المنهج حجر الاساس ..
د.عصمت سيف الدولة .
في البدء كنا عربا قبل أن نعرف ما هي العروبة . كان أهلنا في الصعيد يغضبون غضبا يعبرون عنه ردعا لمن يشك في عروبة الاسر . كل الأسر . وكنا أطفالا نصطنع الغضب والمعارك دفاعا عن عروبتنا قبل أن نعرف ماهي العروبة وكنا نتحلق حول أجدادنا وكبار السن يقصون علينا سلاسل من الأنساب تنتهي حتما بجد عربي وراعي غنم وفد في جيش عمر بن العاص فاتحا . يا جدي .. وهل كان عمر بن العاص عربيا ؟ اخرس يا غبي " امال يعني كان انجليزي " .. كان الانجليز يحتلون مصر منذ عرابي ، فلم يكن أجدادنا يميزون العربي الذي هو منا الا بتقيضه الأنجليزي الذي هو علينا .. وهو كريم لأنه عربي . وهو شهم لأنه عربي . وهو عزيز النفس لأنه عربي . وهو حامي الجيرة لأنه عربي . فعرفنا العروبة فضيلة تنطوي على كل الفضائل ، ومن حين الى حين ، يتزوج فتى ، أو تقام حفلة ختان صبي ، فيجتمع أهل القرية في ساحاتها ليشاركوا ويشاهدوا معالم الفرح الجماعي . يصطف الشياي وقد تساندت أكتافهم وتشابكت أيديهم ويحيط بهم الباقون رجالا ونساء جلوسا على الأرض الطيبة . ثم يبدأ " عوض الله " في قيادة المصطفين على ايقاع دفه الكبير . هو يحدو ويرقص وهم يرددون متمايلين على ايقاعه شعرا بدويا غريب اللهجة حتى اننا نحن الصغار لا نفهمه وان كنا نتمايل معهم . ومن ركن مظلم تنفلت فتاة محجبة فتجلس أمام الشباب من الراقصين ، فيتوقف الرقص ويتقدم الشاب خطوة ليلقي على تلك التي لا يعرفها موال " غزل " صريح . حتى اذا ما فرغ هلل الجميع وانسحبت الفتاة ، وعاد الى الصف ليبدأ الرقص على ايقاع الدف وترديد الأغاني . كانت تلك أسعد ليالينا .. ليالي " زفة العرب " كما كان أهلنا يسمونها .. فعرفنا أن العروبة مصدر بهجة جماعية .. ولم يكن أحد من قروى الصعيد يعرف عن العروبة الا أنها علاقة جماعية على الأصل الواحد .، وفضائل السلوك وبهجة الحياة .. وقرابة فوق الأسر موثقة في صحف عتيقة تحتفظ بها الأسر ليعرف منها كل مولود عربي ـ حين شب ـ مكانه من " شجرة العائلة " التي تنتهي دائما ـ الى عربي جاء الى مصر مع عمر بن العاص .. بعد سنين طويلة من الخبرة والعلم عرفنا أن أغلب ، أو على الأصح بالنسية الى قريتنا " الهمامية " كل تلك الوثائق مزيفة .. اصطنعت لتؤكد شعورا غير زائف بالانتماء العربي ، فلم تكن في زيفها أقل دلالة على صدق الشعور مما لو كانت وثيقة تاريخية ..
قبل أن ندرك كيف يحمل الشعور الصادق صاحبه على تأكيده بالكتابة ، كنا قد تعلمنا القراءة والكتابة والحساب ، ودخلنا مدرسة التاريخ المكتوب عن الأمة والقومية والعروبة ، والتطور .. الخ .فعرفنا من أساتذتنا الأوائل أن العروبة ليست " زفة فرح " بل هي انتساب الى أمة . وحفظنا عن ظهر قلب تقريبا كل أوصاف الأمة كما عددها كل الذين وصفوا الأمة من جميع الأمم .. فلم يعد لدينا شك في أننا ننتمي الى أمة توافرت لها كل أوصاف الأمم .. وعشنا كل آلام العرب ، وآلامنا . وحملنا كل هموم العرب ، همومنا ، وحددنا آمالنا من آمال أمتنا ..
ثم ألح علينا سؤال بعد أن درسنا حتى آخر كلمة النظرية الماركسية في الأمة . سؤال طرحه الماركسيون ولم يطرحه أحد من قبلهم فيما نعلم . لماذا تتكون الأمم ؟ . قالوا ان الطبقة البورجوازية الصاعدة في اوروبا بعد عهد الاقطاع قد " كونت " الأمم فتوسع نطاق السوق الرأسمالي . هكذا كانت ألمانيا وهكذا كانت ايطاليا .. الخ . لم نستطع أن نفهم ، لماذا اذن ، اقتصر جهد البورجوازية الألمانية على تكوين الأمة الألمانية ، واقتصر جهد البورجوازية الايطالية على تكوين الأمة الايطالية ؟ لماذ لم تكون البورجوازية الاوروبية أمة أوروبية الا اذا كانت كل بورجوازية منها قد " وجدت " أمة كانت متكونة من قبل ، واقتصر جهدها على توحيدها .. لا بد أن يكون وجود الأمة سابقا على توحيدها في دولة ..
وبقي السؤال الذي طرحه الماركسيون ، لماذا تتكون الأمة ؟.. بدون جواب ، فاجتهدنا في الاجابة .. من أين نبدأ ؟ ـ أولا ـ من معرفة كيف تتكون الجماعات البشرية ، ثم نعرف ـ ثانيا ـ كيف تتطور من طور الى طور . وكان لا بد من معرفة قوانين التطور الاجتماعي أولا ، اذ أن بداية تكوين الجماعات البشرية معروفة . وكانت البداية اسرا ، ثم عشائر ، ثم قبائل ، ثم شعوبا ، ثم أمما ، فكيف تتطور ( تنمو ) الاسر لتكون عشيرة ، وتتطور العشائر لتكون قبيلة ، وتتطور القبائل لتكون شعوبا ، وتتطور الشعوب لتكون أمما .. ومن يدري ماذا سيكون بعد ذلك ؟
ما هو قانون التطور البشري ؟
كل فرد يسعى الى اشباع حاجنه لا يألو . كل أسرة تسعى لاشباع حاجاتها لا تألو . تتصارع الأسر على ما يشبع حاجاتها من موارد حتى تتساند ثم تلتحم عشيرة تكون بقوتها الموحدة أقدر على توفير احتياجات الاسر داخلها . ثم تتصارع العشائر حتى تتساند ثم تلتحم قبيلة تكون بقوتها أقدر على توفير أحتياجات العشائر داخلها ، ثم تتصارع القبائل حتى تتساند وتلتحم شعبا يكون بقوته أقدر على توفير احتياجات القبائل فيه ومن مظاهر قوته الاستئتار بأرض معينة وحمايتها والاشتراك في الانتفاع بمواردها . حتى اذا ما استقر الشعب سنين قد تكون قرونا من التفاعل فيما بينه وبين الأرض المعينة ، ينشئ من تفالعله مجموعة من التقاليد والآداب والنظم والفنون والعادات فيكنمل بحضارته أمة . ويحمل الأطفال منذ الميلاد حضارة أمتهم نقلا عن امهاتهم اللواتي حملنها أطفالا عن اطفال عن أطفال ..
نطبق على أمتنا العربية ، انتقلت من الطور القبلي الى الطور الشعبي بالهجرة الى المدينة ( الوطن الخاص بأهل المدينة ) فأصبح أهل المدينة شعبا . وتفاعل شعب المدينة عن طريق الدعوة والفتح بشعوب محيطة وقبائل أخرى وحدها الاسلام بعد تعدد ، آمنها بعد خوف وحماها بعد اباحة لكل غزو ، وتركها قرونا تتفاعل فيما بينها وبين الارض المشتركة ، أداتها لغة واحدة ، وحدودها نظام واحد ، الى أن اكتشف الذين كانوا شعوبا متفرقة ، خلال قرنين من الدفاع عن الارض المشتركة ضد الغزو الصليبي ، أنهم أمة مكتملة ذات حضارة عربية تميزهم كأمة عن باقي الامم وباقي الشعوب نتيجة نفاعل الاسلام الحضاري مع ما لا ينقصه من الحضارات السابقة على التكوين القومي ..
وبعد ... ؟
وبعد فان الحضارة العربية التي أنشأتها الامة العربية التي أنشأها الاسلام تتضمن ـ مثل كل الحضارات ـ ضوابط للسلوك ، ومعايير للقيم ، وحدودا للنظر خاصة بها ، ومن بينها مؤشر منهجي حضاري ... هو ذلك الذي يتبعه العربي على السجية بدون افتعال وربما بدون أن يعي به .
من اين اكتسبه ؟
من الاسلام .
من القرآن على وجه التحديد .
قلنا في كتاب " نظرية الثورة العربية " أولى مشكلات المنهج ... هي " الحتمية " . انضباط الأشياء والظواهر بقوانين حتمية . ولنلاحظ من الآن أن تعبير " القوانين " كما نستعمله يساوي في دلالته تعبير " النواميس " أو تعبير " السنن " كما هي مستعملة في الفكر الاسلامي . وعليه فان الحتمية في الاسلام لا يمكن لمسلم أن ينكرها ويبقى مسلما ، فقد اتخذ الاسلام من انضياط نظام الكون ونبات نواميسه حجة على الذين لا يؤمنون . ودعا الناس الى ان يتأملوا ما في الكون من آيات أو سنن لا تتبدل " سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا " ( الأحزاب 62 ) . " ولا تجد لسنة الله تحويلا " ( الاسراء 77 ) . " أفلم ينظروا الى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج ، والارض مددناها وألقينا فيها رواسي ، وأنيتنا فيها من كل زوج بهيج " ( ق 6 و 7 ) ." انظر الى ثمره أذا اثمر وينعه " ( الأنعام 99 ) . " فالق الاصباح وجعل اليل سكنا والشمس والقمر حسبانا " ( الانعام 96 ) ... والآيات القصص / 71 ، 72 والرعد /4 ، والروم 22 / وفاطر / 27 و 28 ، والجاثية / 43 ، والبقرة / 164 ، والذاريات / 20 و 21 ، وفصلت / 53 ، والانبياء / 22 ..
في نطاق هذا الكون المنضبط وحركته بسنن لا تتبدل ، من القادر عن تغييره وتطويره ؟ ..
يجيب القرآن أنه " الانسان " . هو الفاعل الصانع المغير المطور ولا تكون الطبيعة المادية الا موضوع فعله . ويستعمل القرآن تعبير " السخرة " للدلالة على هذه العلاقة . وهو تعبير قوي الدلالة على أن الانسان هو صانع واقعه والقادر المسؤول عن تغييره . " ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض " ( الحج 65 ) . " وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار " ( ابراهيم 32 ) . " وسخر لكم الشمس والقمر {ائبين وسخر لكم الليل والنهار " ( ابراهيم 33 ) . " وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا ، وتستخرجوا منه حلية تلبسونها " ( النحل 14 ) . " وسخر لكم ما في السماوات وما في الارض جميعا " ( الجاثية 13 ) . " .. الخ . ويقطع القرأن في أن شيئا من الواقع لن يتغير الا اذا تغير الناس . " ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " ( الرعد 11 ) . " وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأعلها مصلحون " ( هود 117 ) .
لذلك هو المنهج الاسلامي في كلياته .
قاعدته الأولى أن كل الأشياء والظواهر منضبطة حركتها بقوانين أو سنن حتمية .
وقاعدته الثانية : أنه في نطاق هذه الحتمية يكون الانسان حرا في تغيير واقعه .
وقاعدته الثالثة : أن الانسان وحده القادر على التغيير والمسؤول عنه .
خلال قرون طويلة من الممارسة استقر هذا المنهج في وعي الناس فأصبح " قيمة " تضبط مواقعهم بدون حاجة الى اسناد ديني . ومنه استمدت الحضارة العربية التي نشأت ونمت واكتملت في ظل الاسلام ذلك الطابع الانساني المميز الذي لا يخطئ الباحثون الاهتداء اليه : الانسان هو البداية . ولقد حصن هذا المنهج الامة العربية ضد كافة المناهج المادية أو المثالية أو النفعية .. ليس ثمة ما يضاف الى صيغته الكلية الا وفاء العرب بما امروا بالوفاء به . تأمل الانسان ودراسته لاكتشاف قوانين حركته منفردا ، ثم قوانين حركته مجتمعا مع غيره . ومع ذلك فسواء أوفوا أو لم يوفوا ، فان حضارته المكونة لشخصيته تزوده حتى بدون أن يعي بمؤشر منهجي هو ان يبدأ نظره الى كل شئ من الانسان ، مؤشر عربي حضاري يوجه المجتهدين في الدراسة الى حيث بدايتها : الانسان ، ويوجه العاملين الى بداية العمل ، الانسان ، ويوجه الراغبين في النصر الى معايير النصر : الانسان .
***
لماذا فشل المسلمون – اذن – في مواصلة تقدمهم الاجتماعي ؟
نصحح السؤال أولاً لأن صيغته غير صحيحة .
نصحح السؤال أولاً لأن صيغته غير صحيحة .
إذ أن الحديث عن الفشل يبدو حديثاً مجرداً من ظروفه التاريخية . فإلى نهاية القرن السادس عشر كانت المجتمعات التي دخلها الاسلام أكثر تقدماً من أي مجتمع آخر . أو على الأقل لم تكن أكثر تخلفاً من غيرها من المجتمعات المعاصرة . فقبل ذلك التاريخ – مثلاً – كانت الحروب الصليبية في بواعثها وفي قواها وفي نظمها وفي أهدافها محكاً للتمايز الحضاري ، ولا نقول العسكري ، بين المعتدين والمدافعين . وكانت تبدو موجة بربرية تحاول اجتياح مجتمع متحضر ، كما اجتاحته موجة غيرها شنها المغول البرابرة . وليس من المنكور أن تلك الحروب الصليبية كانت وساطة ، أو إحدى وسائط ، انتقال الحضارة من العرب الى أوروبا . وهذا لاينفي أنه لم تمض بضعة قرون حتى عادت القوى الأوروبية ففرضت سيطرتها على العالم مسلمين وغير مسلمين . ونحن نعرف أن تلك موجة رأسمالية . ومع ذلك لا نريد أن نحاكمها بما لم نعرفه إلا بعد أكثر من قرن من أنها كانت من أشد الموجات التي اجتاحت العالم عداوة للانسان . فقد استعبدت العالم بجيوش من عبيد الرأسماليين بل نقول انها في نشأتها الأولى كانت ثمرة تقدم علمي لا شك فيه . ولا شك في أن التقدم العلمي تقدم حضاري . هنا بدأ التخلف وهنا فقط يصح طرح السؤال عن الفشل على ان تكون صيغته :
لماذا فشل المسلمون في الدفاع عن مجتمعاتهم ؟
في حدود هذا الحديث عن المنهج نقول لم يفشل المسلمون . إن الذين فشلوا لم يفشلوا لأنهم مسلمون بل لأنهم لم يوفوا بمسؤوليات ترك لهم الاسلام مسؤولية الوفاء بها . ذلك لأن الاسلام وضع بين أيديهم أسس المنهج وترك لهم استكماله واستعماله .
علمهم أن ثمة قوانين أو نواميس تضبط حركة الاشياء والظواهر حتماً وترك لهم أمر اكتشافها ومعرفة شروط فعاليتها واستخدامها .
وعلمهم أن كل ما في الأرض والسماء مسخر لهم وترك لهم أمر اكتشاف عناصر الأرض والسماء وقواها ومعرفة كيفية تسخيرها لإرادتهم .
وعلمهم أنهم قادرون ومسؤولون عن تطوير واقعهم على ما يريدون وترك لهم إكتشاف مشكلات واقعهم وإمكانيات تغييره وغاية هذا التغيير .
كل هذا لأن الاسلام – كما هو – دين يخاطب الناس كافة ، في كل مكان وفي كل زمان . نقول الاسلام " كما هو " لأننا لا نستطيع ، وما ينبغي لنا ، أن نفهم الاسلام أو أن نحاول فهمه إلا كما هو مطروح في كتابه.
وعلمهم أنهم قادرون ومسؤولون عن تطوير واقعهم على ما يريدون وترك لهم إكتشاف مشكلات واقعهم وإمكانيات تغييره وغاية هذا التغيير .
كل هذا لأن الاسلام – كما هو – دين يخاطب الناس كافة ، في كل مكان وفي كل زمان . نقول الاسلام " كما هو " لأننا لا نستطيع ، وما ينبغي لنا ، أن نفهم الاسلام أو أن نحاول فهمه إلا كما هو مطروح في كتابه.
وهو مطروح في كتابه على أنه خطاب إلى الناس كافة ، في كل زمان وفي كل مكان . وما كان الاسلام ليكون على هذا الوجه الانساني الشامل ، بغير قيود من المكان أو الزمان ، لو لم يترك للناس في كل مكان وفي كل زمان أن يتأملوا ويتعلموا ويكتشفوا ويعملوا ويغيروا وفاء منهم بمسؤوليات عن التطور الاجتماعي طبقاً لواقعهم وظروفه التاريخية .
وهكذا ، إذا كنا قد قلنا أن ما يسبق المنهج من مقولات ميتافيزيقية لا يؤثر في صحته إن كان صحيحاً علمياً ، فإن ما يلي المنهج من أحكام في منطلقات وغايات وأساليب التطور الاجتماعي متروك للاجتهاد . نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ، أما ما هو المعروف وما هو المنكر فعلينا أن نكتشفه في واقعنا فنعرفه أو ننكره . وقد بدأ الاجتهاد مع بداية الاسلام . وكان النبي يجتهد فيما لم يأت به نص وكان يخطيء أحياناً في اجتهاده فيعتذر لأصحابه بأنهم أدرى بأمور دنياهم . ومن بعده اجتهد المسلمون في أمور دنياهم وصاغوا اجتهاداتهم في آراء وأفكار ومذاهب عديدة ومختلفة ومتصارعة في كثير من الأوقات . وكل اجتهاد ينسب الى صاحبه ولو أسماه مذهباً اسلامياً . وصحته انه مذهب ( نظرية ) في الفكر الاسلامي . ويتحملون مسؤولية ما في المذاهب من قصور ولهم فضل ما فيها من توفيق . وهي مذاهب لا شاملة في المكان ولا عامة في الزمان ولم تفلت من قانون التطور الحتمي . فاختلفت من مكان الى مكان ومن زمان الى زمان في المكان الواحد . كذلك فعل الامام الشافعي فغير في مذهبه عندما انتقل من العراق الى مصر . ومن قبله أوقف عمر نفاذ نص في القرآن ( المؤلفة قلوبهم ) في ظرف تاريخي لم يكن مسبوقاً في حياة المسلمين . ومن هنا لا يمكن فهم تلك الاجتهادات والمذاهب بعيدة عن ظروفها التاريخية الراهنة إلا ان تكون دعوة الى نظرية ( مذهب ) محددة اجتهد اصحابها فجاءت موفية بمسؤوليتهم كمسلمين عن بيان منطلقات وغايات واساليب التطور الاجتماعي كما يتطلبها واقع مجتمعاتهم . وهو اجتهاد يحتاج الى عناء فيهرب منه الكثيرون .
وهكذا ، إذا كنا قد قلنا أن ما يسبق المنهج من مقولات ميتافيزيقية لا يؤثر في صحته إن كان صحيحاً علمياً ، فإن ما يلي المنهج من أحكام في منطلقات وغايات وأساليب التطور الاجتماعي متروك للاجتهاد . نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ، أما ما هو المعروف وما هو المنكر فعلينا أن نكتشفه في واقعنا فنعرفه أو ننكره . وقد بدأ الاجتهاد مع بداية الاسلام . وكان النبي يجتهد فيما لم يأت به نص وكان يخطيء أحياناً في اجتهاده فيعتذر لأصحابه بأنهم أدرى بأمور دنياهم . ومن بعده اجتهد المسلمون في أمور دنياهم وصاغوا اجتهاداتهم في آراء وأفكار ومذاهب عديدة ومختلفة ومتصارعة في كثير من الأوقات . وكل اجتهاد ينسب الى صاحبه ولو أسماه مذهباً اسلامياً . وصحته انه مذهب ( نظرية ) في الفكر الاسلامي . ويتحملون مسؤولية ما في المذاهب من قصور ولهم فضل ما فيها من توفيق . وهي مذاهب لا شاملة في المكان ولا عامة في الزمان ولم تفلت من قانون التطور الحتمي . فاختلفت من مكان الى مكان ومن زمان الى زمان في المكان الواحد . كذلك فعل الامام الشافعي فغير في مذهبه عندما انتقل من العراق الى مصر . ومن قبله أوقف عمر نفاذ نص في القرآن ( المؤلفة قلوبهم ) في ظرف تاريخي لم يكن مسبوقاً في حياة المسلمين . ومن هنا لا يمكن فهم تلك الاجتهادات والمذاهب بعيدة عن ظروفها التاريخية الراهنة إلا ان تكون دعوة الى نظرية ( مذهب ) محددة اجتهد اصحابها فجاءت موفية بمسؤوليتهم كمسلمين عن بيان منطلقات وغايات واساليب التطور الاجتماعي كما يتطلبها واقع مجتمعاتهم . وهو اجتهاد يحتاج الى عناء فيهرب منه الكثيرون .
أياً ما كان الأمر فالاختلاف في الاجتهاد وتعدد المذاهب ( النظريات ) في الفكر الاسلامي لم يكن خروجاً على المنهج أو مساساً بوحدته . لأن ما يتحقق في كل واقع على حدة هو حصيلة معالجة ذلك الواقع على ضوء المنهج . فإن اختلف الواقع اختلفت الحصيلة – الفكرية او العلمية – بالرغم من وحدة المنهج . ولما كان الاسلام لم يلبث أن امتد الى مجتمعات مختلفة في واقعها ومدى تطورها فإن حصيلة التطور الاجتماعي كانت مذاهب مختلفة وممارسة مختلفة ايضاً . فلم يكن هناك مجتمع اسلامي واحد حتى نستطيع أن نقول أن المسلمين عامة فشلوا بما يتضمنه هذا من ايحاء بانهم فشلوا لأنهم مسلمون .
وقد نجح المسلمون في تطوير حياتهم الاجتماعية ، أينما كانوا ، طوال الفترة التي كانوا فيها محتفظين بحريتهم في اكتشاف قوانين الطبيعة وقوانين التطور الاجتماعي . يوم أن كان العلم عبادة والاجتهاد مثوباً ولو كان خاطئاً . وعندما فقدوا حريتهم توقفوا عن التقدم بمعدل السرعة التي كانوا قد بدأوا بها مسيرتهم الحضارية فسبقهم غيرهم . وقد فقدوها في – مجتمعنا – يوم أن تستر الاستبداد بالخلافة وأصبح للأحاديث الموضوعة وللإجماع المصطنع وللقياس الخاطىء وللمذاهب الخاصة قدسية النص القرآني . وأطلقت الأحكام من حدودها في الزمان والمكان ، وتحولت دولة المسلمين إلى دولة كهانة يحكمها الخلفاء ورجال الدين بدلاً من العلماء والفلاسفة والمفكرين والباحثين . فتجمدت المذاهب في الشريعة على مضامين كسبتها في مراحل تاريخية سابقة ، فأصبحت قاصرة عن أن توفي بالحلول الصحيحة لمشكلات الحياة في مراحل تالية . فقام جمودها عائقاً في سبيل التطور . وهكذا كان قد قفل باب الاجتهاد ، استبداداً ، عائقاً دون تقدم المجتمعات الاسلامية ، وليس قفل باب الاجتهاد من الاسلام في شيء بل هو يناقض منهجه ..
( كانت هذه مقدمات عن المنهج ، ولمعرفة اسس المنهج الانساني عند عصمت سيف الدولة يمكن الرجوع الى كتاب الاسس ) .
ذهاب الى صفحة عصمت سيف الدولة
ذهاب الى صفحة عصمت سيف الدولة
بورك فيكم.. عمل طيّب
ردحذف