بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 17 فبراير 2019

أمّة الإيمان والعروبة والوطنية / صبحي غندور .



أمّة الإيمان والعروبة والوطنية .
د.صبحي غندور .

تفاعلت قضايا عديدة في المنطقة العربية وفي العالم خلال حقبة الخمسين سنة الماضية ، كانت بمعظمها تحمل نتائج سلبية على الهويّة العربية المشتركة، فتنقلها من كبوةٍ إلى كبوة، وقد امتزجت هذه السلبيات مع انجذابٍ أو اندفاعٍ في الشارع العربي إلى ظاهرة “التيَّارات الدينية والطائفية” التي دعمتها عوامل كثيرة ، داخلية وخارجية ، والتي ساهمت بأن يبتعد المواطن العربي عن “هويّته العربية” وأن يلتجئ إلى أطرٍ سياسيةٍ وفكرية تحمل مشاريع ذات سمات دينية / طائفية أو مذهبية ، اعتقاداً أنّها هي الأساس الصالح لمستقبلٍ أفضل.
لكن المشكلة أنّ هذه “البدائل” كانت وما تزال مصدر شرذمة وانقسام على المستويين الوطني والديني، خاصّةً أنّ معظم البلاد العربية قائمة على تعدّدية طائفية أو مذهبية أو إثنية، كما هو الحال في بلاد المشرق والمغرب معاً، أو كالتي هي الآن محور الصراعات المتفجّرة في المنطقة، حيث التحدّي الكبير مع مشاريع التمزيق والتقسيم والتدويل، وحيث المواجهة هي مع بعض هذه الحركات الدينية العُنفية التي شوَّهت في ممارساتها الدين نفسه.
لذلك هناك حاجةٌ وضرورة عربية الآن لإطلاق ” تيّار عروبي” فاعل يقوم على مفاهيم فكرية واضحة، لا تجد تناقضاً بين الدولة المدنية وبين دور الدين عموماً في الحياة العربية، ولا تجد تناقضاً بين العروبة وبين تعدّدية الأوطان بل تعمل لتكاملها، وبأن تقوم هذه المفاهيم الفكرية على الممارسة الديمقراطية في المجتمع ككل.
هناك حاجة إلى” تيّار عروبي” يقوم على التكامل بين الطاقات والقوى الفاعلة وسطه، تيّار يرفض استخدام العنف لإحداث التغيير في الحكومات والمجتمعات أو لتحقيق دعوته أو في علاقاته مع الآخرين، تيّار يميِّز بين الحقّ المشروع لأبناء الأوطان المحتلَّة بالمقاومة ضدّ قوات الاحتلال، وبين باطل استخدام أسلوب العنف ضدّ غير المحتلّين وخارج الأراضي المحتلّة. “تيّار عروبي” يدعو للبناء السليم للمؤسّسات العربية المشتركة، وللمنظّمات المدنية المبنية على أسلوب العمل الجماعي الخادم لهدف وجودها. “تيّار عروبي” تكون أولويته الآن هي حماية الوحدة الوطنية في كلّ بلدٍ عربي ، ويرفض كل الأفكار والممارسات الطائفية والمذهبية وأي انغماس في وحل الصراعات الأهلية.
لقد كانت حقبة الخمسينات من القرن الماضي بداية لإطلاق حركةٍ قومية عربية وسطية “لا شرقية ولا غربية”، ترفض الانتماء إلى أحد قطبيْ الصراع في العالم آنذاك ، وترفض الواقع الإقليمي المجزّئ للعرب ، كما ترفض الطروحات القومية الأوروبية العنصرية والفاشية ، وتنطلق من أرض مصر التي هي موقع جغرافيّ وسط يربط إفريقيا العربية بآسيا العربية ، وتعيش على ترابها أكبر كثافة سكّانية عربية تملك، قياساً بسائر الأقطار العربية الأخرى، كفاءاتٍ وقدراتٍ بشرية ضخمة.
ثمّ كانت حرب السويس عام 1956 وبعدها إعلان الوحدة بين مصر وسوريا في فبراير من العام 1958، وقبل ذلك إعلان تأسيس حركة عدم الانحياز... كلّها مصادر إشعال لتيّارٍ جديد قاده جمال عبد الناصر من خلال موقع مصر وثقلها القيادي، وحقّق للمرّة الأولى صحوةً عربية تؤكّد الانتماء إلى أمَّةٍ عربيةٍ واحدة، وتدعو إلى التحرّر الوطني من كافّة أشكال الهيمنة الأجنبية، وإلى نهضةٍ عربيةٍ شاملة في الأطر كلّها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
لكن هذه الصحوة العربية كانت “حالةً شعبية” أكثر منها “حالة فكرية” أو “تنظيمية”. أيضاً، لم تكن هذه الصحوة العربية قائمةً على حسمٍ ووضوحٍ مبدئيّ للأسس الفكرية المطلوبة لخصوصية الأمّة العربية. وكم كان محزناً رؤية العديد من القوى والحركات القومية وهي تتصارع حول أيّة “اشتراكية” وأيّة “قومية” وأيّة “حرّية” تتبنّى كمفاهيم فكرية، أو تنتمي إليها كحركات سياسية، وكذا صراع هذه القوى والحركات حول موقفها من الدين عموماً ومن الإسلام خصوصاً.. والكلّ معاً كان في “تيّارٍ قوميٍّ واحد !!
ولأنّ القيادة الناصرية لمصر جاءت للحكم بواسطة انقلابٍ عسكريّ دعمه فيما بعد الشعب وحوَّله إلى ثورةٍ شعبية ، فإنَّ “التيّار القومي” ارتبط في ذهن البعض بأسلوب “الانقلاب العسكري” وبالمراهنة فقط على المؤسّسات العسكرية لتصحيح أوضاع داخلية تحتاج أولاً لمعالجات سياسية وفكرية واجتماعية أكثر منها أزمات أمنية.
ولأنّ سمة المرحلة كانت “معارك التحرّر الوطني من الاحتلال والاستعمار” ، فإنّ هذه المعارك لم تسمح كثيراً ب”الحديث عن الديمقراطية” ، لذلك كان من الطبيعي في البلدان العربية (كحال معظم بلدان العالم الثالث) التي أرادت التحرّر من “الغرب الرأسمالي المستعمر” أن لا تقبل الجمع بين التحرّر الوطني من الغرب وبين تبنّي صيغه الدستورية والاقتصادية والثقافية في أنظمتها.
تلك مرحلةٌ قد انتهت في البلاد العربية وفي العالم كلّه، لها ما لها وعليها ما عليها، لكن ما زالت سلبيات تلك المرحلة “حالة قائمة” في المجتمعات والمفاهيم العربية ، ولم تدرك جماعاتٌ كثيرة بعد أنَّ “القومية العربية” أو “العروبة” هي هويّة ثقافية وليست مضموناً فكرياً وسياسياً قائماً بذاته، وبأنّ بديل ما نرفضه الآن من انقساماتٍ وطنية وطائفية ومذهبية هو التمسّك بالهويّة العربية التي تستوعب أيضاً تحت مظلّتها كل الخصوصيات الإثنية الأخرى. فالهويّة العربية مثلها كمثل “الهويّة الأميركية” التي استوعبت مئات الملايين من أصول عرقية وإثنية ودينية مختلفة ونجحت في جعل كل الأميركيين يعتزّون ويفخرون بهويّتهم المشتركة. ولم يتحقّق ذلك للأميركيين إلاّ بعد قيام اتحاد بين ولاياتهم الخمسين على أساس دستوري سليم، رغم خوضهم لحربٍ أهلية دامية في القرن التاسع عشر.
ولعلّ أبرز المراجعات المطلوبة عربياً في هذه المرحلة هي مسألة ضعف الهويّة الوطنية الجامعة وغلبة الانتماءات الفئوية الأخرى. ففي هذه الظاهرة السائدة حالياً في أكثر من بلدٍ عربي خلاصة لما هو قائم من مزيج سلبيات أخرى عديدة.
إنَّ ضعف الهويّة الوطنية لصالح هيمنة انتماءات ضيّقة يعني ضعفاً في البناء الدستوري والسياسي الداخلي. ويعني تسليماً من "المواطن" بأنَّ "الوطن" ليس لكلِّ المواطنين، وبأنّ "الوطن" هو ساحة صراع على مغانم فيه، لذلك يأخذ الانتماء إلى طائفة أو مذهب أو قبيلة بُعداً أكثر حصانة وقوّة من الانتماء الوطني الواحد، كما يصبح الانتماء الفئوي وسيلة يتمّ استخدامها للحفاظ على مكاسب سياسية أو شخصية أو لانتزاعها من أيدي آخرين حاكمين.
كذلك فإنّ ضعف الهويّة الوطنية قد يكون هو المدخل للتدخّل الخارجي، بل وللاحتلال أحياناً، حيث تتحوّل أولوية الانتماءات الضيّقة إلى مبرّرات تقتضي التعامل مع أي جهة خارجية من أجل مواجهة الانتماءات الأخرى في الوطن الواحد !.
إنّ ضعف الهويّة الوطنية المشتركة هو تعبيرٌ أيضاً عن فهمٍ خاطئ للانتماءات الأخرى. فالاعتقاد بمذاهب دينية مختلفة، أو الاعتزاز بأصول إثنية أو قبلية، هو ظاهرة طبيعية وصحّية في مجتمعات تقوم على التعدّدية وعلى الاختلاف القائم في البشر والطبيعة. لكن تحوّل هذا الاختلاف إلى خلاف عنفي وصراعات سياسية دموية يعني تناقضاً وتصادماً مع الحكمة في الاختلاف والتعدّد، فيكون المعيار هو محاسبة الآخرين على ما وُلدوا به وعليه، وليس على أعمالهم وأفكارهم. وهذا بحدِّ ذاته مخالفٌ للشرائع الدينية والدنيوية كلّها.
إنّ الأرض العربية هي أرض مهبط الرسالات السماوية كلّها، وعليها ولد رسل الله جميعهم، وهي أرض المقدّسات الدينية وإليها يحجّ كل المؤمنين بالخالق، عزّ وجلّ. فكيف يمكن تجاهل دور الإيمان الديني في حياة العرب وفي صنع مستقبلهم ؟!.
وألا يحقّ للعرب ، وهم يعيشون الآن كابوس حاضرهم، أن يعملوا من أجل مستقبلٍ عربي أفضل يكون عماده بناء “الولايات العربية المتحدة” القائمة على أوضاع دستورية مدنية سليمة؟! ألم يقل تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني ، فوراً عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية التي دمّرت فيها دول أوروبا بعضها البعض، بأنّه يرى بعد نصف قرنٍ من الزمن أوروبا موحّدةً ؟!.
إنّ الأمّة العربية قامت على العلاقة التفاعلية الإيجابية بين الإيمان الديني والهُويّة العربية والانتماء الوطني، ولم ينجح أي تيّار فكري فيها استبعد عنصراً من هذه العناصر الثلاثة في تكوينها التاريخي . لذلك ،  فإنّ تصحيح المفاهيم والممارسات الخاطئة باسم الدين والعروبة والوطنية ، والتمسّك بالهويّة العربية ، هي ركائز لأي عمل عربي جاد يستهدف بناء مستقبلٍ أفضل.


السبت، 9 فبراير 2019

من الطليعة العربية .. ؟؟ د . عصمت سيف الدولة .


من الطليعة العربية .. ؟؟

د . عصمت سيف الدولة .

ـ1ـ
ضرورة :

عرفنا من الاسس أن الظروف غير جدلية ، وان الانسان وحده هو مبدع مستقبله وقائد مصيره ، وان الزمان وحده لن يحل مشكلات الوطن العربي ، بل لا بد من قوة انسانية تتصدى لمواجهة تلك المشكلات ، على يقين منها بأن جهودها الخلاقة هي الطريق الوحيد الى تحقيق المستقبل ، وان ما يبدو مستحيلاً لا يستحيل على مقدرة الانسان أن تنجزه . من هنا يكون وجود الطليعة العربية ضرورة قومية ، إذ هي قائدة التطور الى الحرية والوحدة والاشتراكية . فهي التجسيد الحي لمصير الأمة العربية وأداة تحقيق هذا المصير . هذا حتم علمي لا يتحقق المستقبل الحر إلا به .. كذلك تدرك الطليعة العربية ذاتها إدراك الواثق بحتمية وجوده لتحقيق مصير أمته   .

-2-
وتنظيم :

إن وعي الطليعة العربية أن الحل الجدلي للمشكلات لا يتأتى إلا بالمعرفة الجماعية لها ، والتصميم الجماعي للحلول ، والتنفيذ الجماعي للمستقبل ، يحتم عليها أن تكون تنظيما جماعيا يلتحم داخله كل التقدميين الثوريين في حركة عربية واحدة ، يتبادلون خلالها الجدل ، فيصقل كل منهم وعي أخيه ، ويغني ثقافته ، ويدعم نضاله ، في سبيل الحرية والوحدة والاشتراكية .

-3-

عقائدي :

إذا كانت الطليعة العربية تهدف الى تحقيق الحرية والوحدة والاشتراكية ، فإنها تتجاوز في هذا كله الحركات السياسية القائمة في الوطن العربي ، التي رفعت شعارات الوحدة ، او الحرية ، أو الاشتراكية ، أو كلها معاً . فأغلب تلك الحركات تقفز الى الحلول متأثرة في هذا بالظروف المتغيرة ، فلا تزيد على أن تكون رد فعل لا بد من أن يتغير بتغير الظروف التي خلقتها ، ويزول بزوالها . غير أنها تزعم أن حلولها مبادئ وقواعد فكرية ، ثم تسمي نفسها حركات عقائدية . وما أن تتغير الظروف - المتغيرة حتماً - حتى يتسع الشق بين الحركة المنغلقة على مبادئها وبين الظروف المتغيرة دائماً . وتلهث الحركات ، التي تدعي لنفسها القيادة ، وراء الظروف محاولة ادراكها ، وعبثاً تجري ، أو تقفز ، فإن الوقت الذي كان لازما لدعوة الجماهير وتنظيمها وقيادتها الى تطبيق حلول الانطلاق ، كان كافياً أيضاً لتسبق الظروف ما اجتمعوا عليه ونظموا أنفسهم من أجله . وعندما يحين وقت التنفيذ ، تكون المشكلات قد تجاوزت الحلول والمبادئ والوعود ، ويكون الشق قد اتسع حتى أصبح هاوية ، يتردى فيه الداعون والمدعوون ، فيتهم بعضهم بعضاً ، وتأكل الحركات نفسها ويأكل منها غيرها ، وتترك وراءها خيبة أمل تعرقل النضال العربي . وهكذا كان الارتباط الجماهيري بحلول لا يربطها ذاتها أساس فكري واحد يمثل جرثومة الضحالة الفكرية التي فتكت بكثير من الحركات السياسية العربية .

لهذا تبدأ الطليعة بالبداية . والبداية منهجها العقائدي الواضح المحدد ، الذي يصلح لتقييم المشكلات ومعرفتها ، وينير الطريق الى حلولها ، ويرسم النضال في سبيل المستقبل ، ويقوم حكما غير جاهل عندما يختلف الرأي ، فيكشف الحق والباطل ، وبذلك تكون الطليعة العربية قادرة دائماً على قيادة الظروف مهما تغير مضمونها ، ومهما تعقدت ، وتتحصن ضد وباء الانتهازية الذي يسر لكثيرين ركوب أمواج الثورات الشعبية ، ثم تغيير جلودهم بين حين وحين . إن وحدة المنهج هي الرباط الذي يحفظ للطليعة العربية وحدتها وينسق نضالها ويحكم بين اعضائها ، ويساعدها على أن تضع لنفسها برنامجاً للتطبيق تحدد به مسئوليتها أمام الجماهير العربية . 

-4-

قومي :

ويحدد وعي الطليعة العربية وجودها القومي ميدان نضالها ، فتنظمه وتديره على مستوى الأمة العربية كلها ، رفضاً للتجزئة وتحقيقاً للوحدة في ذاتها ؛ ليمتد إدراكها الى منبت كل مشكلة في الوطن العربي ، فنعرفها على حقيقتها ، ولتقدم لها الحلول السليمة مستفيدة في هذا بامكانيات الكل لحل مشكلات الاجزاء ومشكلات الكل جميعاً . غير أن الطليعة العربية تعرف عن طريق منهجها الفكري أن كل مشكلة تحل في حدود ما تقدمه الظروف من امكانيات ، ولا تحل بالأماني المثالية . وتعرف ، من ناحية أخرى ، أن تجزئة الوطن العربي قد تركت آثاراً متفاوتة على مستوى تطور الاجزاء ، ونوع بعض المشكلات المحلية التي تطرحها . لهذا فإن وحدة الطليعة العربية كحركة وتنظيم لا تمنع ان تكون الطليعة العربية في كل جزء متميزة عنها في باقي الاجزاء بعبء مضاف الى رسالتها القومية ، ينعكس عليها تنظيما فرعياً من التنظيم الواحد ، ونضالا محلياً مضافاً الى نضالها القومي . وقد ينعكس هذا على توع التنظيم والنضال ، فهي مقاتلة حيث الاستعمار والرجعية الباغية ، مسالمة حيث الديموقراطية ، علنية حيث الحرية ، سرية حيث الاستبداد ، تكافح في كل الظروف طبقا لامكانياتها ، منطلقة من الواقع المتخلف الى اقصى ما أدركته الاجزاء المتقدمة ، في إطار الغايات القومية التي تمثلها الطليعة العربية ككل ، مستعينة في هذا بكل إمكانيات الطليعة العربية كتنظيم قومي واحد . 

-5-

ديمقراطي :

ويحتم وعي الطليعة العربية أن الجدل الاجتماعي هو الاسلوب العلمي الوحيد لمواجهة الظروف ، وحل مشكلاتها ، وتحقيق المستقبل ، ووعيها أن الصراع يعوق الجدل ، أن تطهر نفسها من امكانيات الصراع في داخلها ، بأن تنظم تنظيماً حديدياً على أسس ديمقراطية صلبة : حرية الرأي للجميع ، وعمل الجميع تنفيذاً لرأي الأغلبية . أياً كان نوع التنظيم الذي تسمح به الظروف في الأجزاء ، فإن ديمقراطية التنظيم في الطليعة مميز لها كطليعة ، وحصانة لها ضد التخريب والانحراف والانتهازية والفاشية . لا تهاون في هذا ، ولا استثناء ، مهما كانت الظروف . ولو كان على حساب المقدرة الوقتية على النضال السياسي ، فإن المقدرة غير الديمقراطية مغامرة . ولوكان على حساب الكثرة فإن الكثير الفاسد فساد كثير . 

"
حرية الرأي للجميع ، وعمل الجميع تنفيذاً لرأي الأغلبية " ، قاعدة ديمقراطية مفروضة على الجميع أي انحراف عنها رجعية قاتلة . 

-6-
في سبيل الوحدة :

ينطلق نضال الطليعة العربية على أساس أن الوجود القومي شرط التطور ، فتعي ، وتخطط  وتناضل على هدي وعيها ، لتحرير الوطن العربي من الاستعمار الظاهر والاستعمار الخفي ، وتقتلع السرطان الصهيوني اقتلاعاً ، مدركة في هذا أن تحرير الوطن العربي من العدوان عليه أول خطوة الى تطويره ، وان تطويره الكامل لا يتم الا بالوحدة السياسية . بهذا الوعي القومي تقاتل الطليعة العربية الاستعمار والصهيونية وتسحق المستعمرين وعملائهم . لا رحمة في هذا ولا تردد . ثم تفرض الطليعة العربية الوحدة على أثر التحرر ، لا تقبل في هذا عذراً ، ولا تسمح للرجعية الاقليمية في أي جزء بأن تبقى التجزئة لحسابها ، أو أن تعطل انطلاق الشعب العربي بقيود من الداخل بعد تحطيم القيود التي كانت مفروضة عليه من الخارج . والوحدة السياسية عند الطليعة العربية حتم لأنها التعبير السياسي عن الوجود القومي السابق عليها ، لا تتطلب شرطا سوى التحرر من ارادة الاستعمار التي فرضت عليه التجزئة . فوعي الطليعة العربية الوجود القومي لا يعرف سبيلا الى الوحدة إلا أن ترفع الحواجز ليلتحم الشعب العربي في جدل حياتي يحقق به مصيره الواحد . ولا تنتظر الطليعة العربية حتى تكون المشكلات في كل جزء قد حلت لكي تحقق الوحدة ؛ لأنها تعلم أن الوحدة العضوية للأمة العربية تعني ألا تحل مشكلات الاجزاء حلاً سليما إلا في الكل الشامل . بهذه الثورية ترفض الطليعة العربية تبرير الابقاء على التجزئة بآثار التجزئة ، وترفض أن توضع منها شرط لإلعاء ما يمزق الكيان الواحد . غير أن الاسلوب العلمي الذي تنتهجه الطليعة العربية لا يسمح للمثالية أن تضللها فتتجاهل ما تتطلبه المشكلات المحلية من إدارات محلية ، لأنها تعلم أن الدولة القومية لا تلغي الادارات المحلية بل تدعمها ، وتمدها بمزيد من المقدرة على مواجهة ما تطرحه الظروف المحلية من مشكلات ، إضافة من امكانيات الأمة الواحدة إلى ابناء الأمة الواحدة في أي مكان من الوطن الواحد . كما أنها لا تتجاهل ما صنعته التجزئة ، التي امتد بها الزمن ، من آثار تنظيمية واجتماعية ، ميزت بها الاجزاء في مدى التقدم الحضاري ، وبما صاغته من الوان الحياة ، فهي تدرك أن هذا ذاته مشكلة يجب أن تحل بالقضاء على التمايز المصطنع ، وان اسلوب حلها يجب أن يكون علمياً ، وتصبر - في ظل الوحدة - على ما يبقى من آثار التجزئة ، باذلة الجهد المضاعف لتطهير الوطن العربي من تلك الآثار . 

-7-

والحرية :

في سبيل الحرية ، حرية الانسان العربي ، وكل انسان ، تناضل الطليعة العربية على أساس أن الحرية ليست مقدرة على الفوضى ولكن مقدرة على التطور ، وأن جوهر الحرية أن تقهر الظروف ، وتفرض ارادتها لتحقق مزيداً من الحرية . لهذا لا تعرف الطليعة العربية حرية الرجعية ، والسلبية ، واللامبالاة ، كما لا تعرف بالاستغلال ، ولا تعترف بالاستغلال حرية . وهي في نضالها في سبيل الحرية تعرف حدودها ، وترفض الادعاء بالحرية المطلقة الخالدة التي لا تعرف الحدود . فحرية الوجود القومي شرط لحرية التطور . وحرية المعرفة شرط لحرية الرأي . وحرية الرأي شرط لحرية العمل . 

وكما تلزم الطليعة العربية غيرها حدود الحرية تلتزم هي تلك الحدود . فحيثما تتصدى للمشكلات ، لا تعرف غير الديموقراطية سبيلا والشعب سنداً . فالشعب إذ هو الامتداد الأفقي للمجتمع ، يكون المصدر الوحيد لمعرفة المشكلات لأنها مشكلاته . إن ألف نظرية في وصف الجوع أقل بلاغة من صرخات الجائعين ، وكل ما يقال عن الديكتاتورية لا يفسرها كما تفسرها آلام المضطهدين . ولا تمتد المشكلة رأسيا إلى حيث تصبح مشكلة عامة إلا بمقدار الناس الذين تعبر عن آلامهم ، وفي هذا لا يمتاز إنسان بمهنته ، ولا بثقافته ، ولا بلونه ، ولا بدينه ، ولكن بحدة المشكلة التي يعانيها كإنسان . ولا تميز الطليعة العربية حدة المشكلة إلا بمدى اتساع جبهة الناس الذين تفسد حياتهم ، فهي ترفض التقسيم الطبقي ، كما ترفض التقسيم على أساس من الدين ، أو اللون ، أو المهنة ، وتحترم الانسان كإنسان ، وتتخذه نقطة انطلاق وغاية . ويعلمها هذا الاحترام أن ترفع عن الانسان العربي كل ما يضغط إرادته وأن تحرره ، أولا وقبل أي شيء ، من الخوف . 

ثم تلقى الطليعة العربية بنفسها في أحضان الشعب العربي ، وتلتصق به ، وتتفاعل معه تفاعلاً حياً ، وتشاركه آلامه مشاركة تسمح لها بمعرفة مشكلاته ومدى آلامها . وهي تفعل هذا بحب وتسامح وصبر ؛ لأنها تعلم أن تبادل المعرفة بالمشكلة أول حركات التطور الجدلي . كما تعلم أن التصميم الجماعي لحل المشكلة هو الحركة الثانية في قانون الجدل . لهذا فهي إذ تستفيد من ادراكها الشامل للمشكلات ، فتقترح الحلول ، تعرض هذه الحلول للجدل الاجتماعي لتصقلها خلال المناقشة المتحررة من الخوف والتعصب ، ولتختبر مدى سلامتها على ضوء قبولها أو تعديلها أو رفضها من الناس أنفسهم أصحاب المشكلات التي هي حلول لها . وبهذا يصبح الشعب العربي قاعدة الطليعة العربية ومصدر ثقافتها . ولا تفرض الطليعة العربية على الشعب العربي إرادتها ، ولا تتهمه ، إذ انها تعلم أن وجود المشكلة لا يغني عن ادراكها حتى تحل ، وأن عليها ، بحكم وعيها الشامل ، أن تفجر وعي الناس لمشكلاتهم وحلولها ، وأن عليها أن تصل إلى هذه المقدرة القيادية لتتوافر لها الوسيلة الوحيدة لتحقيق الحرية والوحدة والاشتراكية : توعية الجماهير وتنظيمها وقيادتها . بهذا تتحصن الطليعة العربية ضد الفاشية والانتهازية ، وتحتفظ بثقتها التي لا حد لها بالجماهير العربية ، وبهذا تكون طليعة عربية ديمقراطية حقا ، فإن الثقة التي لا حد لها بالشعب هي جوهر الديمقراطية ، وكل شكل لها ليس أكثر من تنظيم لإطار التعبير عن تلك الثقة . 

-8-

والاشتراكية :

بالوحدة وخلال النضال الديمقراطي تقود الطليعة العربية تطور الوطن العربي الى الاشتراكية . ففي أي مكان من الوطن العربي ، وأياً كانت درجة النمو الاقتصادي فيه ، تلغي الطليعة العربية الاستغلال أيا كانت اسبابه . لا تسمح الطليعة العربية بأن تتخذ حرية الملكية ذريعة ليتملك تفر كل شيء تاركين الشعب العربي بدون ملكية على الاطلاق ، أو أن تكون أداة للقهر الاقتصادي . وحيثما قامت الملكية بدون استغلال فإنها تدعمها حرية مكتسبة . وفي سبيل الاشتراكية تحشد الطليعة العربية جهود الجميع في عمل منظم على خطة واحدة ، غايتها أن تحقق ، بالاسلوب العلمي ، كل ما تستطيع ظروف الوطن العربي أن تقدمه من ثروات تكفي ليتحقق لكل عربي المضمون المادي لحرياته ، إذ الاشتراكية عند الطليعة العربية حرية كاملة ، وبهذا تلتحم الحرية بالاشتراكية لتصبح الاشتراكية حياة حرة . 

في سبيل هذا ، لا تقبل الطليعة العربية الاحتجاج بأي نظام متخلف في الملكية ، أو الانتاج ، أو التوزيع ، ولا تنتظر حتى تعلمها التجربة المرة ما تعلمته الشعوب من مرارة الحياة في ظل الاستغلال الرأسمالي ، بل ترفض أن تنمو في الوطن العربي بذور الرأسمالية المستغلة أصلا ، وتقتلع جذورها اينما نمت ، متجهة بالتخطيط الاقتصادي العلمي من حيث انتهى التطور الاقتصادي الى الاشتراكية رأسا ، في طريق مطهر من بدايته الى نهايته من الاستغلال والقهر الاقتصادي . 

غير أن الطليعة لا تخلط بين الاشتراكية كغاية ووسائل تحقيقها . ولا تتجاهل عدم استواء النمو الاقتصادي في الاجزاء . ولا تتجاهل ما تركته التجزئة من آثار على التطور الاقتصادي في اقطار الوطن العربي . لهذا فإن التخطيط الاقتصادي ، ومواجهة مشكلات التطبيق ، ستكون على الوجه الذي تقتضيه الاساليب العلمية لتجاوز التخلف الى التنمية ثم الرخاء ، مع الاحتفاظ دائما بالحرية غاية من الاشتراكية . لهذا لا تقبل الطليعة العربية أن يحل مستبد محل مستبد ، وأن يقوم مستغل مقام مستغل ، ولا تتذرع بالاشتراكية لفرض العبودية . ولا تقبل الفاشية ولو خططت ولو أممت ، وبهذا تبقى حرية الانسان العربي في الاشتراكية العربية غاية الطليعة العربية وحداً لا يتجاوزه التخطيط الاقتصادي . بهذا الوعي تكشف الطليعة العربية الانتهازيين ولا تكون هي انتهازية ، وتسحق الفاشية ولا تكون هي فاشية ، وتبقى طليعة عربية اشتراكية ديمقراطية . 

-9-
أشمل وعيا :

غير أن الطليعة العربية تتجاوز كل الوحدويين والديمقراطيين والاشتراكيين ، بوعيها الشامل لتكامل الحرية والوحدة والاشتراكية في الاشتراكية العربية ، التي هي حل واحد لمشكلة حرية الشعب العربي ، ينطوي على مضامين غير قابلة للتجزئة ، لا في المحتوى ، ولا في التطبيق . فحرية وجود الشعب العربي تقتضي تحرره من الاستعمار الذي ينتقص من هذا الوجود . وإذ يجد الشعب العربي نفسه ، فينطلق الى تحقيق حريته في مواجهة ظروفه ، يحتاج الى الوحدة السياسية ، أي أداة التطور التي تحتمها وحدة المشكلات . واذ تكون المشكلات مشكلات الشعب ، والحلول حلول الشعب ، فلا بد من أن يعرف الشعب مشكلاته ، ويقترح لها الحلول ويسهم في تنفيذها ، أي لابد من الديموقراطية . وفي سبيل أن تتحقق للشعب العربي حريات ذات مضمون مادي ، وليس حريات شكلية ، لا بد من أن ينظم اقتصاد الوطن العربي إنتاجاً ، وتوزيعاً ، واستهلاكاً ، بحيث يتحقق المضمون المادي لحريات الشعب بغير استغلال ، أي لابد من الاشتراكية . وكلها يكمل بعضها بعضا لنؤلف معا نوع الحياة الواحدة التي تناضل الطليعة العربية في سبيل تحقيقها تحت اسم الاشتراكية العربية . وكما تتكامل مضامين الاشتراكية العربية في المحتوى لتكون حلاً واحداً ، تتكامل في التطبيق لتكون ثورة واحدة . فالوحدة السياسية هي أداة التطور التي تحتمها وحدة الوجود القومي . والوحدة تطرح مشكلات التطبيق على مستواها الحقيقي ، وتقدم الامكانيات الكاملة للحل الشامل . غير أن هذا الحل الشامل لن تحققه الظروف تلقائياً . فابتداء من الوحدة يقع على الجماهير العربية عبء استعمال امكانياتها لحل مشكلاتها . ولا يتم هذا إلا عن طريق الجدل الاجتماعي ، فلا بد اذن من الديمقراطية . ومن هنا لا تغني الوحدة عن الديمقراطية ولا تغني الديمقراطية عن الوحدة . إذ الوحدة نقطة انطلاق ، والديمقراطية تنظيم لخطا هذا الانطلاق ، أما غاية الانطلاق فالاشتراكية . الوحدة شرط لمعرفة المشكلة معرفة صحيحة ، والديمقراطية شرط لحلها حلا سليما ، والاشتراكية تنفيذ لهذا الحل ، وبذلك تكون معا الحركة الجدلية للنضال العربي . 

لا ينقص التقدميين العرب إلا الوعي الشامل ليعرفوا هذه الوحدة العضوية لغايات الشعب العربي . وبهذا الوعي الشامل تتجاوز الطليعة العربية التقدميين العرب لتكون به طليعة النضال العربي .

-10-

نقطة الانطلاق :

في سبيل تلك الغايات ، وعلى هدى وعيها الشامل ، تقود الطليعة العربية نضال الشعب العربي على أسس علمية ، لا مدعية ولا متمنية ، إذ لا مكان للمثالية في تطوير الشعب . فالخطوة الاولى في سبيل الحرية والوحدة والاشتراكية تبدأ من حيث انتهى التطور . من واقع الاستعمار وفي ظله يبدأ النضال في سيل التحرر . وفي الاقطار المجزأة يبدأ النضال في سبيل الوحدة . ومن التخلف الاقتصادي تبدأ المسيرة الى الاشتراكية . لهذا تعلم الطليعة أن التطبيق الاشتراكي في مصر مثلا لن يكون مماثلا في نفس الزمان للتطبيق الاشتراكي في اليمن أو العراق أو الحجاز أو السودان أو غيرها من الاقطار العربية . ولن تتحقق الديمقراطية في الوطن العربي بمجرد توحيد نظم الانتخاب والتمثيل . ولن يعود كل قطر الى حظيرة الوطن العربي الكبير بأسلوب واحد . ولن يتحقق كل هذا بالوعود ، أو العهود ، أو بالألفاظ ترص رصا في البيانات والدساتير والقوانين . إنما يتحقق بالمواجهة الثورية للظروف ، وتطبيق الحلول العلمية الملائمة لمشكلاتها ، للقضاء في النهاية على التجزئة والتخلف والاستبداد ، مع احتفاظ الطليعة العربية دائما ، وفي كل الظروف ، بالغايات القومية ، فتقود الظروف الى تلك الغايات لا تنحرف ولا تتوه ولا تتراجع .

-11-

ثم الثورة :

إن عمق الوعي وشموله ، ووضوح المنهج الفكري يحدد الثورة اسلوبا لنضال الطليعة العربية ، تستمد المقدرة عليها من ثقتها بأمتها ، وبنفسها ، وبأنها تناضل في سبيل غايات منتصرة . وفوق هذا تعرف الطليعة العربية ما الثورة ، وضد من تثور ، وتحدد على ضوء هذا موقفها من الظروف ، ومن الناس ، ولا ترفع شعار الثورة ادعاء وتضليلا ، ولا تتخذه ذريعة الى الاجرام الدامي ، فحيثما كان الشعب العربي قادرا مقدرة مشروعة قانونا على الكفاح الديمقراطي في سبيل غاياته ، يكون اسلوب نضال الطليعة العربية توعية الجماهير ، وتنظيمها ، وقيادتها ، في نضال ديمقراطي لتحقيق غاياتها ، إذ حيث تقوم الديموقراطية لا يوجد مبرر الثورة إلا مجازا ببذل الجهد المضاعف لبناء الحياة . أما حيث تفرض على ارادة الجماهير قيود تسلبهم حريتهم : ببطش الاستعمار ، أو الاستبداد الفاشستي ، أو القهر الاقتصادي ، أو القتال الباغي ، فإن الطليعة العربية تحطم النظم والقوانين والعلاقات التي يصوغها المستبدون قيودا على ارادة الجماهير . وحيث تبيح القوانين العنف ضد الشعب ترد الطليعة العربية العنف بمثله ، وتحطم القيود لتعود بالشعب الى الحرية ، فتعود الى توعيته وتنظيمه وقيادته لا تقتل ولا تقهر ولا تستبد . وعلى هذا تحدد الطليعة العربية موقفها من اعدائها ، فلا تطغى ولا تقبل الطغيان . عندئذ فإن مسؤولية الدماء ستكون على رؤوس المعتدين ، ولن تتوقف الثورة احتراماً لإرادة المستعمرين والمستبدين والرجعيين . أما التقدميون فإن الطليعة العربية مفتوحة الأبواب لكل طليعي منهم . 

-12-

فمن الطليعي ؟

لا يكفي الوعي الاكاديمي لأفكار الطليعة العربية وقبول مبادئها ، ولا يكفي الانضباط الديموقراطي داخل الطليعة ، ولا تكفي المقدرة على النضال الثوري ، ليكون التقدمي طليعياً . فقد تعلمت الطليعة العربية من التجربة المرة كيف ينحرف من كانوا يبدون أكثر الناس وعياً ، وكيف يخون من كانوا يبدون أكثر الناس اخلاصا ، وكيف ينهزم من كانوا يبدون أكثر الناس مقدرة على النضال . ورأت الطليعة العربية - وتعلمت مما رأت - خيانة فقهاء الوحدة للوحدة ، وخيانة فلاسفة الاشتراكية للاشتراكية ، وخيانة الديمقراطية من دعاة الديموقراطية ، واتضح من التجربة المرة في الوطن العربي أن المعول النهائي في أية حركة سياسية على نوعية اعضائها ، وان انضباط التنظيم ، واتساع القاعدة ، وحتى سلامة الاتجاه في أية حركة سياسية ككل ، لا تمنع الخيانة والانحراف والتخريب ، عندما تصل الى مرحلة التنفيذ وتحمل المسئولية . لقد اثبتت التجربة كيف أن أروع المبادئ تصبح نفاية قذرة في الايدي الملوثة ، وأجمل الدعوات تصبح تضليلا قبيحاً من أفواه الكذابين . وبذلك اثبتت الحياة ذاتها أن أي مذهب أو نظام لا يكون قابلا للترجمة الى ما يغني حياة الانسان ماديا وخلقيا وفكريا لغو لا يستحق أن يبذل جهد من أجله ، وأن الاستقامة الخلقية ليست ضرورة في الاعضاء فحسب ، بل غاية في الحركة ايضا . وبهذا لم يعد مفهوما كيف يؤدي الفقر الخلقي الى اغناء حياة الناس ، وكيف يمكن لأية حركة تجرد اعضاءها من غاياتها أن تحقق تلك الغايات . كان هذا حصاد التجربة ، فلما أن ثبت علميا أن الانسان غاية كل تطور ، أصبحت أية حركة مفرغة من مضمون اخلاقي عاجزة حتما عن تحقيق مستقبل أفضل . لهذا لابد للطليعة العربية من أن تكون غنية حتى تغنى ، وان تكون الاستقامة الخلقية شرطا في اعضائها ، وغاية من غاياتها ، وبذلك تتجاوز الطليعة العربية كل الحركات السياسية المعاصرة ، ويصبح لها ، بالإضافة الى الفكر الذي تقيس عليه مدى الوعي ، والتنظيم الذي تقيس عليه مدى الانضباط الديموقراطي ، والثورة التي تقيس عليها مدى المقدرة على النضال ، مفهوم اخلاقي نقيس عليه مدى صلاحية الواعي المنظم المناضل ليكون طليعياً . 

-13-
اخلاق الطليعة :

إن ضرورة المضمون الاخلاقي في أية حركة سياسية لا تعني اصطناع نماذج خلقية لا جذور لها في المجتمعات التي تعيش فيها . تلك مثالية عقيمة . ولكن تعني أن تكون شاملة لقضايا الانسان تأكيدا لأصالتها ، وصدق تعبيرها عن ضرورات الحياة التي تتصدى لتطويرها . وقد تكفلت الممارسة الطويلة للحياة المشتركة ، وتفاعل الناس في كل مجتمع بإرساء قواعد السلوك السوي والسلوك المنحرف . واستمدت الشعوب القيم الخلقية السائدة فيها من التجارب التي صقلتها حتى انقلبت الى حقائق في وجدان المجتمع تصلح للحكم دون تقصي علة الادانة . ففي كل مجتمع حصيلة غنية من القيم التي كانت وليدة تاريخه الخاص . ومهما بعدت المبررات الاجتماعية التاريخية للقيم الخلقية ، فإن تلك القيم حقائق كافية تظهر عند أي استفزاز سلوكي ، فتدينه الجماهير طبقا لمقاييسها السائدة . وتكون هذه الحصيلة من القيم عنصرا هاما من عناصر ظروف كل أمة ، فيه اصدق الدلالات على إمكانيات تطويرها واتجاه هذا التطوير . لهذا يكون عبثا أن تحاول أية حركة سياسية الاسهام في تحقيق مصير أمة متجاهلة خصائصها الخلقية ، غير مقومة تلك الخصائص ، وغير معدة لمستقبلها قيمه الخلقية ، وغير مبررة كل هذا على هدى نظرية علمية صلبة . ذلك أن المقاييس المستمدة من الماضي قد تصلح للحكم على مثل ما كان موضع تجربة ماضية ، إلا أن الحياة تطرح في كل يوم جديداً . وتحتاج في كل يوم الى تقييم أنواع من السلوك لم يكن لها مقابل فيما مضى . ولا شك في أن التاريخ الطويل الذي قضته الأمة العربية في ظل الدين الذي تكونت به أمة ، ثم صنعت الحياة على هدى القيم التي أرساها ، قد وفر بها حصيلة بالغة الخصوبة والسمو معا يمكن أن تسمى أخلاقا اسلامية . ولا يزال العربي يتميز بالعزة والصدق والشجاعة والمروءة والكرم ... الخ ، مميزات لم تأته من البداوة الضارية ولكن من حياة الأخوة في ظل الثقافة الاسلامية . غير أن السمة الانسانية العامة للقيم الخلقية الاسلامية تركت الفرصة للمغرضين من أدعياء الدين ، الجاهلين به ، لكي يتلمسوا من تاريخ المسلمين ما يثبتون به قيم التخلف والهزيمة . يعارضون بحصيلة الانحطاط في بعض مراحل التاريخ أسمى القيم الخلقية كافة ، بحجة أن المنحطين كانوا حينئذ مسلمين . لهذا لابد من ارساء القيم الخلقية على أساس علمي ، فإن صح المنهج الذي يرسيها فلا بد أن يتفق مع الحق مما ينسب الى الدين ؛ لأن جدل الانسان لا ينقض الاديان ، ولكن يفسر بالمنهج العلمي في زمان معين ما يخص زمانه ، قدرا مما جاءت به الاديان لكل زمان . 

وسيلة الطليعة العربية الى تحديد الاساس العلمي لنظريتهما في الاخلاق لابد أن يكون ذات المنهج الذي يحكمها حركة ووعيا ونضالا . واستيعاب ذلك المنهج والاحاطة بأبعاده يضع في ايدي الطليعة العربية مقياسا دقيقا لاستواء السلوك الخلقي أو انحرافه . لهذا تركز الطليعة العربية على نضج الوعي العقائدي والالتزام الديمقراطي لتثبيت القيم الخلقية واستواء السلوك المعبر عنها . وهكذا لا تعرف الطليعة العربية الفصل بين القيم الخلقية وبين اهدافها السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، ولا يمكن أن تقلل من دلالة الانحراف الخلقي على الانحراف العقائدي والنضالي معاً ، وشعارها في هذا أن الانسان المفرغ من القيم الخلقية لا يمكن أن يكون واعيا أو مناضلا أو تقدميا . 

وجدل الانسان يزود الطليعة بمقياس التقييم الخلقي . معنى هذا انها تستطيع على هديه تحديد القيمة الخلقية لأي نمط من السلوك مهما كان مضمونه . وانماط السلوك لا حصر لها ؛ لهذا يكفي عرض بعض المفاهيم الخلقية التي يمكن أن يؤدي اليها استيعاب جدل الانسان .في الاجابة عن السؤال الأول : ما الفضيلة وما الرذيلة ؟ ما الخير وما الشر ؟ يقدم جدل الانسان اجابة غير مشوبة بالمعاني المجردة التي تصاغ لتأييد مواقف سابقة . فإذ يحدد جدل الانسان الحركة الجدلية التي يتم خلالها التطور تكون الاجابة على الفور . إن كل ما يسهم في التطور ويساعده فضيلة ، وكل ما يقف في سبيل التطور ويعرقله رذيلة . وبذلك يكون للفضيلة وللرذيلة أساس علمي فلا تختلطان ؛ فهما قيمتان مرتبطتان بحركة المجتمع نفسه . ولما كانت حركة المجتمع تتم على أسس علمية ، وكان تحليل الحركة ذاتها يكشف عن ترتيب خاص ، فإن الانضباط المحكم لحركة التطور هو ذاته الذي يضبط تقييم الفضيلة والرذيلة ، دون أن يترك ثغرة للمثالية العقيمة . هذا الارتباط بين الفضيلة والرذيلة وبين حركة التطور يحدد ابعاد الفضيلة والرذيلة أيضا . 

فإذا كان التطور اندفاعا من الماضي الى المستقبل يخلف وراءه في كل وقت ما يفقد قيمته ، فما يكون جديدا يصبح ماضيا ليخرج منه جديد ، فإن مؤدى هذا أن قيمة مضمون التطور مرتبطة بالزمان الذي يقتضيها ، والزمان الذي تتم فيه ، وأنها قيمة نسبية في الزمان . ومن هنا لا يصح ما يقال له الخير المطلق أو الشر المطلق . إن أسمى الفضائل في عصر من العصور قد تكون أحط الرذائل في عصر غيره ، لأن الفضيلة والرذيلة ، إذ هما مرتبطتان بالتطور ، لا يمكن أن تتخطياه . فكما أن حاجة المجتمعات متغيرة ، فإن القيم المعبرة عنها متغيرة معها . لا يقدح في هذا اختلاف مدى التغيير وامكان ادراكه . فإن كانت بعض الفضائل تبدو كما لو أنها مطلقة لأن الادراك لم يتصل بالماضي الذي سبقها ، ولم يتصل بالمستقبل الذي يتخطاها ، فليس معنى هذا انها خالدة أو مطلقة ، ولكن معناه ، أنه على مدى الادراك في زمان معين ، تبدو تلك الفضائل متفقة مع ضرورات الحياة التي يحيط بها الادراك ، لا أكثر من هذا . 

كل شيء نسبي في الزمان حتى الفضيلة والرذيلة . غير أنه منذ أن وجد الانسان وجدت معه قيم متصلة به كإنسان ، فهي وإن كانت عامة ، إلا أنها ليست مفهوما مجردا ، أو فكرة مطلقة ، بل قيمة انسانية لا تنسب مثلا الى الحيوان ولو كان الحيوان قد سبق الانسان وجوداً . وسنلتقي فيما يرد من حديث ببعض من هذه القيم التي استمدت سمة الفضيلة فيها من أنها للإنسان وحده وأنها بعض انسانيته . 

أول أثر لهذا أن الفضائل التي تتصل بالإنسان كإنسان فضائل عامة لا يحدها مكان . وفيما بعد هذا تتحدد نقطة انطلاق كل مجتمع من ظروفه ، وتطبع الظروف المشكلات التي تطرحها بطابعها ، وتقدم امكانيات الحلول الخاصة بها ، ليستطيع الانسان الذي يعيش في تلك الظروف أن يحقق مستقبلا خاصا به . ومعنى هذا أن مضمون التطور يختلف من مجتمع الى مجتمع في المكان ، وتختلف معه القيم المعبرة عنه . صحيح أن هذا التخصيص غير دائم ، لأن المجتمعات الانسانية مندفعة الى تخطي حواجز التخلف بينها ، ولكن الى أن يستوي التطور على درجة إنسانية واحدة ، تبقى لكل مجتمع مشكلاته الخاصة ، وفضائله الخاصة ، ويمكن هنا القول بأن الفضيلة والرذيلة ليستا مطلقتين في المكان كما أنهما ليستا مطلقتين في الزمان . لكل مجتمع فضائله ورذائله . لكل مجتمع اخلاقه

-14-
أخلاق الطليعي العربي :

على ضوء هذه الوحدة بين الوعي والتنظيم والاخلاق ، يتحدد موقف الطليعي حيال سلوك غيره ويتحدد سلوكه هو . فالطليعي العربي لا يدين سلوكا كان وليد ظروف مجتمع غير المجتمع العربي ، إلا أن يكون عدوانا على انسانية الانسان ؛ لأنه وهم شركاء في المجتمع الانساني . أما في غير هذا ففضيلته الخاصة أن يحترم عادات وتقاليد وأخلاق الشعوب كافة . لأن الطليعي العربي يعرف أنه مهما تبدو تلك العادات والتقاليد وقواعد السلوك شاذة في نظره ، بل حتى لو بدت له رذائل يعجب كيف يطيقونها ، فإنها من صنع ظروفهم ، وأن تغييرها رهن بمعاناتهم حيث يعيشون ، ومن حيث ينطلقون . وبذلك يتميز الطليعي العربي بهذه النظرة المتسامحة المفعمة بحب الناس كلهم ، وقبولهم كما هم ، المؤسسة على إدراك القيمة النسبية المتساوية لأخلاقهم وعاداتهم وتقاليدهم . وبهذه النظرة ذاتها يرفض الطليعي العربي التفوق الطبيعي الذي تدعيه بعض الاجناس ، ولا يدعيه لنفسه . 

وادراك الطليعي العربي نسبية القيم الخلقية تحرره من الشعور بالنقص إزاء اخوة له من بني البشر ، وتغني ثقته بنفسه وبأمته وتقاليدها وأخلاقها وتمنحه الوضوح الكافي لكشف الوسائل المغلفة بدعوات اخلاقية التي تهدف في حقيقتها الى فرض قيم غريبة على أمته تمهيداً لاهدار ذاتيته . كما أن الطليعي العربي لا يضيق بما تفرضه عليه امته من قواعد الاخلاق ، ولا يصطنع لنفسه سلوكا مستعارا من خارج بيئته ؛ لأنه يعلم أن السلوك السوي لا يكون بالافلات الفردي من الظروف القومية ، والانتماء المشبوه الى مجتمعات غريبة ، بل يكون بالتعاون الجماعي لحل مشكلات الظروف المشتركة . 

وفي مواجهة نفسه يستمد الطليعي العربي من وعيه قيمه الخلقية كإنسان :فهو يعرف أنه متأثر بغيره مؤثر فيه غير منفصل عن الناس أو عن الظروف ، وأنه في تأثره وتأثيره متحرك جزءا مع الكل حركة دائمة ، ومتغير معه تغيرا غير منقطع حتى لو لم يدركه حسيا ، وأن التأثير والتأثر والحركة الدائمة والتغير المستمر قوانين حتمية تحكمه وتحكم كل شيء معه . من هذه القاعدة الاولى يكوّن الطليعي العربي قيمه الخلقية الاولى ، فلا يكون سلبيا ، او لا مباليا ؛ لأن السلبية واللامبالاة ليست انحرافات خلقية فحسب بل جدب وفراغ خلقي أيضا إذ هي مضادة لقوانين الحياة . كذلك كل ما يتصل بها ويتفرع عنها من انماط السلوك كالأنانية ، والطمع ، والغرور ، والاستعلاء ، انحرافات خلقية ؛ لأنها تعبر عن انكار ، أو تجاهل ، التأثير المتبادل بين الانسان والنوع الذي ينتمي اليه . وبينه وبين الظروف التي يحياها . إن الطليعي العربي لا يمكن أن يتصور لحظة واحدة أنه قائم بذاته ، غني عن الناس ، وعن الاشياء ، وأنه المحور الوحيد الذي يجب أن تدور عليه افكاره واحلامه . ولا يمكن أن يسقط كل مصلحة إلا مصلحته ، أو يحاول أن يحقق مستقبلا موهوما على حساب مستقبل غيره ، ولا أن يحل مشكلاته على انقاض حياة الناس . تلك قيم خلقية تضبط سلوكه استمدها من علمه أنه جزء من كل وأنه ليس المؤثر الوحيد في كل شيء الذي لا يتأثر بأي شيء . 

ثم أن الطليعي العربي ، يعرف أن التأثير المتبادل يؤدي في حركته الى تغير دائم ، وأن أحداً ، لا يفلت من هذا المصير . عندئذ تصبح التقدمية خلقا طليعيا ، وتصبح الرجعية عقما اخلاقيا محضا . إن الطليعي العربي لا يعرف شيئا أو احدا ، يستحق الخلود ؛ لأن قوانين الحياة لا تسمح بهذا الخلود . ويعرف بهذا أن معرفة التاريخ علم ، ومحاولة اعادته انحراف جاهل . لهذا يطهر نفسه من كل القيم والتقاليد والاخلاق التي كانت حصيلة الاطوار التاريخية التي انتهت الى غير رجعة . لقد ولى العهد القبلي فحتم أن يكون الطليعي العربي مطهرا من التعصب القبلي . وانقضت المجتمعات الدينية فحتم على الطليعي أن يكون مطهرا من التعصب الديني . إن الطليعي العربي لا يتحيز للماضي ، ولا يعطل المستقبل ، ومن هنا يعرف لماذا لا يمكن أن يكون الانفصالي ، او الاقليمي ، أو الرأسمالي على خلق . ومن هنا ايضا يعرف الطليعي العربي لماذا تمثل القومية والديمقراطية والاشتراكية قيما خلقية بالاضافة الى كونها حلولا اجتماعية وسياسية واقتصادية . ويعرف أخيرا لماذا لا يمكن الاعتداد بنداءات الحرية والوحدة والاشتراكية تخرج من أفواه المنحرفين أخلاقيا ، ويعرف أن انضباطه الخلقي ليس أكثر من تعبير عن وعيه العقائدي وجدية نضاله السياسي . 

وإذ يعرف الطليعي العربي أن الانسان وحده هو الجدلي وصانع المستقبل ، يكسب من معرفته فضيلة حب الانسان والثقة في مقدرته الخلاقة ، فيدين بشدة ، وبكل وسيلة مناسبة ، أي احتقار للإنسان ، أو حط من مقدرته ، أو حجب للثقة التي هو أهل لها . لهذا يدين الاستبداد ولا يكون مستبداً ، ويدين العنصرية والكراهية والحقد ولا يتعصب هو ولا يكره ولا يحقد . والثقة المطلقة بمقدرة الانسان تطهر الطليعي العربي من الانهزامية . إن يقينه بأنه وحده - كإنسان - القادر على تحقيق مصيره تكسبه الجرأة والشجاعة اللازمتين لتحقيق هذا المصير . إن شجاعة الطليعي العربي فضيلة غير قائمة على الاندفاع الجاهل بالظروف ، ولكن على معرفته الواعية بأنه سيد الظروف وقائدها . 

ويعرف الطليعي العربي أن الانسان إذ يبدع مستقبله ، يتوقف نجاحه على المعرفة الشاملة بالظروف ، وان هذا لا يتم إلا بالمساهمة الجماعية في هذه المعرفة ، ثم الاشتراك في تصميم الحل ، بحكم أن المشكلات من ماض مشترك ، وأن المستقبل للجميع ، وان هذا كله يقتضي اتصال الظروف بوعي الانسان كما هي بغير تحريف ، وان التعبير عن الظروف بغير صدق ليس تعويقا للتطور فحسب ، بل تضليل يهدر الجهود الانسانية إذ تنطلق من واقع غير صحيح . لهذا فإن الطليعي العربي لا يكذب ويعتبر أن الكذب قاع الانحطاط الخلقي . إذ هو تزييف للظروف وتخريب لمعرفة الناس بها معرفة صحيحة . واذا كان الطليعي العربي لا يكذب لأنه لا يزيف الظروف فإنه لا ينافق ولا يضلل ولا يغش ولا يغدر ولا يخون ، ويعرف من وعيه قوانين التطور أن كل تلك الانماط من السلوك تحول دون الكشف الصادق عن المشكلات ، وتبدد طاقات الانسان في حلول مشكلات غير حقيقية ، أو تحول تلك الجهود عن مشكلات قائمة . فيدينها كقيم خلقية منحرفة . والاساس العلمي الذي حدد الكذب والنفاق واخواتهما انحرافات خلقية ايجابية ، هو الذي يحدد الاستبداد بالرأي والتبرم بالناس والضيق بآرائهم انحرافات خلقية سلبية . لهذا يبرأ الطليعي العربي من النزوع الديكتاتوري والتسلط . إن الديمقراطية عنده فضيلة خلقية ونظام سياسي معاً . والديكتاتورية انحطاط خلقي . 

وبعد الحل يتحقق التطور بالعمل المشترك من الجميع لحساب الجميع . لهذا يتميز الطليعي العربي بالشعور الجماعي ، والتعاون ؛ ويعتبرهما قاعدتين أخلاقيتين يلتزمهما ، ويدين على هديهما الفردية والاستغلال والانتهازية ، وكل نمط من السلوك يخرب علاقات الناس ويقف بينهم حاجزا دون التعاون ويبذر فيهم بذور الكراهية والتفكك ، لهذا فإن الطليعي العربي لا يعتدي على حرمات الناس أو أعراضهم أو كراماتهم أو مشاعرهم ولا يقبل هذا العدوان عليه أو على غيره . 

تلك بعض القيم الخلقية التي يحددها الطليعي العربي على أساس منهجه العلمي ، ويقيس عليها أي نمط من السلوك ، سلوك الناس وسلوكه , عندما يرى الطليعي العربي أن أغلب ما يهتدي اليه من القيم الخلقية طبقا لمنهجه متفق مع ما يعرفه من القيم الخلقية العربية ، يصبح الاقتناع الفكري عقيدة ، فلا يحتاج الا الى الممارسة الفعلية للنضال المنضبط في الطليعة العربية ليتخلص من رواسب القيم المنحرفة ويتحصن ضد اغراءات الانحراف . فمع الوعي العقائدي ، والمقدرة على النضال السياسي ، والانضباط الديموقراطي ، تمثل الاستقامة الخلقية في الحياة الخاصة والعامة كلتيهما شرطا لازما ليكون التقدمي العربي طليعيا عربيا . 

-15-

ومدرسة :

إذ تعرف الطليعة العربية أن القيم الخلقية مرتبطة بالوعي العقائدي ، فإن أول مراحل الانتماء اليها تكون مدرسة للوعي ، لا يدان فيها أحد ، ولا يحقر ، ولا تسخف آراؤه ، ولا يتهم ، بل يؤخذ بيده في تسامح وحب ، ورغبة صادقة في التعاون ، ليعي بنفسه عقيدة الطليعة العربية كما هي بدون ادعاء أو مبالغة ، وليكشف بنفسه ما يكون من نقص في وعيه ، أو ضعف في مقدرته الثورية ، أو انحراف في خلقه ، بدون خجل أو سخرية ، فإن وعي المشكلة أول الطريق الى حلها . إن الطليعة العربية لا تشهر بالناس ، ولكن تضع امكانيات المعرفة والثقافة والوعي تحت تصرف الاخوة العرب ليختاروا أنفسهم القيم التي يرتضونها . وإذا كانت الطليعة العربية تدين القيم المنحرفة فإنها لا تدين المنحرفين دائما ، وإن كانت ترد الانحراف في كل وقت ؛ لأنها تعلم أن المشكلات بنات الظروف . ويلزمها تفكيرها العلمي أن تعرف الاسباب قبل أن تدين الضحايا المنحرفين ، ففي هذا إمكانيات التغلب على الانحراف . إن احترام الطليعة العربية للإنسان ، والثقة به .. تحول دون اعتباره مذنبا دائما ، وانما المذنب - عند الطليعة العربية يمثل مشكلة لا بد من أن تحل . إن غضبة الطليعة العربية كلها ، ونضالها كله ، ضد الظروف التي تسمح بتخريب حياة الانسان ، ثم ضد الذين يحولون دون أن تحل مشكلات تلك الظروف ، أو يعمقون جذورها . وفي هذا كله لا تعول الطليعة العربية على ما يدعيه أي واحد لنفسه من وعي ومقدرة وخلق ، ولا على ما ينسبه الى غيره من جهل وعجز وانحراف ، بل تترك للممارسة الحية مهمة الكشف عن نوعية التقدميين . ومن خلال النضال المنظم ، تتاح لكل فرد في الطليعة العربية أفضل الوسائل لوضع وعيه ومقدرته وخلقه موضع التجربة . وبهذا تكون الطليعة مدرسة للوعي وتربية للخلق وقائدة للنضال معاً  .