بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 29 ديسمبر 2020

أسس الاشتراكية العربية : الفصل الثاني .


 أسس الاشتراكية العربية .


الدكتور عصمت سيف الدولة .

الفصل الثاني : جدل الانسان .

ـ 1 ـ

يمكن ان توجد اشتراكية عربية ، بل لا يمكن أن توجد إلا اشتراكية عربية في الوطن العربي ..

فليكن ، وبعد ؟

أكاد أسمع هذا الاعتراض المتبرم ، كأن التسليم بالحقيقة التي وصلنا إليها شيء غير ذي خطر . أبدا وبإصرار ، أقول إننا بذلك نكون قد حققنا نصف انتصار الحركة الاشتراكية العربية . نكون قد تخلصنا نهائيا من ذلك الكابوس الضاغط على أفكارنا المقيد لحركتنا . نكون قد وجدنا أنفسنا وعرفنا طريقنا . نكون قد تسلمنا زمام مصير أمتنا ، وتحملنا مسؤولية تحقيق هذا المصير . نكون قد استرجعنا حقنا ـ وحدنا ـ في التصدي لبناء الاشتراكية . نكون قد اكتسبنا مع هذا الحق المقصور علينا الجرأة والصلابة اللازمتين لمواجهة التيارات الرجعية والعميلة والمنحرفة . نكون قد حصلنا على منبع القوة والإصرار اللازمين لبناء الاشتراكية من إيماننا بأننا نناضل في سبيل غاية منتصرة . نكون قد حددنا موقفنا وعرفناه ، ولن تختلط علينا الأمور بعد هذا ، ولن يخلطها علينا أحد .

إننا لم نبن الاشتراكية العربية بعد ، بل نحاول ان نبنيها ، أي أننا عند نقطة الانطلاق ، وكل شيء يتوقف على الاتجاه الذي نختاره ، فهل ثمة ما هو أهم من معرفة إلى أين نسير ؟ وقد عرفناه . إننا منطلقون إلى تحقيق اشتراكية عربية متميزة عن النماذج الاشتراكية الأخرى ، في النظرية وفي التطبيق .

فالاشتراكية العربية ، إذ هي مصير ، لم تعد محل جدل ومناقشة ، ولكن ثمرة مرتقبة تتطلب بذل الجهد المنظم للوصول إليها . إن المسألة الآن لم تعد التأكد من مولد الاشتراكية العربية ، ولكن معرفة كيف يكون الوضع أقل ألماً ، كما قال ماركس. وفي سبيل هذا ، فلتبذل الجهود ، بدون خوف . وفي سبيل هذا " لتتفتح مائة زهرة "  كما قالوا في الصين .

وكل ما فات من حديث ، وكل ما يجيء ، ليس سوى اجتهادا في غرس بذرة ، لعلها أن تنبت زهرة في باقة الاشتراكية العربية . إنه اجتهاد متحرر من كل خوف ، وخاصة الخوف من الكلمات الكبيرة  كالطبول .

ـ 2 ـ

كيف  تنفذ الاشتراكية  العربية ؟

قبل التنفيذ ، يجب أولا أن نعرف كيف نفكر .

المسألة بسيطة هكذا يقولون إما أن تكون مادياً أو مثاليا . ولست أتصور قولا يتضمن احتقار للإنسان أكثر من هذا القول سوى أن نقول له : إنك عبد . قد ننتهي إلى أن نكون ماديين او مثاليين ، ولكن أن تفرض علينا البداية ، فهو استفزاز لا يسعنا إلا أن نرفضه . نرفض ان توضع عقولنا منذ البداية في قوالب مصبوبة . فإذا كنا نريد ان نفكر ، فيجب ان نحتفظ لأنفسنا بحرية التفكير - على الأقل - وإلا فلماذا نفكر على الإطلاق ؟

وردا مباشرا للاستفزاز ، سنناقش تلك القضية : إما ان تكون ماديا أو أن تكون مثاليا .

ـ 3 ـ

فلنعرف أولا ماذا يعنون بالمثالية وبالمادية ، ولننتهز الفرصة لنعرف ماذا تعني بعض التعبيرات الأخرى التي يشيع استعمالها في الكتابات العلمية أحيانا ، وتستعمل ستار للإدعاء العلمي في كثير من الأحيان . مجرد معرفة أو تعريف ، دون الحكم لها أو عليها ، إلى أن نلتق بها حيث مجاله الحكم والتقدير . ولنرجع في هذا إلى كتابات الاشتراكيين حتى لا نفتح باباً للسفسطة حول مدلول  الكلمات .

يقول أفاناسييف  في كتابه " الفلسفة الماركسية" إذا تأملنا العالم حولنا فسنلاحظ أن الأشياء والظواهر ، إما مادية ، أو مثالية روحية . وتشمل الأشياء والظواهر المادية كل ما هو موجود بذاته خارج عقل الإنسان ، وغير متوقفة عليه ( الأشياء والحركة على الأرض وعدد لا نهائي من الأجسام في الكون ... الخ ) . ومن ناحية أخرى فإن كل ما يوجد في وعي الإنسان ، وكل ما يدخل في مجال نشاطه الذهني : ( الأفكار والأحاسيس و العواطف ) يدخل في مضمون المثل أو الروح .

"ما هي الصلة ببن المادي والروحي ؟ بين العالم الخارجي والفكر ؟ هل المادة تخلق الفكر أو أن الفكر يخلق المادة ؟.

"ان طبيعة هذه الصلة ، وعلاقة الأفكار بالموجودات ، أو علاقة ما هو روحي بما هو مادي ، تمثل المسألة الأساسية في الفلسفة ، إذ يتوقف على معرفتها حل كافة المشكلات الفلسفية الأخرى ، مثل وحدة العالم ، ونوع القوانين التي تحكم تطوره ، وماهية المعرفة وكيفية إدراك العالم ... الخ . ولما كان لا يوجد في العالم شيء غير ما هو مادي ، أو ما هو فكري أو روحي ، فلا يمكن تكوين فكرة فلسفية ، وإدراك العالم ككل ، قبل حل هذه المسألة الأساسية .

 ولهذه المسألة وجهان :

" أولهما : حل مسألة  أيهما وجد أولا المادة أو الفكر ؟ هل المادة تخلق الفكر أو العكس ؟

ثانيهما : هل تمكن معرفة العالم ؟ ... هل يمكن للعقل البشري أن يقتحم الطبيعة وان يكشف تطورها ؟

" ... إن الفلاسفة الذين يذهبون إلى أن المادة وجدت أولا ، وأن الفكر وجد تاليا لها ، أي أن الفكر من ناتج المادة ، ماديون . وتكون المادة في رأيهم أزلية لم يخلقها أحد ، ولا توجد أية قوة فوق الطبيعة أو خارج العالم . أما عن الفكر فهو نتيجة التطور التاريخي للمادة . إنه خاصة لجسم مادي مركب تركيباً معقداً وغير عادي هو مخ  الإنسان .

أما الفلاسفة الذين يذهبون إلى أن الروح او الفكر وجد أولا ، فهم مثاليون . وفي رأيهم وجد الفكر قبل وجود المادة وأوجدها ، فهو الأساس الأول لكل ما هو موجود " .

هل توجد مذاهب أخرى ؟

نعم ، كثير كثير ، لم ينقطع سيلها بعد . منها كما يقول واضعو " أسس الماركسية - اللينينية :

" فلسفات لا تقبل أولوية المادة أو أولوية الفكر . إنها الفلسفات الثنائية التي تهدف إلى إثبات أن للعالم ) أساسين منفصلين ومختلفين في طبيعتهما اختلافا مطلقاً المادة والروح . الجسم والعقل . الطبيعة والفكر . وقد كانت تلك نظرة  ديكارت " . ومنها :

الفلسفة الوضعية ... والوضعيون يعلنون أنهم غير ماديين وغير مثاليين ولكنهم باحثون عن الحقائق عن طريق التجربة " . إنهم ـ كما يقولون ـ رجال علم وان العلم ) " يجب أن يكتفي بتلك الحقائق التي تصلح أن تكون موضوعا  للملاحظة ، وألا يبحث فيما وراءها سواء كان مادياً أم  روحيا..

ومنها ... غير أنه  ينبغي أن نتوقف ، حتى لا ينقلب البحث إلى سرد لتاريخ الفلسفة .

ونتوقف لنسأل : ما أهمية أن يكون الإنسان مادياً أو مثالياً .. ؟

يجيب مؤلفو " الفلسفة الماركسية " :

يحدد الناس في طلبهم المعرفة ، أو في نشاطهم العملي أهدافاً معينة . ويطرحون أعمالا محددة . ولكن تحديد الأهداف ، وتعيين الأعمال ، لا يني أن نحققها ، إذ من المهم جداً أن نعرف الطريق الصحيح إلى الهدف ، والوسائل الكافية لإنجاز العمل . وطريق الوصول إلى الهدف . ومجموع المبادئ والطرق في الدراسة النظرية ، أو التطبيق العملي ، يكون ما يسمى بالمنهج .

" وبدون استعمال منهج محدد لا يكن حل أية مشكلة علمية او عملية " .... والمنهج ليس خليطاً ميكانيكياً من أساليب شتى في الدراسة ، يختارها الناس اعتباطاً ، دون أي اعتبار للظواهر موضوع الدراسة . ان المنهج ذاته محدد إلى حد بعيد بطبيعة تلك الظواهر وقوانينها الذاتية . وعلى هذا فإن كل نوع من العلوم أو النشاط ، يقدم مناهجه الخاصة . فمناهج الفيزياء مثلا تختلف عن مناهج الكيمياء ، وتختلف  الأخيرة عن مناهج الأحياء وهكذا . " والجدلية المادية هي منهج معرفة العالم ككل ، أي المنهج الصالح لمعرف كل شيء  ،  أما الميتافيزيقا فهي المنهج المناقض للجدلية المادية " .

هنا قفزة لا نستطيع ان نجاري أفاناسيف فيها . فتعبيرا الجدلية المادية و الميتافيزيقا " في حاجة إلى إيضاح قبل أن نستطرد فلنعرفهما أولا .

في الأصل كان السيد أرسطو يكتب في الفلسفة . فكتب فصلا درس فيه الظواهر الطبيعية تحت عنوان " الطبيعة أو الفيزياء " ، وتلاه بفصل تناول فيه ما وراء الظواهر الطبيعية . كيف وجدت ومن أوجدها ...الخ . وأعطى له عنواناً " ما وراء الطبيعة او الميتافيزيقا " واستعملت الكلمة الأولى لتمييز الدراسات التي تتعلق بالطبيعة وظواهرها ، أو للإجابة عن السؤال : كيف ؟ ... كيف تتحول وكيف تتطور وكيف تبدو ... الخ. واستعملت الكلمة الثانية لتمييز الدراسات التي تبحث عن " ماهية " الظواهر وهي دراسات فكرية مجردة ؛ لأنها تبحث فيما هو خارج الطبيعة .

ولكن واضعي كتاب  أسس الماركسية ـ  اللينينية يضيفون شيئاً مفيداً ، فيقولون  : " إن مدلول الميتافيزيقا فى الماركسية يختلف عن مدلوله كما كان يستعمل قبل الماركسية ، وفي الكتابات البورجوازية . ففيما قبل الماركسية ، كانت تلك الكلمة اليونانية ، أو على الأصح التعبير اليوناني ، يطلق للدلالة على قسم خاص في الفلسفة ، يحاول الفلاسفة فيه ، ولا يزالون ـ عن طريق مجرد الافتراض الفكري ـ معرفة حقيقة الجوهر الخالد المطلق في الأشياء " ." وكان ماركس وأنجلز يقصدان به منهج البحث والتفكير غير الجدلي الذي يتبعه الميتافيزيقيون ، بدلا من إطلاقه على قسم خاص من البحث الفلسفي ، أو. المعرفة عن طريق التأمل الفكري . وفي الوقت الحالي يستعمل التعبير في الفلسفة الماركسية بالمعنى الذي كان يقصده ماركس وانجلز فقط في اغلب الأحوال " .

فليكن . إذن فالجدلية المادية منهج للمعرفة ، والميتافيزيقية منهج للمعرفة أيضاً . وهما نقيضان . فما علاقة هذا بالمادية وبالمثالية ؟

إن تفاعل كل من المثالية ، والمادية ، والجدلية ، والميتافيزيقية يقدم لنا أربعة مواقف :

مثالي ميتافيزيقي ، ومادي ميتافيزيقي، ومثالي جدلي ، ومادي جدلي .

يقول مؤلفو" أسس الماركسية ـ اللينينية " :

" لقد كان ثمة وقت كانت الأفكار العلمية في أغلبها ميتافيزيقية وليست جدلية ، وقد وجدت الطريقة الميتافيزيقية في التفكير كمنهج للبحث العلمي ، وأخذت شكلها النهائي ، وانتشرت ، في القرنين السابع عشر والثامن عشر ، أي وقت نشأة العلم الحديث ، في ذلك الوقت ، كان علم الطبيعة مشغولا في الأغلب بجمع المعلومات عن الطبيعة ، ووصف الأشياء والظواهر، وتقسيمها إلى أنواع . ولكي يمكن وصف أي شيء يجب فصله عن مجموع الأشياء الأخرى واختباره منفردا . هذا البحث خلق عادة دراسة الأشياء والظواهر منعزلة أي خارج علاقاتها الكونية . وقد حال هذا دون أن يعرف الناس تطور الأشياء مما كانت عليه إلى أشياء أخرى مختلفة ، وهكذا وجدت طريقة التفكير الميتافيزيقي . أي رؤية الأشياء منعزلة عن بعضها وتجاهل تطورها " .

وعلى هذا يكون :

المثالي الميتافيزيقي هو الذي يعتقد أن الفكر قد وجد قبل المادة وأوجدها ، وينظر إلى الأشياء و.الظواهر - لمعرفتها ـ منعزلة عن علاقاتها الكونية ، وبالتالي لا يستطيع ان يعرف تطورها ، مستعملا في كل هذا التحليل الفكري .

والمادي الميتافيزيقي هو الذي يعتقد أن المادة سابقة على الفكر وتوجده ، وينظر إلى الأشياء والظواهر ـ لمعرفتها ـ منعزلة عن علاقاتها الكونية ، وبالتالي لا يستطيع أن يعرف تطورها ، مستعملا في كل هذا معرفته بالقوانين الطبيعية التي تحكم كل نوع من المادة على حدة ، وفي عزلة عن باقي الأنواع .

والمثالي الجدلي : هو الذي يعتقد أن الفكر قد وجد قبل المادة وأوجدها ، ولكنه ينظر إلى الظواهر والأشياء في علاقاتها معا ، وبالتالي يعرف القوانين الفكرية التي تحكم تطورها ( هيجل ) والمادي الجدلي هو الذي يعتقد أن المادة قد وجدت قبل الفكر وأوجدته ، وينظر أيضاً إلى الأشياء  والظواهر في علاقاتها معا ، وبالتالي يعرف القوانين المادية التي تحكم تطورها ( ماركس). إذن فالمشكلة هي معرفة القوانين التي تحكم التطور . قال لينين منذ نصف قرن تقريباً ( ١٩١٢ ) فيما كتبه عن " كارل ماركس " لدائرة معارف جرانات " إن فكرة النمو والتطور قد تغلغلت فى الوعي الاجتماعي بأكمله تقريباً ، وكان تغلغلها عن طرق عديدة غير مقصورة على الفلسفة الهيجلية ( مثالية جدلية ) ولكنها كما بناها ماركس وانجلز على الأسس التي وضعها هيجل ، أصبحت أكثر وضوحاً وأكثر خصوبة في محتواها من الفكرة الدارجة عن التطور . واستند إلى ما قاله أنجلز من قبله " لقد كان ماركس وأنا الوحيدين الذين أنقذا الجدل الفكري من تخريب المثالية بما فيها المثالية الهيجلية ، وتطبيقها على الطبيعة  بمفهومها المادي .

ومن هنا ، أي من آخر المطاف ، نحب أن نرد على السؤال الأول إمأ أن تكون هادياً أو مثالياً . فنعرض للمادية الجدلية وللمثالية الجدلية .

ـ 4 ـ

يقول مؤلفو " المبادئ الأساسية للفلسفة " ، ( بولتزير ، بيس ، كافينج ) وهم يشرحون ما قاله ستالين في " المادية الجدلية والمادية التاريخية " بأمثلة من عندهم إن الماركسية هي المفهوم الكلي للطبيعة في ذاتها ، وإذا كان كل علم من العلوم يدرس وجهاً من وجوه الطبيعة في ذاتها فإن الماركسية " تقدم  لك  مفهوما كلياً للطبيعة .

يعني ماذا ؟

يعني أن علم " كالكيمياء وعلم النبات والجيولوجيا وعلم الحيوان والطب .. الخ يحاول أن يقدم لنا " القوانين التي تحكم تطور المادة فى مجاله " فالكيمياء مثلا تقدم لنا قوانين تفاعل المواد ، وعلم النبات يقدم لنا قوانين حياة النبات من البذرة إلى البذرة وهكذا . ولكن الطبيعة أو الدنيا إذا أردنا استعمال تعبير دارج ـ تحتوي كل هذه العلوم ، كما أن هذه العلوم ذاتها متشابكة ومتفاعلة ، فهل هناك قوانين تحكم الطبيعة ؟ تقول الجدلية المادية نعم . فإن الاتساع المتزايد في ميدان البحث العلمي لم يكن ـ قبل ماركس كما يقول الماديون ـ قد وصل إلى أن يشمل الطبيعة كلها ، كان متألقا فى ميادين خاصة ، أي كان من الممكن أن نعرف ، إلى حد بعيد ، القوانين التي تحكم تطور النبات او الجماد أو الحيوان ، في جزئياته وككل . وقد تمت المعرفة الكلية  باكتشاف  داروين قوانين التطور ، وبقي أن نعرف القوانين التي تحكم الطبيعة كلها ـ ككل ـ وتقدم الجدلية المادية الجدلية تلك القوانين ، وتنسبها إلى نفسها وتقول إنها تكون معاً المفهوم الكلي للطبيعة كما هي ، بمعنى أننا باستعمال هذه القوانين يمكننا ، في أي وقت  أن نعرف أين الطبيعة وإلى أين تسير ؟ وعندما تقدم الجدلية المادية تلك القوانين ، تعني أنها قوانين أي أنها حتمية وعامة ؛ بمعنى ألا صغيرة أو كبيرة ، مما عرفناه ، أو سنعرفه في المستقبل تفلت من هذه القوانين .

بعد هذا ، إليك القوانين التي تكون " معا " المفهوم الكلي للطبيعة كما هي ، طبقا للمنهج المادي الجدلي ، الذي ينظر إلى الأشياء والتطورات في تسلسلها ، وفي علاقاتها المتبادلة ، وفعلها المتبادل ، والتحول الذي ينتج عن ذلك ، وفي نشأتها ، وتطورها ، وانهيارها ، كما قال انجلز في"لودفيج  فيورباخ " :

"أولا ان الطبيعة شيء واحد مرتبط ترتبط فيه الأشياء والظواهر ارتباطا عضويا فيما بينها ويقوم بعضها على بعض  ، ويكيف بعضها بعضا بالتبادل .

" لنأخذ لولباً معدنياً ، هل نستطيع أن ننظر إليه بمعزل عن العالم المحيط به ؟

" بدهيا لا . فقد صنعه أناس ( المجتمع ) من معدن مستخرج من الأرض ( الطبيعة ) . ولكن لننظر عن كثب أكثر ، فهذا اللولب في حالة سكون لا يكون مستقلا عن الظروف المحيطة به ، ومن هذه الظروف الثقل والحرارة والتأكسد وغيرها . ويمكن لهذه الظروف أن تغير لا في صفائه فحسب ، بل في طبيعته أيضاً ( الصدأ مثلا ) . وعندما نعلق فيه قطعة من الرصاص ، نجد ان قوة ما تؤثر في اللولب فيمتد ويتحرك شكل اللولب حتى يصل إلى حد معين من المقاومة . ويؤثر اللولب في الوزن ويؤثر الوزن في اللولب . فاللولب يتكون من جزيئات تربطها قوة الجذب ، بحيث أن اللولب لا يعود يحتمل الامتداد فينكسر بعد وزن معين ، لأن الرابطة بين جزيئاته تكون قد تحطمت . فلدينا إذن لولب غير ممتد ، ولولب ممتد ، ولولب مكسور ، وكل واحد منها نمط يختلف للرابطة بين الجزيئات . وإذا سخن اللولب تغيرت الروابط بين الجزيئات بشكل آخر ( هو التمدد ) .

فنحن نقول أن اللولب في طبيعته ، وفي تشكيلاته المختلفة يتحدد بالتفاعل بين ملايين الجزيئات التي يتكون منها ، ولكن هذا التفاعل ذاته مشروط بالعلاقات بين اللولب ( في مجموعه) ، وبين الوسط المحيط به ، فاللولب والوسط المحيط به يؤلفان كلا واحدا ، ويقوم بينهما فعل متبادل ، وإذا  لم نعرف هذا الفعل أصبح تأكسد اللولب ( الصدأ ) أو انكساره وقائع جوفاء  " .

ثانيا إن الطبيعة في حالة حركة وتغيرات دائمة ، وتجدد وتطور مستمرين حيث يولد ويطفو شيء ويزول ويختفي شيء بصفة دائمة .

" لنفرض مثلا أن سيارة تسير سبعين كيلومترا في الساعة ، فهذه الحركة آلية ولكنها ليست كل شيء ، فالسيارة ، إذ تنتقل من مكان إلى آخر تتحول ببطء ويفنى محركها ، تروسها ، وآلاتها . وهي من ناحية أخرى ، تتعرض للمطر والشمس وما إليهما .. ( فإذا ) اندفعت بسرعة عظيمة ، وصدمت شجرة واشتعلت فيها النار ، فهل حدث للمادة شيء ؟ ... لا. فالسيارة المشتعلة واقع مادي شأنه شأن السيارة وهي تسير في كل أبهتها . ولكنها وجه جديد ، أو كيف جديد ، فالمادة لا تفنى ، ولكنها تغير صورتها . وليست تحولاتها إلا تحولات الحركة التي هي و المادة شيء واحد . فالمادة حركة والحركة مادة . وتعلمنا الفيزياء الحديثة أن هناك تحولات للطاقة . والطاقة أو كمية الحركة تبقى عندما تتخذ صور جديدة . والصور التي يمكن أن تتخذها شديدة التعدد . وفي حالة السيارة التي اشتعل وقودها أثر الصدمة ، كانت الطاقة الكيميائية تتحول في المحرك الى طاقة حركية ( أي إلى حركة آلية ) فأصبحت الآن تتحول كلها إلى حرارة ( أي طاقة حرارية ) والطاقة الحرارية يمكن ان تتحول - بدورها - إلى طاقة حركية . فالحرارة الكامنة في قاطرة تتحول إلى حركة آلية  مادامت القاطرة  تتحرك  " .

ثالثاً ان التطور ينتقل من التغييرات الكمية الكامنة ، التي لا دلالة لها ، إلى تغيرات  ظاهرة وجذرية ؛ أي إلى تغيرات كيفية . وفى هذا التطور لا تكون التغييرات الكيفية تدريجية بل سريعة وفجائية ، وتقع على طفرات من حالة إلى أخرى . وليست هذه التغيرات طارئة بل ضرورية فهي نتيجة تراكم التغييرات الكمية التدريجية غير الملحوظة  .

مثلا  " لنأخذ لتراً من الماء . ولنقسم هذا الحجم ) إلى  قسمين مساويين  . هذه  القسمة  لن تغير قط طبيعة الماء ؛ فنصف اللتر من الماء سيبقى دائما ماء  . وهكذا نستطيع  أن نستمر في التقسيم لنحصل في كل مرة على أجزاه أصغر حتى نصل إلى ( كستبان ) ماء  ، وحجم   رأس الدبوس من الماء.. الخ. ولن يحدث أي تغيير كيفي . ولكن ستأتي لحظة نصل فيها إلى  جزيء الماء .  وهذا الجزيء يشتمل على ذرتين من الإيدروجين وذرة من الأوكسجين .  فهل نستطيع  ان نواصل التقسيم لتفكيك الجزيء ؟.. نعم . بالطريقة  المناسبة ... ولكن إذ ذاك لا يصبح لدينا ماء . بل إيدروجبن وأوكسجبن . والايدروجين والاوكسجين اللذان تحصل عليهما من تقسيم جزيء الماء ، لا تكون لهما خواص الماء ، فكلنا نعلم أن الأوكسجين يزيد اللهب اشتعالا بينما الماء يطفئ الحرائق ."

رابعا وهو الأهم ، لأنه القانون الأساسي للجدل :

تتضمن الأشياء والظواهر في الطبيعة تناقضات باطنة . لأن لها جميعا جانبا سلبياً .

وجانبا ايجابيا ولها ماض ومستقبل ، أي فيها جميعاً عناصر تزول أو تنمو . والصراع بين هذه الأضداد ، أي الصراع بين القديم والجديد ، أو بين ما ينقضي وما ينشأ ، أو بين ما يتلاشى وما ينمو ، هو المحتوى الباطن لعملية التطور ولتحول التغييرات الكمية إلى تغييرات كيفية ، وهذا التناقض شامل لأنه محرك كل تغيير .

" مثلا لنفرض أنني أدرس الفلسفة الماركسية ، أي المادية الجدلية ، إن هذا لا يمكن أن يحدث إلا إذا كان لدى ـ فى الوقت ذاته ـ الشعور بجهلي ، مع إرادة التغلب على هذا الجهل ، أي إرادة  تحصيل المعرفة . وعلى ذلك يكون المحرك لدراستي والشرط المطلق لتقدمي في هذه الدواسة ، هو الصراع بين جهلي ورغبتي في التغلب عليه ، أي التناقض بين شعوري بالجهل وإرادتي التخلص منه . هذا الصراع بين الضدين ، هذا التناقض ، ليس شيئاً خارج الدراسة ، فإذا تقدمت في دراستي فإنما تقدم بالقدر الذي يستمر به وجود هذا التناقض . ولا شك فى أن كل التحصيلات التي أمر بها في الدراسة تكون حلا لهذا التناقض ( فأنا أعرف اليوم ما كنت أجهله بالأمس ) . إلا أنه سرعان ما يبرز تناقض جديد بين ما أعرفه وبين ما أشعر بأني أجهله ، ومن ثم يحدث مجهود جديد في الدراسة ، ثم حل جديد وتقدم جديد ، أما ذلك الذي يعتقد أنه يعلم كل شيء فلن يتقدم أبدا ، لأنه لن يعمل على التغلب على جهله . فمبدأ هذه الحركة التي تتكون منها الدراسة ، ومحور الانتقال التدريجي من معرفة ناقصة إلى معرفة أكبر ، هو إذن صراع الضدين ، الصراع بين جهلي ( من ناحية ) وشعوري بوجوب تغلبي على هذا الجهل ( من ناحية أخرى ) ٠

هذه هي القوانين التي تحكم كل شيء مبسطة ، نقلناها عن ابسط أسلوب عرضت به ، لا لمجرد انه أسلوب بسيط ، ولكن لأنه عن طريق هذه البساطة ، يمارس الضغط الفكري على البسطاء .

إذا استوعبت هذه القوانين استطعت أن تفهم حركة الطبيعة ، وإذا فهمت حركة الطبيعة استطعت أن تفهم تطورها ، وإذا عرفت تطورها عرفت مستقبلها ، وإذا عرفت مستقبلها فإنك توفر الجهود التي تبذلها لإيقاف تطورها الحتمي إلى حيث هي متطورة ٠ فإذا وفرت هذه الجهود بصرفها عما لا يجدي ، فعليك أن تصرفها إلى ما يتفق مع التطور، أي أن تسبر مع الطبيعة كما هي ، لا تعاندها ، ولا تقف ضدها في تطورها طبقاً لهذه القوانين العلمية . ولأنها قوانين علمية فهي حتمية . ولأنها القوانين الكلية للطبيعة فهي غير متوقفة على إرادتك . كذلك أكد مؤلفو " أسس الماركسية ـ اللينينية " في الصفحات الأولى من كتابهم : " أن الماركسية - اللينينية تعلمنا ان تطور الطبيعة ، وتطور المجتمعات الإنسانية أيضا ، يحدثان طبقا لقوانين موضوعية لا تتوقف على إرادة الإنسان " . والواقع أن هذا هو جوهر العلمية في الماركسية وفي أية نظرية ، ويوم أن تفلت الطبيعة أو الإنسان من حكم القانون الذي قيل انه قانون علمي ، ينهار القانون حتماً . فالحتمية إذن ، كما جاء في " أسس الماركسية - اللينينية " : " هي المبدأ الأساسي لكل تفكير علمي أصيل ".

ومادامت قوانين الجدلية حتمية ، فإذا توهمت أن أمراً سيقع خلافا لما تمليه تلك القوانين فإنك تأمل في طبيعة " أخرى خيالية تنسجها من أمانيك . إنك ببساطة مثالي ". 

لماذا ؟ ماذا قالت الجدلية المثالية بعد أن عرفنا الجدلية المادية ؟   

قبل أن نجيب ، دعونا نجمع قوانين الجدلية المادية في بضعة أسطر متصلة :
" ١ ـ ان الطبيعة شيء واحد مرتبط ، ترتبط فيه الأشياء والظواهر ارتباطاً عضوياً فيما بينها ، ويقوم بعضها على بعض ، ويكيف بعضها بعضاً بالتبادل ٠ ٢ـ وهي ، أي الطبيعة ، حالة حركة وتغيرات دائمة وتجدد وتطور مستمرين ، حيث يولد ويطفو شيء ، ويزول ويختفي شيء بصفة دائمة ٠ ٣- هذا التطور ينتقل من التغييرات الكمية الكامنة التي لا دلالة لها إلى تغييرات ظاهرة وجذرية أي إلى تغييرات كيفية ، وفي هذا التطور لا تكون التغييرات طارئة بل ضرورية إذ هي نتيجة تراكم التغيرات الكمية غير الملحوظة والتدريجية ٠ ٤- ومحرك هذه التغييرات هو أن الأشياء والظواهر في الطبيعة تتضمن تناقضات باطنة لأن لها جميعا جانباً سلبياً وجانباً ايجابياً ، ولها ماض ومستقبل ، أي فيها جميعاً عناصر تزول أو تنمو ٠ والصراع بين الأضداد ، أي الصراع بين القديم والجديد ، أو بين ما ينقضي وما ينشأ ، أو بين ما يتلاشى وما ينمو، هو المحتوى الباطن لعملية التطور ولتحول التغييرات الكمية إلى تغييرات كيفية ، وهذا التناقض شامل لأنه محرك كل تغيير".

هذه هي المادية نقيضة المثالية .

ويجب أن نختار واحدة منهما على رأيهم .

طيب . ماذا قالت المثالية . ماذا قال هيجل صاحب " الجدلية المثالية " . قال ـ نقلا عن تطود النظرة الوحدانية إلى التاريخ " تأليف السيد بليخانوف ، أحد كبار الجدليين الماديين ، وأستاذ جيل كامل من الماركسيين كما قال لينين : " إن كل ظاهرة ، تتحول عاجلا أو أجلا ـ ولكن حتما ـ إلى نقيضها بفعل ذات القوى الكامنة في وجودها .. هذه ، التغييرات ، التي هي من طبيعة الأشياء ، لا تتمثل فقط في التراكم الكمي ، ولكن أيضاً في أن التراكم الكمي يؤدي إلى تحول نوعي وبالعكس . وكل تحول من النوع الأخير يكون انقطاعا في التطور التدرجي ، ويعطي الظاهرة مظهرا جديدا متميزا نوعياً عن الأول ؛ فالماء عندما يبرد يصبح جامدا ، لا تدريجياً بل طفرة . فإذا برد حتى نقطة التجمد يمكن أن

يظل سائلا إذا استمرت ظروفه هادئة ، ولكن أقل هزة تكون كافية ليصبح جامداً فجأة .

يبدو أن الأمر غير واضح ، فما قاله الماديون قاله المثاليون .

ولكن لا .

فقوانين الجدل ، هي وسيلة المعرفة ، ومجرد أنك جدلي لا يعني بالضرورة ان تكون ماديا ، والجدليون الماديون جدليون وماديون معاً ، وهم في هذا يختلفون عن المثاليين ولو كانوا جدليين .

ما هو الخلاف .

القصة القديمة ، أيهما وجد أولا ، البيضة أم الدجاجة .

وترجمتها العصرية ، أيهما وجد أولا ، المادة أم الفكرة . هل المادة تصنع الأفكار او الأفكار تصنع المادة .

وليس المقصود الصناعة الخامدة المتوقفة ، بل إنه سؤال يحاول أن يحدد دور المادة او الفكرة في حركة التطور، وأيهما يقود او يدفع التطور .

أما السيد هيجل ، ومع المثاليون ، فمصر على ان الأفكار كل شيء ، فقد جاءت فلسفته لتبرهن على وجود حركة جدلية ، ونوع من الفاعلية المترقبة في عالم الأفكار والمثل ، تبدأ من الفكرة الأولية التي هي الوحدة الأولى أو الموضوع الأول ، وتسير صاعدة حتى تصل الى الكل المطلق الذي هو الروح . وهذا السير ليس متدرجا ، بل تأتي الفكرة لتثير فكرة معارضة لها كما يثير الشيء نقيضه ، وتدخل في صراع معها ، ومن محصلة الضدين النقيضين تتكون فكرة جديدة تتجاوزهما ، وتؤلف بينهما . وهذه الفكرة المركبة تستدعي بدورها نقيضها ، وتدخل في جدل معها لتأتيا بمركب أغنى ، وأرفع . وتسير الأمور على هذا المنوال . يمضي جان بول سارتر الذي نأخذ هذا التلخيص لنظرية هيجل عن سلسلة مقالات له نشرت عام ١٩٥٨ فيقول إن الجدلية الهيجلية غائية ومثالية والعنصر المحرك والواقع الأساسي لفاعليتها هي الفكرة المثلى والغاية . فهي حركة جذب يستدعي بها المستقبل الحاضر ، ويؤثر فيها الكل الشامل على الأجزاء المتفرقة . كل هذا يجري والمستقبل مازال مستقبلا تتطلع إليه . والكل ما زال فى الأجزاء نتطلع إليه من خلال الأجزاء ، فالأساس الذي تقوم عليه جدلية الفكر هو أن الكل يتحكم في الأجزاء وان الفكرة تتجه من نفسها عن طريق التكامل والغنى ، وأن تطور الوعي الإنساني لا يسير في خط واحد ، كذلك الذي يمضي من العلة إلى المعلول ، بل يضم دائماً ويجمع آفاقاً عديدة ، إذ ان كل فكرة تشمل عناصر مغايرة ، لتشكل مفهوما مغايرا ، وتنتظم هذه العناصر كلها في ذلك المفهوم بشكل موحد ، لا يمكن معه أن نرى أي وجه مستقلا عن العناصر الفكرية المكونة له ، وبالتالي لا يمكن أن نعطيها اعتباراً مستقلا عن المفهوم الكلي الشامل لها ، وإلا فقدت معناها وأصبحت مجردات غامضة .

فقد بدأ هيجل من الروح كنقطه انطلاق فى جدليته ، ، ولكن الروح عنده ليست وجودا مجردا ، بل قوة روحية واستدعاء إلى الوجود .

لنبسّط ما يقوله الفلاسفة ، الناقلون والمنقول عنهم .

فكرة هيجل ببساطة أن الفكرة هي الوجود الوحيد ، وان قوانين الجدل مسرحها عالم الفكر، اما المادة فليست إلا تعبيرا عن الفكرة التي أنضجها الجدل . والفكرة إذ تسير متطورة يتبعها تطور المادة . فمثلا إذا أردت أن تصنع سيارة طراز ١٩٦٥ ، فإن فكرتك عن شكل السيارة  أي تصورك السيارة يكون متقدما عن السيارة التي صنعت من قبل ؛ لأنه يشمل كل محاسنها ، وكل عيوبها . وفى الفكر تتصارع هذه المحاسن وهذه العيوب ، أي تتجادل ، لتخرج منها فكرة سيارة أخرى تشمل محاسن كل السيارات السابقة وتخلو من عيوبها ، أي أنها تكون أرقى من فكرة  سيارة ١٩٦٤ مثلا ، ثم تأتي سيارة ١٩٦٦ ممثلة للفكرة الأكثر تطورا أي الأكثر تقدماً . لماذا ؟ لأنه قد سبقتها ، وخلقتها ، فكرة أكثر تطور من الأفكار السابقة . ثم تنضم سيارة ١٩٦٦ إلى غيرها ، وتبدأ عملية الجدل الفكري لإنشاء سيارة ١٩٦٧ لتأتي أرقى من التي قبلها .. وهكذا . وهكذا إلى متى ؟ " إلى أن تتحقق فكرة سيارة مثلى ، أي ان هناك سيارة مثلى هي التي من أعماق المستقبل تجذب وتقود تطور إنتاج السيارات في صعوده متجها إليها .

ما دور السيارة فى هذا المثال ؟ لا شيء . إنها انعكاس الفكرة . إنها الفكرة مجسدة ، فلم تلعب أي دور في التطور، إلا باعتبارها موضوعا ينعكس عليه التطور الفكري .

هل هذا الكلام معقول ؟

الماديون يقولون لا . لأن السيارة المثلى تلك لا وجود لها ، إنها خلق مثالي لا يمكن أن يثبت وجوده . ولما كان العلم لم يثبت لنا إطلاقاً وجود هذا المثل الأعلى ، الذي يقول هيجل إنه يستدعي وبجذب إليه التطور، فإن الكلام لا يكون معقولا ، إذ لا يمكن أن يكون معقولا إلا ما يثبت العلم أنه معقول ، أما عن التطور فهو قائم كل ما في الأمر أن هيجل قد قلب الجدلية على رأسها ، والماديون يعدلونها فتستوي على قدميها قائمة على أرض صلبة هي ـ بصفة أساسية ووحيدة ـ ما يثبته العلم . والعلم لا يعرف إلا المادة . وما جدوى أي فكر عبقري ولو في ابتكار السيارات في أرض خالية من الحديد ، ومن أدوات إنتاج تلك السيارات . إن فكرة السيارة عندئذ لن تخطر على بال أحد . إنما الذي خلق فكرة السيارة هي العربة السابقة عليها . إذن فالجدل لا يدور في عالم الأفكار ولكن في عالم المادة ، وقد اثبت العلم فعلا ـ هكذا يقولون ـ أن المادة جدلية . وإذا كانت المادة هي التي تتطور ، فإن الأفكار التي كانت قائدة التطور عند هيجل ، تأتي تابعة للتطور في المادية ، فالمادة هي التي وجدت أولا ، وهي التي تتطور، ومن تطورها تنبت الأفكار ، ولهذا ـ كما قال ستالين في " المادية الجدلية والمادية التاريخية " ( مشاكل اللينينية ) " إذا وجدنا في مختلف أطوار تاريخ المجتمع قيام أفكار ونظريات اجتماعية ، وآراء ونظماً سياسية معينة ، ووجدنا خلافها في ظل الإقطاع ، وغيرها في ظل الرأسمالية ، فتفسير ذلك ليس في طبيعة هذه الأفكار والآراء والأوضاع السياسية ، ولا في خصائصها بذاتها ، بل في ظروف الحياة المادية للمجتمع في مختلف مراحل تطوره الاجتماعي ، فالحالة الاجتماعية وشروط الحياة المادية للمجتمع هي التي تعين أفكار المجتمع ونظرياته وآراءه وأوضاعه السياسية " . وفي مقدمة " نقد الاقتصاد السياسي " ، يقول ماركس ، الذي استوعب كل ناتج المعرفة العلمية والفلسفية في عصره كما يدعي بليخانوف إن أبحاثه قد انتهت إلى " أن العلاقات القانونية ، وكذلك نظام الدول ، لا يمكن إدراكها من ذاتها ، ولا مما يقال له التطور العام للعمل الإنساني ولكن لها أساسها في الظروف المادية للحياة ، التي يسميها هيجل ، متبعاً في ذلك الانجليز والفرنسيين في القرن الثامن عشر ، المجتمع المدني . هذا المجتمع المدني يجب أن يبحث عن أساسه في الاقتصاد السياسي " . وقال انجلز فيما كتبه عن لودفيج فيورباخ " " إن الروح ذاتها ليست إلا أرقى إنتاج المادة " .

المادة  أولا .

لا ... الفكرة أولا .

ويبدو ألا وفاق بين النقيضين . ولكن هذا غير صحيح . فككل النظريات المتعصبة المطلقة فيها من الإدعاء أكثرمما فيها من الحقيقة .

فالسيد هيجل صاحب عالم الأفكار ، قد أقر ـ برغمه وبعكس روح نظريته كما يقول بليخانوف ـ بأن الظروف المدنية ، وعلاقات الملكية ، تكون الأساس لكل التنظيم الاجتماعي ، والمشهور عن المثاليين أنهم يفكرون تفكيرا مثالياً ويتصرفون في الحياة تصرفاً مادياً . أما الماديون فمنهم لينين القائل في الجزء ٣٨ من كتاباته : " إن عقل الإنسان لا يعكس العالم الواقعي فحسب بل يخلقه أيضاً " ومنهم ستالين الذي قال في " المادية الجدلية والمادية التاريخية " " إن الأفكار والنظريات الاجتماعية لا تنبثق إلا عندما يضع تطور الحياة المادية مهمات جديدة أمام المجتمع ، ولكنها إذ تنبثق تصبح قوة ذات خطورة كبيرة ، تسهل إنجاز المهمات الجديدة التي يضعها أمامها تطور الحياة المادية ، وتسهل ترقي المجتمع ... ، وتتجلى إذ ذاك خطورة الدور الذي تقوم به الأفكار والنظريات والآراء .

فالمادة إذن تؤثر في الأفكار، والأفكار تؤثر في المادة .

على هذا هم متفقون ، ويبقى الخلاف في أيهما ـ المادة أم الأفكار ـ وجد ألا . فإذا كانت المادة قد وجدت أولا ، فهي موجودة ومتطور لا يقف الفكر عقبة في سبيلها ، وبذلك تصبح المشكلة ـ وتكسب أهميتها ـ من محاولة معرفة أيهما يلعب الدور الأساسي في التطور .

وقد تتبع بليخانوف " المسألة حتى وصل إلى داروين الذي قال : لم يكن من الممكن للإنسان أن يصل إلى مركزه السائد حالياً في العالم دون استعمال يديه المكونتين على شكل رائع بحيث تعملان طوعا لإرادته .

قال بليخانوف في كتابه " تطور النظرة الوحدانية الى التاريخ : " عند هذه النقطة يجب ان نتوقف حتى نفحص بعض الاعتراضات التي تبدو مقنعة لأول وهلة . الاعتراض الأول هو : لا ينكر أحد الأهمية الكبرى للعمل ، والدور الكبير لقوى الإنتاج في التطور التاريخي ، ولكن الإنسان هو الذي اخترع أدوات العمل ، واستعملها في عمله ، وانتم أنفسكم تسلمون بأن استعمالها يفترض قدرا عالياً نسبيا من ذكاء الإنسان فكل خطوة في تجويد وسائل العمل تتطلب جهدا جديداً من ذكاء الإنسان ، فالجهد الذكي هو السبب وتطور قوى الإنتاج هو النتيجة . وعلى ذلك فإن الذكاء هو المحرك الأول للتطور التاريخي وهذا يعني أن الحق في جانب أولئك الذين يقولون إن والأفكار تحكم العالم  أو أن العقل الإنساني هو العنصر المتحكم " .

هكذا وضع بليخانوف الاعتراض ، وأجاب عليه بالتالي : " ليس هناك شيء أكثر طبيعية من هذه الملاحظة ، ولكن هذا لا يمنع أنها على غير أساس ، فلا شك في أن استعمال أدوات العمل يفترض تطوراً عالياً للذكاء في الحيوان الإنسان ، ولكن انظر إلى الأسباب التي يقررها علم الطبيعة الحديث إيضاحا لهذا التطور ، يقول داروين : " لم يكن من الممكن للإنسان أن يصل إلى مركزه السائد حالياً في العالم دون استعمال يديه المكونتين على شكل رائع بحيث تعملان طوعا لإرادته " .. وبالرغم من انه من الطبيعي أن هذا القول له طابع فرضي إلا انه يبقى مقنعا بما فيه الكفاية . ماذا يقول داروين إذن ؟ متى اكتسب شبه الإنسان يدي الإنسان العاليتين اللتين كان لاستعمالهما أثر بارز في تأكيد نجاح ذكائه ؟ ريما كان تكوينهما راجعا إلى خصائص معينة للوسط الجغرافي الذي نوّع التركيب الفسيولوجي للإنسان تنويعا ملائماً للظروف المحيطة به. ويذلك أصبحت هذه الظروف السبب المباشر لظهور الأعضاء الصناعية ؛ أي استعمال الآلات . وقدمت هذه لأعضاء الصناعية خدمات جديدة لتطور الذكاء ، ونجاح الذكاء مرة أخرى ينعكس على الأعضاء ، وهكذا نجد أمامنا عملية طويلة يتبادل فيها السبب والمسبب مكانه .

" غير أنه يكون من الخطأ النظر الى هذه العملية من زاوية مجرد التأثير المتبادل ، فلكي يستفيد الإنسان من النجاحات التي أنجزها "ذكاؤه" لتجديد وسائله الصناعية ، أي ليزيد قوته على الطبيعة ، كان لزاما ان يكون في وسط جغرافي معين قادر على أن يمنحه الماديات اللازمة لهذا التجديد ، والموضوعات التي يستلزم العمل فيها وسائل جديدة - فحيث لا تكون معادن فإن ذكاء الإنسان ما كان يصل إلى أبعد من استعمال الآلات الحجرية أو المصقولة .. يقول ماركس ( في الجزء الثالث من كتابه "رأس المال " ) : " إن نظام الري في مصر ولمبارديا وهولندا والهند وفارس لا يعني مجرد إمداد الأرض بالماء عن طريق القنوات الصناعية ، ولكن يعني أيضا أن الماء يمدها بالطمي من الجبال فتخصب الأرض ، وان سر انتعاش دولة الصناعة في اسبانيا وصقلية تحت الحكم العربي يرجع إلى " أعمال الري التي قام بها العرب "... وهكذا فإنه بفضل بعض الخصائص الجغرافية استطاع أسلافنا أن يصلوا إلى هذا القدر العالي من تطور الذكاء ، الذي كان لازماً لتحويلهم إلى حيوانات صانعي آلات " .

انتهى ما نقلناه عن بليخانوف ، ذكرناه ، لنصل إلى أنه وإن كانت النظرية المادية والماديون قد قضوا أعمارهم في التدليل على ان للمادة وجودا سابقاً على الفكر، فإنه بمجرد أن تتجاوز الخطوة الأولى من النظرية ، أو أولوية الوجود ببن المادة والفكر، تجد النتيجة كالآتي" يقوم ذكاء الإنسان بدور ايجابي في التطور ولكن تتحدد إمكانياته بما تحت تصرفه من مواد " .

وهو تقرير ما يكاد أن يكون يدهيا ، لأنه ملموس كل يوم . ومن حقنا بعد هذا ألا نؤخذ بأضخم  ما يختاره الفلاسفة من عبارات ، فإنها تنتهي إلى مقررات بسيطة .

لو قبل الجدليون الماديون هذا لفقدوا التعصب لنظريتهم ، والتعصب كان لازماً لخدمة أغراض ثورية تقتضي انفعال الجماهير بها إلى أقصى حد ممكن ، لذلك ركز الجدليون الماديون على النظرية عن طريق المطاعن القاتلة التي وجهوها للمثالية . وعندما يقال أن ليس ثمة غير نظريتين المادية والمثالية ، ثم تنهار المثالية ، فإن المادية تكون قد انتصرت دون ان تتعرض هي ذاتها للاختبار . وهي طريقة يفسرها السباب والشتائم المجردة من الموضوعية التي يكيلها بعض الماديين لغيرهم ، وأول سبة أن يتهموهم بأنهم مثاليون ، أي ينسبوهم إلى نظرية لا يمكن الدفاع عنها . غير انه من الواضح أن أسلوبا مثل هذا لا يجدي ، فلكي نستطيع أن نقتنع بالمادية ، لا يكفي أن نكفر بالمثالية ، بل على المادية نفسها أن تصل إلى أفكارنا عن طريق الاقناع المنطقي والعلمي . لقد كانت المثالية جثة تحتضر حتى قبل ان يوجه اليها الماديون طعناتهم ، إذ كان العلم قد زلزل أركانها من خلال التجربة والاختبار . فلم يعد من الممكن القول بأن ليس للمادة وجود ، وانها مجرد انعكاس للأفكار، بعد أن أثبت العدم أن الأرض كانت موجودة منذ أكثر من بليون سنة قبل أن يوجد عليها إنسان جاوة سنة 500.000 قبل الميلاد ، وكانت تعج بالحياة من حيوانات استطاع العلم أن يصل إلى خصائصها التشريحية ، ولم تكن لتخطر على بال السيد هيجل مهما تكن رحاب خياله ، وقد انقرضت ولن تعود ، وبالتالي أصبحت فى غير حاجة إلى ذلك الوجود الكلي الشامل المثالي التي هي على صورته . والذي يجذب تطورها من أعماق المستقبل . وانهارت المثالية بمعنى أولوية الفكر في الوجود يوم ان أثبت العلم وجود الكواكب قبل أن يخطر وجودها ـ حيث هي ـ على فكر بشر ، إذ أن العلم عندما اكتشفها اكتشف أيضا سبق وجودها على الفكر ذاته ، أي على وجود الإنسان .

إن للمثالية أزمة مستعصية لأنها تستغل لا نهائية التركيبات اللغوية لتخلق صور لا تتضمن من الحقائق سوى الحروف التي تصاغ منها الكلمات . هذه الصور لن تصبح حقيقة ، ولن يكون لها وجود علمي ، لمجرد أنها دارت بفكر إنسان . وأملها الوحيد في أن توجد ، هو ان يستطيع الإنسان ذاته ان يثبت وجودها ، وان يختبر هذا الوجود علميا . إن أزمة المثالية قائمة بينها وببن العلم الذي اكتسح كل شيء أمامه ، وأصبح في وعي الناس جميعاً المنهج الوحيد لمعرفة الطبيعة . ولم تدلل المثالية قط على إنها منهج يمكن الاستفادة منه في الحياة اليومية للناس . فبحجة ان الفكر وحده هو الموجود أو الحقيقة ، قبل المثاليون الواقع - أي واقع - لأنه انعكاس الفكر الذي هو حقيقي ، وأدانوا كل محاولة لتعديله ، أو تطويره ؛ لأنها مجهود عقيم ضد الإرادة الفكرية المجسدة في الواقع ، ومعارضة لما أملته الروح الكلية فعلا .. وهكذا انقلبت المثالية من ظاهرة على ما يمكن أن يصل إليه فكر الإنسان من خيال إلى سلاح استعملته ، ولا تزال تستعمله ، كل الحركات الرجعية والمستبدة لمصلحتها الخاصة . فباسم التطور التاريخي وحتمية الواقع ، وصحته التي يستمدها من صحة الفكر نفسه ، والتعويض الذي تغري به فكرة المثل الأعلى الذي يشد تطور الحياة أو يحل مشكلاتها شدت انتباه الناس إلى الآمال التي لا وجود لها ، أو صرفتهم عن أزماتهم الحياتية المحسوسة ، وحولت النضال من أجل حياة أفضل إلى تواكل غيبي مخدر ، وقتلت في الإنسان كل نزوع إلى تطوير حياته . وكان أكثر الفئات دعوة للمثالية الكافرون بها في قرارة أنفسهم . وتاريخ الكنيسة والإقطاع والرأسمالية في أوروبا ، وتاريخ الرجعية والملوك في الوطن العربي ، دليلان على المدى الذي يمكن ان يصل إليه استغلال المثالية ، لصرف الناس عن أهمية المادة " بقصد الاستحواذ على  كل المواد " .

عندما يكون الأمر أمر كلام وتصور، فليتصور من يريد ما يريد . ولكن عندما يكون الأمر أمر حياة الناس أنفسهم ، أمر لقمة العيش ، فإن حياة الناس أغلى وأعز من أن تترك نهبا للتصورات الدعية أو المدعية . فإن قضية الحياة قائمة يوميا ، ولن نستطيع أن نتقدم إلا على أسس قائمة وملموسة ، أي على أسس علمية بحته ، والمثالية ـ أخيرا ـ ليست ما قاله هيجل أو غير هيجل ، ولكنها قد تأخذ أنماطاً سلوكية تعبيرية لا حصر لها ، والفيصل في الأمر ان كل من يضع مصير الإنسان في غير يديه ، ويفرض عليه قوة تشل تقدمه ، فهو يخلق بذلك قوة غيبية ويفرض إرادتها على الناس ، وهذا هو الجوهر الميتافيزيقي البغيض للمثالية ، أياً كان الاسم الذي تحمله تلك القوة . فلتكن ( الروح ) او( الطبيعة ) أو( التاريخ ) إن أية واحدة من هذه ستقدم لك الحل حتما فلا تتعب نفسك . هذه المثالية حملها المثاليون علانية ، ويحملها غيرهم حتى ممن يتشدقون بأنهم ماديون .

لا مكان إذن للمثالية عند التصدي لبناء المجتمعات ، ولن يكون لها مكان عند بناء الاشتراكية العربية . هذا أمر مفروغ منه ، وعلى الذين يريدون ان يقنعونا بالمادية ألا يستمدوا من انهيار المثالية وسيلة للإقناع . عليهم أن يحلوا أزمة المادية ذاتها .

وأزمة المادية كما لخصها سارتر فيما نشره من مقالات سنة ١٩٥٨ ، هي انها تقول بأن الأفكار والنظريات الاجتماعية الجديدة لا تنبثق إلا عندما يضع تطور الحياة المادية للمجتمع مهمات جديدة ، ولكنها إذا ما انبثقت أصبحت قوة ذات خطورة كبيرة تسهل انجاز المهمات الجديدة التي يضعها أمامها تطور الحياة المادية للمجتمع وتسهل ترقي المجتمع ، وتتجلى إذ ذاك خطورة الدور الذي تقوم به الأفكار والنظريات والآراء والأوضاع السياسية الجديدة كقوة تنظيم وتعبئة وتحوّل ، وإنه إذا انبثقت أفكار ونظريات اجتماعية جديدة فما ذلك إلا لأنها أصبحت ضرورية ولأنه بدون تأثيرها المنظم والمعبئ والمحول يستحيل حل المسائل العاجلة الملحة التي يقتضيها تطور الحياة المادية للمجتمع . هذا القول يوحي باتجاهين مختلفين : الأول ، أن الحياة المادية للمجتمع تتطور بعيدا عن الأفكار وقبل أن تنبثق منها هذه الأفكار أي أن الأفكار هي نتاج التطور المادي . والاتجاه الثاني أن الأفكار التي سبق أن انبثقت تعود فتسهم في إنجاز المهمات الجديدة . والمهمات الجديدة هنا لا يمكن فهمها إلا على أنها خطوة جديدة في التطور . إذن يمكن لإعمال هذين الاتجاهين أن نقول إن ديناميكية التطور هي الآتي : في حالة الحركة المتطورة دواما توجد مهمات جديدة فتنبثق أفكار جديدة لتسهم هذه الأفكار في إنجاز تلك المهمات . إلى هنا نكون في دورة تطور كاملة ، بدأت بالمهمات وانتهت بالأفكار . والصعوبة  كلها في محاولة سير هذه الدورة مرة أخرى مبتدئين هذه المرة من الأفكار بعد ان أنجزت المهمات التي كانت جديدة . ماذا يحدث بعد ذلك ؟ . من الواضح أن التطور لا يمكن أن يتوقف ، أي لابد من خطوة جديدة إلى الأمام . هنا يواجه قانون التطور لدى الماديين العقبة الكبرى . إذ كيف وقد توقفنا عند الأفكار ، ان نبدأ منها خطوة جديدة لتطوير المادة دون أن نعترف لها بقوة الخلق التي يحاول الماديون سلبها إياها . والواقع أن قولهم إن الأفكار قد أنجزت المهمات التي وضعها التطور المادي اعتراف لها بفاعليتها الجزئية ، ولكن المشكلة هنا ليست مشكلة فاعلية فقط ، فقد اعترفوا بفاعلية المادة في الأفكار وفاعلية الأفكار في المادة ، ولكن المشكلة هي اتساق الحركة الجدلية بعد انجاز الأفكار مهمتها . فلكي تتسق هذه الحركة لا بد من القول بأن الأفكار تعود فتضع أمام التطور المادي مهمات جديدة ، أي أن الأفكار هنا تخلق المادة وهذا ما يأباه الماديون .

هذه هي أزمة المادية .

إنها تريد أن تنفي عن الإنسان صفته الخلاقة ، مع أنها قد اعترفت بقوته المؤثرة . صحيح أنها تراجعت . فبعد أن كانت المشكلة ، أيهما وجد أولا ؟ المادة أم الفكر ؟ أصبحت المشكلة أيهما يلعب " الدور الأساسي " في التطور . ولكنها محتاجة إلى مزيد من التراجع ، أو إلى مزيد من الشجاعة للاعتراف بمدى تراجعها الفعلي . فقضية الأساسي وغير الأساسي قضية فارغة من أي مضمون حقيقي . إذ عندما تتوقف نتيجة ما على شرطين أو أكثر، بحيث لا تقع إلا باجتماعهما معاً يكون من اللغو القول بأن هذا الشرط أساسي ، وذلك  الشرط غير أساسي . فضرورة أي شرط لتحقيق وجود أي شيء يجعل من هذا الشرط أساساً لوجوده . ما الذي لعب الدور الأساسي في إطلاق الصاروخ الروسي إلى القمر ؟ أوجود المواد التي صنع منها الصاروخ ، أم وجود العلماء السوفييت ، أم وجود الحكومة السوفييتية ومدها العلماء بالأموال ، أم وجود القمر ؟ ما الذي لعب الدور الأساسي في قيام ثورة أكتوبر في روسيا ؟ هل هو فساد القيصرية ، أو انهيار الجيش الروسي أمام الألمان ، أو وجود لينين ، أو وجود ماركس قبل الثورة بأكثر من نصف قرن ؟ ما الذي يلعب الدور الأساسي في رؤيتنا الأشياء ؟ هل هو الضوء أو العين آو الأشياء التي نراها ..؟ الخ . ما فائدة الإطالة ؟ ما قيمة أن يكون أمر ما أساسياً أو غير أساسي إذا كانت النتيجة لا تتحقق إلا به مع غيره ، وعلى أية قاعدة يمكن ان يقال إنه كذلك  ؟

إن إضفاء صفة الأساسي فى عملية التطور على عنصر واحد من العناصر الضرورية لتحقيق التطور لا يعني إلا اختلاق دليل على صحة فكرة موجودة من قبل . وعندما قال ماركس إن أدوات الإنتاج هي قائدة التطور، أوهي التي تلعب دوراً أساسياً في التطور، ثم نظر إلى التاريخ من هذه الزاوية وحدها ، لم يكن يريد أن يكتشف من دراسة التاريخ قوانين تطوره ، ولكنه كان يطبق قوانين التطور الجدلية التي سلم بها ، وكان همه ان يحاول عن طريق الاختبار التاريخي إثبات صحتها سواء كان يعي هذا أم لا يعيه . ففي سنة ١٨٤٣ عندما كان ماركس جدلياً كان يكاد يكون جاهلا بتاريخ ومبادئ النمو الاقتصادي . وفى سنة ١٨٤٨ بعد ان علم نفسه الاقتصاد السياسي ، وعرف لأول مرة " أدوات الإنتاج" و" القيمة" وباقي اصطلاحات علم الاقتصاد ، وأصدر مع فريدريك أنجلز البيان الشيوعي متضمناً أسس نظريته فى التفسير المادي للتاريخ ، كان يجهل ـ كما يقول أنجلز في تعليقه على طبعة ١٨٨٨ من البيان الشيوعي ـ ما اكتشفه مورجان من ان المجتمعات الإنسانية قد مرت بأطوار شيوعية فى البداية . وعلى هذا الأساس انتهى إلى ان النظام الشيوعي لن يحتوي متناقضات دون ان يفطن إلى أن النظام الشيوعي الأول قد تطور ، فلا بد أنه كان محتوياً على متناقضات ، طبقاً لوجهة نظره فى محرك التطور التاريخي . فلا يمكن القول إذن بأن ماركس وهو يدرس التاريخ ، كان يدرسه دراسة موضوعية مجردة من وجهة نظر شخصية سابقة على هذه الدراسة ، قادت تفكيره وأثرت في النتائج التي وصل اليها ، فقد كان يدرس التاريخ بمنظار الجدلية المادية ، ولم يدرس التاريخ ليصل إلى الجدلية المادية ، تلك هي جرثومة المثالية التي نجدها في كتابات الماديين ، أي تاًثرهم بفكرة سابقة ، وضغط الحوادث وفهمها على ضوء تلك الفكرة وبقصد تأييدها . وهذا يفسر لنا كل إدعاء بأن عنصرا من عنصرين او أكثر أساسي ، وان غيره ثانوي . فصفة الأساسي تقييم فكري لا أساس له من العلم .
وعلى ضوء هذا يمكن ان نعرف المدلول الحقيقي لما قاله ماوتسي تونج " في التناقض" : " إننا نعترف بان الأساس المادي خلال المجرى العام للتطور التاريخي يحدد الأساس الروحي ، والوجود الاجتماعي ، لكننا نعترف في الوقت نفسه ، ويجب ان نعترف بالفعل الراجع للأساس الروحي في الأساس المادي . والفعل الراجع للوعي الاجتماعي " .. إنها المادية " الخجلى " تتراجع دون أن تعترف .

ـ 5 ـ

والواقع أن التراجع والمراجعة قد وصلا إلى مدى لا يجدي فيه التلفيق ، ولم يتوقفا عند القول بأن المادة تؤثر في الفكر وان الفكر يؤثر في المادة . إذ أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا بقوة لا يجدي معها الهروب هو :

إذا كان الفكر يؤثر في المادة ، والمادة تؤثر في الفكر ، خلال عملية التطور، وكانت الظواهر والأشياء كلها مرتبطة متأثرة مؤثرة متطورة ، ولم يكن كافياً كما يقول مؤلفو ، "أسس الماركسية ـ اللينينية " : " أن نعرف التأثير المتبادل بين العوامل والظواهر المختلفة ، بل يبقى أن نعرف الجانب الحاسم في التأثير المتبادل ، فعند اكتشاف هذا فقط نستطيع أن نفهم ، فهما صحيحاً ، مصدر الحركة وأن نقدر القوى الخاصة بها ، وان نعرف الخط الأساسي واتجاه التطور".

إذا كان ذلك كذلك ، فكيف نعرف ونحدد القوة المؤثرة تأثيراً حاسماً ؟ إن كل شيء يتوقف على هذه المعرفة . أي أن يصبح من المستحيل أن نعرف اتجاه التطور ، لمجرد معرفتنا أن عملية التطور قائمة . وبذلك تفقد النظرية او المنهج كل قيمة ، إذ أنها تقف عاجزة أمام المستقبل الذي يرتبط باتجاه التطور . أي أمام الإجابة عن السؤال الأساسي كيف نصل إلى الهدف ، كما قال أفاناسييف وقال كل الذين أرادوا ألا يتركوا مصير الإنسان للتطور التلقائي .

لا يبقى إلا ان نبحث عن الإجابة في أولوية الوجود . وهو ما قاله المثاليون الجدليون وقاله الماديون الجدليون في البداية . إن كانت المادة قد وجدت أولا فهي المؤثر الحاسم "إطلاقا" خلال حركة التطور، وان كان الفكر قد وجد أولا فهو الذي يقود بتطوره تطور المادة على مدى مراحل التطور كله .

كذلك فهم أستاذا النظريتين هيجل وماركس ، منهجيهما ، وكذلك طبقاهما . وقد طبقه ماركس بحزم عبقري وانتهى إلى ما جاء في الجزء الأول من كتابه "راس المال" عندما قال : "إن منهجي الجدلي لا يختلف عن المنهج الهيجلي في أساسه فحسب ، بل هو نقيضه تماما . فحركة الفكر التي يجعلها هيجل ذاتا يسميها الفكرة ، هي عنده صانعة الواقع ، وليس الواقع إلا الصورة الذهنية للفكرة . أما عندي فالعكس ؛ ليست حركة الفكر إلا انعكاساً للحركة الواقعية منقولة ومحولة إلى المخ البشري" . على هذا الأساس الواضح الحازم أصر ماركس على أن الإنتاج المادي بما يتضمن من أدوات هو الأساس الأول ، وان كل الأفكار والمبادئ والنظم  والأخلاق ليست إلا انعكاساً له كما تعكس المرآة صور الأشياء ، وتابعة له في تطوره كما تتبع الصورة مأ تعكسه المرآة . ودور المرآة محصور في أن تعكس ما أمامها ، ودور الصورة في ان تستمد شكلها من شكل الشيء الذي هو انعكاس له . وكملت النظرية بأن أصبحت قوانين الجدل قوانين تطور المادة . ثم طبق ماركس كل هذا على التاريخ فكانت حصيلته المادية التاريخية . وطبقه على النظام الرأسمالي فانتهى به إلى ذلك الذي عرضناه في الفصل الأول من هذا الكتاب من تطور الرأسمالية حتماً إلى الشيوعية خلال مراحل التطور الحتمي للإنتاج وعلاقاته . ولم يشغل ماركس نفسه بتطور الفكر أو الوعي او النظم ، فقد كان منطقيا مع نفسه ، وكان الفكر وما إليه متطورا حتما ، تابعا في تطوره ما ينتهي إليه النظام الرأسمالي بحكم قوانينه وقوانين الجدلية المادية .

إن ذلك الذي كان ماركس يقوله شيء علمي وواضح صريح ، يستدق أن يناقش ويبذل الجهد في معرفته أو نقده . وهو حتمي لأنه علمي . فالقوانين العلمية لا تعرف أنصاف الحلول أو الاحتمالات . إن صرامة النظرية عند ماركس لم تكن جمودا ، لأن علمية أي قانون لا تعتبر جمودا بل هي دليل على صحته . لهذا كان ماركس عالماً صادقاً في منهجه عندما شغل نفسه بدراسة تطور الإنتاج دون أن يقيم وزناً لتطور الأفكار . وكان عالماً صادقاً في منهجه يوم ان حلل التركيب المادي للإنتاج الرأسمالي وانتهى به إلى الشيوعية مستقبلا محتوماً . وكان عالما صادقاً في منهجه يوم أن قال " في البيان الشيوعي " إن دور الشيوعيين مقصور على " التعبير عن حركة تاريخية تجري تحت أنوفهم " ، وأن المتناقضات قائمة ، والصراع قائم ، ودور الإنسان ان يعمق المتناقضات ، ويزيد حدة الصراع حتى تقطع الرأسمالية عمرها في أقل وقت ممكن . كل هذا كان تفكيراً أصيلا ، متفقا مع القول بأن المادة وجدت أولا فهي المؤثر الواحد . وكل هذا أيضاً كان مفهوما نظرياً ، وسهل الفهم ، لأنه واضح ومجرد من الميوعة والتذبذب . وقد دافع عنه لينين بحرارة في كتابه " المادية والنقد التجريبي " ، يوم ان كان لينين تلميذاً لماركس وقبل أن يقود الثورة الروسية ويصطدم بواقع التطبيق . وفي الواقع تبين قصور الجدلية المادية عن ان تكون منهجا يضيء الطريق إلى الغايات الثورية . ثم بدأت الزاوية تنفرج على امتداد أضلاعها وكان لينين الذي قال لرفاقه في المؤتمر الحادي عشر للحزب الشيوعي ( ١٩٢٢) : " كفوا عن المناقشات البيزنطية ، عن العلاقة بين الاشتراكية ورأسمالية الدولة " . وقال في جريدة كراسنايا نوفا ( ٢٨ ابريل ١٩٢١) : " إننا أغبياء وضعفاء وقد تعودنا على القول بأن الاشتراكية هي حسن وإن الرأسمالية شيء سيء ، ولكن الرأسمالية ليست سيئة إلا بالنسبة إلى الاشتراكية ، أما بالنسبة للقرون الوسطى حيث لا تزال روسيا متأخرة فليست الرأسمالية سيئة " ، هو لينين الذي قال فى الجزء ٣٨ من كتاباته " إن عقل الإنسان لا يعكس العالم الواقعي فحسب بل يخلقه أيضاً " . نعم " يخلقه " ، لا يطوره ، ولا يغيره ، ولا يؤثر فيه ، بل ، " يخلقه " . والذين لا يجدون الجزء ٣٨ من كتابات لينين يجدون هذا القول منقولا عنه في " أسس الماركسية - الليتينية " صفحة ٩٤ من الطبعة الانجليزية ( ١٩٦٣ ) . وقد تمت المراجعة والتراجع على خطوات .

ـ 6 ـ

فقد رأينا كيف وصلوا إلى القول بأن المادة تؤثر في الفكر ، وأن الفكر يؤثر في المادة ، ورأينا أن هذا لا يمكن أن يستقيم كمنهج إلا إذا عرفنا المؤثر الحاسم ، وان الإجابة على هذا لا يمكن أن تقوم إلا على أولوية وجود المادة ، لتكون خالقة الفكر وقائدة تطوره . غير أن القول بان المادة قد وجدت أولا قد وضع النظرية كلها في مأزق ، إذ كيف وجدت المادة الأولى . إن كانت قد أوجدتها مادة سابقة فكيف وجدت المادة التي سبقت ؟ . وهكذا إلى ما لا نهاية . وقد وجد الوضعيون في هذا سبباً كافياً لاتهام المادية بالميتافيقية . وحاول الماركسيون الإفلات من هذه التهمة فقالوا في " أسس الماركسية - اللينينية " : " إن مدلول الميتافيزيقا في الماركسية يختلف عن مدلوله كما كان يستعمل قبل الماركسية وفي الكتابات البورجوازية . ففيما قبل الماركسية كانت تلك الكلمة اليونانية ، أو على الأصح التعبير اليوناني ، يطلق للدلالة على قسم خاص في الفلسفة يحاول الفلاسفة فيه ولا يزالون يحاورن ـ عن طريق الافتراض الفكري ـ معرفة حقيقة الجوهر الخالد المطلق في الأشياء . وكان ماركس وانجلز يعنيان به منهج البحث والتفكير غير الجدلي الذي يتبعه الميتافيزيقيون بدلا من إطلاقه على قسم خاص من البحث الفلسفي ، أو المعرفة عن طريق التأمل الفكري . وفي الوقت الحالي يستعمل التعبير في الفلسفة الماركسية بالمعنى الذي كان يقصده ماركس وانجلز فقط في أغلب الأحوال " . وقالوا ؛ ابتدع ماركس وانجلز الجدلية المادية خلال صراعهما ضد النظرة الميتافيزيقية للطبيعة التي تنكر التطور ، غير ان الوضع قد تغير بعد هذا ، ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، انتشرت فكرة التطور ( بفضل نظرية داروين ) .. وفي الوقت الحالي يقوم الصراع بين الجدليين والميتافيزيقيين بصفة رئيسية حول معرفة كيف نفهم التطور وليس حول ما إذا كان هناك تطور" .

وبذلك أسقط الجدليون الماديون من دراساتهم ، ما إذا كانت المادة قد وجدت أولا أم ان الفكر قد وجد أولا ، وتركوا كل هذا لأي باحث فى الميتافيزيقيا ، ونسوا أن تنازلهم عن الإصرار على أن المادة أولا سيفقدهم المقدرة على الإصرار على أن المادة هي المؤثر الحاسم في عملية التطور .

وانه مقدمة لمزيد من التراجع . فإذ نطرح أولوية الوجود ونتركها للبحث الميتافيزيقي نختار بدايتنا بعد الوجود الأول ، أي في مواجهة الفكر والمادة ، وقد وجدا فعلا . ولا بد هنا من الاعتراف ، بأن لكل من المادة والفكر وظيفة في التطور، وأن أيا منهما لا يلعب الدور الحاسم .

وقد تمت هذه الخطوة الجديدة بعيدا عن الجدلية المادية كما فهمها وطبقها ماركس . قال مؤلفو " أسس الماركسية ـ اللينينية : " إن الإدراك الحسي أول خطوة  في المعرفة ..

غير أن الحواس لا تستطيع أن تدرك الطبيعة الداخلية للظواهر، وعلاقاتها وصلتها الضرورية ، لهذا ، فلكي نكشت القوانين التي تحكم الظواهر ، ولكي نصل إلى جوهرها ، أي لنصل إلى معرفة علمية بالعالم المحيط بنا ، نحتاج إلى معرفة مختلفة نوعياً ، هي التفكير الذي يأخذ شكل الفهم والحكم والإدراك والافتراضات والنظريات ... إن الإدراك الحسي يتعلق دائماً بالفرد وبالوقائع العملية ، أو بالأوجه الخارجية للظواهر، ولكن الإدراك المجرد يعكس الأعماق الداخلية للحقيقة ، لأنه لا يتبع الوجه الخارجي المحسوس للظواهر، ولكن يميز الصلات والعلاقات الجوهرية ... إن قوة الفكر تتمثل في مقدرته على تجاوز اللحظة وإدراك تطور الماضي وتصور تطور المستقبل ، بواسطة القوانين الموضوعية التي اكتشفها ... غير ان الفكر وناتجة ( الإدراك ) متصل بالعالم الموضوعي ، ليس اتصالا مباشرا ، ولكن اتصال غير مباشر خلال نشاط الإدراك الحسي . وفائدة الإدراك الفكري أنه غير مقيد بالوقائع المحسوسة ، وغير متوقف عليها نسبياً ، ولهذا فهو قادر على الدراسة النظرية وتحليل الظواهر " .

وهكذا انهار ركن آخر كان يتمثل في القول بأن الفكر مجرد انعكاس للمادة ، وأصبحت له وظيفة ذات فائدة خاصة . غير أن هذا لا يكفي ، بل لا بد من خطوة أخرى لنعرف كيف يؤثر الفكر في المادة ، أو كيف تؤثر المادة في الفكر، وما مدى الصلة بينهما ، هل هما منفصلان ؟ هل همأ شيء واحد ؟

يقول مؤلفو" أسس الماركسية ـ البينية " : " إن النشاط الذهني ، أو الفكر ، خاصية مميزة للمادة ، ولكنها ليست شكلا خاصاً من أشكال المادة . " وفي المسألة الأساسية في الفلسفة يطرح الفكر كضد المادة ، والروح كضد للطبيعة ، فالمادة هي أي شيء يوجد خارج العقل ولا يتوقف عليه ، وبالتالي يكون من الخطأ الجسيم اعتبار الفكر جزءا من المادة . وفى الوقت الحالي يعتبر التوحيد بين الفكر والمادة من مفاهيم المادية المنحطة . "

إذن فهما منفصلان . ولكن لا . !!

يقول مؤلفو " أسس الماركسية ـ اللينينية " : " إن الجدلية المادية ترفض أي فصل بين الفكر والمادة ، إذ أن هذا الفصل يعني في جوهره العودة إلى وجهات النظر الجاهلة البدائية عن تاريخ الإنسان عندما كانت كل ظواهر الحياة تفسر بأنها راجعة إلى الروح التي كان يفترض أنها تدخل الجسم  " .

إذن فهما متصلان منفصلان ، وتلك مشكلة جاء حلها في" أسس الماركسية ـ اللينينية " على الوجه التالي : " إن حل المشكلة السيكوفسيولوجية ، أي مشكلة العلاقة ببن النشاط العقلي وجهازه أي المخ ( وهو عنصر مادي فسيولوجي ) يجب ان ننظر فيه الى كل من الاختلاف والاتصال بينهما . إنه لمن المهم أن نعي الخلاف بينهما لأن الوحدة بين المادة والفكر تؤدي إلى الغموض ، غير أنه من ناحية أخرى ، لا ينبغي فصل الوعي عن المخ ؛ لأن الوعي وظيفة المخ . "

كل هذا عظيم ، ولكن كيف يتفاعلان ، ومن منهما يلعب الدور الحاسم ؟

لقد انتهينا الى أنه ليس من اللازم أن نبحث عن أولوية وجود المادة أو الفكر فتلك ميتافيزيقية بمعناها القديم . وليس من اللازم أن نفصل بين الفكر والمادة ؛ لأن تلك عودة إلى وجهات النظر الجاهلة البدائية ، وليس من اللازم أن نوحد بينهما فتلك مادية منحطة ، وأنه يجب أن ننظر الى كل من أوجه الاختلاف والاتصال ، مع الاعتراف بان المادة موجودة وأن للفكر قوة مؤثرة . إذن ، فلم نعد قادرين على معرفة تطور العالم واتجاه هذا التطور، عن طريق معرفتنا قوانين تطور المادة ، ولا عن طريق معرفتنا قوانين تطور الفكر ، ولا بد لنا من أن نبحث عن طريق واحد ( حتى لا  نكون ثنائيين ) يجمع بين الفكر والمادة ( حتى لا نعود إلى الجهالة البدائية ) ولا يوحد بينهما ( حتى لا نعود الى المادية المنحطة ) ، فأين توجد تلك الوحدة من الفكر والمادة ؟

إنه الإنسان .

يقول مؤلفو " أسس  الماركسية ـ اللينينية " : "

إن النشاط المادي للإنسان نقيض نشاطه الذهني . غير ان هذين النقيضين ، يتداخلان كل في الآخر ، ويؤلفان وحدة ذات وجهين للحياة الاجتماعية ، غير قابلين للانفصال ومتفاعلين وإن هذا لعظيم حقا .

ولكنه يؤدي حتماً إلى مزيد من التراجع . إذ أن الآمر كله ينقلب إلى سفسطة غير مفيدة إلا إذا عرفنا ما هي القوانين التي تحكم تلك " الوحدة من الفكر والمادة " فبدون هذا لا تمكن معرفة حركتها ولا حركة التطور ذاته الذي تتم معرفته خلالها ، وهنا نقف أمام منهجين إما ان نتبع ما انتهى إليه الفكر واكتشفه وهو " يعكس الأعماق الداخلية للحقيقة " ، أي نتبع أحكام النظرية " وإما أن نأخذ ما يؤدي إليه الإدراك الحسي ، فنلقي بأنفسنا في متاهة التجربة والخطأ .

ولقد قال أفاناسييف صاحب كتاب " الفلسفة الماركسية " : " بدون استعمال منهج محدد لا يمكن حل أية مشكلة علمية أو عملية " . أما مؤلفو " أسس الماركسية ـ اللينينية " ، فيقولون : " إن الماركسية تدخل الممارسة الفعلية ضمن نظرية المعرفة تقديرا منها لكون الممارسة الفعلية هي الأساس والغاية في تقدم المعرفة ومحك صدق ما نعرفه . ولا يختلط هذا القول بما قاله أنجلز من ان التطبيق هو محك اختبار صحة ما نعرفه لأن الاختبار يعني أن يكون لنا منهج فنطبقه لنختبره ، فإن كذبته التجربة ، فيجب ان نعود إليه فنصححه ، ولكن يجب ان يبقى لنا دائما منهج يقود الممارسة الفعلية . أما مؤلفو" أسس الماركسية ـ اللينينية " فيقولون إن الممارسة الفعلية طريقة للمعرفة كالمنهج الفكري : وكلاهما يصلح وسيلة للمعرفة ، فإن اختلفا ؟ .. أي إذا كانت حصيلة الممارسة الفعلية غير مطابقة لما يستلزمه المنهج الفكري ؟.. قال لينين في الجزء ١٤ من كتاباته : " الممارسة الفعلية يجب أن تكون الأساس الأول في نظرية المعرفة " .. حتى لو جاءت الممارسة الفعلية - على غير مقتضى النظرية ؟  . او حتى لو جاء التطبيق الاشتراكي على غير ما قالت به الماركسية ؟ .. قال مؤلفو " أسس الماركسية ـ اللينينية " : " لقد طور ماركس وانجلز الجدلية المادية ، وهي شكل جديد من المادية متحرر من عيوب المادية الميتافيزيقية القديمة ، غير ان هذا لا يعني أن ماركس وانجلز قد أنهيا تطور الفلسفة ، أو أنهما قد استنفذا كل الحقائق الفلسفية " . ثم نقلوا عن لينين قوله : " إننا لا نعتبر النظرية الماركسية شيئا كاملا لا يمكن المساس به ، إننا مقتنعون بأنها أرست حجر الزاوية للدم فقط ، وأنه " يجب " على الاشتراكيين أن يتقدموا في كافة الاتجاهات إذا أرادوا أن يحفظوا للحياة تقدمها " .

وهل يفعل الاشتراكيون العرب غير هذا ؟

ـ 7 ـ

هل انتهينا ؟ ..

لا ، أبدا . إنها مجر البداية ، فالخلاص من التحكم الاستفزازي الذي بدأنا به لا يعني أننا قد خطونا خطوة إلى الأمام . ولكنه يعني ـ فيما يبدو ـ إننا قد عرفنا تفسير" ظاهرة " تمزق الاشتراكيين الماركسيين . فقد رأينا كيف أن الماركسية قد بدأت بمنهج علمي صريح ومحدد ثم انتهت إلى منهجين " الجدلية المادية " و" الممارسة الفعلية " أو التطبيق . ولما أن اتسعت الشقة في الوقت الحالي ( وهو تعبير يتردد كثيراً في " أسس الماركسية ـ اللينينية " ) خلقت اتجاهين رئيسيين في الحركة الماركسية :

اتجاه يلتزم النظرية . ومجال هذا الاتجاه قبل التطبيق بصفة عامة ، وفي الموضوعات التي لم تكن لها سابقة في التطبيق اللينيني للماركسية . ويستمد هذا الاتجاه قوته وصلابته من أنه يجادل على أسس ماركسية واضحة ، ويستفيد بكل ما قيل عن علمية وحتمية الجدلية المادية كمنهج ، ومن ضرورة النظرية لتعبئة الجماهير ، وأخيرا من أن الاتجاه التطبيقي لا يستطيع أن يتنكر صراحة للماركسية ولا لمنهجها لارتباط الثورات الشيوعية تاريخياً بالنظرية الماركسية . كذلك يفعل الشيوعيون عند تحديد مواقفهم في الدول النامية من قضايا لم يكن لها مثيل في الاتحاد السوفييتي ، أولا تزال في دور الجدل النظري . وكذلك يفعلون في " الصين " في موقفهم من الاتحاد السوفييتي وأغلب الدول الاشتراكية الأوروبية . ويحدث التمزق دائماً في الماركسيين أصحاب هذا الاتجاه ، فينقسمون وينتقلون على مدى التطبيق من الجمود النظري إلى الواقع الحي ، معلنين في كل مرة أنهم كانوا مخطئين .

واتجاه يلتزم مقتضيات التطبيق ، ويستفيد في هذا من مرونة منهج الممارسة الفعلية ، ويقود هذا الاتجاه الاتحاد السوفييتي في " الوقت الحالي " . ويأتيه التمزق من الذين بدأوا حياتهماً جامدين فتجمدوا ، ومن التناقض بين الولاء للماركسية التي تمت الثورة تحت شعارها ، وبين إفلات التطبيق من المنهج الماركسي . ويحتفظ هؤلاء بشعار الماركسية بعد أن يوضع بعد خط ثم تضاف إليه اللينينية ، ثم خط وتضاف الستالينية ، ثم تمحى الستالينية والخط الذي قبلها ، ثم لا يجد خروتشوف حاجة إلى التمحك في النظرية فيقول وهو يتحدث عن النصر في معركة التعايش السلمي مع الرأسمالية " : " إن كل سؤال تطرحه الممارسة العملية في بناء الاشتراكية هو فى الوقت ذاته سؤال يتعلق بالنظرية ، يتصل اتصالا مباشرا بالتطوير الخلاق للماركسية اللينينية " . ويقدم نجاح الاتحاد السوفييتي في التطبيق مبرراً قوياً لهذا الاتجاه داخل الاتحاد السوفيتي . غير أنه يأخذ طابعاً انتهازيا خارجه ، وفى الدول النامية على وجه خاص . ففي تلك الدول تفتقد الجماهير مبررا للولاء لماركس أو انجلز أو لينبن او حتى الانتساب إلى أي منهم أو اليهم جميعاً . ولا ترى في رفع شعار الماركسية إلا تعبيرا عن النية المبيتة للعودة إلى النظرية الماركسية يخفيها أولئك الذين يقبلون الواقع ويسايرون تطوره خلال الممارسة .

والذين قرأوا خطاب اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني إلى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي في ٢٩ فبراير ١٩٦٤ ، وخطاب سوسلوف في اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي يوم ١٤ فبراير ١٩٦٤، ولا بد من أن يكونوا قد أدركوا أن الأمر قد بلغ حدا لا يجدي فيه التلفيق بين منهج الجدلية المادية وبين التطبيق الاشتراكي .

إن الجدي ، حقا ، أن يعترف الذين يهمهم مستقبل الاشتراكية ، بأن الجدلية المادية أو المنهج الماركسي منهج خاطئ ، وان الدليل على خطئه قائم من التطبيق ، وان قصور المنهج عن قيادة الممارسة الفعلية ، والتمسك به في الوقت ذاته ، هو الذي مزق ويمزق صفوف الاشتراكيين الماركسيين منذ أن بدأ التطبيق الماركسي في الحقل الاشتراكي . وعليهم بعد هذا أن يصححوا المنهج أو أن يجدوا لأنفسهم منهجاً غير " الممارسة الفعلية " ، وغير التجربة والخطأ . إن منهج الممارسة الفعلية أكثر خطورة من أي منهج آخر، وإن كان هو البديل الوحيد عن المناهج الخاطئة . إن مرونته التي تميزه على الجمود الماركسي ، تعلق مصائر الشعوب التي تبدأ تطورها على إدعاءات غير علمية . لقد كانت النظرية الماركسية المحور الذي جمع الثائرين على أوروبا الرأسمالية ، ولم يكن من الممكن أن يوجد لينين الثائر القائد ، وأن تتحقق به أو بدونه أية ثورة بغير نظرية تقود خطا الثوار، وتحدد مقدماً ما يجب أن تكون عليه " الممارسة الفعلية " . هذا إذا كانت الثورة تعني شيئا أكثر من مجرد التدمير . فإذا كان التطبيق قد كشف قصور الماركسية ، فليس الحل أن نحتفظ بها ستارا للانتهازية ، ومبررا للغدر والمناورة . وليس الحل أن تقود الممارسة الفعلية خطانا من يوم إلى يوم ، دون أن نعرف ماذا يجب ان نفعل في اليوم الذي يليه ، فإذا التاريخ - تاريخ الشعوب وحياتها - سلسلة من اللف والدوران ، والتقدم والتراجع ، والخطأ ثم الرجوع عنه ثم الرجوع إليه . لا يكفي ان نصرح قائلين إن الماركسية ليست جامدة ولا أن ندين الماركسية الأرثوذكسية كما يقولون ، إذ لا توجد إلا ماركسية واحدة كمنهج . وعلى الذين لا يطيقونها أن يكفوا ص تسمية أنفسهم ماركسيين ، وأن يستفيدوا بحصيلة التطبيق نفسه ، ليروا كيف يجدون لأنفسهم منهجاً غير الجدلية المادية . ولن يجديهم الاحتجاج بنجاح التطبيق لأن عناصر النكسة كامنة فى كل نجاح لم يؤد إليه منهج يلتزمه من يهمهم أن يكون النجاح حقيقة وليس إدعاء . إذا كان لا بدمن المرونة في النظرية لتتحرر بذلك من جمود الماركسية كمنهج ، فلا بد ان يوجد قانون المرونة العلمي الذي يجعل منها شيئاً أكثر من التضليل والمغادرة ، وان تجد الجماهير دائما منهجها الذي يسبق التطبيق وتقاس على أساسه قيمة ما يتحقق منه .

وإنا في هذا لمجتهدون .

إننا نعارض الماركسيين الجامدين ولكن نناقشهم لأنهم يستحقون المناقشة . فهم إذ يستندون إلى منهج محدد يمكن أن يكون الحديث عنهم ذا موضوع تختلف فيه الآراء أو تتفق .  إنهم ماركسيون شيوعيون حقاً . أما " المرنون" من حملة شعار الماركسية والشيوعية ، فهم لاشيء بعد وسيظلون كذلك إلى أن يقدموا لمرونتهم أساساً علميا يصلح منطلقاً وضابطاً لأية مناقشة جدية . لهذا فإنا لا نسلبهم شيئاً إذا أخذنا ما في جعبتهم من حصيلة تطبيقية دليلا على صحة ما نزعم أنه منهج بديل عن الجدلية المادية ومصحح لها . أما أولئك الذين " يوفقون في غير حلال " بين الجدلية المادية والواقع المتطور عن طريق تزييف الواقع نفسه فسنسقطهم من حسابنا ، فهم لا يستحقون حتى مجرد الحديث عنهما .

ولنعد إلى حيث وقفنا بالجدلية المادية والمثالية الجدلية .

ـ 8 ـ

ما الذي وحد بين الجدلية المادية والجدلية المثالية في النهاية التى وصلنا إليها ؟ لا يمكن أن تكون نقطة الانطلاق ، فنقطتا انطلاقهما مختلفتان . إحداهما انطلقت من المادة والأخرى انطلقت من الفكرة . ومن هنا نصل إلى نتيجة حاسمة بالنسبة لموقفنا من النظريتين . ليس من اللازم أن نكون ماديين أو مثاليين ، لنتصرف في الواقع على الوجه الذي انتهت إليه المادية والمثالية . ليس من اللازم أن نكون ماديين أو مثاليين لنعرف ، ونتصرف على ضوء ما نعرف من أن المادة تؤثر في الفكر والفكر يؤثر في المادة . أي ليس من اللازم أن نكون ماديين أو مثاليين على الإطلاق .

إن هذا يمنحنا الثقة والجرأة لمواجهة ذلك العنصر المشترك بين الجدلية المادية والجدلية المثالية ، فهو هو الذي قادهما من نقطتين مختلفتين إلى نتائج موحدة ، ونعني به تلك القوانين الأربعة التي يقال لها قوانين الجدل . كما صاغها هيجل ، استعملها ماركس . الأول طبقها على الفكر، والثاني طبقها على المادة . الأول قال إن الفكر جدلي والثاني قال إن المادة هي الجدلية .

ودارا ولفا ثم التقيا حيث أبيا من قبل . وهنا العقدة التي يجب أن نواجه حلها ، إذا كنا لا نريد أن نلف وندور .

ـ 9 ـ

لنلق نظرة أخرى على تلك القوانين .

يقول القانون الأول إن الطبيعة شيء واحد ترتبط فيه الأشياء والظواهر ارتباطا عضوياً فيما بينها ويقوم بعضها على بعض ، ويكيف بعضها بعضاً بالتبادل . ويمكن تلخيص هذا القانون في أن كل شيء متأثر بغيره مؤثر في غيره . وهذه خاصية أثبتها العلم فعلا بعد ان أضاف إليها النسبية من حيث مدى التأثير والتأثر . ولكنها ليست إلا تمهيدا للحركة التي يكملها القانون الثاني الذي يقول إن كل شيء في حركة وتغييرات دائمة وتجدد مستمر، بعد أن نقصره على الحركة ؛ لأن التغييرات والتجدد نتيجة للحركة فتدخل في القانون الثالث ، فنقول ان كل شيء في حركة دائمة . وهي نتيجة لم تعد في حاجة إلى إثبات جديد بعد أن ثبت فعلا أن الذرة التي كانت تعتبر وحدة الأشياء عامرة بالحركة المستمرة . ومن إعمال القانون الأول : كل شيء متأثر بغيره مؤثر في غيره ، والقانون الثاني .. كل شيء في حركة دائمة ، نصل إلى أن الأشياء كلها متحركة دائما وفي أثناء حركتها يؤثر بعضها في بعض ٠ ولسنا في حاجة الآن إلا إلى معرفة قاعدة هذا التأثير لنفهم تحول المادة ، فيأتي القانون الثالث ويقول إن التغيرات الكمية تؤدي إلى تغييرات كيفية . ويقول شرّاح هذا القانون إن التغيرات الكمية هي التي لا دلالة لها وإن التغييرات الكيفية هي " الظاهرة والجذرية " . ويجب أن ننبه هنا بوجه خاص إلى أن ما يقال عنه "
دلالة " و" ظهور" و" جذري " و " خصائص أخرى " .. " ليس أكثر من إدراك لمدى التغيير، والمادة " كما هي " تسير على قوانين حتى لو لم ندرك نحن هذه القوانين ، أي أن قصور حواسنا أو حتى أدواتنا العلمية حالياً عن إدراك " دلالة " التغييرات لا يعني أنها تغييرات كمية وليست كيفية .
وكل ما نريده من هذه الملاحظة أن ننبه إلى أن تقسيم التغييرات إلى مرحلة " كمية " ثم مرحلة " كيفية " هو تقسيم فكري لمراحل التطور . كذلك قلنا ، وقال مؤلفو " أسس الماركسية ـ
اللينينية " : " يجب أن نتذكر دائما ، أنه لا يوجد ـ طبعاً ـ نوعية قائمة بذاتها . هناك فقط أشياء وظواهر متميز بعضها عن بعض بخصائص نوعية " . ثم نمضي مع هذا القانون الثالث ، فطبقا له عندما تصل التغييرات الكمية إلى مرحلة او نقطة معينة تتغير خصائص المادة نوعيا ، وبهذا تتحول الأشياء من شيء إلى شيء مختلف . لا ينقصنا بعد هذا أي شيء لنعرف حركة المادة غير تك الإضافة التي تمنع الخلط ، وهي ان كل نوع من الأشياء ، كالنبات أو الحيوان أو الجماد ، وكل نبات وحيوان وجماد على حدة ، وكل تركيب في أي نبات أو حيوان أو جماد ، له قوانينه الخاصة التي تحدد مدى تأثيره في غيره وتأثره بغيره من المواد ، والتي تقسم عمليا بالنسبة الى كل نوع فيقال قوانين علم النبات أو الحيوان أو الجيولوجيا مثلا .

لقد التزمنا بقدر الإمكان المصطلحات التي استعملها الماديون والمثاليون . ولكنا نود ان نصوغ ما سبق صياغة أخرى فنقول : إن كل شيء متأثر بغيره ومؤثر في غيره ، وهو يمارس هذا التأثير والتأثر خلال حركته الدائمة المستمرة التي لا تتوقف ، والتي تؤدي أثناءها كمية التأثير أو التأثر إلى أن تتغير خصائص الشيء نفسه ، بحيث تتغير هذه الخصائص تدريجياً ، وإن كنا لا نستطيع أن نحس هذا التغيير التدريجي غير الظاهر ، وعندما تصل كمية التأثير او التأثر إلى درجة تختلف باختلاف القوانين التي تحكم الشيء المتأثر يفقد هذا الشيء خصائصه ومظهره الأولين ، وتصبح له خصائص ومظهر آخر بحيث يختلف نوعياً عن الشيء الأول ، أي تلحقه خصائصه الجديدة "بنوع" من الأشياء غير النوع الذي كان ينتمي إليه أولا . يصبح جامدا مثلا بعد ان كان سائلا .

ثم ، في لحظة وما هو أقل من اللحظة ، وفي كل مكان معروف أو غير معروف تعمل هذه القوانين "معا " فيكون الناتج تأثيراً ، فتأثراً . فتحولا . فتأثيراً فتأثراً فتحولا - وهكذا في حركة دائمة ونحول مستمر .

كل هذا صحيح وثابت علمياً . ولك ان تطبقه على ما تريد كما يحلو لك من أول الطاقة والذرة إلى المجتمعات الإنسانية . ولك عندئذ أن تستنتج منه قواعد السلوك التي تتفق معه ، وان تقول كما قالوا : إن الواقع الاقتصادي والحياة الاجتماعية والحياة السياسية كلها مجالات غير منفصلة ، وان ليس في العالم شيء أجوف غير ذي أثر أو مدلول ، وإن الذي يعتقد أنه يستطيع أن يمارس حياته بدون مبالاة بحياة الآخرين واهم ، وإن الفن للفن كلام أجوف ، لأن كل شيء مؤثر ومتأثر ومرتبط بكل شيء . ولك ان تقول إن من يظن أن هناك شيء لا يتغير واهم ، وإن ليس ثمة شيء مقدس لا يمكن المساس به ، ولا حتى الملكية الفردية ، وإن ما يروجه المفكرون المتواكلون من أنه " لا جديد تحت الشمس " خرافة ، فهناك دائماً جديد تحت الشمس ، وإن الدعوات التي تحاول ان تضفي قداسة على الواقع ـ أي واقع ـ دعوات لا أساس لها من العلم وإنما تحاول باذلك أن تحمي مصالحها الخاصة . ولك أن تقول كما قالوا إن بعد كل قديم جديد ، وإن التراكمات أو التغييرات الكمية قائمة وإن كنا لا نلحظها ، وإنها ستؤدي إلى تغييرات كيفية مختلفة عن القديم نوعياً .

وعلى هذا الأساس أيضاً ندين مع مؤلفي " أسس الماركسية ـ اللينينية " ، كل المذاهب الميتافيزيقية بالمعنى الذي اختاروه ـ من أول ثنائية ديكارت التي تفصل الفكرة عن المادة وتقيم منها أساسين للعالم مختلفين ومنفصلين ، إلى المثالية الشخصية التي قال بها بيركلي ، وأنكر فيها وجود قوانين طبيعية ، الى المثالية الموضوعية التي قال بها هيجل ، واوجد فيها القوانين في عالم الفكر دون عالم المادة ، إلى الوضعية التي لا تعرف إلا " المعامل" منهجاً للمعرفة في حين أنها لا تستطيع أن تدخل الظواهر في" معاملها" التجريبية إلا إذا فصلتها عن تاريخها وعن علاقتها بالكون الذي تعيش فيه ، ولا تستطيع على أي حال أن تجري تجربة اجتماعية ... إلى آخر الوجودية التي لا تعرف شيئا غير وجود الإنسان وتلغي الكون كله بإسقاطه ـ عسفا ـ في العدم .

كل هذا بدون أن نكون جدليين . بدون أن نستعمل ذلك القانون العملاق الذي تدعيه المثالية والمادية . وفي هذا الادعاء ذاته يكمن مقتل المادية والمثالية كلتيهما .

ـ 10 ـ

الجدل يعني أن يتقابل نقيضان أي يجتمعان في محتوى واحد . قال لينين في " الدفاتر الفلسفية " : " إن المعنى الدقيق للجدلية هو دراسة التناقضات داخل ذات جوهر الأشياء " .
والتناقض يؤدي إلى صراعهما إلى أن يحل فيخرج منهما ، أي من باطن الشيء الذي اجتمعا فيه شيء ثالث مختلف عنهما ، وبالتالي يعتبر بالنسبة إليهما خطوة إلى الأمام أو تقدما ، كما يجتمع شخصان لكل منهما رأي مخالف لرأي الآخر فيتجادلان أي يحاول كل منهما أن يلغي رأي الآخر ، وتنتهي المناقشة بان يتفقا على رأي واحد أكثر تقدماً من رأي كل منهما منفردا . على هذا الوجه قال هيجل بقانون الجدل وقال به ماركس أيضاً . فجوهر العملية الجدلية أن يجتمع نقيضان ، وحيث لا يوجد تناقض لا تقوم عملية الجدل أو لا يوجد صراع . وإن وجد التناقض فلا بد من الصراع ، ولا بد ان ينتهي هذا الصراع إلى خلق جديد ، أي أن التناقض لا يمكن أن يبقى دائماً ؛ لأنه اذ يخلو من الصراع لا يكون تناقضا ، وعدم الخلق الجديد يعني أن الحركة غير جدلية . على غير هذا يعتبر الحديث عن التناقض والصراع والجدل استعمالا لتعبيرات في غير موضعها فتبقى دون دلالة . فمثلا إذا كانت المادية نقيض المثالية كما يقول مؤلفو " أسس الماركسية ـ اللينينية " ، فإن تاريخ الصراع بينهما يكون شيئاً مفهوماً ، ولكن لا يكون مفهوما أن يظلا نقيضين متصارعين ولا يخرج منهما ما يتجاوزهما ويكون حلا لتناقضهما .. ولو كان هذا الجديد شيئاً كمثل" جدل الإنسان" . والذين يدعون الماركسية ، ويقودون صراعها ضد نقيضها ، ثم يثورون ضد انتهاء الصراع ولا يقبلون المولود الجدلي ، ليسوا جدليين . إن الماركسيين لا يقبلون ما يسمونه الخط الثالث ونعتقد أنهم في هذا على حق ٠ فلا يوجد خط ثالث مع الخطين المتناقضين ، ولا يمكن أن يوجد ، ولكن يمكن ـ ولا بد ـ أن ينتهي التناقض والصراع إلى
إرساء خط جديد ، ولا نقول ثالثاً ، يتجاوز الخطين المتناقضين ، وبه يتحقق الحل الجدلي للصراع بينهما . هذا مثل ضربناه ولا ندعيه أو نؤكده . ولكن الذي نستطيع أن نؤكده أن الجدل عملية خلق وتجاوز وإضافة . إنه خطوة إلى الأمام تحل بها مشكلة من الماضي ويتحقق بها جديد في المستقبل ، ولا يمكن ان تنتهي إلى غير هذا وإلا فإنها حركة غير جدلية ، قد تكون تحولا ، كما يتحول الماء إلى بخار ثم يعود البخار فيصبح ماء . فهنا يوجد تحول ، أو تطور عن طريق التحول ولا يوجد شيء جديد أي لا يوجد جدل . لهذا فسنفرق في حديثنا بين التحول والتطور، قاصرين تعبير التحول على الحركة دون إضافة ، وتعبير التطور على الإضافة خلال الحركة الجدلية .
والتحول هو مفهوم القانون الأساسي للمادة كما يقول مؤلفو أسس " الماركسية ـ اللينينية " ، أي ان المادة لا تفنى ولا تتجدد ولكن تتحول . ومؤدى الجدل أيضا أن التناقض والصراع لا ينتهي بإلغاء أحد النقيضين والإبقاء على الآخر . إذ لا يكون هذا إلا بأن يحتفظ أحد النقيضين بذاته كما هو فلا يصيبه تغيير خلال الصراع مع نقيضه وهو قول يلغي أحد القوانين الكلية ( كل شيء متغير ) والقوانين الكلية علمية عامة حتمية . كذلك لا يمكن التحايل على الجدل بأن
يستبدل كل نقيض بمكانه مكان نقيضه ، فإن التناقض يستمر قائماً ومعه الصراع الذي لا بد أن ينتهي إلى حل جديد يزول به التناقض ويتجاوز به التطور وجود النقيضين . على هذا الأساس من فهم عملية الخلق التي ينطوي عليها التطور الجدلي نعدل ما انقطع من الحديث فنقول عندما وضع ماركس الجدلية المادية أي طبق القوانين الهيجلية على المادة ، كانت المادة غير معروفة تماماً ، إذ كان العلماء القدامى على عهد هيجل وماركس وانجلز يعتقدون أن الطبيعة مركبات من ٩٢ عنصراً ، وأن كل عنصر مكون من جزيئات هي الذرات وكانت الذرة معتبرة وحدة الكون كله وإن كانت هي غير معروفة إلا بخواصها ، فكان لديهم ٩٢ " نوعا " من الذرات مختلفة " كيفياً " أي مختلفة في الخواص . وسمح هذا التعدد ، واختلاف تأثير المواد بعضها في بعض بأن يقال إن ثمة تناقضاً في الطبيعة ، أو المادة فالأوكسجين يزيد اللهب اشتعالا ، والماء يطفئ الحرائق .

أما الآن فأي طالب في أية مدرسة ثانوية يعلم ما لم يكن يعلمه هيجل وماركس وأنجلز من ان الذرة مركبة . فقد كشفت لنا أبحاث روذرفورد عن البناء الداخلي للذرة ، وعرفنا أنها تتكون من نواة يحيط بها عدد من الالكترونات تتحرك حولها بسرعة هائلة ، وان النواة تتكون من بروتونات ونترونات ، وأن الالكترونات كهارب ذات شحنات سالبة ، وان البروتونات كهارب ذات شحنات موجبة ، وأن النترون متعادل وقوامه بروتون والكترون ملتصقان . وعرفنا أن كل اختلاف في الظواهر التي نراها في المادة وتركيباتها راجع إلى خلاف في عدد وترتيب الالكترونات في ذرات تلك المواد . فإذا كانت الذرة تحوي الكترونا واحداً فالمادة ايدروجين ، وإذا كانت تحوي ثمانية فهي أوكسجين ، وان كانت ٣٦ فهي حديد ، أو ٩٢ فهي يورانيوم ، وتتعدد وتختلف الخواص الكيميائية باختلاف وتعدد هذه التكوينات . وعرفنا حقيقة أخرى ذات أهمية هي أن عدد الالكترونات في أية ذرة يساوي تماماً عدد البروتونات ، أي أن الشحنة الموجبة في أية ذرة تساوي الشحنة السالبة ، ولذلك فالذرة من أية مادة في حالتها العادية وحدة متزنة ومستقرة خالية من التناقض الباطني والصراع . وقد كان يظن طبقاً لقانون كولومب أن أي جمع ببن شيئين لهما شحنتان كهربائيتان إما أن يتنافرا إن كانتا من نوع واحد أي موجبتين أو سالبتين ، وإما أن يتجاذبا إن كانتا مختلفتين . لذلك كان السالب يعتبر نقيضاً للموجب إلى أن أثبت العلم أن هناك مسافة يبطل عندها قانون كولومب هي جزء من ثلاثين مليون جزء من السنتيمتر وهو ما يعادل ٨/١ قطر أكبر ذرة . وبذلك ثبت أن ليس داخل الذرة جذب وتنافر وخلت من هذا التناقض . ولمدة ثلاثة قرون كانت الحركة تفسر على ضوء قوانين نيوتن ، وسلم العلماء والفلاسفة معاً بأن كل جسم يعتبر في حالة السكون أو في حركة منتظمة في خط مستقيم ما لم تؤثر فيه قوة تغير هذه الحالة . ولما كانت الأشياء تلقى في الفضاء فتسقط إلى الأرض فقد كان لا بد من قانون الجاذبية العتيد لتفسير هذا السقوط . ولم يشك أحد في قانون الجاذبية ولا يزال متداولا على الألسن وفي الكتابات كأن شيئاً لم يحدث في العلم . واعتبر القصور الذاتي أي مضمون القانون الأول نقيضاً للجاذبية مضمون القانون الثاني . وعندما يقول الماديون الجدليون إن في كل شيء قوة جذب وقوة طرد وبذلك يجمع في باطنه نقيضين ، يستندون ضمنا إلى قوانين نيوتن التي جعلت من القصور الذاتي نقيضاً متصارعا مع الجاذبية . ولكن قوانين نيوتن هذه قد تعدلت عندما أثبت اينشتين أن الجاذبية ليس قوة ، وان الفكرة التي تقول إن كل جسمين ماديين يتجاذبان ، نوع من الخداع غير المطابق للحقيقة في تصوير الحركة . فالجاذبية لم تعد نقيض القصور ، ولكن القصور والجاذبية وحدة واحدة . وكل الظواهر التي فسرتها قوانين نيوتن فسرتها نظرية النسبية . ولكن قوانين نيوتن التي كانت تتضمن التناقض بين الجاذبية والقصور الذاتي كانت عاجزة عن تفسير ظاهرة فريدة في الكون هي حركة عطارد وانتقاله في مداره . فلما أن استطاعت نظرية النسبية أن تفسر هذا ، أثبتت تفوقها على نظريات نيوتن وأنها أشمل وأصح منها . وبذلك انهار التناقض المزعوم بين ما كانوا يسمونه قوتي الجذب والقصور الذاتي . وكان العلماء يعتقدون أن الطبيعة قائمة على عنصرين هامين هما الطاقة والمادة واعتبروا المادة شيئاً خاملا ملموساً يمكن تمييزه بشيء اسمه الكتلة واعتبروا الطاقة شيئاً نشيطاً بدون كتلة ، وبذلك أصبح السكون نقيض الحركة ، والمادة نقيض الطاقة . ثم أثبت العلم وحدة الطاقة والمادة ، وأن المادة ليست إلا طاقة مركزة ، وان الطاقة مادة لا تحتاج لكي نقول عنها انها طاقة إلا أن تسير بسرعة الضوء ، وبذلك  زال ما كنا نتصور انه تناقض .

وكانت المادة الخفيفة تعتبر نقيض المادة الثقيلة ، والسائل يعتبر نقيض الجامد ، والأبيض نقيض الأسود ، والحار نقيض البارد ، وما يطفئ النار يعتبر نقيض ما يزكيها ، ثم جاء العلم فأثبت أن المادة تتحول من الخفيف إلى الثقيل وبالعكس ، ومن السائل إلى الجامد وبالعكس ، وإن كل نوع من المادة يتحول إلى نوع ثان ، ولا يتطلب هذا أكثر من تعديل عدد وترتيب عناصر الذرة من الكترونات وبروتونات . وقد أمكن فعلا تحويل ذرات بعض العناصر إلى ذرات عناصر أخرى فتحقق بذلك حلم الكيميائيين القدامى ؛ فقد نجح روذرفورد فى تحويل بعض ذرات من النتروجين إلى ذرات أوكسجين ، كما نجح غيره فى تحويل بعض ذرات البلاتين إلى ذرات من الذهب .

وإذ أثبت العلم ، وعرفنا أن الذرة خالية من التناقض الباطني ، وان الطبيعة في كل أشكاًلها عباًرة عن ذرات ، نكون قد عرفنا - علمياً - أن الطبيعة أو المادة لا تنطوي في باطنها على تناقضات ولا يدور داخلها صراع . وبذلك لم يعد من الممكن القول بأن حركة المادة جدلية .
فتطبيق الجدل في عالم الذرة يعني أن الذرة ذاتها تحتوي على نقيضين متصارعين داخلها ، وهذا ما ينفيه علمنا بتركيب وحركة الذرة ، ولم يعد في حاجة إلى الجدلية لتفسير تحول المادة من نوع الى نوع ، 
لأن العلم أثبت أن تحول المادة إلى تركيبات مختلفة يتم عن طريق اندماج الذرات .
ويتطلب ذرتين على الأقل تكون درجة تشبعهما مختلفة لتندمجا فتصبح الذرتان ذرة واحدة من نوع ثالث ، ولا بد من هذا التأثير الخارجي أي تأثير ذرة على ذرة أخرى لتتم عملية التحول . وهذا لا يتفق مع قانون الجدل الذي يقوم على أساس التحول من الباطن .

وفي ١١ يوليو ه١٩٤، وهو يوم حاسم في تاريخ العلم والعالم ضحى الأمريكيون بنصف مليون من البشر فى هيروشيما  لإثبات نجاح  أول تجربة ذرية . ويقال عادة انها تجربة تفتيت الدرة ، وهو ما قد يوحي بأن المادة تتحول الى طاقه عن غير التأثير الخارجي وهذا غير صحيح .  فالطاقة الذرية مؤسسة على ما لاحظه العلماء من أن الطاقة التي تأتينا من الشمس والنجوم تنبعث أثناء تحول الادروجين الى هيليوم في عملية معقدة تشترك فيها عوامل عديدة  وان كان التحول الجوهري فيهاً هو اتحاد أربع ذرات من الايدروجين لتكوين ذرة هيليوم . ولما كان الوزن الذري لذرة من الهيليوم أقل من الوزن الذوي لأربع ذرات من الايدروجين فإن عملية التحول تسفر عن نقص في الكتلة . هذا الفرق هو الطاقة الهائلة التي تأتينا من الشمس . وفي القنبلة الذرية كما في القنبلة الايدروجينية اتخذ هذا أساساً لتوليد الطاقة ، أي بالتأثير الخارجي على الوزن الذري عن طريق الإدماج  أو الشطر بحيث يبقى فائض هو مقدار الطاقة الناشئة عن القنبلة .

فإذا انتقلنا من عالم الذرة إلى مركباتها ، أي إلى الجزيئات فإننا نكون قد انتقلنا إلى عالم الأنواع حيث تقسم المادة إلى تعميمات حسب خصائصها وتأثيرها وتأثرها بغيرها . فبعد أن كان الايدروجين بروتوناً واحداً والكتروناً واحداً ، وكان الأوكسيجين ثمانية الكترونات وثمانية بروتونات اتحدا فأصبح جزيء الماء يحتوي على ذرتين من الايدروجبن وذرة من الأوكسجين ويعبر عنه بالرمز يد ٢ أ . ثم يتحول الماء إلى جليد أو بخار فنقسمه إلى ثلاثة أنواع تبعا لصلابته ومظهره ونقول عن هذا انه تحول نوعي ، في حين أن كل ما حدث هو زيادة سرعة الجزيئات بتأثير الحرارة فيتحول الماء إلى بخار أو ضعف هذه السرعة فيتحول الماء إلى جليد ولكنه يبقى في حالاته جميعاً يد٢أ .

ويتحد الماء بغيره ، وغيره بغيره وتنتج عن هذا ملايين من المركبات المعقدة التي تتخذ أشكالا وخصائص لا حصر لها ، فنضطر لكي نفهمها ، الى أن نقسمها إلى أقسام ، ثم أجناس ، مبتدئين بالجزء لترتيبه في كليات متخذين في كل ترتيب أساساً مختلفاً ؛ فمن حيث اللون تقسم الطبيعة إلى سبعة ألوان أساسية ، ومن حيث الصلابة إلى جامد وسائل وغاز ، ومن حيث الكتلة إلى مادة وطاقة ، ثم إلى جماد ونبات وحيوان ، ثم إلى حيوانات مائية وحيوانات أرضية ،
وحيوانات برمائية .. الخ ٠ ثم نرى الأنواع اختلفت وتباعدت في خصائصها ، وبدت غريبة بعضها عن بعض ، فنزعم ان ثمة تناقضات بين نوع ونوع ، ويقودنا هذا الى تعميم حكمنا فنقول إن في "كل" شيء تناقضاً باطنياً ، ونبحث عن المتناقضات إلى حد ما قاله انجلز في كتابه جدل الطبيعة من ان ثمة أشعة ضوء سوداء لتكون نقيضا لأشعة الضوء البيضاء ، ليثبت لديه علمياً أن الضوء يحتوي نقيضين !! ثم نرتب على هذا أن في كل شيء صراعا داخليا ، وأن كل شيء جدلي ، ونذهب في الاستنتاج والتركيب المنطقي الصوري إلى بناء فلسفات ومذاهب نكاد نرغم الناس إرغاماً على التسليم بصحتها ، ننسى نقطة الانطلاق وهي ان الذرة وحدة الطبيعة ، وأن ليس في الذرة تناقض ولا صراع ، وان كل الأنواع قد تكونت نتيجة اندماج الذرات وتأثرها وتأثيرها وتحولها في حركتها الدائمة ، وان ناتج هذا التأثير المتبادل هو التغاير بين الأنواع ، وان الكم هو كمية التأثر، وان الكيف هو تغيير الخصائص والمظاهر في عملية التحويل على وجه يتفق مع تقسيمنا الطبيعة ومظاهرها وخصائصها المتعددة .

لقد قامت الجدلية المادية على فرضية لفظية هي " أن الطبيعة جدلية ، وليس معنى ذلك أن قد ثبت هذا علمياً ، ولكنها ضرورة لتفسير حركة المادة يوم أن كانت حركة المادة غير معروفة ، أو لعل هذا أن يكون قد وضع لتبرير تطبيق القوانين الهيجلية على المادة . ولست أدري مبررا للتمسك بقانون الجدل ـ القانون الرابع ـ وإرغام المادة على قبوله بعد ان فسر العلم حركة المادة ، وأثبت بتفسيره هذا أن القوانين الثلاثة الأولى صحيحة علمياً وكافية لتفسير تلك الحركة . فالعلم الذي نفى عن المادة جدليتها أثبت في الوقت نفسه (١) أن كل شيء متأثر ومؤثر في غيره و(٢) أن المادة في حركة دائمة و(٣) أنها تتحول تحولا مستمرا من نوع إلى نوع . لقد كان ماركس وانجلز معذورين عندما قالا إن المادة جدلية ، فقد كان الجهل بالحركة الداخلية للذرة يسمح لهما بهذا الافتراض الذي يسهل لهما تبني القوانين التي وضعها هيجل كلها واستعمالها معاً ، أما ان يقول هذا واحد بعد منتصف القرن العشرين فهو أمر لا يدل إلا على أنه كان نائماً ، وقد آن الأوان ليستيقظ النيام ولو حتى على هدير الصواريخ في عهد الذرة . فقد جاءنا دليل اليقظة من بلد الذرة والصواريخ . فلننظر ماذا يقول مؤلفو" أسس الماركسية - اللينينية " سنة ١٩٦٣ . قالوا : " إن الطبيعة والمجتمعات لا تعرف السكون المطلق والجمود ...

غير أن : " يتغير شكل الحركة تبعاً لتغير أشكال المادة . ابسط أشكال الحركة ، الحركة الميكانيكية في المكان ، وأكثر من هذا تعقيداً التفاعل الحراري، أي الحركة التلقائية للجزيء التي تؤدي إلى وجود الجسم الطبيعي . وقد اثبت العلم أن الضوء والإشعاعات الكهرومغناطيسية النشاط الداخلي في الذرة أشكال خاصة من حركة المادة ، وثمة نوع من الحركة نجده في التفاعل الكيميائي الذي تتحول به المادة عن طريق الاتحاد والانفصال بين الذرات والجزيئات . والنشاط الفسيولوجي في النبات والحيوان وتطور الأحياء تعبيرات خاصة في الطبيعة العضوية عن الحركة التي هي خاصية عامة للمادة .

" وهناك شكل للحركة أكثر تعقيداً بكثير مما سبق ، نجده في حياة الإنسان الاجتماعية كتطور الإنتاج المادي والحياة الاقتصادية ... الخ .

" وكل أنواع الحركة غير منعزلة بعضها عن البعض الآخر، بل متداخلة ويتحول بعضها إلى البعض . وهكذا يمكن أن يؤدي النشاط الحراري إلى تحولات كيميائية وظواهر حيوية .."

إذن فقد كان انجلز صادقا عندما قال في " الرد على دهرنج ": " لا توجد مادة بدون حركة ولا يمكن أن توجد " . وقد أثبت العلم فعلا أنها في حركتها يتحول بعضها إلى بعض . غير أن هذا كله لا يفسر تحول المادة من الماضي إلى المستقبل ، او تطورها ، او الحصيلة المستقبلية لحركتها وتأثيرها المتبادل وتحولها .

لماذا ؟

لأن ماركس وانجلز لم يكونا قد عرفا الزمان كحد رابع لتعيين الأشياء والظواهر . لأن اينشتين لم يكن قد وجد ولا كانت قد وجدت نظريته في النسبية .

لقد كانت الحتمية الميكانيكية وقوانين نيوتن هي ما عرفه العلم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كما يقول مؤلفو" أسس الماركسية ـ اللينينية " . ولم يكن من الممكن ان تفسر حركة المادة " في الزمان إلا بقوة تدفعها من خلف كما قال بيركلي ، أوقوة تشدها من أمام كما قال هيجل ، أو قوة من ذاتها تصل بها ماضيها بمستقبلها قفزات كما قال ماركس . وكان هذا التفسير الأخير يقتضي أن تكون المادة جدلية وان يوجد في داخلها تناقض وصراع لتكون كذلك" . ثم تقدم العلم بعد وفاة ماركس وانجلز كليهما ، فقال مؤلفو " أسس الماركسية اللينينية " :

" تتم الحركة في المكان والزمان ... كل ما هو موجود في العالم متغير . كل جسم ، وكل ظاهرة من ظواهر الطبيعة لها ماض وحاضر ومستقبل . وتلك أوجه الزمان . إن الزمان كالمكان طريقة كونية لوجود المادة . لقد أثبتت هذا واحدة من أعظم النظريات العلمية في عصرنا ، هي نظرية النسبية لأنشتين .

هل معنى هذا ان حركة المادة من الماضي إلى المستقبل ، او تطورها ، يتم بالزمان دون حاجة الى ان يوجد في  داخل المادة ذاتها تناقض باطني أو صراع ؟

لقد قلنا هذا من قبل ، واعتمدنا فيه على ما عرفناه من انجازات العلم الحديث ، ثم أضاف مؤلفو " أسس الماركسية - اللينينية " ما أغنى معرفتنا ، ولكنهم لم يرتبوا عليه نتائجه الفكرية ترتيباً حاسماً ، فقالوا عن قانون التناقض الجدلي وصراع الأضداد :

" يجب ألا يفهم هذا الأمر فهما مبالغاً في بساطته . إن " الصراع " بين الأضداد بمعناه الحرفي المباشر يحدث بصفة رئيسية في المجسات الإنسانية . ولا يمكن على أي  وجه ان نتحدث دائماً عن الصراع بمعناه الحرفي بالنسبة الى العالم العضوي - أما بالنسبة الى الطبيعة غير العضوية فيجب ان يفهم هذا التعبير على وجه أقل حرفية . وهذا هو السبب الذي وضع من أجله لينين ذلك  التعبير بين قوسين . إن هذا التمييز لازم لفهم صراع الأضداد فهماً سليماً " .

والنتيجة الحاسمة التي لم يرتبها مؤلفو " أسس الماركسية - اللينينية " هي أن المادة في عالم ما فوق الذرة ( عالم المرئيات أو الماكروكوزم ) ، والعالم الذري ( عالم غير المرئيات أو الميكروكوزم ) تتطور ويتحدد وضعها في المستقبل طبقاً لقوانين ميكانيكية ( تقليدية  أو حديثة ) ، لا يحركها ولا يحدد مستقبلها التناقض الجدلي في ذاتها ، اي أن المادة في العالمين غير جدلية .

والواقع أنهم كانوا قد قالوا هذا صراحة ثم رجعوا عنه . ففي الطبعة الأولى باللغة الانجليزية من كتاب " أسس الماركسية ـ اللينينية " التي لا تحمل تاريخاً لنشرها ، قال مؤلفو الكتاب في صفحتي ٨١ ، ٨٢ تحت عنوان الحتمية والعلم الحديث " :

" كان علم الطبيعة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ( على عهد ماركس وانجلز - المؤلف ) ، المقصور على دراسة عالم المرئيات الماكروكوزم أي عالم الأجسام الكبيرة نسبياً وجزئياتها ، والمؤسس بشكل رئيسي على ميكانيكا نيوتن ، تسوده الحتمية الميكانيكية . وكان مميزه الذي هو في الوقت ذاته عيبه ، أنه يجعل من كل سبب سببا ميكانيكياً . ومثال علاقة السببية الميكانيكية حكة كرة البلياردو عند دفعها بالعصا . فقوة الاندفاع في الكرة مساوية للقوة المنقولة اليها من العصا . والقول بألا شيء في الأثر يتجاوز السبب يمثل نموذجاً للحتمية الميكانيكية .
ويترتب على هذا أننا إذا عرفنا حالة جسم أو "مجموعة" من الأجسام في أي وقت أمكننا عن طريق قوانين الميكانيكا التقليدية ( ميكانيكا نيوتن ) أن نحدد مقدما حالتها في أي وقت في المستقبل .
وقد تأيد هذا المبدأ وتأكد بدراسة الحركة والتأثير الميكانيكي المتبادل في الأجرام السماوية وكذلك في الأجسام المرئية في الأرض والجزئيات ... ففي عالم المرئيات تتميز حالة الجسم المتحرك بموقعه فى المكان وسرعته في وقت معين ، ويمكن تحديد هذه الخصائص تحديداً دقيقاً .
وبمجرد معرفتها نستطيع أن نحدد بدون أي لبس حالته في أي وقت في المستقبل على أساس قوانين الميكانيكا الكلاسيكية ".

إلى هنا كان مؤلفو " أسس الماركسية ـ اللينينية " قد أهدروا كل ما بذله السيد انجلز وغيره من الماركسيين من جهود في إثبات أن المادة جدلية على أسس الكشوف العلمية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ثم أضافوا :

" أما في العالم غير المرئي ( الميكروكوزم ) فنظراً للمميزات الخاصة لظواهره نجد أن حركة المادة فيه أكثر تعقيداً ، ويبدو هذا على وجه خاص من أننا نستطيع أن نحدد بأية درجة مطلوبة من الدقة إما وضع الجسم وإما سرعته . ولكن قوانين الميكانيكا الكلاسيكية غير كافية عند تطبيقها في العالم غير المرئي إذ لا نستطيع بها أن نحدد مقدماً كلا من موضع وسرعة  جسم غير مرئي . ومع ذلك فبمعرفة قوانين الميكانيكا الكوانطية ( أي قواعد الميكانيكا الخاصة بحركة غير المرئيات) يمكن تحديد وضعها المحتمل في أي وقت في المستقبل .

بهاتين الفقرتين كان مؤلفو'' أسس الماركسية ـ اللينينية " ، قد استبعدوا الحركة على أساس قانون التناقض الجدلي من عالم المادة مرئية أو غير مرئية ، وانتهوا إلى أن - المادة  أو وضعها في المستقبل ، أو غاية تطورها يمكن أن تحدد مقدما على وجه الدقة طبقاً لقواعد الميكانيكا التقليدية ( ميكانيكا نيوتن ) في عالم المرئيات ، وعلى وجه الاحتمال طبقاً لقواعد الميكانيكا الكوانطية ( أي قواعد الميكانيكا الخاصة بحركة غير المرئيات ) في عالم الذرة . وكان ذلك كافياً لوضع نهاية حاسمة لأي ادعاء بأن المادة جدلية ، أو أن الذي يضبط حركتها ليست قواعد الميكانيكا ( التقليدية او الكوانطية) والمؤثر الخارجي ، ولكن التناقض الباطني القائم في ذاتها والصراع الذي يولده هذا التناقض ...الخ . كان ذلك كافياً لوضع نهاية لتلك النظرية التي يقال لها '' الجدلية المادية '' ، ولكن الآراء الفلسفية والاجتماعية التي قامت على فرض غير صحيح هو أن " المادة جدلية " .

غير أن الماركسيين النابهين من مفكري الاتحاد السوفييتي قد حذفوا هاتين الفقرتين من الطبعة الثانية (١٩٦٣) وما تلاها من طبعات ( ١٩٦٤) ، وجاء الحديث عن " الحتمية والعلم الحديث " خلوا منهما ومن بديل عنهما في صفحتي ٦٩، ٧٠ . وانه لمن الممتع المفيد مقارنة الطبعتين الأولى والثانية من كاب " أسس الماركسية ـ البينية " ، خاصة في الأجزاء الأولى حيث يدور البحث حول المنطلقات الفلسفية والأسس العلمية للماركسية ، لنرى الجهود الجبارة التي يبذلها مفكرو الاتحاد السوفييتي لمحاولة الإبقاء على " الجدلية المادية " ، وما يجدونه في هذا من عناء ومشقة مرجعها ما يعرفونه من منجزات العلم الحديث  .

على أي حال ، لقد حذفوا ما حذفوا ، وبذلك بقيت الجدلية المادية كأساس علمي للماركسية فى حاجة إلى مناقشته ، وظل باب الحوار مع الماركسيين مفتوحاً وهو أمر ممتع ومفيد أيضاً .

- 11-

عندما يقال إنه لا بد من أن تكون لكل شخص فلسفة ، يقصد من ذلك أن يكون له مفهوم كلي للطبيعة ، أي أن يعرف القوانين الكلية التي تحكم الطبيعة ؛ فعن طريق معرفة هذه القوانين يعرف حركة الظروف التي تحيط به ويستطيع أن يحدد سلوكه فيها . ولما كانت الطبيعة كلا يحتوي على أجزاء ، فإنه يشترط ـ لكي تكون القوانين كلية ـ صحتها بالنسبة إلى الكل والأجزاء معا ومن هنا تبدو أهمية المجهودات التي حاولها العلماء على مر السنين لمعرفة وحدة تكوين الطبيعة .

وعندما اكتشفوا أن المادة تتكون من ذرات اعتبروا الذرة وحدة غير قابلة للانقسام لأنها غير ذات تكوين داخلي ، ولكنهم اكتشفوا أيضا أن الذرات مختلفة نوعيا ومتعددة بتعدد العناصر. عند هذه المرحلة ـ مرحلة التعدد ـ لم يكن من الممكن علمياً الوصول إلى قوانين كلية بمعناها الصحيح ، وكان لا بد من معرفة تركيب الذرة للبحث عن العنصر المشترك في ذرات العناصر المعددة الذي يفسر الذرات جميعا ، وينطبق عليها بصرف النظر عن خصائصها المختلفة . ولم يتم هذا الا بعد أن اكتشف الإنسان قوانين الذرة نفسها ، أي العناصر الموحدة بين الذرات ووجد أنها ثلاثة : الحركة والتأثير ، ثم التغير . وأصبح ممكناً ان يقال إن هذه القوانين الثلاثة قوانين كلية ، لأنها تحكم وحدة الطبيعة وتحكم الطبيعة نفسها اذ هي كل من الأجزاء . غير ان الطبيعة عامرة بقوانين علمية أخرى . 

فالقوانين التي تحكم الرصاص غير التى تحكم الايدروجين ، ولكل عنصر قوانينه الخاصة . فإذا تركبت الذرات في عناصر وخرجت من تركيباتها مواد ذات كثافة مختلفة ، او وزن مختلف ، او شكل مختلف ، فإن كل مادة مركبة تصبح لها قوانينها الخاصة ، هذه القوانين نوعية بمعنى أن كل نوع له قوانين تختلف عن قوانين النوع الآخر؛ فثمة قوانين النبات ، وقوانين الحيوان ، وقوانين الضوء ، وقوانين الصوت . والماء يتبخر بالحرارة والحجر لا يتبخر، وينبت الزرع حيث تتوفر درجة معينة  من الحرارة ولكن أنواعا من الحيوانات لا تعيش إلا في الجليد . وقد أصبح لكل نوع ولكل فرع من نوع قوانينه وعلمه الخاص به . وتتميز القوانين النوعية بأنها مقصورة على تفسير حركة النوع ولكنها غير كلية . فإذا كان الإنسان مثالا يولد من لقاح بين زوجين وينمو ويموت فإن قوانين الفسيولوجيا لا تفسر حركة الشمس والكواكب ، وقوانين علم الحيوان لا تفسر حركة الإنسان وهكذا . غير ان وجود قوانين نوعية لا يلغي القوانين الكلية بل يكملها عند البحث الجزئي . فإذا كان للنبات قوانين نوعية خاصة ، فإن البحث العلمي في النبات يكون على هدى القوانين الكلية وقوانينه النوعية معا .

ولا تمكن المعرفة الجزئية أي الخاصة بجزء من الطبيعة إلا باستخدام تلك القوانين معاً ، فاستعمال القوانين الكلية وحدها يعني تجاهل الخصائص النوعية للجزع موضوع البحث ، واستعمال القوانين النوعية وحدها يعني عزل الجزء عن الكل وهو لا يكون جزءا إلا لأنه من كل .
وفي بعض الأوقات يكون مدى القانون متسعا لدرجة توهمنا بأنه كلي ، وقد رأينا كيف قيل إن قوانين نيوتن تفسر الحركة إطلاقاً ثم اتضح أنها عاجزة عن تفسير جزع واحد من الكون الذي نعرفه هو عطارد ، فجاءت نظرية النسبية فأكملت هذا النقص ، ورأينا كيف قرر قانون كولمب أن ( أي ) مادتين تتجاذبان ثم أتضح أنه محدود بمسافة خاصة يبطل بعدها .

وتطبيقا لهذا فإن البحث في قوانين الإنسان كنوع ، أو في تركيبات الإنسان أي المجتمعات ، لا يجوز أن يكون على هدي القوانين الكلية وحدها ولكن على هديها منضمة إلى قوانين الإنسان أو قوانين المجتمعات . وهذا الذي أعجز المثالية والمادية كلتيهما عن تفسير حركة الإنسان أو حركة المجتمعات بحيث ناقضها الواقع في الإنسان والواقع في المجتمعات معا . فعندما كونت المثالية قوانينها الجدلية وقالت عنها إنها قوانين كلية ، وعندما استعارتها المادية وأبقت لها صفة الكلية أخضعت الإنسان نفسه لهذه القوانين وحدها دون أن تستفيد من القوانين النوعية الخاصة
بالانسان . ففي النظريتين معاً أصبح الإنسان صفرا . والخطأ في النظريتين أنهما اعتبرتا قانون الجدل
 - القانون الرابع ـ قانوناً كلياً ؛ فأرغمت المثالية المادة على أن تقبل جدل الفكر وتكون على صورة ما ينتهي إليه تصوره . وأرغمت المادية الإنسان على أن يقبل جدل المادة فيكون على الصورة التي ينتهي إليها . ولهذا اتحد موقفهما من النتائج كما قلنا من قبل والواقع أن التأثير والحركة والتغير قوانين كلية كما أثبت العلم ولكن الجدل قانون نوعي خاص بالإنسان وحده كما يثبت العلم أيضا .

ـ 12 ـ

قلنا (ان الجدل قانون نوعي خاص بالإنسان ، وان العلم قد اثبت هذا . ومن المهم قبل أن نستطرد ان نرفع عن كاهلنا غيبية اسم ، فإن البعض يستعملون كلمة العلم كما لو كان شبحاً مسلطاً على الإنسان لا يستطيع أن يقترب منه إلا وفي يده شهادة إحدى كليات العلوم . وتلك كهانة جاهلة يراد بها شل تفكير الناس أكثر من ان يراد بها التدليل على حقيقة موضوعية .

والمسألة ـ ببساطة - اننا نعرف الأشياء معرفة تلقائية عن طريق ما تنقله إلينا الحواس . نعرف النور عن طريق العين ، ونعرف الصوت عن طريق السمع ونعرف الكثافة عن طريق اللمس ، ونعرف الفطيرة إذا أكلناها كما اختار أن يقول فريدريك أنجلز . هذه المعرفة مجرد تسجيل الوقائع التي تحيط بنا دون إدراك أو تفسير . فنحن نرى مثلا الشيء يسقط من أعلى فتنقل إلينا حواسنا تلك الظاهرة ، أما لماذا سقط من أعلى ولم ينطلق من أسفل فليس لدينا حاسة تنقل إلينا هذا . إذا وقفنا عند هذا الحد من المعرفة نكون قد تساوينا بالكائنات الحية على الأكثر فإن لها حواس تنقل إليها الظواهر التي تحيط بها . بل نكون كآلة التصوير تلتقط صورة النافذة وهي خشب وزجاج مثلها ، أو كزهور عباد الشمس تدور مع الشمس دون أن تعرف الشمس او الأشعة . ولكن الإنسان - دون الكائنات جميعاً - لا يقف عند هذا الحد ، فهو يراقب تتابع الظواهر وتكرارها ويحاول ان يربط بينها أي يدرك العلاقات التي تجعلها تقع وتتابع على الوجه الذي تنقله إليه حواسه ، وبذلك يكون قد تجاوز المعرفة التلقائية إلى المعرفة العلمية في أبسط صورها .

وقد استطاع الإنسان ان يكمل النقص في حواسه الخمس المعروفة وان تصل رؤيتة إلى آماد بعيدة ، وأن يسمع الأصوات عبر القارات ، ولكن البحث العلمي هو هو في بساطته . فهو يتجاوز الإحساس بالوقائع المفردة إلى إدراكها ، ثم يحلل كلا منها ، ويكشف العنصر المشترك الذي يربط بينها ، والقاعدة التي تنظم حركتها ويصوغ هذه العلاقة فيما يسمى قانونا . وهكذا يبدأ البحث العلمي بالوقائع البسيطة المفردة وينتهي إلى قوانين عامة ٠ والقوانين كلها شرطية ، بمعنى أنه " إذا " وقع كذا حدث كذا . إذا وصلت حرارة الماء إلى 100 درجة مئوية ( بشرط ) أن يظل الضغط الجوي ثابتاً . ولا تتضمن صياغة القانون عادة " إذا" هذه أو" بشرط " الأخرى ولكنه يتضمنها بحكم كونه قانوناً .

هذا هو التفكير العلمي الذي لا يستحق أن نجعل منه شيئا غامضاً ومخيفاً . فالواقع العلمي أيضاً أن الإنسان منذ أن وجد لم يكف لحظة عن التفكير العلمي وإن كانت درجة معرفته العلمية قد بدأت ضيقة واتسعت ولا تزال تتسع . فمنذ أن بحث الإنسان عن طعامه في الغابات أدرك علمياً أنه إذا لم يأكل يموت . ومنذ أن بنى كوخه على ضفاف الأنهار عرف أن الزرع لا ينبت بدون ماء . ومنذ ان اختار سفوح الجبال لينحت الكهوف عرف أن الماء لا يجري إلى أعلى . وعندما ألقى صيادو استراليا بحرابهم الدقيقة فأصابوا صيدهم بدقة مذهلة كانوا يستعملون قوانين نيوتن في الحركة ، وأخيرا فمنذ أن وجدت للإنسان تلكما " اليدان المكونتان ىلى وج رائع " عرف أن هذين العضوين من جسمه يصلحان للعمل فلم يستعمل أذنيه مثلا . قد يبدو كل هذا ساذجاً لأننا نعرف الآن الكثير عن طريق البحث العلمي ولكن ليس معنى هذا أن ذلك التفكير البدائي لم يكن علمياً .

فالبحث العلمي او المنهج العلمي في البحث يقوم على أساس وجود قوانين موضوعية - كلية أو نوعية ـ تحكم الظواهر والأشياء والإنسان نفسه . وهذا يعني أن وجود هذه القوانين بما فيها قوانين الإنسان نفسه ، غير متوقف على الإنسان ، بمعنى أنه لم يوجدها ولا يستطيع أن يغيرها . ومع أننا سنتناول هذا بمزيد من التفصيل في الموضع الذي خصصناه لدراسة مشكلة الحرية ، إلا أنه من الممكن القول منذ الآن ، أن الحرية كخاصية من خصائص الإنسان لها قوانينها التي لا يمكن ان تفلت من حكمها حتى وهي تغير العالم إرادياً . ويتم هذا التغيير نفسه عن طريق إعمال قوانين الإرادة ، والقوانين النوعية للشيء أو الظاهرة موضوع النشاط الإنساني ، والقوانين الكلية التي تحكم الإنسان وإرادته والظواهر موضوع نشاطه معاً . لا شيء إذن يقع اعتباطاً ، ولا شيء للصدفة أو الحظ ، لأن " الضرورة " أي انتظام الظواهر والأشياء والنشاط الإنساني على مقتضى قوانين حتمية ، ضرورة موضوعية ، فسواء استطعنا أن نتتبع أسباب الظاهرة أم لم نستطع أن ندرك إلا جانباً منها ، لا يمكن القول بأنها قد تحققت صدفة على غير ما تقتضيه أحكام القوانين التي تحكمها وتحكم أسبابها المعروفة وغير المعروفة ؛ لأن " المعرفة إدراك شخصي قد لا تتوافر أسبابه العلمية في المكان أو في الزمان أو بالنسبة إلى شخص أو مجموعة من الأشخاص .

وفى كتاب " أسس الماركسية - البينية" كلام فى الموضوع .

بدأ مؤلفوه بالقول : " عندما نعترف بأن لكل ظاهرة سبباً حتماً نكون قد اعترفنا بأن الضرورة تحكم العالم " ، ثم يستطردون قائلين : " يوجد ببن مختلف الظواهر في الطبيعة والمجتمع بعض منها لا ينتج حتماً من القانون الذي يحكم شيئاً معيناً أو مجموعة من الأشياء المعينة ، والتي يمكن او لا يمكن أن تقع بطريقة او بأخرى ، وتلك هي الصدفة .. لقد كانت مشكلة الصدفة محل خلاف كبير . إن المبدأ الصائب القائل بأن لكل ظاهرة سب في الطبيعة أو في المجتمع الإنساني قاد كثيراً من العلماء والفلاسفة إلى نتائج غير صحيحة ، ، هي ان الضرورة قائمة فى العالم وانه لا توجد أية ظاهرة صدفة ، وان الصدفة - طبقاً لوجهة نظرهم ـ مفهوم شخصي نطلقه على الأشياء التي لا نعرف أسبابها . إن هذا الرأي خاطئ كلية . إذ يخلط بين مفهومين هما .. الضرورة  والسببية . صحيح أنه لا توجد ظاهرة في العالم بدون سبب ، وان الظواهر التي تقع مصادفة لها أسباب محددة ، ولكن هذا لا يجعل الظاهرة ضرورية . خذ مثلا : قطارا يخرج عن الخط ويدمر . قد نعرف أن سبب الحادثة كان عدم إحكام ربط بعض القضبان مثلا ، ومع ذلك فإن الحادثة كانت صدفة وليست ضرورة . لماذا ؟ .. لأنها نتجت عن ظروف لا علاقة حتمية بينها وبين حركة القطارات ، ما دام من الممكن فنياً تحقيق الشروط الفنية التي لا يقع معها ذلك الحادث . إن إنكار الصدفة موضوعياً يؤدي إلى نتائج ضارة من وجهة النظر العلمية والتطبيقية .

" إن كل من يرى أن كل شيء ضروري لا يمكن أن يفرق يبن ما هو أساسي وما هو غير أساسي ، بين ما هو ضروري وما هو عارض . وكما قال أنجلز تصبح الضرورة نفسها على مستوى العوارض . والفهم الصحيح لمضمون الضرورة والصدفة يتضمن ، بالإضافة إلى معرفة الفرق بينهما ، معرفة العلاقة بينهما ، ولقد عجزت الميتافيزيقا عجزاً كلياً عن معرفة هذه العلاقة ؛
لأنها تنظر إلى الضرورة والصدفة كنقيضين لا علاقة بينهما . وبعكس الميتافيزيقيين أثبت الجدليون الماديون أنه من الخطأ ان ننظر إلى الصدفة على أنها نقيض الضرورة ، وأن  رآها في عزلة عنها كأولئك الذين يفكرون تفكيراً ميتافيزيقياً . إنه لا توجد أية صدفة مطلقة . هناك صدفة بالنسبة إلى شيء ما فقط . إنه لمن الخطأ أن نفكر ان الظاهرة إما أن تكون ضرورة محضة أو صدفة محضة . إن كل صدفة تتضمن عنصر من الضرورة ، والضرورة تشق طريقها وسط ركام من الصدف . إن جدل الضرورة والصدفة يكمن في الحقيقة في أن الحادثة تظهر كشكل من الأشكال التي تعبر بها الضرورة عن نفسها ، ومكملة لها ، ولهذا فإن الحدث العارض يأخذ مكانه داخل الضرورة " .

إن هذا القول الذي بدأ بداية صحيحة وانتهى نهاية صحيحة ، يستحق أن يسرد ، لأنه يتضمن ـ فيما بين البداية والنهاية ـ قولا عجبا . إننا عندما نتكلم عن " الضرورة نعني بها وقوع الحدث بتوافر شروطه حتما ، ولا يعنينا أن يقع الحدث مرة كل يوم أو مرة كل عشر سنوات .
كما لا يعنينا أن يكون وقوعه " ضرورة اجتماعية أو اقتصادية " ، أي بمعناه الاجتماعي حيث تعبر الضرورة عن الحاجة إليها . فمن الضروري مثلا أن تتحقق الوحدة العربية فورا ، وقد كان تحققها فورا ضرورة ملحة فور التجزئة وستظل ضرورة إلى أن تتحقق . وليس من الضروري أن تقع تلك الحادثة التي دمرت القطار . واستعمال تعبير الضرورة في كل هذا خروج بها عن مفهومها العلمي . إنما تكون الوحدة ضرورة بمعناها العلمي ، لأنها نتيجة حتمية لوجود الأمة الواحدة .
ويدمر القطار حتماً إذا ارتطم بالأرض طبقا للقوانين التي تحكم صلابة المادة المصنوع منها . ويخرج عن الخط حتماً إذا لم يحكم ربط قضبانه طبقاً للقوانين التي تحكم حركته وتوازنه خلال الحركة . أي أن شيئاً لا يقع على خلاف ما تقتضيه القوانين التي تحكم نوعه . وكل هذا لا يؤدي إلى التسليم بوجود الصدفة كظاهرة موضوعية ، إلا إذا أدخلنا المعرفة عنصراً في القوانين الموضوعية ؛ فلو أخذنا حادث القطار الذي ضربوه مثلا ، وافترضنا أن شخصاً ما قد تعمد عدم أحكام ربط القضبان ، عندئذ سيكون الحادث بالنسبة إلى ذلك الشخص الذي عرف سببه ضرورة " بينما يكون بالنسبة إلى من لم " يعرف " السبب " صدفة " ؛ أي ان الحقيقة الموضوعية للظاهرة تختلف باختلاف معرفة الأشخاص لها وتلك هي الميتافيزيقية ؛ إنها إنكار انضباط العالم على قوانين حتمية ، وحجتها الوحيدة أننا لم نعرف بعد القوانين التي تحكم شيئا من الأشياء أو ظاهرة من الظواهر، أي مصادرة البحث العلمي بالاحتجاج عليه بما نجهله اليوم كأن البحث العلمي قد عرف قبل القرن العشرين قوانين الذرة ، وكأن تلك القوانين لم يكن لها وجود قبل أن يكتشفها الإنسان . ومع أن مؤلفي ( أسس الماركسية ـ اللينينية ) قد أنكروا الميتافيزيقا فيما قالوا " إلا أن الإدعاء ليس طريقاً للحقيقة . والحقيقة أنهم قد فتحوا ثغرة ميتافيزيقية بقولهم " إنه من الخطأ أن ننكر أن الظاهرة إما أن تكون ضرورة محضة أو صدفة محضة . إن كل صدقة تتضمن عنصرا من الضرورة والضرورة تشق طريقها وسط ركام من الصدف " . إن في هذا تشكيكا في حتمية" القوانين العلمية ، وفتحا لنظرية الاحتمالات و"اللاحتمية" و"الستاتيكية" التي ينادي بها أعداء التفكير العلمي . وكان طبيعياً أن تدخل إحدى هذه النظريات أو كلها من خلال الثغرة التي فتحت . فنقرأ في " أسس الماركسية ـ اللينينية " مثلا يؤيد به واضعوه رأيهم في الضرورة والصدفة فيقولون :

" قد ثبت إحصائيا في الولايات المتحدة أن متوسط عمر البيض أطول من متوسط عمر السود . هذا الانتظام لا يعني مع ذلك أن كل أبيض يعيش عمراً أطول من عمر الأسود ، فإن بعض البيض يموتون صغار ، وبعض السود يعمرون طويلا . ولكن هذا الاطراد يصلح إثباتاً في المتوسط والغالب الأعم ، ويعكس الوضع المتخلف للسود في الولايات المتحدة الأمريكية " . وهكذا انزلقت الجدلية المادية إلى الستاتيكية . وجعلت منها بديلا أو قرينا للقوانين العلمية ، ونسيت أن كل الإحصائيات التي تنتهي إلى إثبات اطراد ظاهرة لا تعني إلا أن ثمة قانونا يحتاج في كشفه إلى مزيد من الملاحظة والبحث ، وأن القانون الذي تشير إليه إحصائيات الأعمار في الولايات المتحدة الأمريكية يحكم البشر جميعا ، وليس السود أو الأمريكيين فحسب . فالقوانين الفسيولوجية والسيكولوجية تحتم أن يكون التخلف الاقتصادي أو الاضطهاد سببا لقصر حياة الإنسان ، وهذا القانون الحتمي هو الذي يفسر لنا تلك الحالات الفردية التي يطول فيها عمر الأمريكي أو يقصر ، أيا كان لونه ، وتفسر لنا الظاهرة نفسها حيث وجد الإنسان في الولايات المتحدة الامريكية أو في الاتحاد السوفييتي . وإذ ينقلب القانون الحتمي إلى احتمالي ، نتيجة الاعتراف بظاهرة "الصدفة " ودورها غير القابل للتحديد علمياً ، يسهل الانزلاق بعد هذا إلى الميتافيزيقية بمعناها الذي اختاره مؤلفو " أسس الماركسية ـ اللينينية " أي التقدير الشخصي دون الاعتماد على القوانين الموضوعية . لهذا لم يكن عجيباً أن يقولوا : " إن الطريقة الميتافيزيقية مناسبة إلى حد ما للاستعمال اليومي وللمراحل غير المتقدمة من التطور" .

هذا القول ومثله مما تضمنه كتاب " أسس الماركسية ـ اللينينية " . والكتابات الماركسية السائدة " في الوقت الحالي " لا بد منه ، فإن إصرار الجدلية المادية على التركيز على القوانين الكلية وتجاهلها الإنسان وقوانينه النوعية قد أفقدها المقدرة على تفسير ما طرحه التطبيق والحياة الاجتماعية من ظواهر وتطورات . وكان لا بد أن تشد الجدلية المادية من أطرافها لتغطي الحياة الإنسانية في القرن العشرين ، فتباعد نسيجها حتى أصبح ثغرات كبيرة . غير أن هذا لا ينبغي أن يجرنا إلى تتبع كل ثغرة فيها ظاهرة أو خفية ، فهذا الكتاب ، بعد ، ليس مخصصاً لنقد الماركسية ، فلنمض فيما يخصنا من حديث .

عرفنا أن أساس التفكير العلمي أن يكون العالم منضبطا على أسس قوانين حتمية ، وأن الإنسان لم يتوقف قط عن التفكير العلمي . وقد بدأت معرفة  الإنسان ضيقة المدى ووسائل معرفته محصورة في حواسه ، ثم اتسعت وأصبحت أكثر شمولا ، ولا تزال تتسع لتشمل الكون كله . وفي تطور المعرفة الإنسانية اكتشف الإنسان ألاف القوانين التي تحكم الطبيعة وتحكمه ، وصحح كثيرا من الفروض العلمية التي كان يظن أنها قوانين حتمية . فقد ظل العلماء ـ مثلا ـ فترة
طويلة من الزمان يعتقدون أن الفضاء مليء بوسط مادي أسموه الأثير . ولم يكن الأثير حقيقة علمية ، أي لم يثبت علميا ، بل كان افتراضاً لكائن مجهول يسهل للعلماء تفسير ما كانوا قد انتهوا اليه من أن الضوء والصوت مكونين من موجات . وكان لا بد من الأثير لتنتقل عليه الموجات الضوئية كما نرى في حركة الموج في البحر .. ثم جاءت سنة ١٨٨١ فأثبت ميلكسن ومورلي ـ علمياً 
ـ أن الأثير وهم لا وجود له ، وفتح ذلك الطريق للنظرية الكوانطية التي قالها بلانك وثبت بها أن الطاقة المشعة ، ومنها الضوء ، تنبعث لا في سيال متصل بل في وحدات متقطعة هي الفوتونات . وهكذا زالت خرافة الأثير والموجات الضوئية.

مؤدى هذا أنه إذا كان ثمة شيء مجهول فليس ثمة مالا تمكن معرفته . والبحث العلمي البسيط في جوهره هو طريقنا إلى تلك المعرفة . والثقة بالإنسان ـ ذلك الكائن العظيم ـ تدع الطريق مفتوحا لمزيد من انتصاراته العلمية . كما أن هذه الثقة نفسها تحول دون أن يؤخذ قصور المعرفة العلمية الوقتي عن إثبات أي شيء أو نفيه دليلا على عدم وجوده او على وجوده . إن في هذا مصادرة  لمستقبل البحث العلمي وإنكارا لمقدرة الإنسان على أن يفعل ما يبدو مستحيلا .

إن هذا ينقلنا مباشرة إلى مواجهة الميتافيزيقا .

إن البحث في ما وراء الطبيعة ، يفزع الماديين خشية أن يكتشفوا الله اكتشافاً علمياً . وهم يخشون الله لأنهم يعرفونه كما عرف اليونانيون القدامى آلهتهم ؛ قوى خارجية لا تنفك تعبث بمقدرات الناس وتتدخل في حياتهم محطمة القوانين التي تحكم الطبيعة ، حاجبة إرادة الإنسان بإرادتها الدخيلة المتدخلة . ولا يفهمون الأديان إلا على أنها تلك المذاهب التي تحرض على التواكل الغيبي وتلهي الإنسان عن تحقيق مصيره اتكالا على إرادة عليا تحل له مشكلاته . وهذا وذاك قول جاهل لا يدانيه في الجهل إلا ما قاله مؤلفو "أسس الماركسية ـ اللينينية " وهم يضربون الإسلام مثلا للقدرية المعطلة إرادة الإنسان . انهم يتحدثون كثيرا عن الأديان دون أن يقولوا أي دين يعنون ، ففي العالم ألاف الأديان . وما قالوه عن الإسلام يعني أنهم لم يتعبوا أنفسهم في دراسة أي دين على الإطلاق . هذا مع أنهم مشغولون بدراسة الظواهر الاجتماعية ، ولا شك في أن الرابطة الدينية التي تضم مئات الملايين على آماد السنين الطويلة غير متوقفة على جنس أو لون أو إقليم أو نظام اقتصادي أو سياسي ظاهرة لا ينبغي تجاهلها أو مجرد إنكارها . وإذا كانوا قد قالوا في البداية إن الأفكار تعكس العالم الموضوعي كما تعكس المرآة الشيء الذي أمامها ، فما الذي انعكس في المخ فأصبح إيماناً ؟ وإذا كانوا قد قالوا في النهاية ما جاء فى أسس الماركسية اللينينية " من أنهم لا يعنون بالميتافيزيقا البحث فيما وراء الطبيعة وان الظواهر الروحية والذهنية يمكن أن تكون موضوعا للمعرفة مثلها في ذلك مثل الأشياء المادية ، فلا شيء يحول دون أن يعرف الإنسان الله معرفة علمية . أما نحن فنعرف عن الإسلام ما لا يعرفون ، ففي ظله حقق العرب حضارة إنسانية تجاوزوا بها التخلف قبل الإسلام واقتحموا بها الطبيعة وعرفوا من قوانينها ما لم يكن يعرفه معاصروهم ، واستعملوا تلك القوانين استعمالا علمياً خلق حياة جديدة في أركان الأرض ، ومنها صقلية التي خطرت على بال ماركس . ونعرف من القدرية مالا يعرفون ، فهي مذهب فكري نشأ يوماً في العالم الإسلامي كذلك الذي قاله ماركس يوم أن وضع مصير الإنسان في يد الطبيعة المادية ، كان ذلك في الماضي ، غير أننا قد عرفنا ـ من الحاضرـ الإسلام قوة دافعة قادت ثورة الجزائر إلى النصر الحاسم . بل إننا عرفنا في الإسلام مذهب وحدة الوجود ، ولعل كثيرا من الماركسيين لم يسمعوا حتى اسمه . و " وحدة الوجود " يعرف الله على أنه ذات
القوة المتحققة في الظواهر الكونية وفي الأشياء وفي الإنسان نفسه التي نراها منضبطة على قوانينها سواء كانت مادة أم طاقة أم حركة ، ولم يضق الإسلام بمذهب وحدة الوجود أو بغيره من المذاهب ولكنه ضاق بالحياة الخاملة فحرض على الاجتهاد ، ورفع عن كل مجتهد كابوس الخوف من الخطأ فأثاب المخطئ مرة وأثاب المصيب مرتين . ولا كهذا الذين قالوا إن المتناقضات يتحول بعضها إلى بعض فتتحول الطاقة في المخ إلى فكر عاقل فخافوا فلم يستطردوا قائلين إن الفكر العاقل يتحول إلى مادة .

إن كل هذه أبحاث ميتافيزيقية ، ولكن ما وراء الطبيعة ذاته مجال يزحف إليه البحث العلمي منه ـ كل يوم ـ إلى معرفته العلمية معرفة جديدة . لهذا لا نقبل ما يقوله بعض الوضعيين من طرح ما وراء الطبيعة والاكتفاء بما هو معروف علمياً حتى الآن ، لأن البحث العلمي لا يعرف ، ولا يقبل ، أن يظل شيئا مجهولا ، يحرضه في هذا منطلقه العلمي : كل شيء تمكن معرفته ، وكل شيء منضبط على قوانينه الحتمية ، ولا شيء للصدفة . ويؤيده انتصار الإنسان على مدى تاريخه الطويل في معرفة ما كان يبد ويوما ميتافيزيقيا .

وهنا يكفي ، ما دمنا لا نبحث هنا فيما وراء الطبيعة ، وإنما نبحث في القوانين التي تضبط ما هو معروف من الطبيعة في هذا الزمان ، معرفة علمية .

غير أننا لا نستطيع أن نتجاهل اعتراضاً يثور في مواجهة البحث العلمي أو في مواجهة القوانين الكلية التي ذكرناها ( الحركة والتأثر والتغير ) إذ ان البحث العلمي يقوم على إطراد الظاهرة المفردة وتكرارها ، وهذا لا يستقيم مع القول بأن كل شيء متحرك متغير، إذ أننا لن نجد ظاهرة واحدة مرتين حتى نقول إن وقوعها مطرد على قانون حتمي . هذا الاعتراض صائب وقد لاحظ هيزنبرج ملاحظة حملت اسمه ، مؤداها استحالة مطابقة نتيجتي تجربتين علميتين مطابقة تامة . إن هذا يثبت ان كل شيء متغير . ولكن الانجازات العلمية التي تحققت عن طريق البحت العلمي تثبت أيضا أن ذلك التغير في الطبيعة الجامدة على وجه خاص بطيء وطفيف بحيث يمكن تجاوزه في البحث العلمي ، دون تجاهله تماماً . كل البحث العلمي قائم على هذا الأساس . فهو يعرف مثلا خصائص الفضة ، ولكن الفضة الخالصة تماما غير موجودة ، ولم يمنع هذا من استعمال الفضة على أساس خصائصها في الصناعة والعلاج . لهذا اخترنا ـ كما ذكرنا ـ أن نقول إن الطبيعة تتحول معبرين بذلك عن بطء التغيير النسبي في عناصر المادة . وهذا التحول البطيء ذاته هو الذي يزكي افتراض الامتداد التلقائي للظروف من الماضي الى المستقبل ؛ فمع أن الهرم الأكبر يتغير كل ثانية فإننا نتجاوز هذا التغيير ونسمه بالخلود والدوام ، ونتوقع أن نراه غدا على ما هو عليه اليوم . وقد تزلزل الجبال زلزالها وتخرج الأرض أثقالها فنحسبها فاجعة مفاجئة ، وهي كذلك على إدراكنا ولكنها لم تقع إلا نتيجة تفاعلات وتحولات في باطن الأرض قد تكون بنات آماد طويلة من السنين ، ومع ذلك فإن الإنسان يبني في الأرض ويسعى في
مناكبها سعياً مطمئناً إلى أنها
 ـ بدونه ـ باقية على ما هي عليه ، وان ما يتحول فيها طفيف لا يثنيه عن البناء او السعي . وكل هذا لا ينفي وجود القانون الحتمي ؛ لأن القانون لا يحدد ماهية " تحول المادة ولكن يحدد " كيفيته " . وللفكر من ناحية أخرى قوانينه التي تنظم عملياته الذهنية ، ويعرف الإنسان ـ على هديها ـ كيف تكون بداية الفكرة ، وإلى أية نتيجة تنتهي ، وذلك ما يسمى المنطق ( الذاتية : " أ " هي "أ"، وعدم التناقض .. " أ " ليست هي " لا أ " ، والثالث المرفوع : الشيء يكون حتماً " أ " أو لا " أ " . فالمنطق ليس أكثر من القوانين النوعية للفكر . ويطيب للبعض ان يسموه المنطق الصوري . وقد حاربه الجدليون الماديون أولا ، يوم ان كان المعول على القوانين الكلية للتطور المادي ، ثم عادوا ـ في الوقت الحالي ـ فوجدوا فيه شيئاً مفيدا . والمنطق قد يسمى صوريا لأنه ضبط لقواعد التفكير ، أي لتمييزه عن القواعد لتي تضبط حركة المادة ، ولكنه حتى تحت هذا الاسم يبقى " قانونا نوعياً " للفكر، كل تفكير يخرج على قواعده قد يكون هذياناً او سفسطة .

فهو ليس قانوناً للمادة والفكر معاً لأن " الفكر نتاج المادة ؛ فهما شيء واحد " كما جاء في مقدمة ما كتبه ماركس " ضد برودون " . وليس منهجاً عاماً للمعرفة بحيث يكون " المنطق ، والجدلية ، والنظرية المادية للمعرفة ، شيئا واحداً " كما قال لينبن في " كتابات فلسفية وليس منهجاً احتياطياً لقوانين الجدل فتكون " مراعاة قواعد المنطق الشكلي في الحدود الملائمة ليس على الإطلاق ضد الجدل " كما قال كيدروف في " المنطق الشكلي والمنطق الجدلي " ، بل هو قانون الفكر . ومع هذا فإن الفكر نفسه ، منطقياً كان او هذياناً او سفسطة ، لا يفلت من حكم القوانين الكلية . فهو متأثر بغيره مؤثر فيه متغير دواما في حركة مستمرة . والطب يجد في هذه القوانين تفسيرا لتأثير العلل الجسدية ، وظروف البيئة ، والوراثة ، في المقدرة العقلية للذين لا يتبعون في تفكيرهم قواعد المنطق .

ـ 13 ـ

كل هذا :

ـ معرفتنا القوانين الكلية ( التأثير والتأثر والحركة والتغير ) .

ـ ومعرفتنا القوانين النوعية للطبيعة وأجزائها ؛ ( التحول النوعي ) .

ـ ومعرفتنا القوانين النوعية للتفكير ( المنطق ) .

لا يفسر ظاهرة التطور كما نراها في المجتمعات الإنسانية بما تتضمنه من خلق وإضافة . كل هذا قد يصلح تفسيراً لوجود البحر الأحمر حيث هو ، وانفصاله عن البحر الأبيض بتلك الشقة الضيقة التي كانت يوماً صحراء قاحلة ، ولكنه لا يفسر وجود قناة السويس . قد نعرف على ضوء كل هذا ، لماذا شق النيل مجراه الحالي ولكنه لا يفسر لماذا أقمنا السد العالي لنغير ذلك المجرى . قد نعرف على ضوئه ما عرف داروين ، ولكن ما قاله داروين لا يفسر كيف أطلق الإنسان قردا إلى الفضاء قبل أن يخاطر بسلامته . إنه يفسر الطبيعة بدون إنسان ، ولكنه لا يفسر تطور الطبيعة في ظل الإنسان وتطور الإنسان نفسه . وقد أقامت الجدلية المادية صرح المادة ، وأقامت الجدلية المثالية صرح الفكر ، ووقف الصرحان دون ان تستطيع أي من النظريتين ان تجيب على السؤال الأول في الفلسفة : كيف يؤثر الفكر في المادة وكيف تؤثر المادة في الفكر، أي على أية قاعدة يكون التأثير، فتجاهلت المثالية الإنسان أول الأمر وأرادت أن يؤثر الفكر تأثيرا مباشرا وحسما في المادة . وتجاهلت المادية الإنسان آخر الأمر وأرادت ان تؤثر المادة تأثيرا مباشرا وحاسماً في الفكر . ولما كان التطور بما يعنيه من خلق وإضافة " يتم على طريق الجدل ، قال الأولون إن الجدل فكري ، وقال الآخرون إن المادة جدلية .

وقد رأينا كيف ان المادة تتحول دون جدل ، وكيف ان الفكر الذي يخرج عن قواعد المنطق يعتبر هذياناً ، فلا يبقى إلا أن نبحث عن الجدل الخلاق في تلك الوحدة التى يجتمع فيها الفكر والمادة لا ينفصلان ولا يختلطان ، والذي اخترنا أن نسميه " جدل الإنسان " .

- 14-

كما أن معرفة الطبيعة بسيطة وغير غامضة فإن جدل الإنسان بسيط وغير غامض إذ نلمسه في كل حركة من حياتنا اليومية .

فالإنسان كما أنه كائن عضوي مكون من لحم  ودم وعظم وآلاف المركبات الكيميائية ، كانن ذكي أيضا ، فهو وحدة نوعية من الذكاء والمادة . وقد استطاع أن يكشف كثيرا من القوانبن التي تنظم نشاط الإنسان وان يثبتها بالاختبار والتجربة . وليس الطب البشري إلا فرعا من تلك العلوم التي تتخذ من الإنسان موضوعا للدراسة ، ومن بينها أيضا علم النفس .

وعلم النفس وإن كان حديثا لم يكتمل بعد فثمة حقائق أولية ثابتة به وحتى بدونه من الملاحظة العادية ؛ وهي أن للإنسان قدرة على التذكر والإدراك والتصور والعمل . وذا كان بافلوف العالم الروسي قد استطاع أن يدرس المخ في المعمل ، " بوصفه الجهاز الخاص بالعلاقات بين الكائن العضوي كله ويبن الوسط المحيط  به " ، فلا شك في أنه قد عرف الذاكرة والإدراك ، والمخيلة كحقائق علمية لا يرقى اليها الشك ، وقد عرفنا نحن القدرة على العمل بدون معامل . والتذكر واسترجاع الماضي . فالماضي الذي لا تدركه سائر الكائنات لا ينقضي بالنسبة للإنسان بل يحتفظ  به ويسترجعه في ذاكرته . ويستطيع أن يدرك الروابط التي حكمته وعلل وقوعه ، ثم يستطيع أن يتصور المستقبل مستخدما ذات العناصر التي استرجعها من الماضي ، وأن يعيد تركيبها على أساس القوانين التي أدركها . وبتلك القدرة على استرجاع الماضي وإدراكه وتصور المستقبل يتحدد أي نمط من سلوك الإنسان . فالذي يحس بالجوع مثلا يسترجع تجارب الإحساس بالجوع في الماضي ويدرك أن بقاءه بدون سعي الى الطعام يؤدي الى مزيد من الجوع فيتحرك ويذهب الى منزله وياًكل فيشبع أي يحل مشكلة الجوع . وبذلك يغير بإرادته وعمله السير التلقائي للظروف ليحقق نتيجة ملائمة لحاجته . وإذا استيقظ موظف في الصباح فأنه يتذكر من ماضيه أنه إذا لم يذهب إلى مقر عمله فى الساعة الثامنة صباحا سيخصم من مرتبه أجر يوم ، ثم يدرك انه لو ظل في مخدعه فإنه لن يكون في مكتبه فى الساعة المحددة ، فينهض إراديا ليغادر منزله الى حيث يكون موجودا في الموعد المحدد . وإذا أخذنا مثلا أكثر تعقيدا أحد موضوعات التخطيط الاقتصادي ، نجد أن الخبراء يدرسون ما تجمع من إحصائيات عن الزيادة السنوية لعدد السكان في السنوات العشر الماضية ، ويدركون معدل الزيادة السنوي ، ويدرسون إحصائيات الزيادة في إنتاج المواد الغذائية ، ويدركون أن السكان كانوا يتزايدون في الماضي بنسبة تزيد على معدل الزيادة في إنتاج المواد الغذائية ، فيتوقعون أن استمرار هذا في المستقبل أي السير التلقائي للظروف سيؤدي إلى أنه بعد عدد معين من السنين لن تكفي المواد الغذائية حاجة الشعب ، فيضعون خطة لرفع نسبة زيادة إنتاج المواد الغذائية ، أي يغيرون السير التلقائي للظروف بحيث أنه في الموعد الذي كان متوقعا للمجاعة يجد الشعب كفايته من المواد الغذائية ، وعلى ضوء هذا يمكن فهم جميع الأمثلة التي ضربها الماديون الجدليون للجدل في موضوعات اجتماعية أي متضمنة الإنسان ، ومنها المثل الذي سبق أن نقلناه والذي ضربه بولتزير ليدلل على القانون الجدلي الرابع ؛ مثل الصراع ببن الجهل والمعرفة في حركة دراسة الماركسية .

هذه الحركة نفسها هي الجدلية التي قلنا أنها خاصة بالإنسان .. يهمنا هنا أن نسارع الى القول بأن كون الحركة الجدلية تتضمن " التذكر فالإدراك فالتصور" لا يعني أنها حركة فكرية ، وان الجدل جدل فكري ؛ فالتذكر هو تذكر يشمل المادة ، والإدراك يشمل إدراك قوانين المادة ، والتصور تركيب ذهني للمادة . فالمادة هي محتوى الفكر ، والفكر محيطها الذي يتحدد بها وتتحدد به ، وتكون معه وحدة لا يمكن انفصامها . ولذلك قلنا إنه جدل الإنسان ، ولم نقل أنه جدل الفكر ، فالفكر ليس إلا خاصة من خصائص ذلك الكائن من مادة وذكاء الذي يسمى الإنسان . وقد قلنا أن العمل ـ وهو مادي - هو الحركة الأخيرة في الجدل . فالحركة الجدلية إذ تبدأ من مشكلة تسهم فيها المادة  تنتهي الى حل مادي يسهم فيه الفكر .

لو كانت هذه الحركة التي يقوم بها الإنسان والتي تضبط أي نمط من سلوكه وبالتالي تعتبر بالنسبة اليه قانونا نوعيا حركة جدلية لكان حتما أن تكون منطوية على نقيضين في محتوى واحد ، وأن يكون النقيضان في صراع دائم ، وأن يخرج من الصراع شيء ثالث أكثر تقدما من النقيضين .

النقيضان في جدل الإنسان هما الماضي والمستقبل اللذان يتبع أحدهما الأخر ويلغيه ولا يلتقي به قط ، ومع هذا يجمعهما الإنسان ويضعهما وجها الى وجه في ذاته . والماضي - بالنسبة الى الإنسان - مادي جامد غير متوقف عليه وغير قابل للتغيير ، وبمجرد وقوعه يفلت من إمكانية الإلغاء . ولكن الإنسان إذ يعرف عن طريق استرجاعه كيف وقع يدرك امتداده التلقائي في المستقبل .

والمستقبل بالنسبة الى الإنسان تصور لا يحده قيد من الزمان أو المكان . وأقصى مستقبل لأي إنسان أن تتحقق جميع احتياجاته . وفى الإنسان يجتمع النقيضان وتثور المشكلة بالصراع بين الماضي ممتدا تلقائيا في المستقبل ، وبين المستقبل الذي يريده الإنسان . بين الماضي يريد ان يمتد فيلغي ما يريده الإنسان ، وبين ما يريده الإنسان أن يتحقق فيلغي امتداد الماضي . وتكون المشكلة - التي تعبر عن الصراع - هي ذلك الفرق بين الواقع المسترجع من الماضي ، والمستقبل الذي بريده الإنسان . ويعبر عنه تعبيرا سلبيا بالحاجة ، أي شعور الذات بعدم الاكتفاء ( من تجربة الماضي ) ونزوعها الى الاكتفاء ( في المستقبل ) ومقاومة الظروف ( الماضي ممتدا تلقائيا في المستقبل ) لإشباع تلك الحاجة . وبقدر ما يكون الفرق كبيرا يكون التناقض عميقا ، فيكون الصراع قويا ، فتكون المشكلة حادة . وبقدر ما يسترجع الإنسان من ماضيه يتصور من مستقبله ويتحدد شمول المشكلة التي لا بد من حلها . ويظل الصراع قائما : ظروف الماضي تفرض نفسها على المستقبل وتقاوم الإلغاء لتلغي المستقبل الذي يتصوره الإنسان لنفسه ، والمستقبل الذي يريده الإنسان ويتصوره يفرض نفسه ليتحقق فيلغي ظروف الماضي من المستقبل . ويتم الصراع بين الماضي والمستقبل حيت يلتقيان ، ولا نقول الحاضر، إذ لا وجود لما يسمى الحاضر بين الماضي والمستقبل إلا إذا ألغينا الزمان . عند نقطة الالتقاء تلك - وفي الإنسان ـ يكون الصراع ويكون الحل الذي يتحقق بالعمل متضمنا إضافة جديدة .

أما كيف يحل التناقض فقد قلنا إن صرع النقيضين يطرح المشكلة التي لا بد أن تحل ، ثم يستعمل الإنسان إدراكه ليعرف كيف نشأت المشكلة ، أي ما هو وجه التناقض بين الظروف وحاجته ( الظروف تعبير عن امتداد الماضي والحاجة تعبير عن المستقبل الذي يريده ) ويستفيد الإنسان من مقدرته على معرفة الماضي وقوانين وقوعه ليعدل شروط تحقق تلك القوانين ، ويحول دون استمرار الماضي في المستقبل وهو ما أسميناه الامتداد التلقائي للظروف ، كما يستفيد من معرفته العلمية للظروف لتعديل المستقبل الذي يتصوره الى المستقبل " الممكن علمياً ، أي يجد حلا يتضمن ما يريده الإنسان ، وتسمح به قوانين الظروف معاً . هذا الحل يتحقق بالعمل المادي أو الذهني تبعا لطبيعة المشكلة . هذا الحل يلغي من الظروف كما يحددها الماضي ما لا يتفق مع المستقبل كما يريده الإنسان ويلغي من المستقبل الذي أراده الإنسان ما لا يتفق مع إمكانيات الظروف وقوانين تغييرها النوعية . فيخلق - في كل لحظة وفي كل مكان - مستقبلا متفقا مع حاجة الإنسان وظروفه ، أي خاليا من جمود الماضي وخيال المستقبل . أما آداة الخلق فهو العمل ، الذي يحل التناقض وتتم به الحركة الجدلية .

كيف تتسق الحركة الجدلية بعد هذا ؟

بفعل الماضي والمستقبل ذاتهما . إذ أن الحل الذي يتحقق بالعمل إضافة ينتهي بها تناقض ، وينشأ بها تناقض جديد ؛ لأن ما يتحقق فعلا يلحق فور تحققه بالماضي ، فالزمان لا يتوقف .

وبذلك تنشأ نقطة التقاء جديدة بين الماضي والمستقبل ، أي صراع جديد ومشكلة جديدة . ويسهم الحل الذي كان مستقبلا ثم أصبح ماضيا بتحققه في اغناء الماضي الذي يسترجعه الإنسان وهو يواجه مستقبله الجديد ، فيزيد من مدى تصوره للمستقبل ، ويكشف له مدى جديداً من حاجاته وينشأ بذلك صراع جديد ثم يحل وهكذا . وكل ما يتحقق في الواقع يعتبر خطوة الى الأمام ، لأنه إضافة . وهكذا تتتابع المشكلات وتتتابع الحلول ويتقدم الإنسان وحاجته معلقة دائما على بعد أمامه في سباقه مع ظروفه ، يندفع الى المستقبل وكلما حقق جزءا من مضمونه امتد أمامه وظل
مستقبلا ذا مضمون جديد وفي تاريخ الإنسان سار هذا الجدل من البسيط الى المركب ، ومن المحدود الى الأكثر شمولا ، وكلما زادت تجارب الإنسان اغتنت ذاكرته فاتسعت تصوراته ، و أدت حاجته فزادت مشكلاته ، فأبدع لها مزيدا من الحلول . ولهذا لم يستو تقدم الإنسان على نسبة واحدة وأصبح يحل في  شهور ما كان يحله في قرون مع أن مشكلاته قد تضاعفت أضعافاً .

وإذا كان الجدل قانونا خاصاً بنوع الإنسان فإن الإنسان لا يفلت من القوانين الكلية التي تحكم الطبيعة ، وهو جزء منها يتأثر ويؤثر في حركة دائمة وتغير مستمر، وتحكمه تلك القوانين كوحدة من الذكاء والمادة . فهو لا يستطيع مهما كان ذكيا أن ينفصل عن الظروف التي تحيط به ، أو لا يتأثر بها ، أو أن يتوقف عن التأثير فيها . ولا يستطيع مهما كانت إرادته أن يثبت نفسه فلا يتغير عضويا وفكريا . كما لا يستطيع مهما بلغ تصوره أن يخلق طبيعة غير الطبيعة الموجودة فعلا والتي تشمله . لهذا فإن جدل الإنسان كقانون يعطل إذا لم يكن الجدل في حركته مستنداً الى المعرفة الصحيحة للطبيعة وقوانينها واستعمال تلك القوانين استعمالا صحيحا . وإذا كنا قد ذكرنا من قبل أن كل قانون مشروط حتى لو لم يظهر الشرط في صياغته فإنا نقول هنا إن المعرفة العلمية بقوانين الطبيعة هي شرط قانون الجدل . فالقول بأن الجدل يتم بدون أن تتحقق المعرفة العلمية الصحيحة بقوانين الطبيعة كالقول بأن الماء يصبح بخارا فى الضغط العادي بدون حرارة وكلاهما لغو غير علمي .

ومن هنا يختلف جدل الإنسان عن الجدلية المثالية ؛ لآن التناقض لا يقوم بين أفكار ويحل بأفكار بعيدا عن المادة ، ولكنه تناقض بين ماض مادي وتصور مستقبل للمادة يحل بتشكيل ذكي للمادة . فجدل الإنسان يسفر عن إبداع واقعي ، وجدل الفكر لا يسفر إلا عن أفكار معلقة في رؤوس أصحابها . ويختلف جدل الإنسان عن المادية الآلية التي يعبر عنها لابلاس فيما نقله عنه جايتان بيرو في " مقدمة الاقتصاد السياسي " بقوله : " لو أمكن لعقل ما أن يعرف في لحظة معينة كل القوى التي تقود الطبيعة والوضع النسبي للكائنات التي تكونها ، ولو كان من ناحية أخرى من السعة بحيث يستطيع أن يخضع كل هذه المعطيات للتحليل لكان هذا العقل قادرا على أن يضم في صيغة واحدة حركات أكبر الأجسام في الكون ، وحركات أخف الذرات فيه وعندئذ يصبح واثقا من كل شيء ، كما أن المستقبل والماضي يصبحان حاضرين أمام عينيه " ، فإن جدل الإنسان يضيف : وعندئذ يكون الإنسان الذي يحمل ذلك العقل قادرا بالعمل المناسب على تحقيق المستقبل الذي يريده . كذلك يختلف عن الجدلية المادية لأن الجدل لا يتم الا في الإنسان ، فهو
الجدلي الوحيد والمادة غير جدلية .

عن طريق جدل الإنسان يقود الإنسان مصيره ويبدع مستقبله . وقد استطاع فعلا أن لا يحقق هذا في المجالات التي أحاطت بها المعرفة العلمية . فاستطاع العلماء أن يطلقوا الصواريخ كتلا ثقيلة إلى آماد بعيدة في الفضاء . وقبل أن تنطلق الصواريخ كانت مواد راكدة نسبيا تحولت الى صواريخ بعد أن أضاف اليها جدل الإنسان حلا نظرياً لعديد من المشكلات ، واستعمالا بارعاً لقوانين الطبيعة ذاتها ثم نفذها عملا هو وحده القادر عليه . وكلما زادت معرفة الإنسان
للظروف المحيطة به ، وقوانين حركتها كانت حلوله مشكلاتها أكثر قابلية للتحقيق ، أي كانت إرادته أكثر تأثيرا في مستقبله . وفي التطبيق أي تنفيذ حل المشكلة يتبين الدليل الحاسم على ما إذا كنا قد استخدمنا مقدرتنا الجدلية استخداما صحيحا أم لا ٠ قال فريدريك انجلز فيما نقله عنه بولتزير في كتابه " المبادئ الأساسية في الفلسفة " : " بمجرد أن نستخدم هذه الأشياء استخداما خاصا بنا على أساس الصفات التي ندركها فيها نضع بذلت دقة إدراكنا الحسي أو عدم دقته في محك اختبار لا يخطئ ، فإذا كان إدراكنا خاطئا كان من الخطأ استعمال الشيء الذي أوحت لنا به ومن ثم لزم أن تفشل محاولتنا . أما إذا نجحنا في بلوغ هدفنا ، وإذا قررنا أن الشيء يطابق تصورنا له ، وأنه يعطينا ما كنا ننتظره من استعماله ، فإن هذا يكون الدليل الايجابي على أن إدراكنا الشيء وصفاته يتفق في حدود هذا الاستعمال مع الواقع الموجود 
خارجنا . وإذا انقلب الأمر وفشلنا فإننا لن نلبث أن نكشف عن فشلنا ؛ إما بأن نجد أن الإدراك الذي كان أساس محاولتنا ناقص أو سطحي في حد ذاته ،واما بأن نجد أنه ارتبط بمعطيات إدراك آخر بطريقة لا يبررها الواقع ، وهذا ما نسميه بالتدليل الخاطئ . وبقدر ما نهتم بتثقيف حواسنا واستخدامها استخداماً صحيحاً ، وبقدر ما نقصر فعلنا على الحدود التي يرسمها لنا إدراكنا المتحصل بطريقة صحيحة ( أي تحت توجيه العلم ) والمستخدم استخداماً صحيحاً ،

بقدر ما نجد أن نتيجة فعلنا تبرهن على اتفاق إدراكنا مع الطبيعة الموضوعية للأشياء المدركة " . وما قاله انجلز تطبيق دقيق " لجدل الإنسان " ولكن ليس معنى هذا أن جدل الإنسان لا يختلف عن الجدلية المادية ، بل معناه أننا إذا جردنا الحلول الصحيحة التي يقولها الجدليون  الماديون من القشرة المادية التي يغلفونها بها نجد أنفسنا أمام الحلول التي يقول بها جدل الإنسان " . فقد استطاع انجلز ـ مثلا - أن يبتكر فيما قاله تركيبا لغويا هو" تثقيف الحواس " ليصبغ الحملة بصبغة مادية . ولكنه لم يستطع أن يجد كلاما يحل محل كلماته : " على أساس الصفات التي ندركها " وهي حصيلة الذاكرة و" قررنا أن الشيء يطابق تصورنا له " وهي المعرفة العلمية و " يعطينا ما كنا ننتظره " وهو تصور الحل الذي نضعه للمشكلة . وكل هذه عناصر من الإنسان الذكي الذي يختفي في ضمير المتكلم .

والواقع أن هذه الفكرة البسيطة : " جدل الإنسان " تفسر تفسيرا علميا تلك الظاهرة التي أثارت أعنف المناقشات ، ونعي بها البديهيات . وعلى ضوئها ـ وليس على ضوء الجدلية المادية ـ يمكن أن نفهم ما قاله مؤلفو " أسس الماركسية ـ اللينينية " من ان " قوة الفكر تتمثل في مقدرته على تجاوز اللحظة الحاضرة ، بإدراك الماضي وتصور المستقبل بواسطة القوانين التي اكتشفها ".
وقولهم : " يوفق الحيوان بين ذاته وبين الطبيعة سلبيا مستفيدا بما تقدمه الطبيعة ذاتها . أما الإنسان فيوفق بين نفسه وبين الطبيعة ايجابيا ، فيغير الطبيعة ليحقق غايته ، ويخلق لنفسه ظروفا للوجود لم تكن معدة له ، " وقولهم : " ان القوانين التاريخية ذاتها لا تصنع التاريخ بدون الإنسان . إنما يتحدد مجرى التاريخ خلال عمل الإنسان فقط : النضال والتوجيه الواعي لجهود الملايين من الناس "...الخ.

ان كل هذا يعني بوضوح ، أن الظروف بدون الإنسان ، بما فيها الحيوان والطبيعة والتاريخ ، لا تصنع المستقبل ؛ أي أن قوانين تحولها أو " تطورها " لا تفسر كيف تطور الإنسان ، وكيف تطورت الطبيعة في ظل الإنسان وبفعله ، وأنه لكي نفهم تلك العملية الخلاقة التي غير بها الإنسان نفسه وغير الطبيعة معه ، لا بد أن نرجع الى الإنسان وقوانينه . ولما كان الخلق والإضافة حصيلة التطور الجدلي ، فإن الجدل أحد قوانين الإنسان النوعية وإن كل شيء عدا الإنسان " ليس جدلياً " .

وفكرة " جدل الإنسان " تستطيع أن تكشف لنا مدى صدق لينين ، عندما استطاع أن يقول فى الجزء ٣٨ من كتاباته بالرغم من الضرورة السياسية للتعصب الماركسي :

" من واقع الحياة الى التفكير المجرد ، ثم من التفكير المجرد الى الممارسة العملية ، تلك هي عملية الجدل لمعرفة الحقيقة ، أي معرفة الواقع الموضوعي" .

كل ما فعلناه ، اننا قد تحررنا من التعصب للماركسية أو لغير الماركسية فاستطعنا أن نقوى بصراحة وحسم ، إن الطبيعة غير جدلية ، وإن الإنسان جدلي . إن الطبيعة تتحول وأن الإنسان يتطور . إن الطبيعة خالية من التناقض والإنسان هو محتوى التناقض والصراع . إن الطبيعة لا تفنى ولا تتجدد وان الإنسان يخلق كل يوم جديداً في نفسه وفي الطبيعة .

هل تستحق هذه  الفكرة البسيطة كل هذا  العناء  ؟

سنرى آية ذلك  في التطبيق النظري ، أي فيما إذا كان من الممكن عن طريقها معرفة " أسس الاشتراكية العربية " وفيما إذا كانت تستطيع أن تفسر كل ما عجزت عن تفسيره الجدلية المادية . والتطبيق محك الاختبار الذي لا يخطئ كما قال انجلز وقلنا معه .

 

*** 

ذهاب الى صفحة عصمت سيف الدولة