بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 25 ديسمبر 2011

بعض الكلام عن العروبة والاسلام ..



بعض الكلام عن العـروبة والإسلام .. 

(1) .

قال تعالى :"  إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون  " ( سورة الأنبياء 90 ) . واتفاقا مع هذا المعـنى العميق جاء الإسلام للناس كافة . قال تعالى : "  وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا "  (سبأ 28 ) . كل من يدخل في الإسلام يصبح فردا من الأمة الإسلامية في مشارق الأرض و مغاربها ..
سبحان الله  !فهل كان المقصود عـند نزول الوحي أن يكون انتماء المسلمين إلى الأمة الإسلامية مقـتـرنا بانتمائهم إلى دولة واحدة كما يروّج البعض  .. ؟
أبدا فقد بادر الرسول صلى الله عليه و سلم بإرسال رسله إلى القادة الكبار في عصره ، وعلى رأسهم هرقل إمبراطور الروم  ، وكسرى إمبراطور الفرس يعرض عليهم الدخول في الإسلام .. كما بعث البعثات إلى النجاشي في الحبشة والى المقوقس حاكم مصر .. فهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصد إن تلحق تلك الدول الأربعة  بدولة المدينة الناشئة ؟ فلماذا لم يهيئ نفسه لمثل هذه التحولات الكبرى ؟
لم يحدث هذا بأي شكل كان ، سواء في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أو في عهد الخلفاء من بعده .. ومعناه أن الاسلام كان منذ البداية يميّز بين اطار الدعوة الموجّه لعامة الناس في اي مكان ، وبين اطار الحكم والدولة التي تحدّدها الظروف والأوضاع الاجتماعية لتكون وعاء لكل المضامين التي  جاء بها هذا الدين ، فتـكوّن مجتمعا مسلما ..
فاذا حصل ذلك في عصر المجتمعات القبلية يكون مجتمعا قبليا مسلما ، واذا حصل ذلك في عصر الامبراطوريات ، تكون امبراطورية مسلمة ، واذا حصل ذلك في زمن القوميات يكون مجتمعا قوميا مسلما ، دون أن يُحدث ذلك الوضع أي تناقض او تعارض بين الوضع الديني والوضع الاجتماعي الذي يعاصره ..
والواقع فان شبهات الخلط  لدى البعض مبنية على عدة تأويلات  للآيات القرآنية منها ما هو متعلق بمفهوم الأمة  ،  كقوله تعالى : " إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون  " ( الأنبياء ـ 92 ) وهي وان كانت تنص على أن الامة الاسلامية أمة واحدة ـ وهذا صحيح ـ غير ان هذا الاقرار لا يترتب عنه بالضرورة جمع المسلمين المكوّنين لتلك الأمة  في مشارق الارض ومغاربها في دولة واحدة .. بل  ياتي في اطار التمييز للجماعة المسلمة التي تميّزت بالإسلام ، مثلما وقع تمييز جماعات أخرى بانتمائها الى رسالات سابقة كقوله تعالى : " ولقد ارسلنا الى أمم من قبلك " ( الأنعام ـ  42 ) ، وقوله : " ولكلّ أمة رسول " ( يونس 47  )  ... 
واضافة الى ذلك فان  لفظ الأمة في القرآن الكريم لم يكن خاصا بالمسلمين كما  هو واضح في الأمثلة السابقة ، ولا هو خاص بالانسان وحده كما يظهر في العديد من الآيات التي تخص الجماعة من الطير والجماعة من الانس والجماعة من الجن الخ .. ليصبح مفهوم الأمة في لغة القرآن ، مجـرد  تمييز للجماعة ، ولا علاقة له بالنظم  ، أو بتكوين الدول ..
وفي هذا السياق  فان الرّبط بين الانتماء الديني والنظام السياسي لم يسبق أن طُرح إلا عـند اليهود ، الذين لا يزالون ينادون بالدولة اليهودية في فلسطين لكسب شرعـية الاحتلال من خلال التسليم بالعلاقة بين الأرض والديانة اليهودية .. كما انه لم يسبق طرح الدولة الدينية في الاسلام حتى في عهد الرسول  صلى الله عليه و سلم ، الذي أسس أول دولة مدنية بمن فـيها من سكان المدينة ، كما نصّت على ذلك الصحيفة التي كتبها الرسول بنفسه ولم يؤسس ـ ابدا ـ  دولة خاصة بالمسلمين ..
***
 (2) .

لقد ميّز الله الجماعة المسلمة كما ميّز العديد من الجماعات الأخرى سواء من ذوي الرسالات السابقة أو حتى من غـير الكائنات العاقلة وأطلق عليها جميعا كلمة أمة متى توفـّر لها عامل التميّز ...ميّـز المسلمين بإسلامهم وقال : " إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعـبدون " ( الأنبياء / 92 ) .
و ميّـز الدواب بتـنوّعها فقال : " وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم " (الأنعام 38) . وبعد أن جمع الله أصحاب الرسالات في امة واحدة اذ قال : " يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون " ( المؤمنون  / 51 – 52 ) ، ميّـز الأمم برسلها المختلفة فقال : " ولقد بعـثـنا في كل أمة رسولا أن اعـبدوا الله " (النحل 36 ) .
وأمة الإسلام بهذه المعاني القرآنية هي أمة قائمة الذات يتميّـز أبناؤها بانتمائهم إلى الإسلام كدين ، فيصبح أي إنسان جزءا منها متى نطق الشهادتين و مهمى كان جنسه أو لونه أو لغـته .. و قد كان مثل هذا الوضع سائدا منذ زمن الرسالة ، حيث لم يخطر ببال احد ـ في ذلك العصر ـ  أن يسأل كم يضاف إلى الأمة الإسلامية من المسلمين طالما أن الانتماء قائم بالدرجة الأولى على الإيمان  ... أما العروبة فهي تعبر عن وضع تاريخي متأخر على الاقل الف عام  ..
إذا كانت هذه المعاني والمفاهيم واضحة وغـير منكورة ، فان إثارة التناقض بين العـروبة والإسلام ، يصبح بالدرجة الأولى مناقضا للدين .. إذ كيف نقـبل بأن الجماعة أمة متى توفّـرت لها عوامل الاختلاف والتميّز حـتى وإن كانت  جماعة من الطير أو من الجن كما ورد في القرآن الكريم ، ولا نقبل بذلك  للجماعة البشرية المتميّـزة بلغـتها وتاريخها وحضارتها وأرضها كالأمة العـربية أو الفرنسية أو الإيرانية ..  ؟ 
لقد كانت العـروبة ببساطة علاقة انتماء قـبلـية عـنـدما كانت البشرية جمعاء شعـوبا وقـبائل ، وهي اليوم علاقة انـتـماء قومية الى امة واحدة   في هذا العصر ، عصر القوميات ..
***
 (3) .

قبل الأديان السماوية كان الناس أسرا وعشائر وقبائل ،  ولم يكن ذلك اختيارا بشريا محضا ،  بل كان وضعا الهـيا بمشيئة الهية ، قال تعالى : " إنا خلقـناكم من ذكر وأنثى وجعلـناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكـرمكم عـند الله أتقاكم " ( الحجرات / 133 ) .. و لما شاء الله أن يهدي عباده بعـث لهم رسلا من أنـفـسهـم يدعـون جمـيعـا إلى الـتـوحـيـد والعـمل الصالح ، فـكانـت الأديان مسايـرة لمـراحل التـطوّر الإنساني .. لذلك كان الخطاب الديني خطابا خاصا بكل قوم . قال تعالى : " انا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم "( نوح / 1) . وقال : " وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عـليكم " ( البقرة 54 ) . و قال :"ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود " التوبة / 70 ) . وقال تعالى : " و الى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله " ( الأعراف 65 ) . وقال : " والى مدين أخاهم شعيب قال يا قوم اعبدوا الله " ( الأعراف 85 ) . وقال : " كذّبت قوم لوط بالنذر " ( القمر 33 ) ...
ولما مر على الناس حين من الدهـر ، و أصبحوا قادرين على تطويع الطبيعة دون ترحال ، بدأت البشرية تشهد الاستقرار، و تتحوّل تدريجـيا من المراحل القبلية إلى المراحل الشعوبية ، فانتقلت الديانات من الخطاب الضيق الخاص بالقوم ( القبيلة ) إلى الخطاب الواسع الموجه إلى الأقوام المجاورة .. و قد بدأ ذلك مع موسى عـليه السلام المبعوث لبني إسرائيل ، والذي  كلفه الله بالذهاب الى فـرعون صحبة أخيه هارون فقال : " اذهبا إلى فرعون انه طغى " ( طه 33 ) . كتمهـيد لخـروج الدعوة من إطارها القـبلي إلى الإطار الإنساني .. و قد تأكد مثل هذا النهج مع عـيسى عـليه السلام الذي شرع في جمع الإتباع وراح يطوف حيثما تقوده قدماه ، غير مكتـف بنشر دعوته بل كان مبشرا بنبي يأتي من بعـده ..
باختصار لقد كان تطور الأديان مسايرا لتطور المجتمعات ..   والمؤكد أنه لم تكن - حتى ظهور الإسلام - أي من المجتمعات التي عاشت بين المحيط والخليج قد دخلت مرحلة التكوين القومي ، لكـنها بدأت تشهد الاستقرار الذي كان من الممكن أن تتحوّل به  إلى أمم متعدّدة ، لو لم تداهمها جميعا موجات الفتح الإسلامي الذي وحدها ، وأعطاها لغة القـرآن لتصبح لغـتها القومية ، و منحها أرضا مشتركة تتفاعل فوقها تفاعلا حرا فـتبني ـ بعد قـرون طويلة ـ تاريخها وحضارتها القومية .. فصارت به أمة عـربـية مسلـمة ، وجـزءا لا يتـجـزأ من أمة الإسلام  ...
***
 (4) .

بعد مراحل طويلة من الصراع الاجتماعي والتفاعل والاستقرار في ظل دولة الخلافة شهد التاريخ مولد الامة العربية وأصبحت  حقيقة وجسد حي لا ينكره إلا جاهل بالتاريخ البشري ، والسنن الكونية .. 
بل أن بعض الناس يعـتـرفون بالوجود القومي لكل الامم التي استطاعت ان تحافظ على وحدتها ، ولا ينكرون ذلك الا على الامة العـربـيـة التي صارت مجزئة بعد وحدة دامت قرونا عديدة .. 
فهل أن كل ما حدث على مدى آلاف السنـين من تفاعل وتحوّلات داخل المجـتـماعات البشرية كان مجرّد صدفة ؟ أم أن الاسلام قد جاء ليضع حدّا لهذا التطوّر الصاعد ..؟
أبدا .. فأبسط الطلاب في المعاهد الثانوية والجامعات يعـرفون - اليوم - القوانين التي تحكم حركة الظواهر في هذا الكون ، حيث لا يحدث شيئا صدفة ودون قانون ، من أصغـر الذرّات الى أكـبـر المجرّات .. وهو ما ينطبق أيضا على حركة المجتمعات التي تخضع بدورها للسنن الكونية ، حيث كان تطوّرها يسير في كل أنحاء المعمورة على وتيرة واحدة .. قال تعالى :  " إنا خلقـناكم من ذكر وأنثى وجعلـناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكـرمكم عـند الله أتقاكم " ( الحجرات / 133 ) .
فمنذ أن وجد الإنسان على وجه البسيطة اقـتـضت حكمة الله ، ومشيئته ان تكون نشأته داخل الأسرة . فكانت العلاقات الدموية هي الرابطة الأولى بين الناس .. وبتـعـدّد الأفراد والاسر نشأت العشيرة ثم القـبـيلة  واتسعـت الروابط الدموية لتكون اساس العلاقات داخل تلك المجتمعات ..  وهكذا كان لا بد للعصبية إن تظهـر داخل الأسرة أوّلا ثم داخل العشائر والقبائل كـنوع من الإحساس بالانـتماء البدائي لا يزال موجودا إلى الآن داخل كل الجماعات ..
والعصبـية كما عـرّفها بن خلدون غـير التـعصّـب ، بل هي نوع من التعـبيـر الإنساني الطـبيعي عـن الولاء للجماعة ، كانت ولا تزال عاملا للوحـدة التي بها يتحـقـق الأمن والحماية في مواجهة الخطـر الخارجي ، حيث شهد المجـتـمع الإنساني مراحل طويلة من الصراع والغـزو ، يبدأ بالسيطـرة المادية على موارد الحـياة مثل الكلأ والماء ، وينـتهي بالسيطـرة المعـنوية على الشعوب المغلوبة  ..
كما أسهمت في إحلال الـتعـاون والتضامن بين أفراد العصـبـية الواحدة بدل التـنافـر والصراع .. وهي عموما غـير مذمومة ما لم تتحول إلى تعصّب .. ولعلّنا نتعـلم من تاريخ الشعوب أن تلك العصـبـية والحميّة لم تمنع من التعايش والتحالف بين المجتمعات القبلية حيث جعلتها الأخطار التي تـتهدّدها والعجـز على مواجـتها منفردة ، تشعـر جميعا بالرغـبة في التعاون لمواجهة عـدو مشترك يهدّد أمنها واستـقـرارها ، فكان الخطر الخارجي ـ في كثير من الاحيان ـ عاملا للتوحـيـد ، والانـتـقـال  تدريجـيا إلى مرحلة التـكوين القومي من خلال التحول في مرحلة أولى إلى شعـب تـنصهـر فيه  تلك المكونات ، ثم إلى أمة يخـتص شعـبها  بأرض معـينة و يستقـرّ فوقها ، ويتفاعل مع محيطه ليضيف إلى حضارته القبلية الخاصة ، حضارة قومية جديدة يساهم في تكوينها كل مكونات المجتمع القومي الجديد ..  
وقد كان كل هذا يحدث فعلا في جميع المجتمعات ويقودها الى التطور الذي تنتقل به من مراحل دنيا الى مراحل أكثر غنى ، وتحررا وتقدما خلال مسيرتها التي لا تتوقف بفضل النمو والاضافة داخل الفضاء الانساني الرحب ..
***
 (5) .

كثير من الناس في مجتمعـنا من الذين يناهضون العـروبة بالاسلام  يجهلون تاريخ الشعـوب ، ولا يعـرفون سنن الخلق وقوانين تطوّر المجتمعات .. كما نجد الكثيرين منهم يرفضون مجرّد الاطلاع على ما انتجه العقل البشري من أفكار في العديد من فروع المعرفة كالفلسفة وعلم الاجتماع  والمنطق بدعوى انها تقود الى الكفر والالحاد .. وهي نفس المدرسة التي قامت بتكفير بن رشد ونفيه وحـرق كـتبه خلال القرن الثاني عشر الميلادي ، كمؤشر على صعود ذلك التيار الرجعي الذي نجح في القضاء على دور العقل ، وتجفيف منابع التفكير ، وهو ما أدّى في النهاية الى تردّي الأمة في عصور الانحطاط ...
وقد لا يختلف الامر كثيرا في عصرنا ، اذ أن الذين يرفضون الاعـتـراف بالواقع القومي  ، هم كثيرا ما يعودون لترديد نفس الخطاب الجاهلي التكفيري رغم ما تمثله هذه الظاهـرة الانسانية العظيمة من دلالات لا تخلو من اعجاز ..
ففي مجال الفكر عامة يقول اين عثيمين في مجموع الرسائل والفتاوي : " الفلسفة بحث يوناني مستقل يتعمق فيه أصحابه حتى يؤول بهم إلى تحكيم العقل ، وردّ ما جاء في الكتاب والسنة ، والفلسفة على هذا الوجه منكرة لا يجوز الخوض فيها .. "
وبعد هذا النفي والرفض للفلسفة نجده يعود لتسطيح مفهوم الحكمة : " وأما الفلسفة بمعنى الحكمة فهذه موجودة في الشريعة الإسلامية والشريعة الإسلامية كلها مبنية على الحكمة .. لكنه لا ينبغي أن نقول عن الحكمة الشرعية أنها فلسفة ؛ لأن هذه الكلمة يونانية ، بل نقول عن الحكمة الشرعية :  ما من شيء في الشرع إلا معلل ، لكن من الحكمة ما نعلمه ، ومنها ما لا نعلمه ؛ لأن عقولنا قاصرة .."
أما بالنسبة للفكر القومي ، فيقول ابن باز في فتاويه : " من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن الدعوة إلى القومية العربية أو غيرها من القوميات دعوة باطلة ، وخطأ عظيم ، ومنكر ظاهر ، وجاهلية نكراء ، وكيد للإسلام وأهله " .. ويضيف : " هذه دعوة جاهلية ، لا يجوز الانتساب إليها ، ولا تشجيع القائمين بها ، بل يجب القضاء عليها  " ..
لماذا .. هل الانتساب الى قوم يكون بمحض ارادتنا ..؟؟
فكيف نفهم اذن  قوله تعالى : "  وانه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون " ( الزخرف 44 ) ..؟؟  
يقول الطبري في تفسيره لهذه الآية : " ان هذا القرآن الذي أوحي إليك يا محمد الذي أمرناك أن تستمسك به لشرف لك ولقومك .... وسوف يسألك ربك وإياهم عما عملتم فيه ، وهل عملتم بما أمركم ربكم فيه ، وانتهيتم عما نهاكم عنه فيه .. ؟.
ان المتعمق في دلالة هذه الآية ، ووفقا للتفسير الذي جاء فيها يدرك أمرين مهمين :
الأمر الأول اختياري ، ويتعلق بالايمان ، ثم بالعمل بكل ما جاء من تعاليم في هذا الدين ..  لذلك سيحاسب كل انسان على هذا الاختيار ..
الامر الثاني ليس للانسان اختيار فيه  ، لذلك كان في التكليف بالرسالة تشريف للرسول صلى الله عليه  ولقومه ، دون أي تناقض لهذا الجانب مع الآخر ..
وعل هذا الاساس نفهم الواقع المسلــّــم به منذ نزول الوحي ، حيث كان الانتماء إلى الإسلام ولا يزال اختياريا بالدرجة الأولى . قال تعالى : " قل الحق من ربك فمن شاء فـليـؤمن و من شاء فـليكـفـر " . ( الكهف / 29 ) .
أما الانتماء إلى العـروبة أو إلى غـيرها من الانتماءات القومية أو القبلية ، فلا يكون خاضعا لأي اختيار . لذلك اعـترف القرآن مبكرا بهذا الوضع الذي بدأ بتـعـدّد  الأسر حـتـى وصل إلى تعـدّد الأقوام والأمم .. قال تعالى : " و ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه " . ( إبراهيم / 4) .. وهو ما يؤكد كذب  كل من يدعي بان الاعتقاد في الانتماء القومي أو الحديث عنه " كفر " أو " منكر " لان الكفر خاص بمسائل ايمانية اختيارية ، وليس بمسائل خارجة عن ارادة الناس ، فمن منا اختار انتماءه الى اسرة ، أوالى قبيلة ،  أوالى قوم ..؟؟
إن العـروبة بهذه المعاني البسيطة هي علاقة انتماء إلى وضع تاريخي ، نشأ في ظـروف معـينة كان الإسلام أحد العناصر الفاعلة فيها ، وانتهى خلال حقب طويلة من التفاعل والتطور ، إلى ظهور مجتمع متميز في كل شئ وليس ممتازا في أي شئ عـن بقية المجتمعات الأخرى : الأوروبية والإفريقية والآسيوية ، التي تطورت بدورها في ظروف خاصة لتتحوّل إلى أمم شتى ، أخبرنا الله أن أكرمها عـند الله أتقاها .. وهذا ينطبق حتى على المجتمعات التي كانت منضوية يوما ما تحت سقف دولة واحدة هي دولة الخلافة ، مثل ايران وتركيا واسبانيا ..
أما الإسلام فهو علاقة انتماء إلى وضع الهي ، غـير خاص بالعـرب وحدهم  ، وغـيـر محدود في الزمان والمكان .. وهو دين موجه للناس كافة ، في جميع العصور ، يستطيع من يشاء من عباد الله ان يختاره دينا  فيصبح فردا من المسلمين .. وكما يمكن ان يكون العربي مسلما ، يمكن أن يكون المسلم منتميا إلى أي مجتمع من المجتمعات التي تملأ الأرض ، دون أن يكون هناك تناقض بين الانتماء الى الدين والانتماء إلى الوطن ..
***
 (6) .

العروبة هي ذلك الوضع الذي انتهى اليه تطور مجتمعـنا العـربي بعد 14 قـرنا من التفاعل الحـرّ بين جميع مكوناته العـرقـية والاثـنية ، القبلية والشعوبية التي تكونت على مر العصور ، وعلى امتداد الوطن العربي بين المحيط والخليج .. فهو مجتمع يضم كل من عاش في ربوعه واسهم مع غـيره في صنع نسيجه الحضاري في ظل الاسلام الذي اسهم بدوره في توحيد كل المكوّنات الموجودة عند دحول الفاتحين .. وقد مثلت اللغة العـربية التي جاء بها القرآن ، وسيلة  للتواصل والتفاعل حتى صاروا على مدى تلك الحقب الطويلة امة واحدة ، لها ماض وحاضر ومستقبل ، وآمال مثل غيرها من الامم ...
أما الاسلام فهو دين ذلك المجتمع الذي بدأ جـنـيـنيا في دولة المدينة منذ ان بناها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، وجعل لها دستورا ينظم الحياة بين جميع مكونات تلك الدولة الناشئة التي أرسى اسسها على الانتماء للوطن .. معـبرا في نفس الوقت عن تعدّد المنـتـمـيـن دينيا وعـرقـيا ، فكان ذلك ايذانا بقـبول الاسلام  للتعايش والاختلاف ممهّـدا الطريق للوحدة التي قامت على ذلك الاساس لاحقا عـندما تمدّدت دولة الاسلام وشملت شعوبا كـثـيـرة ، وقـبائل تفاعلت في ظل المحبّة والاخوّة الدينية التي زرع  بذورها بـيـنهم ، ومنحهم  لغة القرآن للتواصل حتى صاروا أمة مسلمة ..
هكذا عاش اجدادنا على مدى قرون طويلة يدافعون عن العـروبة في ظل الاسلام ، كما يدافعـون عن الاسلام  في ظل العـروبة ، لان شخصيتهم الحضارية السوية التي لم تـتشوّه بالشوائب التي عرفتها المدنية الحديثة .. و لم تتسرب اليها تلك المفاهيم المشوّهة لتاريخ الشعوب والأديان ، انما تكونت لدى العامة على اساس شعورهم الطبيعي بالانتماء الى الوطن والدين ..
فمن المعروف أن الوطن العربي قد شهد حملات متتالية على مدى قرن كامل من الزمن أولها الحملات الصليبية ، ثم حملات التتار .. التي تصدى لها كلها قادة عظام أدركوا مفهوم الامن القومي ، ودور الوحدة في صنع النصر ، فلم يتردّدوا في تحقيق شروطه ، وأولهم صلاح الدين الايوبي قاهر الصليبيين الذي واجه اعداءه بعد أن سعى لتوحيد أقطار الامة المتفرقة ، حين قام بضم جيوش الشام الى مصر واليمن ، للخروج بها تحت قيادة واحدة .. ورغم دحـر الغـزاة بعد ذلك في آخر المعارك سنة 1291م في عكا بلبنان ، فان الغـرب لم يكفوا عن التفكير في الرجوع للسيطرة على الوطن العربي ، لعل أهمها حملات نابليون بونابرت على مصر وبلاد الشام سنة 1798م ، والتي تبعـتها موجات استعمارية جديدة انتهت في مطلع القرن التاسع عشر الى تقسيم الوطن العربي الى دويلات ضعـيفة ، لا تـقـدر الواحدة منها عـلى البقاء الا محتمية بمظلة المستـعـمـر ... وطوال تلك الأحداث لم نرى انقساما  في صفوف  العرب حول مفاهيم تتعلق بالدين والوطن الا بعد ظهور حركات الاسلام السياسي خلال النصف الاول من القرن العشرين ..  حيث كان المجاهدون يدافعون عن العروبة والاسلام ككل متكامل لا يتجزأ .. فهو دفاع عـن الاسلام حينما يشعـرون بالعدوان على الدين ، وهو دفاع عن العـروبة حينما يرون خطرا على وحدة الامة واستهدافا للغـتها وتاريخها وتراثها وحضارتها بشكل عام .. وهؤلاء  لا يعـرفون أنصاف الحلول .. ولا يعرفون ولاءا  لغـيـر الله والوطـن ..
اولائك نذكرهم فـنتذكر مواقفهم العظيمة وأقوالهم الخالدة ..
نذكر على سبيل الذكرالمجاهد عمر المختار ومقولته الشهيرة " نحن لا نستسلم ، ننتصر أو نموت " .. ونذكر  مقولة الشيخ بن باديس وهو يجاهد ضد المستعمر الفرنسي في الجزائر" والله لو قالت لي فرنسا قل لا اله الا الله ما قلتها " ..
ونذكر ايضا عزالدين القسام الذي رفض  منصب القضاء في سوريا تحت مضلة المحتلل الفرنسي ، والذي قاد اول مسيرة احتجاج ومساندة لليبيا ضد الاحتلال الايطالي وهو القائل " إن كنتم مؤمنين فلا يقعدنّ أحد منكم بلا سلاح وجهاد"..
كما نذكـر من هؤلاء الرجال الاشدّاء  : الشيخ عبد القادر الحسيني القائد الذي استشهد وهو يقاوم العصابات الصهيونية في معارك غـير متكافـئة لمدة ثمانية ايام ، والذي عاش يقاوم جميع انواع المستعمرين  في سوريا وفلسطين والعراق ومصر ..
ونذكر كذلك عبد العزيز الثعالبي ومواقفه القومية وهو الذي طاف كل أنحاء الامة مدافعا عن قضياها ، فكان تنقله بين المغرب والمشرق خير دليل منه على ايمانه بوحدة قضاياها ومصيرها  ..
وهؤلاء جميعا هم انصار العـروبة والاسلام ..
اما في أيامنا ، فان الجهلة ابتدعوا بدعة جديدة لم يعرفها الاولون ، وهي معادات العـروبة بالاسلام ، وهم في الواقع لا يفعلون سوى تـفـتـيـت الامة باثارة صراعات وهمية بين مكوناتها التي تمثـل مرتكزات اساسية يقوم عـليها توازنها ، بعد أن استقر عليها وجودها واكتمل ، فصارت بها مجتمعة امة عربية مسلمة ..  

***
(7) .

تبدو بعض فصول الصراع الدائر في الوطن العربي اليوم ، وكأنها تدور حول طبيعة المجتمع الذي نريده في القرن الواحد والعشرين ، هل هو مجتمع  العـروبة ، أم مجتمع الإسلام ؟  والواقع فان ما يثيره الجاهلون بالقومية والإسلام من معارك جانبية كانت ولا تزال سببا في تأخر العرب  والمسلمين على حد السواء ..  لان هؤلاء لم يفهموا الى حد الآن ان العـرب هم الذيـن بدأوا في نشر الإسلام إلى العالم منذ قرون قـبل أن يصيروا أمة .. وسيظـلون حاملين لواءه الى يوم القيامة .. ولعلهم لو كفوا عـن الجدل العقـيم حول العـروبة والإسلام ، لانـتهـى الأمر في هذه الأمة لما فـيه الخـيـر للعـرب والمسلمين .. فمن ذا الذي  سيأتي بعد توحيدها ليتحدث عن التجزئة والوحدة ان كانت عـربية أو إسلامية ؟ لا شك انه سيكون أمرا غـريبا و مثيرا  للسخرية في نفس الوقت .. في حين سيبقى العمل الإسلامي متواصلا دون انقطاع طالما ان الإسلام دين يتجاوز قيود الزمان والمكان ..

ورغم ذلك فان مواقف المشككين والمناهضين للوحدة العربية ، تقام في أغلب الاحيان على خلفية دينية ، يتزعمها بالاساس دعاة وشيوخ  لا يدخرون جهدا  في التهجم عليها ، والعمل على افشالها .. ثم يطـرحون بديلا عـنها فكرة الوحدة الإسلامية التي لا تستقيم دعوتها عندهم  الا وهي تقطر حقدا وكراهية لكل ماهو فكر وحدوي في الوطن العربي  .. وهي ـ على هذا الوجه ـ دعوة جاهلة وغـبية وفاشلة في أن واحد ..
وهي جاهلة ليس لأنها تدعو لوحدة المسلمين ، بل لانها تتجاهل العوامل الموضوعـية التي تساعد أو تعـيق الوحدة ، و لا تعطي اهتماما للأولويات .. اذ أننا حتى لو سلمنا بفكرة الوحدة الإسلامية فإننا لا يجب ان نرفض فكرة وحدة العـرب باعتبار أنهم مسلمون من ناحية ، ثم ان عوامل توحيدهم قائمة باعتبار العوامل النفسية واللغوية والحضارية من ناحـية ثانية ..
و هي غـبية  لان مناهضة الدعوة الى الوحدة القومية هي في الاصل دعوة مناهضة  لتقدم العـرب الذين يمكن أن يحققوا ـ بتقدمهم كأمة مسلمة موحدة ـ  خدمة كبيرة للإسلام كدين في مشارق الارض ومغاربها ..
ثم انها دعوة فاشلة لأنها ليست قائمة على أسس موضوعـية ، بل مبنية على فهم خاطئ للاسلام  وعلى ردود فعل انفعالية تجاه الفكـر القومي .. فهم لا يلتفـتون إلى حقـيقة الوجود القومي كواقع لم ينشأ اعتباطا أو عـبثا  .. وقد حاولت روسيا تجاهله من قـبل حين ضمّت أمما مختلفة وعمدت لتوحيدها قصرا ، فلم تفلح في إلغاء وجودها القومي رغم كل المحاولات  التي بُذلت ، لان ما صـنعه التاريخ وقوانين التطوّر والسنن الإلهية لن يتغـيّـر بالأمنيات أو بالرغـبات العاطفية البعـيدة كل البعد عـن أي أساس واقعي .. وقد كان ممكنا نجاح التجربة الروسية في توحيد قوميات مختلفة  لو جعلتها تتفاعل في ظـروف ملائمة تؤدّي الى القبول بالتعايش والانصهار التدريجي في ظل الديمقراطية والمساواة ..
ولعـل كل رجال الدين او اغلبهم يستـندون في  رفضهم على فهمهم للدين حتى وهم يجـتهدون في مسائل الدنيا .. على أساس أنهم العارفين وحدهم بكل جوانبه ،  من أول تاريخ الأديان ، إلى السيرة النبوية ،  وسيرة الصحابة ، الى كل الاصول والفروع المتعلقة بعلوم الدين .. بل هم من حفظ  القرآن والحديث   صحـيحه  وضعـيـفه .. وهم من عرف الأسانيد والطبقات ورجالها ،  كما عرفوا ما قاله التابعون وتابعو التابعـين ، واستوعبوا القياس والإجماع  الخ ... !!
فماذا ينقص هؤلاء الشيوخ المجتهدين بعد هذا إذن ؟
ما ينقصهم فعلا هو الموازنة بين علوم الدين وعلوم الدنيا ... اذ هم في الغالب يهتمون بعلوم الدين ولا يلتفتون الى عـلوم الدنيا ، فتاتي آراؤهم الدنوية في اغـلبها غـيـر صائبة ، وغـيـر موضوعـية ، وهذا في أفضل الحالات ، أي اذا سلـّـمنا قطعا بأن ما يقولونه في تلك الاجتهادات المتعـلّقة بالدين ترتقي فعلا الى مرتبة العلم ، وهي مسألة ثانية يطول فيها الحديث ..
أماّ من النواحي الدنوية ، فهم إذا ذُكر الوجود القومي  أنكروه واستـنكروه ، دون برهان علمي ، وإذا  ذُكـر الفكر القومي ، لا يعـرفون منه إلا ما رشح عن تجارب الاروبيين  ، أوما يروّجه السياسيون المعارضون للمشروع القومي .. وهم في الغالب أيضا ، يجهلون المراجعات ، والمفاهيم العميقة ، والاضافات الجوهـرية ، التي شهدها الفكر القومي خلال العـقود الأخيرة ... فتجدهم  إذا اجتهدوا في هذه النواحي ، يخلطون بين وضع الإنسان الاجتماعي حيث تربطه علاقات متداخلة لا حصر لها بمن يعيش معهم ، في وضع إنساني نشأ منذ آلاف السنين قـبل ان يأتي الى الوجود أيّ دين ، ثم لم يستقر على ما هو عليه ، بل انطلق الى الامام  في نمو واضافة ترتقي بالمجتمعات من طور الى طور دون توقف .. وبين الاسلام كدين أنشأ علاقات جديدة ذات أبعاد دينية واجتماعـية بعضها يقـتصر على المسلمين وبعضها الآخـر لا يقتصر عليهم وحدهم ..  فكانت كل مضامينه اغناء لحياتهم دون انتقاص لوجود سابق .. وقد كان للاسلام اثر خاص على كل البنى الاجتماعية الموجودة في عصر النبوة بين المحيط والخليج ، العشائرية منها ، والقبلية والشعوبية ، بعد ان أخذها جميعا ليجعلها تتطور كما لوكان يدفعها دفعا الى ذلك من خلال ما وفره لها من اسباب الاستقرار ، والتفاعل ، والتواصل ، والانصهار ، للانتقال بها جميعا الى مراحل أكثر نمو وأكثر ارتقاء تحولت عـندما نضجت ظـروفها الى أمة مكتملة التكوين  ...
فهل هذا الوضع صنعه القوميون العرب الذين لم يظهـروا الى الوجود الا في مطلع القرن الماضي مع موجات الغـزو الاروبي ، وبالتوازي مع موجات التـتـريك ، أي بعد ان اكتمل الوجود القومي بالف عام تقريبا ، أم أنه واقع صنعه المسلمون الفاتحون فعلا ، عندما خرجوا حاملين لواء الاسلام  وتكـبّـدوا تلك التضحيات لنشر الدين ،  فوحّدوا شعوبا وقبائل لم تكن لتتـوحّـد تلقائيا وتتحول الى أمة واحدة لو لم يكن ذلك الجهد الخارق للمسلمين الاوائل  ؟
ألا يقولون بأن " العالم " إذا أراد أن يجـتهد في مسائل دينية مثل  الحلال  ،  و الحرام ، والميراث ، والبيع ، والشراء ، والمعاملات ، جميعا ،  عـليه ان يتسلح  أولا بعـلوم الديـن .. ؟              
بلا ..
ولكن هذه القاعدة معناها أيضا أن الاجتهاد  في أمور الدنيا  ، يلزمه التسلح بأسلحتها التي لا يكتمل الاجتهاد الا بحضورها في ذهن المجتهد  ، وخاصة إذا كان المجال يتعلق بمصير الأمم  ومستـقـبلها ..
 وهو ما يعـني ضرورة الإلمام بكل المعارف الدنيوية كالتاريخ  ، والفلسفة  ، والاقـتصاد ، وعلم الاجتماع  وكل فـروع العلوم الحديثة ومناهجها ... 
أما إذا كانت مسالة الإلمام بعلوم الدين والدنيا هي مسالة لا يقدر عليها  رجال الدين ، الا ينطبق عـليهم حينها قول الله تعالى : ﴿ فاسألوا أهل الذكـر إن كنتم لا  تعلمون ﴾  . إذ أن  في مسائل الدنيا  يصبح  أهل الذكـر هم المختصون في جميع هذه المجالات ، وهم المؤرّخون وعلماء الاجتماع ، والفلاسفة ، وعـلماء الاقـتصاد ، وغـيرهم كثير في جميع مجالات العلوم الدنوية ..   
***
 (8) .

الإسلام دين عالمي ، لذلك يمكن أن يدخل لأي أمة على وجه الأرض ، ليصبح من يشاء من عباد الله عبدا مسلما حينما يلتزم بأوامر ونواهي هذا الدين .. والإسلام بهـذا المعـنى الشامل  يمثل دائرة انتماء واسعة تشمل جميع المسلمين في العالم ، فتكوّن ما يسمّى بالأمة الإسلامية ، التي يتميز أبناؤها في أي مكان ، بكل ما يميز المسلمين عن غيرهم .. كجماعة لها خصوصيات  دينية خاصة ، وتجمعها علاقات وروابط بعضها روحي وبعضها مادي بحكم الالتقاء على تنفيذ شعائر الإسلام .. غير أن مثل هذا الانتماء لا ينفي اختلاف المسلمين الذين ينتمون الى مجتمعات مختلفة تميـز المسلمين بخصوصيات لا يمكن للانتماء الديني أن يلغـيها ، وهي خصوصيات قومية أساسا ، تميزهم  لغة وتاريخا وحضارة ومشاكل أيضا تتطلب المعالجة  المختـلفة لايجاد الحلول المناسبة لكل مجتمع ..
 تلك الخصوصيات التي تتميز بها المجتمعات  تؤدّي الى فرز اللغة القومية والتاريخ القومي والحضارة القومية والمشاكل القومية والحلول القومية أيضا التي تساهم في تطوير ذلك المجتمع القومي حتى وان كانت جميعا أمما مسلمة .. 
وفي إطار تداخل دوائر الانتماء نستطيع أن نتجاوز كل ما يثيره الجاهلون من تناقص بين هوياتنا المحلية والجهوية والاثنية والعرقية والدينية ، التي يريدها البعض ان تكون متصارعة بافتعال التعارض بين هذه الدائرة أو تلك ..
فنحن أولا مسلمون ننتمي بإسلامنا إلى الأمة الإسلامية التي يفرض عليها دينها ان يكون الإيمان بالرسالات السابقة  شرطا من شـروط الإسلام ، وبالتـالي فـان تاريخ الاديان بكل ما فـيه من مضامـيـن روحـيـة نقـيــة من كـل الشـوائـب والتحـريف والشبهات يعـتـبـر جـزءا لا يتجـزأ من تاريخـنا منذ آدم ونوح وإبراهيم حـتى الآن ..
ونحن ثانيا مجتمع عربي واحد ، تجمعـنا هويتنا العـربية وتاريخنا العربي الواحد ، فـنـنـتـمي الى الامة العـربية وبالتالي فان تاريخ كل الشعوب والقبائل التي عاشت قبلنا تمثل جزءا لا يتجـزأ من تاريخـنا .. فالحضارة الفـرعونية حضارتـنا ، وكذلك الشئ بالنسبة للحضارة القرطاجية والحضارات العـربية قـبل الإسلام والحضارات البابلية والامازيغـية الخ .. كلها جميعا  حضاراتـنا .. وبهذا يكون المجتمع القومي وعاءا يستوعب كل المكوّنات السابقة على وجوده ، والتي يمثل كل واحد منها دعامة أساسية في بنيته الحالية ، حيث  لا يكتمل وجوده الا بها ، وهذا أيضا ينفي ما يقال على أن جزءا من الأمة يمثل أقـلية داخلها ، سواء كانت دينية أو مذهـبية أو عرقـية كما يقال عن البـربر ( الامازيغ ) فهؤلاء جميعا يمثـلون جـزءا لا يتجزأ من النسيج القومي  الذي أصبح  لا يكـتمل إلا باجتماع تلك المكوّنات .. ولعل ما ينفي صفة الأقـلية عـنها هو عدم وجود قوميات مجاورة مستقـلة في آن واحد يمكن أن تنظمّ إليها أي جماعة من تلك الجماعت التي تحتجّ بتاريخها القبلي السابق على الوجود القومي .. والذي يمكن أن يستمر في ظل المجتمع القومي كما يستمر الانتماء الى القـرية أو الى المدينة  دون تعارض أو تـناقض بـيـن هذا وذاك  ..
والواقع فان ما يثار من جدل حول كل هذه المواضيع لا يمكن فهمه الا في اطار نظرة تاريخية شاملة ترصد من ناحية تطور المجتمعات الانسانية عامة ، وترصد من ناحية أخرى تطور المجتمع العربي خاصة ..
وفي اطار القراءات التاريخية الخاطئة ، نجد ذلك الفهم الذي ينظر الى دولة الخلافة خارج سياقها التاريخي كدولة امبراطورية لم تكن خاصة بالمسلمين وحدهم ، لا من حيث البناء الهيكلي والعلاقات في الداخل ، حيث شهدت نفس البنية التي عرفت بها كل الدول في تلك الحقبة ، ولا من حيث علاقاتها بالخارج حيث اتبعت نفس الاسلوب في الدفاع عن نفسها من خلال التمدّد والتوسّع على حساب الشعوب الاخرى التي سعت الى ضمها حتى وصلت ـ مثلما وصلت كل الامبراطوريات في عصرها ـ  الى ما خلف البحار ، والى  قارات أخرى مجاورة للقارة التي انطلق منها الزحف ..
وهكذا ، نجد ـ في جانب العلاقة بالخارج  ـ أن ما قام به العرب المسلمون الفاتحون لا يمكن فهمه الا في اطار تلك المرحلة التاريخية التي عاشتها البشرية ، وهي التي قامت على مسلمة معروفة في عصر الامبراطوريات ، تتمثل في ما يسمى بـ " حق الفتح  " الذي يقبل به الغالب حينما يضم مجتمعات جديدة تحت سيطرته ، كما يرضى به المغلوب  الذي يبقى تحت السيطرة حتى تاتي ظروف جديدة تحرّره من ذلك الوضع ، على غرار ما حدث في اسبانيا تحت  الحكم العربي الاسلامي ، او بالنسبة لمجتمعات اخرى في اروبا كانت خاضعة للدولة العثمانية ، ومثلما حدث ايضا لابناء الشام والعراق وشمال افريقيا وغيرهم الذين كانوا خاضعين للهيمنة الرومانية والبزنطية والفارسية .. ومن هذه الزاوية يمكن أن نعتبر الفتح العربي الاسلامي تحريرا لهم من نير العبودية التي ظلوا يعانون منها قرونا طويلة  ..  وهذا من حيث الشكل الذي كان يحكم الصراع بين المجتمعات في ذلك العصر ويتحكم فيه .. اما من حيث المضمون فلا أحد يستطيع ان ينكر المضمون الحضاري الذي جاء به الاسلام وهو يمارس عملية " الفتح "  للمجتمعات المجاورة في اطار الدفاع عن الوجود حيث ان الجماعات التي تنكفئ على نفسها ياتيها الغزو من حيث لا تدري ، وهو ما فرض عليها منطق العصر  : " خير وسيلة للدفاع هي الهجوم  " .. لان من لا  يغـزو ، يُعـزى .. وهكذا كانت الفتوحات بالنسبة للمسلمين ذات وجهين : وجه دفاعي ، ووجه تبشيري ـ جهادي محكوم بضوابط هي نفسها ضوابط الاسلام ونواهيه :  " لا تقتلو شيخا ، ولا تقطعوا شجرة  .. " ـ  على عكس الاسلوب الذي كان جاريا بالنسبة لجماعات اخرى غازية .. ولم ينته هذا الوضع الا في نهاية الحرب العالمية الاولى حينما اتفقت الدول المنتصرة في الحرب على انشاء ما اسموه " عصبة الامم " ايذانا بقيام الهيمنة بطرق جديدة   ..
أما في جانب العلاقة بالداخل ، فان الخلط امتدّ الى اثارة تناقضات حادة تتعلق اساسا بمفاهيم خاطئة حول الهوية تحديدا .. ومنها تلك القضايا التي أصبحت سببا مباشرا لكل الصراعات العنيفة داخل الامة ذات الابعاد الطائفية والعرقية والمذهبية ، بسبب سوء الفهم لطبيعة العلاقات داخل المجتمع الواحد الذي لا يمكن ان يُـلغى فيه التنوّع والاختلاف باي شكل من الاشكال ..
ولعل من بين تداعيات تلك المشكلة ، ما يطرح من مفاهيم  للاقليات داخل المجتمع العربي على غرار " الامازيغية " التي يتم طرحها حاليا بتحريك  من الدوائر الخارجية ، ومنها الفرنسية تحديدا  ، وهو حديث يبدو فيه كثير من الافتعال ، باعتبار أن  المجتمع الذي تعيش فيه تلك الجماعة أو غيرها ، تعيش فيه ـ في الأصل ـ جماعات متنوّعة ومتعدّدة ، ككل المجتمعات .. لذلك  فان هذا الاهتمام المبالغ فيه ، يخفي في واقع الأمر نوايا كثيرة منها محاولات التفجير داخل المجتمع ، على غرار ما كان يحدث فعلا في اماكن عديدة منذ عقود ، مثل السودان ، والعراق ولبنان ، وهي الآن تستهدف سوريا ، ومصر ، والجزائر ، ولا تتوقف عند اي منها ، بل تتواصل باشكال مختلفة بعضها  ظاهر وأغلبها  خفي ، أو مندس تحت شعارات براقة باسم حقوق الانسان وحقوق الاقليات ، لكنها في الواقع ،  تهدف لتحقيق أغراض باتت غير خافية على الجميع  ..
وتأكيدا على وجود تلك الخلفيات ، فان المتأمل في حياة الامازيغ ، لا يجد أنهم يقعون فعلا تحت  اي نوع من أنواع القهر المادي او المعـنوي الموجه اليهم  بشكل خاص ، مستهدفا اصولهم العرقية أو الثقافية ، ولا نجد أن مطلبهم يعبر عن مشكل حقيقي يشعر به كل الامازيغ .. فهؤلاء ان كان يهمهم احياء تراثهم ، فلا احد ينهاهم عن ذلك ، وان كانوا يريدون التخاطب بلغتهم القبلية البائدة ، فلا أحد يلجمهم ، ونحن نرى ان كل الخصوصيات الثقافية المتنوعة في مجتمعنا تعبر عن نفسها بحرية  سواء في الافراح او في الاطراح ، وفي الحياة العادية دون تدخل من أحد .. وحتى ان وجد تعسف عليها ، فهو لا يخصها وحدها لان حرية التعبير وحرية النشاط الثقافي والسياسي مكبلة في الوطن العربي تحت وطأة الاستبداد الذي يذهب ضحيته كل ابناء الشعب دون استثناء ..  
فاين امشكل اذن ...؟؟
المشكل هو كما يقول الجابري ، في طرح الاحياء الثقافي من خارج سياقه التاريخي المرتبط باتجاه التطور من خلال " ربط الماضي بالحاضر في اتجاه المستقبل " .. والمشكل ايضا كما يقول الجابري ايضا ، هو في الاختراق الثقافي والحضاري الذي يبحث عن ارضية مناسبة تمكنه من تحقيق أغراضه في الهيمنة التي تتمظر في عصرنا باستهداف الوجود القومي للامم من خلال تحريضها على احياء خصوصياتها الحضارية القبلية والشعوبية و الطائفية والعرقية ، وجعلها في مواجهة كيانها الجامع وهو الامة أو المجتمع القومي ، رغم ان تلك الخصوصيات موجودة ايضا في المجتمعات الاخرى الغازية لمجتمعنا .. ومن هنا تكون الدعوة الى طرح الامازيغية بهذا المفهوم ، هي دعوة رجعية فاشلة تعود بالمجتمعات الى الوراء ، ولا تحل مشكلة حقيقية في الواقع الذي يتجه في مجتمعات اخرى متقدمة الى النمو والاضافة على تلك القاعدة المرتبطة بالهوية كما عبر عنها الدكتور صبحي غندور تعبيرا دقيقا قال فيه : " للإنسان ، الفرد أو الجماعة ، هويّاتٌ متعدّدة ، لكن الهويّات ليست كأشكال الخطوط المستقيمة التي تتوازى مع بعضها البعض فلا تتفاعل أو تتلاقى ، أو التي تفرض الاختيار فيما بينها ،  بل هذه الهويّات المتعدّدة هي كرسوم الدوائر التي يُحيط أكبرها بأصغرها ، والتي فيها ( أي الدوائر) " نقطة مركزية " هي الإنسان الفرد أو الجماعة البشرية . هكذا هو كلّ إنسان ، حيث مجموعةٌ من الدوائر تُحيط به من لحظة الولادة ، فيبدأ باكتشافها والتفاعل معها خلال مراحل نموّه وتطوّره : من خصوصية الأم إلى عمومية البشرية جمعاء  . "
وفي هذا الاطار فان الانتماء الامازيغي لا يعبر عن انتماء مستقل بذاته عن الانتماء الذي استقر عليه المجتمع العربي منذ الفتح العربي الاسلامي الى اليوم والذي تحول به من مرحلة الوجود القبلي الذي ميز تلك العصور ، الى المجتمع القومي الذي يعتبر اضافة وليس انتقاصا من المجتمعات القبلية التي اشتركت من خلال تفاعلها في بناء هذا المجتمع الجديد ، متخطية تلك المراحل السابقة التي لم تعد تجد لها تعبيرا في الواقع الا بعض المظاهر الحضارية القديمة المعبرة عن حضارتها القبلية البالية ، في حين انتقلت بمرور الزمن وهي تتفاعل مع جماعات جديدة في بناء حياة مشتركة ، هي حياتها الحالية ، وساهمت في انتاج  حضارة جديدة هي الحضارة العربية الاسلامية المميزة لمجتمعنا في الوقت الراهن .. وفي هذا الاطار الجامع للمجتمع القومي الواحد تتحول كل المراحل التاريخية الخاصة بتلك المجتمعات الى خصوصيات قومية تهم كل افراد المجتمع القومي دون استثناء ..
أما الحل فهو بالتأكيد لا يكون بالخروج عن السياق التاريخي الذي نشأت فيه تلك الجماعات ، بل بالقبول بما انتهت اليه صيرورة التطور وقوانينه الحتمية التي فرضت تلك التحولات العامة والشاملة على المستوى البشري ، فلم يعد ممكنا الرجوع الى الوراء تلبية لرغبة هذه الفئة او تلك  الا بتدمير وحدة المجتمعات .. والسبب كما قال الاستاذ حبيب عيسى " إن الأمة العربية ليست تكويناً عرقياً ، أو عنصرياً ، أو قبلياً ، أو دينياً على الانفراد ، وإنما هي حصيلة تفاعل حضاري بين مكونات متعددة الأرومات ، والحضارات ، والعقائد ، لا امتياز لواحد منها على الآخر ، ولا طغيان لأحدها على سواه ، فتلك المكونات على قدر المساواة في الحقوق ، والواجبات في إطار من المواطنة الحقة " .. ومنه نتعلم أن الحل لا يكون بمحاولة الافلات من المصير المشترك ، بل بالعمل على ارساء الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والقبول بالاختلاف والتنوع في جميع مظاهره ، في اطار المصلحة العامة  داخل المجتمع الواحد .. وفي اطار النظرة المستقبلية التي تحرر الانسان من الانغلاق ، وتدفعه الى التحليق في فضاء الانسانية الرحب ..

اليس ديننا انسانيا خالصا .. ؟؟
***
 (9) .

لكلّ زمان جهلة . و جهلة هذا الزمان في الوطن العربي هم الذين يناهضون العروبة بالاسلام  ، فيرفضون ظاهـرة إنسانية لم يفتعلها بشر بل أوجدتها السّـنن الكونية التي وضعها الله ، والتي جعلت المجتمعات البشرية ترتقي من طور الى طور، ممتدّة من الأسرة إلى العشيرة إلى القبيلة ، إلى الأمة .. فـتــمـدّدت في المكان حتى غطت جميع أنحاء المعمورة .. و قد كان حري بهم إن يتأملوا هذه الظاهرة ، ويفهموا أسرارها بدل أن ينكروها .. ليعرفوا أنها ليست مجرد حالة شاذة و معـزولة لا يُعـتـدّ بها ، بل هي ظاهـرة إنسانية عامة غير مقـتصرة على دعاتها من العرب بحكم  هذا التخلف التاريخي الذي وقعوا فيه .. 
واذا كان في تاريخ البشرية ما يثبت أن الامم قائمة فعلا ، فان في تاريخ الأديان أيضا حقائق تثبت أن الأديان لا تتعارض مع الأوطان .. وهي التي جاءت داعية الى عقيدة التوحيد ، ومسايرة  لتطوّر المجتمعات .. ويكفي أن  نتأمل  علاقة الوضع القبلي بالدين لنقيس عليها علاقة الإسلام بالأمم ، باعتبار أن عصر القوميات لم يكن سائدا في عصر الإسلام .. وبهذا  نستطيع أن نحكم عن علاقة الدين بأي وضع اجتماعي قبلي أو قومي  .. 
في البداية كان الوضع القبلي والعشائري هو السائد ، فكانت الأديان موجّهة لأقوام دون غيرهم ( مجتمع قبلي ) ، وقد كان الخطاب الديني ذاته خطابا قبليا خاصّا ، يبلــّــغه رسول خاص .. ( قوم ابراهيم ، قوم نوح ، قوم موسى ، قوم لوط ، قوم عاد .. ) حتى جاء الإسلام بدعوته الإنسانية الشاملة ليكون للناس كافة .. ثم دعاهم بالحجج العـقلية فاعتنقوا هذا الدين وصاروا مسلمين يأمرون بالمعـروف وينهون عن المنكر .. ولما كان الدين وضعا إلهيا قائما على الإيمان فحسب في حين أن القبيلة وضع تاريخي قائم على الانتماء إلى قوم ، فان اعتناق تلك الرسالات السماوية لم يترتب عنه افتعال تناقض بين الدين والوضع القبلي في تلك المرحلة .. ولم يكن الرسل وأتباعهم متعصّبين للدين على حساب انتمائهم لأقوأمهم وقبائلهم  .. 
وهكذا جاءت الأديان مسايرة لوضع الناس في جميع العصور، فآمن من آمن وكفر من كفر ، وتوعد الله سبحانه من خالف رسالاته بالعذاب في الآخرة ، وعاقب بعضهم في الدنيا ، فارسل عليهم ريحا صرصر ، أو أغرقهم في الطوفان أو في البحر .. و بشــّــر من آمن منهم بأحسن الجزاء .. وكان ذلك يتم في الحالتين على أساس معتقدهم وايمانهم الذي يختارونه بأنفسهم ، وليس على اساس انتمائهم الاجتماعي الذي لا دخل للاختيار فيه .. لذلك لم ترد ولو كلمة واحدة تنبه الى ضرورة الفصل بين الدين والوضع الاجتماعي السائد في عصر القرآن ، أو تدعو الى التفاضل بينهما و محاربة أحدهما للآخر كما يعتقد الكثيرون اليوم ، وهو الذي اخبرنا بتفاصيل دقيقة عن تلك الرسالات ، وجوهرها ، فتحدد نوع العلاقات والاحكام التي يجب ان تسود بين الناس .. وهذا ما ينفي كل ادعاء بوجود تناقض أو تعارض بين الدين والقومية ، أو بين الإسلام والعـروبة ، سواء في تعاليم الأديان أو في الواقع .. لان التعدد القومي في عصرنا ظاهـرة لا يمكن إنكارها وهي سمة من سماته ، مثلما كان التعدد القبلي خاصية من خاصيات العصور السابقة .. وقد أشار القرآن بشكل صريح وواضح في العديد من الآيات الى تعدد الأقوام والشعوب والأمم ، وتمايز الناس فيها بألوانهم ولغاتهم التي تنطق بها السنتهم ، كأفضل تعبير عن تطوّر المجتمعات وفقا لسنن الخلق التي لا يمكن الغاؤها أو محاربتها  .. 
والقومية في النهاية لا تمثل خروجا عن الدين أو المعتقد أو العرف ، بل هي مجرد اعتراف بوضع تاريخي متطوّر وغير ثابت ، قائم على الإقرار بأننا امة واحدة مع ما يترتب عن ذلك من سعي لتحقيق تلك الوحدة في اطار هذا الإقرار ... و تـنـتـفي الدعوة إليها وتـنـتهي بتحقـــّــق غايتها ، كما انتهت تلك الدعوات في المجتمعات التي بلغـت وحدتها القومية  ..
أما الإسلام فهو وضع الهي دائم غير مرتبط بالوضع الاجتماعي ، و قائم على الإقرار بان لا اله إلا الله وان محمدا رسول الله ، مع ما يترتــّــب عن ذلك من التزام بقواعد الإسلام عـند كل مسلم في إطار هذا الإقرار ... دون أن يفقد انتمائه إلى وطنه ، أو مدينته وقريته وأسرته .. أوان يناقض ذلك علاقته بجميع المسلمين في بقية الأمم الأخرى   .. 
لذلك فان اي دعوة في عصرنا تناهض الدعوة الى الوحدة القومية هي دعوة باطلة ، وفاشلة وجاهلة في آن واحدر  ..
هي دعوة باطلة لأنها ليست من روح الإسلام الذي اعترف بالتعدد على خلفية الانتماء القبلي والشعوبي كما كان سائدا في عصر الإسلام فقال تعالى : ( وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم ) ، كما اعترف بتعدد الأمم فقال سبحانه : ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ) .. كما اعترف بكل أنواع الاختلاف والتعدد ومنها تعدد اللغات والألوان حينما قال : ( ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم ان في ذلك لآيات للعالمين   )  ..
وهي دعوة فاشلة لأنها لا تساير عصرها الذي هو عصر القوميات كما هو ظاهر في مشارق الأرض ومغاربها ..
ثم هي دعوة جاهلة لأنها ناتجة عن جهل بالإسلام وبالقومية معا ، وتلك مصيبة أدهى وأكبر  ..
***
 (10) .

من الواضح ان ظهور أربع أمم مختلفة ، مكتملة التكوين هي إيران وتركيا واسبانيا والأمة العربية بعد تفكك  الدولة الإسلامية ، يمثل دليلا قاطعا على أن الإسلام ـ كدين وعقيدة ـ لم يكن يتعارض مع سنن التطور التي أسهمت في تكوينها على تلك الصورة ، وبتلك الفوارق والاختلافات رغم أن شعوبها  عاشت قرونا طويلة في دولة واحدة ..  مما يعطي الأهمية للعنصر البشري المتمثل في الجماعات والوحدات المكوّنة لكل مجتمع ، لكي تكون المحدّد في تلك النشأة  ..
فالإسلام الذي طبع حضارات تلك الشعوب بطابعه الديني والأخلاقي والقيمي .. من خلال التشريعات التي منحها لها جميعا بنفس الدرجة .. لم يفرض عليها كيفية تفاعلها مع ظروفها المختلفة في إطار تلك المحدّدات العامة ، فكان التفاعل بين الناس وواقعهم هو المحدّد في اختلاف تلك الحضارات والأمم .. وهو ما يؤكّد وجود سنن و قوانين فاعلة قد نجد لها سندا في بعض الآيات القرآنية مثل قوله تعالى  في سورة الروم  : " ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين " ..
ولعل تأثير تلك السنن التي جعلت التفاعل الإنساني يثمر اختلاف الألسن ( اللغات ) لا ينحصر في ذلك الجانب فحسب ، باعتبار إقرار الآية بأن اختلاف الألسن هو آية من آيات الله ( معجزة )، إنما يتجاوزه فعلا ليعـبـر عن نفسه بمضامين  أخرى متصلة بها  حتى تكون في حجم ذلك الإقرار ، وهي بلا شك تتمثل في تميّـز الشعوب بتاريخها وحضارتها وثقافـتها الخ   ..
ورغم ابتلاء امتنا بالصراعات والفرقة بعد التجزئة والاحتلال لأراضيها ، فان العارفين بتاريخها  يؤكدون بأن الأمة العربية  كانت مستقـرة على ما أفضى إليه تطوّرها قبل التجزئة الاستعمارية التي فرضت استقلال الأقطار عن بعضها بعد رسم حدودها الوهمية التي لا أساس لها في الواقع .. كما تؤكد الوقائع التاريخية بأن العروبة والإسلام لم يكونا أبدا مجال صراع أو تناحر بين المتنافسين والمتصارعين على السلطة ، بل كانت كل الصراعات التي شهدتها الأمة  تقع في إطار الصراع الاجتماعي داخلها ، حيث تبدأ عادة بالتمرّد في الأجزاء ، ثم تتواصل من أجل السيطرة على الكل .. وكل حسب قدرته ..
وتأكيدا لهذه الفكرة  نجد  الدكتور محمد صالح الهرماسي يوضح في دراسة له بعنوان : ( تونس .. عروبة متجذرة و دور متجدد ) :  كيفية انتشار الإسلام والتعـريب في المغـرب العـربي ، حيث قدم هذان العنصران معا وانتشارا معا ، ثم لم يقع  الرجوع إلى الوراء  بعد ذلك مطلقا .. فيقول :
" .. والعودة إلى التاريخ تؤكد لنا ان انتشار الإسلام كان شاملا وأسرع في بلدان المغرب العربي ، وقد سبق التعـريب زمنيا وخاصة في نطاق شموله . ولذلك فأهل تونس تأسلموا ، ثم تعـرّبوا.  فالإسلام الذي انطلق من مدينة القيراون لفتح بقية المناطق المغاربية وأسبانيا ، أعطى لأهل المغرب رسالة ، نشروها بين البدو في المناطق الصحراوية وعلى الطرق التجارية عبر الصحراء.
ولما كانت لغة الإسلام هي العـربية ، وهي لم تكن لغة رسمية فقط  في الإدارة والدولة ، بل كانت لغة مقدّسة ، فكما يقول علماء الدين : ما لا يتم الفرض إلاّ به يصبح فرضا.
ومن هذا المنطلق ، وبسبب انتشار اللغة العربية كأداة للتخاطب أصبح التعريب شاملاً ، أي أنه تحوّل إلى رابطة لغوية وثقافية ..
وهكذا فالتعريب ارتبط بصورة وثيقة بالإسلام في تونس وباقي البلدان المغاربية.  ولم تقع البتة حركة ثقافية أو اجتماعية مناهضة للتعريب أو للإسلام بعد انتشاره .. " 
كما إننا لو تأمّلنا في تاريخنا الطويل لوجدنا  الكثير من الأعلام الذين ارتبطت أسماؤهم بمكافحة الغـزاة من أمثال الأمير عبد القادر الجزائري و ابن باديس وعمر المختار والشيخ عبد القادر الحسيني وعزالدين القسام  والشيخ عبد العزيز الثعالبي وغيرهم ..  الذين كانت العروبة والإسلام بالنسبة لهم بمثابة الروح للجسد ، فلا نجد لهم مقولة ، أو تصريحا ، يضع هذا العنصر في مواجهة الآخر ..
لذلك يمكن أن نلاحظ  بان الفرقة والصراع  بين مفهومي العـروبة والإسلام  قد بدأ  يظهر في الواقع مع ظهور حركات الإسلام السياسي التي عملت منذ نشأتها على احتكار الإسلام  لنفسها جاعلة منه مجالا من مجالات الصراع ...
وفي هذا الصدد  ،  نجد  نصا تاريخيا يذكـره الدكتور محمد صالح الهرماسي في نفس الدراسة  للشيخ عبد العـزيز الثعالبي وهو الشيخ الزيتوني المتشبّع بمبادئ الدين الإسلامي والعارف بعمق رسالته الإنسانية الخالدة ، يظهر فيه روحه الوطنية والقومية الخالصة التي لا تجعله يدخر أي جهد في أبرازها بحسب ما يمليه عليه تفاعله الايجابي مع واقعه في ذلك الوقت .. ودون أن يمثل ذلك أي تناقض أو تعارض مع الروح الإيمانية والعقائدية التي نجدها عند شيوخنا الأبرار في ذلك الزمن النقي الطاهر من كل الشوائب التي أصبحت تلوث واقعنا و عقيدتنا وحياتنا في هذا العصر بسبب تلك المفاهيم المغلوطة عن الدين و الدنيا في آن واحد  ...
يقول السيد الهرماسي :
.. ففي مقال له بعنوان « الوحدة العربية في طَوْرِ التحقيق » نشر الشيخ الثعالبي مقالا في صحيفة الإرادة التونسية بتاريخ 11/1/1939 يقول :
لَيْسَتِ الوَحْدَةُ العَرَبِيَّةُ أُمْنِيَةَ كَاتِبٍ مُتَهَوِّسٍ، وَلاَ حُلْمَ مُؤَرِّخٍ، أَوْ خَيَالَ شَاعِرٍ وَاهِمٍ، وَلاَ خَاطِرَةً مُتَرَدِّيَةً فِي ذِهْنِ مَكْدُودٍ، لَكِنَّهَا حَقِيقَةٌ وَاقِعِيَّةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا، يُغَالِطُنَا فِي تَصْوِيِرهَا أُدَبَاءُ الفَلْسَفَةِ السُّفِسْطَائِيَّةِ الذِينَ يُكَابِرُونَ فِي الحَقَائِقِ العِلْمِيَّةِ لِغَرَضٍ يَرْمُونَ إِلَيْهِ. وَقَدْ أَفْضَى بِهِمُ الأَمْرُ إِلَى تَجَاهُلِ المَحْسُوسَاتِ التِي لَهَا أَعْيَانٌ وَمُشَخَّصَاتٌ تَحْمِلُ فِي ثَـنْـيَــيْــهَا أَقْـدَمَ تَارِيخٍ للْخَـلِيـقَةِ قَبْلَ أَنْ تَـنْـبُـتَ أُصُولُ الأُرُوبِّيِّينَ فِي ذُرَى البِلاَدِ الآرِيَــةِ                      .  
فالوحدةُ العربيّةُ كيانٌ عظيمٌ ثابتٌ غيرُ قابلٍ للتَّجْزئِةِ والانفصَالِ، يشْغَل قسماً كبيراً من رُقعةِ آسيةَ الغربية وشَطْراً من إفريقيا يَمْتَدَ رأسُهُ في الشرقِ منَ المحيطِ العربي ، ويسير مَغْـرِباً غَـرْباً إلى المحيط الأطلانـتـيكي، ويَضُمُّ في هذا الشطر بين لابَّـتـَيْـهِ نصفَ القارةِ الإفـريقـيـةِ.
العَـرَبُ بِقِسْمَيْهِمْ أُصُولاً وَفُرُوعاً الآهِـلـونَ لِهَذِهِ الأَقْطَارِ الشَّاسِعَةِ الفَاصِلَةِ بَيْنَ آسِيَةَ وَأُورُبَّة مَا زَالُوا حَرِيصِينَ عَلَى عُـرُوبَتِهِمْ وَيَتَفَاهَمُونَ بِلُغَةِ آبَائِهِمْ رَغْمَ كُلِّ مَجْهُودٍ خَارِقٍ بَذَلَتْهُ أُرُوبَّة لِصَرْفِهِمْ عَنْهَا.
وَلاَ شُبْهَةَ فِي أَنَّ وَحْدَةَ الرُّقْعَةِ الجُغْرَافِيَّةِ وَاللُّغَةَ وَالدِّينَ وَالتَّهْذِيبَ وَالتَّارِيخَ هِيَ المَجَالُ الحَيَوِيُّ لِوَحْدَةِ الأَجْنَاسِ، إِذَنْ فَجَمِيعُ الظَّوَاهِرِ البَارِزَةِ التِي تُطَالِعُـنَا بِهَا تِلْكَ الأَقْطَارُ المُتَمَاسِكَةُ تَدُلُّنَا دَلاَلَةً قَاطِعَةً عَلَى ثُبُوتِ وَحْدَتِهَا العَـرَبِيَّةِ مِنْ غَيْرِ مُوَارَبَةٍ وَلاَ جِدَالٍ                            .  
وَلَنْ نَكُونَ مُجَازِفِينَ إِذَا قُـلْـنَا إِنَّ الأُمَّةَ العَـرَبِيَّةَ آخِذَةٌ فِي الاِسْتِعْدَادِ لِلْقِيَامِ بِدَوْرِهَا التَّمْدِينِيِّ الذِي تَخـَلّـَفَتْ عَنْهُ بِضْعَةَ قُـرُونٍ تَحْتَ تَأْثِيرِ نِظْرَةٍ خَاطِئَةٍ كَانَتْ وَبَالاً عَلَيْهَا. وَلَيْسَ مِنَ الهَيِّنِ أَنْ تَظَلَّ أُمَّةٌ يَبْلُغُ تَعْدَادُهَا عَشَرَاتِ المَلاَيِينِ مُنْكَّسَةَ الرَّأْسِ إِلَى الأَبِدِ ، وَهيَ القَابِضَةُ بِيَدِهَا مَفَاتِيحَ خُطُوطِ المُوَاصَلاَتِ وَمَعَابِـرَ المَدَنِيَّاتِ وَلاَ يَنْـقُـصُهَا غَيْرُ قَلِيلٍ مِنَ الصَّلاَبَةِ وَالاِدِّكَار ..
 كما يذكر الدكتور الهرماسي تأكيد الدكتور سالم لبيض أستاذ علم الاجتماع في جامعة تونس على فكرة الهوية الشعبية السائدة في المجتمع وهي الهوية الجامعة للعروبة و الإسلام ، وبين هوية نخبوية مصطنعة ، لا شعبية ،  فلا هي عربية و لا هي إسلامية .. !!
يقول الدكتور سالم لبيض في هذا السياق : " أن الهوية في تونس عبر حقبات عديدة من تاريخها المعاصر، مثّلت معركة حقيقية بين نخبة الجماهير التي تتمثّل الهوية ، كما يتمثّلها عامة الناس ، عربية إسلامية ، ونخبة تعبر عن نفسها، وهي تشحن الهوية بالمضامين التي تبتغـيها ، فيمكن أن تكون فرنكفونية أو متوسطية أو إفريقية ، أو حتى رومانية أو قرطاجية قديمة . لكن لا ينبغي أن تكون عربية إسلامية " ..
واليوم ابتــُــليـنا بقوم يريدونها هوية إسلامية معادية للعـروبة مستنزفة لها ومفـرّقة للوحدة التي بناها المسلمون أنفسهم حينما خرجوا ينشرون الإسلام  ..
ويقول الدكتور الهرماسي في نفس الدّراسة متحدّثا عن العلاقة منذ البداية بين العـروبة و الإسلام في المغرب العربي :
" مع انتشار اللغة العربية بين القبائل البربرية ، توسعت دائرة القبائل المستعـربة ، فاختـرقت بذلك الفكرة الإسلامية التي تربط العـروبة باللغة إطار النظرة القبلية " ..
وقد ذهب الكاتب أكثر من ذلك معتبرا أن عروبة الإسلام هي التي أصبحت  متأكدة بعـروبة الدّاعي ولغة الدّعوة  كما قال ، لان الإسلام  ـ ببساطة ـ لم يشهد ذلك الانتشار إلا بالمجهود البشري الذي عمل على نشره بين الشعوب والقبائل السائدة  في ذلك العصر ..
***
  (11) .

ان من أكثر الدعاوي سببا في الفرقة والصراعات الدموية اليوم داخل الامة الواحدة ، صراعات ذات علاقة مباشرة بمفاهيم خاطئة عن القومية من ناحية ، والاسلام من ناحية ثانية .. وخاصة عند الذين يضعون الدعوة الى الوحدة القومية في عداد الدعوة المناهضة للاسلام .. بل ان الامر قد تطوّر بهم الى جعل الاسلام مرتبط بمفهوم واحد ثابت في الزمان ، هو اسلام الفرقة الناجية التي ترفض كل ما هو مختلف معها حتى في الفروع من دون الاصول .. في حين نجد ان الاختلاف في حد ذاته و في جميع مظاهره سنة الهية .. بل أن الاختلاف  قد يصبح  ـ في بعض مظاهره ـ آية من آيات الله ،  كما جاء في قوله تعالى : (ومن آياته خلق السماوات والارض واختلاف ألسنـتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالميـن ) ( الروم / 22 ) .
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو كيف يكون اختلاف الالسن والالوان آية أو معجزة من المعجزات ...؟؟
في الواقع ان المتأمل في هذه الآية  لا يجد فقط أنها قد دلت على ان اختـلاف الألسن والألوان يمثل آية فحسب ، بل يمثل آية تضاهي من حيث الاعجاز آية خلق السماوات والارض ، اذ  ورد  ذكـرهما مقـتـرنا بهما .. وقد تكـرّرت الاشارة الى الاعجاز في خلق السماوات والارض  في العديد من الآيات لما فـيهما من دليل على عظمة الله .. قال تعالى :  ﴿ إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ﴾ (آل عمران / 189-190)   وقال : ﴿وهو الذي خلق السماوات والارض في ستة أيام  وكان عـرشه على الماء ليبلوكم أيكم احسن عملا   ( هود / 7 ) وقال :   ( الله الذي خـلـق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تـتـذكـرون)  ( يونس / 3 ) . وقال : ﴿ خلق السموات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين   (العـنكبوت / 44 ) وقال تعالى ( ومن آياته خلق السماوات والارض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم اذا يشاء قدير ) ( الشورى / 29 ) .. 
 فسبحان الله ... 
لماذا اعـتبـر الله اختلاف الالسن والالوان آية تضاهي آية خلق السماوات والارض  وهما  يمثـلان الكون باكمله ، وبكل ما فـيه من كواكب سيارة وافـلاك ومجرّات  واشياء  محكمة لا نعلم عـنها الا القـليل فـيعجـز عـن وصفها اللسان ، كما يعجـز عـن تصوّرها العـقـل ؟ .. لماذا كل هذه المنـزلة لاخـتـلاف الالسن والالوان ونحـن نعـرف ان خـلـق السماوات  والارض قـد اقـتـضى مدة لا تقـل عـن ستـتة ايايم كاملة كما اخبـرنا بذلك مالك الملك ، وهو القادر على أن يقول للشئ كن فيكون ؟
من المؤكد ان صدق الجواب ومطلق الاجابة علمهما عند الله ... لكن الاجتهاد يمكن ان يقودنا الى أشياء ملموسة ..
 فلو نظرنا  أولا الى اختـلاف الالوان بين الناس لوجدنا وراء ذلك عوامل معـقدة  قد لا يتوقف تأثيرها على الفرد بل يتعداه الى المجتمع بأكمله ، منها العوامل الوراثية التي يحملها الانسان منذ الولادة ، فـتحدّد ملامحه وصفاته  لكنها سرعان ما تنتشر بين الناس من خلال قوانين الوراثة التي تسري بمرور الوقت داخل المجتمع .. ومنها كذلك التفاعل  بين الناس  والمحيط  بكل ما فـيه من عناصر بيـئية مؤثـرة ، الى جانب سلوكهم وعاداتهم الغذائية الخ .. حيث ينشأ التفاعل صامتا بين ما يحمله الفرد ومحيطه ، وبين الناس جميعا من خلال ظاهـرة التكاثـر، مما يجعـل الصفات الوراثية تنتقـل في سكون تام ، ليكتمل التاثـيـر والتاثر بشكل بطـيئ بين مخـتـلف هذه العوامل التي لا يقـتصر تأثيرها على القـلـّـة فحسب ، بل يشمل جميع الافـراد في المجـتمع ، لتتحدّد قسماتهم وسماتهم من خلال لون البشرة ولون الشعـر وبعض الملامح العامة مثل طول القامة وغيرها ...
كما أدّى انتشار الناس واختلاف بيئـتهم ، إلى جانب القطيعة الوراثية الحاصلة بسبب الحواجـز الطبيعية  والامتداد الجغـرافي  وغـيرها من العـوامل .. الى اخـتـلاف الطباع والألوان .. 
ولعل في  تشابه الصفات والالوان داخل المنطقة الجغـرافية الواحدة ، واختلافها في نفس الوقت بين الجهات المتباعدة جغـرافيا ما يفسر خلوها التام من الصدفة .. بل يدل على انضباطها بقوانين هي بمثابة المعجـزة الحقـيقـية التي تتحكم في حـركـتها قوانين وسنن الهـية محكمة يعرفها أهل الاختصاص في علم الوراثة والبيئة والانـتـروبلوجـيا ...
ثم اننا لو نظرنا الى اختـلاف الالسن ، لوجدنا كذلك سببا واضحا لهذه المنـزلة العظيمة ، متمثلا في اثر ذلك الاختلاف على مسيرة الحياة الانسانية كافة ، حيث تـتـعدّد المجـتـمعات وتـتغـيّـر بنيـتها خلال مسيرتها التاريخية ، فـتـكون اللغة عاملا أساسيا في تطوّرها وتـنوّعها ، سواء عـبــر مراحلها المتعاقـبة من العشيـرة إلى القـبيلة إلى الأمة ... أو في كل مرحلة  من مراحل تطوّرها .. حيث جعل الله الحياة على تلك الصورة .. قال تعالى : ( يا أيها الناس إنا خـلـقـناكم من ذكـر وأنثى وجعـلناكم شعـوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقـاكم ) ( الحجرات / 13 ) .
ان موضوع الخلق ، الذي ذكـره الله في جميع الآيات السابقة ، الخاصة بالكون أو بالمخلوقات ، يمثل في حد ذاته دليلا واضحا على عظمة الخالق .. لكنه من ناحية أخرى ينـفي أي نوع للصدفة عن الظاهرة ، ويعطيها صيغة الحتمية ، بحكم ان كل ما أوجده الله متحرك وخال من السّكون ، مما يجعله يخضع في حركـته الى قوانين حتمية لا تتبدل وهو ما يُعـرف في تراثنا بالنواميس والسنن الالهـية ، المشار اليها في العديد من الآيات الواردة في القرآن الكريم . قال تعالى : ﴿ سنة الله في اللذين خلوا من قبلكم ولن تجد لسنة الله تبديلا ( الاحزاب / 62) ، وقال : ﴿ سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله  تبديلا ﴾( الفتح /  23 ) ، وقال تعالى : ( فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا )  ( فاطر / 43 ) ...
ان حتمية السنن الكونية كما ارادها الله سبحانه هي اعظم حكمة للوثوق في المستـقـبل ، ومعـرفة اتجاهه .. بمعـنى اذا كانت الشروط الموضوعـية التي تتحكم في فعالية القوانين معـروفة ، قد تكون النتائج معـروفة ، وهذا يمنحنا الثقة في أنفسنا أولا ، كما يمنحنا ثانيا امكانية توجـيهها أو توقع حدوثها ..  أما اذ أخطأنا ، فيكون السبب راجعا إلينا ، إما لقصور في المعـرفة أو في التـنـفـيـذ ...  وقد دعانا سبحانه لإدراك هذا التنظيم المحكم بالعـقل عـندما أشار في العديد من الآيات التي تحيل العاقل الى عقـله للتـفـكّـر والتدبـر واليقين بقوله : ( لآيات للعالمين ، لآية للمؤمنين  ، لآيات لاولي الالباب ، افلا تتذكرون ، افلا تعقلون  ، أفلا يسمعون ، افلا يوقـنون ....) . ومنها نتعـلم ان  كل الظـواهـر الانسانية خاضعة لسنن الله بما في ذلك ما يظهـر من اخـتـلاف في الالسن  والالوان بين البشر ..
 ولعل ما يدل فعلا على ان المجـتمعات تخضع في تطوّرها الى قوانيـن علمية محكمة ، هو انتاج نفس الظاهـرة عـبـرالمسيـرة الانسانية الطويلة ، حيث انتـقـلت المجـتمعات البشرية بشكل مماثل من الاسرة الى العشيـرة الى القـبيلة الى الامة .. رغم النشأة المخـتـلفة ، والبيئة المختلفة والطباع المختلفة .. 
ان البحث في الاسباب التي قادت الانسان الى انتاج نفس الظاهرة يمكن أن يكون من خلال التأمل في مضمون النشاط  الانساني الذي نراه يتجه دوما للتحرّر من قيود الحاجة المتجددة ، مستغلا قدرته الجدلية على تصوّر الحلول  لتحقيق حياة افضل .. و لما كان الانسان الفرد غـيـر موجود أصلا بمعـزل عـن المجموعة ، و ان الظروف التي كان يواجهها أكبر من طاقـته ، فانه انصرف يبحث عن الاطـر التي تحميه وتضمن له البقاء على قيد الحياة أولا ، ثم تتيح له امكانيات التطوّر بشكل افضل  ثانية .. وقد كانت الروابط الاسرية والدموية هي الحل الأمثل الذي يتحقق به مزيدا من الحرية للإنسان .. لذلك استمرت تلك الأطر على المستوى الانساني عامة ، وأدّى التفاعل البشري داخلها  إلى إبداع اللغة ..
ان الحصيلة الهامة المترتبة على اختلاف الألسن ، اذا تأمّـلنـاها ، تجعـلنا  ندرك بوضوح بان وجه الإعجاز قد يكون مرجعه الى ما يترتب على تعدّد الألسن من تعدد للأمم التي تملا الأرض قاطبة . فهي تتكون نتيجة مراحل طويلة من التفاعل البشري ، تمثل اللغة  أحد ابرز أدواته . وهي بهذا المعـنى معجـزة حقيقية ، قد تبدأ بالتفاعل والتواصل - قبل ظهور اللغة - عن طريق ما يجري على اللسان من أصوات غـريبة متبوعة بالإشارات  ، إلى أن يكتمل الإبداع الإنساني باكتمال رموز اللغة وأدواتها  ليكونوا بها أقدر على العـيش المشترك والتفاهم . ثم ان الناس وهم يعـيشون واقعهم المشترك ويتواصلون بلسانهم الواحد ، يسهمون معا في صياغة شخصيتهم الحضارية التي تميّـزها عاداتهم وتقاليدهم وثقافـتهم الخاصة ..
 فكيف يحصل كل هذا في الواقع ؟    
خلال المرحلة القـبلية لا تختص القبائل المرتبطة بروابط الدم الحقـيـقـية أو الوهمية  بالأرض . فهي متنـقـلة ، متصارعة ، متقاتلة على مصادر العيش مثل الماء والكلأ  وغيرهما .. ثم مستقـرّة الى ان ينضب عيشها  او ينحصر ، فـتـنازع غـيرها على ما يملك .. واحيانا تترك بعض القبائل الارض دون قتال اذا نضب مورد رزقها او اذا وجدت ظروفا أفضل للعـيش .. وبمثل هذا تقريبا تميّز تاريخ  جميع القبائل التي كانت تملا الارض قبل المرحلة الشعوبية ، فكانت حياتها عبارة عن " صراع الوحدة في مواجهة الاختـلاف " أي وحدة القبيلة في مواجهة القبائل الاخرى .. وهو صراع طويل مرير  تطور بمرور الزمن الى " صراع الوحدة في ظل الاختـلاف " أي التنافس بين القبائل في اطار القبول بالتعايش والتعاون .. فكانت اضافة رائعة تخـرج من رحم المعاناة ، و تؤسّس لمراحل اكثر تقدما ورخاء ... فكانت المرحلة الشعوبية هي المرحلة الأكثر تطورا من المراحل السابقة لسببين . السبب الاول يتمثل في تجاوز التعدّد . اذ ان القبائل المتصارعة لا تلبث ان ينهكها الصراع جميعا  حيث تبدأ القبائل الضعـيفة في التحالف مع من مثلها لتواجه عدوا مشتركا  يهدّد وجودها باستمرار ، فتتحالف وتتعاون وتصوغ فيما بينها علاقات شبيهة بالوحدة ولو ظاهـريا بيـنما لا تزال  مختـلفة ومتمايـزة بما يميـز القبائل  بعضها عن بعض  .. غـيـر ان هذه المصلحة المشتركة تمنحهم المزيد من التفاعل والتقارب الذي سيؤدي الى الانصهار التدريجي ... من خلال التفاعل المستمر الذي سيظهر اثـره في حياتهم بمـرور الوقت  ليشمل كل جوانب الحياة ، من اختلاط رموز اللغة القبلية الى العادات والتقاليد الخ .. وقد يتّسع التعاون والتعايش ليشمل قبائل متعدّدة تعاني من نفس المشكل ، فـيصبح التفاعل بينها قاعدة لحياة جديدة ، لان الغـزو قد ياتي ايضا من اطراف اخرى بعيدة عـنهم فيهدّدهم خطرها جميعا ، فيتوحدون ضدها ، مُـفسحين المجال لنشوء روابط جديدة واسعة ، يتحوّلون من خلالها بشكل بطئ الى شعـب .. وهكذا بمرور الوقت يبرز السبب الثاني متمثلا في ارتباط هذه القبائل الموحّـدة بالارض واستقرارها عليها .. حيث يكون اختصاصها  بها عـنـصـرا جديدا ،  ومهمّا ، لم يكن يميز التشكيلات السابقة التي تمثل الارض بالنسبة لها مجرد عـنـصر استغلال يمكن التخلي عنه  في أي وقت اذا أصبح عائقا امام تطوّرها ، كظهور خطر يهدد وجودها ، أو الوصول الى الندرة التي لا تفي بالحاجة .. في حين اصبحت الارض في هذه المرحلة عـنصرا من عـناصر الوجود ذاته .. يتم الدفاع عـنها من طرف الجميع ، فيقاتلون وينتصرون ويصوغون ملاحم مشتركة وبطولات .. لتتحول  - بعد ذلك  - انتصراتهم الى فن وشعـر وتمجيد الخ .. وقد زاد تطوّر المعـرفة باستغلال الارض وتظافـرالجهـود في حل مشكلة الندرة وقـلة الانـتاج ، في تحقـيـق اضافة رائعة منحتهم مزيدا من الالتحام  بالارض ... معلنة عن تحوّل القبائل المستقرّة الى شعب .. فكانت تلك المرحلة الشعـوبية عبارة عن مرحلة انتقالية من طور محدود الامكانيات ( الطور القبلي ) الى طور أكثر تقدما وتحرّرا (الطور القومي ) ، لان الحياة السابقة قد استـنـفـذت كل طاقـتهم ولم تعد تـفي بالحاجيات المتجددة والمتـزايدة  للامن والغذاء .. وأصبح في قـناعة الجميع ، ولو من خلال الصراع ، ان الظـروف الجديدة افضل بكثير لحل كل المشكلات السابقة ... وتلك هي مراحل الانتقال التدريجي والبطئ لتشكل الامة واكـتمال تكوينها بشطريها وشرطـيها : الارض والشعـب . حيث يكون لسان القوم أو اللغة اضافة انسانية رائعة ، يسهل بها تفاعل الناس وتواصلهم ، فتساهم في صنع استقـرارهم النفسي وقبول الاختلاف والتعايش بينهم حتى يثمر تفاعلهم الطويل في تكوين  تاريخهم المشترك ، وحضارتهم الخاصة .. فيكوّنون أمة مختلفة عما سواها بما يميز الامم  بعضها عن بعض .. لغة وفـنا وعادات وتقاليد وحضارة وتاريخا .. وبذلك كان اختلاف الالسن معجـزة فعلا وآية عظيمة من آيات الله .. حيث تؤدي وحدة اللسان أو اللغة الواحدة الى وحدة المجتمع ، في حين يؤدي اخـتلافها وتعدّدها الى تعدّد المجـتـمعات والأمم .. ولله في خلقه شؤون .. 


( القدس ) .