مشكلات التنمية .
د.عصمت سيف الدولة .
نحن
نعـرف من واقعـنا العربي أن أجـزاء من أمتنا العـربية مغـتصبة ، و ان الاستعمار
الظاهر و الخفي ، القديم و الجديد يسيطر عسكريا و اقتصاديا على كثير من امكانياتنا
المادية و البشرية . و نحن نـعرف أننا امة مجزأة تقوم على كل جزء منها دولة من
ابنائها أو من الغاصبين . و نعـرف أن الرجعـية المستغـلة تفـرض الفقـر و المذلة
على شعـبنا العربي . وأن هذا كله شامل الامة العربية شعـبا ووطـنا بدون فائض .
الشعـب العـربي ، الجماهير العربية ، هي هي ذاتها شعوب و جماهير الاقاليم . و
الوطن القومي هو هو ذاته المجزأ بين الدولة الاقـليمية . الامكانيات القومية هي
ذاتها المقسمة الى امكانيات اقـليمية ... في هذا الواقع لا يوجد شعـب قومي مفرز
كما لا توجد ارض قومية خالصة .
وبينما
يركز الفكر القومي التقدمي تركيزا قويا على مشكلات الاستعمار و التجزئة و
الاستغلال حتى نكاد نعـرف منه كل شيئ تقريبا عن تلك المشكلات و حلولها الصحيحة كما
يرمز لها الشعار المثلث " الحرية و الوحدة و الاشتراكية " الذي ترفعه و
تتحرك من تحته أعرض القوى في الوطن العربي ، لا نكاد نعرف من الفكر القومي التقدمي
شيئا معـينا يجب أن يتحقق في الواقع العربي المستعمر المجزأ المستغل ، حتى تتطور
الامة العربية بقدر ما هو متاح فـيها. كأن الشعـب العربي لا يعاني في حياته الا
مشكلات الاستعمار و التجزئة و الاستغلال !.
وهو غـير صحيح و غـير واقعي .
ليس الاستعمار و التجزئة و الاستغلال هي المشكلات الوحـيدة
التي يعانيها الشعـب العـربي فعلا . و ليست الحرية و الوحدة و الاشتراكية هي
الغايات الوحيدة التي يريدها الشعـب العـربي حقا . بل اننا نستطيع ان نقول ان
كثيرين من أبناء الامة العربية تستغـرقهم مشكلات الحفاظ على الحياة ، مجـرد الحفاظ
على الحياة ، من مخاطر الجوع و المرض والعـري و التـشـرّد فلا يجـدون في رؤوسهم
مكانا يستـقـبلون فـيه الحديث عن مشكـلات الاستـعمار والتـجـزئة و الاستغلال ، ولا
يجدون في أوقاتهم متسعا للتـفـكير في الحـرية و الوحدة و الاشتـراكـية . و كثيرون
من ابناء الامة العربية ، ملايين ، عـشرات الملاييـن ، يعـرفـون مشكلات الاستـعـمار
و التجـزئة و الاستـغـلال ، و يـريدون الحـرية والوحدة و الاشتراكية ، ولكن مشكلات الحياة
اليومية تستنفذ طاقاتهم فلا يجدون فائضا منها يبذلونه في سبيل الحـرية والوحدة و الاشتراكية . انهم مشغـولون باشباع
حاجاتهم المتجددة أبدا بما هو متاح لهم . البدوي الذي يقضي ايامه متـنقــلا في
الارض الوعـرة يبحث عن حل لمشكلة غذاء قطيعه و يصبر على الجوع والعـري ومخاطر الطـبيـعـة
في انتظار أن تـلد النعجة حملا فـيحل مشكلة غذائه و كسائه . الفلاح الذي يقضي
أيامه وسط الطـين يبذر البذور و يصبر على الجوع و العـري و المرض في انتظار أن
تنمو البذور فـتاتي الثمار . وما ان تأتي
بعد شقائه الطويل حتى يستولي على أكـثرها المرابون و المالكون الارض و محصّلو
الضرائب . العامل المجهد خلال ساعات العمل الطويل يحل مشكلات الانتاج بمعدل السرعة
التي تفـرضه الآلات في حركـتها غـيـر الانسانية التي لا تتوقـف . ثم يطلب ويرجو و
يتوسل وقد يتجاهل من اجل أن يزداد ارهاقا في ساعات عمل اضافـيـة ليحصل على قـروش
يحل بها مشكلات اسرته التي تنتظـر . الشباب لا يتعلمون أو ينقطعون عن التعلـيم
لانهم لا يستطيعـون دفع ثمن العلم . و راء كل هؤلاء ملايين من الآباء و الشيوخ
والامهات العاجزات والاطفال الذين يموتون لان آباءهم لا يجدون ما يبذلونه من أجل
الحفاظ على حياة ابنائهم . و بجوار هؤلاء ملايين من الشباب العربي يقضون ايامهم
الطويلة المملة في محاولة حل مشكلة القادر العاطل : ماذا يعمل ؟ .. و فوق كل هؤلاء
بضعة ملايين من رؤساء العشائر و مشايخ القبائل و المالكين المستغـلين و المستعمرين
، و المغـتصبين و البيروقراطيين يكاد يكون دورهم الوحـيد استغلال شعـبنا العـربي و
سلبه امكانيات تطوره و تنغـيص حياته و تعـقـيد مشكلاته . وفي مواجهتهم ملايين من
الرجال و النساء العرب العاملين الجادين يبذلون جهودهم الخلاقة في الصحاري و
الجبال و المزارع و المصانع و المدارس و الجامعات و في كل مجالات الخدمات ، ينتجون
و يضيفون وينمّون و يبنون بقدر ما هو متاح لهم من امكانيات وهو قليل ...الخ .
هذه هي أمـتـنا العـربية . اذ لا وجود لكائن وهـمي يسمى
الامة العـربية مستقـل عـن الشعـب العـربي . و هذا هو الشعـب العـربي . عـندما
نشير اليه باصبع لنقول هذا هو شعـبنا سيقع اصبعـنا على بدوي يحل مشكلته في الصحراء
أو فلاح يحل مشكلته في الارض ، اوعامل يحل مشكلته في المصنع ، أو والد شيخ أو أم
عاجزة أو طفل يحتضر ...الخ . عندئذ نعرف معرفة اليقين أن وحدة المصير القومي التي
لا نمل الحديث عـنها و تاكيدها لا تعـني في الواقع العربي الا وحدة مصيرنا و مصير
هؤلاء البشر . و ان تطور الامة العـربية انما يتم و يطرد عن طريق حل المشكلات
الاجتماعية التي يعانيها هؤلاء البشر اذ ان المجتمعات تتطور من خلال حل مشكلات
الناس فـيها . و بقدر ما تحل مشكلات الناس فيها تتطور لا اكثر . و لا يتم التطور
الا في المجالات الاجتماعـية التي تحل مشكلات الناس فـيها لا أبعد .
هنا و هناك ،على امتداد الوطن العربي ، في مواقع العمل
او في مواقع البطالة توجد ملايين المشكلات الاجتماعية التي يثيرها التناقض بين
الواقع العربي و ما يريده الشعب العربي . و هي كلها مشكلات تقدم و تنمية . فيها
يحاول العاملون من ابناء الامة العربية أن يغـيروا بالانتاج واقعهم ليشبعـوا حاجات
الشعـب العـربي المتغـيّرة المتنوّعة المتجددة أبدا . في ظل الاستعمار و في ظل
الحرية ، في ظل الاقـليمية و في ظل الوحدة ، في ظل الاستغلال و في ظل الاشتراكية ،
لا تتوقف محاولة التطور ، ولا يكف الانسان العـربي عن محاولة حل مشكلاته ، ولا
تتوقـف محاولة التطور ، ولا يكف الانسان العربي عـن محاولة حل مشكلاته عـن طريق تغـيير
واقعه ليشبع حاجاته . ليحقق ارادته . ليتطور . ليبني . ليضيف . ليتقدم . و نحن نعـرف
ان كل هؤلاء العاملين الكادحين المشغـولين بحل مشكلات الحياة لا يفعـلون شيئا سوى
تطوير وبناء وتقدم أمتهم العـربية سواء كانوا يعـرفون هذا ويقصدونه أو لا يعـرفونه
ولا يقصدونه . هذا اذا كـنا نحن قد وعـينا ما عـرفـنا وما ينبغي أن نؤكده مرة ومرات
من أن المجتمعات تتطور من خلال حل مشكلات الناس فـيها . و لا تتطور الا من خلال حل
مشكلات الناس فـيها ، وبقدر ما تحل مشكلات الناس فيها تتطور لا اكثر . و لا يتم
التطور الا في المجالات الاجتماعـية التي تحل مشكلات الناس فـيها لا ابعد .
ما هي تلك المشكلات و ما هي حلولها الصحيحة ؟
الاجابة ، هـنا وهناك على امتداد الوطن العربي ، حيث يعـيش
الشعـب العربي في مواقع العمل أو في مواقع البطالة . وهي مشكلات تختلف مضامينها و
تـتـنـوع من واحد الى واحدة ، ومن جماعة الى جماعة ، و من موقع الى موقع ، و من
يوم الى يوم . ولاتستطيع أية نظرية انسانية أن تحدد مقدما مشكلات التنمية كما
يعانيها الشعـب العربي حيث يكون . ان اقصى ما يمكن معرفـته نظريا هي أنها ذات مضامين مادية وثقافية . وربما لان الانسان
الذي هو وحدة من المادة والذكاء لا يحتاج الى مضامين من نوع ثالث . أما ماهي تلك
المضامين المادية والثـقافـية و اين مصادر انتاجها و كيف يتم انتاجها و كم يحتاج
الشعـب العـربي منها و ما الذي يفعله كل واحد ليتم الانتاج و كيف تصل المنتجات الى
الحاجات فـتشبعها و كيف يتكرر ... الخ . فـتـلك اسئلة تجيب عـليها خطط التـنـمية
الاجتماعـية التي تتـضمن الحلول الصحيحة لمشكلات التـنمية ....
اذا كنا نريد اذن ، أن نعرف الغايات التي نختارها للامة
العربية و نلزم أنفسنا بتحقيقها في الواقع العربي حتى يتطور فـلنـعش مع الشعـب العـربي
في مواقع العمل أو في مواقع البطالة ولنعـرف ما هي مشكلاته و لنكتشف حلولها
الصحيحة ثم نحولها الى خطط انتاج يومي ننفذها في الواقع العـربي . تلك هي
الغاية التي تلزمنا بها نظريتنا : أن نعرف
من الشعـب العربي نفسه المشكلات الواقعـية التي يثيرها التناقض بين واقعه و ان
نكتشف حلولها الصحيحة المحددة موضوعيا بالواقع الاجتماعي ذاته ثم نلزم أنفسنا
بتحقيقها . بهذا ننـظـمّ الى قافـلة البنائيـن الحقيقـيـيـن للتقدم في الامة
العربية . اذ بالانتاج ثم الانتاج ، ثم مزيد من الانتاج تـتـقدم الامة العـربية
حقا . و بقدر ما ننـتـج ثم ننـتـج ثم ننـتـج ، نسهم حقا في تقـدم الامة العـربية .
ان هذي هي عملية البناء و الاضافة التي تـتـطور من خلالها المجتـمعات والامم ، و
من خلالها نطور واقع أمتـنا العـربية . و هي قائمة و متجددة قـبل التحرر وبعـده ،
قبل الوحدة وبعـدها ، وقـبل الاشتراكـية و بعـدها . لم تتوقف منذ أن وجد الانسان
على الارض ولن تتوقف أبدا .
ولكنا عندما نحاول انجازها في ظل الاحتلال ، أو
الاستعمار ، او التجزئة ، أو الاستغلال ، سنكتشف أن ثمة في الواقع العربي ما يحول
بين ارادتنا التقدم و بين التقدم . ما يحول بين ارادتنا التطور وبين الامكانايات
المادية و البشرية المتاحة في أمتنا العربية . عـندئذ سيستمر التقدم من خلال حل
مشكلات التنمية بما هو متاح للشعب العربي ، وبقدر ما هو متاح ، وفي المجالات
المتاح فيها ، و يثبت لنا الواقع ذاته أن حل مشكلات التنمية بما هو متاح في الامة
العربية وليس بما هو متاح للشعب العربي فقط ، يقتضي حل مشكلات التخلف ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق