بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

من أجل النصر .. دروس من الهزيمة


pdf

من أجل النصر .. دروس من الهزيمة ..

الدكتور عصمت سيف الدولة .

1 ـ إن يوم 5 يونيو (حزيران) 1967 ـ يوم الهزيمة العربية ـ يمكن أن يكون بداية لتاريخ انتصار أمتنا لو أن نيران " النابالم " التي حرقت أجساد شهدائنا الأبرار قد حرقت أيضا كثيرا من الأفكار والأساليب التي سيطرت على حياتنا الفكرية والسياسية قبل 5 يونيو . ذلك لأن الأحداث التاريخية قد تكون انتصارا وقد تكون هزيمة ، وقد يختلف الناس في تقييمها وفي تحديد المسئولية عنها ، ولكنها ـ في كل الحالات ـ تدخل بمجرد وقوعها في تركيب تاريخ الشعوب التي تمر بها وتصبح بذلك عناصر لا يمكن إلغاؤها من خبرتها . ومن هنا تتوقف الآثار الجانبية أو السلبية للحدث التاريخي لا على ما أحدثه في حينه من اضطراب في مجرى التيار السياسي الذي سبقه ولكن على موقف الذين عانوا هذا الاضطراب من المستقبل الذي يتلوه . لأنه سواء أعجبنا أم لم يعجبنا يظل المستقبل هو الساحة الوحيدة المفتوحة لإرادتنا الفعالة . وبقدر ما تستفيد من تجربة الماضي نستطيع أن نحقق في المستقبل . وهنا الدور الإيجابي للأحداث التاريخية سواء كانت نصرا أم هزيمة .

إن هذا يكشف الطبيعة العميقة للمواقف السلبية والانهزامية من الأحداث   التاريخية ، ويجرد أي اجترار الام الماضي والعويل عليه من أية فائدة . وهو يحدد ـ في الوقت ذاته ـ نقطة انطلاق معينة لأي موقف إيجابي بناء تتمثل في استيعاب التجربة كما هي عن طريق دراستها دراسة موضوعية مجردة من الانفعال بقصد استخلاص عبرتها للاهتداء بها في عملية تجاوز الحاضر الى المستقبل .

ولا شك في أن ما حدث يوم 5 يونيو (حزيران) 1967 كان ولا يزال وسيبقى إلى فترة طويلة من أغنى التجارب التي مر بها تاريخ الوطن العربي المعاصر ، وبالتالي من أخصب مصادر المعرفة للذين يتصدون لبناء المستقبل على الأرض العربية . هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى قد لا يوجد شك أيضا في أن كثيرا من الوقائع التي شكلت الظرف التاريخي ليوم 5 يونيو (حزيران) 1967 كانت ولا تزال وستبقى إلى وقت غير قصير من الأسرار المحجوبة عن علم الجماهير العربية . غير أن هذا لا يعني أن نتوقف عن محاولة المعرفة والدراسة والاستفادة إلى أن تتكشف لنا كل الأسرار فقد نفاجأ بأن لم تكن وراء هزيمة 5 يونيو أية أسرار على الإطلاق وأنها كانت محصلة طبيعية لمعطيات موضوعية سبقتها كما نعرفها جميعا ولكنا فشلنا في إدراك دلالتها في الوقت المناسب أي أن نكتشف أن أخطر الأسرار في التاريخ العربي الحديث هو السر في أننا لا نتعلم .

على أي حال فأيا ما كانت الأسرار الكامنة وراء هزيمة 5 يونيو (حزيران) فإن هذا لا يحول دون حقنا ومسئوليتنا في السؤال : لماذا وقعت الهزيمة ؟ والبحث عن إجابة صحيحة عليه . والإجابة الصحيحة لابد أن تشمل كلا من الوقائع الفكرية والسياسية التي سبقت 5 يونيو ، ثم المنهج والأسلوب الذي اتبعناه خلال مرحلة تاريخية انتهت بالهزيمة . ودراسة المنهج والأسلوب أجدى عاينا من دراسة الوقائع والأحداث لأنه من المستحيل علينا أن نعيد الماضي لنحول دون وقوع  ما وقع فعلا ، ولكن في إمكاننا دائما أن نصحح منهجنا في مواجهة ومعالجة الوقائع المقبلة بحيث لا تتكرر في تاريخنا تلك النكسة المرة . لهذا نقصر حديثنا هنا على أسلوب العمل السياسي في الوطن العربي محاولين كشف ما فيه من قصور أدى إلى الهزيمة . ولن نتناول الحوادث والوقائع إلا بالقدر اللازم والكافي لإيضاح ما نريد أن نقوله عن منهج العمل العربي وضرورة تصحيحه . والعمل العربي عندما لا يعني سياسة أية دولة عربية على حدة .

2 ـ في هذه الحدود نعيد السؤال : لماذا وقعت بالأمة العربية هزيمة 5 يونيو (حزيران ) ؟..
  
إن الإجابة التي تتبادر إلى الذهن ، والتي لم يكف أحد عن ترديدها منذ ذلك اليوم المشئوم ، هي أن أعداء أمتنا من القوى الاستعمارية والصهيونية قد حشدوا ضدنا قوة عدوانية متفوقة . وهى إجابة صحيحة تبرر كل ما تقوم به ، وما يجب أن تقوم به ، للتشهير بقوى الاستعمار والصهيونية ، ولكشف الطبيعة العنصرية لإسرائيل ، ولفضح مخططات الاستعمار الأمريكي بوجه خاص في الشرق العربي ، لنكسب الرأي العام العالمي التقدمي لمصلحة قضيتنا العادلة . ومع هذا فإن تلك الإجابة الصحيحة تظل إجابة غير وافية . ذلك لأن أعداءنا هم أعداؤنا ، ومن المثالية العقيمة أن نتوقع من أعدائنا أن يتخلوا عن معركتهم ضدنا لمجرد أنها معركة غير عادلة أو غير أخلاقية . وأكثر من هذا مثالية وعقما أن نتوقع منهم أن يصبروا علينا إلى أن نحقق غاياتنا القومية في الحرية والوحدة والاشتراكية ،  لأن هذه الغايات بالذات هي التي يريدون هزيمتها . والمفروض أننا عندما اخترنا غايات محددة كنا نعرف أن ثمة قوى مضادة  ستبذل كل ما تستطيع من جهد لإحباط غاياتنا ، بكل أسلوب ، ولو بالقوة المسلحة . نريد أن نقول أن النشاط الاستعماري الأمريكي ووجوده المسلح في منطقة الشرق العربي وخاصة في البحر الأبيض المتوسط والقواعد العسكرية القائمة في الأرض العربية وبالقرب منها ، والحركة الصهيونية العنصرية ، والوجود الإسرائيلي على أرض فلسطين المغتصبة والعلاقة المتبادلة بين هذا جميعا على وجه يحدده كمعسكر معاد متربص بنا ، كل هذه حقائق كانت موجودة من قبل ، 5 يونيو ( حزيران ) وكنا نعلم وجودها ، ولم تكف هي عن استغلال أية مناسبة لتذكيرنا بهذا الوجود وطبيعته العدوانية . لهذا فإن محاولة إسناد هزيمتنا إلى قوة أعدائنا وشراستهم لا تفيدنا شيئا كبيرا . أولى من هذا أن ننتبه ونركز على معرفة لماذا تمكن منا أعداؤنا وما هي نقاط الضعف في أفكارنا وفى أسلوبنا ، ما هي الثغرات في موقفنا ، التي مكنت قوى كنا نعرف دائما أنها متربصة بنا من أن توقع بنا الهزيمة ؟..  

3 ـ إننا نعتقد أن السبب الأساسي في كل هذا أن السياسة العربية لم تكن قط سياسة علمية لم تنتهج قط الأسلوب العلمي لا في التفكير ولا في التدبير ولا في الحركة .

والأسلوب العلمي ليس شيئا غير معروف أو غير قابل للمعرفة ، فإن كلا منا ينتهج ـ بقدر أو بآخر ـ هذا الأسلوب في حياته الخاصة . أما انتهاجه في مجالات الإنتاج والإدارة والتنفيذ فقد أصبح أمرا روتينيا . ذلك لأننا لا نعني بالأسلوب العلمي شيئا أكثر من التخطيط وهو شئ نعرفه تماما ونطبقه بنجاح مطرد في المجالين الاقتصادي والاجتماعي ، ونعرف أكثر من هذا أن نجاح أي مشروع متوقف على مدى الالتزام بخطة صحيحة تربط بين إمكانياته المتاحة والمتوقعة وغايته المحددة .

والتخطيط كأسلوب علمي  يقوم على قاعدتين إحداهما : عدم توقع تحقق غاياتنا بدون تدخل إيجابي من ناحيتنا لتحقيق هذه الغايات . وعلى هذا الوجه تخرج السلبية والتواكلية من عداد الأساليب العلمية . وثانيهما : ضرورة سبق الأحداث قبل أن تقع والتحكم في وقوعها طبقا لمخططات  شاملة ومرحلية تحكم حركتنا في مواجهة الظروف التي نعيشها بحيث لا تقع أحداث أو تتحقق نتائج غير داخلة في حسابنا أو غير متفقة مع ما نريد . وعلى هذا الوجه تخرج التجربة والمغامرة من عداد الأساليب العلمية .

4 ـ وطبيعي أنه مع التسليم بالتخطيط كأسلوب علمي يحقق النجاح في كل المجالات ، تختلف طبيعة الخطط وعناصرها وكيفية تنفيذها تبعا لتغيير المجالات التي تطبق فيها . ولا يحتاج الأمر إلى اجتهاد كبير فإن خبرة الشعوب في كل مجال تكون رصيدا إنسانيا أكثر من كاف لمن يريد أن يستفيد من خبرته أو خبرة غيره في " كيفية " وضع الخطط ومتابعتها وتنفيذها . لم يعد أحد يجهل ـ مثلا ـ أن السياسة  قد أصبحت علما ذا قواعد وقوانين يجب احترامها حتى ينجح العمل السياسي . كما لا يجهل الذين اهتموا بمعرفة شئ من هذا العلم بأن الأسلوب  العلمي في العمل السياسي يتضمن ثلاثة عناصر لازمة ومتكاملة : النظرية ـ الإستراتيجية ـ التكتيك .

ولسنا نريد أن نأخذ النظرية هنا بمفهومها الفلسفي أو الأكاديمي ، ولكنا نعنى بها مجموع الحلول الفكرية للمشكلات التي تطرحها الظروف والتي تتضمن الغايات البعيدة للعمل السياسي . وطبيعي أن وجود نظرية ينطلق منها العمل السياسي على هذا الوجه يقتضي معرفة كاملة وشاملة ودقيقة بالظروف المحلية والقومية والدولية ، وتحليلا علميا لكل هذه الظروف يكشف عن اتجاهها التاريخي . وينتهي بصياغة مجموعة من " المبادئ " التي تتفق مع طبيعة هذه الظروف واتجاهها العام إن هذا هو ما نعبر عنه بضرورة أن تكون " نظريتنا " منبثقة من واقعنا ونعني به أن تكون حلا علميا لمشكلاتنا الفعلية . ومع أن كل " نظرية " هي التعبير الذي يستعمله عامة المثقفين ويثيرون به قدرا غير قليل من الغموض ، فإنها مساوية في دلالتها لما تعبر عنه العامة من غير المثقفين عندما تتحدث عن  " المبادئ " وتكرر ضرورة أن تكون لنا " مبادئ " وتسخر من الذين يتصدون للعمل السياسي لأن ليس لهم " مبدأ " إن هذا يعني تماما ضرورة أن تكون لنا     " نظرية " وكل هذا صحيح لأن العمل السياسي الذي لا ينطلق من نظرية معروفة لا يعرف إلى أين ينطلق .

من الواقع الذي يدور فيه العمل السياسي إلى الغايات التي تحددها النظرية فترة زمنية تطول أو تقصر . ولكنها في كل الحالات يجب أن تكون مغطاة بخطة سياسية تصل بين ما هو كائن وما يجب أن يكون . إنها " الإستراتيجية " أي الخط الثابت الذي يربط بين العمل السياسي والغايات التي يستهدفها مقسما على مراحل زمنية تتفاوت طولا أو قصرا طبقا لظروف كل مرحلة وطبيعة الإنجازات المحددة فيها . وأنها تقابل التخطيط الشامل بعيد المدى في المجال الاقتصادي . وكما أن الالتزام بنظرية بدون إستراتيجية لا يعدو أن يكون ثقافة فكرية مجردة فإن الالتزام بإستراتيجية بدون نظرية لا يعدو أن يكون التزاما شكليا غير ذي مضمون لا يمكن متابعته ولا يتحرج أحد في الخروج عليه . ومن هنا فإن التخطيط العلمي في المجال السياسي يستلزم النظرية والإستراتيجية كليهما .

على أساس النظرية ، وفي داخل إطار الإستراتيجية ، يتحول العمل السياسي إلى ما لا حصر له من العمليات المتنوعة في طبيعتها المتفرقة في مواقع تنفيذها المقسمة على القوى العاملة في الحقل السياسي . أي تتحول الإستراتيجية إلى مهمات تكتيكية . وعلى هذا المستوى ( مستوى التكتيك ) يتعرض العمل السياسي كله ( نظرية وإستراتيجية وحركية ) لاختيار الممارسة إذ هي المحك الذي لا يخطئ في كشف فاعلية النشاط السياسي . ولكنه يتعرض أيضا لمخاطر الممارسة . ذلك لأن ثبات الخط الإستراتيجي من ناحية ثالثة . يستلزم أن يتوافر العمل السياسي  على مستوى الممارسة قدر غير قليل من المرونة والقدرة على المناورة . ولما كانت المواجهة الفعلية للقوى المضادة تتم على هذا المستوى ، كما تتحقق عليه ، المكاسب أو الخسائر . الانتصارات أو الهزائم فإن الخطر يكمن فيه أيضا . ومصدر الخطر أن تفلت الممارسة السياسية على المستوى التكتيكي من الالتزام بالخط الإستراتيجي ، أي بترك العمل السياسي لأهواء ونزعات القائمين به بدون ارتباط بالخطة العامة ، إن هذا يشبه ـ مع الفارق ـ أن تتلقي إدارة إحدى مؤسسات الإنتاج صورة من الخطة الاقتصادية ثم تضعها في أحد الأدراج ، وتقبع في مكاتبها ، تاركة لكل عامل أن ينتج ما يشاء بالمواصفات التي يريدها . وكما أنه مهما عظمت الجهود التي يبذلها العاملون ، ومهما صدقت رغباتهم في إنجاح المشروع الاقتصادي الذي يعملون فيه ، فإنهم سيفشلون نتيجة للأسلوب غير العلمي الذي يسود نشاطهم كذلك تفشل الجهود السياسية التكتيكية في تحقيق غاياتها مهما حسنت نوايا القائمين بها ، وحتى لو كانوا أبطالا ، لأنهم لا يلتزمون إستراتيجية العمل السياسي .

5 ـ فكيف يمكن إذن ضمان أن تتسق المواقف والتحركات السياسية في  الممارسة الفعلية مع الإستراتيجية العامة للعمل السياسي ولا تنحرف أو تتعارض  أو تضعف الحركة نحو الغايات التي تحددها النظرية ؟ بداهة إن أول شروط هذا الضمان أن تكون ثمة نظرية وإستراتيجية ، وهذا واضح وقد عرفناه . إنما نضيف هنا شرطين آخرين مستمدين من السمة العلمية للعمل السياسي .

أولا : وحدة التنظيم ، إذ مع تحول الإستراتيجية إلى عدد لا حصر له من المهمات متنوعة الطبيعة ( نشاط ثقافي ـ نشاط دعائي ـ استقطاب جماهيري ـ عمل ثوري .. الخ ) تقوم بها أعداد كثيفة من الأشخاص متنوعي الكفاءات ومتفاوتي المقدرة ، بحيث يختص كل منهم بجزئية  محددة من العمل السياسي ، يكون من المهم انتماؤهم جميعا إلى تنظيم واحد ذي قيادة واحدة قادرة على تفريغ المراحل الإستراتيجية في جداول عمل نوعية ، وتقسيم العمل على القائمين به كل حسب كفاءته ومقدرته ، ومتابعة جهودهم ، والتنسيق بينها على وجه يحفظها داخل إطار الخطة الإستراتيجية وتنقية صفوفهم من المنحرفين قبل أن يتحول الانحراف إلى انقسام وتمزق ، ثم مراقبة المحصلة النهائية لمجموع العمل في المواقع التكتيكية بحيث تتفق مع التخطيط السياسي من حيث النوع ومن حيث التاريخ المحدد   للإنجاز .

ثانيا : الإعداد السياسي ، إن هذا شرط يقابل التدريب المهني في المشروعات الصناعية ونعني به أن يكون أعضاء التنظيم السياسي مؤهلين عقائديا وسياسيا لتولى مهماتهم " قبل " أن يتولوها ـ هذا من ناحية ـ ومن ناحية أخرى ألا يسند أي عمل سياسي لأي شخص لا يكون مؤهلا علميا لتوليه . إن تجاهل هذا الشرط كنتيجة إسناد مهمة تشغيل محطة كهربائية إلى مجموعة من عمال التراحيل . إن عمال التراحيل هنا قد لا ينقصهم الإخلاص كما لا ينقصهم المقدرة على تحمل عبء العمل فإذا فشلوا فلن يكون الذنب ذنبهم ولكن ذنب الأسلوب غير العلمي الذي وضعهم في مواقع لم يعدوا لها إعدادا مهنيا كذلك يرجع الفشل السياسي في أغلب الحالات إلى نقص في كفاءة القائمين عليه وليس إلى نقص في إخلاصهم ورغبتهم في النجاح . غير أن هناك فارقا " فنيا " بين الإعداد السياسي والإعداد المهني للكوادر العاملة في كل من الميدانين . فبينما ينشط العامل في مواجهة آلة ثابتة الخصائص محكمة الحركة ينشط السياسي في مواجهة ظروف متنوعة الخصائص متغيرة الحركة . ومن هنا فإن الإعداد السياسي يكون مصحوبا بأكبر قدر من الثقة التي تمكن العاملين في الحقل السياسي من إبداع الحلول المناسبة للمشكلات الواقعية بدون خوف أو تسلط بيروقراطي . ففي ظل الشلل الذي يفرضه الخوف ، وفى ظل السلبية انتظارا لتعليمات البيروقراطية تنعدم فعالية الوعي العقائدي والتزام السياسي وتذهب هباء كل الجهود التي بذلت في التخطيط والإعداد لأن العاملين في الحقل السياسي يتحولون عندئذ إلى أدوات سلبية تنتظر من يحركها بدون أن تعنى حتى السؤال عن أسباب حركتها أو غايتها . غير أن حرية الحركة السياسة على المستوى التكتيكي لا تنفي المتابعة والمراقبة والجزاء التي تكون في مجموعها جزءا هاما من التخطيط السياسي . وهذا يعني أن تكون مقاييس المتابعة والمراقبة والجزاء هي الخطة والإستراتيجية ذاتها ، المعروفة من قبل ، الثابتة نسبيا ، فيؤمن العاملون في الحقل السياسي من العسف أو الغدر بحجة المتابعة والمراقبة والجزاء .

6 ـ نعم قد أطلنا بعض الشئ في هذا الحديث المجرد عن الأسلوب العلمي في العمل السياسي وعذرنا أن هذه هي النقطة الأساسية التي سنقيم عليها ما يأتي من أحكام فأردناها أكثر ما تكون وضوحا حتى نستطيع أن نتفق فإن غاية أي حديث  غير هازل أن يكون مقدمة لاتفاق . أما عن التجريد فلأننا نتحدث عن " قانون " العمل السياسي . والقوانين كلها مجردة وإن كانت حصيلة مركزة للخبرات الحية . 

ثم أننا فيما يبدوا وقد صغنا القانون والحديث عنه بحيث لا يكاد يصدق إلا بالنسبة إلى العمل السياسي الجماهيري " الهيئات ـ التنظيمات الشعبية ـ الحركات السياسية ـ الأحزاب .. الخ ".  والواقع أنه قانون العمل السياسي الجماهيري فعلا ولكنه قانون أي عمل سياسي ولو قامت به الدول . كل ما في الأمر هو اختلاف في الشكل والأسماء . فالتنظيم هو جهاز الدولة بكل وزاراته وموظفيه ، وقيادته هي الحكومة في الدولة . وهذا لا يغير شيئا في أن نجاح أية دولة في سياستها " الخارجية أو الداخلية ـ الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية .. الخ " متوقف أيضا على أن تكون أجهزتها وموظفيها في أي مجال منضبطة بإطار ثابت من التخطيط السياسي بعيد المدى " إستراتيجية " وأن يكون ذلك التخطيط قائما على أساس محدد ومعروف من المبادئ " نظرية " ، أي متوقف على مدى انتهاجها الأسلوب العلمي في سياستها تفكيرا وتدبيرا وحركة .

كل هذا بصرف النظر عما إذا كانت الخطط الإستراتيجية معلنة لغير الملتزمين بها أم لا . ذلك لأنه بينما تكون المبادئ معلنة في أغلب الأوقات ، قد تلجأ بعض الدول أو بعض المنظمات الجماهيرية إلى حجب إستراتيجية عملها عن القوى المضادة لتنتج أكبر قدر من الأمن للذين يتحركون على مستوى الممارسة التكتيكية . ومعنى هذا ألا علاقة للأسلوب العلمي في السياسة بالدماغوجية السياسية . ومعناه أيضا أننا ل نستطيع أن نعرف معرفة كاملة ما إذا كانت التحركات السياسية مستندة  إلى أسلوب علمي أم لا مما يعلنه أصحابها ، بل إن اطراد النجاح أو الفشل هو الذي يأتي كاشفا ، على وجه لا تجدي فيه الاعتذارات عما إذا كان العمل السياسي الذي أنتهى به علميا أو غير علمي . 

7 ـ طبقا لهذا نجد أننا لسنا في حاجة إلى اجتهاد لنعرف من اطراد نجاح أعدائنا منذ شراء قطع من الأرض العربية اتفاقا فرديا حتى احتلال الأرض العربية عنوة  في يوم 5 يونيو 1967 كان نتيجة لتخطيط سياسي علمي . إن هذا يكشف لنا حقائق نحن في أشد الحاجة إلى معرفتها لتكمل معرفتنا بطبيعة المعركة التي تشنها الصهيونية ضد أمتنا . فمثلا لقد أصبح معروفا الآن مما نشر عن حرب يونيو أن الخطة العسكرية الإسرائيلية  كانت معدة ولم يتوقف التدريب عليها منذ عشر سنوات . إن هذا يسقط أي إدعاء بأن تحرك قواتنا إلى الجبهة ، أو سحب قوات الأمن الدولية ، أو غلق خليج العقبة كانت أسبابا للعدوان الإسرائيلي . فإن الخطة العسكرية التي توضع قبل عشر سنوات من تنفيذها لابد أن تستند إلى أسباب سابقة عليها . ولما كانت الخطط العسكرية ـ وإن قسمت هي ذاتها إلى إستراتيجية وتكتيك ـ تقع كلها فى نطاق العمل التكتيكي بالنسبة إلى الإستراتيجية السياسية فلابد أن  تكون خطة العدوان الإسرائيلي التي وضعت قبل عشر سنوات قد وضعت ضمن إطار ، وفي خدمة ، إستراتيجية سياسية أقدم منها عمرا وأكثر منها شمولا . ثم لابد من أن تكون الغايات التي صيغت الإستراتيجية الإسرائيلية لتحقيقها ـ على مراحل ـ أكبر كثيرا من احتلال سيناء والضفة الغربية ومرتفعات الجولان . وإذا كانت إسرائيل لم تعلن خططها الإستراتيجية فإن غاياتها " أو المبادئ التي تحدد تلك الغايات " معلنة ، فعلى جدار الكنيست منحوتة دولة إسرائيل من الفرات إلى النيل كغاية لم تحددها حكومة إسرائيل بل حددتها الحركة  الصهيونية التي كان قيام دولة إسرائيل ذاتها على جزء من فلسطين 1948 خطة مرحلية من إستراتيجيتها ، مهدت لعدوان 1956 ثم لعدوان 1967 الذي لن يكون آخر محاولات إسرائيل في تنفيذ مخططات الصهيونية " النظرية " التي يستند إليها النشاط السياسي الصهيوني معروفة ، فهي ـ إذن ـ موجودة  وبوجودها توافر لهذا النشاط أول عناصر الأسلوب العلمي في التحرك السياسي . والإستراتيجية يكشف عن وجودها إتساق التحركات التكتيكية الصهيونية في جميع أنحاء العالم . فعلى مستوى النشاط الفردي أو الجماعي ، الجماهيري أو الرسمي ، الداخلي أو الخارجي ، الثقافي أو المالي .. ينشط الصهاينة رجالا ونساء على وجه بالغ التنوع ولكنه متفق دائما مع المخططات الصهيونية بعيدة الأمد . والعقوبات التي تفرضها الصهيونية على اليهود الذين يشذ نشاطهم عن هذا الاتفاق تكشف عن الالتزام ـ والإلزام ـ الفكري والحركي للنشيطين في إطاره . وكل هذا يضعنا أمام صهيوني عالمي أكبر من إسرائيل ذاتها  غايته أن يقيم على الأرض العربية دولة عنصرية من الفرات إلى النيل بما تعنيه العنصرية من إبادة للشعب العربي أو إرغام له على الهجرة . غير أن أهم خصائصه أنه ينتهج الأسلوب العلمي ـ الذي عرفناه ـ في تحركه السياسي على الطريق إلى غايته . إن هذا قمين بأن يستنفر الذين لم يشردوا من الأرض المحتلة ، اللائذين بحدود دولهم الإقليمية . الحالمين بسلام في الوطن العربي مع وجود إسرائيل ، المساومين على وجودهم ، الخائفين من مرارة الصراع لأن كل هذا لن يجديهم شيئا  فإن كانوا اليوم آمنين فلأن الوقت المحدد لتشريدهم أو إبادتهم لم يأت بعد طبقا للخطط الصهيونية .
8 ـ إذا كانت الصهيونية تنظيما سياسيا تدخل دولة إسرائيل ذاتها ضمن أجهزته فإن الولايات المتحدة الأمريكية منظمة سياسية في دولة غاياتها الاستعمارية غير خافية . والطابع الإمبريالي  للسياسة الأمريكية يكشف عن عالمية الإستراتيجية الأمريكية . إننا في غير حاجة إلى التدليل على هذا فأمامنا تثير أمريكا الاضطرابات والانقلابات والحروب فى أطراف متفرقة من الأرض ، وتنتشر قواتها المسلحة وممثلوها الرسميون وعملاؤها وجواسيسها فى كل مكان ويتحركون جميعا تحت قيادة واحدة فى البيض الأبيض . أعمالهم جميعا مهما تنوعت داخل خطة سياسية واحدة . ولكنا قد نكون في حاجة إلى معرفة العلاقة بين النشاط الصهيوني والنشاط الأمريكي في الوطن العربي . إنه من السذاجة تصور أن أيا من القوانين لنا هي فى خدمة الأخرى أي أنها تتحرك طبقا لغير إستراتيجيتها الخاصة . إن هذا يعني إلغاء واحدة منهما كقوة سياسية . ولما كانت الولايات المتحدة الأمريكية قوة سياسية دولية ظاهرة فإن هذا التصور الساذج يجنح إلى وضع الصهيونية موضع الأداة التابعة والخاضعة والمنفذة لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية . ويقود هذا الجنوح إلى الوقوع في خطأين مدمرين ، أولهما ، التطلع إلى الولايات المتحدة الأمريكية لصد العدوان الصهيوني عن الأمة العربية . وهو خطأ وقع فيه العرب يوما عندما ظنوا أن الصهيونية أداة تابعة وخاضعة لبريطانيا فتطلعوا إليها لتصد عنهم العدوان ودفعوا ثمنا فادحا لذلك الخطأ ، ثانيهما ، تجاهل القوة الذاتية للحركة الصهيونية وهو تجاهل تسعى إليه الصهيونية ذاتها لأنه يوفر لها الأمن اللآزم للتفرغ لإعداد المقدرة على الغدر إذ يلهي الأمة العربية عن طبيعتها العدوانية الخطرة .

إذن فمحاولتنا معرفة العلاقة بين نشاط الصهيونية ونشاط الولايات المتحدة الأمريكية على الأرض العربية يجب أن تبدأ من التسليم بأن كلا منهما منظمة سياسية ولا خاضعة ولا أداة للأخرى ، عندئذ نتبين بوضوح أنه إذا كنا نلمس خلال الممارسة أن النشاط التكتيكي لكل من الصهيونية والولايات المتحدة الأمريكية في الوطن العربي متفقا في حركته وأغراضه فإن هذا لا يمكن أن يكون إتفاقا جزئيا ولا مرحليا ، أي لا يمكن أن يكون موقفا تكتيكيا من أي من الطرفين . وذلك لأن المواقف التكتيكية لابد أن تكون في خدمة الخطط الإستراتيجية وهذا يعنى أن الإلتقاء السياسي بين الصهيونية والولايات المتحدة الأمريكية يقع ـ بالنسبة إلى الوطن العربي ـ على مستوى الخطط الاستراتيجية . أي أنه إلتقاءا أسبق من يونيو 1967 . وأشمل من فلسطين ، وأبعد من إحتلال سيناء والضفة الغربية ومرتفعات الجولان . ومثل هذا الإلتقاء لا يمكن إلا أن يفرض على الطرفين قدرا من التعاون والتنسيق بين النشاط السياسي لكل منهما في الوطن العربي قد يرتفع إلى حد التحالف .

على ضوء هذا لا يكون أي نشاط سياسي للولايات المتحدة الأمريكية بريئا من خدمة الصهيونية . ولا يكون أي نشاط صهيوني بريئا من خدمة الاستعمار الأمريكي . وعلى ذات الضوء نستطيع أن نرى بوضوح أن كثيرا من الأحداث التي حركتها الولايات المتحدة الأمريكية في البلاد العربية ، وعلى وجه خاص إنفصال سورية سنة 1961 ، لم تكن سوى مقدمات تمهيدية لعدوان 5 يونيو 1967 ، غير أننا نرى أيضا وبوضوح أكثر ، سذاجة الذين يتوقعون أن تغير الولايات المتحدة الأمريكية استراتيجية سياستها فى الوطن العربي لمجرد أنه " لا يليق " بدولة كبرى ألا تكون عادلة فى موقفها من الصراع العربي الصهيوني ، أو إذا كففنا عن التشهير بالإمبريالية الأمريكية أو سعينا إلى صداقتها . ذلك لأن التحالف الصهيوني الأمريكي ضد الأمة العربية قد فرضه إلتزام كل من الصهيونية والولايات المتحدة الأمريكية الأسلوب العلمي في نشاطهما السياسي ، والذين ينتهجون العلم أسلوبا لا يغيرون سياستهم تحت تأثير النفاق أو السباب أو العواطف .

9 ـ وهكذا نرى أنه بمجرد تسليمنا بأن السياسة علم له قواعده وقوانينه نستطيع أن نعرف من مواقع أعدائنا ، واتجاهاتهم أكثر مما نعرف " بالفهلوة " السياسية يكفى أن نتصور أنفسنا مكانهم وأن نفكر تفكيرا علميا لنعرف خططهم الاستراتيجية ونفهم تحركاتهم التكتيكية ، ونستطيع أن نربط بين هذه وتلك لنكشف غاياتهم البعيدة ، وبالتالي نسبق الزمن ونعرف الأحداث المتوقعة قبل أن تقع .

10 ـ في مقابل هذا ، لا نريد أن نستطرد فى التدليل على أن العمل السياسي العربي قبل 5 يونيو 1967 لم يكن قائما على أسس علمية ، ولا منتهجا أسلوبا علميا ، فإن يوم 5 يونيو ذاته يتضمن دليلا لا ينقص . وإذا كانت العلاقة المميزة للأسلوب العلمي  السياسة هي سبق الأحداث والتحكم في الظروف بحيث لا يقع غير ما نتوقعه فكلنا يعلم أن الأمة العربية كانت منذ أمد بعيد تلهث جريا وراء الحوادث التي تدور على الأرض العربية ، مندهشة في كل مرة من المفاجآت السياسية التي تنفجر في وطنها ، باذلة جهودا خارقة في محاولات متأخرة لتدارك ما وقع . وفى كل مرة تفيق من حدث تاريخي تفاجأ بمواجهة غير متوقعة لحوادث لم تكن قد أعدت نفسها لمواجهتها ، أي أن قوى غير عربية . وكثير من إنتصاراتنا كان هكذا . بل أن رغبتنا الجامحة في تحقيق إنتصارات سريعة ومحددة كانت مدخلا لتخطيط واع يقدم لنا فرص النصر المؤقت ليحرمنا من المقدرة على الإنتصار الدائم وهكذا استنفد قدر كبير من طاقاتنا على العمل القومي طويل المدى في معارك جزئية ومحدودة تبينا ـ الآن ـ أن إنتصارنا فيها كان مؤقتا .

ومع هذا فإنه من التعسف الظالم أن نقول أن سياستنا كانت " دائما " رد فعل تحركه مخطط معادي . ذلك لأن المنجزات الإيجابية التي تمت في الوطن العربي في السنين الأخيرة ، والتي لا يمكن إنكار قيمتها التحررية والتقدمية ثم إلتجاء أعدائنا أنفسهم إلى القوة المسلحة ، يدلان بوضوح على أننا كنا عقبة صلبة على طريق مخططاتهم المعادية وأننا حققنا إنتصارات جدية بالرغم من تلك المخططات . غير أن هذا لا ينفى ما قلناه من أن السياسة العربية كانت بعيدة عن إنتهاج الأسلوب العلمي . ذلك لأن عدم إنتهاجنا الأسلوب العلمي في العمل السياسي قد لا يحول دون أن نحقق نجاحا في أحد الميادين أو حتى في كثير منها ، إذ أن البديل عن الأسلوب العلمي هو الأسلوب التجريبي . والتجربة قد تصيب فننتصر وقد تخيب فننهزم . وكثيرا تلهينا الجوانب الصائبة عن الجوانب الخائبة ، فنشيد بانتصاراتنا بدون أن نفطن إلى عوامل الهزيمة الكامنة فى ذات الأسلوب الذي أدى إلى النصر … إلى أن نفاجأ بهزائم لم تخطر على بالنا فنتبين أن الحصيلة النهائية لسياستنا ـ في المدى الطويل ـ ليست نصرا  على أي حال . عندئذ نفعل ما نفعله اليوم . فنحن ننكر ونتنكر وندين أغلب القيم والأفكار والأساليب التي كانت سائدة قبل الهزيمة . ونحن نمارس عملية محاسبة قاسية لأنفسنا ونكاد نجمع على أن كل شئ في الحياة العربية التي إنتهت إلى 5 يونيو 1967 يجب أن يتغير . مؤدى هذا أننا نعترف بأننا إنتهجنا أسلوبا خاطئا . وهذه ظاهرة صحية . غير أن كل شئ في المستقبل يتوقف على ما إذا كنا قد تعلمنا كيف ننتهج الأسلوب العلمي الصحيح .  

11 ـ نقول " كيف ننتهج الأسلوب العلمي الصحيح لأن الأسلوب طريقة للممارسة وبالتالي فإن المعرفة النظرية بالأساليب العلمية ، أو حتى توافر الإمكانيات اللازمة لانتهاجها ، لا يعني شيئا إذا كنا غير قادرين على وضعها موضع التنفيذ ".

فنحن أمة ذات غايات محددة ومعلنة . وغايتنا " أعني الأغلبية الساحقة من جماهير الأمة العربية " أن نقيم على الوطن العربي المتحرر دولة الوحدة والاشتراكية والديمقراطية ، قد نختلف في المنابع الفكرية التي يستمد منها أي منا المبرر الفلسفي لهذه الغاية ، وقد نختلف في أولويات التطبيق وطرقه أي قد نختلف فيما بيننا حول طريقة البناء الداخلي لدولة الوحدة الاشتراكية والديمقراطية . ولكن هذه الغاية تجمعنا في مواجهة القوى الخارجة عنا أو المعادلة لنا . فمثلا إذا كانت جماهير الأمة العربية مشتبكة في صراع دموي مع جماهير الصهيونية في العالم كله بما فيهم المقيمين في إسرائيل ، فلأن ثمة تناقضا جذريا بين قيام دولة الوحدة الاشتراكية والديمقراطية كغاية للنضال العربي ، وبين قيام دولة إسرائيل من الفرات إلى النيل كغاية للحركة الصهيونية ، لأن كلا منهما لا تتحقق إلا قوى ذات الأرض التي يدور عليها الصراع ، وهو صراع حياة أو موت لكل من الطرفين . نريد أن نقول أن المبادئ اللازمة والكافية " كنظرية " للعمل السياسي العربي لا تنقصنا . وذلك أول العناصر اللازمة للتحرك السياسي بأسلوب علمي .

ونحن أمة توافرت لها المعرفة العلمية والمتخصصة فى كلأ أنواع المعرفة الإنسانية . لقد قيل ـ ببساطة متسرعة ـ أن إسرائيل قد تفوقت في حرب يونيو 1967 لأنها تضم عددا أكثر وفرة من العلماء والفنيين الذين نزحوا إليها من أوروبا المتفوقة فى المعرفة والعلم والتكنولوجيا . وقد تكون هذه الوفرة صحيحة إذا نسبت إلى عدد الإسرائيليين في أرض فلسطين المحتلة ، ولكنها تكون غير صحيحة إذا كانت بصدد المقارنة بين إمكانياتهم العلمية وإمكانياتنا ، إن القاهرة وحدها تستطيع أن تفرز من بين أبنائها عددا من العلماء والمتخصصين من خريجي الجامعات المصرية والأوروبية والعربية يساوى او يزيد على كل الرجال الذين نزحوا من أوروبا إلى فلسطين . وفي الوطن العربي من خريجي الكليات والمعاهد العسكرية المتخصصة ما يقارب أو يساوى عدد الجنود المحترفين في إسرائيل ، وفي الوطن العربي من الشباب القادر على العمل السياسي والثوري أضعاف كل الصهاينة في العالم رجالا ونساء وأطفالا . وفي الوطن العربي مقدرة على الصراع الدموي استطاعت أن تقدم ما يساوي نصف الإسرائيليين من الشهداء في الجزائر وحدها ثم تنتصر .

وفى كل الحالات المادية والبشرية والاقتصادية تملك الأمة العربية إمكانيات متاحة تتجاوز بما لا يقاس ما تملكه إسرائيل وتكفي بما لا يقبل الشك لمواجهة كل ما تملكه الصهيونية .


ليس التفوق في الإمكانيات المتاحة ، فنحن هنا متفوقون شكل ساحق . إنما التفوق في " كيفية " استخدام الإمكانيات المتاحة ونحن هنا المتخلفون . وإذا كان هذا يعني أن الذي ينقصنا هو الأسلوب العلمي في استخدام إمكانياتنا  فإنه يعنى كذلك ـ وتماما ـ أن الأسلوب العلمي هو العنصر الجوهري الذي يستطيع أن يعوض النقص في الإمكانيات وأنه يقلب موازين القوى لصالح الذين ينتهجونه . إن هذا أحد الدروس الثمينة التي تعلمناها يوم 5 يونيو المشئوم . غير أنه عندما يستوي الطرفان في إنتهاج الأسلوب العلمي يحسم تفوقنا في الإمكانيات المعركة لصالحنا بأسرع مما يمكن أن يتصوره الكثيرون .

لقد توافرت لنا ـ إذن ـ النظرية " المبادئ " التي حددت الوحدة الاشتراكية الديمقراطية كغاية للنضال العربي ، وتوافرت لنا الإمكانيات المادية والكوادر البشرية اللازمة والكافية المؤهلة للقيام بالمهمات التكتيكية على مستوى الممارسة ، فما الذي كان ينقصنا حتى تكمل لنا المقدرة العلمية على النصر ؟..

إنها الإستراتيجية ... الاستراتيجية العربية .

12 ـ منذ أمد بعيد والنضال العربي يفتقد عنصر التخطيط طويل المدى . ولم يحدث أن توافر للسياسة العربية في العصر الحديث ـ عصر العلم ـ ذلك العنصر الأساسي في الأسلوب العلمي . استراتيجية تتضمن الخط الثابت للنضال العربي انطلاقا من واقع الأمة العربية حتى غاياتها ، مقدمة على مراحل زمنية ، حاشدة كل الإمكانيات المادية والبشرية ، موزعة العمل على الكوادر المتاحة في الوطن العربي ، تضبط النشاط السياسي في كل المواقع والمجالات بحيث يتم ـ مهما كان متنوعا ـ فى إطار الخطة القومية ولخدمة أغراضها ، ثم قيادة كل هذا عن طريق المتابعة والمراقبة والجزاء . ومعنى هذا أن فيما بين غايتنا وبين إمكانياتنا تقوم ثغرة خطيرة تحيل الغايات إلى مجرد شعارات مرفوعة غير قابلة للتحقق . وتحيل الإمكانيات إلى طاقات عاطلة من الفعالية . من هذه الثغرة ـ غيبة الاستراتيجية العربية ـ نفذت ، وتنفذ إلى مواقعنا القوى المعادية ثم تكسب . ومن هذه الثغرة تسربت وتتسرب جهودنا ثم تضيع . وفي هذه الثغرة تكمن الاستحالة العلمية لإخضاع السياسة العربية لأي أسلوب علمي . ومع وجود هذه الثغرة لا يمكن أن يتحقق لنا في المدى الطويل نصر حاسم . ذلك لأننا ـ بدون استراتيجية ـ لا نستطيع أن نسبق الحوادث وآن نتحكم في وقوعها فتسبقنا إليها ـ عندئذ ـ وتفجرها على أرضنا العربية القوى المضادة طبقا لاستراتيجيتها الخاصة . وبينما ننشغل نحن بالحدث الذي وقع وأدهشنا وقوعه تكون تلك القوى مشغولة بالإعداد لتنفيذ الخطوة التالية من مخططاتها السياسية … وهكذا . 

13 ـ والحقيقة أن افتقاد السياسة العربية استراتيجية عمل طويلة المدى يتحرك على أساسها ثم يصب فيها النشاط السياسي في الوطن العربي لم يكن خافيا على كثيرين من العاملين في الحقل السياسي . كما أن عوامل الفشل الكامنة في هذا النقص لم تكن خافية على الذين يهمهم نجاح النضال العربي . وقد كان هذا الإدراك كافيا لتحريك محاولات متلاحقة ومتنوعة لسد تلك الثغرة الهدامة على مستوى السياسة الرسمية لبعض الدول العربية وعلى مستوى النشاط السياسي الجماهيري كليهما .

فعلى المستوى الرسمي كانت الجامعة العربية محاولة لإيجاد رابطة " غير  ملزمة " بين سياسات الدول العربية . وبجوار الجامعة قامت محاولات سياسية أخرى تحت شعار التضامن العربي . أو وحدة الصف العربي ، أو وحدة العمل العربي .. الخ . بلغت أقصى صيغة ممكنة لها في مؤتمرات القمة . غير أن التجسيد الفعلي لها قد صيغ في عديد من الإتفاقات الثنائية " أو بين أكثر من دولتين " فى المحاولات السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية ثم في ذلك التقليد غير الرسمي الذي تتبعه البعثات الدبلوماسية في الخارج عندما تتقابل ، وتتشاور ، وتحتج وتصدر بيانات مشتركة في بعض القضايا القومية . وهو تقليد أًُصبح " معروفا " عالميا ومعروفة قيمته الفعلية لقد كانت كل تلك الأفكار والصيغ والمحاولات والمبادرات تستند إلى معرفة بضرورة وجود استراتيجية عربية موحدة ، ومدى العجز السياسي الذي تسببه غيبة هذه الاستراتيجية ، ثم التطلع إلى تعويض العجز فى حدود ما هو ممكن على الصعيد الرسمي .

وعلى المستوى الجماهيري نشطت إبتداء من الأربعينات حركة البحث عن صيغ ممكنة للعمل السياسي الجماهيري العربي الموحد . وقامت محاولات مبكرة لتجاوز المنظمات السياسية الإقليمية إلى التنظيم ذي الفروع فى الأقاليم . وقامت إتحادات مهنية للعمال والمحامين والأطباء والمهندسين تحاول في حدود طاقتها تخطى الحواجز العازلة بين القوى العاملة في الوطن العربي . وشكل كل هذا مدا عربيا جماهيريا " كاد " أن يستكمل مقدرته العلمية على النصر عندما تبنت الجماهير العربية ـ تلقائيا ـ الاستراتيجية السياسية المعلنة فى القاهرة . وشاهد الوطن العربي ابتداء من 1955 تجاوزا حاسما للمبادرات التنظيمية المبكرة إلى حركة سياسية جماهيرية عربية فذة فى خصائصها ، فقد توافرت لها وحدة الغاية ووحدة الاستراتيجية ووحدة القيادة بدون وحدة " التنظيم " ومع أن هذه الصيغة الناقصة قد استطاعت أن تحقق أروع الانتصارات العربية وأن تردع القوى المضادة ، فإن غيبة التنظيم كانت حكما سابقا عليها بالفشل والإنحسار . لقد كان ذات الأسلوب الذي حقق النصر يتضمن عناصر الهزيمة وكانت فرحتنا الشاملة بالانتصارات بدون أن نفطن إلى أسلوبنا الخاطئ نعنى أن ستكون هزيمتنا مفاجئة لنا . وفعلا في ساعات قليلة شلت المفاجأة فيها المقدرة العربية ، راقبت الجماهير العربية المشدوهة حفنة هزيلة من العملاء يحطمون وحدة الجمهورية العربية المتحدة ، ويغتصبون الإقليم الشمالي ببساطة مذهلة وبدون مقاومة . وانحسر المد العربي الجماهيري ابتداء من سبتمبر ( أيلول ) 1961 ، لنكتشف بعد فوات الأوان كما تكرر كثيرا أن الهزيمة هي الجزاء المناسب لأي أسلوب غير علمي في النضال السياسي .. فلما إن اكتشفنا عدنا مرة أخرى إلى البحث عن صيغ تربط بين الحركة السياسية فى الوطن العربي وغاياتها برباط استراتيجي . وكان آخر ما عرض قبل يونيو 1957 ، صيغة العمل " الجمهوري " بين المنظمات الإقليمية تحت شعار " وحدة القوى العربية الثورية " الذي لم يعرف أحد كيف يضعه موضع التنفيذ .

وكان طبيعيا أن تأتى هزيمة يونيو 1967 لتثبت بما لا يقبل الشك أن كل تلك الأفكار والمحاولات والصيغ على المستويين الرسمي والجماهيري ، قد فشلت في أن توفر للنضال العربي الاستراتيجية التي يفقدها .

لماذا ؟..

14 ـ في محاولة الإجابة عن هذا السؤال ينفعل بعض الشباب العربي ويوزعون الاتهامات ـ التي قد تصل إلى حد الخيانة ـ على أغلبية الذين عملوا في حقل السياسة العربية طوال نصف قرن . ويتحدث الشيوخ المجربون عن إنعدام الإخلاص وانحراف الأخلاق .. الخ . ظواهر فردية لا يخلو منها تاريخ أمته وهى تبرر دائما الإنفعال ضد الخائنين والمنحرفين ، ولكن من السطحية أن نتهم الفاشلين دائما بأنهم خونة أو غير مخلصين . إن هذا يعنى أن تاريخ الأمم تصنعه الأهواء بدون توقف على الظروف الموضوعية . وهو غير صحيح . إن الذين يهيلون التراب على أجيال من المناضلين الذين حاولا نصرة أمتهم في ظروف بالغة القسوة ثم ينفضون أيديهم من الواقع الموضوعي الذي هزمهم ، إنما يحاولون الحصول على براءة كاذبة سرعان ما تكشفها الظروف الموضوعية التي ظنوا أنهم قد دفنوها . إذ أن السؤال الذي يتحدى الشباب " من مناضلي الصالونات والمقاهي " الذين لا يكفون عن التشهير بتاريخ النضال العربي هو : فليكن ما تقولون فماذا أنتم فاعلون ؟.. عندئذ سيرون أن كل الوفاء القومي والإخلاص  والاستقامة لا تغني عن العمل الإيجابي العلمي المنظم للسيطرة على الظروف وسبق الأحداث والتحكم في  وقوعها ، أي لا تكفى لتحقيق النصر وتجنب الهزيمة . إن هذا أحد الدروس الثمينة التي تعلمناها من 5 يونيو .

وإذا كنا نحصل الآن دروسا من الهزيمة لكي نستطيع أن نحقق النصر ، عرفنا منها أولا أن السياسة العربية لم تكن تنتهج الأسلوب العلمي ، وعرفنا منها ثانيا أن الذي ينقص السياسة العربية من عناصر الأسلوب العلمي هو الاستراتيجية العربية ، وعرفنا منها ثالثا أن الأفكار والمحاولات والصيغ التي استهدفت تجاوز هذا النقص قد فشلت ، فأولى بنا ـ بدلا من السباب المنفعل ـ أن نعرف ما هي الظروف الموضوعية التي أدت بأجيال من المناضلين العرب ، لم تنقصهم المعرفة بالأسلوب العلمي ، ولم تنقصهم الرغبة في التزامه ، ولم يكفوا عن محاولة إنتهاجه .. إلى العجز فالفشل فالهزيمة . ذلك أولى بنا لأنه مهما تكن مبررات إدانتنا للماضي المهزوم ، فإن على هذه المعرفة تتوقف مقدرتنا على تحقيق المستقبل المنتصر .

فما هي الظروف الموضوعية التي تحول دون وحدة الاستراتيجية العربية ؟..

15ـ عندما نتحدث عن الظروف الموضوعية لابد لنا من أن نختار ، فالظروف الموضوعية هي كل عناصر الواقع وهى بالغة التعدد والتنوع على وجه لا يجدي معه الحصر . وهى لا تكف عن التغيير على وجه لا يجدي معه الإطلاق . ومعنى هذا أنه لكي نستطيع الوصول إلى إجابة يجب أن نقصر حديثنا على الظروف الأساسية والثابتة نسبيا . على ضوء هذا نعتقد أن ثمة ثلاثة ظروف موضوعية متكاملة تقوم " معا " عقبات فى سبيل وحدة الاستراتيجية فى النضال العربي .

أولا ـ التجزئة : 

فعلى المستوى الرسمي تقوم تجزئة الأمة العربية إلى دول عديدة حائلا دون أن تكون لهذه الدول استراتيجية عمل سياسي واحدة ، حتى لو رغبت فى هذا . أننا هنا لا نحاول إدانة التجزئة لأسباب قومية أو لأية أسباب أخرى . إنما نريد أن نضع أمام الدول العربية حقيقة باردة كالموت ، هي أن ما تعانيه من فشل فى محاولاتها وضع والتزام استراتيجية واحدة لسياستها العربية راجع ـ بصر النظر عن الإدعاء أو الإخلاص ـ إلى طبيعتها ذاتها . ذلك لأن الدولة ـ أية دولة ومنها الدول العربية ـ تستطيع أن تنتهج الأسلوب العلمي في سياستها ، هذا لاشك فيه . فهي تنظيم لسياسي يملك الكوادر ويملك الغايات وقادر دائما على أن يضع  لنفسه تخطيطا سياسيا بعيد المدى يربط بين غاياته وتحرك أجهزته وموظفيه ، تقوم على قيادته ومراقبة تنفيذه واحدة متوافرة في كل دولة " الحكومة " . غير أن هناك قيودا تفرض نفسها على سياسة أية حكومة في أية دولة وتتحكم في سياستها . أولها التزامها " الدستور" بأن تحدد غاياتها وتضع استراتيجيتها وتتحرك في خدمة المصالح التي تمثلها وفى حدود إمكانياتها الخاصة . ليس معنى هذا أن مصالح الدول وبالتالي سياستها ، لا تلتقي ولكن معناه أن تقدير ضرورة هذا اللقاء ، ومضمونه ، ومداه وحدوده يتم على أساس المصالح التي تمثلها كل حكومة كقيادة لتنظيم سياسي  مستقل " دولة " فهو التقاء مرحلى دائما . ولأنه مرحلي مؤقت يكون دائما جزئيا غير شامل إذ تحتفظ كل حكومة بحريتها في التصرف بعد إنتهاء مبررات الالتقاء المرحلي أو حتى في أثنائه لتحقيق مصالح أخرى لا تلتقي عليها مع حلفائها ، فإذا إفترضنا ـ جدلا ـ أن كل واحدة من الدول العربية قد انتهجت أسلوبا علميا فى سياستها فكانت لها استراتيجية سياسية خاصة فإن أقصى ما يسمح به تعدد الدول العربية هو الإلتقاء والتنسيق السياسي بين الدول العربية . فالواقع إن مثل هذه الأدلة تعبر ـ فى ظل واقع التجزئة ـ عن طفولة سياسية ، وإنما يعنى ـ ببساطة ـ أن ثمة استحالة موضوعية لالتزام الدول العربية ـ بحكم أنها دول مستقلة ـ بأية خطة سياسية طويلة المدى ، بأية استراتيجية عربية ، لأن " الإلتزام " يتطلب وحدة القيادة وهذا يعني ـ على المستوى الرسمي ـ وحدة الحكومة ، ويتطلب وحدة التنظيم ، وهذا يعني ـ على المستوى الرسمي ـ وحدة الدولة " دولة الوحدة العربية " . فإذا كان تعدد الدول العربية وبالتالي تعدد الحكومات ، ينفى وحدة الدولة العربية وحكومتها ، فإنه ينفي أي مكان لإلتزام الدول العربية باستراتيجية واحدة ، حتى لو نسقت بين تحركاتها على مستوى التكتيك ومهما حسنت النوايا .

ثم أن كل دولة عربية ملتزمة " دوليا " بأن تحترم هذا الإستقلال السياسي للدول العربية الأخرى . وهو التزام مصدره وجودها كعضو مستقل في المجتمع الدولي ، وهذا يسد هذا الوجود ـ نهائيا ـ الطريق أمام أية مبادرة قد تحاول أية دولة عربية بها " إلزام " الدول الأخرى بأي مخطط سياسي عربي طويل المدى .

ثانيا ـ الإقليمية :

   إذا كان تعدد الدول العربية يحول بطبيعته الدستورية والدولية دون توافر استراتيجية تلتزم بها الحكومات العربية ، وهو ما يقدم مبررا موضوعيا لفشل المحاولات الرسمية في وضع هذه الاستراتيجية والالتزام بها . فإن هذه الاستحالة غير قائمة على مستوى النشاط السياسي الجماهيري " غير الرسمي " فتستطيع الجماهير العربية دائما أن تضغط على حكومات الدول العربية وتلزمها أن تتحرك سياسيا على وجه يتفق مع الأهداف القومية وهو ما يعني أن ليس ثمة استحالة في أن تتوافر للجماهير العربية استراتيجية نضال قومي تتحرك على هديها في مواجهة حكومة لها . ويمكن القول بأن الخطوط العامة لمثل هذه الاستراتيجية قائمة بالنسبة إلى القاعدة العربية من جماهير الأمة العربية . غير أن هذه الخطوط العامة تواجه عقبات تحول دون بلورتها في استراتيجية محددة وتجردها من أية فعالية سياسية .

أهم هذه العقبات هي الإقليمية . ونعني بالإقليمية موقفا فكريا أو حركيا ، مضادا للمواقف الإقليمية فكرا وحركة . إنه موقف ينطلق ـ على المستوى الفكري ـ من أفكار لوحدة المصير التي يمثلها الوجود القومي لأنه ينكر الوجود القومي ذاته . وهو ينطلق ـ على المستوى الحركي ـ من قصر التزامه على المشكلات التي تطرحها الظروف الإقليمية تاركا مسئولية مواجهة المشكلات في كل دولة عربية   " لرعاياها " . والأصل في الموقف الإقليمي أنه انعزالي لأنه لما كان الوجود القومي يعبر عن ذاته في وحدة المشكلات والمصالح بين كل الأقاليم فإنه يفرض على الموقف الإقليمي مواجهة مشكلات قومية عندئذ يدركها بذهنية إقليمية فيعتبرها مشكلات طارئة وخارجية ، ويعالجها بأدوات إقليمية " منظمات أو أحزاب إقليمية " ومن هنا ندرك أن الإقليمية لا تعني عدم المشاركة في النضال العربي ولكنها مشاركة المرغم الذي ينتهز أول فرصة للهرب من تلك المشكلات التي تلهيه عن نضاله " الوطني " والقابل دائما للمساومة على هذا الهروب . وقد يكون الإقليمي تحرريا يخوض أقصى المعارك ضد الاستعمار ويستنفر في هذا كل القوى التحررية في الوطن العربي ، ويحصل منها على كل مساعدة ممكنة ، متذرعا بكل أسلوب ومنه الاحتجاج بوحدة المصير ولكنه لا يلتزم بأكثر من تحقيق استقلال قطعة من الأرض العربية ليقيم عليها " جمهورية " ذات رئاسة وأعلام وأناشيد . وقد يكون الأقليمي اشتراكيا يناضل في إقليمه من أجل إلغاء الاستغلال والتنمية الاقتصادية . وقد يتبادل الخبرة مع غيره من الاشتراكيين في الدول العربية وقد يقف معهم في جبهة واحدة ضد الرجعية ولكنه لا يلتزم بأكثر من تحرير الجماهير في "وطنه" من القهر الاقتصادي ومحاولة إقامة إقتصاد وطني قادر على تحقيق  الرخاء مستغلا رغبة الجماهير في التحرر والرخاء لإلهائها عن رغبتها في  الوحدة .. الخ .

الخلاصة أن الإقليميين يشغلون فعلا مواقع في النضال العربي فرضتها عليهم الوحدة الموضوعية للمصالح القومية أي أنهم مختلطون بصفوف المناضلين من القوى القومية التقدمية فهم جميعا يتكلمون لغة تكتيكية واحدة ولكن كل فريق منهم يعبر بها عن مفهوم إستراتيجي مختلف . وكلما أراد القوميون التقدميون فتح حوار بناء لتجاوز هذا الإلتقاء الفكري المؤقت والجزئي إلى وحدة فكرية عقائدية ودائمة إحتج الإقليميون بأن تلك محاولة تجريدية ، وغير واقعية ، وأنها تؤدي إلى تمزق صفوف القوى التقدمية ، وأدى هذا كله إلى أن الخطط العامة  لاستراتيجية النضال الجماهيري في الوطن العربي كما تعبر عنها المواقف التكتيكية للجماهير ، وغايات نضالها التي يعبر عنها الشعار السائد " حرية . وحدة . اشتراكية " ظلت ـ بفعل النشاط الفكري والسياسي اللاقومي عاجزة عن أن تتحول إلى تنظيم قومي موحد القيادة موحد الاستراتيجية موحد التكتيك . ويبقى العمل الجماهيري في الوطن العربي موزعا بين قيادات عدة ، ومنظمات عديدة ، أي غير قادر على أن ينتهج الأسلوب العلمي وهو ما يعني أنه غير قادر على النصر .

ثالثا ـ الاستعمار والصهيونية :

يمكن أن ندرك بسهولة ـ ما قلناه ـ كيف تفتك التجزئة والإقليمية بمقدرة الأمة العربية على أن تملك أسباب النصر في نضالها ضد القوى المعادية لها . كما يمكن إدراك العلاقة الإيجابية بين التجزئة والإقليمية حيث تدعم كل منهما الأخرى فتحول التجزئة دون إلتحام الجماهير العربية في تنظيم قومي واحد . وتتولى الإقليمية مهمة تبرير وتجسيد التجزئة على المستوى الجماهيري . وإذا كان من السهل علينا إدراك هذا الواقع ودوره المعوق للنضال العربي . فإن القوى المعادية تدركه بسهولة أيضا وتعرف تماما دوره المساعد على إنجاز مخططاتها ضد الأمة العربية . ومن هنا يمكن أن نقول أن دعم التجزئة الإقليمية يكون جانبا أساسيا من استراتيجية القوى المعادية . أي أننا لا نواجه التجزئة مواجهة تتوقف نتيجتها على مدى مقاومة عوامل الانفصال على عوامل الوحدة بل أن الاستعمار والصهيونية يعملان ـ من حيث خدمة غاياتهما العدوانية ـ على تكريس التجزئة . إن هذا يفسر لنا ذلك الإعلان المتبجح الذي تأخذ به الولايات المتحدة الأمريكية على عاتقها الإلتزام بحماية الدول في الشرق الأوسط . أي حماية استقلال أية دولة عربية ضد أي تدخل استعماري أمر لا شك في أنه واجب قومي ، ولكن الاستعمار هنا هو الذي يعلن هذه الحماية . إنه يريد أن يقول ببساطة : لا وحدة عربية . وعلى مستوى الجماهير  لا نعتقد أن أمة في الأرض قد تعرضت لحملة منظمة لتشكيكها في وجودها القومي وتدعيم الإتجاهات الإقليمية والانفصالية فيها مثل ما تعرضت وتتعرض له امتنا العربية . كل أدوات التأثير الفكري والسياسي ، متناقضة المضامين متناقضة الأشكال ، رجعية أو تقدمية ، رأسمالية أو اشتراكية ، فلسفة  أو أدبا أو فنا أو حتى كتب أطفال … كلها استعملت وتستعمل لمجرد أن تكون " الأولوية " للعمل الإقليمي حتى لو لم تصل إلى إنكار العلاقة القومية . ذلك لأن هذه الأولوية تبقي أي تقارب أو إلتقاء عربي ـ رسمي أو جماهيري ـ على المستوى التكتيكي وتحول دون وحدة استراتيجية النضال العربي وهذا هو المقصود من الدعم الاستعماري والصهيوني للإقليمية العربية .

تلك إذن ثلاثة أسباب موضوعية ، أساسية ، متفاعلة ، متكاملة ، يغذي بعضها بعضا أدت إلى فشل المحاولات التي لم تنقطع لتحقيق وحدة النضال العربي على المستوى طويل المدى " الإستراتيجي " وحالت ـ بالتالي ـ ودون أن تكون السياسة العربية سياسة علمية ، بالرغم من  كل الإخلاص وكل النوايا الحسنة ..

فما العمل ؟..

16 ـ ما العمل فى سبيل ماذا ؟ إن هذا السؤال المضاد يضع أقدامنا على أول الطريق الصحيح إلى المستقبل ، إذ لا يمكن نفترض أن كل الذين يسألون ما العمل أو كل الذين يعملون في الوطن العربي يستهدفون غاية واحدة . وحتى الذين يتحركون في إتجاه واحد لا يتفقون على غاية مداه . إن تجاهل هذا الواقع يحيط النضال العربي باضطراب وغموض وتردد لا يمكن معه أن ينتصر . لابد أن نحدد غاياتنا البعيدة بأكبر قدر من الوضوح حتى يمكن أن نرى كيف نسلك إليها ، إنطلاقا من الواقع العربي ، طريقا علميا . لم يعد كافيا ـ مثلا ـ أن نقول أن غايتنا هي " النصر " على الصهيونية والإمبريالية . ذلك لأننا لا نخوض معركة ضد أعدائنا كجولة رياضية في حلبة المصارعة الحرة ، غاياتها أن تثبت أيا من الطرفين هو الأقوى بل أن الصراع ضد الصهيونية يدور على مضامين حية هي التي تقوم غاية لهذا الصراع . إن المبرر الوحيد المقبول للصراع ضد الصهيونية والإمبريالية هو أن نشاط هذه القوى في الوطن العربي يقوم عقبة في سبيل غايات محددة لنا تستحق أن نموت من أجلها ، ومعنى هذا أن تكون لنا غايات بعيدة نستهدفها من النضال العربي غير متوقفة على النشاط الصهيوني أو الإمبريالي ، أي ألا نترك للصهيونية أو الإمبريالية  أن تحدد لنا غاياتنا كرد فعل لتحركاتها ، وبالتالي أن تتحكم في  تحركاتنا . يجب أن نحدد غاياتنا . يجب أن تكون لنا مبادئ . يجب أن تكون لنا " نظرية " . وقد رأينا من قبل كيف أن ذلك هو أول عناصر الأسلوب العلمي في النضال السياسي وقلنا أن الجماهير العربية قد حددت منذ أمد بعيد  غايتها : إقامة دولة الوحدة الاشتراكية والديمقراطية في الوطن العربي .

وبهذا يصبح يسألون أيضا ما العمل من أجل النصر ، ولكن النصر عندهم ذو مفهوم محدد بغايتهم إنه إقامة دولة الوحدة الاشتراكية والديمقراطية . وعلى ضوء هذه الغاية تكون استراتيجية النضال العربي تخطيطا ثابتا يحدد إتجاه هذا النضال في كل المواقع ، ومهما تنوع ، من واقع الاستعمار والتجزئة والاستقلال إلى الحرية والوحدة والاشتراكية . في نطاق هذه الاستراتيجية وفي خدمتها تدور المعارك ضد كل القوى التي تناهضها  أو تقف عقبة في سبيلها ، وعلى رأسها الصهيونية والاستعمار . ولإن هذه المعارك في خدمة أهداف استراتيجية بعيدة وشاملة فإنها تدور في جميع الجهات " المحلية والعربية والدولية " وفي جميع المجالات " الثقافية والدعائية والثورية والعسكرية " . ولأنها معارك تكتيكية فإن الهزيمة فيها لا يمكن أن تكون إلا مقدمة لمعارك جديدة . والنصر فيها لا يمكن إلا أن يكون تمهيدا لمزيد من النصر . على هذا الوجه تغلق أبواب اليأس والانهزام والمساومة ، ونكسب صلابة الصمود ضد الهزائم المرحلية والمحدودة ، لأننا نعلم أن النصر أو الهزيمة بالنسبة إلينا هو تحقيق أو فشل غايتنا البعيدة ، وأننا في الطريق إلى هذه الغاية نخوض معارك متنوعة وكثيرة قد نكسب بعضها وقد نخسر البعض وتبقى العبرة في النصر أو الهزيمة بالغاية النهائية التي لا يمكن أن تتحقق إلا بعد سحق القوى المناهضة لها سحقا تاما ونهائيا ، وهذا ما يعني الاستعداد الذهني لمعارك ضارية تبدأ بالصعود ثم بإزالة النكسات ثم ـ لا تتوقف ، بل تتقدم لتكسب مواقع جديدة على طريق النصر .

على هذا الأساس تكون أمام الشباب العربي مهمتان :

المهمة الأولى : إزالة آثار هزيمة يونيو " حزيران " 1967 ، وهذا لا يطيق الانتظار إلى أن نخضع النضال العربي  لاستراتيجية طويلة المدى ، إذ أننا مشتبكون فعلا مع القوى المعادية في معركة لا بد من كسبها ولو كانت معركة محدودة ومرحلية . وهذا يتم مع قدر من التنسيق العربي لحشد كافة الجهود والإمكانيات المتاحة نكسب معركة إزالة آثار العدوان .

المهمة الثانية : تصحيح أسلوب النضال العربي على أسس علمية بحيث نسبق الزمن ونتلافى الحوادث قبل أن تقع ونتحكم في وقوعها . أي أن نبدأ الأن في الإعداد للمستقبل . نبدأ من الآن في التجهيز للمعارك التي سنواجهها بعد النصر في معركة إزالة آثار العدوان . نبدأ من الآن في العمل من أجل ألا تتكرر في تاريخنا هزيمة يونيو " حزيران " 1967 ..

17 ـ كل هذا مفهوم أو سهل الفهم ومع هذا تبقى المشكلة التي تحول دون وضعه موضع التنفيذ ، أي تبقى مشكلة كيف يتحقق هذا الأسلوب العلمي في النضال العربي إن العقبات الأساسية الثلاث التي ذكرناها تحدد لنا الإجابة ؟..

فإذا كان الأسلوب العلمي في النضال العربي يتطلب أن تقوم عليه منظمة سياسية تنطلق من مبادئ محددة " نظرية " وتلتزم تخطيطا طويل المدى للوصول إلى غاياتها " إستراتيجية " وتضبط حركة المناضلين في كل المواقع وتقودها بحيث تصب في الخط السياسي الذي تجده ، فإنه من الهزل أن نتوقع مساعدة من أعدائنا على إقامة هذه المنظمة . كما أنه من المثالية أن نتوقع ـ أو حتى نطلب ـ من الدول العربية أن تصل إلى هذه الوحدة النضالية التنظيمية لأن طبيعتها كدول مستقلة قائمة على أساس التجزئة تحول دون تحقيق هذه الوحدة . فلا يبقى إلا أن تقوم على المستوى العربي الجماهيري . أي أن نقطة البداية لأي عمل يريد أن يسبق الزمن على الأرض العربية ، ويعد للأحداث قبل أن تقع ، ويتحكم في وقوعها هو أن يوجد التنظيم القومي الطليعي الملتزم بإستراتيجية عمل عربي طويلة المدى القائد لنضال الجماهير العربية فى كل المجالات وفى كل المواقع . 

ولقد رأينا من قبل كيف يفتك التخريب الإقليمي بمقدرة التقدميين العرب على تجاوز التمزق إلى الالتحام وتجاوز التعدد إلى الوحدة ، من خلال اشتباكهم مع الإقليميين في حوار لا ينتهي حول ضرورة التنظيم القومي ، وما إذا كان ثمة صيغة مناسبة غيره .. الخ . وطبيعي أنه طالما كان هذا الحوار المتردد قائما ، وطالما كانت هذه الذهنية التجريبية سائدة ، وطالما استمر الشباب العربي التقدمي في قبول التشكيك في منطلقاتهم وغاياتهم ستظل مقدرتهم على تجسيد وجودهم في تنظيم قومى واحد مشلولة .

فإذا كانت هزيمة 5 يونيو " حزيران " 1967 قد حسمت هذا وإذا كانت قنابل  " النابالم " التي حرقت أجساد شهدائنا قد حرقت الذهنية التجريبية ، وإذا كان الشباب العربي التقدمي قد تعلم أن الشك في منطلقاتهم وغاياتهم يعنى الشك فى استحقاقهم النصر .. وباختصار إذا كانت هزيمة 5 يونيو " حزيران " 1967 قد علمتنا أن النصر النهائي لأمتنا ، في معارك الحياة أو الموت التي نخوضها ، متوقف على التحام المناضلين العرب في تنظيم قومي واحد ، فإنها تكون قد وضعت أقدامنا على أول طريق النصر .

كيف يقوم التنظيم القومي ؟..

غير أن هذا حديث آخر ..




    

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق