بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 22 أبريل 2016

الوحدة العربية بين دعاتها وأعدائها ..




   الوحدة العربية بين دعاتها                وأعدائها ..






  تمهيد :


في البداية كانت فكرة هذا الحديث بسيطة للغاية ، لا تتجاوز مضامينه محتوى اي مقال يتحدث عن ذكرى الوحدة بين مصر وسوريا .. وحتى العنوان لم يكن محددا على أي خلفية ،  ولم يكن هناك أي تخطيط مسبق لاي ناحية من نواحي الكتابة في هذا الموضوع بالكيفية التي انتهى اليها الحديث شكلا ومضمونا .. فقد كانت الأفكار وليدة اللحظات التي يكتب فيها المقال قبل النشر مباشرة والذي يبدو في كل مرة أنه الأخير .. وقد كانت مادة الموضوع تكتب وتنشر في حينها ، قبل أن يُعرف محتوى الحلقة اللاحقة ، وهكذا  أصبحت عملية النشر ذاتها تحول دون امكانية الرجوع الى المحتوى لتعديله ، رغم أهمية الموضوع وجديته .. وقد كان فيه ـ وهو على هذا الوجه ـ  من الطرافة الشئ الكثير ، اذ تذكرت بعد اختيار العنوان ونشره بتلك الكيفية ، خلال أربع حلقات متتالية ، وجود كتاب للاستاذ ساطع الحصري يحمل نفس العنوان تقريبا ، منشور منذ الخمسينات بعنوان " العروبة بين دعاتها ومعارضيها " .. وعندها أدركت أن الموضوع بدأ يكبر ، ويزداد أهمية ، فهو لم يعد مجرّد حديث عن تجربة هي بدورها تستحق الدراسة ، والوقوف ، والتأمل الشئ الكثير من أهل الذكر من الباحثين والمفكرين .. فتوقفت عن الاسترسال في نشر الأفكار ، دون التوقف ـ بما أملك من امكانيات متواضعة ـ عن الكتابة فيه .. ثم عدت للنشر المتواصل لأكثر من عشرين حلقة .. الى ان وجدت الحديث عن الحركة القومية يأخذني معه ويدخلني في شعاب كثيرة ، وعرة ، من شعابها الملتوية ، حتى توغلت  في أغوارها .. فزادني ذلك اصرارا ورغبة في اتمام هذا الحديث ، الذي يستحيل فيه التعبير عن اي رأي أو موقف يتعلق بالمستقبل العربي دون الاهتمام بالآداة اللازمة لبناء هذا المستقبل : " الحركة القومية " ذاتها .. غير ان الحرص على تجنب الخلافات والصراعات المجانية داخلها كان دائما من أكثر اسباب المنع أهمية ، في ظل واقع التشتت والانهيار الذي تشهده الامة بشكل عام ، والحركة القومية بشكل خاص ..
وفي النهاية ، فان الفرصة التي جاءت على هذا الشكل ، انتهت بهذا المضمون .. فكانت فرصة حقيقية لتحرّر الأفكار ، وخروجها من السجن الى الحرية ..   !!






                       ****


   الوحدة العربية بين دعاتها                وأعدائها ..



    (1) .

لم تكن الوحدة العربية بين مصر وسوريا في 22 شباط 1958 مجرّد لحظة تاريخية عابرة في تاريخ العرب ، أو ردّة فعل انفعالية على أحداث عارضة عاشتها الأمة .. ولا هي مجرّد صدفة مجهولة ساقتها الأقدار دون سابق اعلام .. بل هي في واقع الأمر وليدة واقع تاريخي عاشته الامة العربية على مدى قرون متعاقبة ، ولّد حاجة حقيقية الى الوحدة كأسلوب وحيد لمواجهة التحديات والاخطار التي كانت تداهم الأمة باستمرار ، مستهدفة كيانها ووجودها بأشكال متعدّدة ، ولم تنقطع الى حدود تلك اللحظة التاريخية الفاصلة منتصف القرن العشرين .. كما ولـّـدت التجارب والمعاناة العربية الطويلة  التي عاشتها الامة وهي تقاوم دفاعا عن وجودها ، مشاعر عميقة بوحدة الهدف والمصير المشترك .. وقد كانت تسير الى الوحدة على مر العصور كلما داهمتها الأخطار ، التي لم تستطع أن تردّها في كل مرّة الا حينما تكون قادرة على فرض الوحدة ولو جزئيا بين بعض اقطارها .. وهكذا كانت الوحدة العربية الأولى بين مصر وسوريا تعبيرا حقيقيا عن تلك الحالة التاريخية ، وردا على الأخطار المحدقة بمصر وسوريا في نفس الوقت .. 
غير ان تلك الوحدة التي أصبحت تعني في زمن النفط والثروات الطائلة ، سحب العديد من الامتيازات بالنسبة للعائلات الحاكمة في كل الأقطار الغـنية بعد أن صارت تستحوذ على الثروة والسلطة ، فكان لا بد لتلك القوى أن تكون من ألدّ أعدائها .. كما كان لا بد لها ان تستقوي بالأجنبي للحفاظ على امتيازاتها ، وهو ما يستوجب اقتسام الثورة مع من يحميها من ناحية ، ومواجهة كل من يدعو لتلك الفكرة من ناحية ثانية ...
وقد كان المستفيد من التجزئة المفروضة على الواقع العربي خلال النصف الأول من القرن العشرين ، أطراف متعدّدة أهمها الدول النفطية والاستعمار العالمي والدولة الصهيونية الناشئة .. وكان جمال عبد الناصر وجمهورية مصر العربية في طليعة القوى الداعية الى الوحدة ، التي كانت تمثل ـ في نظره ـ حصنا حصينا لمواجهة الأخطار ، وركيزة اساسية لبناء نهضة عربية شاملة في آن واحد .. وهكذا كان التنافس والصراع على أشده بين من يدعو لها ويعـمل على تحقيقها بكل الوسائل الشريفة الممكنة ، وبين من يعارضها ويعمل على إفشالها بكل ما لديه من وسائل غير شريفة .. فكانت الغلبة الى حد الآن لأعداء المشروع الوحدوي الذين لم يكتفوا بالوقوف عند حد الانفصال، بل استمر عملهم التخريبي داخل الأمة حتى أوصلوها الى ما هي عليه في الوقت الراهن من فرقة وصراعات طائفية وتفكّـك .. يحول دون إمكانية السعي لانجاز أي عمل وحدوي من جديد ...

                       ****
    (2) .

لا شك أن القوى المناهضة للمشروع الوحدوي في الوطن العربي  لم  تدّخر جهدا لتعمل على إفشاله ، وخلق مناخ عربي مشحون بالخلافات ، ملئ بالمتناقضات والمعوّقات  التي يستحيل معها تحقيق أي نوع من أنواع التعاون والتكامل العربي الذي يمكن أن يسبق عادة أي خطوة تمهيدية نحو التقارب والوحدة ..
فالدول العربية التي ظهرت خلال الحقبة الاستعمارية الأخيرة للوطن العربي بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية ، قد أصبحت بالنسبة للإقليميين الذين ورثوا تلك التركة بكل ما دسّه فيها الاستعمار من تشويه ، كيانات مستقلة ذات سيادة ووجود قانوني معترف به وغير قابل للإلغاء تحت أي ظرف .. ولا تربطها ببعضها سوى علاقات الجوار أو بعض المراحل التاريخية العابرة في حياة شعوبها بعد أن أصبحت جزءا من الماضي الجامد ..!! وحتى اللغة والدين والتاريخ والحضارة والاستقرار والعيش المشترك الذي دام أربعة عشر قرنا متواصلة من التفاعل والانصهار والوحدة ، قد أصبح كله مجرّد ذكريات تفيض أحيانا ببعض العواطف الجياشة التي لا يترتب عنها سوى التعبير عن حرارة اللقاء ، بالقبلات والمجاملات وواجب الضيافة اللائق بالأشقاء .. أما التفكير في المستقبل والحديث عن الوحدة في زمن التكتلات فهذا ـ في نظر الاقليميين ـ موضوع  قديم لم يعد يقبله الواقع العربي الملئ بالصراعات والمتناقضات .. وحتى الجامعة العربية التي أنشئت خصيصا لضرب المشروع الوحدوي وحراسة التجزئة ، لم تعد ذات فائدة في ظل تلك الانقسامات التي تعيشها الأمة .. وهو ما يقتضي اقامة تكتلات إقليمية بديلة : خليجية ، وافريقية ، و بحرـ متوسطية  ، وشرق ـ أوسطية .. تزيد من التشتت والفرقة ، وتذهب بعيدا ليس عن موضوع الوحدة العربية فقط ، بل وحتى عن فكرة التضامن العربي في حده الأدنى .. !!
وها هو الواقع العربي كما نراه اليوم .. وقد أصبح مسرحا للصراعات العربية ـ العربية القائمة على خلفيات متعدّدة دينية ومذهبية وعرقية وطائفية ، تحرّكها نفس القوى التي كانت تقاوم المشروع الوحدوى منذ الخمسينات والستينات الى اليوم .. فاين القوى الوحدوية من كل هذا  .. ؟؟
للحديث بقية ..


                      ****
(3) .

لقد قام أعداء المشروع الوحدوي بالواجب الذي ينتظره منهم أتباعهم ومناصريهم على أكمل وجه حتى نجحوا في تحقيق ما كانوا يخطّطون له في الداخل والخارج وصولا الى :
ـ المحافظة على كيانات الدول العربية وفي المقدمة منها تلك الدويلات النفطية الغنية في الخليج العربي ..
ـ المحافظة على استمرار الحكم فـيها تحت يد تلك العائلات الحاكمة العاجزة عن الاستمرار بدون حماية ..
ـ المحافظة على الوجود الاستعماري وحماية مصالحه بأي ثمن  ..
ـ المحافظة على وجود الكيان الصهيوني داخل الجسد العربي كأفضل حاجز بشري وجغرافي معيق للوحدة ..
ـ محاربة كل فكرة داعية للوحدة بكل الوسائل وفي المقدمة منها الدين ، وزرع الفتنة بين جميع المكوّنات الاجتماعية التي يستحيل أن تقوم بدونها فكرة العروبة  .. وهو ما حصل فعلا في نهاية المطاف ، داخل الوطن العربي الذي أصبح اليوم مهددا في وجوده بسبب تلك الصراعات القائمة في العديد من اقطاره ، بينما تبدو بعض الاقطار الأخرى في حالة الهدوء الذي يسبق العاصفة ..     
ومهما كانت خطورة الوضع في الوقت الراهن ، فنحن الآن أمام حقيقة تقول بفشل كل المشاريع الوحدوية .. وفي نفس الوقت تضع القوميين في موقف لا يحسدون عليه وهم يدافعون عن وحدة الدول القطرية التي كانوا لا يعترفون بشرعية وجودها ، حفاظا على وحدة المجتمع الذي اصبح مهددا بتفكك نسيجه الاجتماعي وزوال وحدته التي يقوم عليها وجوده ، بسبب تلك الصراعات الطائفية والعرقية والمذهبية التي يثيرها أعداء المشروع القومي ... وكأننا بالحركة القومية وقد أصبحت جسدا بلا روح وهي في الأصل صاحبة الدور الريادي والتارخي الذي اختفى منذ الستينات الى حد الآن وقد كان مفترضا ان تكون صانعة المستقبل ، وقائدة الصفوف بحكم طبيعـتها ووظيفتها ورصيدها النضالي الذي تركه لها زعيمها الراحل جمال عبد الناصر وهي تملك أعرض قاعدة جماهيرة بين المحيط والخليج ..

غير انه ورغم كل ما يقال عن ذلك الفشل فان مشروع الوحدة قد صار أكثر واقعية ، وأكثر ضرورة في واقعنا المتداعي  ، للابقاء على ما فيه من اختلاف وتنوّع ، يستحيل على أي مشروع آخر أن يستوعبه  .. وهو ما يؤكد أن العيب ليس في المشروع بل في الداعين اليه ..

                       ****
 (4) .

حينما غيّب الموت الزعيم الراحل جمال عبد الناصر في أيلول سبتمبر سنة 1970 ، كان قد مرّ سبع سنوات على تلك الصيحة الشهيرة التي أطلقها ـ رحمه الله ـ سنة 1963 بعد فشل المباحثات الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق ، معلنا إخلاء مسؤوليته عن تحقيق ذلك المشروع من موقعه في السلطة ، مناديا الجماهير العربية والقوى الوحدوية في الوطن العربي بعدم الانتظار وعدم التعويل على الدول الاقليمية  في بناء أي مشروع وحدوي ، والتحرّك مباشرة لتنظيم صفوفها ، وأخذ المبادرة الشعبية لبناء الحركة العربية الواحدة القادرة وحدها على تحقيق ذلك الحلم من خارج أسوار الحكم في الدول الاقليمية التي تمنعها ـ موضوعيا ـ مصالحها ، ودساتيرها وأطرها المغلقة ، من تحقيق تلك الغاية حتى وان كان يقودها القوميون .. فضلا عن المعوّقات التي تلاقيها من المجتمع الدولي وقوانينه التي تعتبر كيان تلك الدول الاعضاء مقدّسا لا يمكن المساس به .. مؤكدا في نفس الوقت على الاسلوب الثوري الذي يقدر وحده على تحقيقها حينما تتوفر الارادة والآداة الجماهيرية القادرة على فرضها .. وقد مات الزعيم الراحل رحمه الله وهو على ذلك المبدأ ، يعمل ـ من جهة ـ  بامكانيات الدولة الاقليمية لتحقيق ما يمكن تحقيقه لمواجهة التحديات التي كان يفرضها الواقع الدولي والاقليمي على مصر .. ومن جهة ثانية من خلال إعطائه الضوء الأخضر للشروع في بناء التنظيم القومي أواخر الستينات ، متخطيا كل العقبات الدستورية التي تمنع قيام ذلك التنظيم باعتبار تناقض غايته مع الوجود القانوني للدولة مثلما ينص عليه الدستور ، وهو ما لا تستطيع اي قيادة أن تقبله أو تقدم عليه ، بدون تلك الروح القومية والارادة السياسية  التي تملكها  مصر في ذلك الوقت ..  
وفي مثل هذه الظروف التي عاشتها الامة العربية أواخر الستينات كانت الجماهير العربية تعيش حالة من الاحباط  بسبب الهزيمة العسكرية التي منيت بها الدول الاقليمية ، لعل اصدق مثال على تلك الحالة ، هو ما عرفته حركة القوميين العرب ، كواحدة من ابرز الحركات القومية في الوطن العربي في تلك الفترة ، من مراجعات وتحوّلات وانقسامات تحت وطاة الهزيمة وفشل المشاريع الوحدوية على المستوى الرسمي بين الدول الاقليمية ، أدت في النهاية الى تحوّل أغلب قياداتها من الفكر القومي الى الفكر الماركسي ، أو الى المزج بين هذا وذاك .. وفي تلك الاثناء استطاع حزب البعث الموجود في أقطار المشرق العربي ، من الوصول الى السلطة في كل من سوريا والعراق ، وهو الذي كان قادته البارزين ينادون بالوحدة ويروّجون لافكارهم الوحدوية داخل اقطارهم وخارجها ، حتى وصل صداها الى كل الأقطار  .. وقد كان يفترض أن يقوم  حزب  البعث بملئ الفراغ الذي تركه ذلك الغياب المفاجئ للزعيم الراحل جمال عبد الناصر على المستوى القومي ليقود الجماهير العربية نحو غايتها المعلنة .. 
غير ان شيئا من ذلك لم يتحقق .. واتجهت الأمور الى الاسوء بانقلاب مصر على المشروع القومي ، وخروجها نهائيا من الصف العربي الى صف الأعداء ، الذين أغراهم انتصارهم في تحييد مصر ، وأصبحوا يخططون لهدم أي مشروع نهضوي حتى على المستوى الإقليمي .. 

                        ****
                                       (5) .



خلال التفكير في مادة هذه الحلقة تذكرت عنوان كتاب للمفكر القومي أبو خلدون ساطع الحصري كتبه منذ  الخمسينات من القرن الماضي بعنوان " العروبة بين دعاتها ومعارضيها "، ففوجئت باختيار نفس العنوان تقريبا .. وهو ما جعلني أتصفح الكتاب من جديد بعد مرور عشرات السنين على قراءته .. وهنا تبادر الى ذهني سؤال مهم : هل أن طرح الأستاذ ساطع الحصري لنفس الفكرة منذ أكثر من نصف قرن ، معناه أن الوحدة تتعرض للفشل منذ ذلك التاريخ ..؟
والواقع أن المسألة لم تكن بهذا الشكل ، حيث كانت مجمل الافكار  التي طرحها الأستاذ الحصري ، لا تتحدث عن الفشل ، بقدر ما تتناول الرّد على المشككين في الأسس التي يمكن إن تقوم عليها الوحدة ، مؤكدا على وحدة الوجود والمصير القومي ، مفـندا تلك الأفكار الإقليمية ، لعدد من الكتاب ، والشخصيات الأدبية والسياسية ، مستشهدا في نفس الوقت ببعض التجارب التي عاشتها الشعوب في الشرق والغرب لتأكيد فكرة الوحدة ..
ورغم أن الصدفة كان لها أحكامها في اثارة هذا الجانب من الحديث ، الا أننا قد نجد له شبها من خلال تكرار نفس التجربة مع أعداء آخرين يتصدون اليوم لمشروع الوحدة – باسم الدين – وهم لا يملكون الدليل الشرعي القاطع ، بل نجدهم يتخبطون في المتناقضات ، متحصنين بالاسلام من خلال الشعارات الجوفاء حتى يظهر كل من يخالف رأيهم مخالفا للدين .. !!
والحقيقة أن ما يفعله هؤلاء في عصرنا بجميع المخالفين لآراءهم ، يذكرنا برجال الدين في اوروبا الذين ابتدعوا نظرية الحق الالاهي لفرض ارادتهم على العام والخاص ، واستطاعوا في فترة من الفترات ان يقارعوا بها السلطة السياسية قبل الرعية .. حتى تمكنوا في بعض الفترات الاخرى من فرض سلطتهم المطلقة على المجتمع والدولة ، فأمعـنت الكنيسة في استغلال الدين حتى صار مدانا عند شريحة واسعة من الناس ، وكان سببا مباشرا في انتشار الالحاد في أغلب المجتمعات الغربية .. وقد أثارت تلك النزعة الالحادية التي اجتاحت اوروبا ، ردود فعل سلبية تجاه ظاهرة التدين نفسها بسبب الاستغلال السيئ للمؤسسة الدينية من طرف رجال الدين  ..
والواقع فان السعي للسيطرة على الكنيسة لم يكن مجرد سلوك نابع من حرص رجال الدين على تطبيق العقيدة الدينة ، بل كان يمثل محاولة للهيمنة على المجتمع اجتماعيا واقتصاديا من خلال المؤسسة الدينية ، الشيئ الذي جعل مثل هذا الواقع ، يُـفرز علاقات متوتـرة  بين جميع الاطراف ، ومناخا سياسيا واقـتـصاديا وثقافـيا يغلب عليه الصراع  بين السلطة السياسية والكنيسة تواصل قـرونا طويلة ، شهدت خلالها المجتمعات تقلبات عديدة بين تحالف وتقارب أو تناحر وتنافر، ضاعفت من معاناة الناس وتضحياتهم ، ولم يتخلصوا منها الا بالثورة التي ادت في النهاية الى تصحيح العلاقة بين الكنيسة والدولة من خلال اضطلاع كل مؤسسة بمهامها دون افراط ولا تفريط ..
بالنسبة لواقعنا العربي فان الامر يختلف كثيرا عن هذا الوضع ، حيث من الواضح أن الاسلام لا يمكن ان يقبل أبدا بفكرة الكهانة والوصاية على الدين بتلك الطريقة الشائهة التي عرفتها أروربا .. وما وجود الصراع بين الفكر التقدمي والفكر الرجعي في واقعنا الا دليلا على هذا .. ومن هذه الزاوية ، وفي تلك الحدود ، يمكن الحديث عن الفشل ، في اطار قراءة الواقع الذي عاشته الأمة العربية منذ الخمسينات الى الآن ، .. أي فشل التجارب الوحدوية وما رافقها من أخطاء ارتكبها ـ أولا وقبل كل شئ ـ أصحاب الشأن المعنيين بتحقيق ذلك المشروع  ..
والواقع ، فان التجربة تؤكد أن الفشل في تحقيق الوحدة  في الوطن العربي لم يكن بسبب رفض الفكرة على المستوى الشعبي .. بل على العكس من ذلك ، فان تلك الفكرة هي التي حققت أكثر رواجا بين الجماهير العربية من المحيط الى الخليج طوال فترة الخمسينات والستينات .. ولعل الظروف التي حفت بقيام وحدة 1958 أكبر دليل على صحة هذا القول  ..
 فلماذا لم تتحقق الوحدة اذن منذ أكثر من نضف قرن مرت على وجود الأنظمة القومية ..؟
ـ فقد تأسست حركة القوميين العرب منذ سنة 1948 ..
ـ وتأسس حزب البعث العربي الاشتراكي منذ بداية الأربعينات ليتم الإعلان عنه رسميا بعد توحيد أجنحته في سنة 1947 .
ـ ثم قامت ثورة 23 يوليو الوحدوية  في مصر منذ سنة 1952 .
ـ وقد وصل حزب البعث في سوريا إلى السلطة منذ آذارـ مارس 1963 ، ثم في العراق في شهر تموز 1968.
ـ وقد تمكن الضباط الأحرار في ليبيا من الوصول إلى السلطة منذ سبتمبر 1969 ..  
فلماذا لم تتوحد تلك الأقطار التي حكمها القوميون على أقل تقدير ؟ وهل كان الفشل في تحقيق هدف الأحزاب القومية وأنظمتها القائمة على مدى أربع عقود ، يعود كله إلى المؤامرات الخارجية ..؟
بالتأكيد لا .. فما كان لأي قوة في العالم أن تمنع قيام الوحدة واستمرارها بين قطرين عربيين ، لو توفـّرت الإرادة  الحقيقية بين القوى القومية الحاكمة طوال تلك الفترة .. وهو ما يحمّـلها ـ وحدها ـ المسؤولية كاملة في فشل مشروعها ...

                       ****
(6) .

لا شك أن ما وصلت اليه الامة العربية اليوم من فرقة وتشتت وصراعات لا تقع المسؤولية فيه كاملة على القوى المعادية والمعتدية وحدها .. بل لعل جزءا كبيرا من تلك المسؤولية تتحمله بالدرجة الاولى العديد من القوى الوحدوية التي وصلت الى السلطة في بعض الاقطار مثل سوريا والعراق وليبيا .. وهي التي سايرت الواقع في كثير من الاحيان ، ودخلت لعبة الصراعات العربية ـ العربية بين الدول الاقليمية وداخلها ، طلبا للزعامة على المستوى القومي ، والانفراد بالحكم والبقاء فيه أكثر ما يمكن من الوقت على المستوى القطري .. وقد كان ذلك الخيار سببا في وقوع تلك الصراعات العنيفة بين رفاق الدرب الذين حوّلتهم المصالح الى أعداء يتبادلون الاتهامات ، ويتوعّد البعض منهم بعضهم الآخر، ويلاحقه في الداخل والخارج  .. وهو ما أدّى  الى الانقسامات  التنظيمية ، ثم الى القطيعة ، مثلما حصل داخل حزب البعث الذي انقسم الى شطرين : شطر في سوريا وشطر في العراق   وفي بقية الاقطار احزاب بعثية تابعة لهذا القطر أو ذاك  .. وهكذا فرّطت تلك القوى في الكثير من الفرص التي كان بالامكان استغلالها في تحقيق الوحدة الحقيقية  لولا تغليب المصالح القطرية والحزبية بعدما وصلت الى السلطة في كلا القطرين .. ثم سرعان ما تحوّلت الى قوى اقليمية مضادة للوحدة لا تتردّد في التنكيل بالوحدويين حينما لا يعبّرون عن الولاء لهم ، أو حينما ينتقدون سياساتهم المناقضة لشعاراتهم المرفوعة الخ .. ورغم أن الأنظمة القومية التي تولت السلطة في ليبيا والعراق وسوريا قد سعت الى بناء دول قطرية قوية تقوم على نهضة علمية مثلما فعل الشهيد الراحل صدام حسين .. ورغم أن تلك الأنظمة قد تعرّضت بالفعل للمؤامرات والدسائس من جميع القوى المناهضة للوحدة وللمشروع القومي مثلما حصل لليبيا منذ الثمانينات الى الآن ، والعراق منذ بداية التسعيانت ، ومثلما يحصل الآن لسوريا منذ اربع سنوات الخ .. غير ان الذي  لم تكن تقدر أن تمنعه كل قوى الشر في العالم هو توفر إرادة سياسية حقيقية تحقق الوحدة بين قطرين متجاورين هما سوريا والعراق اللذان يحكمهما حزب واحد هو حزب البعث منذ أواخر الستينات ، وقبل أن تجرؤ الولايات المتحدة على استهدافهما خلال العقدين الأخيرين .. 
وهكذا فعلا ، قد أهدرت القوى الوحدوية تلك الفرص التي اتيحت لها بداية من وحدة مصر وسوريا سنة 1958 ، مرورا بالوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق التي انتهت فيها المفاوضات الى الفشل بسبب تغلب الولاءات الحزبية على الولاء القومي .. وصولا الى التفريط في امكانية توحيد قطرين كبيرين على الاقل يحملان نفس العقيدة ونفس الايديولوجيا ونفس الافكار الوحدوية ... فكان ذلك التفريط وبالا عليهما قبل أن يكون على الاقليميين ..


                      ****
                                     (7) . 

 مؤكد أن العصر الذهبي للحركة القومية كان خلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي ، أي على عهد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر الذي أصبح عمليا زعيما قوميا لكافة الجماهير العربية من المحيط الى الخليج .. والواقع أن شيئا مشابها  قد حصل تقريبا مع الزعيم الراحل صدام حسين  خلال فترة التسعينات وحتى الغزو الأمريكي للعراق في بداية الالفية الثانية بسبب مواقفه القومية المدافعة عن قضايا الأمة ، وصموده في وجه أعدائها ، ثم تصميمه على رفع التحدي بمواجهتهم جميعا وأولهم دولة العصابات الصهيونية التي دكها بصواريخ العباس والحسين .. ثم بقائه صامدا على ذلك المبدأ ، هو وابنائه ورفاقه حتى رحلوا جميعا شهداء ، في سبيل الدفاع عن شرف العراق والأمة العربية جمعاء .. وهو ما يؤكد أن فكرة الوحدة لا تزال حية ، وأن الشعور القومي داخل تلك الشرائح البسيطة من الجماهير العربية حقيقة ملموسة ، وبالتالي فان القول بأن فكرة الوحدة تقوم على خلفيات ايديولوجـية ، وأن الجماهير الشعـبية لا تريد الحديث عن الأيديولوجيا هو في الواقع حق يراد به باطل ..
هو حق لأن الجماهير المعـنية بالحديث عن المشروع القومي ، هي بالاساس شرائح  مسحوقة تتعرض للاستغلال والتهميش على يد تلك الانظمة الفاسدة ، وبالتالي فان الجماهير العربية لا تجد في رؤوسها مكانا فارغا لكي تملأه بالأفكار النظرية عن الحرية والوحدة والاشتراكية ، بقدر ما تحتاج الى  برامج واقعـية ، ومساهمة عملية تساعدهم على الخروج من معاناتهم  ..
أما الباطل ، فهو حاضر في ما وراء القصد من نوايا سيئة تحاول اقصاء الفكر الوحدوي من ساحة الفعل ، بجعل الحديث عن الوحدة حديثا مثاليا وغير واقعي .. ولعل ما فيه من باطل هو ما يكذبه الواقع في الجانب الآخر حينما نرى مشروع الاسلام السياسي الايديولوجي أيضا ، يصل الى مداه في الفترة الأخيرة ، وهو ليس بسبب الخلفية الدينية وحدها مثلما يصوّر البعض .. ثم أن الفكر القومي في جوهره ليس فكرا خاليا من الدين أو معاديا له  ، بل لعل صحة فهمه للدين ، تتأكد  يوما بعد يوم ، في ظل ما يظهر على أغلب  الحركات الدينية من تطرف ، لا شك انه يساهم في تقديم وترسيخ  تلك  الصورة المشوّهة للاسلام ، والمنفرة من الاسلام السياسي في آن واحد  ..
ولعلّ ما يؤكد صحة هذا الرأي ، هو أن الجماهير العربية قد التفت حول المشروع القومي قبل غيره من المشاريع على مدى عقدين آو أكثر .. وهو ما يؤكد أن ما عرفته الحركات الدينية من نجاح  في الفترة الاخيرة يعود في الواقع الى عدة اسباب ، قد يكون أولها فشل القوى القومية في تحقيق مشروعها ، سواء في مجال تحقيق الوحدة ، أو في مجال حل مشكلة الديمقراطية ..
تلك جوانب مهمّة لا بد من مواجهتها ، وأولها تلك الأسئلة المهمّة : لماذا فشلت الحركة القومية ونجحت الحركات الدينية في الوطن العربي ..؟
للحديث بقية ..


                        ****
                                       (8) .

لنبدأ في هذه الحلقة من حيث انتهينا : لماذ فشلت الحركة القومية ونجحت الحركات الدينية في الوطن العربي ..؟ وهو سؤال  ذو شقين كما يبدو .. شق عن الفشل ، والشق الآخر عن النجاح .. مما يوحي بأن المسألة محسومة على هذا الوجه الذي يسير في اتجاه التراجع الجماهيري عن الولاء للمشروع القومي واتخاذها بديلا عنه المشروع الذي يعادي وحدة الامة ، وبناء نهضتها ، وهو غير صحيح .. اذ أن المجتمعات رغم أنها تتأثر سلبا أو ايجابا أثناء تطوّرها بواقع الناس ، فتشهد تسارعا أو ركودا خلال حركتها ، الا أن ذلك التأثر لا يمكن أن يقود الى نتائج مضادة لاتجاه تطور المجتماعت ، والواقع القومي هو تلك الحصيلة التي أفضى اليها اتجاه االتطور منذ قرون ، فلا يمكن أن يكون المجتمع العربي استثناءا ، ولا بد أن يعود مطلب الوحدة بأكثر حدة في المستقبل رغم كل العقبات الموجودة حاليا وذلك لعدة اسباب أهمها :      
ـ أولا : لأن المشروع القومي هو المشروع الوحيد الجامع ، الذي يمكن أن تحتمي به كل الكيانات الصغيرة ، وهو المشروع الوحيد أيضا ، الذي يستطيع أن يستوعب كل المتناقضات ، ويحافظ على التنوّع والاختلاف ، دون أن يشعر أي طرف بالهيمنة أو بالتهميش في أطار وحدة المجتمع والمصير القومي ، في ظل دولة قومية موحدة ، هي دولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية ..
ـ وثانيا : لأن كل المشاريع المطروحة وأولها المشروع الديني هي مشاريع طائفية ، تفتيتية ، لا تؤدي في النهاية الا الى التفرقة والتقسيم ، إما على أسس ايمانية عند المتطرفين (مؤمنين وكفار مثلما يحدث الآن لبعض الجماعات في سوريا والعراق) أو دينية (مسلمين ومسيحيين ، .. كما حدث في السودان خلال فترة حكم الاخوان ، أو كما يحدث في لبنان منذ عقود مضت ) ، أو على أسس مذهبية ( سنة وشيعة وعلويين ويزيديين .. كما يحدث الآن في العراق واليمن وسوريا ) ، وهكذا الى ما لا نهاية .. على غرار الصراع الطائفي الذي امتد ـ عند البعض ـ منذ الفتنة الكبرى في عهد الخلافاء الراشدين الى اليوم ، بنفس الأحقاد ، ونفس الثارات ، ونفس الأساليب وكأن العالم لم يتغير أبدا ..           
ـ وثالثا : فان المجتمع العربي الذي ظل يواجه موجات الغزو والهيمنة منذ قرون ، لا يمكن ان يكون استثناءا ، فيفرّط  في أمنه واستقراره وثرواته التي تمثل مصدر عيشه حاضرا ومستقبلا .. وبالتالي فانه سيكتشف حتما ـ حتى ولو طالت معاناته ،  بأن التفتيت والتجزئة عاجزين عن توفير تلك الشروط اللازمة لبقائه وتطوّره ، وسيكون مطلب الوحدة اختيار الضرورة ان لزم الأمر، ولو بين أقطاره الأكثر فقرا ، وصراعات ، وتخلفا ..     

قد يتسائل البعض لماذا المقارنة بين الحركات الاسلامية والحركة القومية في حديث عن المشروع القومي ..؟
وقد يتساءل البعض الآخر لماذا لا يتم التقارب بين المشروعين في الوطن العربي ، لتحقيق الوحدة في اطارها القومي ومضمونها الاسلامي ..؟                                                                      
 قد تكون كل هذه الاسئلة مشروعة .. غير أن الهوّة بين المشروعين قد زادت في الآونة الأخيرة ، وبالتالي فان فرص التحالف بينهما باتت ضعيفة الى ابعد الحدود باعتبار الطبيعة الانعـزالية للحركات الاسلامية ، وتطرف شرائح كبيرة منها كما هو حاصل الآن في أماكن متفرقة من الوطن العربي .. فضلا عن ولائها لقوى اقليمية رجعية ، وقوى أخرى دولية معادية لمصالح الأمة ، الى جانب خياراتها الاقتصادية الليبرالية التي تتعارض مع خيارات الحركة القومية ..  

والواقع  فان الحديث عن النجاح والفشل ، يمكن أن يأتي في اطار محاولة الفهم لما يحدث في المجتمع العربي من تقلبات ، قد يرى فيها البعض حسما وانتصارا نهائيا ، وهو غير صحيح .. فالحلول الأكثر تخلفا ، يمكن أن تكون أكثر رواجا في فترة من الفترات .. مثلما حدث في المجتمعات الأوروبية التي عرفت اسوأ أنواع التخلف والتطرف حتى غرقت في تلك الحروب والصراعات الدموية التي راح ضحيتها  عشرات الملايين من البشر .. انتهت كلها بتوحيد أممها ، ثم بانتقالها الى قيادة العالم في مجالات العلم والتكنولوجيا والديمقراطية وحقوق الانسان .. 

                        ****
                                       (9) . 

من الثابت في واقعنا الراهن ، ان الوضع العربي لم ينتقل نهائيا إلى وضع مستقر على مشروع واحد من تلك المشاريع المطروحة .. المتناقضة ، والمتصارعة على الدوام : القومية منها والدينية والإقليمية  والطائفية والعرقية  .. خاصة وأن الصراع القائم بين تلك المشاريع ظل يخضع ـ منذ زمن طويل ـ الى تدخلات متعدّدة الأطراف والغايات والوسائل ، هدفها جميعا صنع المستقبل العربي الذي يتلاءم مع مصالحها ..
ولعلنا من هذه الزاوية بالذات نقف على حقيقة ثابتة تقودنا الى فهم ما يتعلق بانتشار ظاهرة الاسلام السياسي في الوطن العربي خلال العقود الأخيرة ، التي تقف وراءها أطراف عربية في الداخل ، وأخرى خارجية تعمل جميعا على اضعاف الحركة القومية وتشويهها ، سواء من خلال تحميلها مسؤولية فشل التجارب التي عاشتها بعض الأنظمة القومية في كل من سوريا وليبيا والعراق  ، أو من خلال دعم الحركات الرجعـية المناهضة للمشروع القومي ، لتلتقي موضوعيا مع أهداف الاستعمار والصهيونية منذ سايكس ـ بيكو الى اليوم ..   

فالمتأمل ولو لجزء يسير مما تقدمه االمملكة العربية السعودية للحركات الدينية بجميع الوانها داخل الوطن العربي ، بدءا بحركة الاخوان المسلمين منذ الخمسينات ، الى جانب ما تقوم به من نشاط دعوي على المستوى العالمي ، يكتشف ـ بالتأكيد ـ جوانب مهمّة ذات صلة  بتنامي تلك الظاهرة وانتشارها ..

وقد بدأ النظام السعودي يدرك مخاطر المشروع القومي الذي يهدّد وجوده الاقليمي ومستقبله  ، فوجد في الوهابية خلفية ايديولوجية مناسبة لكي يظهر من خلالها في موقع المدافع عن الدين ، ويواجه بها مخاطر المد القومي المتنامي خلال الخمسينات والستينات .. وهكذا بدأ يعمل منذ ذلك الوقت على ايجاد السبل المناسبة لحماية مصالحه .. حتى وجد في وضع الاخوان الذي بدأ يشهد توترا متزايدا في العلاقة بينهم وبين ثورة يوليو ، فرصة سانحة للشروع في احتوائهم و" تسليفهم " .. فانطلق مشروع التسليف عمليا بابرام عقود الشغل والدراسة من داخل السفارة والقنصلية وعن طريق الوكلاء التابعين للمملكة العربية السعودية ، الذين عملوا على تقديم جميع التسهيلات الخاصة بالتنقل والاقامة من أجل الاستقرار في المملكة ، أين تتم عمليات الاحاطة والتكوين باشراف كبار الشيوخ والدعاة المتخصصين في مجال الدعوة داخل المساجد والجامعات والمؤسسات العامة ، وحتى في الشارع والبيت الذي تطاله العيون ، فيتأثر أهله بنماذج السلوك وطريقة المعاملات  الجارية هناك ، فتتغير العادات والطباع  .. وتتواصل العملية على هذا النحو سنوات طويلة ، حتى تصل الى طور الإنتاج ، فيعود هؤلاء الى أقطارهم ، متحمّسين للتنفيذ .. كل حسب فهمه ، وتأثره ، واستعداده ، ومؤهلاته  ، وموقعه .. فمنهم من يتحوّلون الى" دعاة " و" شيوخ " و" علماء "، وآخرون ينشطون في المساجد والمكتبات ودور النشر والمطابع ، وبين الناس في المعاهد وفي المنابر الاعلامية  .. لذلك لا بد من ضخ الأموال الطائلة التي تغطي كل هذه الأنشطة بكل ما فيها من رواتب ومكافآت ومصاريف تنقل بين العواصم وإقامة في النزل ، وسيارات فخمة ، وطباعة ونشر للمراجع الخاصة بالفكر السلفي الوهابي ، الذي يتم ترويجه باسم الإسلام ، فضلا عن النشاطات الدعوية الأخرى في إطار الجمعيات الخيرية المنتشرة في العالم وفي جميع الأقطار العربية .. وقد ظل هذا النهج متواصلا طوال  فترة السبعينات والثمانينات ، حتى ظهرت الفضائيات في بداية التسعينات ليتم غزو الوطن العربي بالعشرات من الفضائيات الدعوية ومئات الشيوخ المعروفين على الساحة ، والذين تخرّجوا جميعا من المدرسة السلفية السعودية خلال تلك المرحلة .. ولعل الأمر لم يتوقف عند هذا الحد ، اذ انتشرت ظاهرة الانترنات في نفس الفترة تقريبا ، فانتقلت تلك الجهات المحسوبة على التيارات الدينية والدول المناصرة لها ، الى غزو الفضاءات الافتراضية وشبكات الانترنات بالآلاف المؤلفة من المواقع الالكترونية التي تروّج لمرجعيات خاصة ومعينة في الفقه الإسلامي ، فتصدر الفتاوي الغريبة ، وتعمل على نشر مفاهيم محدّدة للإسلام تجعل منه عدوا للقومية والاشتراكية ، بل وتجعل من مفاهيم الحرية وحقوق الإنسان وحرية المرأة وحرية المعتقد واللباس والاختلاط مفاهيم "علمانية" هدّامة منافية لجوهر الاسلام ..  

وفي هذا السياق نجد رصدا شاملا لظاهرة التسلف داخل الاخوان ومراحل تطوّرها في دراسة  مطوّلة للكاتب  حسام تمام بعنوان : " تسلف الاخوان ، تآكل الأطروحة الاخوانية وصعود السلفية في جماعة الاخوان المسلمين " يتحدث فيها عن مراحل " التسلف الهادئ " التي خضع لها الاخوان المسلمون مرة أولى داخل المملكة على يد السلفيين ، ثم مرة ثانية  داخل مصر على يد المتسلفين .. كما يشير الى القدرة على التكيف و" الكمون " للتيار السلفي داخل المجتمعات وداخل الاخوان ، وهي المراحل التي أدت في النهاية ـ بأساليب متعدّدة ـ الى العديد من التغيرات الجذرية على مستوى العقيدة والايديولوجيا الاخوانية .. ويقول الكاتب في سياق العرض للأساليب المتشددة المتبعة داخل المملكة ، شديدة الاثر على الاخوان في تلك الفترة أن " المؤسسة الدينية الوهابية كانت قادرة على ان تفرض رؤيتها الدينية لا سيما في مجال المعتقد السلفي وعلى مستوى العلاقات الاجتماعية في مجتمع سعودي لم ينفتح بعد على تأثيرات الخارج . فكانت تفرض على كل الأئمة والوعاظ والدعاة ومقيمي الشعائر ومدرّسي اللغة العربية الاختبار في العقيدة الوهابية للتأكد من أن الشخص ليس أشعريا في العقيدة  أو متصوفا ، بل يعتقد المعتقد السلفي ، والا كان يتم ترحيله أحيانا ، فكان المدرس أو الامام يدرس هذا أو يتعلمه ويقوله تقية ، بل وصل الأمر أحيانا الى فرض خلع الزي الأزهري على الدعاة والأئمة المنتدبين باعتبار الأزهر معقل الأشعرية .. لذلك اتجهت هذه الموجة نحو تأكيد المعتقد الاخواني السلفي باتجاه يقترب من السلفيبة الوهابية خاصة في نفسها المتشدّد تجاه الآخر الديني حتى داخل الاطار الاسلامي .. " وبمثل هذا الأسلوب عموما " تسربت السلفية الى الاخوان في سياق سياسي واجتماعي دقيق داخل المملكة ، فوجود النساء والاسر الاخوانية في بيئة مغلقة نقل اليها تدريجيا المزاج السلفي وتمظهراته الظاهرة للعيان كمثل النقاب والتشدّد في الملبس بشكل عام ، وقلت مساحات الانفتاح على الفنون والآداب وأنماط الحياة التي كانت معروفة ومقبولة لدى الاخوان .."

وفي مقال آخر لصحيفة الحياة بتاريخ 18 12 / 2010 ، تحت عنوان " الإخوان المسلمون ومسارات التحول نحو السلفية " ، يعود الكاتب الى الحديث عن نتائج تلك المرحلة فيقول أن : " الجماعة الإخوانية اليوم تميل الى السلفية أكثر مما كانت في أي وقت من تاريخها الممتد وهي سلفية في المظهر والسلوك والفكر والمعتقد أيضاً .. " ويضيف الكاتب أن ظاهرة التسلف شهدت تحولا جذريا من سلفية النشأة الصوفية الروحانية على يد مؤسسها حسن البنا ، الى السلفية الوهابية التي بدأت تظهر في مصر حتى قبل هجرة الاخوان الى السعودية من خلال التيار القطبي المتشدّد داخل مصر الذي أدى الى أزمة 1965 .. وقد مثلت تلك الارضية ظرفا ملائما لنشاط الدعوي الوهابي بعد عودة " الكوادر الاخوانية المتسلفة " من السعودية خلال السبعينات والثمانينات ، حاملين معهم " المزاج السلفي العقدي في المظهر واللباس والسلوك .. " فكان نشاطهم بعد العودة  " الأهم والأكثر تأثيراً لأنه حدث داخل مصر وعبر شباب الجامعات  .. " .

وقد كان السعي للاختراق الجماعة على هذا النحو ، هو التفسير الوحيد الذي يمكن أن نفهم من خلاله مبررات الدعم اللامحدود الذي تقدّمه المملكة للجماعة ..

وبالفعل فقد اصبح النشاط بين صفوف الجماعات الاسلامية محكوما بالتجاذبات الفكرية والايديولوجية التي كانت تميل ـ حسب الكاتب ـ الى السلفية الوهابية من خلال اختراقاتها الواسعة للاخوان ، ومن خلال التسريبات الهائلة للمراجع السلفية بين صفوفهم ، فضلا عن القدرة الفائقة للسلفية على ممارسة التخفي والكمون حتى تحقيق أهدافها ..

وهكذا كانت الساحة السياسية في مصر منذ فترة الخمسينات الى اليوم ، ساحة مفتوحة ، لا تعكس فقط ما يحدث في الداخل من تجاذبات سياسية داخلية خاصة بمصر وحدها ، بقدر ما كانت تعكس البعد القومي للصراع باوجه مختلفة قد تكون موجات التدخل الوهابي خير مثال على ذلك ..

وقد ساهم في هذا ـ حسب المؤلف ـ عدة عوامل منها الفورة البيترولية الصاعدة التي عرفتها المملكة ، وانكسار المشروع القومي بعد غياب عبد الناصر ، وانخراط مصر السادات في سياسة الأحلاف الرجعية مع الولايات المتحدة التي وجّهتهم لمواجهة الاتحاد السوفياتي تحت لافتة محاربة الشيوعية ، وتراجع دور مصر البارز من المشهد الديني على المستوى العربي والافريقي بعد شل دور الازهر في نشر الاسلام المعتدل تاركا المجال لبروز الدور الوهابي خارج حدود المملكة بما في ذلك مصر .. 
ثم يواصل الباحث اثارة العديد من التفاصيل والجزئيات الخاصة بالمراحل التي مر بها المجتمع في مصر بشكل خاص كنموذج للنشاط السعودي الوهابي داخل المجتمع العربي عموما ، وهي اساليب اعتمدتها الحركة الوهابية ايضا خارج مصر في العديد من الدول العربية والاسلامية الاخرى التي وقع فيها غزو مجتمعاتها بالفكر الوهابي مثل اليمن ودول البلقان وغيرها ..
وفي جانب العلاقة بين الاخوان والسلفية يبرز الكاتب العديد من الجوانب الحيوية التي ميزت فترات التفاعل بينهما ، بالتعاون ، والتحالف ، والاختراق  .. وهي فترة طويلة يثير فيها الكاتب العديد من التفاصيل التي مكنت الجماعات الاسلامية من التغول على المجتمع في ظل الامكانيات الهائلة المتاحة لها ، والتي تبين الفرق الشاسع بين وضع الحركات الاسلامية ووضع الحركة القومية منذ تلك الفترة الى الآن ..    
ولا شك أن الاستبداد الذي عاشه المواطن العربي في ظل الحكومات الرجعية ، وتهميش الدين ، ونزعة الحكم الفردي والاقصاء الذي عرفته كل الأقطار حتى التي حكمتها الأنظمة القومية ، ساعد هؤلاء في الظهور بمظهر الضحية الذي يتم استهدافه لأنه متمسك بالإسلام ..
 وفي النهاية قد تكون الأرقام المتصلة بنشاط هذه الجماعات وعلاقاتها المشبوهة ، أكثر بلاغة من التحليل  ..  

للحديث بقية .. 


                        ****
                                       (10) . 

حينما اصطدمت القوى الاستعمارية بالمقاومة في الوطن العربي ، اتجهت إلى أسلوب الاحتواء ، وهو ما أدّى في النهاية إلى قيام الأنظمة الرجعية الحالية التي سارت بدورها على ذلك النهج ، متبعة نفس الأسلوب مع القوى والأحزاب الموجودة في كل قطر .. ولما كانت حركة الإخوان المسلمين من بين الحركات التي ظهرت مبكرا على الساحة ( سنة 1928 في مصر ، و 1945 في سوريا والاردن ، و1949 في السودان .. ) ، وبتلك الطبيعة الإصلاحية التي عرفت بها ، فإنها كانت الأقرب للاحتواء والتحالف مع الأنظمة الرجعـية ذات الطبيعة المناقضة تماما للمشروع القومي الذي يهدّد وجودها ومصالحها .. غير أن أول محاولة لاحتواء الاخوان على الساحة جاءت على يد الانقليز في تلك الحادثة التي ذكرها مأسس الجماعة نفسه في مذكرات الدعوة والداعية حينما تبرّعت لهم شركة قناة السويس  بملغ 500 جنيه لبناء مسجد ومدرسة دعوية ومقر للاخوان في الاسماعلية .. وهي أول بذرة نفعية ظهرت في تفكير الجماعات الاسلامية الذين ساروا من بعد قائدهم على هذا النهج لبناء امبراطورية مالية لا يُعرف لها حدود ، سرعان ما تحوّلت الى استثمارات ضخمة ومبادلات تجارية وصفقات ومؤسّسات مصرفية وبنكية في شتى أنحاء العالم .. من الوطن العربي الى اوروبا  ووسط افريقيا وأمريكا اللاتنية ..

في البداية كان موسم الهجرة الى السعودية ـ كما يقول الكاتب حسام تمام في كتابه " تسلف الاخوان " ـ سببا في تعزيز مواقعهم داخل المملكة في مرحلة أولى ، ثم داخل مصر بعد العودة في مرحلة ثانية ، حيث تمدّد وجودهم في معظم الجامعات السعودية ، وامتدّت مشاركتهم " الى الانشطة الاقتصادية التي استوعبت عددا منهم .. أبرزهم عبد العظيم لقمة ومصطفى مؤمن وغيرهم من الاخوان الذين أسسوا عددا من الشركات العامة في قطاع البناء والتشييد ، بحكم التوسّع العمراني الذي ساعدت عليه الطفرة البيترولية والارتفاع الهائل في أسعار النفط بعد حرب اكتوبر .. كذلك استوعبت أنشطة المصارف والبنوك الاسلامية قطاعا كبيرا من كوادر الاخوان في مجال المحاسبة والتجارة  .. "
ويذكر الكاتب بعض الشخصيات الأخرى التي التحقت بالمملكة مشيرا الى أن السعودية " فتحت أبوابها لاعضاء الجماعة الهاربين ومنحت جنسيتها لعدد كبير من رموزها وقادتها .."  مؤكدا أن المذكورعبد العظيم لقمة " بدأ نشاطا اقتصاديا كبيرا في المملكة حتى صار واحدا من كبار أثرياء الاخوان في العالم .."
كما نجد اشارة لهذا الرجل في تقرير بموسوعة المعرفة ، كواحد من رجال الاخوان المتنفذين في الدولة وفي مجال المال والاعمال ، فهو " صاحب مطعم جروبي بالقاهرة . ورئيس مجلس إدارة شركة المستقبل لصناعة الأنابيب وصاحب شركة مصر لمواسير الصرف الصحي صديق جمال مبارك وعمر طنطاوي " ...
ثم تشير الموسوعة الى ان " أحمد عبد العظيم لقمة المالك والممثل القانونى لـ"الشركة العربية لمنتجات الفايبر"، أحد الشركات المتعاملة مع وزارة الإسكان ، كانت لديه عدد من المشروعات المشتركة مع الجهاز التابع للوزارة في الفترة الماضية ، إلا أن الأخيرة اكتشفت  أن المواسير الخاصة بشركته ، بها عيوب فنية وتنفجر بعد مرور 10 سنوات فقط من استخدامها بالمخالفة لبنود التعاقد والمواسير الخرسانية الأخرى، مما أدى إلى إلغاء التعاقد معه .. " وهو الملف الذي تحدثت عنه روزا اليوسف بتاريخ 29 اوت 2015 تقول بان " الدولة  لم تحاسب حتى هذه اللحظة محمد إبراهيم سليمان وزير الإسكان الأسبق فى عصر مبارك وشريكه الإخوانى أحمد عبد العظيم لقمة عن إهدارهما أكثر من 5 مليارات  جنيه  على الدولة فى خط مياه الشرب الواصل ما بين ( طرة ) و( القاهرة الجديدة ) والذى تقوم القوات المسلحة حالياً بإحلاله وتجديده  خصماً من خزانة الدولة للمرة الثانية  .. " .
والواقع ان  قوة الجماعة  ـ كما يقول تقرير موقع الموجز الالكتروني ـ تتمثل في كونها " ليست مجرد مجموعة أفراد وإنما هي تنظيم كامل تتفرع عنه تنظيمات وقيادات مهمتها توفير الأموال لتحقيق أهدافها مهما كان الثمن " ..
وفي هذا الصدد يعرض التقرير فكرة وافية عن مصادر التمويل سواء داخل مصر أو خارجها وتأتي في المقدمة  منها التبرعات التي يقدمها رجال الأعمال بنسب متفاوتة تصل الى 10%  من ارباح الشركات التابعة لرجال الأعمال المنتمين للاخوان مثل : ابراهيم كامل صاحب بنك دار المال الاسلامي وصفوان ثابت عن مجموعة شركات جهينة ، والراحل عبد المنعم سعودي صاحب توكيل السيارات ، ومدحت الحداد رئيس مجلس إدارة الشركة العربية للتعمير ومدير عام الشركة العربية للاستيراد والتصدير، وممدوح الحسيني صاحب شركات الاستثمار العقاري، وأحمد شوشة الشريك المتضامن في شركة المدائن للإنشاءات والتصميمات وعضو مجلس إدارة شركة الملتقي والتي من خلالها تم تنفيذ العديد من المشروعات الصناعية والمستشفيات والأبنية التعليمية والإدارية والخيرية والمساجد والأبراج السكنية وهو عضو مؤسس وعضو مجلس إدارة شركة الملتقي العربي وعضو مؤسس في شركة الطباعة والنشر ... كما يذكر التقرير حسن مالك وخيرة الشاطر باعتبارهما أهم رجال الاعمال نظرا لاتساع معاملتهما سواء داخل مصر أو في العديد من دول العالم .. " فهناك شركة فيرجيينا للسياحة التي أسسها حسن مالك ، وشاركه فيها مصطفي ندا شقيق الاخواني المعروف يوسف ندا صاحب بنك التقوى ، ثم تنازل له عنها .. وتملك هذه الشركة قرية سياحية تسمّي « الياسمين » في طريق مرسي مطروح، وهناك الشركة المصرية للتجارة والتوريد « رواج » التي تملك توكيل مفروشات وأثاث " الاستقبال" التركي ، ويملكها حسن مالك أيضا ، إضافة إلي توكيل "سرار" للملابس التركية الجاهزة ، وتوكيل ماركة الملابس الكاجوال الشهيرة باسم "داليدرس"، إضافة إلي شركة «حياة» للأدوية ويشترك في ملكيتها خيرت الشاطر وشركاء آخرين .. ويشترك  الشاطر أيضاً في شركة «إم سي آر» للمقاولات وهي تعمل في قطر وجيبوتي .. كما يمتلك أيضاً أسهما في شركة "المدائن " للإنشاءات .. الخ .. وكل هذه الشركات في الواقع لا تمثل ـ كما تقول التقارير ـ الا جزءا يسيرا جدا من امبراطورية الاخوان المالية التي تضخ نسبا عالية من ارباحها  في خزينة التنظيم ، والتي وقع ضبط قائمة طويلة منها ومن ممتلكات الاخوان بشكل عام  بعد ثورة 30 يونيو ليطبق عليها أمر الرقابة والحضر بعد تصنيف الاخوان تنظيما ارهابيا بسبب الأحداث الدامية التي شهدتها مصر، والعمليات الارهابية التي استهدفت الأمن والجيش ...
 ففي تقرير اليوم السابع ليوم 19  / ماي  / 2015 المتعلق بالحكم الصادر عن محكمة القاهرة للأمور المستعجلة والخاص بحضر أنشطة الجماعة والتحفظ على أموال قياداتها نجد أن " لجنة التحفظ على ممتلكات الإخوان برئاسة المستشار عزت خميس ، مساعد أول وزير العدل ، نجحت فى حصر ما يقرب من 95 % من إجمالى أموال قيادات الجماعة الإرهابية ، سواء العقارية أو السائلة أو المنقولة ، وكذلك الأسهم والسندات والحسابات السرية بالبنوك والشركات ، التى تقدّر بنحو 30 مليار جنيه يملكها 1200 قيادة إخوانية بعد رفع أسماء 7 منهم بعد تقدمهم بتظلمات على القرار، كما قامت اللجنة بالتحفظ على أموال 1174 جمعية ، تم رفع 41 جمعية منها ، ليصبح عددها بعد ذلك 1133 جمعية . ومن الممتلكات الإخوانية التى قرّرت اللجنة التحفظ عليها المستشفيات والمستوصفات الطبية التى تبين قيامها بتسريب أموال منها لتمويل العمليات الإرهابية التى تقع داخل مصر، حيث بلغ عدد المستشفيات المتحفظ عليها 42 مستشفى ومستوصفا طبيا ، وبالنسبة للمدارس فقد تحفظت اللجنة على 92 مدرسة تم رفع التحفظ على 7 منها ، ليصبح العدد 89 مدرسة ، والتى فيها تم عزل نحو 70 % من مجالس الإدارات القديمة التابعة للإخوان ، وتعيين بدلا منها ، إلا أن باقى المدارس مازالت الإدارات القديمة تعمل بها ، والتى تبين بعد ذلك قيامها بتسريب الأموال للعمليات الإرهابية . ورصدت التحريات الأمنية والرقابية امتلاك الجماعة 460 سيارة تم التحفظ عليها وتسليمها للدولة ، فضلًا عن التحفظ على 415 فدانا ، بينما تم التحفظ على 520 مقرا لحزب الحرية والعدالة و54 من الجماعة على رأسها مكتب الإرشاد بالمقطم "..  وهي أرقام لا تزال تخضع لمطالب التظلم والاعتراض والتحريات والبحث عن اساليب التخفي والتخارج من الشركات وغيرها من الطرق ..
كما نجد تفاصيل هامة جاءت في التقرير المنشور على المواقع الالكترونية لـ " مركز المساعدة والدراسات الإستراتيجية الأمريكية " للكاتب " دوجلاس فرح " والذي يشرح فيه بالتفصيل علاقة التنظيم العالمي للإخوان بالشركات الكبرى ونسبة مساهمته فيها ومصادر تمويل هذا التنظيم ،  يقول : " من المعروف أن تنظيم الإخوان المسلمين الدولي قد أنشأ هيكلاً موازيا في الخارج بعيدا عن الدول الأصلية التي نشأ وتوغل فيها هذا التنظيم ، مثل مصر والأردن وغيرهما ، كأساس لعمليات مصرفية وشركات ومشاريع عملاقة تقدر بمليارات الدولارات ، والتي أصبحت جزءا لا يتجزأ من قدرتها على إخفاء ونقل الأموال من وإلى جميع أنحاء العالم .." كما يضيف هذا التقرير  أن " السجلات العامة الأمريكية تظهر امتلاك شبكة الإخوان المالية للشركات القابضة والشركات التابعة ، والمصارف والمؤسسات المالية التي تمتد إلى بنما ، وليبيريا ، وجزر فرجن البريطانية ، وجزر كايمان ، وسويسرا، وقبرص ، ونيجيريا ، والبرازيل ، والأرجنتين ، وباراغواي ، ودول أخرى كثيرة .. وفي هذا الصدد يذكر دوجلاس أسماء معروفة في التنظيم العالمي للاخوان ودورها في التمويل عن طريق المشاريع الكبرى التي تديرها بكفاءة عالية في العديد من الدول بعيدا عن أنظار المراقبين  فيقول :  " وتلمع أسماء من أعضاء التنظيم الدولي للإخوان كمديري اقتصاد ، مثل " إبراهيم كامل"، وهو مؤسس بنك " دار المال الإسلامي " ، ومقره الرئيسي في ناساو بجزر البهاما ، كما أنشأ كل من يوسف ندى ، وهمت غالب " بنك التقوى" ومقره أيضا في ناساو بجزر البهاما ، وبالمثل أسس نصر الدين إدريس " بنك العقيدة الدولي" في ناساو بجزر البهاما " ..
وفيما يخص بنك التقوى مثلا نجد شرحا وافيا من الدكتور يوسف القرضاوي ورد في موقعه على الانترنات يذكر فيه عددة جوانب بعضها يتعلق بالتسمية ، وأخرى تتعلق بظروف التاسيس ، وبعضها الآخر يتعلق بفروعه وأنشطته والمكتتبين فيه .. فنجده  يعارض طريقة الاعلان عن المسؤولين والمشتركين خوفا من التضييق عليهم مخاطبا المسؤول الأول يوسف ندى قائلا له :
كنت أود ألا تعلنوا على الناس هذه القائمة من الإسلاميين من أقطار شتى، فكأننا نزفهم إلى رجال المباحث وأمن الدولة " .. فيجيبه محدثه : "  أردنا أن نعطي جماهير الملتزمين بالإسلام : أن هذا البنك مؤيد ومشجع من كل شخص غيور على الإسلام ، عامل لخدمته " .
فيجيبه الدكتور القرضاوي : " لا شك أن هدفكم نبيل ، وأن نيتكم كانت صالحة ، ولكنها قدمت خدمة للمتربصين بالدعوة الإسلامية ، والحركة الإسلامية . ولعل الله تعالى يجزيكم بحسن نيتكم ، ويعمي أعين الكائدين للإسلام وأمته عنكم " .. 
ولعل السؤال الذي يمكن أن يخطر ببال اي انسان : لماذا يخاف القرضاوي على هؤلا الناس لو كان البنك بعيدا عن الشبهات .. الا يعني هذا أن البنك مشبوه عند اصحابه قبل غيرهم من الناس  ..؟؟
وبعد نقاش طويل حول موضوع الانظمام الى هيئة الاشراف على البنك ، واقتناع القرضاوي بالانضمام فعلا ، يعرض لنا الدكتور خسارته الكبيرة في البنك هو وافراد عائلته بعد الاعلان عن افلاسه .. !!  حيث يقول : " لقد كانت خسارتي أنا وأبنائي وبناتي كبيرة بخسارة بنك التقوى، فقد وضعنا فيه في النهاية جل مدخراتنا ، وهي مبالغ كبيرة بالنسبة لنا ، ولم يقدر لنا أن نصرف بعض الأرباح ، كما فعل بعض المودعين ، بل ما تحقق لنا من أرباح وضعناه في مضاربات البنك . ولا يسعنا إلا أن نحتسب ما أصابنا عند الله سبحانه ، وندعوه جل شأنه أن يعوّضنا عن خسارتنا ، في الدنيا والآخرة " .
هل هذا ما حصل فعلا ؟؟
قد يكون ..
غير أن هذا الأمر ليس هو المهم .. لان الشبكة العنكبوتية للمشاريع والدعم والتمويل والاستثمارات لا تنحصر في بنك أو مصرف أو مشروع هنا أوهناك .. بل تنخرط فيها دول ومنظومات استراتيجية معدة للمنطقة كاملة تدعمها جهات رسمية إقليمية و دولية على المدى القريب والبعيد ...

 وللحديث بقية .

                       ****
                                     (11) . 

 لم يهدأ الصراع في الوطن العربي منذ سنوات عديدة كأفضل تعبير عن حدة المشكلات المطروحة في كل قطر ، والتي تبدو أحيانا متأثرة ببعضها ، مرتبطة ـ الى ابعد الحدود ـ بالاطراف المحلية المتدخلة فيها ، وهي لا تستطيع أن تحافظ  على مصالحها الا من خلال التدخل المباشر أو الخفي ، وهو ما يعني أن تلك الاوضاع بكل ما فيها من أحداث مأساوية هي جزء لا يتجزأ من الصراع الاجتماعي على المستوى القومي الذي يدور بين جميع مكونات المجتمع العربي ، بحثا عن حلول للواقع المتخلف الذي انحدرت اليه الأمة بعد استفحال مشاكلها الكبرى في ظل الاحتلال والاستغـلال والتجزئة ، وتحت سيطرة الحكم المطلق والاستبداد الذي يمارسه الحكام على شعوبهم .. وفي ظل التدخل الخارجي المدعوم من جهات داخلية مستفيدة من استمرار هذا الوضع ، ومستعدّة للتضحية  بأجزاء أخرى من الوطن العربي حفاظا على وجودها وامتيازاتها ..
لذلك فان المشروع القومي هو المشروع الذي يعتبر ابن بيئته وطبيعـته ، وهو القادر أن يجعل من الامة العربية أمة متماسكة ، قوية ، ذات سيادة ، ومكانة في العالم ، بفضل ما تملكه من امكانيات مادية وبشرية  تمكنها من الوصول الى تلك المرتبة الريادية ..
ولهذا تجندت قوى متعددة رغم اختلاف أهدافها لتصفية كل القوى الوطنية والقومية متحالفة فيما بينها للوصول الى تحقيق تلك المصلحة المشتركة : الولاء ، والتمكين .. حيث تتعهد الجهات الطامعة في ثروات الأمة بحماية القوى الرجعية وتمكينها من البقاء على رأس السلطة في كل قطر ، مقابل تعهد تلك الجهات بالطاعة والولاء ، واقتسام المنافع ..
وفي هذا الاطار استسلمت قوى الاسلام السياسي للواقع بعد الوصول الى السلطة سواء في مصر أو في تونس ، فعملت على ايقاف المسار الثوري مكتفية بالنتائج المتحققة التي اوصلتها الى السلطة لتتحوّل بعدها مباشرة الى أنظمة  أسوء من التي قامت عليها الثورات ، انسجاما مع  طبيعتها الرجعية في خياراتها ، وتحالفاتها ، واصطفافها ، وخضوعها ، من ناحية ، وتعويلا على ما تملكه من امكانيات مادية واعلامية تفوق في ضخامتها قدرات بعض الدول من ناحية اخرى ..
وفي سياق الحديث عن الجانب الثاني ، نجد في العدد 9825 للعرب الدولية ، الصادر بتاريخ 11 / 2 / 2015 ، تقريرا تحت عنوان : " مصادر تمويل الإخوان المسلمين ، جمعيات وتنظيمات عابرة للقارات " جاء فيه : "  كان معرض القاهرة للكتاب فرصة لمناقشة كتاب " اقتصاديات الإخوان في مصر والعالم " ، للدكتور والخبير الاقتصادي عبد الخالق فاروق حيث أبرز أن عناصر ارتكاز الجماعات الإسلامية هو المسجد ، باعتباره مكانا للتعليم والتثقيف الديني والتعبئة ، ومكانا للحصول على موارد من التبرعات ، مشيرا إلى أن أوروبا بها ثلاثة آلاف مركز، وهي مراكز للحركة أيا كان غرضها، وبالتالي فعدد المسلمين السُّنَّة المتردّدين على المساجد يتراوح بين 2 مليون أو 3.6 مليون مسلم طبقا لدراسات نشرت خارج مصر .  
وهذا يفيد أن هذه التنظيمات وهي الإخوان والجماعات الإسلامية تتحرك وسط هذه الكتلة الاجتماعية ، ويصل المتعاطفون معهم من 10 إلى 20 بالمائة تقريبا أي ما يعادل 150 إلى 300 ألف شخص في أوروبا ، والتعاطف يأتي في دفع أموال الزكاة .. " . ثم يضيف التقرير نقلا عن المصدر نفسه : " أما بالنسبة إلى التبرعات فقد بلغت 603 مليون جنيه سنويا، إلى جانب ربع الأرباح إجماليا والتي تحوّل من الشركات المملوكة للإخوان إلى التنظيم ، وبذلك يصل إجمالي الأرباح والتبرعات إلى 500 مليون جنيه سنويا .   
وفيما يتعلق بأموال الزكاة فقد بلغت 188 مليون جنيه سنويا من داخل مصر، أما خارج مصر في أوروبا فبلغت 125 مليون جنيه سنويا  .  
فحجم موارد تنظيم الإخوان حسب إحصائيات عبد الخالق فاروق تبلغ 7 مليارات سنويا ، فيما يبلغ معدل إنفاقه 2 مليار و573 مليون جنيه   .. !!
وتعود الصحيفة ايضا الى تقرير الامريكي دوغلاس فرح مشيرة الى ظاهرة البنوك الاسلامية التي أنشأها التنظيم العالمي للاخوان المسلمين فيقول  :  " ان الإخوان نجحوا بالتوازي مع بداية ظاهرة البنوك الإسلامية الحديثة ، التي عرفها العالم في بداية  الثمانينات من القرن الماضي ، في بناء هيكل متين من شركات “ الأوف شور”، التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من قدرتها على إخفاء الأموال ونقلها حول العالم ، فهي شركات يتم تأسيسها في دولة أخرى غير الدولة التي تمارس فيها نشاطها ، وتتمتع هذه الشركات بغموض كبير، يجعلها بعيدة عن الرقابة .. "
كما يعرض موقع بوابة الحركات الاسلامية الافكار التي جاءت في الكتاب المذكور للدكتور عبد الخالق فاروق، ومنها:
" إن موارد التنظيم تتحدد في 8 موارد : اشتراكات الأعضاء والتبرعات من الأفراد والمؤسسات ، وأموال الزكاة ، وأرباح المشروعات في خارج مصر وداخلها  .. إلى جانب عنصرين ، هما أموال الإغاثة الإسلامية الدولية ، وأموال الجهاد الأفغاني ... " .
وأضاف : "  أن الاشتراكات السنوية بلغت 87 مليون جنيه ، وتصل إلى 187 مليون جنيه بمتوسط 141 مليون جنيه سنويا .
بالنسبة للتبرعات بلغت أقلها 70 مليون جنيه ... بمتوسط 280 مليون جنيه سنويا ، إلى جانب ربع الأرباح إجماليا من الشركات المملوكة للإخوان التي تـُحوّل للتنظيم ، وبذلك تصل إجمالي الأرباح والتبرعات 500 مليون جنيه سنويا.
وبالنسبة لأموال الزكاة وفقا للتقدير بلغت 188 مليون جنيه سنويا من داخل مصر، أما خارج مصر في أوروبا فيدفعها ما يقرب من 200 ألف شخص بما يبلغ 125 مليون جنيه سنويا ، وفي أمريكا يدفع 150 ألف شخص بما يبلغ 375 مليون دولار .
وأشار فاروق إلى أن إجمالي دخل التنظيم بناء على ما سبق بلغ في حدود 6 مليارات و800 مليون جنيه سنويا ، أي حوالي 7 مليارات جنيه سنويا ..".
كما اشار التقرير نقلا عن الدكتور عمار علي حسن الكاتب و الباحث في العلوم السسياسية متحدثا عن الجمعيات قائلا : " أن الجمعية الشرعية لأنصار السُّنَّة تكفل 441 ألف و700 يتيم ولديها 24  مخبز توزعه بالمجان، وجماعة الإخوان تمكنت من السيطرة على هذه الجمعية ..
ولفت إلى أن الجماعة طبقية بامتياز، والأموال التي جُـمعت رسخت ذلك ؛ حيث ظهر أباطرة لرجال الأعمال ، لافـتا إلى أن الإخوان كانوا يستثمرون أيضا في البشر حيث يتبنون طلابا ويصرفون عليهم دراسيا ويفتحون لهم بعض المشاريع ليتم استغلالهم فيما بعد.
وأوضح حسن أن من يتحكمون في أموال الجماعة تحولوا ـ فعلا ـ إلى رجال أعمال، وهذا أعطاهم قوة مالية ونفوذا يتيح لهم الهيمنة على المجتمع ..
وقال حسن إنه لا يرى فرقا بين أموال الفرد والتنظيم ، لافتا إلى أن أموال التنظيم ليس لها مشروعية قانونية، بدليل أنهم قرروا بعد الثورة إنشاء جمعية ؛ ليكون هناك رقابة عليهم ، موضحا أنه لا يمكن مقارنة أموال الكنيسة بأموال الإخوان ، وإنما تقارن بأموال الأوقاف .
ودعا حسن إلى أن يتم إعداد كتاب آخر عن اقتصاديات السلفيين ، والطرق الصوفية ؛ لنعرف كيف تحوّل الدين من السمو الأخلاقي إلى مجرد آلية لتحصيل الثروة والجاه والمكانة في الدنيا  .."  .

                         ****
                                        (12) . 


لقد شرع الاخوان في بناء امبراطوريتهم المالية منذ نشأتهم ، حتى صارت أواخر القرن الماضي بلا حدود .. وقد كانت بعض مواردهم معروفة وبعضها الآخر مجهولا تماما حتى للاعضاء والقيادات .. !!  
وفي سياق الحديث عن الامكانيات الضخمة التي مكـنت الحركات الاسلامية  من التغوّل ، والامتداد بالرغم مما اشتهرت به من ارهاب وتطرف وأسلوب دموي ، فاننا  نجد مبررا لكل هذا حينما نعرف ما يمكن ان يفعله المال السياسي بالناس في المجتمعات التي يتفشى فيها الفقر والجهل ، وفي هذا نجد تقريرا وافيا في الموسوعة الحرّة ( ويكيبيديا ) عن علاقة الاخوان بالنظام السعودي الذي يسعى من وراء ذلك ـ كما هو معـلوم ـ الى " تسليفهم " وتحويلهم الى الوهابية ..
تقول الموسوعة بعد التعريف بالتجمع اليمني للاصلاح الذي يصنف كحزب اخواني في اليمن أن " جذور الحزب تعود لما عرف " بالـجبهة الإسلامية" عام 1979، وهي ميليشيا مرتبطة بالإخوان المسلمين ظهرت بدعم سعودي خلال حرب الجبهة مع الجبهة الوطنية الديمقراطية المدعومة من اليمن الجنوبي .." كما يقول التقرير بأن " التجمع اليمني للإصلاح ، مُعروف منذ فترة طويلة كعميل للمملكة  ،  لعلاقة قياداته القبلية والعسكرية والدينية بالسعودية منذ الستينات ، وقد طوّر الحزب علاقة زبائنية خاصة معها وإن لم يكن الوحيد. واعترفت قياداته بتلقي مرتبات من الحكومة السعودية  كما تموّل المملكة العديد من المدارس الوهابية التي يديرها الحزب بشكل غير رسمي . وهي مدارس تــُـتـهـم بتفريخ إرهابيين ومتطرفين .."
وفي جانب التعريف أكثر بالحزب يقول نفس المصدر : " برغم تصنيفه أنه الفرع اليمني للإخوان المسلمين ، ولكنه في الحقيقة خيمة كبيرة تشمل الإخوان والوهابية ومصالح قبلية وتجارية وعسكرية مختلفة ، فهو لا يشبه الأحزاب الإسلامية في المنطقة العربية ، و يمكن تعريفه بأنه ائتلاف معقد بأجندات مركبة " .
و في دراسة أعدها  عمرو  حمزاوي لمؤسسة كارنيجي للسلام الدولي ، يقول عن مواقف الحزب : " أن مكونات هذا الحزب المختلفة منعته من تطوير منصة نيابية واضحة ، فهو يوازن مصالح قبلية وسياسية مختلفة بصورة رئيسية ، ويتأرجح بين " المعارضة " وموالاة السلطة . لذلك ، لا يعرف أحد ماهية مواقف الحزب الحقيقية والحزب نفسه لا يعرف كيفية تحقيق أي كانت تلك الأهداف التي يريد تحقيقها .. "
كما تكشف الموسوعة جوانب مهمة للعلاقة بين السعودية وأطياف الاسلام السياسي في اليمن تبين بكل وضوح كيف يكون المال السياسي آداة  لصنع العملاء ، والطابور الخامس الذي تحركه الآيادي الخفية عن طريق الاموال المرصودة لخدمة أجنداتها وأهدافها .. ويقول المصدر أن " عبد الله بن حسين الأحمر وهو مؤسس الحزب ،  كان يتلقى قرابة مليون وسبعمائة ألف دولار شهريا من السعودية وهو لم يكن الشيخ القبلي الوحيد الذي يتلقى مرتبات من السعودية ولكنه الأبرز .. واعترف عضو الهيئة العليا للحزب حميد الأحمر بتلقيه رشاوى من السعوديين وقال أن هدفها هو تعبير السعودية عن "وشائج القربى"  .. !!
ويضيف نفس التقرير أن علي محسن الأحمر قد "  تلقى تمويلاً سعودياً جديرٌ بالإعتبار ، عام 1990  وخلال المراحل الأولى لتأسيس الحزب " ..
وأن " المبلغ المقدم من الحكومة السعودية لحزب الإصلاح غير معروف تحديداً، ولكنه يصل إلى 3.5 مليار دولار سنوياً لكل عملاء المملكة داخل اليمن منتمين لحزب الإصلاح وآخرين ويُعتقد أنه تم تقليص المبلغ عقب التوقيع على اتفاقية الحدود عام 2000 .. إذ انخفض راتب الأحمر من مليون وسبعمائة ألف دولار إلى ثمانمائة ألف دولار شهريا .. "
وفيما يخص الآليات يشير التقرير الى أن " اللجنة الخاصة" وهي لجنة تابعة لوزارة الدفاع السعودية،  تقوم بتوزيع الأموال والهدايا على عملاء للمملكة السعودية داخل اليمن ، هدف اللجنة من توزيع الأموال على القبائل عرقلة الحكومة المركزية  في بسط نفوذها على كامل أراض الدولة .."
وعن التغلغل السعودي في اليمن يقول التقرير أن " هناك تسعة آلاف شيخ قبلي في اليمن ، ستة آلاف منهم يتلقون  أموالاً عن طريق " اللجنة الخاصة " نقداً بدون بنوك أو تحويلات  .. "
ثم يضيف : " وفي 2005 ، قدرت أعداد متلقي الرواتب السعودية بحوالي 18,000 شخص والحكومة اليمنية تعرف ذلك بل ان علي عبد الله صالح  ، خلال مفاوضات الحدود مع السعودية ، اشترط عليها أن تدفع الرواتب عبر قنوات تتحكم فيها الحكومة اليمنية ..." !!
وفي ما يخص علاقة الحزب بالسلطة تقول الموسوعة أن " حزب التجمع اليمني للإصلاح كان "معارضة موالية "  لعلي عبد الله صالح وبديلا لحزب المؤتمر الشعبي العام سواء كان في السلطة أو خارجها وهو ما خلق مناخا ديمقراطيا مزيفاً في اليمن ويعد حزب الإصلاح  الضامن الأبرز لبقاء السعودية في هذه اللعبة .  فزبائن السعودية ليسوا حكراً على فصيل واحد ولكن حزب الإصلاح  هو الأوضح  .. ".
ولعل السلطة اليمنية التي كانت تقبل الى حد ما بالتدخل السعودي ، وتعمل على  احتوائه وتاطيره ، كانت تشعـر فعلا بالعجز على مقاومة هذا التدخل الذي أصبح متغلغلا بين صفوف القبائل  الموالية للنظام السعودي ، حيث كان التمويل السعودي للوهابية كما يقول المصدر "  مستعملا  لممارسة ما يشبه  القوة الناعمة على اليمنيين .. " وكانت " المدارس الدينية ( الوهابية ) ، و " دور القرآن والحديث " والمعاهد العلمية كما تُسمى ، تموّل من السعودية ويشرف عليها حزب الاصلاح بشكل غير مباشر .  فتوفر هذه المدارس ميزانية مستقلة للحزب تقدر بثلاثين مليون دولار سنويا  .."
هكذا تتضح ابعاد مخطط نظام آل سعودي الذي شرع في تغيير استراتيجيته مطلع الخمسينات ، من تركيز اسس الدولة الدينية في الداخل ، الى تاسيس قوة سياسية في الخارج  تابعة له فكريا وحركيا ، يواجه بها  المد القومي المتصاعد في تلك الفترة ، والذي امتد كالنار في الهشيم من المحيط الى الخليج ، واصبح  يمثل خطرا حقيقيا يهدد عروش الانظمة الخليجية بالزوال ، باعتبار طبيعته الوحدوية .. فكان الدين ، والمذهب الوهابي هو السلاح ..
ورغم ان التقارب بين الملك عبد العزيز آل سعود و الاخوان قد بدأ منذ الاربعينات ، الا أن اسس التعاون قد اصبحت لا تقتصر على ما يجهر به كل طرف ، بل وأيضا على ما يضمره من عداء للمشروع القومي الذي بدأت تتحدد ملامحه منذ منتصف الخمسينات ، وبداية مرحلة الصدام بين ثورة 23 يوليو من جهة ، و الاخوان والنظام السعودي من جهة ثانية ..
 وتدعيما لهذا الاستنتاج ، يقول عبد الله بن بجاد العتيبي في دراسة  له  بعنوان " الإخوان المسلمون والسعودية : الهجرة والعلاقة " ، متحدثا عن  : " سعي المملكة لمواجهة المدّ الناصري الثوري خصوصاً وأنّ عبد الناصر ناصب الملكيات العربية العداء ، وكان يصفها بالرجعـية ، ويسعى للإطاحة بعـروشها ، ونجح مسعاه في ليبيا واليمن وضربت طائراته المناطق الجنوبية في السعودية ، فتبنّت السعودية دعم التضامن الإسلامي في وجه المدّ الناصري . وكان أقوى خصوم عبد الناصر في الداخل حينها هم جماعة الإخوان المسلمين ،  فكان استقطاب الإخوان على مبدأ عدوّ عدوّي صديقي .. " .
ثم ينهي العتيبي هذه الدراسة بطرح سؤال مهم يقول فيه :
هل كانوا على وعيٍ بمحاولة عددٍ من الدول استخدامهم في ضرب التيارات القومية واليسارية فاستغلوا ذلك الوضع لبسط سيطرتهم ونفوذهم على المؤسسات وعقول الأجيال وتوفير مصادر الدخل للجماعة ...؟ " .
 للحديث بقية ...

                        ****
                                       (13) .


لقد كانت العروبة ووحدة الوجود القومي  هما الأكثر استهدافا في الفترة الأخيرة ، نظرا لما شهده الوطن العربي من تصعيد وهجمات على كيانه ومصيره بشكل عام من خلال استهداف مكوّناته الاجتماعية التي استقر عليها بعد فترة طويلة من التطور والتعايش في ظل الاختلاف الديني ، والعرقي ، والمذهبي ، والطائفي مثله مثل كل الكيانات القومية التي نشأت في العالم على تلك القاعدة الجامعة ، التي صارت في المجتمعات المتقدمة علامة  تحضّر وتقدّم وارتقاء بالانسان ، حيث تتحوّل كل مظاهر الاختلاف في المجتمع الواحد الى عناصر ثراء وتنوّع  تماشيا مع سنن الحياة التي سارت على هذا النهج منذ انطلاقها قبل  ملايين السنين ..
والغريب ان الامة العربية التي كانت مركز الفعل خلال حقب طويلة لعبت فيها دورا محوريا في استقطاب وتوحيد شعوب مختلفة تحت راية الاسلام ، صارت فريسة سهلة ولقمة سائغة  لكل الطامعين حينما خرجت السلطة المركزية من يد ابنائها ، بعد فترات صعبة من الضعف والضياع ، واصبحت هي الحلقة الاضعف في دولة الخلافة والاقل قيمة عند العثمانيين الذين كما يقول الدكتور إبراهيم علوش " بفرضهم للتخلف ، وبإعادة إنتاجه على مدى قرون ، لم يحموا الوطن العربي من الأوروبيين بمقدار ما أضعفوه و نخروه ، فلما قرر الأوروبيون أن الدولة العثمانية قد استنفذت إمكانياتها التاريخية وحانت ساعتها ، وأن فائدتها كحاجز جغرافي سياسي في مواجهة روسيا القيصرية ومشاريع النهضة العربية قد نفذت ، راحوا يلتقطون الأقطار العربية كما يلتقط الضبع خرافا بلا راع ، فاحتلت مصر عام 1882 ، واحتلت السودان عام 1898 ، وفرضت اسبانيا وفرنسا الوصايا على المغرب عام 1906 ، وبدأ الاستيطان اليهودي في فلسطين في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر .."  ، وهذا فضلا عن احتلال الجزائر وتونس وليبيا وتقسيم المشرق الى دويلات ووضعها تحت الانتداب الفرنسي أو البريطاني الخ ..
 كل ذلك كما يقول علوش في عهد السلطان عبد الحميد الثاني أحد الشخصيات التاريخية التي يقدسها الاسلاميون .. !! وهي القراءة القاصرة التي لا تزال تحكم مواقفهم الى اليوم حينما يبالغون في التحالف مع تركيا باعتبار دورها القديم الذي يسقطونه على الحاضر وهي التي تتحرك في الواقع وفق ما تتطلبه مصالحها القومية الحالية ، فيضيعون مصالح امتهم بناء على أوهام دولة الخلافة التي تهاون العثمانيون في الحفاظ عليها حينما كانت السلطة بيدهم وليست بيد العرب  ..
وقد كان الخلل في فهم العلاقة بين العروبة والاسلام في مجتمعنا ، والعجز عن استيعاب تلك التحولات التاريخية الكبرى التي شهدتها البشرية ، مدمّرا للكيان القومي العربي ، الذي بقي يعاني من التناقض المفتعل في اذهان البعض بين الهوية الدينية والهوية القومية منذ مطلع القرن الماضي الذي شهد ضعف الامبراطورية العثمانية ، وتفككها ، تحت وطأة وفعالية قوانين التطور التي دفعت بالمجتمعات الى تجاوز عصر الامبراطوريات في العالم معلنة عن انتقال البشرية الى حقبة تاريخية جديدة من التطوّر في ظل موجات التوحيد القومي التي اجتاحت العالم بأكمله لتوحّد كيانات قبلية وعرقية مختلفة تحت راية واحدة هي راية الامة ، بعد أن اكتمل كيانها في هذا العصر بقيام الدولة القومية ... غير ان هذا العجز عن فهم الواقع ، لم يتوقف عند هؤلاء في حدود الجمود الفكري ، بل تعداه الى رفض مطلق لكل مظاهر الحياة العصرية .. مما أدى بالكثيرين الى الانفصال التام عن الواقع والتعامل معه كوعاء يرشح بمواد غير صالحة يجب افراغه منها ، وملأه من جديد بما عندهم من وصفات جاهزة ، وهو ما قاد في النهاية الى حملات التطهير التي واجهوا بها مجتمعاتهم في الفترة الأخيرة حيث تحولت عمليات الشحن الى آداة هدم وتدمير ذاتي لم يعرف لها التاريخ مثيلا من قبل في جميع العصور .. وهو ما حوّل هذه الجماعات الى أكبر عدو من أعداء الامة وأخطره على الاطلاق ، لما يملكه من المواصفات التدميرية الهائلة على كيان المجتمع بعكس كل القوى المعتدية الأخرى رغم وسائل عدوانيتها الحربية وهمجيتها التي عرفها مجتمعنا في بعض الفترات .. وقد تعود خطورة الجماعات الاسلامية الناشطة حاليا على الساحة العربية والعالمية الى عدة عوامل أهمها :    

أولا - اسلوب التخفي الخطير الذي تتبعه داخل المجتمع حيث يصبح النسيج الاجتماعي نفسه حاضنة طبيعية  ، تترعرع داخله ثم تنقلب عليه وتدمّره .. وهي بهذا الفعل تتحول الى وضع شبيه بالخلايا السراطانية التي تنشأ في نقطة ما من الجسم السليم ، ثم تنتشر فيه خلال مرحلة هادئة ، مليئة  بالسكون الخداع ، الذي سرعان ما ينتهي بهجوم المرض على الجسم معلنا تدميره دفعة واحدة ..

ثانيا - الحاضنة الدينية التي يتميز بها مجتمعنا حيث يمثل الحضور الديني عند المواطن العربي المسلم أحد أهم الاسباب التي يقع استغلالها في تجنيد المنتمين الى صفوفهم وبالخصوص مع غياب الوعي الديني الكامل للحدود الفاصلة بين ثوابت الدين كمجال من مجالات المحكم الذي يجب اتباعه ، وبين مجالات المتشابه منه حينما يتحول الى فقه على يد المجتهدين ، وهو الذي يمكن مخالفته دون حرج ، باعتباره مجالا من المجالات الخاضعة للتطور والتغير ، التي يصيبها من الاجتهاد ما يصيب كل مجالات الحياة في كل عصر من العصور ..

ثالثا ـ الساحة العالمية المفتوحة التي أصبحت مجالا واسعا وخصبا لتفريخ الفكر الوهابي بين أبناء الشعوب المسلمة الجاهلة تماما بلغة القرآن ، وبتاريخ الاسلام ومذاهبه وظروف نشأته ، حيث يحل الدعاة والايمة المتطرفون بين ابناء المسلمين في مساجد أوروبا ، ودول البلقان والاتحاد السوفياتي ، وافريقيا ، والهند ، وماليزيا ... وفي كل أنحاء العالم ، أين تكون السلطة المركزية في أغلب تلك الدول عاجزة عن مراقبة المساجد أو التدخل فيها وهي لا تملك مرجعية دينية ، ولا مؤسسات خاصة للقيام بتلك الوظيفة .. فيجد هؤلاء المتطرفون فرصتهم كاملة للسيطرة على المساجد ، واستغلالها في نشر أفكارهم المذهبية المتطرفة ، ذات النزعة العدوانية ، الاستئصالية التي ينسبونها  للاسلام ، فيشوّهون بها عقيدة المسلم .. وهو ما جعل للحركة الوهابية حاضنة عالمية في جميع المجتمعات .. وفي هذا الصدد نجد شاهدا على ما يجري لدى بعض الشعوب المسلمة من أنشطة دعوية متطرفة يذكرها الكاتب الروسي رومان سيلانتيِف الأستاذ المساعد في جامعة موسكو للألسنية في مقال بعنوان "  الحركة الوهابية في شمال القوقاز ، النشأة ، والصعود والمستقبل ، نشره موقع " الأوان " بتاريخ 25 آذار / مارس 2010 ، يورد فيه تفاصيل مهمّة عن التغييرات المذهبية التي حصلت في تلك الربوع بسبب النشاط الوهابي المكثف ، ففي الأصل ـ كما يقول التقرير ـ " ينتمي مسلمو شمال القوقاز أساساً إلى اثنين من مذاهب الإسلام السنّي ، هما المذهب الحنفي ( المنتشر في كلّ مكان ) ، والمذهب الشافعي ( الذي يعتنقه أساساً الشيشان والإنغوش وأكثر سكان داغستان) ... غير أن البداية كما يقول الكاتب ـ لم تكن بنت الأمس ... " فقد كانت هناك معلومات موثوقة منذ خمسينات القرن الماضي حول وجود خلايا وهّابية في داغستان ... تمثِّل قوّة ذات وزن ، ثم لم تلبث أن أعلنت عن نفسها بصوت عالٍ عام 1989. يومها تمكّن الوهابيون في بلدان آسيا الوسطى وداغستان من القيام بانقلابات في الإدارات الدينية في تلك المناطق وإبعاد المفتيين عن مراكزهم هناك . وسرعان ما أدّى ذلك في شمال القوقاز إلى سقوط دار الفتوى، وانشقاق المسلمين في داغستان وفقاً لانتماءاتهم القومية .. ويرتبط التزايد العاصف في عدد الوهابيين خلال أواسط التسعينات بعودة المجموعات الأولى من أولئك الطلاب الذين كانوا يدرسون في الخارج . ومن جهة أخرى، ساعد على انتشارهم نشوب الحرب الشيشانية الأولى التي قدّمت لهم عوناً جباراً في هذا المجال، وشارك فيها مئات من الوهابيين المرتزقة .... كما أنّ الوهّابيين، الذين كانوا يفضِّلون أن يسمّوا سلفيين ، أفادوا من الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالبلاد ، إذ كانت تصلهم من المسلمين في الخارج معونات مالية لا يستهان بها ساعدتهم على تجنيد أنصار جدد بسهولة . على أنّ عملية إرسال الشباب إلى المدارس الدينية في البلدان العربية وتركيا هي التي لعبت الدور الحاسم في تقوية الإسلام غير التقليدي هناك .." .

رابعا ـ الحاضنة الاجتماعية داخل المجتمع المتّسمة في أغلبها بالجهل والفقر معا ، وهما العنصران اللذان يسهل بهما اختراق تلك الفئات البسيطة من الناس ، تحت وطأة الحاجة ، حينما يتم استغلال سلاح المال من طرف تلك الجماعات .. وهو ما يعيدنا في النهاية الى مصادر التمويل ..

وبالفعل فقد كان الحديث في الحلقات السابقة في مجمله عن التنظيم العالمي للاخوان المسلمين ، ووسائله المختلفة في جمع المال ، في حين تتحدث العديد من المصادر عن موارد أخرى بالنسبة للجماعات المتطرفة قد تكون أكثر سخاء عليهم لغزو المجتمعات بالمال الفاسد ، حيث يبدو أن العبرة بالنسبة لهم تكون بالنتائج التي تتحقق في الواقع ، لا بالأخلاق .. فما هي اذن مصادر التمويل عند هذه الجماعات ..؟؟
 للحديث بقية ..

                        ****
                                       (14) .


لم يبق من هذا الحديث المطول عن الحركات الدينية غير النهاية ، بعد أن عرضنا جزءا مهما وغامضا من تاريخها وهو المتعلق بمصادر تمويلها التي استطاعت من خلالها أن تغزو العالم باكمله ، غير أننا لا يمكن أن ننهيه دون الحديث عن مصادر أخرى قد تكون أكثر اهمية من ناحية خطورتها على السلم العالمي من جهة ، ومن ناحية ضخها للاموال بطريقة خيالية من جهة ثانية ، مثلما  تقول العديد من التقارير ..
ففي ملف تمويل الارهاب على موقع بوابة الحركات الاسلامية نجد تفاصيل مهمة تتحدث عن بعض المصادر الأساسية للتمويل عند الجماعات الارهابية ومنها تجارة المخدرات التي تضخ امولا طائلا حيث ترتبط هذه الجماعات بعصابات التهريب عبر الحدود ، وبشبكات المافيا التي تروج المخدرات في جميع انحاء العالم ..  ويعرض الملف في هذا الجانب قول الارهابي وعضو تنظيم القاعدة أيمن العولقي : " ان هناك 44 طريقة لدعم ما أسماه " الجهاد "، كانت على رأس هذه الوسائل 10 إستراتيجيات ركزت على المال " ..
وفي هذا الخصوص ايضا حسب نفس المصدر فانه وفقاً لـ "إدارة مكافحة المخدرات" الأمريكية ، فإن 19 منظمة ، من بين 43 منظمة تم تصنيفها كمنظمات إرهابية أجنبية ، ترتبط فعليا بتجارة المخدرات العالمية ، غير أن 60% من هذه المنظمات ترتبط بصناعة المخدرات أيضاً بخلاف التجارة  فيها .. "   
 وفي تقرير صادر عن الامم المتحدة ـ يقول الملف ـ أن " عائدات تجارة المخدرات كنشاط غير مشروع  قدرت بـنحو 322  بليون دولار، لذلك اعتبرت المخدرات التجارة الغير مشروعة الأكثر ربحاً في العالم قبل حتى التجارة في الأسلحة .. " . وبنفس الطريقة تقريبا سعت الجماعات الارهابية  لدعم مداخيلها عبر وسائل الارهاب التي تتخذ منها وسيلة اساسية في الحصول على المال منها ايضا اختطاف الاجانب كرهائن يقع تحريرها بمالغ خيالية أو قتلها بدم بارد ، للمزيد من الضغط على الحكومات والجهات المعنية  في المرات اللاحقة  .. وفي هذا الصدد نجد على  موقع الشرق العربي تقريرا للخارجية الامريكية حول الارهاب  يتحدث عن عدد الضحايا والمخطوفين  في سوريا خلال السنة الماضي يقول : " إن عدد الهجمات الإرهبية بلغ 13463 هجوما بزيادة 35 في المئة على 2013 أسفرت عن سقوط 32700 قتيل بزيادة 81 في المائة "... ثم أضاف " أن أكثر من 9400 شخص خطفوا أو احتجزوا رهائن بأيدي المتشددين وهو ثلاثة أمثال المعدل بالمقارنة بالعام السابق . "  ويذكر مركز ( DW ) الاعلامي الالماني أن"  ندوة مكافحة تمويل الإرهاب في  9 سبتمبر 2011 التي استضافتها وزارة الخزانة الأميركية ، قد شهدت تركيزا على أساليب المنظمات الإرهابية الجديدة في البحث عن مصادر تمويل ، من خلال خطف السياح وطلب الفدية والسطو على البنوك والاتجار في المخدرات والبشر " . وحسب التقارير الامريكية والدولية فان تنظيم القاعدة الذي وقعت محاصرته بسبب سياسة " تجفيف منابع الارهاب المضروبة حوله بجميع  المؤسسات المالية في العالم ، فانه قام  بنقل انشطته الى عدة مواقع في افريقيا مثل السواحل الصومالية والمناطق الصحراوية التي يتم فيها اختطاف الاجانب مقابل فدية طائلة كما يقول  مايكل جاكوبسون  ، المتخصص في  تمويل الإرهاب في الخزانة الأمريكية : " لقد أصبح هناك العديد من الخلايا على اتصال بتنظيم القاعدة ، ولكنها تقوم بتمويل عملياتها من خلال الخطف والاحتيال وتهريب المخدرات ، وتشير التقديرات إلى أنه منذ عام 2007 استطاع تنظيم القاعدة في المغرب العربي تحقيق تمويل ضخم وصل إلى حوالي 130 مليون دولار من أعمال الخطف ومساعدة تجار المخدرات ... "
وبحسب تصريحات مستشار الرئيس الجزائري " كمال رزاق بارة " كما يقول تقرير البوابة الاسلامية " فإن عمليات الاختطاف التي استهدفت غربيين في الساحل الإفريقي جلبت للإرهابيين أكثر من 150  مليون يورو في الخمس سنوات الأخيرة فقط في منطقة الساحل المغربي ..  وهو ما يتكرر بشكل مستمر في بلاد ، مثل اليمن  وليبيا ، حيث سبق للتنظيم في اليمن أن حصل على 6 ملايين يورو عند إطلاقه سراح 3 من الرهائن الفرنسيين عام 2011 ، والحصول على 10 ملايين دولار من الحكومة السعودية ، مقابل الإفراج عن الدبلوماسي السعودي عبد الله الخالدي عام 2012 ، وتعتبر هذه مجرد أمثلة بسيطة للأرباح الطائلة التي تجنيها القاعدة من عمليات الخطف وحدها . 
وفي مجال المخدرات أيضا ، ينقل المركز الالماني للاعلام تفاصيل ما يسمى بـ " عملية نيسي " في اسبانيا حيث تمكنت الشرطة هناك من ضبط 22 طنا من الحشيش ومليوني يورو واعتقلت مائة شخص من الخلية  التي تم كشفها وتفكيكها خلال العملية .. ويقول الخبير في شؤون الإرهاب كارلوس ايشفيريا  في حوار مع " أي آر دي" ( القناة الألمانية الأولى) بأن " الحشيش يزرع بكميات كبيرة في شمالي المغرب حيث توجد مجموعات إسلامية متطرفة ، تزداد شعبيتها باستمرار" ويتابع بأن الإسلاميين لا يترددون في تمويل نشاطاتهم من المخدرات ، رغم أن ذلك مخالف للشريعة الإسلامية " ..  ويواصل التقرير قائلا : " ان أكثر ما يثير قلق الخبراء في شؤون الإرهاب هو مدينتا سبتة ومليلة  ، حيث تعتبر سبتة مركزا  لتجارة المخدرات ، ففي هذه المدينة الصغير التي لا يتجاوز عدد سكانها الـ 80 ألف نسمة تم عام 2013 التبليغ عن 900 عملية تهريب للمخدرات ، وعلاوة على ذلك تعتبر سبتة معقلا للجماعات الإسلامية .."
أما في أفغانستان الموقع الرئيسي لتنظيم القاعدة وطالبان ، فانها ـ حسب تقرير البوابة الاسلامية ـ البلد الذي " يتصدر قائمة الدول الأكثر إنتاجاً للحشيش في العالم في العام 2010 .. وفي تقرير صدر عن منظمة الأمم المتحدة تم رصد احتلال أفغانستان المرتبة الأولى لإنتاج الحشيش ، إلى جانب مركزها الأول كمنتج  للأفيون ، العنصر الاساسي  في إنتاج الهيروين ، والجدير بالذكر أن كيلو الهيروين يتكلف من 4000 إلى 5000 دولار، بينما يتم بيعه بسعر خيالي يبلغ ما بين 250 ألفا إلى 300 ألف دولار .. وتؤكد تقارير الأمم المتحدة أن محصول الأفيون سيصل إلى 6100 طن سنويًّا ، والنسبة الأعلى منه تأتي من جنوب البلاد الخاضعة لسيطرة حركة طالبان المتحالفة مع تنظيم القاعدة ، ولا يخلو في أقاليم أفغانستان الـ34 من زراعة الأفيون سوى 6 أقاليم فقط ، ما يعني أن البلاد كلها تزرع الخشخاش وتصدره للعالم .ويكفي معرفة أن تفجيرات قطار مدريد في عام 2004 التي قتل فيها 191 شخصاً والمتورط فيها تنظيم القاعدة ، تم تمويلها بصورة جزئية من مبيعات التنظيم للحشيش ، إلى جانب تهريب " الأقراص المضغوطة " المزيفة .." 
وبالاضافة الى ذلك فان جل شبكات التهريب في العالم لا تخلو من ناشطين تابعين للتنظيمات الارهابية بجميع انواعها ، يعملون في مجالات مهمة منها تجارة الاسلحة وتهريب التبغ .. وحسب  تقرير بوابة الحركات الاسلامية   فان " تنظيم  " القاعدة " يعتمد بشكل أساسي على زراعة التبغ وتهريبه خاصةً في منطقة شمال إفريقيا ، ففي  الجزائر ومصر وليبيا  والمغرب  وتونس  فقط  تبلغ نسبة المستخدمين للتبغ نحو 44 % من الاستخدام الكلي لإفريقيا ، وهو ما فتح أكبر الأسواق السوداء للتنظيم للتجارة في التبغ المهرب ، وقد نشرت صحيفة " الأوبزرفر" البريطانية تحقيقا حول تأثير تهريب السجائر على إشعال عنف المتطرفين في إفريقيا ، يقول : إن تجارة التبغ غير المشروعة تحقق مليار دولار في شمال إفريقيا وحدها  ..  
 وقد لمع في هذه التجارة عضو تنظيم القاعدة في الجزائر "مختار بالمختار" الذي لقب بـ" السيد مارلبورو" ، بسبب تكوينه لثروة طائلة من هذا النشاط .. "
وفي مجالات أخرى ، وحسب التقرير السنوي للخارجية الامريكية الذي نقله مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية ، فان تنظيم داعش استطاع جمع  مبالغ  مالية طائلة من جميع انحاء العالم متبعا " نظام تمويل معقد ومتنوع ، يبدأ من منظمات “واجهة ” تعمل تحت غطاء مؤسسات خيرية ليصل إلى عمليات بيع النفط في السوق السوداء وفرض ضرائب على سائقي الشاحنات المحليين وأصحاب الأعمال وموظفي الحكومة السابقين . ولسوء الحظ ، تنبثق غالبية إيرادات الجماعة من موارد محصنة بمعظمها من التدابير التقليدية المعتمدة لمحاربة تمويل الإرهاب . على سبيل المثال، كان تنظيم «القاعدة» يعوّل بشدة على مانحين أثرياء في الخليج ، مما جعله عرضة لإجراءات وزارة الخارجية الأمريكية المتخذة من خلال الأنظمة المصرفية الرسمية.
 وفي المقابل ، يجمع تنظيم « الدولة الإسلامية » الجزء الأكبر من أمواله من داخل الأراضي الخاضعة لسيطرته. فمن الصعب استهداف العائدات من الأراضي المحلية – عن طريق أنشطة متنوعة مثل الابتزاز والجريمة وفرض الضرائب على السكان المحليين ، وبطبيعة الحال ، عن طريق بيع النفط والقطع الأثرية ,, كما وسع تنظيم « داعش » إلى حد كبير قاعدة إيراداته ، عبر “استيلائه على أراضي في العراق وسوريا على نحو غير مسبوق” . وقد حقق أعظم مكسب مفاجئ له على الأرجح من خلال استيلائه على الموصل في حزيران / يونيو  2014 ، الأمر الذي سمح له بنهب المصارف بحرية وفرض ضرائب على العمليات التجارية وابتزاز السكان . وفي حين من المستحيل معرفة الأرقام الدقيقة ، تقدّر وزارة الخارجية الأمريكية أن “ تنظيم «الدولة الإسلامية» قد حصل ما يصل إلى عدة ملايين من الدولارات شهرياً بواسطة شبكات الابتزاز المتنوعة والنشاط الإجرامي في الأراضي التي نشط فيها " .. وفي مجال تهريب النفط فان عائدات تنظيم داعش تقدر بارقام خيالية ، خلال السنوات الاخيرة التي سيطر فيها على مناطق واسعة من العراق وسوريا ، يقول تقرير جريدة الغارديان البريطانية المنشور بتاريخ 20 نوفمبر 2014 على موقع " التقرير" حول موضوع التهريب ، بأن هذا التنطيم الارهابي قد شدد قبضته " على  موارد النفط في العراق ، وترأس  إمبراطورية معقدة من التهريب مع تصدير غير قانوني لتركيا والأردن وإيران ، بحسب مهربين ومصادر عراقية رسمية .. " ثم يضيف نفس التقرير بأن المسلحين الذين يسيطرون على عدد هام من حقول النفط  ، قد  " استطاعوا تشغيلها خلال مدة قصيرة ، ثم استطاعوا عمل شبكات تجارية في شمال العراق ، حيث كان التهريب حقيقة حياتية هناك لسنوات .. ومعظم هذا النفط  يذهب الى كردستان العراق .. ثم  يباع مجددا لتركيا وإيران " وهو ما جعل تنظيم داعش يخصص رواتب عالية تقدر بـ "  500 دولار للمقاتل ، و1200 دولار تقريبًا للقائد العسكري .. !!   
 وفي تقرير صحفي لصوت روسيا نشر على موقعها في 1 اكتوبر 2014 " فإن داعش تستمر باستخراج نفط العراق وتنقله علناً عبر الشاحنات إلى تركيا ومنها إلى إسرائيل .."
وحتى ننهي هذا الملف الشائك فاننا يمكن ان نعرّج على تدفق الاموال من الدول الخليجية بشكل رئيسي كما تقول التقارير الدولية المتابعة لنشاط الجماعات الارهابية .. حيث يمكن تصنيف هذا الدعم الى صنفين :
صنف تدعمه الدول والحكومات اما بشكل مباشر عن طريق المساعدات المالية والاسلحة كما تفعل الدول الخليجية مثل قطر والسعودية والكويت والامارت مع اختلاف في الجهات التي تتولى دعمها ، أو بشكل غير مباشر كما تفعل بعض الدول الاخرى عن طريق تسهيلات الدخول والايواء وجلب المتطوّعين والتبادل التجاري معها مثل بيع النفط وشراء الاسلحة والتهريب ، وغيرها من المعاملات التي تقوم بها دول مثل تركيا والاردن والكيان الصهيوني .. 
أما الصنف الثاني من الدعم  فهو يأتي من الحاضنة الشعبية في الدول الخليجية وغيرها التي تقوم بتنشيطها الخلايا النائمة والداعمة للارهاب في هذه الدول والتي ينخرط فيها ممولون وداعمون للارهاب على أعلى مستوى ، من الوزراء ، واعضاء مجالس نيابية ، وكبار المسؤولين في الدولة فضلا عن الشرائح الاجتماعية الأخرى  ..
وفي هذا الصدد يقول تقرير صوت روسيا المذكور أن : " الأمير عبد الرحمان السعودي  يعتبر المموّل واللاعب الأساسي للتنظيم فهو شقيق وزير الخارجية وشقيق سفير الممكلة السعودية في واشنطن .. "
 كما تتناقل اغلب المواقع الالكترونية تقرير مؤسسة الدفاع عن الديمقراطية الذي جمع عدة معلومات مهمة حول تورط بعض الشخصيات البارزة في قطر المورطة في تمويل الارهاب ، ويذكر منها التقرير عبد الرحمان النعيمي الذي كان يرأس " المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في الدوحة ، والذي يرأسه حاليا "  عزمي بشارة " .. وهو ـ كما يقول التقرير ـ  من مؤسسي مجموعة " الكرامة " الحقوقية بجنيف ، ومن المشاركين في عدة حملات ومنظمات خيرية ورياضية ..  ويعتبر النعيمي حسب هذا التقرير الامريكي ، من بين كبار الشخصيات الممولة للارهاب ، فهو الذي " حوّل ملايين الدولارات ، خلال أكثر من عشر سنوات ، إلى مجموعات تابعة لـ" القاعدة " في العراق ، وسوريا ، واليمن والصومال ... كما موّل " عصبة الأنصار" في لبنان المرتبطة بـ" القاعدة " والموضوعة على اللائحة السوداء منذ عام2001 .. وأعطى مبلغ مليوني دولار شهرياً لـ" القاعدة في العراق" .
وفي الفترة الأخيرة أرسل مبلغ 600 ألف دولار إلى " أبو خالد السوري" مبعوث أيمن الظواهري في سوريا .. وأعطى كذلك في وقت سابق 250  ألف دولار لقادة حركة " الشباب " الصومالية ... كما يذكر التقرير احد أرفع موظفي الدولة  القطرية وهو محمد تركي السبيعي الذي كان يعمل في المصرف المركزي القطري وهو متهم من طرف واشنطن بأنه قام بـ " تقديم دعم مالي لخالد الشيخ محمد  أحد مهندسي هجمات 11 سبتمبر 2001  " ،  كما تتهمه واشنطن بـ  « نقل الإرهابيين الذين يتمّ تجنيدهم  بمراكز تدريب «القاعدة» في باكستان . كذلك عمل كصلة وصل دبلوماسية بين « القاعدة » وأطراف أخرى في الشرق الأوسط " .. 
وبعدها ـ يقول التقرير ـ " وضعته الأمم المتحدة بدورها على لائحة «القائمة» السوداء . ورغم تعهّد السلطات القطرية بـ « إبقائه تحت السيطرة» ، تمّ عام 2014 القبض على شخصين أردنيين يحملان الهوية القطرية وقالت واشنطن إنهما عملا مع السبيعي عام 2012  وقاما بنقل مئات آلاف الدولارات إلى « القاعدة » في باكستان ..."
هذا " غيض من فيض " ... وقد يصدق هذا المثل على كل المعلومات التي جمعناها حول مصادر تمويل حركات الاسلام السياسي ، وقد كان هدفنا منذ البداية الوصول الى نفي فكرة واحدة منتشرة لدى العامة ، مفادها ان هذا المشروع الظلامي يلقى الرواج لأنه يقنع الناس ..


للحديث بقية ..

                       ****
                                     (15) .


التمويل بالنسبة لأي حركة سياسية هو بمثابة الشريان الذي يغذي الاعضاء في جسم الكائن الحي ، وهذا بشكل اجمالي وعام ، أما بالنسبة لحركات الاسلام السياسي ، فهو مصدر تطرف وارهاب بالنسبة للأصحاب النزعة المتشددة ، وهو مصدر هيمنة وتغوّل في المجتمع بالنسبة للحركات التي تصف نفسها بالاعتدال .. وسواء بالنسبة لهذا الطرف او ذاك ، فان كلا الهدفين هما اللذان دفعا هذه الحركات للتمدّد أولا ،  ثم للعمل من أجل السيطرة على المجتمع واقصاء المخالفين في مرحلة ثانية  .. وهكذا تحوّلت حركات الاسلام السياسي الى امبراطورية مالية مترامية الأطراف ، هي التي أدت في النهاية الى وجودها في الصدارة ، وليس  لاي سبب آخر كما يتصور البعض ، وقد ساعدتها عدة ظروف أحسنت هي بدورها استغلالها ، منها :

ـ وجود حالة التجزئة التي فرضت على الامة العربية قيام انظمة اقليمية معادية بطبيعتها للحركة القومية ، فكان لا بد من الرهان على القوى الاصلاحية في المجتمع ، والتي كانت تختلف في كل الدول العربية من فترة الى اخرى حتى ظهر الاسلام السياسي بطبيعته الاصلاحية متمثلا في الاخوان المسلمين  ، التي كانت تقبل بالتنافس مع الانظمة الرجعية أينما يُسمح لها بالنشاط .. وقد كان القبول المتبادل بالتنافس بينها وبين الاحزاب الحاكمة يتم عادة  في الاقطار التي تحكمها الانظمة الرجعية المعادية لمشروع الوحدة ، وذلك بعد مهادنتها لها واعترافها بشرعيتها ، والتزامها بالشروط والقوانين المسموح بها في كل قطر .. ورغم انها تنافس فقط على بعض المقاعد في المجالس النيابية التي تسيطر عليها الاحزاب الحاكمة في كل دولة ، الا انها قبلت بالنشاط المشروط ، والخضوع في اغلب الاحيان للحاكم بأمره في أي قطر ، مثلما هو حاصل معها على مدى خمسين عام او اكثر في كل من الكويت والاردن والسودان والمغرب منذ السبعينات .. في حين كانت تتمرد ، وتتحوّل الى أحزاب مشاكسة ومعارضة في الاقطار التي كانت تحكمها الانظمة القومية مثل مصر وليبيا وسوريا والعراق ،  فتتحالف ضدها مع دول وحكومات أخرى عربية وأجنبية ، ثم تشرع في التخطيط للانقلاب والفوضى والعمل الارهابي في هذه اللأقطار دون غيرها .. !! وهكذا كان تاريخ تلك الجماعات  منذ نشأتها .. ولعل بقاءها وتعايشها مع النظام الملكي في مصر على مدى اكثر من عقد ونصف ، ثم انقلابها على النظام الجديد في ظرف وجيز رغم كل البوادر الثورية التي كانت ظاهرة على نظام ثورة يوليو ، ورغم استثنائها من اجراء حل الاحزاب الرجعية في بداية الثورة ، هو ما يؤكد هذا النهج الذي سارت عليه في كل الاقطار .. !! وهو ما يؤكد عداءها الفعلي للمشروع القومي الذي تأكد مع مرور الوقت وخاصة بعد موجة الثورات التي انقلبت فيها حركات الاسلام السياسي انقلابا رهيبا على المجتمعات ، ودفعها انتصارها الوقتي في كل من تونس ومصر الى المزيد من الغرور ، والطموح الكاذب الى بناء امبراطورية اخوانية من تركيا شرقا الى ليبيا وتونس غربا ..
  
ـ وجود ظرف خاص مرّت به الامة العربية على مدى قرون طويلة اتسم  في مجمله بقلة الوعي الشعبي والجهل والتخلف الذي جعل عقول الناس تمتلئ بالخرافات والمعتقدات الفارغة ، مع غياب كلي لأي معرفة بجوهر الدين ، تمكن الإنسان المسلم من التمييز بين حدود المحكم الصريح الذي يجب اتباعه ، والمتشابه منه الذي يخوض فيه أهل الرأي من المجتهدين ، فيكون في أمره سعة ، وأخذ وعطاء  بين الناس .. وهذا الوضع  هو الذي مكن حركات الاسلام السياسي من توظيف الدين واستغلاله في خدمة الاغراض السياسية ..

ـ وجود وضع اجتماعي هش في أغلب الاقطار العربية مكّن تلك الحركات من استغلال سلاح المال السياسي لجلب الاتباع والانصار عند كل حملة انتخابية للظهور بمظهر القوة الفاعلة خلال التنافس مع الانظمة الحاكمة ، والأحزاب الاصلاحية التي يسمح لها وحدها بالنشاط  السياسي ، وهو جانب نفسي مهم أحسنت استغلاله حركة الاخوان المسلمين في التاثير على توجهات الفئات الشعبية ، في الوقت الذي كانت تتعرض فيه الحركات القومية الى الاقصاء من المشاركة مثلما كان حاصلا في مصر طوال فترة السبعينات والثمانينات ، أو ترفض فيه العمل القانوني في بعض الاقطار مثل تونس باعتبارها لا تسعى الى اصلاح النظام ، بل الى الثورة عليه لاحداث تغيير جذري في المجتمع ..

ـ القدرة الهائلة لتلك الجماعات ـ وخاصة المتطرفة منها ـ على " الكمون " داخل المجتمعات ، والتكيف مع الظروف بجميع أنواعها ، حيث تتحول بعض خلايها في بعض الحالات الى ما يسمّى بالخلايا النائمة ، وهي في طريقة انتشارها وتمدّدها شبيهة الى أبعد الحدود بالخلايا السراطانية التي تنشأ في نقطة ما من الجسم السليم ، ثم تنتشر فيه خلال مرحلة هادئة ، مليئة  بالسكون الخدّاع ، الذي سرعان ما ينتهي بهجوم المرض على الجسم بأكمله معلنا تدميره دفعة واحدة .. !!   

ـ وجود الحركة الصهيونية والأطماع الاستعمارية في ثروات الامة ونهـبها ، أمام تنامي  حركة قومية معادية بطبيعتها لتلك الاهداف ، جعل امكانية الصدام بينهما أمرا حتميا ، وهو ما أدى الى محاصرتها ، واستهدافها  اما بشكل مباشر عن طريق العدوان كما حدث في مصر سنة 56 و67 ، و في ليبيا  سنة 85 ، والعراق  ثم سوريا منذ 1990 الى الآن .. أو عن طريق الحصار الاقتصادي وتحريك الطابور الخامس في الداخل مثلما حصل مع ثورة يوليو على مدى الخمسينات والستينات ..

ـ ميل الاخوان منذ نشأتهم الى النهج الاصلاحي ، جعل طبيعتهم تنعكس على خطابهم وأسلوبهم في التعامل مع القضايا القومية ، حيث كان قبولهم بالتعايش مع الأنظمة الاقليمية الرجعية المتحالفة مع الاستعمار معناه القبول بالخضوع  للهيمنة الخارجية التي كانت تحاربها الانظمة القومية على امتداد فترات حكمها .. حيث لم يخضع على مدى اكثر من نصف قرن ، اي نظام قومي لاي جهة خارجية مهمى كانت قوتها او جبروتها ، بل لقد كان لهم الشرف جميعا في تصدّيهم للاستعمار وأعوانه حتى سقط بعض رموزهم شهداء في ساحات المعارك .. وقد أدت تلك المراحل الدقيقة من الصراع على السلطة ، الى الصّدام ، والمواجهة التي اتخذت في بعض المراحل شكلا دمويا اختارت فيه حركة الاخوان المسلمين اسلوب الانقلاب ، والغدر الذي يبيح لها الاغتيالات مثلما حدث في حادثة المنشية سنة 54 ، والتخطيط للفوضى والتمرّد المسلح  مثلما فعل التنظيم الخاص سنة 1965 في مصر .. وهو ما جعل الانظمة القومية تقف في وجه حركات الاسلام السياسي كواحدة من القوى التي كانت كل أهدافها في واقع الامر تتجه الى السيطرة على الحكم بغير الاساليب التي تتبعها مع الانظمة الرجعية ، بالرغم من ان تلك الانظمة كانت كلها مُنصّبة من طرف القوى الاستعمارية على عكس الانظمة القومية التي جازفت بالقوّة للوصول الى السلطة ، واقامة أنظمة وطنية أفضل آلاف المرّات من بقية الأنظمة الرجعية العميلة .. وحتى اذا سلمنا بطبيعتها الشمولية في تلك المرحلة ،  فان الانظمة القومية وعلى رأسها نظام عبد الناصر الذي بادرته حركة الاخوان بأسلوب الغدر والانقلاب ـ وهو الذي استثناها وحدها من إجراء حل الأحزاب في 16 يناير سنة 1953 ـ لم تكن على اي حال الاسوء من بين كل الأنظمة الموجودة على الساحة العربية ..  كما انها لم تكن استثناء على الساحة العالمية ..
فهل كان للاخوان مشروع نظام افضل من الانظمة السائدة في عصرها ..؟
وان كان ذلك هو السبب ، فلماذا قبلت  بالخضوع والتنافس والتعايش والتحالف مع كل الانظمة العربية الرجعية السائدة حتى الآن ..؟؟
ثم ما هي طبيعة الأنظمة السائدة في العالم خلال فترات الاستقلال التي تزامنت مع الحرب العالمية الأولى والثانية وتواصلت طوال فترتي الخمسينات والستينات ..؟؟ 
ففرنسا التي تعتبر مهد الثورات ، والتي صدرت فيها أولى الدساتير كانت تحكمها الأنظمة الملكية الامبراطورية التي تمثل ظل الله في الارض حتى جاء العسكري ديجول على راس الجمهورية الخامسة من سنة 1944 الى 1969 ، وهو الذي كان يرفض مساواة الجزائريين مع الفرنسيين بمنحهم الحق في الاستقلال ، معتبرا الجزائر مقاطعة فرنسية .. !! وألمانيا  كان يحكمها هتلر الغني عن التعريف ، وايطاليا كان يحكمها صديقه الحميم وحليفه موسيليني الشهير ، واسبانيا كان يحكمها الجنرال فرانكو الذي بقي في الحكم  من 1936 الى 1975 ، وروسيا كان يحكمها ستالين والحزب الشيوعي السوفياتي بمفرده .. ونفس الشئ  تقريبا في الصين التي شهدت الى حدود الامس القريب ما سمي بربيع بيكين سنة 1989 ، وغيرها من دول الكتلة الشرقية ودول امريكا اللاتنية التي كانت تحكمها الانظمة الشيوعية التي لا تعترف سوى بديكتاتورية البروليتاريا الخ .. فاين الديمقراطية اذن .. ؟
 هل هي مثلا في الدول الآسوية والافريقية المتخلفة والتي لم تزل ترزح تحت الاستعمار في ذلك الوقت ، أم في  الاقطار العربية التي تحكمها أنظمة لا ترى شعوبها صناديق الاقتراع سوى في نشرات الاخبار .. ؟ 

للحديث بقية ..

                      ****
                                    (16) .


 يبدو أننا أسهبنا في الحديث عن مصادر التمويل للحركات الدينية التي باتت في موقع العداء الصارخ  للمشروع القومي ، وهي تنخرط عمليا في تفتيت الأمة وتتحالف مع أعدائها الخارجيين والمحليين ، ثم تستهدف الحركة القومية في رموزها مثلما حصل للشهيد البراهمي في تونس .. وقد كان هذا الاسهاب بغرض التأكيد على ما وراء  التغول لحركات الاسلام السياسي من وسائل غير شريفة وهي تتحدث عن الدين ، والبنوك الاسلامية ، ومقاومة الربا .. بينما نجد الممارسة في الواقع عكس ذلك تماما ، حيث يبيحون لانفسهم ممارسة كل المحرّمات بحجة خدمة المشروع الاسلامي .. وهي وصاية صريحة على الدين هدفها الحقيقي السيطرة الكاملة على المجتمع  .. في حين ان الدين نهى عن ممارسة الوصاية في آيات صريح كثيرة موجهة للرسول صلى الله عليه وسلم ..  فلو شاء الله لبعث في كل أمة  وعلى راس كل قرن رسولا ، فليس هناك من هم افضل من الرسل والانبياء ليعلـّـموا الناس دينهم ، ولكنهم كذبوا على الله ورسوله حينما كلفوا انفسهم بما لم يكلف به الله أحدا بعد رسوله الكريم عندما قال : " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " ...
ولعله قد حان الوقت لكي نتحدث عن الحركة القومية بما لها وما عليها .. حتى يكون الحديث أكثر فائدة بالنسبة للمستقبل ونحن نرى الازمة الحادة التي يمر بها المشروع القومي في مثل هذا الظرف التاريخي الدقيق .. في ظل الهجمة الشرسة على الوجود القومي ، وفي ظل حالة الضعف والتشتت التي اصابت كل الفصائل القومية بسبب تقوقعها ، وانغماسها  داخل الوحل الاقليمي الذي جعلها تتحوّل تدريجيا وفي كثير من المواقع ، من حركات قومية المنطلقات  والغايات ، اقليمية الاسلوب ، الى حركات قومية المنطلقات ، اقليمة الغايات والاسلوب .. وهذه ناحية اولى مهمة ، تفسر الى حد ما حالة الرضا عن النفس  التي أدت تدريجيا ببعض الفصائل القومية الى الاستسلام للواقع ، والاكتفاء بتحقيق المكاسب الاقليمية الهزيلة .. وهكذا شيئا فشئا يطغى منطق التبرير ، حتى يتغير الخطاب تماما وتختفي الهوية القومية لهذا الفصيل أو ذاك ، حتى لا يبقى له في النهاية سوى الاسم ، وبعض الجمل الحماسية حول العـروبة ، وقضية فلسطين الخ .. 
ومن ناحية ثانية فانها تتعلق بشريحة واسعة من القوميين الذين يعلنون ولاءهم للمشروع القومي بمنطلقاته وغاياته واسلوبه القومي ، سواء كانوا داخل التنظيمات الموجودة أو خارجها ، وهم  لا يكفون جميعا عن انتقاد آدءها من حين الى آخر ، دون ان يتحوّلوا الى حالة تنظيمية واضحة المعالم تسعى لايجاد البديل عن حالة التشظي ، والتشتت السائدة في كل قطر عربي تقريبا ، وما صاحبها من سلبيات مثيرة للقلق والاستياء في بعض الأحيان ، عندما تتجاوز ظاهرة الاختلاف في الآراء والمواقف ، وتتعدّاها الى توجيه التهم ، والتخوين ، والقطيعة  .. الخ  ،  وهو ما يثير الكثير من الحرج ، والرفض ، والشعور بعدم الرضا لدى الكثيرين من أبناء الحركة القومية حينما يتوجه اليهم خصومهم بالنقد اللاذع من خلال السؤال : كيف يسعى القوميون الى تحقيق الوحدة العربية في المجتمع ، وهم عاجزون عن تحقيق الوحدة التنظيمية داخلهم ، فتكون مواقفهم متضاربة احيانا ولا تعبر فعلا عن مرجعيتهم الواحدة ..  !!


 للحديث بقية ..

                       ****
                      (17) .                    


لا شك أن تأخر المشروع القومي عن الانجاز  لأكثر من نصف قرن ، زاد في تباين المواقف ، وأدى الى الانقسامات الحادة في صفوف الحركة القومية  ، فكان ذلك سببا في حصول التشرذم التنظيمي ،  ونتيجة له في نفس الوقت ..
سببا لان في غياب وحدة الموقف تغيب وحدة الصف ، فلا يحصل اتفاق ، ولا وحدة تنظيمية مطلقا ..  
ونتيجة لان وحدة الموقف والحركة لا تحصل الا في تنظيم موحد يحسم خلافاته على اساس القاعدة الديمقراطية ..
وهكذا فانه من الطبيعي ـ في غياب المشروع القومي الواحد ـ أن لا يوجد الا  تنظيمات متعددة بتعدد الساحات في كل قطر أو بتعدد الزعامات في القطر الواحد احيانا .. وهو ما يؤدي بالضرورة الى اتساع الهوة ، وزيادة الحساسيات حتى يصل الأمر الى مثل ماهو حاصل الآن ،  مهما عوّل القوميون على النوايا الحسنة ، والارادات الصادقة ..
لكن هل يحتاج القوميون الى الحديث من جديد عن الاسلوب ؟؟
الا يعرفون أن مشروع الحركة العربية الواحدة معلق منذ عام 1963 ..؟؟
الا يعرف كل القوميين أن وحدة الهدف من وحدة الآداة ..؟. ووحدة الآداة من وحدة الصف ..؟؟
بلا .. ومنها نتعلم أن وحدة الصف أولا .. لكنها مستحيلة دون وضع حد ـ بطريقة عملية ـ للتفكير بمنطق الفرقة الناجية ..
فالقوميون بكل مدارسهم الفكرية  لا يختلفون ـ من حيث المبدأ ـ على ضرورة قيام التنظيم القومي بخصائصه المعروفة : الاستراتيجيا الواحدة ، والقيادة الواحدة  .. وهم بما يمتلكونه من قدرات فائقة على قراءة المرحلة وحيثياتها قادرون على استنباط الحلول ، ووضع الخطط والأساليب اللازمة لقطع الامتداد التلقائي للازمة ، لو تحقق لهم شرط واحد ، هو ما يحتاجونه  الآن ، متمثلا في ضبط الحد الأدنى المتعلق  بـ " ثوابت " الحركة القومية ، لتحقيق الحد الأدنى أيضا من وحدة الصف والأهداف القومية في مثل هذه المرحلة الحساسة التي يتم خلالها انتقال  معسكر الأعداء ، من التخطيط الى التنفيذ  لانهاء المشروع القومي جملة وتفصيلا ،  بتفتيت المفتت ، الذي سيزيد بدوره في تفتيت القوميين حينما يجدون انفسهم في كيانات جديدة  قائمة على أسس طائفية او عرقية أو مذهبية ، متصارعة ابدا  ،  ويسعى كل منها للاحتماء بالأجنبي ولو على حساب مستقبل الكل .. بل على الأرجح وقتها أنهم سيجدون أنفسهم تحت طائلة الإرهاب والاغتيالات والتصفيات الجسدية على غرار ما يقع في جميع الأقطار التي دخلتها الفوضى ، وستقع عليهم وقتها جسامة المسؤولية  في حق أنفسهم وأمتهم بأكبر مما وقعت على القادة السابقين  ، لانهم لم يتعلموا من تلك الأخطاء المدمّرة التي وقعت خلال العقود السابقة .. ويكفي أن يحاول أي قومي تقدمي اختبار قدرته على الخيال لو قلنا : ماذا كان يحدث لو خفض القوميون في تلك الفترة من منسوب الأنا عندهم ، مستفيدين من أخطاء وحدة  1958 ، وما تلاها من هزيمة سنة 1967،  ليحققوا بعد ذلك وحدة سوريا والعراق ـ فقط سوريا والعراق ـ تحت حكم الحزب الواحد ذو الايديولوجيا الواحدة ؟؟ هل سيكون وقتها حال الأمة مثل حالها اليوم ؟؟ وهل يعقل أن نحمّل كل الخيبات للأعداء في حين لا نتقدم خطوة واحدة لوضع اللبنات والأسس لتلك  الوحدة التنظيمية المنشودة .. ؟؟ الا يمكن تحقيق وحدة الصف تحت شعار " وحدة القوى القومية "  التي يجب ان تسبق أي وحدة تنظيمية على قاعدة بسيطة : ثوابت الحركة القومية بكل ما فيها من خطوط عريضة وفروع ان لزم الأمر .. ؟؟  
فليكن ،، لكن كيف ..؟؟؟

جدلية المحكم والمتشابه ..

الحديث عن الثوابت ليس معناه ان هناك أشياء ثابتة غير متحركة ، أو أن القوميين اذا حددوا ثوابتهم قد تقيدوا عن الحركة .. ان المقصود بالثوابت هو تلك المضامين والاهداف التي قام عليها المشروع القومي منذ نشأته ، والتي تتحدّد بها هوية الانسان القومية ، الاكثر شمولا ، والأغنى مضامين من معاني العروبة التي لا تلزم اصحابها باي التزام عيني في الواقع سوى بعض المشاعر والعواطف والامنيات ، فتتحول الى مشروع طوباوي ، مثالي اقليمي بالاساس ، لا يميز بين مفهوم العروبة بابعادها التاريخية والحضارية ، كحصيلة لفترات طويلة من النمو والاضافة ، لم تتوقف عند مكوناتها السابقة ، ولا عند حدود اللغة التي يمكن أن يتعلمها أي انسان في أي مجتمع ، بل تجاوزتها الى جميع التحولات الاجتماعية والحضارية التي ادت في النهاية الى ظهور هذا الجسم الجديد المسمى بالوطن العربي .. وبين مفهوم العروبة كانتماء تاريخي ماضوي خاص بفترات سابقة على ظهور الكيانت القطرية الجديدة التي  ينحصر فيها مفهوم العروبة في اللغة المتداولة بين مختلف الشعوب التي تسمى وقتها شعوبا عربية .. 
ان المشروع القومي هو مشروع سياسي حضاري ، له منطلقات وغايات تبلورت من خلال التجارب القومية والمعارك ، والمعاناة التي عاشتها أجيال متعاقبة في ظل البحث المتواصل عن حلول للواقع العربي سواء في فترة التحرر من الاستعمار الأجنبي ، أو في ظل الاستقلال الوطني للدول الاقـليمية بغـثها وسمينها ..
والواقع ان فكرة الثوابت هي بالاساس فكرة دينية جاء بها الاسلام الذي تقوم مجمل أحكامه على مبدأ الثوابت والمتغيرات ، المعروفة عند الفقهاء ، بالمحكمات والمتشابهات ..
قال تعالى في محكم تنزيله : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هـن أم الكتاب وأخر متشابهات ، فأما الذين في قلوبهم زيغ فـيـتـبـعـون ما تشابه منه ابتغاء الفـتـنة وابتغاء تأويله وما يعلم تاويله الا الله والراسخون في العلم . ( آل عمران /7 ) .
ويقول بن كثير في تفسيره لهذه الآية : " يخبـر تعالى أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب ، أي : بينات واضحات الدلالة ، لا التباس فيها على أحد من الناس ، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم ، فمن رد ما اشتـبه عليه إلى الواضح منه ، وحكّم محكمه على متشابهه عـنده ، فقد اهتدى . ومن عكس انعكس .."
هـذا هو ديننا بكل بساطة . لو فهمه المسلمون على هذا الاساس البسيط الواضح لما اقـتـتـل الناس من أجل تلك الجوانب التي تركها الشرع مبهمة  مراعاة  لقاعدتين أساسيتين : 
سنة الاختلاف .
وسنة التطور .
 يقول الدكتور محمد عمارة في كتابه الاسلام والثورة : " و الاسلام كدين ومن خلال كتابه الكريم وسنته التشريعـية العامة ، لم يحدد لمستقـبل المسلمين نظرية اجتماعـية عامة ، ولم يشرع لمجـتمعهم تشريعا دائما بذاته ، لانه ، وهو خاتم الرسالات ، والمقرر ان لله في كونه سننا منها سنة التطوّر، والتحوّل والتغـيـيـر ، ما كان له ان يضع القيود المسبقة على المصالح المتجدّدة المتـغـيّــرة .."
وسبحان الله ..
فاذا كان في الدين يوجد المحكم والمتشابه تماشيا مع اختلاف البشر وتطورهم ، أفلا يكون أولى بأن  يوجد مثل هذا في السياسة ؟ وكيف لا تقع مراعاة هذه النواحي المهمة  أثناء التعامل مع الواقع المعقد والمتغـير ..؟ 
أفلا يمكن بالقياس على الدين - الذي وضعـت أسسه ومقاصده لحل مشكلات الناس في كل زمان ومكان ، وتنظيم حياتهم - أن يضبط أصحاب المرجعـية الواحدة ، والفكر الواحد ، والغايات الواحدة ، ما هو محكم ، كثوابت للفكر والحركة ، وترك المتشابه خاضعا  لتبدل الظروف واختلاف  البشر ، فيكون باب الاجتهاد مفتوحا للتعامل مع الواقع  الذي يستحيل فيه حاليا امكانية الحسم في المتشابه دون ايجاد  اطار تنظيمي موحد ..
ان هذه الناحية جوهـرية ومهمة لا يمكن لاي حركة سياسية تؤمن بالجدل على المستوى الفردي ( جدل الانسان ) ـ واسع الانتشار بين القوميين في الوطن العربي ـ وبالجدل على المستوى الاجتماعي ( الجدل الاجتماعي )  ، وتؤمن بالتـنوع والاختلاف ، أن تكون منسجمة مع طبيعتها القومية وغايتها الوحدوية ، دون الالتزام  بمثل هذه الضوابط  ، التي يتحدّد بها أسلوب التعامل مع رفاق الدرب في ظل غياب وحدة الآداة .. ولعـل مـثـل هذه الدواعي والاشتـراطات ليست غـريبة عن الفكر السياسي ، بل هي شبيهة بالحديث عن فكرة " الاستراتيجـي والتكـتيكـي " ..
الاستراتيجي يتحدد عادة بالأهداف والغايات البعيدة والنهائية لأي مشروع سياسي ، فهو الأكثر ثباتا ، وإحكاما في ضبط الملامح العامة  لذلك المشروع الذي يمكن أن تتاخر أهدافه سنينا طويلة و عقودا مثل المشروع القومي  .. أما التكتيكي فهو بمثل ما يدل عليه الاسم ، أكثر ارتباطا  بالممارسة الخاصة بالأهداف المرحلية التي لا تتناقض مع الأهداف الإستراتيجية .. كأن تعقد المقاومة العربية مثلا ، هدنة مع العدو دون أن يعني ذلك اعترافا به أو تنازلا له عن الحقوق الكاملة في أي مرحلة من مراحل الصراع معه ..
بمثل هذا تقريبا ، وفي غياب " الوحدة التنظيمة " يمكن أن يتحقق الحد الأدنى للتوافق على تلك الخطوط العامة ( المحكمات ) التي ستكون بمثابة عقد " للشراكة الفكرية " يسمح بحصول قناعة  تقبل بمشروعية الاختلاف فيما هو أعلى من ذلك المستوى ، اللازم لتحقيق الحد الأقصى ( المتشابهات )  ، الذي لا يمكن أن يتحقق موضوعيا في ظل غياب عنصرين مهمين :
ـ وحدة التنظيم كاطار له خاصية احتضان الحوار اللازم لاتخاذ قرارات موحدة ..
ـ والديمقراطية  كاسلوب وحيد لحسم الخلاف ، ولها  خاصية الزام المتحاورين بالوقوف على رأي واحد وموقف واحد ، هو الذي يمثل الحل الاغلبي  ..
بهذا يمكن أنهاء التشنج الذي تعاني منه الحركة القومية اليوم ، والذي لا يمكن تجاوزه الا  بتحديد تلك الضوابط التي تراعي بالدرجة الاولى الخطوط العامة في مجالي الفكر والحركة : ( المحكم ) .. في علاقة بما هو متغـيـر : ( المتشابه ) .. حتى يكون الخروج عن المحكم ،   خروجا عن النهج القومي المتفق عليه ..  بينما يبقى الخروج عن المتشابه أمر طبيعي يعود أولا لاختلاف المقدرة الجدلية بين الناس بكل تفاصيلها : اختلاف المقدرة على فهم الظروف ، اختلاف الوعي بالمشكلات ، اختلاف المقدرة على التحليل ، اختلاف المقدرة على استحضار الماضي وتصوّر الحلول في المستقبل ، الخ .. وثانيا لغياب الاطار التنظيمي الذي يمنح المختلفين امكانية الاتفاق على راي واحد مشترك بينهم  ..

فكيف يتحدّد المحكم بالنسبة للحركة القومية ..؟

                      ****
                                   (18)  .  



ثوابت الحركة القومية .. المحكمات :
- أولا : مدخل ..
شهدت الحركة القومية خلال النصف الثاني من القرن العشرين نشاطا فكريا واسعا ومعمقا ، شغل العديد من المثقفين والمفكرين القوميين ، وشمل العديد من الجوانب الفكرية والسياسية بالنقد الموضوعي للتجارب السابقة ، والجلد الذاتي في بعض الأحيان ، مع ما يلزم من مراجعات ، لتجاوز النقص والقصور الفكري الذي صاحب مرحلة التاسيس للتجربة القومية في الخمسينات .. وقد كان ذلك ثمرة لوعي العديد من رواد الحركة القـومية بدورها الريادي، وشعورا منهم بالمسؤولية ، واستجابة لتحديات المرحلة التي تشهد حالة من التردي والضعـف بسبب الهجمة الشرسة المنظمة التي تتعـرض لها الامة العـربية من عدة أطراف  ..
ورغم كل الشدائد والمحن التي واجهت الحركة القومية خلال تاريخها المشرق بالبطولات والتضحيات ، ورغم الانتكاسات التي تعـرضت لها ، فانها ظلت في طليعة القوى المناضلة التي تدافع عن الامة حتى هذه اللحظة .. وفي الواقع ، ليست الهجمات على العـراق وليبيا وسوريا الا تصفية حسابات قديمة مع الحركة القومية لا تزال مستمرة الى الآن ..
وقد كانت تلك المعارك التي خاضتها الحركة القومية فكريا وسياسيا وعسكريا وما صاحـبها من النقد والمراجعة ، عوامل مهمة ساعدت على  بلورة مبادئها الاساسية وأهدافها في بناء مشروعها التحرري الوحدوي الاشتراكي المرتبط بالعقيدة الاسلامية بأبعادها الدينية والحضارية .. كمشروع حضاري يستجيب للمتغيرات الظرفية في وسائله واساليبه ، ويرتكز اساسا على جملة من الثوابت التي أكّدتها كل التجارب القومية ، والتي يجب ان يلتـفّ حولها كل القوميين مهما اختـلفوا في التفاصيل والاساليب ، حتى يكونوا صفا واحدا في الدفاع عن أمتهم ضد كل من يفكر في المساس بأمنها ووحدتها وسلامة وجودها ومقدراتها ..

ـ ثانيا : الأسس الفكرية : المنهج  ..

المنهج هو تلك المقولات الفكرية الاساسية التي تساعد على فهم الواقع ، وجمع حيثياته ، وترتيب أولوياته ، اللازمة لبناء منظومة فكرية سليمة ، يهتدي بها الانسان وهو يسعى الى تغيير الواقع خلال حركته المستمرة  من الماضي الى المستقبل  .. وهكذا عُرفت المناهج  تاريخيا ووصفت بانها مثالية اذا كانت تعتمد على مسلمات تقول بأولوية الفكر على المادة .. أو مادية أذا كانت تلك المسلمات تقول باولوية المادة على الفكر .. وقد شهدت اوروبا والعالم تقلبات كثيرة وصراعات فكرية بين انصار هذه المذاهب ، انعكست على كل فروع الفكر والممارسة ، فكانت اشتراكيات مثالية طوباوية ، أو مادية " علمية " في عهد برودون وريكاردو وماركس ( ماركس ـ بؤس الفلسفة ) .. وكانت ديمقراطيات ليبرالية أو ديكتاتوريات بروليتارية في مطلع القرن العشرين .. وقد كان لا بد لهذا الجدل الميتافيزيقي أن ينتهي على يد المفكر القومي عصمت سيف الدولة الذي انطلق من تلك الملاحظة البديهية التي تقول بأن الانسان هو الكائن الوحيد الذي يجمع بين المادة والفكر .. فالافكار وحدها يستحيل وجودها خارج الانسان .. والمادة وحدها يستحيل ان تنتج افكارا .. وهكذا استنتج ان الصراع في النهاية لا يكون الا في الانسان نفسه ،  بين الظروف التي يعيشها  وتتجه باستمرار للامتداد التلقائي في المستقبل ، وبين الحاجة المادية والثقافية التي يشعر بها الانسان  ويسعى لتلبيتها ، فتكون المشكلة اصدق تعبير عن وجود ذلك الصراع الذي يعيشه  .. وهكذا يبقى الانسان عاجزا عن التطور ، طالما استمر وجود المشكلة ، حتى يتدخل بالحلول ، ثم بالعمل ، لقطع الامتداد التلقائي للظروف  ، ويغير الواقع .. انه " منهج جدل الانسان " الذي يمكن تلخيصه في مقولة واحدة : الانسان اولا ، دون حاجة الى تعريف .. ودون حاجة الى معرفة ما اذا كان المنهج مقبولا بهذه الصياغة داخل الحركة القومية ام لا .. فجدل الانسان فوق هذا هو قانون نوعي ، وفعاليته غير متوقفة على الوعي به . رغم اهمية ذلك بالنسبة لاي تغيير كان .. اذ ان الوعي به كقانون  نوعي خاص بالانسان يحوّله الى منهج للمعرفة ، يُخرج صاحبه نهائيا من أي سياق للتفكير الميتافيزيقي .. فيكسبه الثقة التامة في النفس عند  الاقدام على تغيير الواقع ، شرط أن يلتزم منظومة العلاقات بين القوانين النوعية والكلية التي حدّدها المنهج ..
والمهم الآن ان نعرف بأن الحركة القومية بجميع فصائلها تقريبا لا تختلف في التسليم بأولوية الانسان في قيادة الظروف والواقع  سواء من جهة النواحي الفلسفية أو حتى من جهة الخلفية الدينية التي تعتبر " ذلك الكائن " مفضلا عن بقية الكائنات بما ميزه الله عنها جميعا حينما خصه وحده بكل خصائص التفكير المركبة ، التي تتحول عنده الى مقدرة جدلية متفاوتة من شخص الى آخر باعتبار التفاوت في : المقدرة على التذكر ، والتصور ، والتركيب الذهني ، الذي يؤدي في النهاية  الى ابداع الافكار والحلول ..  وهي خصائص لا توجد الا عند الانسان مهما  ظهر عند بعض الكائنات من درجات الذكاء بسبب التدريب الذي يحصل عند تكرار نفس التمارين ، او خلال ظهور سلوك حيواني معين للتعبير عن الغريزة الفطرية مثل الامومة أو غيرها ..
الانسان أولا ... هي نقطة الانطلاق المنهجية التي تجعل الانسان العربي يواجه واقعه بثقة كاملة في النفس وهو يسعى الى تغييره .. فما عليه الا ان يفهم الظروف ، ويجمع القرائن العلمية والتاريخية والحضارية .. لتوظيفها في بناء مشروعه الحضاري ، دون أن يحيل امكانيات التغيير ، والنجاح والفشل على قوى فاعلة من وراء الواقع  .. وهو النهج الذي يمكن تأكيده حتى من الناحية الدينية حيث نجد في القرآن الكريم جزم مطلق بان شيئا لن يتغير الا اذا عمل الانسان نفسه على احداث ذلك التغيير .. قال تعالى في محكم تنزيله : " ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم " . صدق الله العظيم ..
وأكثر من ذلك ولمزيد من التاكيد على شيوع هذه الفكرة عند روّاد الحركة القومية نجد عند المفكر القومي ميشيل عفلق تاكيدا على الدور الريادي والقيادي للانسان الذي يجمع في ذاته بين المادة و الروح ، كما يقول في كتاباته المعروفة   " في سبيل البعث " في الفقرة الخاصة بالمناضل القومي  : "  المناضل العربي هو أساس الجماهير التي تقوم عليها حركة الثورة العربية التي نؤمن بأنها هي صانعة التاريخ ... لذلك أقول أيها الرفاق بأن الثورة ، كل ثورة ، والثورة العربية بخاصة إنما ولدت من اجل الإنسان العربي ، لان الإنسان هو الذي يصنع الحياة وهذه العودة بين الحين والآخر إلى الواقع بنظرة فاحصة نقدية هي التي ترينا إلى أي حد نجحنا في بناء هذا الإنسان الجديد ، في تنمية الإنسان العربي الذي هو أغلى ثروة والذي هو يصنع التنمية المادية ، الإنسان بصورة عامة في كل مكان وزمان هو مادة وروح لا يكفيه ولا يغنيه أن يأكل ويشبع فحسب ، وليس هذا أهم شيء في إنسانيته وإن كان شيئا ضروريا أن يأكل ويشبع ، ولكن إنسانية الإنسان الحقة إنما تبدأ بعد الشبع ، بعد الأكل ، عندما يحقق مواهبه وقدراته ، عندما ينظر إلى مهماته الاجتماعية والقومية التي تعطي معنى لحياته ، إنسانية الإنسان تبدأ عندما ينصرف إلى العمل والخلق والإبداع والنضال والى كل شيء يتجاوز شخصه ويتجاوز أنانيته الضيقة لأنه عندئذ يشعر بملء إنسانيته ، وبأنه ليس خلية عمياء في جسم أو في آلة ، وإنما هو فرد حر وجد لغاية سامية في هذه الحياة وأنه مطالب بأن يعطي لحياته معنى ساميا .. "
وهنا يبدو وكأن ميشيل عفقل يعبر بطريقته عن الصراع الجدلي الذي يعيشه الانسان خلال سعيه لتلبية حاجياته المادية والثقافية سواء في جانبها الخاص به كفرد أو في جوانبها الاجتماعية حينما يعمل على تطوير واقعه ومجتمعه فيصبح كائنا مناضلا ثوريا قائدا الخ ..
أما الانسان عند الزعيم الراحل  جمال عبد الناصر فهو المفكر والقائد والمغير باعتبار أن كل شيئ يبدأ عنده بالانسان ، اذ يقول : " إن النصر حركة ، والحركة عمل ، والعمل فكر، والفكر فهم وإيمان ، وهكذا كل شيء يبدأ بالإنسان .."
أما بالنسبة للدكتور عصمت سيف الدولة فان حركة الانسان ورغباته محددة بقوانين الجدل التي تم عرضها سابقا  ، حيث لا يمثل الانسان عنده مجرد عنصر من العناصر الموجودة في الواقع المادي ، بل انه كوحدة من المادة والذكاء ، يمثل الوعاء الجامع لمضمون الصراع بخصائصه المعروفة التي يمكن ان يختبرها أي انسان في نفسه ، فهو كلما افتقد حاجة ،  يشعر بالتناقض بين واقعه ( الذي يعبر عنه بالظروف ) وبين مستقبله ( الذي يعبر عنه بالحاجة ) ، وهو ما يؤدي الى نشوء " مشكلة "  تفقده جزءا من حريته في المجال الذي تمثله تلك المشكلة  ، وتعيق تطوره ، حتى يستطيع من خلال مقدرته الجدلية على ايجاد الحل المناسب لها ، وتنفيذه بالعمل الذي يؤدي الى حل المشكلة نهائيا باشباع تلك الحاجة .. ثم تنشا حاجة جديدة ، وهكذا الى ما لا نهاية ..  وتبعا لذلك يصبح لكل مشكلة مضمونا تحرريا ، وكل مضمون تحرري يتوقف على تدخل الانسان بالحل أولا ثم بالعمل .. وهو ما يجعل  الانسان قائدا ومطورا للواقع الخ .. 

وقد ساعد هذا التحديد المنهجي الدكتور عصمت سيف الدولة على فهم وتأويل المقولة المذكورة  لعبد الناصر معتبرا أنها  تمثل تلخيصا دقيقا لجدل الانسان لم يكن عبد الناصر ليصل اليها الا من خلال " المؤشر المنهجي الحضاري " الفاعل في شخصيته والذي يجعله يعبر ـ على السجية ، ودون افتعال كما قال ـ عن صدق انتمائه العربي .. فقد قال ـ مفسرا تلك المقولة في كتابه عن الناصريين واليهم ـ  ان " النصر يحقق ارادة اشباع  حاجة الانسان في الواقع حيث تجربة الماضي هي المحدّد لارادة اشباع الحاجة التي لا تتم تلقائيا الا بالعمل . والعمل حركة تسعى الى تحقيق فكرة مصوغة للمستقبل على اساس الايمان بقابليتها للتحقق . مصدر هذا الايمان ادراك لقوانين وسنن تغيير الواقع . . فالبداية أن يدرك الانسان مشكلته ادراكا صحيحا ، ويعرف حلها ، ثم يعمل على تحقيقه في الواقع فينتصر .. وهذا هو جدل الانسان .."

                        ****
                                       (19) .


ـ ثالثا : الثوابت  :  

1 - نظرة  عامة  ..

إن الاعتراف بأولوية الإنسان أصبح أمرا مفروغا منه داخل الحركة القومية عامة .. فهو القائد ، والمغير للظروف والمطوّر للواقع ... وفي إطار هذه المسلمات الأولية ، يصبح  الواقع الذي يعيشه الناس مجتمعين  واقعا اجتماعيا تنتقل فيه  بالضرورة إيقاعات حركة الجدل الفردي إلى المجتمع المتكوّن من جميع الأفراد ،  ليأخذ صورته الاجتماعـية في حل المشكلات داخله عن طريق الجدل الاجتماعي ( الديمقراطية ) ..
قد يكون هذا مفيدا بالنسبة للبعض ، لان التسليم بهذه الأفكار يؤسس لمفهوم الديمقراطية على أساس منهجي جاعلا منها :
- ساحة واسعة لممارسة الجدل بين الناس ، وفرز الحلول الصحيحة اللازمة لتغيير الواقع ..
- واطارا يحفظ الوحدة بين مكونات المجتمع من خلال الحسم الديمقراطي باختيار الحل الاغلبي .. سواء كان ذلك المجتمع جماعة ، أو حزبا ، أو مؤسسة ، أو وطنا بأكمله ..
وحتى في غياب هذه المسلمات المنهجية ، فان مبدأ الديمقراطية القائم على المشاركة في طرح المشكلات ، والبحث المشترك عن حلول للواقع والتزام الجميع باختيار الحل الأغلبي ، مسلم به اليوم على نطاق واسع ، ويؤدي في النهاية إلى نفس النتيجة القائلة بأن " الديمقراطية هي الأسلوب الأمثل لتطور المجتمعات "..
وفوق هذا فان مثل هذا " التأطير" المنهجي  مفيد فعلا  في فهم مشكلة التشتت التنظيمي داخل الحركة القومية ، وما يتبعه من معارك كلامية  وسجالات ، مبنية كلها على  جدل عقيم ، لا يزيد المشكلة إلا تعقيدا .. قد يكون بعضه بسبب سوء الفهم ، أو لسوء الظن بالآخرين ، أو بسبب الاعتقاد الخاطئ في امتلاك الحقيقة كاملة ، أو لأي سبب ذاتي متعلق بالاشخاص .. غير أن وراء تلك الظاهرة سبب موضوعي يتعلق بقيام المشكلة الأم واستمرارها  ..
اذ أن المشكلات الفردية التي تواجه الناس لا تلبث أن تتحول الى مشكلات اجتماعية تتطلب مشاركة جماعية في تبادل المعرفة بالمشكلات التي يطرحها واقعهم ، ومشاركة جماعية في البحث لها عن حلول ، ومشاركة جماعية ايضا في تنفيذ ما يختارونه من حلول ..  وهو ما يعني في المقابل ـ وقياسا على الواقع الاجتماعي عامة ـ  أن مشكلة الفردية والتشرذم والتشتت بين القوميين لا تتوقف على ظاهرة التعدد التنظيمي الموجودة في الواقع ، بل تتعدّاه الى  تفتيت المقدرة الجدلية بينهم ، وهو ما يؤدي الى فهم الواقع بطرق مختلفة ، فتكون الحلول المفرزة بين صفوفهم بعدد الجماعات والاحزاب والكتل الموجودة على الساحة أو أكثر من ذلك بكثير .. أي أن ظهور المواقف المتباينة والتأويلات المختلفة ، تحصيل حاصل ، وأمر حتمي حتى ولو كره الكارهون ..
ورغم ان المشكل لا يكون ناتجا مباشرة عن مجرد الاختلاف ، الا أن المصالح المتباينة التي تحرك كل فصيل في معترك السياسة ، ستتحول بعد ذلك الى صراع مشاريع وتنافس لا يلبث بدوره أن يتحول ـ على المدى الطويل ـ الى صدام قد يأخذ أشكالا وأساليبا متباينة على غرار ما هو حاصل في العديد من الساحات ..
والواقع أن مثل هذه الحالة المتردية ظلت تتفاقم بسبب ما يترتب عنها من تأويلات لا تعود في أغلبها الى سبب الظاهرة ، بل الى ما فيها من مضامين قائمة على غياب الديمقراطية والخلافات الشخصية التي تظهر في شكل تراشق ، واتهامات ، وتخوين .. سرعان ما تكون لها انعكاسات سلبية شديدة على القواعد والكوادر الصادقة ، المنتمية لتلك الأحزاب ، والتي تلتجئ للاستقالات اما رفضا ، أو هروبا ، أو بحثا عن حلول جديدة .. لتبقى تلك الانفعالات تقود العمل القومي الى الاسوء باستمرار ..
وهكذا ظل أمل قيام الحركة العربية الواحدة معلقا على وهم الوحدة الفكرية من الالف الى الياء ، وهو أمر لا يستقيم بين الناس مطلقا ، حتى وان كانوا على دين واحد ، ومذهب واحد ومنهج واحد الخ ..
أما وقد تأخر موعد قيام الحركة العربية الواحدة لكل الاسباب الموضوعية والذاتية التي يعرفها القوميون ، الى جانب الخطر المحدق بالوجود الخاص والعام للانسان العربي في هذا العصر ، فلا بد من اللجوء الى وحدة الصف ولو على قاعدة  : " الوحدة في ظل التعدد " ..
قد يكون العمل من أجل تجسيد هذا الشعار خطوة أولية لازمة لتمهيد الطريق نحو الوحدة التنظيمية المنشودة ، أو على الأقل للحفاظ على الحد الأدنى الذي يعكس مبدأ الوحدة في صفوف الحركة القومية لتستقيم دعوتها مع الممارسة .. وهو ما لا يكلف اصحاب الغاية الواحدة أكثر من الالتقاء ثم الالتزام بخط سياسي عام يمثل الثوابت أو( المحكمات ) ، من أجل الوصول الى بناء مشروع شامل يحدد التوجّه النضالي العام الذي يضبط الحركة وفقا لتلك الضوابط " المحكمة " ، والتي لا يسمح بالخروج عنها ـ فرديا أو حزبيا ـ مهما كانت المتغـيـرات ، وهي التي لا تدخل في باب الضرورات تبيح المحضورات .. وما عدى ذلك يضبط داخل الاطر التنظيمية بعيدا عن المزايدات ، لانها جوانب يمكن ان يقع فيها الاختلاف حسب المقدرة الجدلية للأشخاص ، وحسب الظروف والمتغـيـرات ، دون الخروج عن الخط العام المتفق عليه .. وهو ما يعني ـ بعد ذلك ـ ان الاختلاف في مثل هذه الجوانب الفرعية لا يجوز فيها التخوين و لا الشتم او الاستهزاء او التشهير باصحابها أو ادعاء امتلاك الحقيقة فيها سواء داخل التنظيم الواحد أو بين مختلف التنظيمات القائمة .. كما لا يجب التشبث فيها بالرأي الا  للإقناع ، ثم لا يجوز  اللجوء فيها الى الانسحاب أو الاستقالة الحزبية ، طالما أن الاحتكام في حسم الاختلاف في وجهات النظر يخضع دائما للوسائل الديمقراطية التي  يكون فيها رأي الاغلبية هو النافذ داخل كل فصيل ..  ليكون بعد ذلك ، الالتزام بهذا الخط النضالي القائم على تلك الثوابت ، هو المحك الذي لا يخطأ في اظهار صدق الولاء القومي والنقاء العقائدي في آن معا ..
  2 – أمثلة :

موضوع الثوابت ( المحكمات ) ، قد يكون شائكا ومتفرّعا على العديد من النقاط الجوهرية التي يرتكز عليها المشروع القومي منها :
* في جانب العقيدة : 
لا يختلف القوميون حول حرية العقـيدة والتدين كـمبدأ ثابت في جميع الاديان ، غير أن الاسلام يبقى دين الاغلبية في المجتمع .. وأن حضارة المجتمع هي الحضارة العـربية الاسلامية التي تكوّنت في ظل هذا الدين الحنيف من خلال التعايش الذي نشأ بين مكونات الامة طوال قـرون من التفاعل والتواصل بلغة القرآن حتى جعل منهم أمة واحدة ..
* وفي جانب الحرية :
ترفض الحركة القومية كل ما يمس من  قـريـب أو من بعـيد بأمن أمتها أرضا وشعـبا ، ولذلك  نجـدها :
تتصدى منذ نشأتها للاستيطان والاستعمار بجميع مظاهـره : ( احتلال ، قواعد عسكرية ، تدخل خارجي ، تبعـية اقتصادية واملاءات الخ .. ) ، وهو ما يجعلها في كـثـيـر من الاحـيان تتصادم مع الحـركات السياسية في الداخل والانظمة التي تـتوخى هذه الاساليـب لتجـرّ الامة وتوقعها في فخ التبعـية والهـيـمنة ..
وهي تعـمل سياسيا على تحقيق الديمقراطية الحقيقية في دولة مدنية تحكمها قوانين عادلة لا تتناقض مع ثوابت المجتمع الدينية والحضارية وتتماشى مع متطـلبات عصرها ، وهي خطوات لا تتحقق دون القضاء على الخوف داخل كل فـرد في المجـتـمع حـتى يتحقـق الابداع الانساني بواسطة التـفـكـيـر الحـر، ويتحقق التعايش عـن طـريق المشاركة الواعـية بين الناس ، ليتحقق في النهاية الاستقـرار والنهوض بالمجتمع ..
* وفي جانب وحدة الوجود القومي :
ترفض الحركة القومية كل ما يمس من وحدة الامة وتعـتبـره عدوانا عليها مهما كان اسلوبه ، وهي ترفض كل ما حصل من احتلال أو اقـتـطاع لأجزاء من الارض العربية كما هو الحال  في فلسطين والعراق والجزر الاماراتية والاحواز ولواء الاسكندرون وجزر سبتة ومليلة المغـربية .. أو بواسطة مخططات التجزئة والتفتيت لما هو مجزء أصلا كما حصل في السودان ، وكما يجري الاعداد له في العـراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا .. ولذلك فهي تعمل بكل طاقاتها على تدعيم كل ما يعـيد وحدة الامة ويعيد لها حقوقها في اطار الاولويات .. وتقاوم في نفس الوقت كل ما يعـيق تلك  الأهداف .
* وفي الجانب الاقتصادي :
فان الاشتراكية نظامها الذي تسعـى من خلاله لتحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية بكل ابعادها السياسية والاقتصادية حيث لا يمكن تحرير الارادة الانسانية دون القضاء على الاستغـلال بجميع مظاهـره  .. كما لا يمكن الحديث عن المساواة بين الناس دون توزيع عادل للثروات بين الافراد والجهات .. ودون ضمان لحق الشغل ، وتوفير الضروريات من مأكل وملبس ودواء وحاجيات فكرية وثقافية كحد أدنى لتحقيق الكرامة للانسان ..
* ... ثم ، لا بد من التأكيد على أن هذه المبادئ لا تتجزأ أبدا ، حيث لا يمكن أن تتحقق الحرية في ظل التبعـية ، ولا الديمقراطية في ظل الاستغـلال ، ولا العدالة والتقدم في ظل التجزئة والعـبودية ..

ـ رابعا : عينة من الواقع ..

بالنظر الى الواقع كثيرا ما نرى أن بعض المشاكل بين القوميين سببها تقييم ذاتي لمواقف وسلوك بعض الافراد  حينما يقع الاختلاف معهم في بعض القضايا فيتحول هذا التقييم الى تهجم على الآخرين .. وهنا يمكن تثور اسئلة مهمّة :
هل يمكن ان نطلب من القوميين جميعا  أن يكونوا على موقف واحد ، ورأي واحد تجاه كل القضايا المطروحة في الكل العربي والاجزاء ..؟
وهل يجوز أن ننتظر منهم أن يكونوا على نفس الدرجة  من الوعي والتفكير والكفاءة والعطاء ، لنحاسبهم على الاختلاف في اجتهاداتهم ..؟
وهل يجوز أن يكون كل القوميين في موقع واحد ، وعلى نفس المسافة من جميع الاطراف الموجودة على الساحة سواء في الحكم أو في المعارضة ، ليتحوّل سلوك الواحد منهم ، في هذا الاتجاه أو ذاك الى جرم لا يغتفر ..؟
لا شك أن الجميع سيجيب بلا .. غير أن الواقع لا يثبت هذه البداهة في الاجماع ، لغياب الحدود الفاصلة بين المحكم والمتشابه في صفوف القوميين .

ـ خامسا : الجانب العملي ..


في الجانب العملي ، فان تحديد الثابت والمتغير بالنسبة للعمل القومي على المدى القريب والبعيد ،  لا يستطيع أحد تحديده بالنيابة عن اصحاب الشأن  :  فالقوميون التقدميون ، هم الذين يتولون بأنفسهم وضع ثوابت العمل القومي ومحكماته وفقا لما يرونه صالحا لمرحلتهم الحالية والقادمة ، وبالاسلوب ، والآليات التي يختارونها وفقا لمهماتهم القادمة ..

                     ****
                                   (20) .


سادسا : مقاربات ..

1ـ دردشة فكرية : الجدل الخلاق .. والجدل العقيم ..

نعني بالجدل الاجتماعي فسح المجال للآراء بكل حرية ودون قيود .
وكلما كان التعبير عن الرأي قائما على الالزام والالتزام باحترام الآخرين ، يحقق الجدل غايته .. واقصى غايته ان يتطور الناس الذين يحكّـمونه بينهم .. وقبل هذا واثناءه ، يبقى الجدل الاجتماعي هو الوسيلة الوحيدة الممكنة عمليا لفرز الحلول في الواقع ، والاسلوب الوحيد أيضا الممكن عمليا لتعويض ما في الجدل الفردي من قصور نظرا لما في الذات الانسانية من امكانيات محدودة في حركة أو أكثر من حركات الجدل قد تكون ناتجة عن نقص في مقدرة الانسان على التذكر ، او نقص في مقدرته على الفهم والالمام بالواقع ، أو نقص في مقدرته على التصور ، والتحليل ، وابداع الحلول ، أو نقص أيضا في المقدرة على العمل لتنفيذ تلك الحلول .. الخ  .. وهكذا فان الجدل الاجتماعي أولا وقبل كل شئ ، يمكّـن الناس من تبادل المعلومات التي تؤدّي حتما الى  اغناء معارفهم فيتحول الالمام بالواقع ، وحيثياته ، وتفاصيله الى علم ومعرفة جماعية تتعاظم بها المقدرة الجدلية أضعافا مضاعفة ، فتحوّل الامكانيات الفردية المحدودة لحل المشكل الى امكانيات جماعية هائلة ، تتوفر فيها فرص الاغناء والاضافة والتعديل ، والنقد ، والمراجعة لبناء حلول جماعية ، ثم وهذا ثانيا ـ في غاية من الاهمية ـ فان تلك المشاركة الجماعية في الجدل ، تعطي مشروعية الالزام بالتزام الحلول التي لم تعد حلولا فردية خاصة باي طرف مشارك في الحوار والجدل ، بل هي حلول جماعية حتى وان كان البعض لا تعجبه بالكامل ، وهو ما يجعل مسألة الالتزام برأي الاغلبية مسالة اخلاقية من ناحية ، ودرجة عالية من درجات الالتزام الثوري والعقائدي بين القوميين التقدميين من ناحية أخرى  .. وهكذا يمكن ان تتحول القناعة بفوائد الجدل الى شعار هام مفاده : " لا مشاركة في الجدل ، دون التزام بالنتائج " فيختفي بهذا ذلك التنصل من المسؤولية ، وتلك الانسحابات الرخيصة بالنسبة للبعض حتى وان كان لديهم تحفضات خاصة بالقرارات والحلول .. لان المهم وقتها ليس أن تكون معبرة على رأي شخص ، أو أن تكون صحية ، بل المهم أن يتم اختيارها اختيارا حرّا ، دون تسلط او قهر من أحد ..
هكذا بكل ببساطة .. لا اكثر ولا اقل .. وفي هذا لا غالب ولا مغلوب ، بل تعاون ، وتكامل ، واحترام ..

انه الجدل الخلاق ..

اما الجدل العقيم ، فهو نقمة ومحنة لا يقدّم بمن يقع فيه  .

جدل خلاق وجدل عقيم ، تشابه ام تعارض ام تلاعب بالالفاظ ..؟

انهما جدلان متشابهان متعارضان ، يشتركان في الآداة ، لكنهما لا يختلطان .
مرد التشابه بينهما خضوع كل منهما لاسلوب المجادلة والحوار الذي يتخذه المتجادلون فيحصل انطباع بان التعارض والاختلاف يقتصر على الاسماء . في حين ينتفي هذا التشابه ويقوم التعارض الكامل بينهما بالرجوع الى الخصائص التي يقوم عليها هذا وذاك  .
فالجدل الخلاق ، جدل مفتوح لا صراع فيه الا تنوع الآراء القائمة على قوة الحجة والاقناع ، بينما الجدل العقيم صراع خالص لا جدل ولا جدال فيه الا تنوع الاساليب القائمة على حجة القوة والاقصاء  .
ومن تلك الخصائص ايضا ان الصراع يتجه دوما للتفرد ، بينما الجدل يقوم اساسا على التعدّد ..  وفي الجدل تجاذب للتواصل مع نية الابقاء على الآخر، اما في الصراع تنافر لنفيه ، مع نية الازاحة من الطريق ..  فتكون دوما غاية الجدل الاقناع ، اما غاية الصراع الالغاء   ...  
وهكذا نرى استماتة المتصارعين في التأكيد على صحة آرائهم ، حتى وان دخلوا في صراع مع الكل ولو كان منهم الاقرب اليهم رأيا   ..  كتعبيـر صادق عن عجزهم على انجاز الاقناع او الالغاء ، دون التفطن منذ بداية اتجاه الجدل الى العقم ، بانه قد تحوّل الى صراع ، وان التنازل من أي طرف قد صار مستحيلا .. كما ان الاستمرار فيه لا يعني الا مزيدا  من السعي الفاشل للالغاء  والاقصاء ، من خلال محاولة المتصارعين فرض التسليم  او الاستسلام .. 
ولذلك ايضا نرى ان الجدل العقيم يتخذ دائما اسلوبا حادا في التعبير عن نفسه فتكون نتائجه وخيمة ، قد تنتهي عند ظهور بوادر فشل المسعى ، الى التجريح ، والشتم ، والخصام ...

فمن من القوميين يرضى بمثل هذا الجدل الهدام او بمثل نتائجه ..؟  



اعوذ بالله . واستغفر الله ، من كل ذنب ولا حول و لا قوة الا بالله ... 

                       ****
(21) .

2 ـ الازمة ..

منذ أكثر من نصف قرن والحركة القومية تمرّ بالتقلبات ، والتمزق التنظيمي والصراعات الحادة ، إما على الكراسي والحكم في بعض  الأقطار ، او حول من يمثل المشروع القومي ليمتد تنظيميا وفكريا على كامل الساحة العربية .. في الوقت الذي كان يجري فيه الإعداد للإجهاض على المشروع بالكامل ، وعلى الحركة القومية التي تمثله دون تمييز بين فصائلها ومرجعياتها  .. حيث كان أعداؤها جميعا يتعاملون معها على أساس أنها حركة واحدة برموز مختلفة .. مما أدى على المدى الطويل الذي غاب فيه الوعي طويلا أيضا ، إلى انحسارها والإجهاض عليها في بعض المواقع ، مثل العراق بعد الغزو الأمريكي الغاشم .. بل وتحوّل جزءا كبيرا من قادتها إلى دواعش بسبب القهر والعذاب الناجم عن سياسة الاستئصال التي طالت العديد منهم على مدى عشر سنوات أو أكثر ...
ولعل ما يزيد في طعم المرارة أكثر، هو تواصل الأزمة من خلال تلك النقاشات العقيمة والخلافات المقيتة :

حول مدى ضرورة الوحدة التنظيمية على المستوى القومي في المرحلة الراهنة ، عند البعض ممن يعتمدون على " سياسة المراحل" ، مكتفين بالعمل في تنظيماتهم القطرية ..

- وحول من يتولى انجاز تلك الوحدة المنشودة  ، عند الذين يرفضون أسلوب الصفوة الذي يمكن ان يؤدي ـ في نظرهم ـ الى ولادة تنظيم مشوّه بكل العاهات التي عرفتها التجارب الحزبية في الواقع العربي ، فيحرصون على اتباع اسلوب الاعداد الفكري والتنظيمي .. وهي المهمة التي يصعب تقييمها في الوقت الراهن في ظل غياب الجهة المخولة لتقييم المرحلة خلال مدة محدودة .. 

وحول من هو القومي الذي سيساهم في بناء هذا الصرح  التنظيمي على المستوى القومي ، بالنسبة لمن يعتمد على التصنيف " المجهري " الذي يدقق في كل كبيرة وصغير من افكار القوميين ، حيث يتهم على سبيل المثال من يقول على صفحة التواصل الخاصة به بأن بشار ديكتاتور أو العكس ، ويتحوّل عدوا للبعض أو للبعض الآخر حسب تقدير كل واحد  لتلك الجزئيات الدقيقة في المواقف ، رغم أنهم لا يختلفون في قراءتهم للوضع بشكل عام ..

- وحول كيفية انجاز الوحدة التنظيمية بدون توفر الحد الأدنى للوحدة الفكرية ، بالنسبة للذين  لا يعترفون بامكانية الالتزام برأي أو بموقف أو ببمارسة ، وهم لا يوافقون عليه ، حتى من أجل تحقيق المصلحة القومية ، فلا يعطون الاهميية لما يمكن أن يضيفه التفوق التنظيمي في ظل الاختلاف ، على التشتت في غياب الوحدة الفكرية المزعومة ، اذ أن الاتفاق على رأي واحد ، وموقف واحد ، وممارسة واحدة  ، امر مستحيل  مهما كانت درجة التجانس الفكري في أي تنظيم ، ويبقى الالتزام  بالديمقراطية وشروطها الملزمة ، مع الصبر والتنازل من أجل توفير اسباب النجاح للمشروع القومي هو المحك لاختبار درجات الصدق والولاء عند القوميين  ..

وهذا من ناحية .

أما من ناحية أخرى فانه من الثابت أن مشروع النهضة لاي أمة من الأمم لا ينجزه ، ولا يحسمه ولا ينهيه جيل واحد أو جيلين خلال فترة زمنية محدودة ، بل هو مسيرة أجيال متعاقبة على مدى عقود طويلة من الكفاح ومراكمة التغيير ..  فلا بد اذن من تعاقب الخبرات ، وتغيير الاساليب النضالية ، وتباين الآراء ..

ولذلك فلا شك أن أزمة العمل القومي لها صلة بكل هذه الجوانب المهمّة التي تنعكس بدورها على النواحي التنظيمية ، فتعكس بالضرورة التناقض الحاد بين واقع التشتت والتشرذم للحركة القومية وغاياتها المستقبلية المتمثلة في الوحدة .. !!
لكنها وهي على تلك الصورة تتحول الى معضلة أكبر تعيق امكانية البحث المشترك عن حلول مشتركة ، تمكنها من ايجاد آليات للخروج من الأزمة ، التي يجتهد فيها كل بطريقته ، وبمعزل عن اجتهادات الآخرين ، فلا تتحول تلك الأفكار الى حلول عملية ولا تؤدي الى اي تغيير.. لتتواصل الأزمة مثلما هي في الواقع منذ خمسة عقود أو أكثر ..

فلا غرابة اذن في اختلاف الآراء ، واختلاف التشخيص ، واختلاف المواقف من الأزمة ذاتها  ..

والواقع فان المتتبع لبعض الاجتهادات في قراءة أزمة الحركة القومية تعترضه كثير من التصورات التي تختلط فيها أحيانا الخلفية القومية بالخلفية الاقليمية ، على غرار الآراء التي يعتقد فيها أصحابها بأن الأزمة تكمن  في تنزيل بعض القوالب الجاهزة ـ كما يقولون ـ  إلى خطط عملية تحوّل الجمود الفكري إلى حركة .. وهو تشخيص قد يصلح لمعالجة واقع بعض الفصائل القومية على المستوى القطري ، ولكنه لا يتصل بمشكل التشتت التنظيمي على المستوى القومي ، فالحركة القومية ـ ببساطة ـ لا تعوزها الحيلة في الاهتداء الى الديمقراطية كأسلوب علمي تتحوّل به أي فكرة ، وأي موقف فردي الى أفكار ومواقف جماعية يتحمل فيها الجميع مسؤوليتهم في مدى ملاءمتها للواقع والظروف حتى تكون مقبولة وفاعلة على الوجه الأمثل ، حينما تكون حركة واحدة ذات استراتيجيا واحدة واهداف واحدة الخ ...

وهكذا فان واقع الحال ، يقول أن الحركة القومية بالمفهوم القومي للكلمة غير موجودة ، وهي لم تكن موجودة في أي مرحلة من المراحل السابقة  ، منذ إطلاق المبادرة التي نادى بها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر سنة 1963 لبناء الحركة العربية الواحدة اثر فشل مباحثات الوحدة الثلاثية في ذلك الوقت ، إذا استثنينا تلك المحاولة في نهاية الستينات ، والتي تحولت إلى قضية معروفة باسم التنظيم الطليعي في بداية حكم السادات   ..
فكيف ستتحقق الوحدة الفكرية والحركية إذا كانت القاعدة العريضة للقوميين لا تنتمي لأي تنظيم من التنظيمات الموجودة في كل قطر ؟ وأن البقية المتبقية ممن ينتمون إلى الفصائل القومية في دولهم  لا يعلمون حتى بما يحصل في الأقطار الأخرى إلا من خلال ما تنقله إليهم وسائل الإعلام المعادية .. ؟ فلا يوجد بينهم أي نوع من أنواع التنسيق ، أو الاتصال ، أو التشاور ، أو السعي لتوحيد الممارسة ، مما يجعلهم في غربة كاملة ، واختلاف في المواقف ، وأحيانا في صراع وتصادم وعداء حتى وهم في نفس القطر  .. !!
لا غرابة أيضا حينما نرى هذا العجز بين صفوف  القوميين ، في ظل الخطر الداهم على الأمة من كل الجهات ..  
والسبب لا يخفى على الجميع : وهو أن الواقع القومي لا يمكن أن تفعل فيه إلا حركة تتماها وتتلاءم طبيعتها وخصائصها مع خصائص مجتمعها .. تماما مثلما تتلاءم أي نبتة مع ظروفها البيئية وتربتها التي  تنبت فيها ..
وهو ما يعني أن الفشل يعود بالأساس إلى حجم التناقض عند القوميين  بين المنطلق والغاية من جهة ، وبين الأسلوب والممارسة  في الواقع من جهة ثانية  ، إضافة إلى عدم الامتثال لشروط الديمقراطية كاملة وبالخصوص في مرحلة التنفيذ التزاما برأي الأغلبية ، حيث يستحيل على الحركة القومية  أن تتطور بدونها ، وهي تسعى لأن تبلغ أهدافا يصل مداها في أدق تفاصيلها إلى تغطية كل جوانب الحياة ، لشعب يمتد على مساحات مترامية الإطراف بين المحيط والخليج .. وهي مجبرة على أن تستقطب منه إلى صفوفها ما يكفيها من المؤمنين والملتزمين والمجندين لتحقيق تلك الغايات والأهداف العظيمة ، وهم ينحدرون  من مستويات متفاوتة معيشيا ومعرفيا ، ومن أوساط مختلفة جغرافيا وثقافيا ، ولهم معتقدات متباينة دينيا ومذهبيا الخ ..
وما الجديد في هذا كما يمكن أن يقول البعض ..؟؟  ألا يكاد ما قيل في هذه النواحي أن يتحول مجرد التذكير به في بعض الأحيان  إلى تهمة جاهزة بالجمود والتكلس والسلفية القومية وغيرها .. ؟
بلى ..
ورغم ذلك لا يستحق أحد أن توجه إليه تهمة ، لأنه لا يوجد إلى حد الآن من هو فوق النقد ، أو من هو في وضع أفضل من الآخرين .. ولم يرتق بعد أي طرف من القوميين إلى مرتبة يكون فيها أعلى درجة في سلم الممارسة لكي يشيطن غيره ، أو يخوّنهم ، أو يتهم ولاءهم ويشكك فيه .. والحال أنهم جميعا في وضع شبيه بوضع  الأجسام السابحة في الفضاء الرحب ، والتي لم تسمح  عندهم  قوانينها بعد ، بأن يتحول أحدهم إلى مركز تنجذب إليه كل الأجسام الأخرى مثلما يقع  عادة في الطبيعة ، حتى ولو كان في قلب العروبة مصر .. !!  
وقد يرد البعض متحججا بظروف التجزئة ، والامكانيات .. الخ ، وهو صحيح .. غير أن الخطوة التي تسبق الالف ميل لا تزال غائبة ، والحجج هي نفسها دائما .. حتى صارت الظروف هي التي تقود القوميين و ليس العكس .. كما صار الفكر مطبوعا بطابع اقليمي واضح لدى الكثيرين ..
والواقع أن الحسابات الحالية المعتمدة في الحكم على الظروف ، هي بالاساس حسابات القياس على واقع الفصائل محدودة الامكانيات مقارنة بامكانيات التنظيم الواحد .. تماما مثلما تختلف الإمكانيات القومية في دولة الوحدة ، عن إمكانيات الدول الإقليمية ولو مجتمعة في زمن التجزئة الحالية .. ولذلك يخطئ الاقليميون في الأقطار العربية التي تتخوف من الوحدة باعتبار ما يمكن أن تسلبه ـ في نظرهم  ـ من الإمكانيات  التي يستحوذ عليها كل قطر .. وهو جهل وخلط تام بين مفهوم التنمية والتطور في ظل التجزئة  التي تجعل  الأقطار عاجزة عن التقدم ، فلا يصيب إمكانياتها  الا الإهدار والنقص باستمرار ، وبين مفهومها في ظل الوحدة حينما تتحول تلك الإمكانيات المحدودة إلى إمكانيات قومية ضخمة ، لا تتوقف .قدراتها على استخراج الثروة وبيعها خاما في الأسواق العالمية ، بل على خلق ثروات تحويلية جديدة ، تمنحها إمكانيات مضافة تساوي قيمتها تقريبا قيمة الفارق بين التجزئة والوحدة ، كما نراها ونحس بها حينما نقارن حالنا بحال الدول القومية المتقدمة ..
إن ما تحتاجه الحركة القومية فعلا هو الخروج من العزلة والجمود وتحويل تلك الأنا والعقلية الحزبية الضيقة إلى عقلية طليعية متطلعة للحركة العربية الواحدة ، ولو بمبادرات بسيطة ، تؤدي إلى كسر القطيعة والجفاء من خلال عدة صيغ ممكنة قد تكون بايجاد قنوات تنظيمية دائمة للتنسيق  ، والتشاور ، وتبادل الخبرات ، والسعي الى توحيد المواقف من القضايا المحلية والقومية ، مع التفكير المشترك في إيجاد أفق جديدة للعمل القومي على المستوى الإعلامي ( قناة فضائية  للحركة القومية ) ، نشرات دورية تهتم بالقضايا الفكرية والسياسية على المستوى القومي  ، مواقع الكترونية خاصة بالحركة القومية ، ومتعددة الاختصاصات تهتم بكل الجوانب الفكرية والسياسية والدينية ، والاجتماعية والتاريخية ، والعلاقات الدولية والتنظيمات السياسية وغيرها من القضايا لتقديم رؤية شاملة على مواقف الحركة القومية ، حتى لا تصل إلى الجماهير من أطراف معادية ، هي لا تذكرها قي الأصل إلا من أجل تشويهها .. وكمثال حي على ذلك الاعلام على شبكة المعلومات  ..
أجل ..
فالاعلام يعتبر ركيزة اساسية بالنسبة لاي مشروع ، سواء في مجال الاقتصاد ، والتجارة والأعمال ، أو في مجال السياسة والفكر والدعاية الحزبية  ..  
وفي هذا الصدد فان الاعلام على الشبكة العنكبوتية بات سلاحا ذو اولوية يستخدمه السياسيون في التعريف بافكارهم ، والترويج لمشاريعهم .. وفي نفس الوقت لافشال المشاريع المنافسة لهم على الساحة ..
ولذلك ، فان من ابرز الاحتياجات الغائبة منذ عقود بالنسبة للفكر القومي التقدمي ، هما :
* الموسوعة الفكرية .
* والترجمة .
فالأولى تمكن أي باحث عن المعلومة في مجال الفكر القومي ، من الوصول الى غايته وبين يديه ـ على الأقل ـ مقاربة أو تعريف  يصدق فيه الحكم على الأفكار ـ وهي نابعة من أصحابها ـ لكي تكون حجة عليهم ، فهما وشرحا وتأويلا .. في حين أن ما يحدث في الواقع هو العكس تماما ، حيث يقدم الفكر القومي بشكل عشوائي ، غير دقيق في أحسن الأحوال ،  مشوه في أغلبها ..
فالإنسان حينما يدخل إلى البحث على الشبكة العنكبوتية على كلمة محددة مثل " القومية " ، سيكون الأمر أمامه مفتوحا في غالب الأحيان على : المعلومة الخاطئة ، والتشويه ، والخلط  .. فالمعلومات كثيرة ، ولكن غثها دائما يغلب عن سمينها ، باعتبار عدم حيادية الجهة التي تقدم المعلومة وانعدام تخصصها .. وحتى إذا أراد الباحث تنويع الاختيارات فانه لا يجد من ضمنها تعريفا مسايرا لتطور الفكر القومي ، واجتهاداته ومراجعاته من ناحية ، ولا مستجيبا لبنائه المفهومي الداخلي ، الثري والدقيق من ناحية اخرى ..
أما ما تقدمه نتائج البحث المتوفرة من مصادر غير ذات صلة بالفكر القومي ، والغير محايدة أو المعادية له في أغلب الأحيان ، من حيث المفاهيم والمضامين فهي عادة تلك التعريفات الهدامة والمشوهة لهذا الفكر ، حيث لا تقف على تفاصيله الدقيقة ، سواء من حيث سياقه التاريخي ، الذي يجب فيه الفصل بين مختلف مراحل التطور الانساني ، القبلي منه والشعوبي والقومي .. أو من حيث تجاربه التاريخية التي تختلف من مجتمع الى آخر ، ومن مرحلة تاريخية الى أخرى .. أو من حيث المضامين والمفاهيم والافكار والخلفيات التي بني عليها الفكر القومي كفكر انساني متطوّر باستمرار ، ويتأثر برواده من المفكرين والسياسيين في المجتمعات القومية على المستوى العالمي ..
ولعل من الظلم الكبير الذي يتلقاه الفكر القومي التقدمي في الوطن العربي هو تقديمه للعامة من خارج مصادره الاصلية ، في ظل الفراغ الذي يوجد على شبكات البحث العنكبوتية ، فياتي تقديمه مشوها مظللا منفرا للعامة ، حينما يقدم احيانا كفكر متعصب في التعريفات الماركسية ، أو كفكر لا ديني وعلماني مناهض للاسلام ، ومناقض لدعوته في التعريفات الدينية المتطرفة .. أو كفكر انقلابي ، لا ديمقراطي ، استنادا الى بعض التجارب التاريخية التي يزج بها دائما خارج سياقها التاريخي ، في معارضة الفكر القومي وتشويهه ، دون الاخذ بالمراجعات والاضافات العميقة والتطوّر الحاصل على المستوى المنهجي للفكر الذي يستحيل على دارسيه فهمه فهما عميقا دون التعرف على الاسس الفلسفية التي بنيت عليها منطلقاته وغاياته واساليبه النضالية  .. وهكذا يتسرب كثيرا من الخلط والتشويه سواء في علاقة الظاهرة القومية بالظاهرة القبلية والشعوبية ، وبتطور المجتمعات الانسانية عموما .. أو في علاقة هذه الظواهر الانسانية  بالأديان ، أو بأنماط الحكم وغيرها من المضامين الاجتماعية التي تطرح داخل المجتمعات .. كما ان اغلب التعريفات المتاحة على الشبكة العنكبوتية ، تقدم الفكر القومي في اطاره العام الذي يقف عادة عند التجارب القومية الاوروبية ، والتجارب العربية التاريخية المرتبطة بالسلطة السياسية ، والتي تذكّر المتلقي دائما بالسلبيات ، والاخطاء والهزائم .. ولعل من أشد الحيل والمغالطات المتبعة لتشويه الفكر القومي  ان تقدم تلك التجارب على اساس ارتباطها بالفكر ، وليس في اطار المسؤولية الواقعة على السياسيين ، والواقع انه لو كان ذلك الربط صحيحا لصدق أيضا على التجارب الاسلامية في مختلف فترات دولة الخلافة ، ولأصبح الإسلام مدانا لمجرد فشل المسلمين ، قياسا على تلك الاحكام التي يصدرونها على الفكر القومي ... !!  
أما الثانية ، التي يجب ان يتنبه اليها المهتمون بمستقبل الفكر القومي ، وهي الترجمة ، التي لا يستطيع بدونها الفكر أن يحلق  في الأفق العالمي بتلك الاسس الفلسفية التي لم تتح لها الفرصة الى حد الآن مثلما اتيحت لغيرها من الأفكار حينما كان يتلقفها الفلاسفة والمفكرون في أوانها ، وهي منشورة باللغة الانقليزية أو الفرنسية ...
وهكذا في ظل الواقع الراهن لا يبقى امام الفكر القومي من فرصة للانتشار على المستوى العالمي ، الا بطريقتين :

اما باحداث هزة قوية في الوطن العربي تغير الواقع  وتقلب موازينه وموازناته جميعا ، فيلتفت الغرب بجدية لدراسة اسسه الفكرية .. 
أو بحركة واسعة في مجال الترجمة تؤدي بالفكر الى اقتحامه للمدارس الاكادمية والجامعات في العالم ليرتد الينا وقتها مفروضا على الاقليميين الذين يحاصرونه الآن ، ويمتنعون عن تدريس منهجه ، والتعريف بأسسه الفلسفية التي تقارع أعتى النظريات وأكثرها انتشارا في العالم ، والحال اننا نرى افكارا بسيطة ، تافهة ، متداولة على نطاق واسع  في برامج التعليم  .. 

سيقول البعض ان هذه الخطوات لا يمكن ان تكون عملية وناجعة  الا تحت اشراف تنظيم موحد ياخذ بعين الاعتبار كل هذه النواحي المهمة ويضع لها الخطط والوسائل العملية والامكانيات اللازمة لانجاحها واستمرارها ، وهو صحيح نسبيا ..

وسيقول آخرون أن ظروف الحركة القومية ـ وهي على هذه الحالة ـ تغنيها عن أي اعباء مضافة الى أعبائها القطرية ، باعتبار طبيعة المرحلة التي يمر بها الواقع القومي الذي أصبحت فيه مهمة الحفاظ على الكيانات القطرية مكسبا للقوى القومية ، وهو ليس صحيحا بالكامل ..

وسيقول غيرهم أن مهمة الحركة القومية في الوقت الراهن هي تحرير الأوطان ، وبناء دولة المؤسسات التي تمكـّـن الجماهير العربية من التعبير الحر عن ارادتها ، وستكتشف ـ وقتها ـ  الطريق الصحيح الى الوحدة وهو غير صحيح بالمرّة ..

وفي النهاية سيقول البعض الآخر ـ لا شك سيقولون ـ أن الاسلوب العلمي الوحيد لبناء التنظيم القومي هو الذي ينبثق من القاعدة الجماهيرية على اسس ديمقراطية سليمة وليس على اسس توافقية بين قيادات الفصتائل القومية الخ .. وهو رد قائم بالاساس على الخلط وسوء الفهم  ..

فالأول صحيح نسبيا ، لان انجاز المهمات المذكورة لا يحقق النجاعة المطلوبة الا تحت اشراف آداة تنظيمية تتولى التفكير والتخطيط ورصد الامكانيات فضلا عن التسيير والمتابعة وتنفيذ المهام الخ .. غير أن هذه المهمّات تعدّ جزءا يسيرا من الالتزام تجاه الواجب القومي الذي يجب ان تتحمّل فيه كل الاجيال مسؤولية وضع اللبنات الاساسية للحركة العربية الواحدة في كل مرحلة من المراحل .. وأوّلها فك العزلة ، وإشاعة الروح القومية العالية في صفوف القوميين ، عملا بتلك المقولة الشهيرة : "  مسافة الالف ميل تبدأ بخطوة .."

أما الغير صحيح بالكامل فهو القاء المسؤولية على الظروف التي تمر بها الامة العربية والحركة القومية في آن واحد ، وهما وان كانا يعانيان من الضعف والاستهداف من كل الجهات ، الا أن ذلك يعطي  مبررا أكبر للتفكير في الخروج من حالة التشتت والتشرذم واهدار الطاقات ، حيث يستحيل مواجهة تلك التحديات ـ في حدها الأدنى ـ الا بوحدة القوى القومية التقدمية الممكنة في هذه المرحلة ..

ولكن الغير صحيح بالمرة ، هو الادعاء بأن تفرغ الاحزاب القومية لبناء الدولة " الاقليمية الديمقراطية " سيؤدي بالضرورة لكشف المشكلات القومية التي من بينها التجزئة ، وستختار وقتها الجماهير العربية ـ تلقائيا ـ طريق الوحدة .. وهذا يحتوي على مغالطة كبيرة من المغالطات التي يقع ترويجها باسم " الانتصار للديمقراطية " و"دولة المواطنة " و" الحقوق " و" الحريات " الخ .. والواقع أن دور مؤسسات الدولة في الكشف عن هذه المهام والحقائق يتوقف أولا وقبل كل شئ على طبيعة القوى التي تسيّرها ، وطبيعة الحكم ،  أي على جوهر الديمقراطية ، وعلى حال الامة وجودا وعدما والقوى القومية معها في تلك المرحلة المجهولة الخ .. ولعل مثل هذه المواقف تستند في الاصل على ما قاله الدكتور عصمت سيف الدولة في دراسة بعنوان الديمقراطية والوحدة العربية ،  من أن " الحل القومي بسيط ، فرض الديمقراطية في الدول الاقليمية وحراستها وترك الشعب يكتشف بنفسه من خلال الممارسة أن مشكلات تطوره وتقدمه قومية موضوعيا .. " وهذا يعتبر ـ في أحسن الحالات ـ تأويل خاطئ ، لأن ما ذكره الدكتور كان في سياق تاكيده على دور الديمقراطية في بناء صرح الوحدة ، وحل مشكلات التنمية والتخلف في أي مجتمع ، ولا يعني بالمرة ـ كما يؤوّل البعض ـ ان يتخلى القوميون عن دورهم القومي ليتفرّغوا تماما للنضال الحقوقي والديمقراطي والاجتماعي في الدول الاقليمية ، بل للتأكيد على  تكامل الدور الاول والدور الثاني ، أي للتحريض على الانخراط في المعارك اليومية التي تؤدي الى تحرير الجماهير العربية حتى تتفرغ للتفكير في انجاز المهام القومية ، فتصبح مشكلة الوحدة بدورها مشكلة ديمقراطية ..

أما ما يمكن ان يقوم على الخلط وسوء الفهم تجاه أي فكرة من هذا النوع ، هو ادانة أي اسلوب لا تتوفر فيه متطلبات العمل الاعدادي كما يفهمه البعض ، في حين ان المطلوب ، في غياب التنظيم القومي ـ هو السعي دوما لاضعاف الاقليمية فكرا وممارسة من خلال أي مكسب يتحقق للجماهير في أي موقع ، وفي أي مرحلة .. فتحرير الجماهير العربية من الاستبداد وبناء ديمقراطية سليمة هو مكسب وحدوي ، والدفاع عن حقوقهم وصولا الى تحريرهم من الاستغلال هو أيضا مكسب وحدوي ، كما أن أي خطوة لدعم المقاومة بكل أبعادها هو مكسب وحدوي ، وهكذا .. وهو ما يؤكد  ـ من هذه الناحية ـ على أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه القوميون خلال هذه المرحلة ، مهما كانت سلبيته وأساليبه المتبعة طالما انه يطرح كخطوة عملية لتغيير الواقع بما هو ممكن ، وليس كبديل لما يعتبره البعض أسلوبا علميا .. 
ولكن دعونا  نتوقف لحظة أمام الاعداد .. هل يتناقض الاعداد بمعناه المتداول : نشر الفكر الطليعي وتكوين الكوادر المناضلة واعدادها لبناء الحركة العربية الواحدة ، مع مفهوم  العمل الحزبي  بكل مخرجاته : الخضوع للهيكلة والاطر الحزبية والمساهمة في التعريف بالحزب واهدافه وجلب الانصار له ، والالتزام بمخططاته وأساليبه النضالية التي يسعى من خلالها للوصول الى السلطة  .. ؟؟
 طبعا هذا يتوقف على الاجابة عن الأسئلة التالية : هل العمل الحزبي  يمكن أن يقبل بغير المراكمة للمصلحة الحزبية .. ؟
وهل يمكن للعمل الاعدادي أن يتقيد بمصلحة الاحزاب وظروفها ، وامكانياتها ، ومواقفها وأهدافها وتكتيكها .. ؟؟
الاجابة على هذا في الواقع هي من أكبر المسائل الخلافية التي يمكن تصنيفها الى عدة وجهات نظر :
ـ منها ـ أولا ـ وجهة النظر التي تعتبر أن مهمة الاعداد قد انتهت وتجاوزتها الظروف ، وبالتالي فهي غير معنية بالمعوقات ، ولم يعد يعنيها في القت الراهن سوى العمل على تغيير الواقع المحلي في كل قطر ، وتوفير الديمقراطية والعيش الكريم للناس وبعدها ـ كما يقولون ـ  لكل حادث حديث .. ولكن حينما نراهم بعد ذلك يزنون المواقف بمدى قربها أو بعدها عن مصالحهم حتى وان كانت ضد المصلحة القومية ، نعرف ببساطة انهم لم يعودوا قوميين ..
ـ ومنها ـ ثانيا ـ وجهة النظر التي تجعل كثير من القوميين المتمسكين بالأهداف الاستراتيجية يرفضون الالتحاق بتلك الأحزاب ، لأنهم يعتبرون أن :
الفكرة الاولى ( اهتمام الهيكل الحزبي بمصلحة غير مصلحته ) تتعارض مع طبيعة الحزب ـ أي حزب ـ بما فيها الأحزاب القومية مهما كان ولاؤها القومي ، ودليلهم على ذلك هو واقع الأحزاب القومية في الوطن العربي على مدى نصف قرن ، حيث لم تفلح ، في اي شئ ، لا في الاعداد ، ولا في تحقيق الوحدة بين فصائلها ، ولا في احداث التغيير المطلوب رغم مساهمة منتسبيها الفعالة ـ وهم مشتتون كما يقولون ـ في الحراك الاجتماعي الذي تحوّل الى ثورات حقيقية خطفتها القوى الرجعية من أماممهم وهم ينظرون أحيانا ، أو يتنافسون ويتصارعون على المواقع في أكثر من حين .. !!
والثانية ( اهتمام الاعدادي بمشروع غير مشروعه ) تتعارض ـ في نظرهم ـ مع مهمّة الاعداد وهي تكوين جيل قومي متحرّر من القيود والولاءات الحزبية القطرية ، وغير متوقفة غايته على الغايات  الاقليمية ..
ـ ومنها ـ ثالثا ـ وجهة النظر التي لا ترى ضرورة " التخصص " في مهمّة الاعداد ، باعتبار أن فكرة " الحركة العربية الواحدة " ذاتها هي فكرة غير نخبوية ، وغير مقتصرة على أفكار مسبقة بعينها ، ولكنها فقط  قائمة على أساس الايمان بثوابت ومرتكزات جامعة يمكن ان تنتقل في اي وقت ، وبطريقة ديمقراطية الى واقع ملموس ، يحوّل كل الفشل والخيبات الى واقع حي .. فهي اذن مهمّة جماهيرية  بامتياز تهم كل القوميين المؤمنين بتلك الغاية أينما كانوا ، في الاحزاب والجمعيات والمنظمات ، أو في المدارس والمعاهد والجامعات ، سواء داخل الأوطان أو في الغربة والشتات ، وفي أي مرحلة ، سواء قبل التاسيس أو بعده ، فهو عمل مفتوح على المستقبل حتى قيام دولة الوحدة بالوسائل الملائمة لكل مرحلة  .. مما يعني باختصار أن الاعداد ليس سوى هاجسا يوميا لكل المؤمنين بالحركة العربية الواحدة ، الذين يلزمون أنفسهم بالعمل في اي موقع للمزيد من كسب الانصار لهذا المشروع التاريخي الذي تأخر أكثر من نصف قرن ..
ولكن ..

مثل هذا الطرح النظري سيبقى معقولا الى حين يصطدم بالواقع في اختبارين مهمّين على الاقل :

ـ الاختبار الاول يتعلق بالنوايا التي تصاحب الاعداد ، وبالخطوات التي تأتي بعده ـ عند الذين يفصلون بين المهام والأطر ـ والتي يمكن أن تكشف عنها الاسئلة التالية :
لفائدة من يقع استقطاب الأنصار .. ؟؟ هل هو لصالح المشروع القومي ؟؟ أم لصالح الأحزاب الاقليمية ؟؟ 
والى أي مدى يستطيع  أي عنصر اعدادي أن يفصل ـ وهو يمارس مهامه الاعدادية ـ  بين مضمونين مختلفين ؟؟ وهل سيقبل الاعداديون في أي حزب اقليمي بأن يختار أي عنصر من الانصار الجدد حزبا اقليميا غير حزبهم الذي ينتمون اليه ..؟؟ 
والى أي مدى يمكن أن يقبل أي اعدادي بالازدواجية القائمة في التواصل مع الانصار اذا اختاروا أن يكونوا :

* انصارا لا ينتمون الى نفس الحزب . 
* أنصارا مستقلين عن اي حزب ..؟؟ 
الخ ..

ـ الاختبار الثاني أكثر أهمية ، لأنه أكثر حساسية عند الانصار من الشباب القومي في الجامعة ، وهم المعروفين ـ في ساحة تونس على الاقل ـ برفضهم المبدئي والمطلق  لفكرة التحزب طوال المرحلة الجامعية .. وهو موقف علمي سليم قد يكون المحك الفعلي والحقيقي لاختبار الولاء القومي بالنسبة لاي فصيل من الفصائل القومية التي تنشط على الساحة .. أي بمدى احترامها  لرغبة الطلبة في الاستقلالية ، ومدى التزامها بالحفاظ على الوحدة السياسية والفكرية داخل الجامعة ، تاركة لهؤلاء الشباب حرية الاختيار في الانخراط الحزبي بعد  التخرج ..
طبعا النجاح في مثل هذه المهام والاختبارات بالنسبة لاي فصيل قومي ولاي عنصر اعدادي منتمي اليه ، يتوقف على مدى وعي المنتسبين واستعدادهم لقبول مبدأ التخلي عن احزابهم حينما تتهيأ الظروف لقيام الحركة العربية الواحدة ، ومدى ادراكهم بأن دورهم كقوميين تقدميين هو العمل باستمرار على تحقيق تلك المهمة التاريخية  الممكنة .. وقد يكون هذا أيضا معيارا واختبارا لصدقهم بالنسبة للدكتور عصمت سيف الدولة حين تحدث عن المؤسسات الاقليمية وهي تسعى لتغيير الواقع باساليبها الاقليمية قائلا في محاضرته الشهيرة " تنظيم قومي من أجل الوحدة الاشتراكية " : " ثم يأتي المحك النهائي لصدقها فيما تعلن ، من أنها تستهدف الوحدة الاشتراكية . باعلان موقفها الايجابي من التنظيم القومي التقدمي ، ومحاولات بنائه .
انها ان تكون صادقة ، فلا بد من أن تكون مدركة وجودها ، ان كان يتفق مع ضرورات ما قبل التنظيم القومي ، فانه ليس بديلا عنه ، ولا طريقا اليه .
وعليها ان صدقت أن تعلن ، ثم تبدأ من الآن في تحضير أعضائها لمرحلة الانتقال من منظمات الضرورة ، الى التنظيم القومي . ولعل أفضل ما تعبر عنه عن هذا الصدق هو أن تسمح لدعوة التنظيم القومي ، بأن تطرح على قواعدها ، وكوادرها ، وأن تبيح لمن يشاء من تلك الكوادر أن يسهم في الدعوة اليه ، أو الاسهام في بنائه ، لأنها حينئذ ، ستكون مدركة الحقيقة ، حقيقتها ،  وحقيقة التنظيم القومي . انها ليست منظمات موازية له ، لا في المنطلقات ، ولا في الغايات ، ولا في القوى ، ولا في التركيب ، فهو لا يناقض وجودها ، ولكن يتجاوزه .
فهي منظمات الماضي ، وهو أداة المستقبل .. " 

على أي حال فان الحركة القومية  التي عجزت ـ الى حد الآن ـ عن بناء هيكلها التنظيمي الموحد ، فهي تستطيع على الأقل مد الجسور ، وانجاز عشرات المهام القومية الممكنة التي تمهّد لبناء تلك الوحدة التنظيمية المنشودة ..

وفي المحصلة النهائية قد يكون في اختلاف المواقف ، والصراعات العارضة بين الفصائل القومية ، أمر طبيعي في ظل واقع التجزئة الذي يعيشه القوميون ، الا أن الغير طبيعي هو استمرار مثل هذا الوضع بين صفوفهم وهم الذين عاشوا يلعنون الاقليمية ، ويتهمون أنظمتها بالخيانة لقضية الوحدة ، وقضية فلسطين وغيرها .. ولكنهم ظلوا يقفون ـ طوال الوقت ـ على نفس المسافة من الواقع ، فلا يغيرون منه شيئا ، ولا من أنفسهم ، حتى اذا وصل أحدهم الى الحكم غرق في مشاكل الدولة الاقليمية لتلتف حوله مؤسساتها وأجهزتها المعادية ـ بطبعها وطبيعتها ـ لقضية الوحدة .. فلا يعرف منها خلاصا ، الا وهو يتصرف تماما مثلما كان يفعل الآخرون .. !!  
وحتى اذا اعتبرنا فعلا أن مثل هذا الوضع الذي تطغى عليه الخلافات والفرقة والصراعات الحزبية هي أحد إفرازات واقع التجزئة والتشتت التنظيمي ، فان استمرارها بين الفصائل المتواجدة في نفس القطر ، هو من اهم اسباب الفشل في الواقع القطري ،  نظرا لما يسببه هذا التشتت من عزوف لدى المواطن على الانخراط  في الاحزاب القومية وهو  يراها تنادي بالوحدة ، ولكنها تكرس أمامه التجزئة في ذاتها ، تماما مثلما تفعل الانظمة الاقليمية في الواقع ، فلا يثق في وعودها حتى لو اقتنع بأطروحاتها .. 

نريد ان نقول باختصار ، أن الواقع شيئ ، واستمراه دون محاولات تغييره الى الافضل  شئ آخر ، خاصة وأن كل الجهات المعادية للمشروع القومي تتغير وتتطور على الاقل من منظورها الخاص ، ومن جهة تقديرها لمصلحتها ، على غرار ما نراه بالنسبة للحركات الدينية .. وقد لا يروق مثل هذا الكلام للبعض ، غير أن الواقع لا يتغير بالرغبات ، والشعارات ، أو بالنوايا الحسنة ، والحال ان المشكلة عمرها الآن أكثر من نصف قرن .. ولابد من وضع حد لمسألة التناقض بين طبيعة الحركة القومية وواقعها الذي اصبح غير مقبول على أي وجه ، ومهما كانت الظروف والعقبات .. اذ ان من بداهة الأمور ان يكون الوحدويون حركة واحدة موحدة ..
كيف .. ؟؟
بالمبادرة ، والارادة ، والتضحية ، والصدق ، وحسن الظن بالآخر ، والحب ، والتسامح بين الاخوة ، وترجمة الولاء القومي الى واقع معاش يربي الأجيال على روح الوحدة وسمو الهدف من خلال المشاركة ، والتخطيط الجماعي ، والحوار المفتوح ، والنقد البناء في ظل احترام الآراء ، وتفعيل الجدل الاجتماعي ، وبناء المؤسسات الديمقراطية ، وسن القوانين والتشريعات الضابطة للحركة ، مع الالتزام والاحتكام الى قواعد الديمقراطية وشروطها  في سماع الراي الآخر ، والمشاركة في طرح الحلول ، ثم الالتزام براي الأغلبيية مهما كان نوعه ، ومهما كانت درجة مخالفته لآرائنا ، تقديرا للمصلحة القومية التي تتطلب استمرار الوحدة حتى في ظل الممارسة الخاطئة  ، رغم أن المنطق يقول عكس ذلك ، لأن الخطأ يأتي عادة من تشتت الآراء والتمسك بالرأي الواحد ، وليس من تعدّدها وتفاعلها ..
 والواقع أن التعدد الحزبي ، هو الذي يجعل الفصائل القومية في نفس القطر ، متنافسة أحيانا ومتصارعة على المواقع السياسية والمناصب  بأكثر حدة من تنافسها وصراعها مع  الفصائل الأخرى ، وهي تحمل الى الناس نفس المضامين والافكار تقريبا مع اختلافات لا تكاد تظهر أحيانا الا في الصياغة .. لذلك فان الاختلاف أمر وارد ، وحاصل في الأصل كلما حدث تعدد ، واستقلالية .. وهكذا من بديهيات الأمور مثلما للوحدة شروطها ونواميسها ، فان للاختلاف شروطه ونواميسه ايضا ..
فإما أن يكون الاختلاف مؤطرا في إطار تنظيمي يسمح بالحسم عن طريق الجدل الاجتماعي الذي ينتهي باتخاذ قرارات ملزمة للجميع عن طريق تغليب رأي الأغلبية ليتم بذلك المحافظة على الوحدة التنظيمية والسياسية بين الشركاء في التنظيم .. وإما أن يبقى الاختلاف قائما بين الفرقاء ، بسبب الانتماءات المتعدّدة التي سيعبر من خلالها كل فرد عن ولائه الحزبي ، ليتحول وقتها مجرد الاختلاف الى تنافس " مشروع " ، سيؤدي بالضرورة الى احتكاك حاد أحيانا بين عدّة تنظيمات مستقلة ، يسعى  كل طرف منها الى تحقيق المكاسب الخاصة على حساب كل الأطراف الموجودة على الساحة حتى وان كانت على نفس الخلفية الفكرية .. فلا يمكن لأي طرف في ظل التعدد التنظيمي والولاءات الحزبية أن يتنازل لأي طرف آخر الا في اطار تفاهمات ، أو تحالفات تقدّم لهما مكاسب مشتركة ، خلال مهمة من المهام السياسية ، او مرحلة من المراحل  .. وبالتالي فان الاختلاف اذا لم يجد الأرضية الملائمة لكي يتحول إلى أفكار ومواقف ومصالح مشتركة ،  فان الوعي السياسي  بالمصلحة القومية لن يكون مفيدا في تجنب الاحتكاك الذي ينتج عن المنافسة السياسية بين الأحزاب ، فلا يؤدي بالضرورة الى وحدة المواقف والآراء السياسية باعتبار غياب الإطار الموحد الذي يتحول فيه تنوع الأفكار الى ثراء في المعرفة بين شركاء حقيقيين في المشروع السياسي الذي يجمعهم ..

وهكذا ، فان التشتت التنظيمي بين القوميين يؤدي بالضرورة الى اختلاف المواقف والآراء وليس العكس .. وأن المؤسسات الجامعة التي يمكن ان يدور فيها الجدل الاجتماعي على جميع المستويات الأفقية والعمودية ، هي القادرة وحدها على ضمان الوحدة الفكرية والحركية ، حينما تجعل الأفكار تغادر كل واحد منهم ثم تعود إليه أكثر غنا ، وأكثر اكتمالا ، لتضيف الى ما عنده ما يمكن أن يضيفه الجدل الاجتماعي من قدرة فائقة على تعويض أي نقص موجود في مستوى الجدل الفردي لكل واحد منهم  ..

                       ****
                                      (22) .


سابعا : وبعد ..

بعد أكثر من نصف قرن لا يزال القوميون يتجادلون ـ في كثير من المواقع ـ حول من هو القومي التقدمي .. ؟؟ !!
* القومي التقدمي هو كل من يلتزم بثوابت الفكر القومي حتى وان اختلف مع غيره في ما تشابه منه ..
* والقومي التقدمي هو كل من كان ولاؤه الوحيد لامته وقضاياها الراهنة ومستقبلها مهما كان فهمه واجتهاده ودوره في الممارسة السياسية ، فقد يكون منهم من يخطب في الجماهير ، أو يترشح للانتخابات .. وقد يكون منهم أيضا العامل والفلاح ، أومن يقود بهم السيارة ويحمل حقائبهم الى المطارات ..
* والقومي التقدمي هو كل من يخدم أمته من موقعه ولو في مؤسسة حزبية اقليمة دون أن يتخلى عن منطلقاته وغاياته القومية ..
* والقومي التقدمي هو كل من يزيل عقبة على طريق الحركة العربية الواحدة ، أو يخطو خطوة نحو تحقيق تلك الغاية ، ويحرص بصبر طويل على تنقية مؤسساتها من الشوائب التي تسبق ـ عادة ـ أو تصاحب كل مرحلة من مراحل التأسيس ..
القومي التقدمي هو ... !!
ولكن ما فائدة هذا بالنسبة لأمة تعصف بها الرياح العاتية ، وتنهشها الوحوش الضارية ، حتى صارت مهدّدة بالزوال ..؟
وما فائدة هذا بالنسبة لمن يقبع في العراء ، ويعاني من الجوع والمرض ، أو لمن يجوب الشوارع بحثا عن شغل حتى تتورم قدماه ،  ثم يعود خائبا آخر النهار ..؟؟

ليس هناك ما هو أكثر وضوحا من طبيعة المرحلة الحالية ، حيث تشهد الامة العربية انسداد الافق أمامها في غياب المشروع الوحدوي ، فلا يوجد ما هو أكثر ضرورة من مواجهة الواقع بما هو ممكن حتى الوصول الى قيام الحركة العربية الديمقراطية ..  ذلك المشروع  الحيوي الذي لم يعد يحتمل التأخير ..    



                       ****
                                      (23) .


ثامنا : الاختبار الصعب ..

مطلوب تمهيد فعلي بين القوى القومية على أساس الثوابت (المحكمات) ، يحوّل واقعهم الردئ الشبيه بواقع الأنظمة الاقليمية الى واقع قومي حقيقي ..
ورغم أن التشبيه بتلك الأنظمة معناه استحالة حصول المطلوب ، الا أن الولاء القومي الذي يتميز به القوميون عن القوى الاقليمية جميعا ، هو القادر وحده على احداث المستحيل اذا توفرت الارادة الحقيقية التي يقدرون بها وحدها على ازالة كل العقبات والحواجز العارضة ..   
وعليه ، فلو فرضنا ان وضعا مشابها لهذا الوضع قد اصبح واقعا حيا ، باتخاذ احد الاحزاب القومية زمام المبادرة ، مكلفا قائده أو رئيسه أو أمينه العام  ، بالاتصال بنظرائه في الأحزاب القومية على الساحة القطرية والقومية للتباحث والحوار وطرح المبادرات ولو من أجل تحقيق وحدة الصف ، ووحدة الموقف بين القوى القومية ، مع ما يتطلبه ذلك الأمر الجلل من تنسيق وتشاور ، واتصالات دائمة .. لتحقيق وحدة الموقف والحركة ، وتوفير الكثير من الجهد الضائع في مواجهة بعضهم البعض على المستويين القومي والقطري ، للتنافس على المهام والمكاسب الإقليمية المحدودة ، التي يستطعون تحقيها اضعافا وهم مجتمعون .. فماذا  سيكون موقف الدول الإقليمية تجاه هذا الوضع ..؟؟  هل ستسمح سلطاتها مثلا باحتضان مؤتمر قومي يبحث في إمكانيات الوحدة بين الفصائل القومية ، وهم يتناوبون على لعن الإقليمية ، ويجدّدون رفضهم لشرعية مؤسساتها ودولها ، وكياناتها المصطنعة .. ؟؟ 
وهل ستسمح بعد ذلك أي دولة إقليمية لأي حزب قومي بالتواصل مع الأحزاب القومية الأخرى ، والتنسيق معها من أجل الوصول إلى إلغاء وجودها ولو ديمقراطيا عن طريق الخيارالسلمي ..؟؟
 أبدا .. لن يسمح بذلك أي نظام إقليمي في الوطن العربي وهو يعلم أن وراء تلك الخطوات أهدافا صريحة تدعو لإزالة مؤسسات الدولة من أساسها .. ولا شك أن أجهزتهم الأمنية ومخابراتهم ستنشط في كل مكان لجمع القرائن والأدلة التي تدين تلك الأحزاب ، وصولا إلى حلها ، وإيقاف نشاطها ، على خلفية التآمر على أمن الدولة ، والتعامل مع جهات أجنبية لزعزعة أمنها واستقرارها .. !!
ألا تنتظر القوميين إذن ، تهم جاهزة بالخيانة في كل حين .. ؟
بلى .... وان وضعا مشابها لهذا الوضع سيحصل  يوما ما ، لتكون سلطة الدولة الإقليمية اللاديمقراطية ، بكل ما تملكه من آلة البطش ، هي العدو المباشر للمشروع القومي ، ولا شك أن تلك السلطة  ستكشر عن أنيابها في أي لحظة ينتقل  فيها القوميون للعمل الفعلي على تحقيق مشروعهم .. أي حينما يصبحون قوميين فعلا .. وهنا يمكن أن يُطرح السؤال : لماذا تبدو سلطة الدولة الإقليمية ، والإقليميون من حولها صامتين تجاه المشروع القومي إلى حد الآن ..؟؟
والجواب بكل بساطة .. لأن القوميين جميعا ـ في الوضع الرّاهن ـ اقليميين .. وهم بالتالي قد يشكلون خطرا ـ في أي وقت ـ على النظام القائم ، فيعاملونهم بالتضييق والحصار والاقصاء .. ولكنهم لا يمثلون اي خطر ـ في الوقت الراهن ـ على مؤسسات الدولة الاقليمية ذاتها ، طالما انهم لم يتحوّلوا إلى قوة منظمة تستهدف تلك الدولة من الداخل والخارج ..
وفي المحصلة النهائية ، قد يكون من المفارقة حقا ، أن يكون القوميون على موعد مع اشد المعارك التي تنتظرهم ضد الدول الإقليمية  باعتبارها تمثل النقيض من مشروعهم ، وهم يتنافسون في الوقت الراهن على الوصول إلى مؤسساتها .. !!
ففيما يكون التنافس اذن ...؟؟  هل يكون من أجل تحقيق غايات ومكاسب اقليمية محدودة ، ، قد يكفي فيها التنسيق والتعاون مع القوى الاقليية لانجازها ، أم من أجل أهداف ومصالح  قومية لا تتحقق الا  بوحدة الصف ووحدة الحركة النضالية بين القوى القومية ، على المستويين القومي والقطري ، وبالوسائل الثورية المناسبة لتحقيق  تلك الاهداف والغايات ..؟؟


للحديث بقية ..   
                       ****
                                      (24) .


تاسعا : لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم ..

الحركة القومية لن تتقدم ولن تتطور ولن تبلغ اهدافها أبدا ، وهي مجزأة ، ومشتتة مهما تصور الصادقون فيها  انهم على حق ..
والحركة القومية لن تتوّحد أبدا الا بحركة ارادية واعية من القوميين الصادقين .. لتتمكن بعد ذلك وهي موحدة ، من التفاعل الايجابي مع  مشاكل الامة في اي مكان ..
فالحركة القومية أمامها مشكلات التجزئة في الوطن العربي ، وأمامها مشاكل الاستعمار والاحتلال الصهيوني ، وأمامها مشكلات التخلف والقوى الرجعية والرأسمالية المتوحشة .. فمن الغباوة بمكان أن لا تفكر في الوحدة ولو في حدها الأدنى : وحدة الصف ، كمرحلة مهمة وضرورية هي عبارة عن مرحلة انتقالية يتم فيها التحول من التعدد السلبي الى التعدد الايجابي ،  أو مرحلة " التعدد الذي يسبق الوحدة " ، بكل ما في ذلك من معاني  ، وأهداف سامية ، وبكل ما يقتضيه من تغيير في العقلية ، والسلوك ، نحو التكامل والوحدة ..
ويبقى تحوّل الحركة القومية الى حركة جماهيرية شعبية رهين الشروط المتصلة بطبيعتها القومية ذاتها ..
أي عندما تتحوّل أولا الى حركة قومية واحدة ، تجعل المواطن العربي في أي قطر ، يشعر بأنها تمثله فعلا .. على عكس ما يشعر به في الواقع الحالي ، وهو يرى أن الحركات القومية الحالية ـ بتعدّدها وتشرذمها ـ لا تقدّم له أي دليل مادي على أنها قومية فعلا .. وهي بالتالي ـ وفي أحسن الحالات ـ يمكن أن تستقطب اهتمام الذين اختاروا وحدهم انتماءهم الفكري في الأقطار التي تنشط فيها تلك التنظيمات ، وقد يبقى كثير منهم رافضين انتماءهم اليها بسبب طبيعتها الاقليمية .. فلا ينخرطون فيها ، ولا ينتخبون ممثليها ، ولا يدافعون عنها ضد خصومها ، بل نجدهم أحيانا يهاجمون آدءها ومواقفها وسياساتها وخياراتها جميعا ..
وعندما تتحوّل ثانيا الى حركة قومية ملتحمة  بقضايا أمتها الحيوية التي تهدّد أمنها ووجودها ذاته .. أي حينما تكون منسجمة مع طبيعتها القومية في الدفاع عن وجود الامة التي تسعى الى  توحيدها .. فيكون لها وجود في أماكن المقاومة والقتال ضد اعدائها ، مثلما يكون لها تواجد في مواقع السياسة والانتخابات .. أو بمعنى آخر حينما تكون لها يد تبني ، ويد تحمل السلاح ، ليشعر بدورها الفاعل  كل من له مصلحة في وجودها ووقوفها الى جانبه  ..
وعندما تتحوّل ثالثا الى حركة ديمقراطية فعلا ، يعرف كل فرد فيها أن الجدل الذي يؤمن به كقانون نوعي خاص بالانسان ، ليس له أي لزوم أصلا ، الاّ لادارة الاختلاف .. ومعناه ان لا تطور ، ولا وحدة ، ولا قوة تنظيمية الا بالديمقراطية الحقيقية ، التي تبدأ بمساهمة الجميع في طرح المشكلات ، ومساهمة الجميع في تقديم الحلول ، وتنتهي بالتزام الجميع بتنفيذ الحل الأغلبي ..  فلا تشكيك ، ولا شتائم ، ولا استقالات ، ولا انقسامات .. 
ثم وهذا على قدر كبير من الأهمية ، حينما يصبح لها قاعدة ثابتة تتحرك منها لتحقيق كل أهدافها ، وقد تكون تلك مهمّتها القادمة ..  

عندها ، وعندها فقط  ، ستكون الحركة القومية هي الحركة الجماهيرية الأولى في الوطن العربي ..

                      ****
                                    (25) .



عاشرا : المهمة القادمة ..

أولا :  العوائق ...

قد يقول البعض ما هي الاضافة التي ستتحقق بالتقارب والتنسيق والتشاور وعقد المواثيق بين الاحزاب القومية ، اذا كانت لا تؤدي في النهاية الى وحدة حقيقية ، دائمة وملموسة ، يجسدها اطار هيكلي وتنظيمي الخ  ..
وقد يقول آخرون ، ما مدى فاعلية مثل هذا الشكل من العمل القومي ، محليا وقوميا ، والحال أننا شاهدنا  العديد من المبادرات الحماسية المصحوبة بالشعارات والتفاؤل ، والمشاعر الجياشة .. لعل آخرها ما وقع في تونس سنة 2012 حين تم توحيد حزبين ناصريين حديثي النشأة ، ثم في مصر بعد ثورة 25 يناير ، حينما أعلن عن توحيد  أربعة أحزاب ناصرية في 28 سبتمبر 2012 تزامنا مع ذكرى رحيل الزعيم الراحل جمال عبد الناصر ... الا أن الأمر سرعان ما ينتهي بالفشل بعدما تنطفئ كل الشحنات العاطفية المحركة للمشهد  ، لتعود الأمور الى ما كانت عليه أو أسوء بكثير ، بسبب الفتور ، واليأس الذي يدب في صفوف المناضلين بعد كل نوبة من نوبات الفشل ..
والواقع أن أشياء كثيرة مما يذكر صحيحة ، وهو ما يجعل الجماهير العربية في غنى تام عن الدعوات الى المشاريع الفاشلة التي لا تزيدها الا سلبية وإحباطا ، يؤدي بها عادة  الى الهروب من مواجهة الواقع .. 
وهذا فضلا ـ كما يمكن أن يقول غيرهم ـ عن عدم وجود الارضية الملائمة ليس على المستوى القومى الذي يشهد حالة من التمزق والتشتت والضعف داخل الحركة القومية فحسب ، بل وحتى على المستوى القطري ، بسبب التنافس على المواقع والزعامات مثلما هو حاصل في بعض الأقطار الخ ..
ان كان هناك جوانب معقولة في هذا الكلام ، فهو بسبب ما يتضمنه من وقائع ملموسة ، لا يستطيع أحد انكارها أو تجاهلها ، الا انه لا يعني أبدا عدم التفكير في أي مشروع وحدوي يخرج الأحزاب القومية من الوحل الاقليمي الذي تردّت فيه ، فلا تكاد تظهر ـ وهي فرادى ـ من عتمة المشهد القطري الذي تسيطر عليه الرجعية بكل الوانها ، وأصنافها .. خاصة وان قتامة المشهد على المستوى الاقليمي ،  لم تثن أي فصيل من الفصائل القومية الموجودة  في أغلب الاقطار العربية عن النشاط ، والتنافس مع القوى المحلية بما فيها الاحزاب المعروفة بتغولها المالي والعددي .. كما أنها لم تتخل عن عقد الندوات ، أو عن اقامة المهرجنات الخطابية ، ولا عن التنسيق والتشاور ، وعقد اللقاءات مع قوى المعارضة ألخ .. سعيا  منها وحرصا على تحقيق اهدافها في الوصول الى السلطة في الدولة القطرية .. فلماذا اذن ، لا تذكر الصعوبات والعوائق الا حينما يتم التذكير بالمهام القومية لأحزاب يفترض ان تكون تلك مهمتها الأساسية طول الوقت ..
ثم من قال ان الأحزاب القومية لا تستطيع ان تقوم بمهامها الا  مشتتة ؟؟
ومن قال أيضا أن تلك الأحزاب لا تستطيع في المرحلة الحالية الا التفرغ للمهام الاقليمية ، وباسلوب اقليمي صرف ؟؟ ومن قال ايضا أن مهمة القوى القومية في المرحلة الحالية هي الانغماس كليا في المشاكل القطرية .. ومن قال كذلك أن مجرّد الحديث عن المهام القومية يعيق تحقيق الاهداف القطرية الخ ..؟؟
نستطيع أن نطرح عشرات الاسئلة المماثلة في وجه كل من يحيل المشكلة الى طبيعة الواقع القومي والاقليمي المتردّي في المرحلة الراهنة .. والواقع ان كل المشاكل المعقدة التي تعيشها الامة العربية حاليا لا تكاد تنبّه الا الى ضرورة اضطلاع الحركة القومية بمهامها التي لا يمكن تحقيقها دفعة واحدة  ، ولا بشكل منفرد أو معزول كما تفعل الاحزاب القومية اليوم .. اذ ان حتى المهام القطرية تتطلب فهما مشتركا للواقع وتنسيقا على اعلى مستوى ، وهذا ليس من أجل الممارسة الموحدة التي لا تسمح بها حدود وقوانين الدول الاقليمية في الوقت الراهن ، ولكن حتى من أجل وحدة شكلية ، تبدو مهمة وضرورية في العديد من القضايا المطروحة على الساحة القومية والقطرية على حد السواء ، مثلما تؤكد الأمثلة الحية في الواقع ..
المثال الاول يتعلق بالاختلاف الحاد بين موقفين متصلين بالأحداث في سوريا .. أحدهما تمثله نخبة لا بأس بها من القوميين الذين يرفضون بشدة كل سياسات النظام ’ ويعتبرون كل ممارساته قمعية  خلال العقود الماضية سواء في فترة حكم الأب أو الابن  .. ولعل عملية انتقال السلطة بتلك الصورة الهزلية ـ كما يقولون ـ أكبر دليل على تخلف النظام ، وطبيعة الحكم المطلق للفرد والعائلة في عصر الحرية والديمقراطية .. وهو ما يدعو ـ في نظرهم ـ الى مساندة " الثورة " مثلما يسمونها  ..
والآخر تمثله نخبة أخرى من الأحزاب والمثقفين والسياسيين داخل العائلة القومية التي تعتبر هجوم الجماعات الارهابية المسلحة المدعومة من جهات أجنبية استعمارية ، ومن طرف الانظمة العربية الرجعية ، انما هو هجوم على سوريا وليس على النظام ، وهو عمل جبان يختفي أحيانا وراء شعارات الاسلام ، وأحيانا أخرى وراء الشعارات البراقة للديمقراطية وحقوق الانسان وغيرها ، في حين أنه مخطط يهدف الى تفتيت سوريا ، ولا يتوقف عندها ، بل يتعداها الى كل الاقطار من أجل خلق حالة دائمة من الصراعات تؤدي في النهاية الى بلقنة الوطن العربي لصالح الاستعمار والرجعية والصهيونية لا غير ، وهو ما يقتضي في نظرهم تأجيل الصراعات الداخلية مع النظام ، واعطاء الاولوية لدحر العدوان المسلح الذي باتت خيوطه وأهدافه ووسائله واضحة للعيان .. وهذا فضلا عن مثالية الموقف الذي يدّعي مواجهة الكل في سوريا : التكفيريين والنظام .. !! بينما نجد أن أصحاب هذا الموقف لا يمثلون شيئا على أرض الواقع .. وهو ما يعني ـ بالنسبة لاصحاب الرأي الثاني ـ ان كل هذه المواقف تراكم في نهاية المطاف ، ضد مصلحة سوريا ، ومستقبلها ووحدتها ، التي تتحكم فيها المعارك الطاحنة على الارض ، حيث بات المشروع التكفيري يعبث بالأمن ، وبوحدة النسيج الاجتماعي الذي يقوم عليه الوجود القومي قبل أي شئ آخر .. 
والواقع أن مثل هذا الاختلاف تترتب عليه العديد من الاختلافات الفرعية مثل الموقف من القوى المتدخلة  في الحرب الدائرة في سوريا كإيران ، وتركيا ، وحزب الله ، وروسيا الخ ..
المثال الثاني يتمثل في قراءة المرحلة ، والموقف من الثورات في الاقطار العربية ، والتحالفات ، واسلوب التعامل مع القضايا القومية ..
فمن قائل بأن دور الحركة القومية في المرحلة الراهنة هو تخليص الجماهير العربية من الاستبداد في كل قطر ، وبناء الديمقراطية السليمة التي ستمكنها من اكتشاف محدودية الحلول الاقليمية في بناء التقدم الحقيقي ، ووقتها ستهتدي بنفسها لاختيار المشروع القومي ( ...  ومثل هذا الموقف يشكك اصلا في امكانية قيام أي مشروع وحدوي في الوقت الراهن ، سواء على قاعدة الاعداد أو على قاعدة الصفوة ، باعتبار ما افرزته المرحلة من ترسبات اقليمية يصعب تجاوزها في ظل الانظمة الحالية ، وباعتبار استحالة امتداد فترة الاعداد الى اجل غير مسمّى ، وهو ما يفتح الباب على مصراعية لخوض جميع النضالات على قاعدة المواطنة ، مع جميع القوى التي تقبل بقوانين اللعبة دون اعتبار لمواقفها السلبية ذات الصلة  بالواقع القومي والاقليمي ..
الى قائل بأن خوض المعارك الاقليمية لا يمنع من بناء جسور قومية في المرحلة الراهنة ، ولا يؤدى الى الغائها .. كما أن الديمقراطية الحقيقية لا يمكن تحقيقها من خلال التحالف مع القوى الرجعية المتورطة في التآمرعلى الامة بدعمها للفوضى والارهاب ، مثل حركة الاخوان المسلمين والحركات الدينية في الوطن العربي عامة ، وكافة الاحزاب المرتبطة بالأنظمة الاقليمية العميلة والقوى الاستعمارية ، مما يستوجب فضحها جميعا وكشف مشاريعها المشبوهة باستمرار ، بدل التعامل معها كشريك في المستقبل ، وهي التي تملك كل الامكانيات التي تمكنها من السيطرة على الامة بمفردها لترهن مصيرها ومستقبلها كاملا لما تفضي اليه اطروحاتها الظلامية ومشاريعها الرجعية ، وهي الاكثر استبدادا وتخلفا من تلك الأنظمة الشمولية التي تدعي محاربتها  ..
فماذا يعني كل هذا ؟؟
هذا يعني أولا أن الواقع القومي بالغ التعقيد والتخلف بسبب عدة عوامل معروفة للجميع منها :
ـ المشاكل المتراكمة على مدى اكثر من قرن في ظل الاستعمار والتجزئة .
ـ ممارسات الانظمة الحالية بكل ما تملكه من آلة اعلامية لقصف عقول الناس وتضليلهم .
ـ  تكالب أطراف عديدة داخلية وخارجية طمعا في ثروات الامة .
ـ عجز الشعب العربي وقواه الثورية عن ايجاد الحلول لمقاومة كل هذه العوامل مجتمعة ، وهو ما جعل هذه التراكمات تتحول الى تخلف حقيقي يشمل جميع مجالات الحياة في الواقع العربي ، لا يلبث بدوره أن يسبب العجز التام عن فهم الواقع فضلا عن ايجاد الحلول ..
ويعني ثانيا أن الاختلاف الذي هو ظاهرة اجتماعية لا تخلو منها جماعة بشرية متفاعلة في الواقع ، سواء كانت شعبا أو حزبا أو جمعية ... ، سيبقى يعيق الحركة القومية وهي مشتتة ، طالما انها لا تمتلك الآليات التي تمكنها ـ في وضعها الراهن ـ من حسم اختلافها ... وتلك الآليات هي  بالتحديد : الوحدة التنطيمية ، والاسلوب الديمقراطي ..
ثم يعني ثالثا أنه اذا كان يستحيل على القوى القومية أن تنجح في تغيير الواقع بمفردها ، بسبب امكانياتها الحالية ولو كانت مجتمعة ، فانه يستحيل عليها تحقيق المطلوب وهي مشتتة ، حتى ولو بقيت تلوك الكلمات الثورية مائتي عام .. !!
ولكن ـ وهذا لا يمكن أن ننساه ما دمنا نتحدث عن العوائق ـ وهو تعدد التصورات للوصول الى بناء آداة الثورة العربية في المرحلة الراهنة ، بما في ذلك الحديث عن الحركة العربية الواحدة كما هي مطروحة في كتابات الدكتور عصمت سيف الدولة ، والتي تحوّل الجدل في بعض الأحيان الى عاصفة هوجاء تكاد تعصف بكل الأسس التي يرتكز عليها القوميون .. وهنا نقول ونسلم ـ اختصارا للطريق ـ بأن أسلوب بناء الحركة العربية الواحدة كما ورد في الكتاب الخامس من نظرية الثورة العربية ، وكما ورد تفصيله في الفرضية الأخيرة من بيان طارق ، يظل الأسلوب العلمي الوحيد الذي يضمن كل سبل النجاح أمام المشروع القومي ، الا أن التوفيق في انجاز هذا البناء يتطلب أولا وقبل كل شيء فهما خاصا يقوم على ربط الآداة بالأهداف والغايات المرحلية والاستراتيجية ، ثم ربط مراحل الإنجاز بالواقع في الكل العربي ، وفي كل موقع .. بما يعنيه الفهم من دراية بالمرحلة ، وما يتطلبه الإنجاز من أرضية صلبة وظروف موضوعية وذاتية مواتية تتعلق بالواقع العربي الراهن الذي غرق في الإقليمية والطائفية والشعوبية وغيرها .. بسبب الاستهداف المتواصل من الداخل والخارج ( انظمة رجعية ، استبداد ، قوى ظلامية ،  مخططات استعمارية ...) زادت كلها في تشرذمه وتشتته من جهة ، وبواقع الحركة القومية التي أوغلت في التشظي والتشتت والصراعات ( اختلافات فكرية وسياسية ، زعامتية ، ... ) من جهة ثانية ، فضلا عن العوائق المعنوية والمادية التي تحيط بالمواطن العربي ( فقر ، بطالة ، عزوف سياسي ..) بسبب كل هذه الظروف مجتمعة ... وهو ما يعني أن التشبث بهذا الأسلوب دون قراءة موضوعية للواقع كما هو موجود ، يحوّل المجهود البشري الصادق الى عبث مثالي لا يزيد الفشل فيه الا يأسا وهروبا واحباطا لأصحاب المشروع قبل غيرهم ، وهو تقريبا ما عشناه في الواقع منذ خمسة عقود على الأقل .. اذ أن ارتقاء ذلك الأسلوب الى المرتبة العلمية لا يعني بالضرورة نجاحه في كل الظروف ، وهو أسلوب علمي ليس بمعنى أنه يستوجب التوقف عن الحركة النضالية خارج فكرة الأعداد وفي أي اتجاه آخر ( حزبية قطرية ، نقابية ، عمل جبهوي ..) ، بل بمعنى أنه يتفق مع طبيعة الواقع العربي المجزئ الى أقطار لها وجود " قانوني " أمام المجتمع الدولي يمنع ظمها بالقوة ، ولها دساتير قائمة تمنع حكامها ـ حتى القوميين منهم ـ من مخالفتها ، ولها شعوب تتجاذبها مشاريع مختلفة أغلبها يعمل على تضليلها وتشكيكها في جدوى الحديث عن المشروع القومي .. وكل هذه المعوقات تمنع من تحقيق الوحدة بالأساليب الإقليمية ، حيث سيعود كل حزب قومي يصل الى السلطة الى نقطة الصفر التي انطلق منها حينما يجد نفسه داخل تلك المنظومة الإقليمية التي عمل على اسقاطها ولو ديمقراطيا .. وهذا في أحسن الأحوال اذا كان حزبا إقليميا جماهيريا أغلبيا الخ .. لانه سيتحول بعد ذلك الى ظاهرة صوتية عاجزة عن تحقيق الوحدة ولو كسب كل القاعدة الجماهيرية في اقليمه طالما ان الوحدة مرفوضة من خارجه ..
ماذا يعني هذا ..؟
انه يعني قبل كل شيء ان صفة العلمية مرتبطة أساسا بتامين ظروف النجاح للمشروع القومي وهو مواجهة الواقع القومي الذي يزداد يوما بعد يوم تنوعا وتعقيدا ، بآداة قومية لها خصوصيات محددة متصلة أساسا بواقع الحركة القومية المطالبة بتحقيق مشروعها في كل الظروف التي تمر بها الامة .. لكنه لا يعني على الاطلاق الوقوف عند تلك المسلمات دون استجابة للواقع الذي يعيشه القوميون في كل الأقطار وهو التعدد والانقسام والتشرذم .. ولا يعني ابدا العودة الى الصفر للفرز من جديد والاعداد المعزول عن هموم الناس ومشاغلهم والاقتصار على العمل النخبوي تاركين الساحات للقوى الرجعية التي تعمل على جميع الجبهات لتفتك كل المواقع وبعضها الآن قد تجاوز العمل السياسي الى العمل المسلح .. !!
صفة العلمية اذن ، لا يمكن فهمها الا في اطار فهم العلاقة بين متطلبات العمل التنظيمي الاستراتيجي وهو بناء الحركة العربية الواحدة ومتطلبات الواقع ، وهي في الوقت الراهن لا يمكن أن تتحقق الا بوضع خطة شاملة تصل البدايات بالنهايات على مراحل تراعي واقع الحركة القومية كما نراها اليوم  ، لا كما نتصورها .. وان كان لا بد من الفرز ـ وهو ضروري ـ فلا بد ان يكون على أسس موضوعية تقيس الحلول بما يمكن إنجازه على المدى القريب ، وتقيس الجدوى بالمصلحة الاستراتيجية البعيدة .. ولعل من أوكد المهامات الحالية هو استرجاع قاعدة النضال القومي التي اختفت باختفاء الزعيم الراحل جمال عبد الناصر والتي بدونها لن يجد القوميون سندا معنويا وماديا لمجابهة تحديات النضال القومي التي تنتظرهم ..
ففي الواقع الحالي الحركة القومية موجودة كما هي بسلبياتها الكثيرة وايجابياتها القليلة ، البعض منها يتحفظ على البعض ، والكل ينتقد الكل ، ولكن الجميع يتمنون لو تتوحد دون اهتداء للإجابة على السؤال الجوهري : كيف ؟؟
الكثيرون يقولون لا بد من الفرز ، ثم لا يجيبون على نفس السؤال : كيف ؟
فان كان المقصود أن يبدأ الفرز خارج التنظيمات والفصائل الموجودة ، كأن يختار البعض بعضهم الآخر ويبدأون في البناء من الأسفل الى الأعلى حتى يصلوا الى التأسيس ، فهذا فصيل آخر يضاف الى الفصائل الموجودة .. !!
وان كان عن طريق أسلوب الاعداد التقليدي كما يحدث في الجامعات دون سقف زمني ، فان المناضلين سيجدون أنفسهم في الفراغ بعد التخرج ، وليس أمامهم ـ وهم يعيشون في مجتمع متحرك ـ سوى الانعزال والوقوف على الربوة ، أو الانضمام الى أحد الفصائل الموجودة في أقطارهم ، أو تشكيل فصيل إقليمي جديد .. !!
أما اذا كان المقصود هو الفرز داخل الفصائل الموجودة فانها مفرزة على أساس ما اتفق عليه داخل كل فصيل من قراءة للواقع وأهداف مرحلية ، ولا يؤدي المزيد من الفرز داخلها الا الى مزيد من الانقسام والتشظي .. !! وكل هذه الحلول لا تخدم الهدف الاستراتيجي في شيء ..
لا يبقى اذن ، الا الفرز من خلال الممارسة الموحدة التي يلتقي فيها العمل السياسي بالاعداد ، والتي يلتقي من خلالها القوميون في الواقع على مهام نضالية يحددون لها غايات وأهداف مرحلية واضحة ، متمكسكين بالثوابت القومية ـ وهم يحتكمون الى الديمقراطية والمصلحة القومية العليا ـ للتقليص من مساحات الاختلاف فيما بينهم حول المتغيرات ولو في مهمات ظرفية كالانتخابات ، والتحركات الشعبية ، ومساندة القضايا القومية ، وفي مجال الاعلام كإنشاء مراكز بحثية وتوثيق ودراسات وموسوعات فكرية ، ودوريات وقنوات فضائية ...الخ .. وصولا الى صيغ تنظيمية ارقى ولو الوحدة بين فصيلين في كل قطر ، من أجل خلق مناخ وحدوي يستحيل بدونه بناء حركة عربية واحدة على المدى القريب والبعيد .. هكذا استطاعت الحالة الوحدوية الجماهيرية التلقائية توحيد قطرين وشعبين متباعدين عام 1958 التفت حولهما الجماهير العربية من المحيط الى الخليج ولم تحدث بدونها بعد ذلك حين تغيرت الظروف ...
ثم لا بد من القول بأن هناك قاعدة كبيرة داخل كل فصيل قومي تؤمن بهذا الأسلوب اضطرتها اكراهات الواقع والصعوبات للانخراط في الأدوات الإقليمية ، فلا يجوز التشكيك في صدق ولائها أو تخوينها ،  لما اختاره مناضلوها  خلال هذه المرحلة الدقيقة بما تراكم فيها من معوقات في الواقع العربي وبما تشابه فيها من قول وعمل .. فلا يمكن بأي حال من الأحوال جعلها بمرتبة تشابه ألوان البقر على قوم موسى .. !!
فالانتهازيون والتحريفيون والرماديون الذين تنعتونهم ـ أيها القوميون ـ بهذه النعوت أو غيرها ، لن تتمكنوا من عزلهم ولن تستطيعوا حشرهم في الزاوية الا بمشاريع وتحديات اكبر منهم وبعمل يفضح تلك الصفات والطباع المتحكمة في ممارستهم .. أما أن يكون أقصى ما في مشروعكم أن تنافسوهم على نفس الارضية وفي نفس اللعبة محتكمين الى نفس القوانين ، فلن تستطيعوا أن تتفوقوا عليهم بالشعارات وحدها ، ولا بالتخوين ، ولا بالإدانة ، ولا بالدعوة للانسلاخ  ، ولا بالهروب من مواجهة الواقع .. وقد كان الدكتور عصمت سيف الدولة نفسه ضد ممارسة هذا الأسلوب مع كل الفصائل القومية والعروبية حينما دعا في بيان طارق الى استثمار عملها في مرحلة الاعداد للحركة العربية الواحدة وذلك كما قال مؤكدا على هذه الناحية : " بينما تبقى المنظمات قائمة في مرحلة إعداد الطليعة العربية تكون قواعدها قد تهيأت فكرياً ، ونضالياً للتحول إلى قواعد للطليعة العربية ، بمجرد مولدها دون أن يحدث فراغ تنظيمي ، أو نضالي ، ويساعد على هذا ، أن كل تلك المنظمات ، أو أغلبها ، يعاني من فراغ فكري ، وعقائدي مروع ، بحيث أن الفكر الطليعي لن يجد صعوبة كبيرة في كسب القواعد ، والكوادر، حتى القيادات التي ستدعي أنه فكرها الخاص ، وشيء من هذا يحدث الآن حتى بدون تنظيم ، أي أن الأسس الفكرية لا تجد أية مقاومة داخل أغلب تلك التنظيمات ، ومع أن هذا يشكل خطراً على الفكر الطليعي ذاته عندما يتردد على ألسنة منظمات لا تلتزم به ، ولكن تدعيه وتنتحله تغطية لعجزها العقائدي ، إلا أن هذا يسهل مهمة التنظيم الإعدادي المؤقت ، إذ يسمح له القبول العام للفكر الطليعي ، كسب القواعد كسباً منظماً لحساب الإعداد للطليعة العربية ، فلن تستطيع القيادات التي رحبت بالفكر الطليعي ، ونشرته في منظماتها أن تقف ضد قواعدها إذا تحركت ، أو انتظمت تجسيداً للبناء الفكري الذي روجت له ، وبمولد ” الطليعة العربية ” سيكون الأمر بالنسبة إلى القواعد مجرد تغيير للإطار الشكلي للتنظيم والقيادة بدون أي فترة فراغ ، أما بالنسبة إلى القيادات فستكون مجرد عزلة عن القواعد التي تم تحولها بمساهمة منها ، وإن كانت غير مقصودة ، وعلى هذا لن يكون مولدالطليعة العربية ” في نهاية فترة الإعداد سوى طوراً تجاوزت به القواعد المنظمة مواقفها الفاشلة "  .
ولكن هذا يحيلنا الى موضوع أكثر أهمية وأكثر تعقيدا عن مفهوم الاعداد وشروطه وظروفه وسقفه الزمني كما جاء اقتراحه في بيان طارق .. وهو بالتأكيد ليس نفس المفوم الذي يجري الحديث عنه في الوقت الحالي .. بحيث قد لا تكون محاولة اسقاطه في واقعنا تعسفا على البيان وحده ـ وقد جاء  أسلوبه الخامس تحديدا متضمنا مقترحا عمليا يتلاءم مع  المرحلة في مصر تحت قيادة عبد الناصر ـ بل تعسفا على الواقع الراهن عموما ، اذ بالتأكيد أن الظروف غير الظروف .. وهذا واضح فيما جاء على لسان عصمت سيف الدولة نفسه بعد سبع سنوات من صدور بيان طارق حينما كان يعرض تفنيده لاتهام النيابة سنة 1972 بانشاء تنظيم سري باسم " أنصار الطليعة " بهدف اثبات مشروعية الدعوة لقيام التنظيم بقطع النظر عن صاحبه موضحا من ناحية ماهية وطبيعة الوثيقة ـ التهمة فيقول : " ما هي طبيعة بيان طارق ؟ هل هو كتاب ، أم مقال ، أم نشرة ، أم منشور ، أم نداء ، أم رسالة ؟ هل هو علني ، أم سري ؟
لقد كتبت بيان طارق ، كدراسة ، وكثيراً ما كتبت دراسات مثله ، إما لكي تتحول بعد ذلك إلى مقال ، أو إلى جزء من كتاب ، أو أن تبقى معي .. وقد كتبت دراسات مثله لغيري ، ومنها الدراسة التي كتبتها عن البرجوازية الصغيرة بناء على طلب التنظيم الناصري في لبنان ( إتحاد قوى الشعب العاملة ) ، وهو من بين المضبوطات في صيغة خطاب … كذلك الأمر بالنسبة للرد المطول على بيان المؤتمر القومي لحزب البعث السوري الذي انعقد سنة 1968 ، لقد أعددت الرد ، وقام بطباعته ، وقام بتوزيعه في سورية ، الاتحاد الاشتراكي السوري ، ويشهد بذلك السيد “جاسم علوان” الأمين السابق للإتحاد الاشتراكي العربي في سورية ، الذي أخذ الدراسة مني ، وقد كان “ بيان طارق”، قبل أن يسمى بيان طارق ، دراسة من هذا النوع ، أعددتها بناء على طلب أمين عام حركة “الوحدويين الاشتراكيين في سورية” ـ المحامي محمد الخير ـ الذي قام بطباعته ، وأعطاني نسختين منه . وفي صيغة البيان تأكيد لطبيعته الدراسية ، فهو لا يتضمن ، أي نداء إلى أحد ، ولا يطلب من أحد أن يفعل شيئاً ، باختصار: إنه دراسة تقريرية ، وعندما انتشر في سورية ، ثم انتقل إلى الأردن ، حيث أطلقوا عليه اسم “بيان طارق” ثم إلى أقطار عربية كثيرة ، تحول عن طريق الاقتناع به إلى نوع من الوحدة الفكرية بين عديد من الشباب العربي المنتشرين في الكثير من الأقطار العربية ، كل ما يجمع بينهم أنهم قرأوه ، واقتنعوا بصحة مضمونه فاعتبروا أنفسهم ” أنصاراً ” للطليعة العربية ، بدون أن يعرفوا من الذي وضعه ... " 
ومن ناحية ثانية مدى تطابق الدعوة للاعداد في مصر مع ظروفها في ظل قيادة عبد الناصر صاحب الدعوة الأولى لقيام الحركة العربية الواحدة مؤكدا وجود نسختين مختلفتين الأولى لسوريا والثانية لمصر نظرا لاختلاف الواقع في كل منهما فيقول : " كتب “ بيان طارق” في سنة  1966 ،في ذلك الوقت ، ولم تكن في الوطن العربي كله دولة تدعو وتحمي الدعوة إلى “الحركة العربية الواحدة” إلا ج.ع.م بقيادة عبد الناصر .. كانت ليبيا تحت حكم ملكي ، وكان السودان تحت حكم الأزهري ، وكانت سورية تحت حكم  الذين يعتقدون أنهم وحدهم الحزب القومي القائد .. إلخ ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى، كان “بيان طارق” دراسة لمشكلة قومية ، لأن “الحركة العربية الواحدة” حركة قومية غير مقصورة على أي بلد عربي ، ولا حتى على ج.ع.م ، فلم يكن من الممكن أن يتضمن “ بيان طارق” طريقة واحدة للإعداد الفكري والبشري الذي يمهد ويسبق قيام التنظيم القومي . كان القدر المشترك الذي يستهدفه هو : أن يتحول الشباب العربي في كل مكان ، وفي أية منظمة ، إلى أنصار للطليعة العربية ، بدون أن يغادروا أماكنهم ، أو يخرجوا على منظماتهم . أما كيف يتحولون ؟ وماذا تكون العلاقة فيما بينهم ؟ وماذا تكون مواقفهم من السلطات في الدول التي يقيمون فيها ؟ فإن تلك المواقف متباينة تباين النظم التي يعيشون في ظلها .. وكل هذا لم يكن من الممكن تحديده مقدماً . وهكذا جاء “بيان طارق” لينص نصاً صريحاً على أن طريقة ممارسة الدعوة في كل قطر عربي ، متروكة للأنصار يختارونها بما يناسب ظروفهم . إلى هنا ، لا يكون “ بيان طارق” مسؤولاً عن أية طريقة يختارها “ الأنصار” في أي قطر، بمعنى أنه من وجهة النظر القانونية ، يتحمل “الأنصار” في كل قطر، مسؤولية الطريقة التي يختارونها ، ولم تكن هذه القاعدة تمنع أن يتضمن “بيان طارق” نماذج للممارسة من واقع الأقطار العربية أو بعضها .. ولما كان “ بيان طارق” وليد مساهمة “أثنين”، أحدهما عالم بظروف سورية في ذلك الوقت ، والآخر ” أنا ” عالم بظروف ج.ع.م، فقد تضمنت النسخة المعدة لسورية هيكلاً تنظيمياً للممارسة ، أما في ج.ع.م فقد نص “ بيان طارق”، نصاً صريحاً ، قاطعاً ، على أن أسلوب الممارسة فيها ، هو الدعوة الفكرية ، وأضاف البيان : لأنها مشروعه ـ إذن فلا شبهة في أنه ـ طبقاً ، “ لبيان طارق”، يكون أسلوب دعوة “الأنصار”، في الجمهورية العربية المتحدة ، هو الدعوة الفكرية ( الكتب ـ المقالات ـ المحاضرات ـ الدراسات ـ الحوار، والمناقشات )، ولا شبهة ، في أن مبرر اقتصارها على هذه الطريقة ، هو الحفاظ على شرعيتها ، حتى ـ وكما جاء في بيان طارق ـ لا تقع الدعوة القومية في تناقض صريح أو ضمني مع قيادة ناصر .."
صحيح أن الدكتور عصمت سيف الدولة رفض على مدى حياته الانخراط في أي أداة إقليمية باعتباره صاحب الدعوة للمشروع القومي الذي يجب ان تتلاءم  منطلقاته وغاياته مع أسلوبه ، بحيث لا يصبح ـ بالنسبة له ـ الانخراط في تحقيق الغايات القومية في الواقع العربي بالوسائل الإقليمية دعوة فاشلة  فحسب ، بل مناقضا للمبدأ الذي سخر حياته من أجله وهو يحرض الناس لالتزام به  .. كما كان يدين ـ من واقع المسؤولية الأخلاقية ـ أي عمل يثير الالتباس في أذهان الناس بين الاسلوبين حينما يصبح ممكنا أن يكون أحدهما بديلا عن الآخر بدعوات قومية مضللة .. لكنه لم يتنكرا مطلقا للواقع كما هو موجود .. ولم يكن  يدعو الناس الى السلبية ، والفراغ ، والقفز على الواقع ، بل نجده يقف مواقف إيجابية أمام كل خطوة تؤدي الى التكتل والوحدة ، فشجع في مناسبات عديدة على أي تقارب ليس بين الفصائل القومية فحسب بل وحتى بين الفصائل القومية والماركسية والعروبية من أجل تحقيق غايات مرحلية .. بل انه ذهب أكثر من ذلك مشجعا أي مبادرة صادقة بين الأنظمة الإقليمية الخ .. بشرط أن لا تتوقف تلك المبادرات عند تحقيق المصالح الإقليمية .. وأن لا تكون مطروحة كصيغ بديلة للحركة العربية الواحدة ، فكان يباركها من جهة ، ويفضح أهدافها حينما تكون منحرفة من جهة أخرى .. كما انه كان ـ قطعا ـ يميز بين المبادرات التي تأتي ـ صدقا ـ من جانب القوميين وبها شبهات إقليمية عارضة ، ومثيلاتها التي يقترحها الاقليميون ـ تضليلا وخذلانا ـ للمشروع القومي .. والأمثلة على هذا التعاطي الإيجابي كثيرة .. والا كيف نفسر تفاعله مع قادة الثورة في ليبيا التي تقود مؤسسة إقليمية حينما زارها في أكتوبر سنة 1970 وقبل مقترح تكليفه بكتابة وثيقة تنص على كيفية الاعداد لمشروع تنظيم قومي يبدأ من هناك كما جاء شرحه مفصلا في كتابه عن الناصريين واليهم ؟
وكيف نفسر تفاعله الإيجابي مع وثيقة بني غازي ودستور الجمهوريات العربية  بين مصر وسوريا وليبيا كما جاء متضمنا لـ " ضرورة تهيئة المناخ لقيام الحركة العربية الواحدة ، بالدعوة لقيامها ، وبالحوار الفكري لإنضاج نظريتها ، وبالإعداد البشري في إطار المنظمات القائمة لتجهيز كوادرها . إن هذا الأسلوب كأي حل صحيح ، لمشكلة واقعية يصل إليه الناس ، إما عن طريق الوعي والدراسة العلمية ، وإما عن طريق التجربة ـ لا يهم ـ المهم ، أنه بعد وفاة الرئيس عبد الناصر ، أصبحت دولة اتحاد الجمهوريات العربية الناشئة ، بكل رؤسائها ، وحكوماتها ، ومؤسساتها السياسية ، وجماهيرها ، من “ الأنصار”، لأنهم جمعياً قد التزموا في مباحثات  بني غازي بأمرين ، الأول : تأجيل إنشاء الحركة العربية ، والثاني : الإعداد لإنشائها في الوقت ذاته .. إن كلاً من الاتحاد الاشتراكي في مصر العربية ، وفي ليبيا ، وحزب البعث والأحزاب المشتركة معه في الجبهة في سورية ، كل هذه المؤسسات قد أصبحت تنشط في خطوط محددة  :
أ ) أن ليس أي منها هو الحركة العربية الواحدة ، ولا البديل عنها ، وبالتالي كما نص ، في”إعلان بني غازي” لا ينبغي لأي منها أن تنشط خارج حدود دولتها . لقد اعترفت كل منها بحقيقة ماهيتها الإقليمية.
ب ) أن تكون معاً “جبهة” إلى أن تقوم الحركة العربية الواحدة ، وهو ما يعني أن الجبهة ، صيغة مؤقتة ، وأنها ليست البديل عن الحركة العربية الواحدة  .
جـ ) أن تعمل جميع تلك المؤسسات “من حزبية ومؤسسات دولة في الدول الثلاث” على تهيئة المناخ لإنشاء الحركة العربية الواحدة ، وهو ما يعني أنها هي كمؤسسات ، وأحزاب ، وجبهة ، ليست الجهة التي تقيم الحركة العربية الواحدة . إنهم جميعاً قد اهتدوا إلى “بيان طارق” ، والتزمو به ، بدون أن يعرفوه ـ اهتدوا إليه عن طريق البحث عن الحل الصحيح لمشكلة قومية قائمة ، وتبنوا أسلوبه .." . ( عصمت سيف الدولة / ملاحظات للدفاع في الجناية 37 لسنة 1972 ـ عرض أ ـ حبيب عيسى ) .
ثم كيف نفسر تفاعله الإيجابي أيضا مع مبادرة نظام عبد الناصر ومؤسساته الإقليمية ممثلة في المؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي الذي ربط فيه مناسبة اتخاذه  لقرار  اعادة النظر في تطوير مشروع  الميثاق الوطني بإمكانية تحويله الى ميثاق قومي ، وتطوير الاتحاد الاشتراكي إلى فرع لتنظيم قومي تحت قيادة عبد الناصر ، بحيث تصبح عملية التحضير لقيام الأنصار منذ 1966 ،عملا تمهيديا لقيام القاعدة الجماهيرية للتنظيم القومي حين يحدث التطوير سنة 1970  فقال موضحا الفكرة في فقرة مطولة من نفس المرجع : " كتب بيان طارق في منتصف 1966 ليحل المشكلة الآتية على وجه التحديد ، فالحركة العربية الواحدة ضرورة تاريخية ، إذن يجب أن تقوم وجمال عبد الناصر القائد القومي لأعرض الجماهير العربية يعلن ويكرر، أنه لن يقيمها ” حتى لا يزج بدولته في صراعات مع الأحزاب خارج حدودها ، إذن يجب أن تتولى الجماهير العربية نفسها إقامة حركتها العربية الواحدة ، ولكن النظام القائم في ج.ع.م لا يسمح بإنشاء منظمات سياسية … فلا يتبقى إلا أحد أمرين : إما أن تقوم الحركة العربية الواحدة بصرف النظر عن موقف النظام في الجمهورية العربية المتحدة ، وبالتالي تنشأ متعارضة معه ، وهو ما يعني أن تقع تلقائياً في صفوف القوى المعادية لقيادة حركة التحرر العربي ، وإما أن يتبع في قيامها أسلوب خاص يستجيب لضرورتها التاريخية ، ولا يتناقض مع قيادة جمال عبد الناصر بالذات .. هذا الأسلوب ، أو حل هذه المشكلة القومية هو ما جاء به بيان طارق .. وفي البيان ذاته استعراض لكل تلك العقبات ، وفيه تركيز واضح وقاطع ، على أن أعرض العقبات هي أنه بينما تقوم ضرورة قومية تاريخية لإنشاء الحركة العربية الواحدة ، فإن ج.ع.م تمنع الشعب العربي فيها ، الذي هو ثلث الأمة العربية ، من المساهمة في إنشائها من ناحية ، بينما تقتضي المصالح القومية عدم التناقض ، لا صراحة ، ولا ضمناً مع قيادة جمال عبد الناصر … هذا وارد بأوضح ما يكون في بيان طارق وهو دليل غير قابل للنقض على أن وراء بيان طارق إرادة واعية لضرورة الحفاظ على الشرعية في ج.ع.م  ...وكان الحل (حل التناقض بين التنظيم القومي وقيادة ناصر..) الذي أورده “بيان طارق” بعد دراسة مطولة لعناصر المشكلة ، حلاً ذا شقين ، الشق الأول : تأجيل إنشاء التنظيم القومي حتى سنة 1970، وهي السنة التي كانت محددة ، ليعيد المؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي العربي في مصر النظر في ميثاق العمل الوطني ، ويقيّم تجربته ، ويطوره ، كما أن “بيان طارق” أورد مبرراً محدداً لاختيار تلك المناسبة .. هذا المبرر هو أنه ، لو استطاع الشباب العربي أن ينجز كل ما جاء في بيان طارق ، فإنه سيكون من الممكن بمناسبة أعادة النظر في الميثاق ، أن يجد مناسبة لتطوير ميثاق الاتحاد الاشتراكي  إلى ميثاق قومي ، وتطوير الاتحاد الاشتراكي إلى فرع لتنظيم قومي تحت قيادة عبد الناصر، وهو دليل آخر من “ بيان طارق” ذاته ، على الحرص ، على ألا تنشأ الحركة العربية الواحدة بعيداً عن مساهمة الشعب العربي في مصر، أو من موقع التناقض مع قيادة عبد الناصر . الشق الثاني : الانتفاع بالفترة الزمنية من 1966 إلى 1970 في أن يعّد الشباب العربي نفسه فكرياً ، وسياسياً ليسهم في إنشاء الطليعة العربية ، عندما يجيء الوقت المناسب لإنشائها . وبهذا الإعداد الفكري، والسياسي ، المقصود به تأهيل الشباب العربي لعضوية الطليعة العربية ، يكون الذين يعدون أنفسهم “ أنصاراً للطليعة العربية”، وتكون حركة الإعداد ذاتها ، هي “حركة أنصار الطليعة العربية” .. " . ( عصمت سيف الدولة / المرجع السابق ) .




للحديث بقية ..

                       ****
                                      (26) .

وثانيا : الأوهام ...

 لا يخفى على احد الآن ، أن هناك بعض وجهات النظر المطروحة تحمل افكارا مفادها ان بعض التوجهات  الحالية تسير في اتجاه التخلي ـ عمليا ـ عن اسلوب الحركة العربية الواحدة .. وحتى ان كان الموقف المعلن غير رافض من حيث المبدأ لهذه الفكرة ، الا أن هذه القناعة تبدو واضحة ـ لدى البعض ـ في أسلوب التعاطي مع القضايا القومية التي بدأت تتحوّل تدريجيا الى قضايا ثانوية ليأخذ نشاط بعض الفصائل ومواقفها طابعا اقليميا لا يتردّد في تغليب المصالح القطرية تحت حجج مختلفة : الصعوبات المادية ، مشاكل الارهاب ، التاثير السلبي للتجزئة ، انشغال المواطن العربي بمشاكله الخاصة ، الخ .. !!  
في حين أن بعض المواقف الاخرى المشكّكة في امكانية انجاز اي خطوة وحدوية ، تاخذ طابعا " واقعيا " في ظاهره ، رافضا التمسك بالمسلمات باعتبار عدم امكانية الترقب الى أجل غير محدود حتى تتهيا الظروف لبناء الحركة العربية الواحدة ، بينما هو في الجوهر يأخذ منحا تأويليا تعسفيا متناقضا سرعان ما يتحول الى منطق تبريري مضاد ومعادي صراحة للمشروع القومي فكرا وممارسة دون سند واقعي ..
وهو تأويلي تعسفي على وجهين :
* الوجه الأول يحمل تعسفا على الجانب النظري العام ، اذ ان الحديث عن دورالقوميين واسلوب عملهم في دولة اقليمية ديمقراطية غير الحديث عن دورهم في دولة اقليمية مستبدة ، أوفي طريقها الى الثورة ، او في مرحلة انتقالية لم تعرف الديمقراطية بعد على اسس سليمة .. ودورهم وهم مشتتون الى فصائل واحزاب متنافرة ، يختلف عن دورهم وهم تنظيما واحدا ديمقراطيا ولو في دول اقليمية متفرقة .. كما أن دورهم وهم في قيادة الدولة الاقليمية يختلف جذريا عن دورهم وهم في المعارضة أو خارج المشهد السياسي الخ ..
كل هذا مغيب في التحليل " النظري " المتعسف على واقع الحركة القومية بجميع جوانبه الذاتية والموضوعية .. ومثل هذا نجده في ما كتبه الامين البوعزيزي في مقال بعنوان " الحديث الآخر حول اسلوب الاعداد لبناء الحركة العربية الواحدة من وجهة نظر قومية تقدمية " .. انطلق فيه من العرض السريع للوقائع التاريخية والاحداث والملابسات التي انبثقت عنها الدعوة لفكرة الاعداد لبناء الحركة العربية الواحدة ، ثم قفز على الواقع العربي وواقع الحركة القومية قفزة نوعية عبر الزمن ، من الستينات الى  الالفية الثانية ليقول بأن مشروع الاعداد استنفذ وقته الافتراضي ، ولم تعد الحاجة اليه مطروحة بتلك الصورة التي وقع الحديث عنها في بيان طارق الذي كان أصلا خطة للستينات .. ليخرج بعد ذلك  بفكرة " التجديد عند الدكتور عصمت سيف الدولة " ، التي لم ينتبه اليها غيره ، وهو الذي اكتشفها وحده بعد مرور اكثر من ربع قرن عن صدورها ، حيث يذكر لنا تلك الفقرة من الدراسة المشار اليها سابقا (الحلقة 21) ، والصادرة سنة 1984 بعنوان الديمقراطية والوحدة العربية ، وهي التي بنى عليها ـ كما سنرى ـ فكرة الهدم للمشروع القومي جملة وتفصيلا .. ثم يمر بعد ذلك ليستشهد بفقرات مطولة من كتابات الدكتور الواردة في سياقات مختلفة  ، للاستدلال بها في تأكيد فكرة ، لم يكن الدكتور عصمت سيف الدولة ـ لو صح ذلك ـ ليذكرها كاشارة عابرة في أسطر قليلة آخر الدراسة ، ثم لم يعد اليها مجدّدا بعد ذلك وهي بتلك الأهمية كما يدّعي .. والواقع اننا اذا رجعنا الى المراجع الاصلية التي ذكرها في مقاله ، نلاحظ أن ما قصده الدكتور في كل مرة غير ما هو مقصود في سياق الاستدلال ..
* والوجه الثاني يحمل تعسفا على الجانب الخاص بتفاعل القوميين مع الواقع  ، اذ أنه لم يثبت أبدا ـ على المستوى النظري والفكري ـ أن هناك من ينادي بالانتظار وتعليق النضال حتى يتمكن " الاعداديون " من بناء الحركة العربية الواحدة ، والحال ان  فكرة الاعداد الفكري نفسها وقع طرحها في اطار رؤية استراتيجية ، من اجل بناء آداة الثورة العربية ، وبالتالي فان تلك المهمّة في حد ذاتها هي مهمّة ثورية لا يستهان بها ، ولا يمكن التقليل من شأنها مهما صاحبها من قصور في ساحة تونس على الأقل ، خاصة وانها تجربة لم تكن خالية تماما من طرح المهام النضالية والثورية على جميع المستويات ، وفي جميع المواقع ، سواء داخل الجامعة أو في الشارع ، او في العمل النقابي ، حيث كان الاعداديون يعملون على جميع الجبهات مثلما يعمل اي طرف سياسي في تلك المواقع ، بل ان كل التحركات تقريبا كانت تحدث بالاتفاق والتوافق أو الالتقاء على مهام نضالية لا تفوت القوميين اي مناسبة منها في اي مكان لهم فيه تواجد ..
كما أنه لم يثبت أبدا ـ على المستوى العملي ـ بأن هناك دعوة عامة أو اتفاق بين القوميين للتوقف عن القيام بتغيير الواقع حتى بناء الحركة العربية الواحدة ، والحال ان الهدف من الاعداد هو هدف سياسي بامتياز ، لا يمكن تحقيقه الا بخلق محاور نضالية ، ومناخ نضالي يسمح بطرح المقاربات واثارة الجدل الذي يمكن من خلاله التعريف بالفكر الطليعي ، وهو ما يسميه الاعداديون " الاشتباك مع الواقع " ، أي أن هذا الجانب ، لم يكن غائبا عن وعيهم في اي مرحلة من المراحل .. اما كون فترة الاعداد قد امتدت الى أكثر من عمرها الافتراضي فهذا جانب يمكن أن تقع فيه المراجعات أو التخلي او التعديل والتغيير دون أن يتحوّل الامر الى تهجم على المشروع القومي برمته .. !!  
وحتى فترة الركود التي عرفها التيار القومي في تونس ـ في أسوأ الحالات ـ هي نتيجة لحالة الارتخاء التي تميزت بها حقبة التسعينات بسبب التفكك التنظيمي الذي تحوّل ـ على المستوى الفردي ـ الى عزلة ثم الى فراغ وجمود ، فيأس واحباط وتبرير للواقع ، تزامن مع حالة الانهيار التي مرت بها الامة العربية عموما ، بداية من العدوان الاطلسي على العراق ، وتغول القوى الرجعية أنظمة وأحزابا ، على رأسها التيارات الدينية التي انتعشت من حرب افغانستان وما صاحبها من تحالفات مع القوى الغربية في تلك الفترة ضد الاتحاد السوفياتي في الخارج ، وضد الانظمة القومية في الداخل ، مستغلة موجة الدعاية الفضائية الصاعدة بفضل التمويل الهائل المرصود لها لتوجيه الرأي العام العربي الى وجهة محدّدة .. وصولا الى حالة الضياع الكبير بعد سقوط العراق ، ومحاصرة المقاومة الخ  .. حتى بدى للبعض وكأن الطرح النظري وتلك الاحلام الوردية قد سقطت في الماء .. !!
والواقع ان حالة الضعف التي عاشها القوميون ليست حالة خاصة ، بل هي حالة عربية عامة عاشتها كل القوى المناضلة في تلك الفترة ، ساهم فيها الاستبداد المحلي مساهمة كبيرة جعلت البعض يتراجعون ، أو ينكفؤون ، أو يستسلمون .. أو ينقلبون على أعقابهم فيتحوّلون الى أعداء للفكر القومي ، أو الى انتهازيين الخ .. وكله طبيعي وممكن الحدوث دون حاجة الى التعميم أو الى التأويل التعسفي ، لأن ذلك من طبيعة البشر قبل كل شئ ، والقوميون أقدر على فهم هذه الظاهرة لانهم يدركون أكثر من غيرهم بان الناس متفاوتين في جميع القدرات الخاصة بحركات الجدل الاجتماعي ..
ثم هو تأويلي متناقض على عدة مستويات :
 في المستوى الأول يعتبر أن كتابات عصمت سيف الدولة المشدّدة على ادانة الاقليمية ، قد فهمها الاعداديون على أنها تجيز لهم محدودية الانخراط في العمل السياسي على المستوى القطري ، حتى لا يقعوا في شباك الاقليمية .. وهو ما جعل الدكتور عصمت سيف الدولة " يتفطن " ـ كما قال البوعزيزي في نفس المقال ـ  إلى كون مقولة ( إن الإقليمية عاجزة عن حل مشاكل الشعب العربي التي لا حل لها إلا الوحدة العربية ) " أصبحت مهربا يلتجئ إليه عديد المناضلون الوحدويون حتى لا يواجهوا مخاطر النضال الشعبي بين الجماهير في كل إقليم ، فكتب خطة جديدة ترسم مهام أنصار الطليعة في واقعهم الإقليمي المترافقة مع عملهم الدؤوب من أجل الإعداد البشري لبناء أداتهم التنظيمية " ...
ثم يقول بأن هذه الخطة الجديدة ( الواردة في الدراسة المذكورة ) " أغنى فيها نظرية الثورة العربية بإضافة نوعية حول أساليب نضال القوميين التقدميين لإنشاء أداتهم التنظيمية وبناء دولة الوحدة ورسم فيها مهام نضالية ينجزونها في ظل الواقع الإقليمي  " ..    
ووجه التناقض في هذا الجانب أنه عاد بعد ذلك ليستشهد بما كتبه عصمت سيف الدولة خلال الستينات والسبعينات على انه يتطابق مع تلك الخطة التي قال بانها جديدة ، ومتطوّرة ، فينقل فقرات طويلة ومتتالية من كتبه السابقة ومنها الكتابين السادس والخامس من " نظرية الثورة العربية " وكتاب " حوار مع الشباب العربي " ، دون أن يتفطن الى ما كان يناقض به نفسه حينما يستشهد بالقديم مما كتبه الدكتور لتدعيم فكرة يقول انها جديدة مثلما ورد في المقال المشار اليه .. وهو ما ينفي فكرة التطوّر و" التفطن " من أساسها .. بل بالعكس فان اتباع مثل هذا النهج الاستدلالي الذي يدعم فيه القديم الجديد ، انما يأكد على أن كل كتابات عصمت سيف الدولة هي استكمال لنفس المشروع الذي بدأه منذ الخمسينات ، وهو الذي يربطه خيط منهجي واحد هو جدل الانسان ، لذلك لا تخلو حتى المقالات والمحاضرات والحوارات الصحفية التي أجراها في فترات متفاوتة ، من هذه الخلفية .. بل ان مثل هذا أيضا نجده حاضرا حتى في مرافعاته القانونية المتعلقة بالقضايا السياسية الخ ..    
وهو تأويلي تبريري لأنه يعتمد في تهرّبه من المشروع القومي على مبررات ضعيفة ، ناتجة بالاساس عما  يُنسب للقوميين من عجز على تجاوز الواقع ، وليس من خلال اكتشاف تناقضات داخل المشروع الذي يعملون من أجله .. والهروب هنا أيضا تبريريا واهيا لأنه  لو صح في هذا ، لصدق على مثله كأن يتخلى المسلمون عن اسلامهم بسبب الفشل أو بسبب التخلف أو بسبب الاستبداد الذي يعيشونه منذ الف عام .. !! 
ثم هو تأويلي مضاد لأنه صار يلتقي مع جميع التيارات الرجعية المعادية للمشروع القومي في شيطنة القوميين دون غيرهم من القوى .. فالقوميون هم المستبدون ، والانقلابيون ، والعسكريون ، والايديولوجيون .. الخ ، وقد تأكد هذا وتحوّل من حالات الوهم العابرة ، الى الحالة المرضية الدائمة حينما أصبح يتكرر بمناسبة وبدون مناسبة ، لعل آخرها ما كتبه في ذكرى ثورة يوليو على صفحات التواصل ونقله موقع (tunivers citoyen  ) تحت عنوان : " في ذكرى يوليو العسكر العربي " ، أعاد فيه نفس الفقرة ونفس الفكرة التي ختمها باسلوب يبطن التهجم ليس على الحكام القوميين في مرحلة معينة فقط ، بل على الحركة القومية ماضيا ومستقبلا  .. !!
والبوعزيزي الذي يعرّف نفسه دائما بانه باحث في الانتروبلوجيا الثقافية ، نجده يقفز قفزات طويلة على الواقع والظروف الاجتماعية وهو يشير في كثير من الاحيان الى ظاهرة الانقلابات العسكرية ليجعل منها ظاهرة عربية خاصة باصحاب النزعة القومية ، وهو في الواقع ابعد ما يكون ـ بهذا الاسلوب ـ عن البحث والفهم والاستنتاج الصحيح ، حيث ان ظاهرة الانقلابات العسكرية في كثير من الدول العربية والافريقية كانت ـ في ظروفها ـ حلا من حلول الضرورة للواقع المتردّي الذي لم يعد يقبل الانتظار ، والذي تتواجد فيه قوى سياسية يستحيل التعويل عليها في احداث هذا التغيير اذ هي أحزاب فاسدة بالاساس ، متعايشة مع الانظمة والاحتلال الاجنبي في نفس الوقت .. وهكذا يصبح القفز على هذه النواحي ، ضربا من ضروب الوهم والتخبط العشوائي الذي ينتقي الوقائع ليس من اجل تفسير الظاهرة تفسيرا موضوعيا وقد جاء بعضها بالخلاص للناس في تلك الظروف ، بل من أجل ادانتها في مطلق الحديث ..  وهو ما يجعل هذا المنطق في النهاية منطقا عدميا سفسطائيا لا يهدف الى توجيه النقد للتجارب القومية ، بل للاساءة اليها دون أي تنسيب موضوعي  ، ودون تمييز بين المدارس القومية وتجاربها المختلفة في السلطة أو خارجها ، وبين التجارب الحديثة القائمة على المراجعات والانتقادات للتجارب السابقة .. وهو ما يجعل تلك الاحكام فاقدة لاي معنى ، ومتطرفة في اتخاذها منحا هجوميا عدوانيا مشبوها على المشروع القومي باكمله ، دون التعرض ـ بأي نقد ـ لاي مشروع آخر من المشاريع الرجعية المطروحة على الساحة العربية ، سواء من جانب وقوفها على أرضية ايديولوجية هو لا يدين بها سوى القوميين ، او من جانب مضامين اطروحاتها الرجعية ، واللاديمقراطية ، في الفكر والممارسة ، لا نجده يخص بها الا التجارب القومية    ..

للحديث بقية .. 

                       ****
                                      (27) .

وثالثا : الحقائق ...

هل هناك ما يبرر الهروب من مواجهة الفشل بالنسبة الى حركة مهمّتها تغيير الواقع ..؟
وهل هناك من القوميين من يقبل بالتخلي عن آداة الثورة العربية ويبقى منتسبا الى صف الطليعة العربية ..؟
قد يكون الجواب جازما بالنفي .. لو لا وجود ظاهرة صوتية ، تثير لغطا شديدا ، وتعمل على تحويل الانظار من المهام الرئيسية المطروحة على الحركة القومية من خلال مراكمة النضال الوحدوي لصالح المشروع القومي ، الى المهمّات الفرعية التي يتحول من خلالها القوميون الى مجرد قوى احتجاجية فاقدة للهوية القومية ، تراكم من خلال الممارسة النضالية لصالح القوى الرجعية .. !!
أليس هذا هو جوهر العمل المواطني الديمقراطي اللاّ ايديولوجي ..؟
ولماذا يشترط في النضال الحقوقي والمواطني التخلص من الايديولوجيا ، والايديولوجيا القومية تحديدا ..؟
الا يمكن للحركة القومية ان تخوض كل هذه النضالات بهويتها القومية ..؟
فلماذ اذن يقبل التعامل مع القوى الاخرى كما هي بهوياتها الفكرية والايديولوجية المختلفة ، بينما تعتبر الحركة القومية استثناء  في التعامل على تلك الخلفية ..؟
هناك اذن محاولات واضحة لاستدراج الحركة القومية بعيدا عن طبيعتها ومهمّاتها ودورها القومي داخل المجتمع قد يكون وراءها ـ في ظل حسن النية ـ غياب الفهم الموضوعي للعديد من الظواهر والاحداث والعلاقات بينها جميعا ، لا تلبث أن تتحول الى مواقف تدين ـ دون استثناء ـ كل ما يفرزه الواقع القومي ، فلا تعرف كيف تتعامل معه تعاملا صحيحا  ، وهي لا تعترف بكثير من مميزاته وخصوصياته ، مما يجعلها تتخبط في مواقف متناقضة ..
* وبعض هذه المواقف ترتكز في تعاطيها مع قضايا الصراع الاجتماعي والديمقراطية وحقوق الانسان بشكل خاص في الأقطار العربية ، بالقياس على وضع الدول الغربية ، وهو أمر مشروع ومطلوب ، غير أنه يغفل علاقة مهمّة  تأثر سلبا على الواقع العربي وايجابا  على الواقع الاوروبي ، ألا وهي علاقة الاستبداد بالتجزئة عندنا ، وعلاقة الديمقراطية بالوحدة عندهم ..
ففي الواقع الاوروبي لعبت الوحدة القومية دورا هاما في فرض سيادة الدول ، واستقراها الداخلي مما جعلها تتفرغ لمواجهة ظروفها ومشاكلها الخاصة لتبني من خلالها اسس تقدّمها ونهضتها القومية ، وهو ما جعل تلك الجوانب الايجابية تنعكس ايجابيا على أوضاعها السياسية والاجتماعية ، ومنها جوانب الديمقراطية وحقوق الانسان .. في حين أن تحقيق مثل هذا الامر في كثير من الاقطار العربية غير ممكن التحقق بنفس الدرجة بحكم قلة امكانياتها وعجزها عن مسايرة التقدم بكل جوانبه العلمية والصناعية والانتاجية الكبرى التي أصبحت سمة من سمات هذا العصر في جميع مجالات الحياة ، في الصحة والتعليم ، والنقل ، والاستهلاك الغذائي ، وفي الاعلام و في وسائل الدفاع في المجال العسكري ... وحتى في الثقافة والترفيه الخ .. حيث لا حرية بدون استقلالية في كل هذه الاحتياجات والضروريات .. وبالتالي لا ديمقراطية ولا حرية ، ولا حقوق ، الا بقدرما تكون ـ تلك الدول العاجزة ـ تابعة للجهات التي توفرلها  كل هذه المستلزمات .. فلا ديمقراطية اذن بدون نظرة ايجابية للواقع القومي ، التي تضع في حسابها علاقة الديمقراطية وحقوق الانسان والاستقلال والتقدم والرخاء بالوحدة ..
طبعا اذا كان هذا صحيحا ، لا بد من النظر الى الحركة القومية ، نظرة ايجابية أيضا .. باعتبارها ضرورة تاريخية في حياة الشعوب والامم المجزأة ، حيث ترتبط تطلعات الناس الى الحرية والديمقراطية في أي قطر من أقطارها ، بالحلول النهائية لمشكلات الواقع ، فلا تعود بعدها الى الاستبداد ، أو الى تزييف الارادة الشعبية وغيرها من الانتكاسات باهضة الثمن دائما ، التي لا يمكن تجنبها الا بتوفر أهم شرط  من شروط الاستقلال الحقيقي متمثلا في الوحدة القومية ، وهو هدف يفترض أن تعمل كل الأطراف داخل المجتمع على تحقيقه باعتبار ما تضيفه الوحدة من امكانيات لا تعود فقط على الحركة القومية وحدها بل على كل فئات المجتمع ، وفي جميع مستويات الحياة : الاقتصادية و الاجتماعية والامنية والثقافية والعلمية والتكنولوجية وغيرها ..
فما المشكل اذن ؟؟
المشكل أن بعض الحقوقيين والسياسيين والمثقفين في الوطن العربي يتجالهلون الظاهرة القومية فيتعاملون مع الحركة القومية كأنها حالة مصطنعة ، أونزوة عابرة ، أو نزعة الى التطرف والتعصب والانغلاق ، لا لزوم لها جميعا  في عصر العولمة والانفتاح .. متجاهلين قوانين الظاهرة القومية وصيرورتها في عالم ، لا تجوز فيه المقارنة الجارية بين الموحد والمجزأ ..
* بعض المواقف الأخرى ترتكز على ردة الفعل تجاه الحالة " الثورية التي ظهرت في الوطن العربي منذ ثورتي تونس ومصر ، وهو ما سمّي في ذلك الوقت بثورات الربيع العربي .. وقد كان مثل هذا الفعل مطلبا اساسيا وحاجة ماسة  داخل كل قطر بعد حالة الضعف والتخلف والاستبداد التي عاشتها الامة العربية من المحيط الى الخليج ، فلم يعد ينفع للمستقبل غير التغيير الجذري عن طريق الثورات .. وقد كانت القوى القومية بالفعل في الصفوف الأمامية منذ انطلاق الثورة الأم يوم 17 ديسمبر 2010 في سيدي بوزيد ، حتى أن العديد من التسجيلات التي وقع تداولها  خلال تلك الفترة كان يظهر فيها المناضلون القوميون بامتياز ..
وهكذا كان دور القوميين وحضورهم اساسيا في كل الأحداث سواء في ساحة تونس أو في ساحة مصر ، وهو ما يؤكد وقوفهم المبدئي في وجه الاستبداد مهما كان نوعه .. غير أن الأحداث منذ أن انتقلت الى مصر ، التقطتها القوى الرجعية المتربصة والقوى الخارجية التي شعرت بالخطر في تهديد مصالحها فكان مشهد العسكرة الذي انتقل  من ليبيا الى سوريا ، أمرا لا علاقة له بالثورات بقدر ما هو مبرّرا للتدخل الخارجي الذي يعمل على انهاء الثورات من اساسها .. ومن هنا تغيرت أغلب المواقف على اسس واضحة ومسلمات تتلخص في مقولتين :
المقولة الاولى  تقوم على أساس مسلمة بسيطة ومعروفة مفادها أن : الوجود شرط التطوّر .. ومعناه ببساطة ، أن لا وجود لثورة تكون نتائجها اندثار المجتمع ، بتفكيك روابطه وانحلال نسيجه الاجتماعي ، الذي يعود به مئات السنين الى الخلف  ..
والمقولة الثانية  تقوم على التسليم بأن الثورة فعل ايجابي لا يلبث حين ينتهي أن يُحدث تغييرا الى الافضل . لذلك يتخذ العمل الثوري الحقيقي - طوال مسيرته - نسقا تصاعديا يراكم لاحداث ذلك التغيير .. وعليه فان ما لا يجب تصديقه دائما ، هو القول بان كل من يستعمل العنف ويدعي أنه يقاوم الديكتاتورية هو بصدد انجاز ثورة ..
فالثورة لها ملامحها وأسسها وأساليبها  .. ولها أيضا منطلقاتها وغاياتها التي يتحدّد بها شكلها ومضمونها مهما كان عاما وبسيطا مختزلا في شعارات .. ولهذا ، فالثورة يجب أن تكون شعـبية قـبـل كل شيئ ، تـنـظمها وتؤطرها القوى الوطنية الثورية المعـروفة عادة برموزها ونضالها الطويل على الساحة السياسية والنقابية والحقوقـية ، فلا يمكن مثلا ان يكون رموز الثورة غـرباء عن الشعب ، ملثمون ، يحملون أسماء مستعارة ، قادمين كالجراد من ساحات بعيدة عن ساحة الثورة ، جاهلين بواقع المجتمع وظروفه ومعاناته وتطلعاته .. كما يجب ان يعـبّـر الثوار عن هموم الناس ومشاكلهم الحقيقية ليكونوا قادرين فعلا على قيادة الثورة وتوجـيهها نحو أهداف معـلنة ومعـروفة .. وفوق هذا يُفـتـرض أن تـنأى تلك القيادات الثورية بنفسها - بحكم نقائها الثوري وعقيدتها الثورية وأهدافها النبيلة الواضحة ومثـلها العـليا ومشروعها التحرّري الانساني - عن كل الشبهات في التعامل مع الأطراف المعادية ، من خلال الرفض المبدئي سواء للاتصال أوالتـنسـيـق أو التعاون مع القوى الرجعية المحلية ، ومع الاعداء التاريخـيـيـن للأمة لانها تدرك انها ستـتـصادم معهم في المستـقـبل .. ثم ترفض التمويل المشبـوه الذي يجـرّها الى التبعـية والتـنازل عن أهدافها ، فلا تعتمد الا على قواها الذاتية متمثلة في أبناء الشعب وحدهم .. وكل هذا كان غائبا ـ منذ البداية ـ  في ساحتي ليبيا وسوريا تحديدا ..
ثم ان الثورة الحقيقية لا يمكن أن تستهدف كيان الدولة ومؤسساتها الامنية والعسكرية ، لكي لا تقود المجتمع الى نفس الفوضى التي عرفها العراق بعد الغزو الامريكي ، بل تتجنب تلك الاساليب ـ عن وعي ـ لتحافظ على  وحدة  المجتمع وأمنه واستقراره على المدى القريب والبعيد ..
* وهناك مواقف ثالثة ترتكز في الظاهر على ما ذكرناه سابقا مما كتبه الدكتور عصمت سيف الدولة في حديثه عن علاقة الديمقراطية بالوحدة العربية حين قال : " الحل القومي بسيط ، فرض الديمقراطية في الدول الاقليمية وحراستها وترك الشعب يكتشف بنفسه من خلال الممارسة أن مشكلات تطوّره وتقدمه قومية موضوعيا .. " وقلنا أنه موقف يؤكد على دور الديمقراطية في اكتشاف الحلول الملائمة لتطور المجتمع وعلى راسها قضية الوحدة ، ولا يُقصد به ـ بالمرة ـ  التخلي عن الاسلوب القومي ، والانخراط عشوائيا في النضال القطري ، كأي طرف اقليمي ، تعويلا على وعي الجماهير في المستقبل حينما تمارس الديمقراطية .. فمن قال ان الممارسة الديمقراطية السليمة لا تتاخر قرنين أو أكثر في مجتمع متخلف ، ومحاصر بكل القوى المعادية للديمقراطية والوحدة ..؟؟
ثم ان الدراسة المذكورة تتكون من 21 صفحة تغطي 18 صفحة منها حديثا خالصا عن الديمقراطية ، نشأة وتطورا ومفاهيم ..  يذكر فيها الدكتور جوانب عديدة ، ومنها الديمقراطية في علاقتها بمفهوم الدولة من ناحية ، وبمفهوم الامة من ناحية ثانية .. فالامة التي هي مسرح الاحداث والمشكلات في الواقع ، تتحول كل مشكلاتها الى مشكلات قومية ، وهذا يصدق حتى على حالة التجزئة التي تعتبر انتكاسة وحالة طارئة على الوجود القومي ، اذ أن الامم لم تتكون اعتباطا ،  بل ان وراء تلك الغاية المتحققة ، نشاط انساني  يتجه الى غاية محدّدة هي البحث عن حياة أفضل .. وهكذا لا يمكن بعد استنفاذ كل المراحل السابقة على الوجود القومي ، الرجوع الى الوراء .. فيكون واقع التجزئة عاملا مضادا لامكانية تحقيق تلك الغاية التي اتجه اليها التطور ، بعد ان تعطلت في مرحلة من المراحل حينما طرأت عليها هذه المشكلة  ..
وينتقل الدكتور عصمت سيف الدولة في نهاية الدراسة ، وفي الصفحتين الاخيرتين 19 و20 تحديدا ، الى الحديث عن العلاقة بين الوحدة العربية والديمقراطية كعلاقة ذات اتجاهين يؤثر كل اتجاه منهما في الآخر سلبا أو ايجابا ، بقدر ما تكون الواحدة منهما ( الوحدة والديمقراطية ) ملازمة للأخرى أو العكس .. وهو ما يعني أن تطور المجتمع القومي ، مشروط بتوفر القوانين المساعدة على تطوّره والمتمثلة اساسا في قوانين الجدل الاجتماعي ، أي الديمقراطية  .. والديمقراطية التي هي اسلوب تطور المجتمع حينما تتحقق في الدولة الاقليمية ، يمكن أن تكون الآداة المناسبة لتحقيق الوحدة بالطرق السلمية .. الا أن عدم امتثال الحكام الى قوانين الديمقراطية حينما يكون المطلب هو الغاء الدولة الاقليمية نفسها ، يعطي المبرر للثورة عليهم ، من أجل استرداد الديمقراطية أولا ثم من أجل تحقيق كل المطالب الشعبية ثانيا ..
ولعل الاسئلة التي تطرح نفسها هي : هل النضال من أجل تحقيق الديمقراطية في الاقطار معناه الانخراط بشكل فردي في العمل الجماهيري ، أم الانظمام الى التنظيمات الاقليمية بدلا من الانتماء الى أي فصيل قومي ؟؟ وهل النضال في الاحزاب القومية أصبح عائقا أمام تحقيق الديمقراطية في كل قطر من الاقطار الخاضعة لهيمنة الأنظمة الاقليمة ؟؟ وكيف ستؤدي الحركة القومية دورها المطلوب في ظل هذا الطرح ؟؟ هل يتخلى ابناؤها عن هويتهم القومية ليتحوّلوا الى قوى احتجاجية تحت عناوين فضفاضة باسم المواطنة والديمقراطية وحقوق الانسان وغيرها ؟؟
كل هذه الاسئلة نجد لها جوابا واضحا عند الدكتور عصمت سيف الدولة  في آخر الدراسة المذكورة ، ينفي تلك التأويلات الخاطئة من اساسها حين يقول : " أخيرا ، كيف يقدم القوميون المناضلون من أجل الوحدة الى الشعب العربي ما يثبت صدق وعدهم بأن دولة الوحدة العربية ستكون ديمقراطية ؟ " .. ثم يجيب :" ليس بالوعود والايمان المغلظة ، ولكن بالممارسة الفعلية ، بأن يكونوا هم انفسهم ومنظماتهم ديمقراطيين منذ البداية وخلال المسيرة ، حتى النهاية . ديمقراطيين فيما بينهم ومناضلين من أجل الديمقراطية وحراسا لها ، ومدافعين عن الشعب العربي ضد الاستبداد الاقليمي في كل دولة ... "
هكذا يساهم القوميون في تغيير واقع مجتمعهم اينما كانوا ، وهم بهويتهم القومية الواضحة ، التي تقود خطاهم عبر مراحل النضال من محطة الى اخرى ، برؤية شاملة ، واهداف واضحة ، يراكمون بنضالهم لصالح المشروع القومي الديمقراطي ، التحرري ، الوحدوي ، الاشتراكي ، دون أن يغيروا بوصلتهم .. ولكن ماذا لو تعرضت الأقطار التي يناضلون فيها من أجل الديمقراطية الى ما يعرّض سلامة وجودها الى الخطر ؟؟
هنا يجيب الدكتور عصمت سيف الدولة بكل وضوح في الفقرة الأخيرة الواردة في الصفحة 21 فيقول : " نريد أن نختم هذا الحديث بكلمة مختصرة عن علاقة كل ما تقدم بأزمة الديمقراطية في الوطن العربي ، نضيف بها سببا لم يرد في عناوين البحوث المقدمة أو المنتظر تقديمها . ان الدولة والديمقراطية من حيث هما نظام ادارة وتطوير المجتمع المشترك ، يفترضان ابتداءا ، ان هذا المجتمع ، بامكاناته كلها ، متاحة لكل الشعب فيه حتى تبدأ عملية التنظيم والتطور ، أما اذا لم تكن امكانات المجتمع متاحة للشعب بأن كانت محتلة أو مغتصبة أو مستغلة أو تابعة لدول اخرى ، فان المشكلة التي تثور أولا تكون مشكلة تحرر قومي . وهي قابلة للحل ديمقراطيا مثل كل المشكلات ولكنها حينئذ ستكون ديمقراطية الثورة التحررية التي يلتزمها الثوار فيما بينهم ، فيعرفون أفضل السبل الثورية لتحرير مجتمعهم ، أما رفع رايات الديمقراطية عالية وعريضة لتخفي مشكلة الاستيطان والاستعمار الظاهر والخفي والتبعية المفروضة أو المطلوبة فهو تواطئ  ضد الشعب ، وضد الديمقراطية ، وضد الوحدة ، مع أعدائهم جميعا "..
وفوق هذا فان المرحوم عصمت سيف الدولة يقطع الشك في كثير من الحالات بالتأكيد على أولوية واحدة : " بناء آداة الثورة " ، فيقول بصريح العبارة وبشكل قاطع واضح الدلالات بعد هذا التاريخ الذي صدرت فيه الدراسة ردا على السؤال الذي طرحه عليه محاوره من مجلة الموقف العربي : " لو أردتم أن تحددوا للشباب العربي في كل أرض عربية أولويات عمله ونضاله في هذه المرحلة ؛ فكيف ترتبون تلك الأولويات ؟ فيجيب : " ألف باء النضال ؛ بل الألف التي تسبق الباء هو أن يملك المناضل أداة نضاله . والشباب العربي في كل أرض عربية لم يملك أداة النضال القومي { التنظيم القومي } . وبالتالي فان الأولوية المطلقة بالنسبة لأي شاب عربي قومي وبالنسبة للشباب العربي القومي جميعا أن يلتحموا في تنظيم واحد . بغير هذا وقبل هذا ستصب جهودهم النضالية كلها أو أغلبها في الحقول الإقليمية أرادوا أم لم يريدوا " .
ثم ان المرحوم عصمت سيف الدولة ـ من ناحية أخرى ـ لم يكف عن التاكيد في كتابته اللاحقة ، على ضرورة قيام التنظيم القومي .. وليس كتابه عن الناصريين واليهم ، الا خطوة في هذا الاتجاه الجدي الذي لم يتخل عنه طوال حياته .. وهذا نموذج مما قاله سنة 1991 في حوار صحفي مع الاستاذ رياض الصيداوي متحدثا عن قضيتي الديمقراطية والوحدة يقول : " فالديمقراطية لازمة كضرورة قومية لتطور الامة العربية من التجزئة الى الوحدة ومن الاستعمار الى التحرّر ومن فوضى الاقتصاد الذي يسمونه راسمالية الى الاشتراكية .. " وهذا عن جدواها ودورها بالنسبة لتطور المجتمع ، أما في علاقتها بالوحدة فيقول جازما : " تنحصر قضية الديمقراطية قوميا كالآتي : أولا ، لا ديمقراطية بالنسبة للانسان العربي دون ان تقود خطاه الى عمل قومي ، والتي نسميها دائما التنظيم القومي .." ، وبعد أن يتحدث عن دور الديمقراطية في البناء الهيكلي لهذا التنظيم والمحفاظة على استمراريته ، يتحدث أيضا عن دوره في مواجهة الدولة الاقليمية دفاعا عن الحرية والديمقراطية لفائدة الجماهير العربية ، اذ أن هذه الدولة من حيث طبيعتها الاقليمية لا يمكن ان تكون ديمقراطية طالما تجعلها تلك الطبيعة معادية للوحدة فيقول بكل وضوح : " ان كل دولة اقليمية من حيث هي سجن كبير أو صغير لجزء من الأمة العربية تفصله عن بقية الشعب وتمارس عليه التحكم مرجعها بمرجع استبدادي ، ويصبح من العبث توقع أن تكون دولة اقليمية وديمقراطية في نفس الوقت ." ..
والديمقراطية بالنسبة للدكتور عصمت سيف الدولة ليست اسلوبا لادارة الاختلاف بين المختلفين داخل المجتمع فحسب ، بل هي ايضا ، وبالتحديد في مجتمع مجزأ مثل المجتمع العربي ، تعدّ اسلوبا  لتحقيق الوحدة القومية ، فلا بد ان يكون القوميون اول المحتكمين الى أحكامها سواء كانوا على رأس السلطة أو في المعارضة ، ولا يجب عليهم مخالفة تلك الأحكام الا حينما تقوم قوى من داخل أجهزة الدولة أو من خارجها بتعطيل قواعد اللعبة الديمقراطية ، ومنع الشعب من تحقيق ارادته .. حيث يقول في هذا الصدد في نفس الدراسة متحدثا عن الحزب القومي الذي : " يقود الشعب الوحدوي في كل الأقطار في مواجهة كل الدول الى أن " يلغي " دولتين على الأقل فيقيم دولة الوحدة النواة ثم ـ وهذا على أكبر قدر من الأهمية ـ يزحف وحدويا ولا يتوقف مهما طال الزمن الى أن تتحقق الوحدة العربية الديمقراطية .. " ثم يتساءل : " ديمقراطيا ..؟ " ويجيب بعد ذلك : " نعم ديمقراطيا اذ الديمقراطية اسلوب الشعب وغير متوقفة على الدولة ومؤسساتها .. أما الغاء الدولة الاقليمية لحساب دولة الوحدة النواة أو الشاملة فهذا متروك لحكامها وما اذا كانوا سيخضعون لارادة الشعب أم يقاومونه . ان خضعوا فلا مشكلة ، وان قاوموا فهي الثورة من أجل استرداد الديمقراطية طريقا الى الوحدة العربية .. " ( الديمقراطية و الوحدة العربية ـ مرجع سابق ) .
هذا يؤكد سطحية الفهم وسذاجة الفكرة القائلة بان دور القوميين في المرحلة الراهنة يقتصر على تحقيق الديمقراطية من أي موقع ، وبأي طريقة ، متخلين عن أحزابهم وهويتهم القومية ، مكتفين بالتحوّل الى حالة احتجاجية لا ايديولوجية ، هدفها تحقيق الديمقراطية التي ستتيح الفرصة للشعب لاختيار ما يريد .. !!
فالديمقراطية بالنسبة للفكر القومي التقدمي لم تعد مجرّد موضوع للمبارزة الفكرية بين السياسيين ، الذين يعطونها بظهورهم بمجرد الوصول الى السلطة ، بل هي ـ بالنسبة له ـ اسلوبا لتطور المجتمع من خلال تفعيل مبدأ الجدل الاجتماعي عن طريق التشريعات التي يفترض أن تؤدي الى المشاركة الواسعة داخل المجتمع لمراقبة الدولة وتسييرها في نفس الوقت ، لذلك لا يمكن للحركة القومية أن تختار غير الأسلوب الديمقراطي  لكي تكون الوحدة ـ ايضا ـ خيارا شعبيا ديمقراطيا ، يهتدي اليه الناس بفضل العمل الريادي الذي يؤديه الطليعيون بين صفوف الجماهير وهم يعملون على استرداد الديمقراطية الى الشعب حسب الظروف المتاحة في واقعهم :
ـ أولا من خلال العمل الثوري داخل الاقطار التي يحكمها الاستبداد وتغيب فيها الاساليب الديمقراطية  ..
وثانيا من خلال دفاعهم عنها وحمايتها داخل الاقطار التي يوجد فيها هامش ديمقراطي وتسعى فيها الرجعية لتزييفها وافراغها من مضامينها السياسية والاجتماعية ..
وثالثا من خلال التوعية والدعاية والمشاركة السياسية داخل الاقطار التي يتوفر فيها قدر هام من الديمقراطية الحقيقية  ..
وهكذا تصبح قضية الوحدة مشكلة ديمقراطية فعلا ، وهي الاضافة العميقة التي قدّمها الدكتور عصمت سيف الدولة في ترسيخ دور الحزب القومي في خوض النضالات التي يخوضها القوميون داخله في كل المراحل ، وفي كل الحالات التي يمكن أن يعيشها المجتمع ، وليس بتحوّلهم الى حالة مائعة لا لون لها ولا رائحة  ..
ثم هل هناك في العالم عمل عفوي ، تلقائي تتحكم فيه النوايا الحسنة ، ولا تحكمه اللوبيات ومراكز البحوث الاستراتيجية حتى نتهم الحركة القومية بالايديولوجيا وكأنها الاستثناء في هذا العالم الملائكي ..؟؟
فماذا نسمّي الفكر الصهيوني الذي يستهدف الوجود القومي اذن ؟؟ وماذا نسمّي الفكر الليبرالي ، والفكر الوهابي ، والفكر الاخواني .. ؟؟
وماذا تفعل الدول المدافعة عن مصالحها في العالم غير نشر افكارها وثقافتها وايديولوجياتها الخاصة ؟؟
فهل نقاوم كل هذه القوى والاستراتيجيات بالفوضوية الجديدة التي اصبح لها رواد ودعاة وقادة في الوطن العربي بعد ثورتي تونس ومصر .. ؟؟
نحن لا نشك في حقيقة ناصعة لا غبار عليها تحدث منذ أكثر من نصف قرن ، وتقود السياسات في العالم لو تأملناها لتبينت لنا جملة من المعطيات المهمّة المؤثرة في حياتنا وظروفنا ومستقبلنا جميعا ، بعضها وقع اعداده في مخططات سابقة منذ الخمسينات كما تقول بعض التقاريرالواردة عن الجامعات ومعاهد الدراسات ومراكز البحوث الاستراتيجية في واشنطن ولندن وتل أبيب وغيرها .. بكل ما فيها من باحثين وأكادميين وأساتذة مختصين في جميع مجالات الحياة من أول العلوم السياسية والاقتصادية والاحصاء .. وعلماء الآثار والانتروبولوجيا والمؤرخين والفلاسفة وعلماء الاجتماع .. والاخصائيين في علم النفس وتاريخ الاديان والحضارات ... وكل مجالات العلوم الحديثة .. الى آخر مجالات الاسطورة والسحر والشعوذة المنتشرة في بعض المجتمعات التي تستهدفها اطماع تلك الدول ، وهم منكبون من أجل وضع المخططات التي تقود خطاهم على المستوى الاستراتيجي ، فضلا عن دورها في توجيه الرأي العام العالمي الى حيث تتجه أهدافهم ومصالحهم ..
لذلك نرى غير بعيد عن هذا ، اتجاه التنظير العالمي  حول الصراع باعتباره قاعدة أو أصل يحكم العلاقات داخل المجتمعات الانسانية كما تقول تلك المقولة البسيطة ( عـندما يوجد فـرد يسود السلام وعـند وجود اثـنيـن ينشأ الصراع وعـند وجود أكثـر تبدأ التحالفات ) ، وعلى هذا الاساس فنحن علينا ان نقبل بوجودهم بيننا ، لان صراعنا معهم ليس باختيارنا او باختيارهم فهو كما تقول تلك النظريات (ان قانون الصراع هو الذي يحكم الكون ) ، ومن هنا تبدأ المغالطة ، اذ سيكون أمامنا غير حل من اثنين : اما أن نقبل لعبة الصراع الطبيعي الذي ستميل نتائجه الى الاقوى كما حصل داخل الوطن العربي في مناطق عديدة مثل العراق وليبيا ، واما أن نقبل التفاوض على قاعدة قبول شروطهم المجحفة كما جرى في السودان ودول الخليج العربي ، وعدة دول عربية اخرى بدرجات متفاوتة ..
ولعل الملفت للنظر في هذا الجانب ، أن ما يتجه اليه التنظير في مراكز البحوث المتقدمة في العالم ، نجده يتحقق في الواقع ، وهو ما يؤكد أن ما يصدر من تنظير عالمي في مجالات الصراع الدولي والعلاقات بين البشر تتحكم فيها غالبا مراكز بحثية متقدمة تعمل على توجيه الرأي العام من أجل تمهيد الأرضية التي تساعد الدول الكبرى على تنفيذ مخططاتها بالوسائل المناسبة .. وهكذا نجد ان ما يحدث في واقعنا من احداث وتطورات يبدو فيها " الآخر " على جاهزية تامة ، انما سببه ما يسبق ذلك الفعل من أبحاث ودراسات وجمع معلومات وتخطيط وموازنات داخل المراكز المتخصصة قبل وقوع الأحداث بعقود ، لكي يتم التحكم في اتجاهها من قبل الاجهزة المشرفة على ذلك التخطيط لتحقيق النتائج المرسومة على ارض الواقع ، وهو ما يجعل المشهد برمته أشبه بتلك الاضواء القادمة الينا من الفضاء الواسع ، وبعضها لم يعد موجودا رغم ما يحدثه بيننا من انبهار .. وذلك راجع لطول المسافة التي يقطعها الضوء والتي قد تستغـرق وقتا أطول من العمر المتبقي للمصدر الذي انبعث منه .. ونحن اذا اطلعنا على ما يقع تسريبه من خطط وأهداف استراتيجية للدول الكبرى نجد أن ما يحدث الآن لم يكن وليد الدراسة الآنية بقدر ما هي عملية التقاط للحظات التاريخية التي تقع في سياق المتغيرات ، بحيث يتم توظيفها بالاساليب الحالية في اطار الخطط الاستراتيجية المدروسة والجاهزة منذ عقود .. وفي هذا السياق يمكن ان نعود الى دراسة نشرها مركز الكاشف للمتابعة والدراسات سنة 2011 ، حول الاطماع الدولية في الوطن العربي بعنوان " خطط تفتيت المنطقة هل ستأخذ طريقها الى التنفيذ " ، فنقرأ فيها لابراهيم علوش " خطة تقسيم العراق " بما فـيها الدور الامريكي والايراني والاحزاب العراقية التي تدور في فلك هذا وذاك ، وحيث يعود الكاتب الى جذور المشروع الذي هو بالاساس كما يقول : ( مشروع يهودي قديم ، ولعل اقدم وثيقة صهيونية تتحدث رسميا عن تفكيك العراق والوطن العربي هي تلك المعروفة باسم وثيقة كارينجا ، الصحفي الهندي الذي اعطاه جمال عبد الناصر وثيقة " هيئة الاركان الاسرائيلية " حول تفكيك المنطقة ، فنشرها في كتاب يحمل عنوان "خنجر اسرائيل " عام 1957 .. ) . كما نقرا للكاتب ممدوح اسماعيل تحت عنوان " تقسيم العراق كابوس على الجميع " يذكر فيه سعي المخطط الصهيوني والامريكي للتركيزعلى التناقضات داخل المجتمع العربي لتحقيق مشروع التقسيم الذي هو كما يقول مخطط قديم للولايات المتحدة مارسته مع الاتحاد السوفياتي ويوغزلافيا وتشيكزلوفاكيا حيث عمدت الى اشعال وتغذية النعـرات العرقية وتقويتها للانفصال بحيث لا يبقى كيان قوي متحد ، فتفككت تلك الدول الى دويلات وهي خطة وُضعت مسبقا للعراق ولبعض الدول العربية لتفتيت المنطقة العربية " .. كما يذكر امثلة حية لذلك على غرار ما حصل في السودان والعراق ( السنة والشيعة والاكراد ، ودارفور .. ) الخ .. وفيها ايضا خطة تقسيم مصر في وثيقة منشورة منذ الثمانينات للدكتور حامد ربيع ، التي اشار اليها ايضا الدكتور محمد عمارة نقلا عن مجلة البنتاغون في كتابه " المسألة القبطية  ".. وفيها كذلك خطة اسرائيل الاستراتيجية للثمانينات التي نشرتها مجلة كيفونيم سنة 1982 واعتمدها الدكتور عصمت سيف الدولة في دفاعه عن تنظيم ثورة مصر سنة 1988 .. كما نجد تصورات الصهيوني برنارد لويس لكيفية تفتيت الوطن العربي الى ما لا يقل عن 33 دويلة طائفية وعرقية ، الى جانب الندوات التي نظمتها مراكز الابحاث الصهيونية في تل أبيب في 1990 و 1992 وكلها تبحث في اساليب تفتيت الوطن العربي على اساس مكوناته الطائفية والعرقية التي لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات الانسانية ..
ولذلك فان السؤال المطروح لا يتعلق بـ : هل نحن مع الديمقراطية أم  ضدها .. ؟ السؤال اليوم كيف نحمي أمتنا من مخططات التفتيت التي تداهمها ونحن نعمل في نفس الوقت على تحقيق الديمقراطية والحرية ومقاومة الاستبداد ؟
في الجانب الآخر ، نجد المشروع الاخواني عامة والمشروع الوهابي بشكل خاص اللذان استفادا من وضع الاديان والحريات في اوروبا ، حيث لا تتدخل الدولة في المؤسسة الدينية (المسجد) ، فوجدت تلك الجماعات فرصتها في تحويل المساجد ـ منذ الخمسينات كما تبين الوقائع والتقارير ـ من مؤسسة دينية لممارسة التدين وآداء الفرائض والمناسك المفروضة ، الى مؤسسات دعوية مزدوجة ذات اهداف سياسية تستغل الدين في نشر الافكار التي تقف وراءها أطراف سياسية معينة ، لها مصلحة في ترويجها ، ليكون حاملي ذلك الفكر  ذراعها الذي يحمي وجودها ومصالحها في الوطن العربي بشكل خاص .. وبالفعل فقد أصبحت تلك البؤر التي تأسست في دول كثيرة مثل الشيشان وافغانستان وغيرها من دول البلقان ـ التي كانت تستقطب اهتمام المسلمين وتعاطفهم ـ  مواقع يرتد منها الارهاب حاليا  الى الوطن العربي مستهدفا نسيجه الاجتماعي الذي يقوم عليه الوجود الفعلي للمجتمع  .. وهذا فضلا عن المشاريع الاخرى الاممية والاقليمية والشعوبية وغيرها ..
لا مجال اذن للتشكيك في جدوى العمل القومي الممنهج فكريا والمنتظم جماهيريا والمفرز سياسيا على الساحة ، في أي صورة كانت ، اقليمية او قومية ، غير أن الحالة الطبيعية هي ان تكون الحركة القومية منسجمة كليا مع طبيعتها تلك ، أي أن تتحوّل من حالة التشتت والتعدّد الى حالة الوحدة .. والمطلوب هو قطع الامتداد التلقائي للماضي في المستقبل ، من خلال التدخل الواعي الذي يمكن أن يؤثر على سير الاحداث لكي تكون ـ بعد فترة زمنية محدّدة ـ في اتجاه الأهداف المرسومة .. فان كان القوميون غير مؤهلين موضوعيا وهم في أحزابهم الاقليمية لبناء الحركة العربية الواحدة على المستوى القومي " فلا يكلف الله نفسا الا وسعها " ، ولكن هل هناك ما يمنعهم من التوحد داخل كل قطر على اساس ثوابت العمل القومي ، ثم يحكّموا الديمقراطية بينهم ، ويجعلوا المصلحة القومية هي العليا ، بحيث لا ينفصلون بعد ذلك مهما كانت الاختلافات الفرعية  ..؟؟
وهل هناك ما يمنعهم من التشاور ، والتقارب ، والتنسيق ، وبناء التحالفات ، وتبادل الخبرات ، وتقريب وجهات النظر ، وطرح محاور نضالية مشتركة .... وغيرها من المهام في المرحلة الحالية ..؟؟
واذا لم تكن هذه المهام من مشمولاتهم فما هي مهمة الأحزاب القومية اذن خلال هذه المرحلة ..؟؟
هنا نجد  توضيحا يسوقه الدكتور عصمت سيف الدولة في هذا السياق فيقول : " مهمة الحزب القطري أنه يدرب نفسه على كراهية وعداء كل ما هو اقليمي .. فمهمّته الكبرى هي تسهيل عملية الوحدة عندما يأتي أوانها ، وعليهم اذابته ، ( يقصد هذا الحزب ) .."
في الواقع الراهن للاحزاب القومية ، قد تكون هذه المهمات مهمّات جماهيرية بامتياز ، حين تتولى القواعد المؤمنة بالوحدة العمل على تغيير الواقع من داخل الاحزاب القومية ذاتها على المدى القريب ( العاجل ) والبعيد (طويل المدى) ، وذلك بالاعلان صراحة عن رفض الانقسام وتجريمه وادانته ، وفتح نقاشات داخلية حول هذا الموضوع ، ومد جسور التواصل مع الأحزاب القومية الاخرى في القطر وخارجه ، وفتح نقاشات جدية معها لخلق حالة مماثلة داخلها ، مع تجنب التصادم مع الحالات الشاذة المنفلتة ، ومحاصرة الخلافات وعدم تضخيمها في وسائل الاعلام .. ثم التنسيق قاعديا لانجاز مهمات نضالية مشتركة في المناسبات القومية أو غيرها داخل الأقطار ، وحضور التضاهرات التي يدعو لها اي حزب قومي آخر  .. الى ما لا نهاية من المهام التي من شأنها ان تؤدي الى كسر الحواجز والعزلة ، وتغيير العقليات ، واشاعة روح الوحدة ، بين القوميين ، التي من شأنها أن تدفعهم للوحدة التنظيمية الفعلية الخ .. ثم عليهم ان يتبيّنوا درجة الاختلاف الموجودة بينهم ، ان كانوا يختلفون في القضايا الجوهرية التي تمسّ من ثوابت الامة ، والتي يستحيل دونها اللقاء ، ام في التفاصيل والفروع الخاضعة بطبيعتها لتغير الظروف والاجتهادات التي لا ينتهي الخلاف حولها ، والتي لا يقدر على حسمها الا الجدل بين المختلفين .. !!  
فهل هناك قوميين مثلا لا يعتبرون وجود الانظمة الاقليمية عقبة أمام تطور الامة حتى وان كانت أنظمة ديمقراطية .. ؟؟
وهل يوجد بين صفوفهم مناضل قومي واحد يسلم بشرعية الوجود الصهيوني ، أو باي نوع من الاحتلال الاجنبي .. ؟؟
وهل يمكن ان نعثر على واحدا فقط من القوميين التقدميين يقبل ببقاء التجزئة ، أو بالظلم والاستبداد والاستغلال والفقر دون اجتثاث لكل هذه الأمراض من الوطن العربي باكمله .. ؟؟
أبدا ..  
وهو ما يعني أن القوميين ـ مهما بلغوا من الاختلاف ـ فهم لا يختلفون في مواقفهم الاستراتيجية التي تمثل ثوابت المشروع القومي ، سواء المتعلقة بقوى العدوان ، أو بالأنظمة الاقليمية ، أوبالصراع العربي الصهيوني ، أو بقضايا الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وغيرها ..
أي  أنهم يختلفون ـ  في الغالب ـ  في ترتيب الاولويات .. وتحديد الآليات ..
طبعا مثل هذا الاستنتاج يشجع على القول بأن امكانية البناء على أرضية الثوابت في ظل المناخ الديمقراطي أمر ممكن ، وهو لا يحتاج الا الى المبادرة الصادقة التي يجب أن تتوفر لها عدة مقدّمات منها ..
ـ أولا : التخفيض من الانا ، وفائض الرضا عن النفس في ظل ما يقدّمه كل مناضل قومي في موقعه ، وهو يرى التنظيمات القومية تشترك ـ كل على حدة ـ في مضمون الممارسة المناقض لمنطلقاتها جميعا ..
ـ ثانيا : ضغط  قاعدي جماعي داخل كل فصيل تعبيرا عن الرغبة الفعلية في الخروج من الازمة ..
ـ ثالثا : فتح نقاشات بناءة بين الفصائل القومية للخروج بحلول عملية تنهي حالة الانقسام داخل كل قطر ..
ـ رابعا : طرح مبادرات جدية على مستوى عربي غير مقتصرة على التنظيمات تتجاوز فكرة المؤتمر القومي النخبوية ، الفاشلة .. وتحديد ميثاق للعمل القومي يضم قراءة شاملة لطبيعة المرحلة ، ويحدّد آليات ومهام للعمل على المستوى القومي في ظل الوضع الراهن .. من اجل تحقيق الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية ، مع المحافظة على وحدة الوجود القومي ، وهي القضايا الرئيسية التي تمثل ثوابت العمل القومي في هذه المرحلة كحد أدنى للالتقاء والنضال المشترك في غياب الوحدة التنظيمية .. بكل ما يترتب عن ذلك من تفاعل ايجابي وتنسيق متواصل على المستوى القومي والاقليمي ، من خلال اطر دائمة ومدروسة تساهم بشكل جدي في اشاعة روح التضامن والاخوة الحقيقية ، كخطوة أولى على طريق الهدف المنشود ، الذي يستحيل تحقيقه دون خطوات تمهيدية تتم على مراحل ، قد تساهم فيها اجيال متعاقبة تحتاج الى تجارب وحدوية ولو بسيطة ، بدل التشرذم والتشتت الذي لا يزيدها الا يأسا وإحباطا .. وهو ما يمكن التعبير عنه باختصار " فك العزلة " بين الفصائل القومية التي تتصرف ـ في بعض الأحيان ـ  كأحزاب متناقضة ايديولوجيا وهي حقائق قائمة في الغالب على وهم " الوحدة الفكرية " الشاملة ، والتطابق الكلي في الافكار ، والتي تحوّلت تدريجيا الى أمراض مستفحلة  بسبب التركيز المفرط على " المتشابه " بدل " المحكم " .. !!
ـ خامسا : تسمية كل خطوة بمسمياتها حتى تتبين الجماهير العربية الخيط الابيض من الخيط الاسود .. فالتنسيق ، والتكامل والالتقاء على مهمات نضالية  غير التحالف ، والتحالفات المرحلية غير الجبهات ، ووضع المواثيق والاتزام بثوابت مشتركة غير الوحدة التنظيمية الفعلية بين فصيلين أو أكثر  .. كما أن التنظيم القومي غير هذا كله الخ ..
ولعلنا في هذا الصدد نستفيد مما كتبه الدكتور عبد الله عبد الدايم في دراسة بعنوان " فشل العمل الوحدوي ولم يفشل مشروع الوحدة " يقول في هذا الصدد عن الالف التي تسبق الباء في مجال العمل الوحدوي :  " مهمة الحركة القومية أن تحوّل الامة الموحدة من حال الوجود بالقوة ، على حد تعبير ارسطو ، الى حال الوجود بالفعل ، والامة العربية بحكم مقومات الوحدة الموضوعية الراسخة فيها ، موجودة بالفعل ، وقائمة هناك في أعماق المشاعر لدى ابناء الشعب العربي ومتجلية في حتمية التكامل الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي الذي تفرضه بنية الوطن العربي وطبيعته وحاجته . وليس من جديد القول أن نؤكد حقيقة بديهية وهي انه ما اجتمع لأمة مثل ما اجتمع للامة العربية من مقومات الوحدة . سوى ان هذا الوجود الموحد بالقوة ، بحكم تلك المقومات وبحكم حاجات مستقبل الوطن العربي كله ومستلزمات تقدم كل قطر من اقطاره ، لا ينقلب الى وجود بالفعل سهوا رهوا أو بعصا ساحر ، أو بقرار سياسي عاجل .. "
وبعد أن يعدّد الصعوبات في الواقع ، يقول متحدثا عن مهمات الحركة القومية في تهيئة الأرضية وتوفيرالمناخ الوحدوي الملائم لمثل تلك المهمات الصعبة ، معوّلا على نشر الوعي ، ومراكمة النضال الوحدوي : " مهمة النظرية القومية والحركة القومية أن تظيف الى المشاعر الانفعالية والعاطفية المستقرّة في نفوس الكثرة الكاثرة من ابناء الشعب العربي والتي تشعرهم بوحدة وجودهم ومصيرهم ، وعيا عقليا وعمليا محركا من جانب ، ونضالا فكريا سياسيا مستمرا من جانب آخر . أما الوعي العقلي العملي، فسلاحه بالدرجة الأولى أفكار وانظار ودراسات تظهر عمق وجذور الوحدة بين أبناء الشعب العربي ، وتكشف عن تكامل الوجود العربي ووحدة مصيره ، وتضع بوجه خاص أمام ابناء الشعب العربي الصورتين الممكنتين لذلك الوجود : صورة الوجود العربي في حال استمرار التجزئة ( وهي صورة مظلمة قاتمة تكاد تكون عين الصورة التي يريدها الاستعمار و تريدها اسرائيل ) ، وصورة الوجود العربي في حال التكامل والتضامن والوحدة ( وهي وحدها القادرة على التغلب على الطريق المسدود الذي كادت تصل اليه الدول القطرية ...) "

كما يظيف الدكتور عبد الدايم الى ذلك عدة نواحي اخرى منها العوامل النفسية فيقول : " ولعل ابرز وسائل النضال المتصل من اجل بناء الوحدة ، اقتلاع عوامل الياس من نفوس الجماهير العربية ، ويتم ذلك بوجه خاص عن طريق التاكيد على أن العمل من اجل الوحدة عمل طويل النفس ، عمل يغالب عوامل موضوعية قائمة ، وأن فشل تجارب الوحدة لا يعني فشل مبدأ الوحدة ، بل يؤكد أهمية العمل العقلاني الطويل في سبيل التغلب على العوامل التي ادت الى فشل التجارب السابقة ... " لان التاريخ كما قال : " لا يعرف أمة لم تعرف الفشل .. " الخ .. ثم يضرب لنا مثلا عن النجاح ، كيف استطاعت الحركة الصهيونية تحقيق اهدافها وهي مجرد حركة متكونة من الشتات ...


                       ****
                                      (28) .

ورابعا : الوقائع ...

 ان أهمية ما جاء من أفكار في دراسة الدكتور عبد الله عبد الدايم ، يكمن في تعرّضه لكثير من المظاهر السلبية المنتشرة على الساحة القومية ، والمتعلقة في مجملها بالاساليب المنفـرة من العمل القومي ..  ولعل ما يدل على أهمية هذه الجوانب هو تداولها بطرق مختلفة والتاكيد عليها من عدة كتاب ومفكرين قوميين .. ومنها ايضا ما تناوله الدكتور صفوت حاتم في دراسته المقارنة بين الوحدة الالمانية والجمهورية العربية المتحدة .. حيث يذكر عدة تفاصيل مهمة عاشتها الامة الالمانية في حالة من الرداءة والضعف  والتفكك والحصار ، كما ذكر جوانب مهمة من الظروف التي عاشها الشعب الالماني والحركة القومية الالمانية ، وهي تعاني من حالة الياس والتشكيك والانقسام والضياع على مدى قرنين كاملين (من 1803 الى 1990 اثر سقوط سور برلين) ، أي بمثل ما هو سائد تقريبا في الوطن العربي من انكسار واحباط  او اكثر .. وهي في الواقع دراسة طويلة ، نسوق منها مقتطفات لأهميتها :
في البداية ينقل لنا صورة عن وضع التجزئة في ألمانيا كما وصفه المفكر القومي ساطع الحصري، حين قال : " كانت الأمة الألمانية تتمتع بأدب راق وثقافة عالية .. ومع هذا كانت مجزأة الى دويلات ودول كثيرة .. أما الموانع التي كانت تحول دون اتحاد هذه الدول والدويلات .. فكانت تأتي ـ في الدرجة الأولى ـ من  " أنانية  "  الملوك والأمراء وتمسكهم بالإمتيازات التي كانوا يتمتعون بها  .. لأن ألمانيا كانت ـ في العقد الأخير من القرن الثامن عشر ـ منقسمة إلى 360 وحدة سياسية .. مستقلة عن بعضها استقلالا مطلقا .. غير ان عدد هذه الوحدات السياسية .. أخذ يقل شيئا فشيئا .. بسبب اندماج واتحاد بعضها ببعض : فقد نزل هذا العدد الى 248  دويلة  عام 1803 .. ثم الى 39  دويلة عام 1815 .. ثم  الى 25  دويلة عام  1871 ( اي بعد ثمانية وستون عاما من بداية أول عملية توحيد  !! )  .. إلا أن هذه الوحدات .. كونت في السنة المذكورة ( 1871 ) .. دولة اتحادية فيدرالية .. وتنازلت لها عن جميع السلطات المتعلقة بجميع الشؤون العسكرية والخارجية  ..ولم يبق عدد هذه الدول المكونة على حاله .. بل نزل الى 17 فقط سنة 1918 .. وفي الأخير زالت هذه الدول من الوجود وتركت محلها  " للرايخ الألماني " أي الدولة الألمانية الموحدة توحيدا تاما عام 1923 ..  اي بعد قرن كامل وثلاث عقود .. !! ( ساطع الحصري ، محاضرات في نشوء الفكرة القومية ) .
وفكرة الدكتور صفوت حاتم الرئيسية تقوم على ابراز التشابه بين الواقع الالماني قبل الوحدة والواقع العربي في الوقت الراهن ، وهدفه من وراء هذه المقارنة الوصول الى القول بان الوحدة العربية ممكنة فعلا بالرغم من كل ما يعترض سبيلها من عوائق ، ودليله هو ما عاشته ألمانيا خلال قرنين كاملين وهي تعاني  من الهزائم والتجزئة والاحباط .. لذلك نجده يوجه القول مباشرة الى من يشكك في الوحدة من الاقليميين قائلا : " ان الذين يهرولون لعقد الإتفاقيات التجارية والإقتصادية والسياسية  وإتفاقيات الشراكة مع أوروبا ومع أمريكا  .. بل  مع العدو الإسرائيلي .. كإتفاقية " الكويز " المصرية الأمريكية الإسرائيلية ٍ ..كل هؤلاء لا يفسرون لنا ولا لشعوبهم  .. هذا  الجموح الغريب  والتهليل العجيب  للتعاون مع الآخر  غير العربي  .. والنفور المريب  من التعاون والإندماج العربيين  .."
ثم يقول متوجها اليهم مباشرة : " لكل هؤلاء اليائسين .. اهدي هذه التجربة الرائعة لتجربة وحدة بدت في لحظات طويلة " وحدة ميئوس " منها .. وارجو أن يتسع صبر من يقرأ هذا الكتاب لإستيعاب هذه التجربة فقط .. " ( يقصد الوحدة الالمانية ) . كما نجده يقطع الشك معهم بالتاكيد على ان " النظال الوحدوي ، هو نضال من أجل المصلحة القطرية في الاساس  ..وهو البداية  .. "
وبعد الحديث عن التشتت المجسد في تعدد الالاقاليم والوحدات السياسية التي بلغت المئات ، يحدثنا عن الوضع بين الحكام فيقول : "  كانت ألمانيا  المثال الكلاسيكي للتعصب المحلي والصراعات الأقليمية ( كما هو الحال في الأمة العربية ) ففي العصور القديمة كانت هناك عداءات متوارثة بين القبائل الألمانية وبخاصة بين السكسون والفرانك .. وكان ألمان الشمال وألمان الجنوب لا يكادون يفهمون بعضهم البعض .. وكانوا يلجئون الى اللاتينية إذا أرادوا التواصل والإتصال ببعضهم البعض!!  " ثم يظيف : " وصعد عدد كبير جدا من النبلاء الى مصاف حكام الأقاليم ووضعوا سياستهم الخاصة وفق مصالحهم الخاصة وقاموا بحروبهم المنفصلة دون أدنى إعتبار للأهداف القومية المشتركة . وكانت السياسة " المحلية " لكل إقليم تقوم على اساس المصالح للبيوت والعائلات الحاكمة ( !! ) .. والغريب أن هذه السياسات كانت تحظى بتأييد كبير من سكان كل أقليم ( !! ) . فالإمبراطوية القديمة لم تكن دولة بالمفهوم الصحيح بل اتحادا فضفاضا كان يضم في القرن الثامن عشر 1800 حاكم ( !! ) وكان بعضهم ملوكا ودوقات ومركيزات وكونتات وبعضهم بطاركة واساقفة وما الى ذلك  " ..
وفوق هذ الوضع المتردي " قد بلغت صراعات الحكام الألمان حدا مزريا .. فلقد كان التعصب المحلي والتنافس بين الأقطار الألمانية الكبرى .. وحتى بين الأقطار الصغرى .. أحد أهم اسباب تدهور الشعب الألماني ..  فقد كانت تنشأ الحروب بين الأمراء على اتفه الأسباب .. مثلا ..  أعلن أحد البارونات "بارون فلمنج " الحرب على دوقة  " زاخن جوتا ويسنفلـز" ، لأنها أمرت بذبح كبش في أراضي أقليمه بدون إذنه . وفي عام 1747 نشبت حرب بين " زاخن جوتا " و " زاخن ماينتجن " بسبب شجار بين اثنين من النبلاء حول حق التقدم في البلاط الملكي  ... "
وعن حالة اليأس والانهيار يقول واصفا الوضع خاصة بعد هزيمة المانيا : لم تكن الكارثة التي حاقت بالنضال الوحدوي الألماني هينة بعد انهيار مؤتمر " فرانكفورت " .. انهارت الثورات الشعبية .. وانهار الحلم الوحدوي .. وانهار أعز ما كان يحتضنه الآلمان في جوانحهم : إيمانهم بالوحدة  ..
تعالوا نسمع ونقرأ .. ماكان يقال ويكتب بعد هزيمة مقررات مؤتمر " فرانكفورت " الوحدوية ..
لقد ظن الكثيرون  من رجال الفكر والسياسة في أوروبا .. وفي ألمانيا بالذات ..  أن فكرة الوحدة الألمانية قد " تلاشت " .. نعم تلاشت .. بعد مؤتمر فرانكفورت .. وأن أحلام الوحدة الألمانية  دخلت حيز النسيان .. واعتبر الكثير منهم أنها وهم من الأوهام والأحلام لا يمكن أن تتحقق في وقت من الأوقات .. .
وقد قال قيصر روسيا : ان فكرة الوحدة الألمانية .. ليست إلا نوعا من أضغاث الأحلام التي تليق بالروايات الخيالية ..
أما ملك فورتمبرج فقال : ان فكرة الوحدة الألمانية من أسخف الأوهام واضر الأحلام  ...
وانبرت الصحف والمجلات الألمانية والأوروبية تكتب وتنشر المقالات عن إفلاس فكرة الوحدة الألمانية .. وقد أخذ الكثيرون يسخرون منها بأحط الألفاظ  وأقسى العبارات .. فهذا يقول عنها : خيال محال لا يؤمن به الا الشعراء .. وثان يقول : سراب خداع لا يسير وراءه الا المغفلون وأصحاب الأطماع  !! "
 ولعل ما زاد المشكلة تعقيدا ، هو اقامة سور برلين الذي قسم العاصمة الالمانية الى شطرين ، وأصبح سدا منيعا ضد أي خطوة وحدوية بعد تقسيم المانيا الى دولتين عدوتين متصارعتين .. الخ
هذه وقائع تاريخية لا تختلف في جوهرها عما يحدث في واقعنا العربي من صراعات وفرقة وعوائق حقيقية أمام المشروع الوحدوي ، غير أن تجارب الأمم بكل ما فيها من مرارة ، تكشف عن حقيقة ثابتة مفادها ان ارادة الشعوب لا تعرف المستحيل  ..
والواقع ان الحركة القومية التي ساهمت ـ وهي مشتتة ـ منذ عقود في مواجهة استبداد الانظمة العربية في مختلف الاقطار ، قد تمكنت فعلا ـ مع قوى وطنية اخرى ـ من تحريك الشارع حتى الوصول به الى تحقيق خطوة هامة ومصيرية بالنسبة لمستقبل الامة ، وهي الاطاحة بالديكتاتورية وتخليص الجماهير العربية من عقدة الخوف ، من خلال مشاركتها الواسعة في انجاز ثورتين شعبيتين مهمتين هما ثورتي تونس ومصر ، اللتان يمكن ان تنتقلا تدريجيا الى حالة ديمقراطية مساعدة على تحقيق هدف الوحدة .. الا انه أمام جسامة المرحلة الحالية بكل ما فيها من اخطار داهمة ، ومن تهديد لمستقبل الامة  في ظل تكالب القوى الاستعمارية ، وتأجيج الفتن التي أصبحت تعصف بوحدة الوجود القومي ، لا يبقى أمام القوى الثورية الوحدوية الا العمل من اجل تحقيق المهمّة الرئيسية القادمة  : استرداد مصر ...
نعم مصر التي اكتشف فيها عبد الناصر بسهولة البعد القومي في أمنها واستقرارها ، وبقي يتصرف طوال حياته على اساس مشروع الوحدة كما عاشه في الواقع وهو مسؤول على اكبر دولة عربية : وحدة الجغـرافيا ووحدة التاريخ ، كاطار للوعاء الذي أصبح بالممارسة الحية والجهد الخلاق يفيض بتلك الأفكار الرائدة للمشروع القومي الذي مثل فيه وعي عبد الناصر الراسخ والعميق بالتاريخ والانتماء الحضاري والديني حجر الأساس .. وهو ما اسهم فعلا في تحويل سياساته الى مهمات كبرى لا تخص مصر وحدها بل تهم أمة بأكملها جمعها عبد الناصر حينما أحس وأدرك أن وحدتها تقوم على وحدة مشكلاتها ومصيـرها ، مدركا في نفس الوقت الدور الريادي لمصر الذي حولها الى قاعدة متقدمة للنضال العربي على مدى عقدين كاملين ..
استرداد مصر لامتها .. كقاعدة للنضال القومي وحاضنة للمشروع الوحدوي بحكم موقعها وطبيعتها ودورها التاريخي المعهود ، يعتبر مهمة عاجلة ، وضرورية لانجاح للمشروع القومي في مثل هذه الظروف التي تمر بها الامة العربية بعد حالة الانكسار واليأس التي عاشتها على مدى عقود متتالية دون تقدم ملحوظ نحو مشروع الوحدة المنشود .. فقد كان غياب السلطة المركزية على المستوى العربي منذ عهد الدولة العثمانية ، ثم تقسيم الوطن العربي واحتلال اقطاره ، وتسليمها بعد ذلك الى الانظمة الاقليمية الرجعية ، من أكبر أسباب الفشل في تحقيق الوحدة القومية رغم العديد من المحاولات والتضحيات التي عرفتها الامة .. وقد زاد هذا الفشل في ظل تغول القوى الاقليمية والرجعية بمختلف ألوانها ، وهي تعمل على توظيف ما تملكه من أمكانيات وسائل مادية واعلامية وقانونية ودينية لمحاصرة المشروع القومي وتشويهه ..

استرداد مصر في المستقبل القريب  يمكن ان يكون خطة استراتيجية مرحلية مهمّة بالنسبة للحركة القومية .. ولا شك ان استرداد مصر لدورها القومي سيكون الشرارة الاولى لميلاد الحركة العربية الواحدة ..

                        ****
                                       ( 29 ) .

ضرورة واحدة أم ضرورات متعدّدة ..؟؟

نسمع كثيرا منذ سنوات ، عن حزب الضرورة ، ومرحلة الضرورة .. وتكتيك الضرورة .. والمقصود هو مواجهة الواقع الاقليمي بأساليب وأشكال تنظيمية وقتية حتى قيام الحركة العربية الواحدة ، وهو أسلوب مبرر لدواعي مفهومة .. الا أن هذا الاسلوب لا يكون  ضرورة ـ بالنسبة لاي حزب اقليمي داخل الحركة القومية ـ الا اذا كان جادا في تجاوز تلك الضرورة من خلال بحثه الدائم والمتواصل عن بدائل يفك بها أسره من الحصر الاقليمي ، ولو من خلال قنوات بسيطة يغير بها شكله وصورته الاقليمية ، حين يعبر عن ارتباطه الدائم بفضاء امته الواسع ، وجماهيرها العريضة وقضاياها المصيرية .. أما بالنسبة للاحزاب التي تنكفئ على نفسها  ، وتستسلم للواقع ، وتعتبر ان مهمّتها تنحصر في الوصول الى السلطة ، ثم تغير خطابها واساليبها ، فتعطي الاولوية لكل ما هو اقليمي ، فهي ابعد ما يكون عن أحزاب الضرورة .. وهو ما يعني باختصار ، أن مصطلح الضرورة لا يصح الا على خلفيته القومية ..
ثم ان المتغيرات التي طرأت على الواقع العربي تجعل من تطويرالاساليب ضرورة لازمة بالنسبة للحركة القومية .. ولعل ذلك يشمل كل الجوانب المتصلة بالواقع الذي تمارس فيه نشاطها ، سواء في علاقاتها الداخلية او في علاقاتها بمن حولها من جميع مكوّنات المجتمع .. وهو ما يضعنا ـ من جديد ـ وجه لوجه مع العنوان الذي انطلق منه الحديث : " الحركة القومية بين دعاتها وأعدائها " .. ثم نسأل من هم أعداؤها حقا ..؟؟
ولعل المبرر الاول لهذا السؤال هو الكشف عما يثيره الجاهلون من شبهات ومغالطات حول أسباب الخلاف بين الاطراف السياسية في المجتمع التي تصل في بعض الاحيان الى درجة العداوة القصوى ، لتصبح الايديولوجيا ـ في نظر البعض ـ سبب البلاء ، الذي يثير كل الخلافات الحادة  والصراعات .. والواقع فان مثل هذا الاعتقاد يقوم لدى هؤلاء على الجهل المركب بطبيعة العلاقات الاجتماعية ، التي تحكمها منذ البداية سنة الخلق القائمة على الاختلاف في المقدرة الجدلية بين الناس  .. فيكون ـ بالضرورة ـ الفكر الذي تقوم وظيفته على التفكير ، مصدرا للفهم المختلف ، والافكار المختلفة ، والمواقف المختلفة ، والايديولوجيا المختلفة .. وهو ما يعني أن التفكير الايديولوجي ليس حكرا على بعض التيارات السياسية ، ولا يمكن أن تتحوّل الايديولوجيا الى تهمة يتبرأ منها البعض وكأن ما يقولونه ، أو ما يصرّحون به من مواقف وآراء ليس ايديولوجيا .. !!
ثم ان ذلك الجهل يأتي من وراء الخلط  بين الفكر الايديولوجي الحر القائم على التسليم بالتعدد والتنوع والاختلاف ، كمصدر اساسي للعلم واثراء المعرفة بالمشكلات في الواقع ، وبين التعصب الفكري القائم ـ منذ البداية ـ على الرفض المطلق للفكر المخالف ، مع النزعة الجارفة للاقصاء واستبعاد المخالفين ..
كما أن الجهل يقوم في كثير من الاحيان على الخلط بين وضع العامة الذين لا يلزمون أنفسهم باي مشروع مرتبط بالواقع حيث يتفرغ هؤلاء الناس فقط لاوضاعهم الخاصة في جميع مراحل حياتهم ، وبين من يسمونهم باصحاب الايديولوجيا وهم فئة من الناس يحملون مثلهم أفكارا ورغبات قد لا تختلف كثيرا عن أفكار ورغبات الآخرين ، ولكنهم مع ذلك يخصصون جزءا هاما من حياتهم الى الاهتمام بالشأن العام ، حتى يتحول الى التزام مبدئي وشغل شاغل يعيشون من أجله لتحقيق أهداف وغايات هي تختلف ـ بالضرورة ـ باختلاف المشروع الذي يلزمون به انفسهم ، وباختلاف تلك الافكار التي يحملونها  فتسمى ايديولوجيا ..
وفي هذا الاطار تحديدا يمكن ان نسمّي المشروع القومي مشروعا ايديولوجيا ، يلتزمه القوميون ويضحّون من أجله ، فيحملونه هما مضافا الى همومهم التي يعيشونها كبقية الناس في واقعهم ، وبهذا ايضا يحق لهم كما يحق لغيرهم أن يدافعوا عنه ، وأن يعملوا من أجله على تغيير الواقع ، كمبدأ  يؤمنون من خلاله بان قضايا أمتهم المصيرية ومشاكلها هي قضاياهم ومشاكلهم الخاصة ، وهو ما يرتقي ـ في الأصل ـ بتلك القناعات الى مراتب الشرف ، ولا ينزل ـ بسببها ـ بالمرة الى دائرة الاتهام التي ينظر اليها الجهلة .. وهو المبرر الوحيد الذي يسمح بأن تتحول تلك القناعات الى عمل متواصل  لتحقيق غاياتها ( دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية ) ، وبناء مستقبل أفضل لهذه الامة التي يفترض أن يحمل كل ابنائها بجميع مشاربهم الفكرية واتجاهاتهم السياسية ، همومها ، فيعملون على حل مشاكلها في اطارها القومي العام ، فلا يبقى لها ـ وقتها ـ من أعداء سوى الانتهازيين والعملاء في الداخل ، والطامعين المتربصين بها في الخارج .. ولعل مثل هذا الرأي نجد له طرحا مماثلا لدى الدكتور صبحي غندور في  مقال بعنوان " هل الهوية الاسلامية بديل للهوية العربية " .. فبعد أن يعرض العلاقة التاريخية بين العروبة والاسلام بعمومياتها وخصوصياتها نجده يذهب للجانب المهم في الحديث مبينا العلاقة بين شمولية مفهوم الانتماء القومي وخصوصية الانتماء الفكري والعقائدي والسياسي داخل الامة الواحدة ، قائلا في ذلك : " يُفترض أن تكون القومية العربية إطاراً للهوية الثقافية ، بغضّ النظر عن العقائد والأفكار السياسية . إذ يمكن أن تكون قومياً عربياً علمانياً ؛ ويمكن أن تكون قومياً عربياً إسلامياً ؛ ويمكن أن تكون قومياً عربياً ليبرالياً .. أي نستطيع وضع أي محتوى " أيديولوجي" داخل هذا الإطار القومي . فالقومية هي هويّة ، هي إطار تضع فيه محتوًى معيناً وليست هي المحتوى . فالمشكلة التي حدثت ، خاصّةً في النصف الأول من القرن العشرين ، تكمن في أنّ معظم من طرحوا فكرة القومية العربية قد طرحوها بمضمونٍ إمَا علماني ليبرالي ( غربي ) ، أو علماني ماركسي ( شيوعي ) ، وفي الحالتين كان هذا الطرح متناقضاً مع الإسلام بشكل أصبحت معه دعوة القومية العربية تعني للبعض الإلحاد أو الابتعاد عن الدين ، عوضاً عن طرحها كهويّة أو كإطار ثقافي يشترك فيه العرب ككلّ ، مهما كانت اختلافاتهم الأيديولوجية أو انتماءاتهم الفكرية أو عقائدهم الدينية " .
ثم يواصل الدكتور حديثه متسائلا في استغراب عن مبررالعداء للامة في الداخل حينما يأتي من بعض ابنائها أنفسهم فيقول : " لقد كان الخيار القومي العربي - وما يزال - يعني القناعة بأنّ العرب أمَّة واحدة تتألف الآن من أقطار متعدّدة لكنها تشكّل فيما بينها امتداداً جغرافياً وحضارياً واحداً ، تتكامل فيها الموارد والطاقات .. والمتضرّرون من هذا الخيار هم حتماً من غير العرب الذين في الماضي ، كما هم في الحاضر، يمنعون توحد الأمَّة العربية حفاظاً على مصالحهم في المنطقة وعلى مستقبل استنزافهم لخيراتها ومواردها وطاقاتها المادية والبشرية .
وإذا كان من المفهوم أن يحارب غير العرب ( على المستويين الإقليمي والدولي ) فكرة القومية العربية ، فما هي المصلحة العربية في إطلاق السهام على هذه الفكرة من بعض العرب أنفسهم ، أو من بعض من ينتمون لأقليات إثنية وفدت للمنطقة العربية بفعل جرائم حصلت ضدّها من أممٍ أخرى ( كما حصل تاريخياً مع الأكراد والأرمن ) ، فاحتضنت المنطقة العربية هذه الأقليات اللاجئة اليها ، وكان ذلك شهادة للعروبة كما كانت شهادة للعرب المسلمين وجود ملايين من أتباع الطوائف الدينية المسيحية واليهودية  لقرون عديدة ، قبل عصر " التتريك " والاستعمار الغربي والوجود الصهيوني وجماعات التطرّف الديني التي نشهدها الآن .. ؟؟ " ..

اما المبرر الثاني لذلك السؤال فهو يتعلق بالفهم القائم على الاعتقاد بان في استمرار الحديث عن الأعداء ، استمرار للعداوات ، والصراعات ، والثارات ، والتطاحن الداخلي الذي يأخذ دائما مبررات وأشكالا واساليب جديدة ، لا تؤدي في النهاية الا الى المزيد من الهدم الذاتي ، والتدميرالشامل للنسيج الاجتماعي الذي سيزيد في تفتيت الامة وتخريبها تحقيقا لمصالح الأعداء الحقيقيين المتربصين بأبناء الأمة جميعا ..  
ومثل هذا الفهم يشير اليه الدكتور محمد سيف الدولة في مقال كتبه بمناسبة ذكرى الوحدة ، حيث نجده يستعرض حالة التراجع التي تشهدها الامة من أعلى هرم المد الوحدوي خلال الستينات ، الى اسفل قاعدته التي انحدر اليها ذلك الحلم في ظل حالة الانقسام والصراعات التي اصبحت تهدّد الوجود القومي بأكمله ، ثم يقول : "  كانت تلك هى التحديات الرئيسية وقتها ، فى ظل ايمان الشعوب العربية من المحيط الى الخليج بالعروبة وبالقومية العربية ، وحلمها ومطالبتها بالوحدة ، وتأييدها ودعمها لكل معارك التحرر العربى وتحرير فلسطين .
وكان ذلك هو الشعور العربى العام باستثناء بعض الخلافات والصراعات الفكرية بين النخب من التيارات الفكرية المختلفة حول فكرة القومية بشكل عام والقومية العربية على وجه الخصوص ، وما اذا كانت القومية العربية ام الاسلام ام الاممية العمالية ام الوطنية المحلية هى الانتماء الحقيقى والموضوعى للشعوب .
اما اليوم فان التحدى الرئيسى والجديد الذى يواجه اى حديث او مشروع لإعادة احياء الشعور القومى والدعوة الى الوحدة العربية ، هو انقسام الشعوب ذاتها بين انتماءات وولاءات متعدّدة ، ساعدت عليها سلسلة الهزائم والتراجعات والاستسلامات التى لحقت بالامة فى العقود الاخيرة .
ولقد وصلت هذه الانقسامات الى حد الاقتتال الاهلى فى عديد من الاقطار، وبلغت ان قطاعات واسعة من انصار التيارات أو المذاهب والطوائف المتصارعة نزعوا صفة الحق فى المواطنة عن خصومهم من التيارات الأخرى، واصبحوا يصنفونهم كأعداء للوطن وللأمة ، ويضعون حتمية بترهم واجتثاثهم على رأس أجنداتهم السياسية .
وبعيدا عن العنصرية والكراهية الكامنة وراء مثل هذه الدعوات والتوجهات ، فان الاجتثاث لأى تيار أو طائفة أو مذهب من تلك التى شكلت مكونات الأمة الرئيسية على امتداد قرون طويلة ، هو أمر مستحيل . المطالبة به او التورط فى معاركه ، سيدفع بنا الى عقود طويلة من الحروب ، الجميع فيها هالك و مهزوم .
وبالتالى فاننى أتصور أن أهم وأولى التحديات التى تواجه دعاة وحدة الأمة اليوم ، هو العمل على اخراجها من حالة الاستقطاب القاتلة والجهنمية التى ضربتها ، والانطلاق من حقيقة اننا جميعا مواطنون عرب ، لا فرق بيننا على اساس الجنسية او الدين او المذهب أو الطائفة ولا على أساس المرجعية الفكرية والانتماء السياسى .. " .

أجل ، فكرة العداء بين أي فصيل سياسي وآخر مرفوضة ومدانة اذا كانت قائمة على خلفية الاجتثاث والاستئصال .. ودور الحركة القومية هو تأصيل فكرة الصراع السلمي ، والمنافسة الشريفة على قاعدة الديمقراطية وقبول الاختلاف ، في حدود الالتزام باحترام سلامة الوجود للمجتمع والوطن والامة ..
ولكن ... !!
المشكلة تقوم على علاقة بين اطراف متعدّدة .. فماذا نفعل للذين لا يؤمنون أصلا بالتنوّع والاختلاف ، فيرفضون الحوار والتعايش بين الناس .. ؟؟ أليست هذه المشكلة هي سبب البلاء والخراب في الوقت الراهن ..؟؟

وماذا نفعل بالنسبة لمن لا يؤمن بالجدل الا اذا كان آداة لتحقيق مصلحة ، أما في غياب ذلك فيأخذ الجدل ـ عنده ـ منحا سلبيا باختيار الصراع .. ولا يقبل بالحد الأدنى الذي يتطلب أولا البناء على ما هو مشترك أحيانا بين رأيين مختلفين ؟؟

في الواقع ان قوانين الجدل والصراع يرتبط أحدهما بالأخر اما في اطار الحتمية او في اطار الاختيار .. فقيام الصراع عند تعطيل الجدل أمر حتمي ، ولكن قيام الصراع مع توافر امكانيات الجدل أمر قائم على الاختيار .. وهو ما يفعله عادة اصحاب الفكر المتعصب الرافض للحوار من اساسه ، او الانتهازيون الذين لا يقبلون بالتنازل عن مصالحهم اذا كانت ستحقق مصلحة عامة على حساب امتيازاتهم الخاصة ..

والواقع فان اتخاذ الجدل بين رأيين منحا سلبيا باختيار الصراع بينهما ، هذا موجود منذ قابيل وهابيل ، اي منذ أن وقع التعدد من خلال الاضافة الى اثنين مكوّنا المجتمع الانساني الأوّل .. وقـبـل ان يعرف اي مفكر أو صاحب رأي  فكرة الحوار والجدل الذي اتخذ اشكالا بدائية متـنـوّعة قبل اكتشاف اللغة  ..
ولا شك أن اكتشاف قوانين الجدل كان اضافة ذات قيمة لمن يعرفها ،  لفهم ما يجري في الواقع والاستفادة منها في تطويره من خلال معـرفة اتجاه تطوّره .. غير ان قيام الصراع في المجتمع من عدمه لا يتوقف في كل الاحوال على مجرّد العلم او الجهل بتلك القوانين ، أوعلى مجرد الحلم المثالي بان نبني اولا نبني على ما هو مشتـرك .. بل على اساس الموقف من الواقع ... ايا كان الواقع .. سواء كان قضية كـبـرى او مشكلة بسيطة .. ومن هـنا فان الوعي  بجدل الانسان كقـانـون ليست شرطا لتحقيق غايته أو لاثبات فعاليته ، لكن معرفـته وتـفعـيله على نطاق واسع في المجتمع ، يحوّله  من مجرّد قانون نوعي  الى منهج للمعرفة ،  يساعد - بلا شك - من يعمل به على امكانية توفير الظروف اللازمة لقيام جدل  خال من الصراع ..
 أما أن يتجه الصراع لالغاء الجدل ، وعدم أخذه بما هو مشترك بين رأيين ، فليس سببه ـ دائما ـ غياب الجدل ، بل هو عائد قبل كل شئ لطبيعة المشكلة والاشخاص وطبيعة الظروف التي ينشأ فيها الجدل ، ومدى قابلية الاطراف للتفاعل فيما بينهم ، واستعداد كل طرف للتواصل والبناء على ما هو مشترك ، لتطوير العلاقة المشتركة بينهما .. وحتى لو سلمنا بأن الصراع يلغي أحيانا قيام الجدل ، فان الصراع ليس سلبيا كله ، لان الجدل لا يؤدي دائما الى حل المشكلة اذا كان أحد الأطراف غير جاد في الوصول الى حل ، ووقتها قد يكون الصراع لازما في مرحلة من المراحل  لجعل الجدل مفيدا في مراحل لاحقة ، كوضع حد للانتهازية مثلا  .. اذ ما قيمة الجدل بين طرفين تقوم بينهما مشكلة ، وحينما يتفقان على حلها لا يلتزم أحدهما بتنفيذ الحل  ، أو لا يهتم بها أحدهما كما يهتم بها الاحوج لحلها ، أو لانه يمتلك الأدوات التي تمكنه من جعل الجدل ينتهي بقبول الاستسلام .. الخ .
ثم على من تقع مسؤولية من يختار الصراع حينما تكون أرضية الجدل متوفرة ..؟؟
لا شك أن المسؤولية في مخالفة  ذلك تقع على المخالفين أنفسهم  وليس على من يتصدّى لنهجهم واساليبهم المخربة سواء كان هذا التصدّي من طرف السلطة ، او من طرف الأحزاب والجماهير الشعبية ، أو من كل الأطراف داخل المجتمع ..  
أما بالنسبة للحركة القومية فيكفي التأكيد على ايمانها العميق بقيمة الانسان ودوره الفاعل في قيادة الظروف وتغيير الواقع بحسب ما يتوفر لديه من مقدرة على الفهم والفعل في آن واحد ـ اي بحسب المقدرة الجدلية المتوفرة للناس في المجتمع .. حيث يعطل التخلف والاستبداد ـ دائما ـ قدرة الناس على تطوير واقعهم على الوجه الأكمل ،  بسبب ما ينجر عنهما من تعطيل لمقدرتهم الجدلية على فهم الظروف من خلال الزيف والتضليل الذي يشيعه المستبدون في المجتمع ، فيصرف انظارهم عن الحلول الصحيحة ، التي لا يستطيعون الوصول اليها في ظل هذا الواقع ، كما يجعل من البعض موالين خائفين ، أو انتهازيين أو مخربين الخ .. وهو ما يحيلنا الى التعامل مع هذه الظاهرة في اطار تلك الظروف التي افرزتها ، جاعلة من الناس ضحايا وهم لا يدركون حقيقة الوضع الذي أصبحوا يعيشون فيه ، وهو ما يقودنا الى ادانة الواقع والظروف دون ادانة الضحايا انفسهم .. ليبقى دور الحركة القومية في المجتمع ، هو العمل على تخليص هؤلاء من حالة التردّي التي وقعوا فيها طوال فترة الاستبداد ، بداية برفع الخوف ، وازالة الظروف القاهرة التي منعتهم من توظيف قدراتهم الجدلية على الوجه الأكمل  ..  

وهكذا ، وعلى هذا الاساس يمكن القول بأن الحركة القومية ليس لها أعداء سوى اعداء الامة بشطريها وشرطيها : الشعب والارض .. أي أن المسألة ليست مسألة تنافس سياسي ، أو حزبي ، أو أغراض شخصية بين السياسيين من هنا وهناك .. بل هي مسألة مبدأ وحق ، ومصلحة قومية أعمق ، وأشمل من أي مصلحة خاصة أو ضيقة .. لذلك فان مصطلح العداء بالنسبة للحركة القومية ، لا يكون مبررا الا على تلك الخلفية ، فلا يكون عدوّها أبدا من يخالفها الرأي ، او من ينافسها ـ ديمقراطيا ـ  لتحقيق اي مشروع سياسي  .. بل من يسعى عمليا وميدانيا الى تحقيق اهدافه عن طريق التخطيط الخفي والعلاقات المشبوهة والتعاون مع أعداء الامة التاريخيين ، الذين يضمرون لها الشر ، ويطمعون في ثرواتها ، ويسعون للهيمنة عليها واثارة الفتن والصراعات والانقسامات داخلها ..
والواقع ان بعض هؤلاء ظاهرين ومعروفين ، والبعض الآخر لا يزال متخفيا وراء الشعارات حينا ، ووراء المقدّسات أحيانا أخرى .. فما العمل ؟؟
هناك أولا مسألة مهمّة بالنسبة للعمل في المستقبل تتعلق بالانعكاسات السلبية التي تسبّب فيها فشل النخب السياسية بعد الثورات بشكل خاص .. وهو ما يقتضي ـ ضرورة ـ تطوير الخطاب والممارسة على حد السواء .. وهذا في علاقة بالخارج ، أما في علاقته بالداخل ، فالتطوير والنجاح لا يتحقق أولا دون مراجعات ، وثانيا دون قراءة علمية للواقع ، وثالثا دون فهم صحيح للمرحلة ، ورابعا دون تخطيط للمستقبل ، وخامسا دون مبادرات حقيقية للتقارب والوحدة داخل الحركة القومية ، وسادسا دون ممارسة  ديمقراطية واسعة ، وسابعا دون استمرارية والتزام بالخطط المرسومة لتحقيق الاهداف الخ  ..
وفي هذا السياق يمكن ان نضرب مثلا حيا للنجاحات التي يحققها أعداء المشروع القومي للمقارنة على مستوى الفهم والتكتيك والاستمرارية في خدمة الاهداف ، قد نجدها أحيانا عند القوى الرجعية ولا نجدها عند القوى التقدمية وهو مدعاة للتساؤل والحيرة والبحث ..
فأمامنا ـ بشكل عام ـ المشروع الصهيوني الذي تمكّن من تحقيق أغلب أهدافه المرحلية والاستراتيجية في ظرف قياسي ، وأمامنا بعض المشاريع للأنظمة العربية الرجعية التي وصلت الى تحقيق نجاحات منقطعة النظير سواء في المحافظة على كيانتها ، أو في افشال المشروع القومي عدوّها الرئيسي ، وأمامنا أيضا الكثير من الدول في العالم التي نراها تحقق نجاحات متزايدة قد تكون أحيانا على حساب المشروع القومي العربي على غرار ما تفعله ايران وتركيا خدمة لمصالحها القومية ..

وهذه المملكة العربية السعودية واحدة من هؤلاء ، وهي التي يعتبرها التقدميون العرب : قوة رجعية ، عميلة ، متآمرة على الامة ، متخلفة ، ظلامية .. وقد تكون كل هذه الأوصاف أو غيرها صحيحة .. غير ان مثل هذه الحقيقة تحيلنا الى سؤال جوهري ومهم : كيف تنجح القوى الرجعية وتفشل القوى التقدمية ..؟؟ فالمفترض والمفروض أن يكون النجاح حليف التقدمييين لانهم الأقدر على فهم الواقع ، والاكثر استعدادا للتضحية من اجل المصلحة الوطنية والقومية .. فلماذا العكس هو الحاصل ..؟؟

قد يقول البعض بان المقارنة على هذا النحو غير موضوعية ، لانها لا تقتصر على الامكانيات الذهنية فحسب ، بل يجب ان تشمل الامكانيات المادية المتاحة للقوى الرجعية ، والمتمثلة في استغلال كل امكانيات الدولة المادية والسياسية في الداخل والخارج ، حيث تلتقي بامكانيات القوى العظمى ومخططاتها في مواجهة القوى التقدمية .. الخ . وهو صحيح أيضا ، لكنه يحيلنا الى سؤال آخر لا يقل أهمية : الم تكن بين ايدي القوى القومية التقدمية  امكانيات دول أكثر تقدّما وأكثر امكانيات واكثر قوة من المملكة العربية السعودية .. ألم تكن العراق وسوريا وليبيا دول غنية تحت قيادة القوى القومية على مدى أربعيين عام أو أكثر ...؟؟

أيها التقدميون ... ان التاريخ لا يرحم .. ولا بد من القول الموجع لكي نقف ولو على جزء يسير من حقيقة الفشل ..

لا شك ان القوى التقدمية ، والقومية منها بالاساس كانت بعيدة كل البعد عن الممارسة العلمية طوال الفترات السابقة .. وهي التي تدعي انها تمتلك كل ادوات التحليل العلمية ، بينما كانت في الواقع تمارس بأسلوب التجربة والخطأ .. حيث لا فهم صحيح لللظروف  .. ولا تخطيط سليم للمستقبل .. ولا التزام بالفكر الوحدوي الذي تحول الى تشظي وانقسامات وممارسات غير مسؤولة .. ولا مراجعات ، ولا تراجعات ، ولا تنازلات ، حتى في أحلك الظروف التي مرت بها الامة .. !!

لم نر ـ مثلا ـ قراءة علمية لمجريات الاحداث ، ولا ممارسة استباقية لتجنب النتائج الكارثية للنوايا المبيتة في العدوان ، حينما ضيقت الولايات المتحدة الخناق على ليبيا منتصف الثمانينات ، ومارست عليها الحصار ، وحولت مسؤوليها الى المحاكمات في قضية لوكربي ثم استهدفتها بالعدوان المسلح .. وحينما هاجم العدو الصهيوني المفاعل النووي العراقي .. وحينما تعرضت العراق للعدوان الاطلسي مطلع التسعينات ..  فلم نر تحديا من القوى القومية الحاكمة في سوريا وليبيا والعراق وهي تتعرض للهجوم والحصار باعلان مبادرة تكون بحجم التحديات والاخطار الداهمة متمثلة في اعلان الوحدة : وحدة الجيوش ووحدة المعارك ووحدة المصير في وجه العدوان الاطلسي الذي بات يهدّدها جميعا  ، ويجبرها على التراجع ، مستفردا  بها الواحدة تلو الاخرى .. !!  

ولكن ماذا كانت تفعل القوى الرجعية في ذلك الوقت ..؟؟ هل كانت تمارس باسلوب رجعي يعيقها عن تحقيق أهدافها أم باسلوب علمي تقدمي يقودها من نجاح الى نجاح .. ومن نصر الى نصر .. ؟؟ ام هل ترانا نخجل من قول مثل هذه الحقائق  ..؟؟

الا تتبع الحركة الصهيونية اسلوبا علميا .. لماذا تحقق النجاحات في الواقع اذن .. ؟؟

وهل النجاح حكر على القوى التقدمية .. ؟؟

أبدا ... لان التقدمية موقف من الواقع ، بينما النجاح نتيجة لتطبيق اسلوب علمي يلائم الاهداف المرسومة ..

فجدل الانسان قانون نوعي خاص بكل الناس وليس حكرا على التقدميين ، والنجاح غير متوقف على ادراك هذا القانون ، بل على الاهتداء الى تطبيق حركات الجدل المتاحة لكل الناس : الفهم الشامل والدقيق للواقع .. وطرح الحلول المناسبة للمشكلات ، ثم الاتزام بتلك الحلول في الممارسة ..

وهكذا يتصرف الرجعيون ، وآل سعود بشكل خاص ..

طبعا التقدميون يصفونهم بالاغبياء .. والجهلة .. والمتخلفين .. فهل هذا هو ما يحصل فعلا ..؟؟

ان المتأمل في الوقائع التاريخية يرى عكس ذلك تماما .. اذ ان آل سعود هم الاكثر فهما للواقع ، والاكثر اصرارا  والتزاما بالدفاع عن مصالحهم الخاصة بعد ادراكهم لحقيقة ماثلة أمام أعينهم بشكل دائم ، وهي أن المشروع القومي هو العدو الرئيسي لمستقبلهم ، ومستقبل عروشهم .. وهو الذي يمكن ان يسلبهم كل الامتيازات المتاحة لهم في ظل الاحتفاظ  بدولتهم ..

فهم قد عرفوا مصلحتهم ، وعرفوا عدوّهم ، وعرفوا أن العدو ليس مجرد كيان سياسي يمكن مواجته وازاحته بالحرب الخاطفة ، والصراع المسلح  ، بل هو مشروع فكري وايديولوجي خطير على وجودهم ، قادر على الاستمرار من خلال ما يمتلكه من اغراءات قائمة على دواعي عاطفية ومرتكزات تاريخية وحضارية ودينية واحتياجات اجتماعية وتنموية مستقبلية .. ثم عرفوا ايضا أن مواجهته لا تكون الا بمشروع  ايديولوجي مشابه ، ذو اغراءات مماثلة قد يجد فيها الكثيرون نفس الاحتياجات ، او هكذا يمكن تسويقه ..

كما عرفوا  أن هزيمة المشروع القومي مسألة حياة او موت بالنسبة لبقائهم في اطار الدولة السعودية .. فكان المشروع الوهابي مشروعا جاهزا للتصدي ايديولوجيا للمشروع القومي .. وكان التحالف مع اعداء المشروع القومي  اسلوبا علميا بالنسبة لهم يمكنهم عمليا من حماية  كيانهم الذي يستفيدون منه .. !!

وبهذا نعرف أن العمالة والخيانة والتآمر على مصالح الامة والتحالف مع اعدائها ، وطرح الحلول الاستسلامية ، والتعامل مع الصهاينة ، وتخريب الاوطان ، وبث الفتن فيها والصراعات المذهبية .. لم يكن صدفة ، ولا حرصا على مصالح دينية يهدّدها المشروع القومي كما يدعي آل سعود .. بل هو التزام بممارسة يقتضيها هدف المحافظة على كيان الدولة السعودية وامتيازاتها في ظل الادراك التام بخطر العدو الأكبر الذي يهدّدها بسلب كل الامتيازات التي بحوزتها ..

وهكذا نكون أمام  نموذج  واقعي لدولة اقليمية رجعية ، تقودها عائلة حاكمة ، واعية ومتنبهة للاخطار المحدقة بمصيرها ، وملتزمة على مدى أكثر من نصف قرن بالتخطيط العلمي المحكم والاستمرارية في الدفاع عن مصالحها بكل الوسائل المتاحة و" المشروعة " من وجهة نظرها الخاصة ، حيث لم تغفل في اي فترة من الفترات عن تطوير اساليبها الدفاعية في مواجهة عدوها الأوحد والرئيسي وهو المشروع القومي .. فوفرت لمشروعها كل وسائل النجاح ، واستعملت لافشال المشروع المعادي كل ما هو متاح لها من امكانيات في جميع انحاء العالم من اساليب يسميها الآخرون ، عمالة ، واستسلاما ، وخيانة ...

استعملت الجانب الايديولوجي منذ الخمسينات في اطار مشروع تسليف الاخوان الذي ضخت فيه اموالا طائلة سواء في ساحة مصر أو في ساحة اليمن ( الحلقة 9 و 12 ) ..

واستعملت الجانب الديني في أوروبا ودول البلقان منذ الخمسيانات ايضا ، حيث المجال الواسع للحريات ، وعدم امكانية تدخل الدول المسيحية في شؤون المساجد ، وحيث لا تملك الشعوب المسلمة مرجعيات دينية واضحة في كثير من الدول التي طالتها يد الدعاة الوهابيين  لتحويلها جميعا الى الوهابية ( الحلقة  13 ) ..

واستعملت علاقاتها الدولية لضرب المشروع القومي في الخمسينات والستينات ، وتدخلت لافشال الوحدة بين مصر وسوريا ، ووقفت في صف الاعداء لتلحق به الهزائم  .. 
والمملكة لم تكتف في الواقع بتسليف الاخوان وحدهم  ، بل عملت على تسليف كل المسلمين ، وتعميم الفكر السلفي على القارات الخمس .. فقامت منذ وقت مبكر ببعث المشاريع العملاقة في مجالات الدعاية والاعلام والبحث والطباعة والنشر والترجمة واسست مئات المراكز والمواقع المتخصصة في مجال الدعوة والدعاية للمشروع السلفي في العالم ورصدت له ملايين الدولارات مستغلة المجال الديني الذي صار مرتبطا رأسا بالنشاط الدعوي  والاعمال الخيرية .. فنجحت ـ  منذ الستينات ـ في بعث رابطة العالم الاسلامي ، المنبثقة عن مؤتمر العالم الاسلامي الاول في شهر ماي  سنة 1962 ، والتي اصبحت ـ بمرور الوقت ـ مركز الثقل بالنسبة للنشاط الدعوي داخل المملكة وخارجها من خلال الهيئات والدوائر المتخصصة التابعة لها ، والمرتبطة بمواقفها وسياساتها على المستوى المحلي والعالمي .. ومن هذه الهيئات نجد الهيئة العالمية لعلماء المسلمين ، المجمع الفقهي الاسلامي ، الهيئة العالمية للتعريف بالرسول ، هيئة الاغاثة العالمية ، مؤسسة مكة المكرمة الخيرية ( المشهورة برعاية الايتام  في العالم ، وبناء المساجد .. ) ، الهيئة العالمية للاقتصاد والتمويل ، المؤسسة العالمية للاعمار والتنمية ، الهيئة العالمية للاعجاز العلمي في القرآن ،  الهيئة العالمية لتحفيظ القرآن ، الهيئة العالمية للمساجد ، الهيئة العالمية للتنمية البشرية ، الهيئة العالمية للاعلام ، .... كما بعثت مؤسسة الملك فيصل الخيرية  بفروعها المتخصصة والمتعددة : جائزة الملك فيصل العالمية ، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات ، مدارس الملك فيصل ، جامعة الملك فيصل ، ... ونجد ايضا اكبر مؤسسة دعوية ـ خيرية في العالم مشهورة برعاية الارهاب منذ احداث 11 سبتمبر وهي مؤسسة الحرمين الخيرية ، التي تأسست في كراتشي بباكستان سنة 1988 وأصبح لها فروعا في جميع أنحاء العالم  ، تدار كلها من الرياض عاصمة المملكة عبر سفاراتها في الخارج ... وحتى الدول التي يحظر فيها نشاطها مثل سوريا ولبنان والمغرب والاردن ، فقد تسللت اليها عبر جمعيات محلية تخفي حقيقة نشاطها في تلك الدول ( ويكيبيديا ) ... كما نجد آلاف المؤسسات والجمعيات ذات التخصصات نفسها تقريبا سواء داخل المملكة أو في اوروبا وآسيا وامريكا ، فضلا عن الدول العربية والافريقية الاكثر فقرا واحتياجات ..  حيث استطاعت المملكة منافسة الاخوان في تلك المواقع  للسيطرة على المساجد ، وتحويلها الى مراكز استقطاب وتسليف لكل المتدينين في العالم .. وقد تجلت ابرز نجاحاتها فعلا ، في اقتحامها للدول الاسلامية في وسط اوروبا وشرق آسيا مثل البانيا وكوسوفو والشيشان ودول القوقاز ...  ونجحت فعلا  في  اختراقها ، وحل هيئاتها الدينية ومجامعها الفقهية ، وقامت بتغيير شامل لمناهج التعليم  في جميع الدول المنفصلة حديثا عن الاتحاد السوفياتي ، وغييرت فيها  المذاهب الدينية من الحنفي والشافعي الى الحنبلي الوهابي ، كما قامت برصد الاموال والاعانات لبناء المساجد وتكثيف النشاط الدعوي ، ورسكلة الايمة وتكوينهم داخل المملكة .. الخ .. ( فقرة 13 ) .

كما استعملت امكانياتها المادية في الطباعة والنشر والاعلام ، والتمويل والتدريس والتكوين والتأطير وشراء الذمم وتشويه الرموز والتجارب القومية .. والتجسس ، وبث الفرقة والخلافات والصراعات وصولا الى الفتن الطائفية والمذهبية ... وكل ما من شأنه ان يضعف الروابط القومية ويخرّب النسيج القومي الذي يتحقق من خلاله  الانسجام والتقارب والوحدة ..

باختصار ، لقد لعبت المملكة العربية السعودية بالفعل ـ منذ ذلك الوقت الى الآن دور الاقليم القاعدة للمشروع الوهابي حسب المصطلح القومي ، في حين لم ينافسها ولم يزاحمها بشكل علمي صحيح اي نظام قومي في دورها وحرصها واستمراريتها  ـ بعد رحيل عبد الناصر ـ الذي كان الدرع الواقي للمشروع القومي المستهدف طوال تلك الفترة .. !!
ثم ظهرت في الاثناء دولة قطر بعد ان استوعبت قواعد اللعبة وقوانيها ، فاصبحت تزاحم المشروع الوهابي مستخدمة المشروع الاخواني مع المحاكاة والتطوير للأسلوب السعودي ، فكانت قناة الجزيرة ذراعها الاعلامي والقرضاوي ذراعها الديني ، مع التنافس المفتوح في العمالة والخيانة والاستسلام للصهيونية والقوى العظمى التي وجدت نفسها ـ في ظل هذا التنافس الاقليمي ـ تحصل أحيانا على أكثر مما  تطمح اليه ..

فأين القوى القومية من كل هذا ، وماذا يعني بالنسبة للمستقبل .. ؟؟

اذا انطلقنا من المقارنة فان الحقيقة تقول بان القوى القومية بعيدة كل البعد عن حجم التحديات المطروحة ، وهو طبعا مبرر موضوعي للحديث عن تلك الضرورات  في جميع مستوياتها ، الداخلية والخارجية ..

فعلى المستوى الخارجي قد يكون تطوير الخطاب الموجه للناس ، ضرورة لا تخدم مصلحة الحركة القومية فحسب ، بل تخدم ايضا قضايا الامة ومصيرها ومستقبلها ، حيث ان الخطاب الحزبي في الوطن العربي صار مهزلة بسبب الحسابات الضيقة والتنافس الغير شريف ، وطغيان المصلحة الحزبية والفئوية والمال السياسي الخ .. وكل هذا لمسته الجماهير في تونس ومصر بعد الثورات .. حتى اصبحت تكفر بالعمل السياسي وبالسياسيين ، وكل ذلك اضر بالمصالح الوطنية والقومية قبل كل شئ ..
والحركة القومية كحركة عقائدية تهمّها المصلحة القطرية ، والقومية ، ومصالح الناس فيهما بكل فئاتهم ، وتوجهاتهم ، دون تفرقة بينهم على اساس الدين ، او العرق ، او الجنس ، او الخلفية الفكرية  .. عليها ان تسعى لاعادة الثقة لدى الجماهير في العمل السياسي ، من خلال الخطاب الموضوعي الجاد والنزيه في جميع ابعاده ومضامينه .. اذ لا احد يملك حق التخوين للناس ، ولا احد يملك الحقيقة المطلقة ، ولا احد يملك الوصاية على شئ في هذه الامة : لا على الدين ولا على الارض ولا على الاخلاق ولا على الناس ، ولا على الماضي أوالمستقبل .. ولا على الديمقراطية والحقوق والحريات .. الخ ، والحركة القومية التي لها الثقة التامة في اطروحاتها عليها ان ترسّخ هذه المفاهيم لدى العام والخاص ، لتسحب البساط من تحت اقدام المتاجرين  بهذه القضايا ، أو من يمارس الوصاية في حديث أو نشاط  خاص  .. فليس كل من يتحدث باسم الدين يعرفه او يمثله أو يصدق فيما يقوله عنه ، فيحق له امتلاكه واحتكاره من دون الناس  ،، وليس كل من يتحدث عن حقوق الانسان ، يعرفها حقيقة ، ويفهمها ، ويملك الحق في اتهام الغير بالاستبداد أو نحوه .. وليس كل من يتحدث عن العروبة له توكيل خاص ، او تمثيل ، او شرعية ، او حق للملكية يمنحه لمن يريد ويسحبه متى يشاء .. وهذا يعني ان هناك قضايا عامة يحق للجميع التعاطي معها في اطار القبول بالاختلاف والاحتكام الى راي الناس المعنيين قبل غيرهم باختيار ما يناسبهم في المستقبل .. وهكذا لا يكون الفرز في المجتمع على أساس الشعارات الجوفاء التي تعزل المواقف وتجزئ القضايا الوطنية والقومية فتجعلها متضاربة ، بل على اساس المواقع من الصراع بشموليته وبكل ما يفرضه من تداخل وعلاقات بين القضايا كلية .. العلاقة بين الديمقراطية والعدالة الاجتماعية ، والعلاقة بين حرية المواطن واستقلال الارادة ، والعلاقة بين التحرير والوحدة ، الخ ..
هناك اذن قضايا مترابطة ومشتركة لا يجوز فصلها ولا احتكارها في المجتمع ولعل الدين في المقدمة منها جميعا هذه الايام ..  والاسلام بشكل خاص ..
فالاسلام في تركيا اسلام تركي ، وفي ايران ، اسلام ايراني .. وفي كل أمة من امم العالم يوظف الاسلام لخدمة المجتمع القومي داخلها .. بينما نرى الاسلام في الوطن العربي غريبا عن امته ، مضادا لتطورها ، لا يتفق مع مصالحها ومستقبلها ، يعمل على تدميرها وتفتيتها ، ويوظف بوعي أو بدون وعي لصالح أعدائها  .. ولا شك ان مثل هذا المفهوم للاسلام يمثل مشكلة حقيقية ، بل مصيبة كبرى وليس حلا مثلما نسمع من دعاة الاسلام السياسي منذ عقود ، الذين جعلوه غريبا عن تربته ، وبيئته التي احتضنته منذ ظهوره ، فصار معاديا للعروبة ، ذلك الجسد الذي هو بمكانة الروح فيه ..

نحن في حاجة الى اسلام يخدم المصالح القومية بالدرجة الأولى ، حينما يلتفت الى مشاكل الامة ، ويساهم في النهوض بها واخراجها من التخلف والجهل الذي انحدرت اليه .. أي نحتاج الى هوية للاسلام مثل هوية المسلمين ..

تحتاج الامة العربية في هذا العصر الى اسلام عربي خالص يتوجه الى خدمة ابنائها جميعا دون تمييز ، فلا يقيم الفوارق بينهم ، ولا الحواجز ، ولا يميّز بين مكوّنات المجتمع على اساس عرقي ، أو ديني ، او مذهبي ، أو طائفي .. بل يعتبرهم سواسية ، لا فضل لمواطن على آخر الا بما يقدّمه خدمة للآخرين ..

نحن بحاجة الى هوية عربية جامعة لكل الهويات .. 
نحتاج الى هوية للخاص في محل ما ، مع هوية اشمل في محل آخر .. او هوية للكل الذي يحتوي الأجزاء ولا يلغيها ، بل يغنيها جميعا بما يضيفه اليها حينما يوحّدها ، دون ان ينقص منها شيئا  وهي أجزاء لا تتجزأ منه ، وعناصر محدّدة لوجوده الذي لا يكتمل الا بها جميعا ..
ففي مفاهيم الانتماء : نحتاج الى سنية عربية وشيعية عربية ... ومسيحية عربية ، واسلام عربي .. نحتاج ايضا الى ليبرالية عربية .. واشتراكية عربية ، وديمقراطية عربية ..
وفي التجسيد الفعلي لهذا الانتماء نحتاج الى سنة عرب وشيعة عرب .. نحتاج الى مسيحيين عرب ومسلمين عرب .. كما نحتاج ايضا الى لبراليين عرب واشتراكيين عرب وديمقراطيين عرب ..
نحتاج الى وعي عربي شامل ، والى فكر عربي يطرح ما يشاء في اطار رؤية شاملة للمستقبل العربي .. نحتاج الى الغاء الحدود والتجزئة في مستوى الفكر والوعي أولا وقبل كل شئ ...  
أما في الداخل ، فالحاجة تكون أكثر الى تطوير الخطاب والممارسة على جميع المستويات المتصلة بالحاضر والمستقبل  : فلا احد وصي على الفكر ، ولا أحد يمتلك مفاتيح العلم ، ولا احد ابن هذه الامة والآخر ابن ربيبتها .. نحتاج فعلا الى تواضع ، وثقة بين الجميع ، ومحبة خالصة ، وروح قومية عالية ، وفرز داخلي ـ في نفس الوقت ـ على اساس الكفاءة والمصلحة الوطنية والقومية العليا اولا واخيرا ..
نحتاج الى طرح كل شئ ، ونقاش كل شئ .. نحتاج الى ترتيب الاولويات ، وتحديد الآليات ، والمهام ، والادوار ..
نحتاج الى استراتيجيا مرحلية .. وتكتيك مرحلي ..
نحتاج الى تحديد الاطر والقوانين ..
نحتاج الى الاختلاف والاتفاق ، والتوافق ، والتنازلات ..
نحتاج الى المحاسبة ..  الى العتاب ، والمجاملات ..
نحتاج الى وقفة .. الى تأملات .. نحتاج الى مراجعات عميقة ..  الى نقد ذاتي ..  نحتاج الى التراجع أحيانا ..
نحتاج الى تغيير وتطوير الاساليب .. نحتاج الى مبادرات ..
نحتاج الى علاقات جديدة .. الى بناء أطر وقنوات ..  
نحتاج الى مسافات  .. نحتاج أحيانا الى الصمت .. وتجاهل الأمور ..
نحتاج الى خطاب واضح وشامل في مناسبة .. والى خطاب بسيط ومفصل في مناسبات أخرى ..
نحتاج الى عمل ميداني .. الى اهتمام بالمشاكل الصغرى ، تماما مثل الاهتمام بالقضايا الكبرى  ..
نحتاج دائما الى كل الناس .. من يخطو معنا خطوة ، ومن يخطو معنا خطوات ،، ومن يخطو معنا اميالا وأشواطا ..
نحتاج الى ثقة في النفس .. وفي رفاق الدرب ..
نحتاج الى الوحدة ، وحدة الصف والحركة ..
نحتاج الى الديمقراطية ، ومزيد من الديمقراطية ..
نحتاج الى عدة ضرورات وليس الى ضرورة واحدة .. ضرورات فكرية ، وضرورات سياسية .. وضرورات حركية .... وتبقى البوصلة متجهة دائما للمصلحة القومية ، والمشروع النهضوي العربي الشامل ..
وبوصلة لا تشير الى المشروع القومي .. مشبوهة ...  

                        ****

                                      ( 30 ) .

الشباب العربي ومستقبل الأمة ..

الشباب في أي مجتمع هو بمثابة العمود الفقري في جسم الكائن الحي الذي يصبح كتلة من اللحم غير قادر على الاستواء والحركة بدون هذا العضو الاساسي المهم ..  لذلك تخشى المجتمعات التي يقل فيها الشباب من الشيخوخة والهرم ، فتتخذ  الاجراءات الوقائية العاجلة والفعالة ، مثل المكافآت المادية المغـرية التي تقدم تشجيعا على الانجاب كما يحدث في العديد من الدول الاوروبية ..
غير أنه من المفارقات العجيبة أن تكون الامة العربية من اكبر الامم الزاخرة بقواها الشبابية ، في حين نجدها أمة عاطلة عن الفعل ، وعاجزة عن التغيير وصنع التقدم الذي يمكن ان يكون فيها بسرعة البرق  مقارنة بواقعها الراهن وبطاقاتها الشبابية الكامنة .. فالشباب هم الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم : " أوصيكم بالشباب خيرا ، فإنهم أرق أفئدة ، إن الله بعثني بشيرا ونذيرا ، فحالفني الشباب ، وخالفني الشيوخ " .
ولعل مثل هذا الحديث الى الشباب العربي يكون مطلوبا ومفيدا في مثل هذه الفترة الحرجة من تاريخ الامة العربية التي يؤخذ فيها شبابها غيلة وغدرا بعيدا عن دوره ومواقعه ، حيث يتحول على أيدي القوى الظلامية الغادرة الى معـول للهدم والتدمير الذاتي ، بدل أن تكون سواعدهم آداة  للبناء والتشييد الذي تحتاجه أمتهم  ..
وهكذا يحتاج مجتمعنا الى حديث خاص ، تتجه مضامينه لتحرير الارادة ، وتبعث على الثقة في الانسان العربي للنهوض بالامة العربية مثلما نهضت كل الامم التي عاشت واقعا مأساويا مفزعا ، وعانت من الصراعات والحروب والدمار  والتخلف والاحتلال والهيمنة والاذلال .. لكنها استطاعت ـ جميعا ـ الخروج من محنتها ومعاناتها حينما آمنت بامكانياتها ، وعوّلت على قدراتها ، فقامت بالمراجعات الجذرية لتراثها الانساني ، وخرجت الى فضاء العقل الرحب ، لتعيد النظر في جميع المسلمات ، ولو اقتضى بها الأمر الى ازاحة اللثام عن " المقدس " الذي صنعه الانسان نفسه في تلك المجتمعات خلال القرون الوسطى وجعل له سياجا محكما يشل به قدرته على التفكير والخلق والابداع .. وهكذا شهدت المجتمعات الاوروبية منذ القرن الثامن عشر حركة فكرية نشيطة ، وتغييرا اجتماعيا شاملا ، ساعد ـ في النهاية ـ على قيام الحركات القومية بكل خصوصياتها ، وتناقضاتها في تلك المرحلة ، حيث كانت مدافعة على حق شعوبها في الداخل ، وحاملة في نفس الوقت لتلك النزعات الاستعمارية الجارفة في الخارج .. وهو ما أفرز ـ في المقابل ـ ظهور الحركات القومية المقاومة للهيمنة الاستعمارية في الدول المستعمرة ..
وبقطع النظر عن التفاصيل ، والأساليب ، والشوائب التي صاحبت مسيرة الشعوب الاوروبية  بسبب الصراعات السياسية ، والسباق المحموم نحو السيطرة وبسط النفوذ التي تقودها قوى مهيمنة في تلك الدول ، فان الحركات القومية تبقى دوما صانعة التقدم في أي أمة ، وهي صاحبة الدور الرّيادي والقيادي للنهوض بها نحو أهدافها المشروعة  في الاستقرار والوحدة التي يكتمل بها وجودها ، ويستمر بها تطوّرها  .. فحين تضعف الحركة القومية في أي أمة تتخلف الأمة بالضرورة .. تلك هي الحقيقة التي تغيب على الكثيرين .. وهذا يعني أن الحركة القومية في أي مجتمع هي بمثابة جهاز المناعة الذي يدافع عن وجوده وسلامته .. وبقدر ما تتقدم الحركة القومية وتتجاوز عجزها وسلبياتها تتعافى الأمة .. طبعا هذا الكلام يمكن اختباره في الأمم المتقدمة والمتخلفة على حد السواء .. فإذا نظرنا نظرة بسيطة الى السياسة والأوضاع الدولية منذ الحرب العالمية الأولى الى الآن سنجد أن أغلب القوى في الأمم الأخرى قومية في علاقتها بأوطانها بقطع النظر عن  المضامين السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تنادي بها وتعمل على تحقيقها في الواقع القومي .. لهذا لا نستغرب حينما نجد أغلب الزعماء السياسيين والأحزاب الحاكمة والمعارضة في كل الأمم وهي تتنافس وتتصارع وتتسابق الى الحكم من أجل تحقيق المصلحة القومية لتنال رضا شعوبها وناخبيها ... هكذا رأينا أكبر الأحزاب الليبرالية في أوروبا وأمريكا وهي تدافع على المصلحة القومية لدولها التي من خلالها تسعى لتحقيق مصالحها .. وهكذا رأينا القادة الكبار من الماركسيين أمثال لينين وكثير من القادة الماركسيين من بعده وهم يطوّرون الفكر الماركسي الأممي بالأساس ليصبح قوميا .. وهكذا رأينا أيضا الأحزاب الإسلامية الكبرى في تركيا واندونيسيا وإيران ، والأحزاب المسيحية في أوروبا .. وغيرها تدافع عن مصالح أممها في هذا العالم المقسم قوميا ..... حتى الحركة الصهيونية التي تستند الى خلفية دينية عنصرية نجدها ترفع شعار " الوطن القومي لليهود " ، ولا تعبأ بتشويه الواقع القومي التاريخي وهي تزور التاريخ وتطوّع الخلفية الدينية بالقوة لتجعلها على مقاس العصر .. !!
وحينما ننظر الى الامم المتقدمة في اوروبا وآسيا وأمريكا ، سنكتشف أنها وصلت الى تلك المرحلة رغم العصور المظلمة التي عاشت فيها طويلا ، ورغم التخلف الذي شمل  فيها كل نواحي الحياة ، ورغم الأخطاء الكبرى ، والنكبات العارضة التي صاحبت مسيرتها .. بفضل تحررها من عقدة الذنب والخوف ومواجهتها لأخطائها بشجاعة ، واعتمادها على التفكير العلمي بعيدا عن الأوهام والخرافات التي سادت مجتمعاتها قرونا طويلة ..
في النهاية سنجد أنها نهضت حينما افرزت حركات قومية قادت مسيرتها ومعاركها ـ اولا ـ نحو الوحدة القومية ، وثانيا نحو البناء والتغيير  ..
ورغم هذا الانجاز المهم في تاريخ الحركات القومية عامة ، فانها  تبقى جميعا وليدة عصرها وظروفها .. أي انها تحمل جينات العصر الذي ولدت فيه .. فضلا عن بصمات القادة التاريخيين لتلك الحركات زمن نشأتها .
ففي الولايات المتحد الامريكية بدأت الحركة القومية نضالها ضد الاستعمارالبريطاني والفرنسي والاسباني ، حيث كانت الدول الاروبية تسيطر على مواقع مختلفة من القارة الجديدة .. ومع حلول النصف الثاني من القرن التاسع عشر وجدت الولايات الامريكية نفسها على وشك الدخول في حرب اهلية ، لم يجد الرئيس الجديد ابراهام لينكون بدا من خوضها ضد الانفصاليين ، ثم انهاء حالة الانقسام بتعليق قوانين الرق واعادة الوحدة بالقوة سنة 1865 .. وفي المانيا كما في ايطاليا كانت حالة التشتت والضعف تهيمن على شعوبهما ، بسبب الهيمنة الخارجية من طرف الامبراطورية النمساوية المجرية من جهة ، ومن طرف الامبراطورية الفرنسية من جهة ثانية  ، الا ان الحملات النابليونية التي داهمتهما معا ، كان لها الاثر الايجابي في ايقاض الشعور القومي في نفوس الايطاليين والالمان مما أدى الى بروز الحركات القومية التي قادت مسيرة كل منهما نحو الاستقلال والوحدة التي تحققت فعليا في المانيا اثر هزيمة نابليون سنة 1813 ، غير ان ايطاليا التي تخلصت من الهيمنة الفرنسية اثر الهزيمة ، بقيت تعاني من الهيمنة النمساوية ، حيث قال مستشارها في مؤتمر فيانا : " ان كلمة ايطاليا ما هي الا مصطلح يعبر عن مكان جغرافي فقط " .. فتأخرت الوحدة الايطالية الى سنة 1871 .. 
وحتى الحركات الماركسية في روسيا والصين المعادية ايديولوجيا للقومية كانت قومية بالممارسة حينما سعى كل طرف منها لتوحيد أمته ، وقيادة مسيرتها نحو التقدم العلمي والتكتولوجي الذي كانا يزاحمان فيه أمما اخرى مثل الولايات المتحدة .. بل أن هاتين الدولتين وصلتا الى حد النزاع المسلح بينهما ، حينما وقف كل نظام بجيش دولته الشيوعية مدافعا عن حدود ومصالح دولته القومية في مناسبتين ، الأولى سنة 1929 والثانية سنة 1969 وهي من أكثر الاحداث طرافة في تاريخ الماركسيين الذين وقفوا عاجزين امام النزعة القومية التي تحركهم وهم يهاجمونها .. وهو ما أدى في النهاية الى تطوير المفاهيم الماركسية للقومية ، ومراجعة مواقفها من الحركات القومية الصاعدة خلال النصف الاول من القرن العشرين وبعده حتى اصبحت بعض الاحزاب الماركسية في الوطن العربي أحزابا قومية بامتياز ..
وكذلك الشأن بالنسبة للحركة القومية التركية التي انطلقت بخلفية علمانية في عهد اتاتورك ، وأصبحت دينية اسلامية في العقدين الاخيرين ، ونفس الشئ تقريبا حدث بالنسبة للحركة القومية الايرانية التي بدأت علمانية  مطلع القرن الماضي ،  لتتحول الى الخلفية الدينية  بعد الثورة الاسلامية سنة 1979 .. وقد عملت ولا تزال تلك القوى في الأمتين التركية والايرانية ، في جميع مراحلها ، وبجميع هوياتها السياسية ، على تثبيت وحدة شعوبها وخدمة مصالحها حتى وان كان ذلك على حساب مصالح شعوب وأمم أخرى ، وأبرزها في الحاتلتين الامة العربية التي تعرضت الى التتريك والتفريس ، ومحاولات الهيمنة ونهب الثروات ، والاحتلال الذي ادى الى سيطرة تركيا على لواء اسكندرون في شمال سوريا سنة 1939 بطواطئ فرنسي  .. وسيطرة ايران على الاحواز العربية سنة 1925 بطواطئ بريطاني  ، ولا يزال التدخل متواصلا من الجهتين الى اليوم ...
وهكذا ، مهما كانت الشوائب التي تلحق بالحركات القومية ـ والحركة القومية العربية واحدة منها ـ  فان القومية رابطة انسانية راقية ، ستبقى دائما هي الحجة على القوميين أينما كانوا ، وليس هم حجة عليها على الاطلاق ..
ومثلما تبقى للاديان مضامين انسانية نبيلة ، ومبادئ ومثل ، لا يغير منها ذلك التشويه الذي شهدته الديانة المسيحية على أيدي رجال الدين في اوروبا خلال القرون الوسطى ، أو الذي يشهده الاسلام اليوم على أيدي قوى متسترة بالدين في الوطن العربي  ، فان للحركات القومية بشكل عام صيرورة واتجاه ومضامين انسانية تتأثر بمن يحملها لكنها تتغير باستمرار للتخلص من تلك الشوائب والادران التي تعلق بها خلال مسيرتها ، وترتقي تدريجيا في كل عصر ـ والحركة القومية العربية في المقدمة منها ـ الى المراتب العليا وهي تقود شعوبها ، نحو التقدم والرخاء والتعاون والاستقرار والمحبة والسلام ، مسترشدة بكل المضامين الانسانية التي نادت بها الاديان السماوية جمعاء ، وبكل التجارب الانسانية ، والتراث الانساني الزاخر يالأفكار والقيم النبيلة .. متجهة نحو الفضاء الرحب للانسانية قاطبة ، الذي يتجاوز كل الحدود والقيود ..
ولكن أين العرب اليوم من كل هذا ، وأين أنتم أيها الشباب العربي من قضايا المستقبل ..؟؟
فها قد ضاقت بكم أوطانكم الصغيرة ،  وحصرتكم الاقليمية في سجن مقيت ، فلم يعد أمامكم الا الفضاء القومي الرحب الذى يأخذكم الى حضن امتكم المجزأة ، شعبا وأرضا وامكانيات ..
ضاقت بكم وضيّقت عليكم الرجعية  سبل الحياة ، وهي التي تستحوذ على ثرواتكم وتستأثر بها للعائلة والقبيلة والحاشية ، بينما أنتم تتخبطون في الفقر والتهميش والفاقة والجوع والمرض ..
ضاقت بكم الحياة وغابت عنكم الحيلة فاصبحتم تهربون الى الياس وتختارون الهجرة والموت والانتحار وأنتم اصحاب الثروات الهائلة المادية والبشرية التي تقدرون بها صنع التقدم والرخاء لكم وللاجيال القادمة ..
ضاقت بكم ايها الشباب الثائر لان الرجعية والصهيونية والقوى الطامعة في ثرواتكم تتحالف ضدكم وتضللكم لكي تفقدوا البوصلة وتدمروا أوطانكم بأيديكم حتى لا يبقى غير ما يريدونه لكم  ..
ضاقت بكم الاوطان وانحسرت حولكم امكانيات العيش والتطور ، وما ينبغي أن تضيق بكم السبل .. فأمامكم فضاء امتكم الواسع ، القادر وحده على انتشالكم من النفق الذي وقعتم فيه ..
فالدولة الإقليمية في الوطن العربي إن كانت غنية مثل دول الخليج وذات ثروات طائلة فهي عاجزة أولا ـ عن تنمية تلك الثروات بالطرق العصرية التحويلية الصناعية ، فلا تجد سوى الحل الأسهل وهو استنزاف ثرواتها وبيعها خاما في الأسواق العالمية مكتفية بالاستهلاك السلبي الذي يؤدي فقط الى استنزاف الثروة دون تنميتها .. وهو ما يجعلها عاجزة عن تحقيق الاكتفاء الذاتي فتقع تحت الهيمنة الاقتصادية  ..
وهي عاجزة ثانية ـ عن حماية حدودها وعروشها وثرواتها فلا تجد سوى أن تلوذ داخليا بالحماية القبلية والعشائرية لتحول الوطن بأكمله الى مزرعة خاصة للعائلة الحاكمة .. ثم تختار بطواعية طرفا خارجيا يحميها ويقتسم معها ثرواتها ، ثم يفتعل لها مشكلات واحتياجات وضرورات تدفعها لاختيار السياسات التي يراد لها ان تختارها بكل " ديمقراطية " عن طريق النقاش والحوار والتصويت البرلماني والطعن في الأحكام .. وكل الآليات اللازمة لتكون القرارات في أحسن صورة ديمقراطية ..
وان كانت الدولة الإقليمية فقيرة  و" ديمقراطية " مثلا ، فهي تزداد ـ يوما بعد يوم ـ نموا في السكان ، وتزايدا في الاحتياجات ، وتضاءلا في الثروات ، وهو ما يزيدها عجزا عن إيجاد حلول جذرية لمشكلات التنمية ، حتى تصل ـ في ظل هذه التراكمات ـ الى قمة العجز الذي يدفعها بالقوة الى التداين الخارجي والخضوع للاملاءات والتدخل المباشر في سياساتها واختياراتها حتى تفقد نهائيا استقلالية قرارها الوطني وتتحول الديمقراطية التي تظهر بعض مظاهرها في الانتخابات والمنابر الاعلامية والتظاهر السلمي وغيرها ، الى مجرد واجهات تتوقف على الشكل الفارغ دون مضامين حقيقية اقتصادية واجتماعية .. وهكذا في ظل هذا المناخ الديمقراطي الزائف العاجز عن تلبية احتياجات الناس المتزايدة باستمرار ، ينجح الفاسدون في استدراج أغلب فئات الشعب الى مواقعهم ليتسرب الفساد وينتشر على أوسع نطاق جاعلا من الهامش الديمقراطي وسيلة لوأد الديمقراطية ذاتها ... وتصبح الديمقراطية مجرد لعبة مسلية بيد اللوبيات المرتبطة اقتصاديا وماليا واجتماعيا بالدوائر الرأسمالية العالمية ..
ضاق بكم الافق ولن تجدوا فرصا كاملة للتشغيل ، ولا امكانيات للنهوض العلمي ، والصناعي ، والتكنولوجي ، الذي تطمحون اليه في ظل هذه الدويلات القزمية العرجاء التي لا تقدر على الوقوف الا متكئة على أكتاف الاجنبي ، ولا تقوى على التنفس الا اصطناعيا ، ولا تستطيع البقاء الا في ظل الحماية المشروطة ..

ضاقت بكم هذه الدويلات الفاشلة وقد استنفذتم فيها كل امكانيات التقدّم ، فلن يجديكم الاحتجاج ، ولا الثورات ، ولا تغيير السياسيين والحكام ، دون الاهتداء الى البعد القومي لمشاكلكم ، فالحصر الاقليمي هو الذي يخنقكم ، ويحول دونكم ودون التوظيف الكامل للامكانيات القومية المتاحة في أمتكم .. وهكذا  ستتواصل الحيرة ، والضياع ، والمعاناة ، والتخلف ، حتى تدركوا ما أدركته الشعوب في امريكا منذ القرن الثامن عشر ، وفي مجمل اوروبا والعالم خلال القرنين الماضيين ...

فلا يخدعنكم ايها الشباب العربي ادعاء من يدّعي الباطل ويروج الاكاذيب ، وانظروا ماذا أنتم فاعلون بمصيركم ومستقبلكم في هذا العصر .. عصر التكتلات الكبرى التي لا مكان فيها للصغار الا تابعين صاغرين  .. 
فاذا قيل لكم ان القومية مناقضة للاسلام فهو باطل .. لان المسلمين الاوائل الذين حملوا راية الاسلام ، هم الذين وحّدوا هذه الامة التي لم تكن موجودة قبل الفتح .. وهذا فضلا عن الجهل والخلط بين الرابطة القومية والرابطة الدينية ..
 فالاولى علاقة انتماء الى وضع تاريخي متطور ومتغير أبدا ، بدأ بالاسرة ثم بالعشيرة والقبيلة والامة وهو في نمو واضافة تتحكم فيه قوانين وظروف ، بعضها سابق على وجود الناس في مرحلة معينة من مراحل التطور الانساني ، وبعضها الآخر يساهمون هم في صنعه بأنفسهم ، فيحدّد مصيرهم ومصير مجتمعهم الذي ينتمون اليه في تلك المرحلة ، فهي علاقات خاصة بكل مجتمع على حدة ..
والثانية علاقة انتماء الى دين سماوي ، ان كان الاسلام فهو عالمي موجّه الى الناس كافة دون اعتبار لتلك الخصوصيات الانسانية المتعلقة باللغة أو بالحضارة أو بالتاريخ ، بل بالاختيار الحر الذي جعله الله اسلوبا وحيدا للانتماء الى الاسلام أو الى غيره حتى ولو كان الكفر بجميع الاديان ..
واذا قيل لكم ان العروبة مناقضة لهوياتكم المحلية فهو وهم ، لأن الهوية القومية هي مجرد دائرة من دوائر الانتماء التي تجمع الناس فيلتقون في بعضها ويختلفون في بعضها الآخر .. كالانتماء الجغرافي ، والانتماء الحزبي ، والاسري والقبلي ، والديني ، وهكذا .. فمثلما  يكون الانسان منتميا الى قرية وديانة ما ، يمكن ان يكون غيره منتميا الى نفس القرية ولكن الى ديانة أخرى .. دون أن يكون هناك  تعارض أو تناقض بين الانتماءات ..
وهذه الدوائر لا تهم الناس في الأمة الواحدة فحسب ، بل  تتعداهم - احيانا - لتشمل الانسانية جمعاء .. فمثلما يكون الانسان عربيا  مسلما من قرية ، ومن قبيلة ، ومن أسرة ما ، يمكن أن يكون غيره مسلما مثله لكنه من أمة أخرى ، يختلف عنه في جميع الخصوصيات والمشاكل والطموحات التي يحملها ، دون أن يكون في ذلك تعارضا أو تناقضا بين تلك الانتماءات المتعدّدة للناس جميعا ، أو للانسان الواحد الذي يلتقي مع غيره في بعضها ويختلف معه في بعضها الآخر .. وفي هذا توضيح للدكتور صبحي غندور يقول : " للإنسان ، الفرد أو الجماعة ، هويّاتٌ متعدّدة ، لكن الهويّات ليست كأشكال الخطوط المستقيمة التي تتوازى مع بعضها البعض فلا تتفاعل أو تتلاقى ، أو التي تفرض الاختيار فيما بينها ، بل هذه الهويّات المتعدّدة هي كرسوم الدوائر التي يُحيط أكبرها بأصغرها ، والتي فيها ( أي الدوائر) " نقطة مركزية " هي الإنسان الفرد أو الجماعة البشرية . هكذا هو كلّ إنسان ، حيث مجموعةٌ من الدوائر تُحيط به من لحظة الولادة ، فيبدأ باكتشافها والتفاعل معها خلال مراحل نموّه وتطوّره : من خصوصية الأم إلى عمومية البشرية جمعاء " .
وهكذا فان الاصرار على حصر الهوية  في صفة واحدة ( الاسلامية مثلا ) هو جهل قبل كل شئ بنواميس وقوانين الحياة التي جعلها الله على هذا الوجه ، وعلى هذه الصورة من الاختلاف .. حيث يوجد تعدد بالضرورة حيثما وجد اختلاف ، والاختلاف ثابت باقرار من الله عز وجل حينما قال في كتابه الكريم : " وما كان الناس إلاّ أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون"(يونس ـ 19)..   
واذا قيل لكم أن القومية والعـروبة مناقضة لحضارات الشعوب القديمة فهو باطل ، لأن القومية اضافة الى ، وليس انتقاص من وجود سابق ، وهي بعد ذلك مرحلة من مراحل التطور الانساني الذي يصل فيه الارتقاء  بالعلاقات الانسانية التي يصنعها النضال المشترك بين مكونات المجتمع عبر مسيرتها الطويلة ، الى تجاوز الانتماءات الاجتماعية الضيقة دون الغائها ، وهي بالتالي خطوة تقدمية شجع عليها الاسلام نفسه حينما دعا صراحة الى تجاوز الروابط القبلية الضيقة التي كانت تعيق دعوته ، ليفسح المجال أمام مراحل جديدة أكثر شمولا هي التي ظهرت بعد ذلك في جميع انحاء المعمورة ، وهي الظاهرة القومية التي لم تكن خاصة بشعب معين ، أو بأمة معينة .. وعلى هذا الوجه  فان جميع الشعوب والاقوام التي انصهرت لتصنع الوجود الواحد  والمصير الواحد في الامة الواحدة ، هي شريكة في النضال القومي ، ولها نفس الدرجة من الانتماء الى الامة حتى وان كانت ممثلة في مجموعة صغيرة من المجتمع القومي  ، وهي أيضا جزء من الأمة حتى وان بقيت لها  جميعا أو للبعض منها ، بعض الخصوصيات التاريخية والثقافية المحلية التي تميزها ..
وهكذا فان هذه المشاركة والمساهمة النضالية في صنع المصير القومي يجعل من جميع المراحل التاريخية والخصوصيات الحضارية والثقافية القديمة  ، خصوصيات قومية بالضرورة ..
فالحضارة الامازيغية مثلا ، جزء من الارث الحضاري للامة العربية ، نفس الشيء بالنسبة للحضارة الفرعونية والقرطاجية والفينيقية وحضارات العرب القديمة .. كلها فروع واجزاء من تلك  الحضارة القومية  باعتبار أن الواحدة منها  تمثل تاريخا خاصا لجماعات قديمة اصبح ابناؤها شركاء في الحضارة القومية الجديدة ، وهي الحضارة العربية الاسلامية التي صُـنعت عبر مئات السنين بتلك العجينة المتكونة من جميع المكونات الاجتماعية  التي عاشت بين المحيط والخليج على امتداد تلك  الفترة الزمنية الطويلة وهي تحمل معها جيناتها الحضارية القبلية القديمة التي لا تزال بعض مظاهرها ومعالمها ظاهرة في كثير من المواقع والاقطار في الوطن العربي ، وهي خير شاهد على ذلك الماضي الثري وتلك الروافد التي صنعت حضارتنا القومية الحديثة  ...
واذا قيل لكم أن العلاقات القومية مفتعلة وتعصبية وشوفينية ومرضية فتلك دعوات جاهلة وباطلة ومغـرضة في نفس الوقت ، هدفها أن تحبط عزيمتكم ، وتضعف قوتكم ، وتصرفكم عن الطريق الصحيح الذي يؤدي الى القوة والعزة والتقدم والنصر  .. فهذا ماضي الشعوب أمامكم ، وماضي أمتكم بين ايديكم ، لعل ابرز ما فيه على الاطلاق أن كل الشعوب المتقدمة اليوم هي بالذات التي استطاعت ان تحقق وحدتها  القومية ، وتبني دولتها القوية ، بينما بقيت الأمة العربية ضعيفة متخلفة بسبب تجزئتها ، وتشتت امكانياتها ، وسهولة اختراقها في غياب الوحدة القومية الصمّاء ، حيث كثيرا ما تلعب أجزاء من الامة ، دور الطابور الخامس في بقية أجزائها ، خدمة لأعدائها ، وحفاظا على المصالح الضيقة والامتيازات الفئوية للعائلات الحاكمة ، وهو الواقع المر الذي تعيشه الامة العربية  منذ مطلع القرن العشرين ..
واذا قيل لكم أن الحكام القوميين في الوطن العربي مارسوا الديكتاتورية ، أو تسببوا في الهزائم ، فهي ادعاءات غير بريئة هدفها الوحيد تشويه الحركة القومية من خلال الاساءة الى رموزها لانها ، تطلق الاحكام بعيدا عن سياقها التاريخي من ناحية .. ومن ناحية أخرى لان هذه الأحكام صادرة جميعا عن جهات لا تعرف الديمقراطية فكرا ولا ممارسة ..
ولنأخذ أهم الرّموز القوميين في تاريخ الحركة القومية وهو الزعيم الراحل جمال عبد الناصر ..
ففي اطار السياق التاريخي ، نجد في عصر عبد الناصر على الصعيد المحلي حركتين سياسيتين هما من أكبر القوى السياسية والاحزاب في مصر في ذلك التاريخ ، ونعني بهما : حزب الوفد ، وحركة الاخوان المسلمين .. ولنا في هذا السياق شهادة الدكتور عصمت سيف الدولة الذي قارن فيها ـ من ناحية التقاليد الديمقراطية السائدة في عصر عبد الناصر ـ بينه وبين زعماء تلك الأحزاب المعاصرين له ،  فيقول :
بالنسبة لحزب الوفد تكرّرت مسالة فصل الأعضاء من طرف القيادة ، حتى استقرت تقليدا في الحزب الليبرالي العـتـيـد " ..  ويذكر منها العديد من عمليات الفصل الجماعية لأغلب أعضائه : (عشرة من أربعة عشر ) من طرف القيادة بداية من سعد زغلول سنة 1921 وصولا الى زعـيمه مصطـفي الـنحـاس في عام 1932 بعـزل أغلبية الأعضاء ( ثمانية من إحدى عشر ) .. كما يظيف بأن مثل هذه القرارات الفردية قد تكررت العديد من المرات الأخرى بفصل أشهر قيادات الحزب طوال تاريخه .. وهو ما يجعل من هذا " التقليد الاستبدادي "  واحدا من اهم أسباب الانشقاقات التـي حصلـت في الحــزب .. (عصمت سيف الـدولـة ، هـل كان عبد الناصر ديكتاتورا  )   .
أما بالنسبة للإخوان المسلمين فيقول :  "  فمنذ أسس المرحوم حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين ، نشأت ونمت على أساس من نظام البيعة والتسليم الكامل للقيادة  ، احتجاجا بقوله تعالى : فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لايَجِدُوا  فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا . [النساء : 65 ] . وكان على كل أخ مسلم من أعضاء الجماعة أن يتأكد من صدق ولائه للدعوة بان يسال نفسه عما إذا كان مستعدا لان يفترض في نفسه الخطأ وفي القيادة الصواب إذا ما خالف رأيه رأي القيادة ... "

وقد كان في نظر عصمت سيف الدولة ـ  أن " حجة الذين أنكروا على عبد الناصر في عام 1953 ، استـئـثاره بالسلطة كانت حجة داحضة . فقد كانوا يسلمون أمورهم إلى قياداتهم تسليما غير مشروط  وينكرونه على عبد الناصر . بمعنى أنهم لم يكونوا على أي وجه ديمقراطيين ليقيم الشعب وزنا لدعاويهم الديمقراطية . ولقد كانت مطالب الليبراليين في ذلك الوقت تنتهي – كخلاصة – إلى أن يسلّم عبد الناصر السلطة الى الزعيم مصطفى النحاس أو إلى الأمام  حسن الهضيبي ، و لم يكن في ذلك شئ يمت بصلة للديمقراطية . فحتى لو  افترضنا فيهم العدالة فقد كان كل منهم – عند أنصاره – مستبدا عادلا . و لم يكن عبد الناصر ، قائد الثورة  ، اقل منهم أنصارا  .."

ثم اذا كانت حركة الاخوان المسلمين تدافع فعلا عن الديمقراطية ، فلماذا نجدها  تناصب العداء للأنظمة القومية دون غيرها ؟؟
 ألم تكن هذه الحركة موالية لأنظمة رجعية ديكتاتورية في الوطن العربي ؟؟ فان كانت حريصة على الديمقراطية لماذا تعيش بين أحضان الانضمة المتخلفة ديمقراطيا ؟؟
وهل كان النظام السعودي الذي احتضن الاخوان ، و بقية حلفاؤهم  من الأنظمة الرجعية مثل النضام القطري والاردني ، والمغربي والسوداني ، وأنظمة الخليج عامة أكثر ديمقراطية ، وأكثر وطنية وأكثر انجازات من نظام عبد الناصر الذي ناصبوه العداء منذ بداية الثورة ..؟؟
ولماذ قبل الاخوان بالتعايش مع تلك الانظمة وبعضها مثل النظام السعودي العميل  لا يسمح لهم حتى بإلقاء محاضرة قي مسجد ، في حين غدروا بعبد الناصر بتدبير حادثة الاغتيال سنة 1954 ، وهو الذي استثناهم من قانون حل الاحزاب الرجعـية سنة 1953 وسمح لهم بالنشاط الحر .. ؟؟؟
ولماذا عاد جهازهم الخاص يخطط  لمؤامرة قلب نظام الحكم سنة 1965 ..؟؟؟
ثم دعونا أيها الشباب العربي نتأمل رصيد الديمقراطية منتصف القرن العشرين على الصعيد العالمي ،  وما هي التقاليد الديمقراطية الموجودة في عصر عبد الناصر الذي يخصّونه وحده بالديكتاتورية  ..
ففي فرنسا التي تعتبر مهد الثورات ، والتي صدرت فيها أولى الدساتير كانت تحكمها الأنظمة الملكية الامبراطورية التي تمثل ظل الله في الارض حتى جاء العسكري ديجول على رأس الجمهورية الخامسة فحكم أكثر من عبد الناصر ، بداية بالوزارة سنة 1944 الى الاستقالة من رئاسة الجمهورية سنة 1969 ، وهو الذي كان يرفض مساواة الجزائريين مع الفرنسيين بمنحهم الحق في الاستقلال ، معتبرا الجزائر مقاطعة فرنسية .. !!
وألمانيا  كان  يحكمها هتلر الغني عن التعريف حتى انتحاره بعد الهزيمة خلال الحرب العالمية الثانية .. وايطاليا كان يحكمها صديقه الحميم وحليفه موسيليني الشهير ، واسبانيا كان يحكمها الجنرال فرانكو الذي بقي في الحكم 39 سنة كاملة ، من 1936 الى 1975 .. وروسيا كان يحكمها ستالين والحزب الشيوعي السوفياتي بمفرده .. ونفس الشئ  تقريبا في الصين التي شهدت الى حدود الامس القريب ما سمي بربيع بيكين سنة 1989 ، وغيرها من دول الكتلة الشرقية ودول امريكا اللاتنية التي كانت تحكمها الانظمة الشيوعية الشمولية التي لا تعترف سوى بديكتاتورية البروليتاريا الخ .. فاين الديمقراطية اذن ..؟ هل هي موجودة عند الشعوب الآسوية والافريقية المتخلفة ، والرازحة تحت نير الاستعمار ، أم عند الانظمة العربية الرجعية  ـ حليفة الاخوان ـ التي لا ترى شعوبها صناديق الاقتراع حتى الآن سوى في نشرات الأخبار ..؟؟
ثم الأهم من هذا كله فان مشروع الحركة القومية غير مشروع الأنظمة  بالتزامها الكامل أسلوب العمل الجماهيري الخالص ، تجاوزا لسلبيات الحكام القوميين وأخطائهم التي حصل بعضها لاسباب تاريخية قاهرة وبعضها الآخر كان ناتجا عن افراطهم في التعويل على مؤسسات الدولة الإقليمية الفاشلة .. وهذا من ناحية ، ومن أخرى ، فان الحركة القومية الاصيلة الموحدة تنظيما وامكانيات غير موجودة في الواقع العربي وان ما يروّجه أعداء المشروع القومي بأن التجارب القومية قد فشلت جميعا ، وأن هذا المشروع لم يعد له صلاحية البقاء والاستمرار .. هو قول عار من الصحة ، وبعيد عن الموضوعية والدقة العلمية .. لأن الذي فشل هو مشروع الدولة الإقليمية حتى وان كان يديرها القوميون  .. وهو فرق كبير وشاسع بين أن يكون القوميون يعملون على تحقيق المشروع القومي بأساليب وسائل اقليمية فاشلة بطبعها وطبيعتها ، وبين عملهم على تحقيق المشروع بالوسائل العلمية الغائبة في الوقت الراهن : الحركة القومية الواحدة ، والدولة القومية النواة التي تضع جميع إمكانياتها والإمكانيات القومية المتاحة لخدمة ذلك المشروع ..
وهو ما يجعل كثير من التحاليل في الواقع العربي مقلوبة على رأسها ، فالفشل في الواقع الإقليمي ، وواقع التشتت والتشرذم والمصالح الإقليمية والخيانات الظاهرة والخفية والتضليل .. وغيرها  المؤدية الى الخيبات ، والهزائم والتخلف العربي ،  محسوبة ـ اما جهلا او بسوء نية ـ  على  الحركة القومية الغير موجودة أصلا في الواقع الا في شكلها الاقليمي الذي هو جزء من المشكلة ، وحتى الأنظمة التي تتحدث بخلفيتها القومية لم تكن تمثل الدور القومي المطلوب بوسائله وامكانياته فهي أيضا جزءا من المشكلة ذاتها .. اذ في الواقع لا توجد جهة قومية حقيقية قائمة الذات تتحمل مسؤولية ما يحدث ، ولذلك فان كل الخيبات الحاصلة في الواقع العربي تتحمل مسؤوليته القوى الاقليمية دولا وجماعات وأحزابا التي تتعامل مع الواقع القومي والقضايا القومية بمنطق المصلحة الاقليمية الانتهازية .. وهذا هو الواقع .. وهو دليل على فشل المشاريع الاقليمية في الواقع العربي التي وصلت الى طريق مسدود .. والفشل الاقليمي في الحقيقة ، انتصار للمنطق القومي ودليل على صحة هذا الطرح الذي يشير منذ البداية الى عجز الاقليمية  وليس العكس ...

وأخيرا ، اذا قيل لكم ـ أيها الشباب العربي ـ ان الدعوة القومية قد تجاوزها الزمن وحالفها الفشل ، فهذا قول جاهل ، وهذه أمامكم كل المجتمعات في العالم على صورتها القومية ، ودولها ، وحدودها ولغاتها القومية ، وتاريخها وحضاراتها المتميزة قوميا .. وما فشل المحاولة الاممية في روسيا بتوحيد القوميات المكونة للاتحاد السوفياتي سابقا ، والتي تجاهل فيها الماركسيون تلك الفوارق والخصائص القومية بين الشعوب ، التي عادت الى وضعها الطبيعي بعد عقود طويلة من المحاولات الفاشلة في طمس هوياتها ، الا دليلا على دور العامل القومي وتاثيره في صنع التقدم والاستقرار لكل الشعوب في العالم ..  
وأمامكم ايضا التجربة الالمانية التي ظهر خلالها اصرار الشعب الالماني على الوحدة ، فتمكن بارادته وعزيمته  الصلبة من اسقاط سور برلين ، وتحقيق الوحدة القومية بين الالمانيتين سنة 1989 .. أما المحاولة الاممية الجارية حاليا في اوروبا لتوحيد الامم الاوروبية  فهي في طور التأسيس وقد يلزمها أكثر من قرن لانجاز تلك المهمة التاريخية التي ستؤدي الى تحوّل المجتمعات الاوروبية الى مجتمع واحد اذا توفرت لها الظروف اللازمة لانجاز هذا التحول عن طريق التفاعل الحر والانصهار التدريجي بين مختلف الشعوب  ، وهو ما يبدو ممكنا في ظل القيم السائدة حاليا في تلك المجتمعات ..
لذلك فان الوطن العربي المقسم حاليا الى ثلاثة وعشرين دولة اقليمية ـ واذا استثنينا المجتمع الكوري ـ فهو الوحيد في العالم الذي يعاني من المشاكل العميقة والثقيلة للتجزئة منذ أكثر من قرن .. بعضه واقع تحت الاحتلال ، وبعضه الآخر تحت الاستيطان ، وأجزاء منه منهوبة ، وأجزاء أخرى خاضعة للقواعد العسكرية الأجنبية ، وتتحكم في  جميع أقطاره أنظمة رجعية مستبدة تستأثر بثروات الامة وتبدّدها دون رقيب  .. وهو ما يزيد مشاكلها تعقيدا  في ظل تفشي الفقر والبطالة والجهل وضعف الامكانيات ، وسيطرة العقلية المتخلفة لرجال الدين والحركات الدينية التي زادت بفهمها الرجعي للاسلام وخلط الاولويات ، في تأجيج الصراعات ، وإشاعة  الفوضى باسم الثارات والاحقاد الطائفية والمذهبية المتعفنة ، تساندها في هذا وتسندها القوى الخارجية المعادية والأنظمة الرجعية في الداخل  .. وهو ما يجعل حجم الاستهداف للامة العربية ومن ورائها المشروع القومي التي هي بحاجة اليه ، أمر  لا مثيل له في أي أمة على وجه الأرض ..
فكل الأحداث والوقائع التي شهدها الوطن العربي منذ قرنين أو أكثر تؤكد بما لا يترك مجالا للشك أن المستهدف هو الكيان العربي وليس الإسلام في حد ذاته .. فالدين الإسلامي في أماكن عديدة ومنها أوروبا بالذات ، لا تتهدده أي أخطار ، لأنه لا يمثل خطرا بطبيعته الدينية المعروفة المتسامحة ، والمتعايشة مع كل الثقافات والأديان .. إنما المستهدف فعلا هو الوجود القومي العربي الذي يحمل بطبيعته ، وفي ذاته كل مقوّامات القوة المانعة لنهبه واستغلاله ككيان يزخر بالإمكانيات والثروات والمواقع الإستراتيجية في العالم .. أما الدليل فهو استخدام " المتدينين " أنفسهم من قوى الاسلام السياسي ، بجميع فئاتهم ، دولا وجماعات ، في استهداف الوجود القومي العربي والذهاب به الى ما هو أخطر من التجزئة وهو التفتيت الذي يقوم على تفكيك النسيج الاجتماعي الموحد لكيانات التجزئة ...
فطوال السنوات السابقة على 2010 ، كان العالم يتصوّر أن الدولة المستهدفة مستقبلا بعد غزو العراق هي إيران .... وقد تبين غباء كثير من المحللين ... وكثير من السياسيين العرب أساسا ... حتى شاهدنا بأم أعيننا اتجاه التخطيط لتدمير الوطن العربي قطرا قطرا من خلال براعة الاطراف التي تستهدفه في التقاط اللحظات التاريخية المساعدة على تحقيق أهدافها حتى وان لم تكن من صنعها ، مستغلة في نفس الوقت حاجة الامة الى التغيير بكل اشكاله ومضامينه التحررية .. وهكذا كانت ليبيا هي المحطة الثانية ، ثم سوريا .. واليمن .. ولم يكن الاستهداف يتجه أبدا الى تلك الكيانات القطرية التي تمثل الحاضنة الرجعية للدين سواء داخل أقطارها أو خارجها .. بل كانت هي ذاتها آداة تدميرية لما تبقى من دعامة ومقوّمات القوة للكيان العربي المستهدف والمقاوم منذ عقود ..
المشكلة اذن ، في القوة العربية مهما كان شكلها ومصدرها ، وأسبابها .. قوة الوحدة ، والثروات ، والامكانيات البشرية ... تلك هي المشكلة أولا وأخيرا ..
فالمشروع القومي يهدف الى اعادة توحيد أقطار الامة المجزئة ، وتحريرها من الاحتلال واغتصاب الارض المسلوبة في فلسطين وفي غيرها من المواقع المحتلة ، ويهدف ايضا الى تحريرها من الهيمنة والتبعية الواقعة عليها في ظل الاساليب المتطورة للاستعمار الجديد ، كما يهدف الى بناء مجتمع قومي تتوفر فيه فرص العيش الكريم  في ظل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة الحقيقية للانسان .. ولذلك ظل المشروع القومي  مستهدفا على الدوام ، من كل القوى التي يمثل تهديدا مباشرا لمصالحها ..
مستهدف من طرف الحركة الصهيونية ودولتها العنصرية الغاصبة في فلسطين .. ومن طرف قوى الاستغلال والنهب الرأسمالي في العالم ممثلة في دولها الاستعمارية .. ومستهدف من طرف الأنظمة الرجعية والعائلات الحاكمة الناهبة للثروات في الداخل ممثلة في الدول الاقليمية ، ومستهدف أيضا من طرف القوى الظلامية التي بات مشروعها يتقاطع مع كل الاطراف الاخرى في استهداف الحركة القومية المعبر الحقيقي عن طموحات الامة  في التحرر والتقدم والوحدة ..
وفي ظل هذه التحديات لا يمكن أن يصلح حال الامة دون قيام الحركة القومية الواحدة التي تقود خطاها  نحو التحرر النهائي والوحدة وإقامة المجتمع الديمقراطي العادل .. وعندها ستختفي تلقائيا تلك الطبيعة التي تميز الحركة القومية في سعيها الى الوحدة ، لينحصر دورها ونشاطها بعد ذلك في مجالات التنمية والحريات وكل ما يحتاجه المجتمع العربي الموحّد ، لنموّه وتقدمه ونهوضه على غرار ما يحدث حاليا في كل المجتمعات ..
غير أن الامة العربية لن تنهض أبدا ، ما لم تتوحّد .. ولن ينهض في المقابل أي قطر من أقطارها منفردا مهما  كان حجم الارادة الوطنية المتوفر لقياداتها ، مثلما حدث للعراق ، وستبقى تلك الدول الاقليمية  مستهدفة ما لم تقبل بالخضوع لمشيئة أعدائها ، فترضى بالعيش ذليلة تحت الهيمنة الأجنبية ، وترضى بالاحتلال والصهيونية و نهب الثروات ، أما اذا أرادت العكس ، فانها ستتعرض للحصار والعزل ، والعدوان ليتم ضربها وتمزيقها تحت أي ذريعة مثلما وقع لليبيا وسوريا باسم الديمقراطية ..
وهي لن تتوحد  أبدا الا حينما تفرز من بين صفوفها حركة قومية ديمقراطية ، منظمة ، تقود النضال القومي ، وتقسّمه الى مراحل ، وأهداف ، وخطط .. وقد تدوم تلك المسيرة عقودا طويلة .. اذ أن تجربة الثورات العفوية منذ سنة 2010 ، وما صاحبها من أحداث مأساوية في ليبيا وسوريا واليمن والبحرين ، ثم ما تعرضت له الثورات في تونس ومصر من انتكاسات ، قد اثبتت صحة المقولات الداعية الى قيام حزب قومي جماهيري  يمارس دوره الطليعي الى جانب القوى الوطنية في قيادة الثورات ، ثم يتولى معها حراستها بافضل ما يملك من الوسائل ، حتى يصل بها الى اهدافها العظيمة في الحرية ، والعدالة الاجتماعية ، والديمقراطية الشعبية ، التي تمكن الشعب من تحقيق آماله  وطموحاته ..

فاذا كانت الحركة القومية العربية ـ ايها الشباب العربي ـ متخلفة ديمقراطيا ، خلصوها من تخلفها .. واذا كانت الحركة القومية العربية ممزقة ، ومشتتة ، عليكم بتوحيد صفوفها على قاعدة الثوابت والاهداف القومية الكبرى .. في اطار الممارسة الديمقراطية ، والالتزام بشروطها الملزمة ..
واذا كانت الحركة القومية العربية عاجزة على تحقيق أهدافها الى حد الآن ، فلأنها تحتاج الى جيوش من المناضلين الاشداء القادرين على شق الطريق نحو المستقبل بكل عزم وثبات ، بمثل ما يتحلى به الشباب على وجه التحديد ، ولأنها تحتاج الى امكانيات قومية لن تتحقق لها الا بوحدة التنظيم على المستوى القومي ..
أما اذا اخترتم غير ذلك فمعناه استمرار التخلف والمعاناة والضياع ... حتى تأتي أجيال بعدكم تصحح الأخطاء .. ورغم ان ذلك سيزيد في كلفة التخلف الذي ستستمر فيه الامة .. لكنها ستبقى صامدة على اي حال .. فالامة العربية أمة مكتملة التكوين .. ولن يقع لها أبدا ما وقع للهنود الحمر الذين داهمهم الغزو الاوروبي في المراحل القبلية الأولى ، السابقة على التكوين القومي ، مما جعلهم ينصهرون ـ طوعا أوكرها ـ في المجتمع القومي الجديد ، حتى وان بقيت منهم بعض الجماعات تحتفظ ببعض الخصوصيات القبلية القديمة .. وهنا نختم بتلك المقولة الشهيرة للزعيم الراحل جمال عبد الناصر :

 انني اؤمن ايمانا قاطعاً انه سيخرج من صفوف هذا الشعب ابطال مجهولون يشعرون بالحرية ويقدسون العزة ويؤمنون بالكرامة " ..
وقال أيضا : " إن القومية العربية هي التي خلقتني لست أنا الذي أثيرها بل هي التي تحملني ، انها قوة هائلة ولست الا إداتها المنفذة ولو لم أكن موجودا لوجد غيري، واحد ، عشرة ، ألفا يحلون محلي . ..ان القومية العربية لا يمثلها رجل واحد أو جماعة من الرجال . انها لا تتوقف على جمال عبد الناصر أو أولائك الذين يعملون معه . انها كامنة في ملايين العرب الذين يحمل كل منهم مشعل القومية . أنها تيار لا يمكن مقاومته ، ولا تستطيع أية قوة في العالم تدميره طالما احتفظ  بثقته في نفسه .. " .


والله ولي التوفيق ...


                        ****

القدس /  في 11 فيفري 2016 .

                      
                        ****
                                                       
                                     


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق