرجعي ، لا يكون من الحكمة ان نفتعل معه تناقضات ثانوية بعضها مرفوضة من وجهة نظر قومية ـ كالطائفية ـ وبعضها الآخر ـ لا تقبلها متطلبات المرحلة ـ كالتحالف مع ايران او مواقفه السابقة من بعض القادة القوميين ـ وكل هذه المعارك المجانية لا يستفيد منها الا الاعداء ..
اما في ما يخص المصالح الايرانية ومحاولات امتدادها وكسب مواقع في الوطن العربي من خلال علاقتها بالاحزاب الشيعية في العراق او بحزب الله والحوثيين وغيرهم على اساس خلفيتهم الطائفية ، فان ايران قبل كل شيء هي دولة محتلة لقطر عربي مساحته اكبر من مساحة فلسطين منذ عام 1925 .. وهي التي ساهمت في تقسيم العراق وحرضت مليشياتها على الانتقام من قادة الجيش العراقي وعلمائه ، وزرعت الطائفية والفتنة داخل العراق وخارجه .... وكل هذا وغيره معروف .. الا ان التضييق علي تلك الجماعات بمنطق التصنيف الطائفي ـ بالاضافة الى كونه منطق رجعي متخلف ـ فهو لا يؤدي ـ بالنسبة لها ـ الا الى المزيد من الارتماء في احضان الحليف الطائفي وليس العكس .. في الوقت الذي نجد ان تلك الجماعات تمثل جزءا من النسيج الاجتماعي للامة العربية لا يمكن باي حال من الاحوال التعامل معه بنفس المعايير التي تحكم نهج التعامل مع القوى الخارجية المعادية .. فضلا عن كونها واقفة في بعض الثغور مدافعة عن الامة ، رافضة للاستسلام ، داعمة للمقاومة بكل اشكالها والوانها ومرجعياتها ، وهوالمطلوب في هذه المرحلة لا اكثر ..
ماذا يعني هذا ؟
انه يعني ـ من ناحية اولى - ان العدو هو المحور الصهيوني الامريكي الرجعي الذي تلتقي اهدافه وحساباته على استهداف الوجود القومي العربي وتفتيته وضرب اي نفس مقاوم فيه للمحافظة على الوجود الصهيوني في فلسطين كشرط اساسي لمنع اي خطوة نحو تحقيق الوحدة القومية القادرة وحدها على تسفيه احلام هذا الحلف المقيت ...
ويعني ـ من ناحية ثانية - ان القوى المناهضة لهذا الحلف يمكن ان تكون بعض حساباتها في الوطن العربي مفيدة لنا اذا عرفنا كيف نحوّل تلك الاطماع الى مصالح متبادلة ..
ويعني - من ناحية ثالثة – ان المواقف الظرفية المتعلقة بالمستجدات يمكن ان تكون متباينة بحسب زاوية التركيز على الاحداث التي ينظر من خلالها كل متابع لتفاصيلها الدقيقة ، وطبقا لما يتوفر لكل محلل من معطيات ، او بحسب ما يراه من اهمية لهذا العنصر او ذاك في درجة الفاعلية والتاثير في الاحداث .. فيكون الاختلاف في التفاصيل تحصيل حاصل حتى داخل الفصيل الواحد ..
كما يعني - من ناحية اخرى ـ ان العلاقات والتحالفات ببن الدول والقوى الاقليمية والمحلية والاحزاب متغيرة حتما بتغير الظروف وتغير الانظمة السياسية وتغير موازين القوى وغيرها من العوامل .. فلا توجد تحالفات او عداوات دائمة الا بقدر استمرار المشكلات والحسابات المتعلقة بها .. ولعلنا نذكر من اهم هذه الحسابات جميعا :
- اولا ، الانظمة الرجعية تريد المحافظة على وضعها الحالي وامتيازاتها فتحسب حساباتها الخاصة لتضمن بقاءها ..
- ثانيا ، ايران وتركيا تريد كل منهما خدمة مصالحها ولو على حساب الجار العربي فتحسب حساباتها الخاصة لاضعافه ..
- ثالثا ، المنافس الروسي للمصالح الغربية في الوطن العربي يريد الحصول على حصته من الكعكة العربية التي تحاول القوى الغربية ابتلاعها وحدها ، فيحسب حساباته ويبني تحالفاته للدفاع عن مصالحه ..
- رابعا ، الاسلام السياسي وكل القوى الرجعية النشيطة في الوطن العربي لها اهداف وطموحات مختلفة فيحسب كل طرف منها حساباته الخاصة لتحقيقها ..
- خامسا ، الجماعات التي تعتبر نفسها اقليات قومية لها نزعات واهداف انفصالية فتحسب حساباتها الخاصة لتحقيق الانفصال ..
- سادسا ، القوى الاستعمارية والعصابات الصهيونية لها مخططات واضحة في الهيمنة والاحتلال والتفتيت وضرب المقاومة وفرض الاستسلام .. فتحسب حساباتها الخاصة لتنفيذ تلك المخططات .. الخ ...
طبعا التصدي لكل هذه الحسابات يؤدي ـ بالضرورة - الى نشوب صراعات ومعارك على طول ساحات الصراع وعرضها بينا وبين قوى هذا الحلف او ذاك ، فتتداخل مصالحنا على طول مداها الزمني بمصالح قوى متعدة تعمل جميعا على تحقيق مصالحها القومية الخاصة بطرق مختلفة ، متحالفة احيانا وانتهازية احيانا اخرى .. وهو ما يحتم على القوى القومية ـ سواء كانت في السلطة أو خارجها ـ ان تكون متنبهة لتلك الخلفيات بجميع انواعها وهي تتحرك على ارض الواقع في كل سياساتها وتكتيكاتها وتحالفاتها دون ان تقع تحت الهيمنة او في التبعية لتلك الجهة الحليفة او لغيرها .. وكل هذا ممكن ومشروع .. لكن كل هذا الحرص على المصلحة القومية لا يعني على الاطلاق بالنسبة للقوى القومية ان تدخل في حرب شاملة كلامية واعلامية مع كل القوى التي تختلف معها في تحقيق المصلحة الاستراتيجية ، فتجمعها في سلة واحدة وتواجهها في وقت واحد الا بقدر خطورتها ... اولا لان هذا مستحيل حتى ولو كانت تمتلك القدرة على ذلك ، وثانيا لان اهدافها لا تتساوى في درجة الخطورة حتى وان كانت تجتمع في حلف واحد .. فضلا عن القوى القابلة للالتقاء معها خلال مراحل هذا الصراع على اهداف تحررية في مواجهة الصهيونية والاستعمار والرجعية العربية أوغيرها من الاهداف .. وهنا نخطو خطوة متقدمة تفضي بنا الى مسالة جوهرية هامة ، وهي مسالة التقاطعات والاولويات .. حيث يجب ان نحدد في كل مرحلة درجة الخطورة على الوجود القومي المستهدف في ظل عجزنا الحالي وحاجتنا الى التحالفات لرد العدوان من جهة ، وتحصين مجتمعنا من الارتداد الى فخ الهدم الذاتي الذي ينصبه اعداء المشروع القومي ، فنميز بين من يستهدفنا من الخارج لنرد عدوانه عنا باي شكل وباي ثمن في الوقت المناسب ، وقد يساعدنا هذا في الاستفادة من مساندة القوى الحليفة ، وكشف القوى الرجعية التي تعمل لصالح القوى المعتدية في الداخل .. وبين من يستهدفنا من القوى المحلية لنعمل على تعطيل عدوانه او ننهيه باقل الاثمان لنستعيد قاعدته ولو بتحييدها عن الانخراط معه في اي عمل معاد لامتنا ..
قد يكون مثل هذا الاجتهاد مختلف عليه بين القوميين ، لكن هل ينهي امكانية العمل المشترك طويل المدى ـ بينهم ـ من أجل تحقيق المهمة الاستراتيجية لبناء الحركة العربية الواحدة ..؟ وهل يلغي السعي لتوحيد الممارسة ووحدة الصف من أجل المهام النضالية ضد الاقليمية وضد الاستغلال الرأسمالي وضد الاستبداد وضد الهيمنة الاستعمارية وضد الصهيونية وضد الفقر والبطالة وكل الثوابت المعروفة التي لا يختلفون حولها مهما تعددت الفصائل والجماعات .. ؟ الا يزيد تجاهل الثوابت والتركيز على المتغيرات في هذه المرحلة في اتساع الفجوة بين اخوة الدرب .. ؟ وهل تقف هذه الفجوة عند هذا الحد ، أم تتحول الى فجوات اكثر اتساعا بينهم وبين الجماهير حينما تعاملهم بنفس المنطق الذي يتعامل به البعض مع البعض الآخر ، فتحيلهم جميعا دون تمييز على امضى انواع السفود فتكا بالسياسيين : التجاهل واللامبالاة .. ؟ !!
فالسفود ـ حين يكون مع القوميين ـ لا يعمل عند العامة الا بمعيار واحد : ملاءمة الآداة للغاية ، فلا يقبل مناقضة الدعاة لدعوتهم ..
هكذا هي الجماهير ، فهي لا تقبل ان ترى التنافر بين القوميين في مواقع تنظيمية مختلفة ، وبين القواعد والقيادات في نفس التنظيم ، وبين الذوات خارج التنظيمات .. .. وهم يدعون الى الوحدة القومية ولا يتوحدون .. وهو واقع اصبح ـ فضلا عن ذلك ـ يهدد اي امكانية مستقبلية بديلة لرص الصفوف وتوحيدها على اساس ارضية الثوابت القومية بسبب طغيان ظاهرة التركيز على المتحول ، وبسبب تجاهل مشروعية الاختلاف في المقدرة الجدلية على المستوى الفردي بكل ما يترب عنها من مواقف مختلفة ومتضاربة احيانا في ظل غياب الاليات الكفيلة بتوحيد الممارسة ، وفي ظل المبالغة في استعمال مقولة الفرز ، مما يفضي الى تنامي الصراعات داخل العائلة القومية ، بالرغم مما فيها احيانا من جوانب صحية حينما تكون في حدود النقد والاجتهاد ، لكنها غالبا ما تتحول الى ظاهرة مرضية هدامة حينما تتجاوز تلك الحدود الى الاتهامات والتخوين دون مبررات .. في حين ان الموقف من بعض القضايا يظل متغيرا بتغير الظروف وتداخل الاحداث بكل ما فيها من تعقيدات ، وقد تفضي بعض القراءات والاجتهادات فيها الى مثل هذا الوضع ، لكنه يفترض أن تبقى محل اختبار في الواقع حتى يتبين اصحابها درجة الصواب والخطا فيها ، دون الوقوع في فخ القوى المعادية التي تراهن على تضخيم التناقضات لاضعاف المقدرة على مقاومتها .. وفي هذه النواحي نجد امامنا امثلة عديدة لمواقفنا المتغيرة ، سواء من القادة القوميين ، او من الاحداث القومية بحسب تغير الظروف وتقلبها ..
فمن منا لم يستاء من موقف الشهيد معمر القذافي حينما طرح حل " دولة اسراطين " .. وحينما طرح مشروع الاتحاد الافريقي بديلا عن المشروع القومي ..؟؟
ومن منا لم يستاء من تعامل الانظمة القومية سواء في سوريا او في العراق حينما كانت تنكل بالقوى القومية المختلفة معها وتتنافس او تتصارع فيما بينها ليكون هذا الطرف او ذاك هو الممثل للحركة القومبة ..؟
ومن منا لم يستاء او ينفعل من النهج الذي اتبعه المرحوم ياسر عرفات باختيار التسوية مع العدو الصهيوني ...؟ لكن الاحداث كانت كفيلة وحدها بتغيير المواقف والعواطف تجاه هؤلاء القادة حينما تغيرت الظروف ووقفوا وقفاتهم البطولية الشجاعة والمشرفة حينما ثبتوا في النهاية على المبدا ولم يفرّطوا في الحقوق او يستسلموا للاعداء ..
الم تكن الحادثة العابرة الواقعة في اليمن عينة اخرى مثيرة للجدل والاختلاف في وجهات النظر حيث وجدنا :
- موقف شامت في موت علي عبد الله صالح بالنسبة لمن ينظر الى ماضيه في السلطة وتفرده بالحكم واضطهاده للقوميين .. او بالنسبة لمن ينظر اليه من زاوية " المخلوع " الذي رجع الى اليمن معاندا بعد لجوئه الى السعودية ، متسببا في خلط الاوراق من جديد .. او بالنسبة لمن ينطلق من تقلبه في بناء التحالفات او غيرها .. فضلا عن هذا كله ..
- وموفف متعاطف مع علي عبد الله صالح بالنسبة لمن ينظر اليه من زاوية مساندته لبعض القضايا القومية سواء في فلسطين ، او خلال العدوان على العراق ، او من خلال دوره في الوحدة اليمنية ، ونأيه باليمن عن التحالفات المشبوهة .. فضلا عن هذا كله ...
- وقول ثالث ياخذ من هذا وذاك ، فيبرر جوانب من هنا وجوانب من هناك .. الخ ..
- اما اذا اضفنا الى هذا كلمات كبيرة " كالمقاومة " و " الطائفية " والتدخل الايراني ، والحلف الشيعي والحلف السعودي والثورات وغيرها ... فبالتاكيد سيكون بناء المواقف والاحكام اكثر تعقيدا ..
وشيء من هذا يحدث في كل القضايا وفي كل المستجدات ، سواء في الموقف من روسيا ، او من حزب الله ، او من ايران وتركيا ، او من الانظمة وقضايا الحريات والديمقراطية .. وفي كل مناسبة يحتاج فيها القوميون الى اجتهادات وتكتيكات سياسية جديدة .... حتى المواقف من الحركة الطلابية في علاقة بالنشاط الحزبي والاستقلالية لم تشذ عن هذه القاعدة الخلافية المتصلة مباشرة بزوايا النظر ...
ألا يقال ان الضرورات تبيح المحضورات ..؟ والضروري اليوم هو التعاطي مع الواقع على قاعدة الحد الادنى الممكن داخل الحركة القومية " ثوابت المشروع القومي " ، لتحقيق الحد الادنى المطلوب من الواجب القومي في هذه المرحلة " وحدة الصف ووحدة الممارسة القومية دفاعا عن الوجود القومي " ، حيث يتجاوز الحد الاقصى الذي يريده البعض كل امكانيات وجهود القوى القومية والتقدمية بكل فصائلها وعناوينها وهي على هذا الحال في المرحلة الراهنة ..
المسالة – على الاصح - ليس من منا اكثر وجاهة ، او اكثر موضوعية في صياغة المواقف ، ومن منا يكون المنتصر .. فنحن لسنا في منافسة تنتهي بتسجيل النقاط ، او بالضربة القاضية وهزيمة الاخرين .. نحن في حاجة الى تحديد المرحلة ، وهي مرحلة تحرر قومي بلا اداة قومية .. وهذه المرحلة لا يتم فيها الفرز على اساس التفاصيل ( المتشابهات ) ، بل على قاعدة الثوابت ( المحكمات ) ، فقراءة الاحداث المتجددة تنبثق عنها – بالضرورة - وجهات نظر متباينة مع كل جديد .. لهذا نحن بحاجة الى كل الاجتهادات ووجهات النظر المختلفة لتدطوير المقدرة الجدلية لعموم القوميين من اجل الارتقاء الى توحيد الممارسة الميدانية لمواجهة التحديات ، وتمهيد الارضية الملائمة لوحدة الصف قبل الحديث عن اي شيء اخر .. ونحن نرى ما يؤدي اليه التنافر الداخلي - بالضرورة - من نفور خارجي للحاضنة الشعبية من حول المشروع القومي بسبب مناقضة الدعاة لدعوتهم ..
فلو بحثنا في عمق المشكلة لوجدنا انها تتمثل – دائما – في البحث عن اطراف فاعلة تملا الفراغ الذي نعيشه ، فنؤيدها حتى ولو كانت لا ترتقي في مواقفها الى مستوى طموحاتنا ، فلا يحصل الاجماع حولها جميعا ويحل الخلاف .. والسبب اننا متواجدون خارج دائرة الفعل .. فلو كنا في موقع القيادة للاحداث وفق ارادتنا ، ما كنا ننشغل كل هذا الانشغال بالاخرين ..
ان مسالة التحالفات الميدانية في جميع ساحات الصراع ، التي يثور حولها كثير من الجدل ، لا تستطيع مواقفنا الحالية منها ان تغير من واقعها شيئا ، لاننا لسنا في المواقع الفاعلة التي تسمح لنا بالاختيار ، فلا يكون الجدل الافتراضي حولها سوى سلوك تعويضي عن العجز لا يفضي في كثير من الاحيان الا الى المزيد من التنافر المشحون .. والاجدى من هذا كله ان نطرح مبادرات تؤطر كل هذه الاجتهادات وتحتوي الاختلافات في وجهات النظر .. وهذا لن يحدث دون عمل يؤسس لبناء اطار تنظيمي ديمقراطي جامع يفتح المجال للحوار والجدل الاجتماعي ويلزم الجميع بممارسة الحل الاغلبي دون غالب او مغلوب ، ودون تخوين او هروب من المسؤولية ولو في كل ساحة قطرية كمرحلة اولى .. وغير ذلك صراخ وعويل في الصحراء ..
باختصار ، الاختلاف داخل الحركة القومية ظاهرة صحية في مراحل البحث عن الخلاص ، لكن الصراعات الناتجة عنها - حين تتجاوز تلك الغاية - تاخذها للتحليق بعيدا عن الواقع .. فيكون السكوت عنها افضل من الكلام ..
( القدس ) في 25 / 11 / 2017 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق