بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 26 أغسطس 2016

هل أخلف الله بوعده للمؤمنين ، أم أننا ننتظر الوفاء بما لم يعدنا...؟


هل أخلف الله بوعده للمؤمنين ، أم أننا ننتظر الوفاء بما لم يعدنا...؟
د.محمد شحرور .

تنتشر صورة الطفل الحلبي الذي نجى من تحت الأنقاض في كل وسائل الإعلام ، تناشد ضمير الإنسانية لعلها تحرك ساكناً ، فيما يتساءل السوريون بعد خمس سنوات ونيف ، أين الله من كل هذا ؟ هل هو راض ٍ عما يحصل من قتل وقهر وتشرد ؟ هل سيبقى صامتاً متفرجاً ؟ وتتكاثر الأسئلة لتستطلع الخيبة، فيما يترسخ لدى الكثيرين الاعتقاد بأن غضب الله قد حل على سوريا ليهلك البشر والحجر.
وكل هذه التساؤلات تأتي نتيجة الصورة التي وضعناها لله تعالى في أذهاننا، وكأنه جالس على كرسيه في السماء، يلقي الأوامر بتعذيب فلان، وإهلاك آخر، وإغداق المال على هذا، ومنع الرزق عن ذاك ، وفق أهوائه ، أو وفق عدد مرات قولنا تميمة معينة دون أخرى، وننسى أن الله تعالى وضع قوانين الكون والتاريخ ، ولا يغيرها مراعاة لأحد، وأنه سبحانه ظل يبعث الرسل مواكباً تطور الإنسانية ، حتى وصلت لمرحلة تستطيع فيها أن تقف على قدميها ، وتشرع لنفسها ، فختم الرسالات وأعلن صلاحية الإنسانية لترتقي وتأخذ دورها على الأرض { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً } (المائدة 3) ، ضمن دين يمكن أن يضم تحت جناحيه كل أهل الأرض، تذكرة دخوله الإيمان بالله واليوم الآخر، ومعياره هو العمل الصالح { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } (البقرة 62) فلا فرق بين ذكر وأنثى أو أبيض أسود إلا بالتقوى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات 13) .
والإسلام الذي ارتضاه الله ديناً للناس هو دين إبراهيم { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} (النساء 125) ، إبراهيم الذي حاجج ربه وأعمل فكره قبل أن يقتنع ويطمئن قلبه، فامتازت ملته بالحنيفية لكونها توائم الفطرة، ومن هنا جاءت الرسالة المحمدية رحمة للعالمين { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } ( الأنبياء 107) تتحرك حدود تشريعها بين العفو والعقوبات التي لا تتعارض مع ما توصلت له الإنسانية في قوانينها ، وضمن مبدأ أساسي هو راحة الإنسان في الحياة الدنيا ، كفرد ضمن مجتمع محيط به ، بما لا يؤذي الآخرين { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة 185) ، أما في الآخرة فمقاييس العدالة الإلهية المطلقة تختلف تماماً عن مقاييسنا النسبية ، ورحمة الله واسعة بينما عذابه محدود { قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} ( الأعراف 156) .
والله في التنزيل الحكيم { رؤوف رحيم } يغفر لعباده جميعاً ، المؤمنون والمسرفون { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } ( الزمر 53 ) بعكس ما صورته لنا المنظومة الفقهية ، حيث استمد الفقهاء إلههم من الثقافات السابقة للبعثة المحمدية ، التي كانت تقوم على تعدد الآلهة وفق تعدد الاختصاصات، فهناك إله الخصب وإله المطر وإله الصحة وإله المرض، وكل مشاكل الإنسان هي جراء غضب الآلهة ، فإذا مرض فإله المرض غاضب ، وإذا جفت الأرض فإله الخصب غاضب ، ثم عندما تم توحيد الآلهة بإله واحد بقي هذا الإله غاضب دائماً على مدار الساعة ، وهو سادي قبلي مزاجي متعطش للدماء ، يتلذذ بعذاب الناس ويهوى العيون المقلوعة والأيدي المقطوعة والبطون المبقورة ، يعد على الناس عثراتهم، ويبتليهم ليختبر صبرهم ، فإذا مر عليك أربعون يوماً دون أن تصاب بأذى أو مرض فاعلم أنه غاضب عليك ، وإذا أصبت بأذى فهو غاضب عليك أيضاً ، لذلك يردد المؤمنون " اللهم لك الحمد حتى ترضى"، والجنة لا يدخلها إلا من كابد أشد أنواع العذاب ، بينما جنة التنزيل الحكيم يدخلها كل من عمل صالحاً { وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ( الأعراف 43 ) و{ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ( النحل 32) والعمل الصالح المقصود لا يعني إقامة الصلاة وصوم رمضان ، على ما لهما من أجر وثواب ، بل كل ما يخص العلاقة مع عباد الله ، وكل ما يخص المهمة التي أوكلها الله للإنسان بصفته خليفة على الأرض ، حباه الله بنفخة الروح فميزه عن سائر مخلوقاته ، وحمله الأمانة فامتلك خيار الطاعة والمعصية ، على أن يحاسب في اليوم الآخر على عمله { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ  * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } ( الزلزلة 7 – 8 )  .
والله تعالى لم يكتب منذ الأزل أن يموت الناس في سوريا بمئات الآلاف في فنرة زمنية محددة ، ولا أن يتشردوا في البلدان ، أو أن يغرقوا في البحار، لكنه كتب على عباده الموت فلا أحد خالد في الدنيا سواه ، ولا ثابت غيره  ، وقوله تعالى { قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا } ( التوبة 51 ) يعني أننا لن نموت بمرض خارج عن الأمراض الموجودة على هذه الأرض ، ولن يصيبنا ما هو مختلف عن القوانين التي وضعها الله لهذا الكون ، وكل في كتاب ، كتاب المرض ، وكتاب السير، وكتاب الحرب ، وكتاب السلم ، وكتاب الظلم ، وكتاب الطغيان ، ومن قوانين التاريخ أن الفساد والظلم يوديان بالحضارات { وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً} ( الكهف 59 ) و { وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء 16) .
أما الإنسانية فرغم وصولها إلى درجات من التطور الفكري والحضاري والأخلاقي ، إلا أن التعاطف نجده لدى الأفراد كل على حدى، بينما تطغى المصالح السياسية على تعاملات الدول، ولا يمكننا أن ننكر ما يجده المهاجرون واللاجئون من ود لدى شعوب المهجر في أغلب الأحيان ، ومن تعاملهم على أساس إنساني محض، بينما ما زلنا ننظر إليهم بصفتهم مشركين كفار، وكأن الله سلمنا مفاتيح الجنة ووكل إلينا مهمة فرز الناس ، بكل تجاهل لقوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } ( الحج 17) وقوله أيضاً { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } ( البقرة 113) ، علماً أن معظم شعوب البلدان المضيفة تلتزم بالعمل الصالح الذي طالب به الإسلام أكثر ممن يدعون أنهم أهله ، فلا يكذبون ولا ينافقون ويحترمون حرية الآخر بكل أريحية ، فيما نسخر نحن بعنصرية وتعجرف من الشعوب الأخرى التي تتميز علينا أخلاقياً وعلمياً وحضارياً ، فتجد من يرفع شعار " أنا لست هندي" وكأن الهندي إنسان درجة ثانية ، علماً أننا نكاد نكون في الدرجة الأخيرة حضارياً ، ونريد من الآخرين معاملتنا بإنصاف .
أما في موضوع التعاطف فترى أهل الحي لا يتعاطفون مع من كانوا جيرانهم ، بل على العكس يتمنون لهم أسوء الأماني ، وترى الضغينة والكره قد بلغا أوجهما بين الأخوة والجيران في الشارع الواحد، فإن لم يختلفوا سياسياً اختلفوا دينياً ، وزاد الطين بلة ما طفا على السطح من تكفير للناس ، على أسس ما أنزل الله بها من سلطان ، بل أنزلها الشافعي والبخاري وابن تيمية ، وأضف إلى ذلك أن التصنيف يتم بناءً على القشور لا على الجوهر، فما يسمى الحجاب الشرعي يسم الفتاة بالعفة مهما فعلت ، وتزاحم مقيمي الصلاة أمام المسجد يوم الجمعة يسم المجتمع بالتقوى، رغم أنه يرزح بالنفاق والفساد ، فالأجدر بنا أن نعتب على أنفسنا قبل أن نطلب التعاضد ممن نصفهم بالكفار وندعو عليهم ليلاً نهاراً.

خلاصة القول ، عودوا إلى الله وفعّلوا صفة الرحمة في نفوسكم ، وليكن اسم الله "الرحيم" هو مرشدكم ، فالغاية من أسماء الله الحسنى هي أن نفعلها في نفوسنا لنقترب منه ، لا أن نرددها كالببغاوات ، وإذا كنا نريد الفلاح في الآخرة علينا تزكية النفوس بالعمل الصالح { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } ( الشمس 7 –10) ، واعلموا أن الله يكون معنا بقدر ما نفعل من خيرٍ { وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ( المزمل 20 ) ، وكما كتب ربنا على نفسه الرحمة لنتقرب منه ونكتبها على أنفسنا أيضا ً.

الخميس، 25 أغسطس 2016

قـصة حيـاة مسلـم .


قـصة حيـاة مسلـم .

د . عصمت سيف الدولة .

حينما يدور الحديث المرسل عما جاء به الاسلام من شرائع يلتفت المتدحثون إلى نماذج العقوبات التي وردت في القرآن جزاء على خرق قواعد الحدود . يلفت إليها أن بعضها ، مثل الجلد والرجم وقطع اليد ، لم تعد اليوم من بين العقوبات التي تفرضها القوانين الوضعية . لسنا نريد أن نخوض في هذا الأن لأنه يطول ، ثم يتوقف على أية نظرية تقوم مشروعية الجزاء ، وهي . نظريات متعددة . يكفي أن ننبه إلى أن نظرية الجزاء في الاسلام لاتقوم على أساس الانتقام قال تعالى : ( ولكم في القصاص حياة ) { البقرة : 179 } ( الاحتفاظ للجرم بجزاء شخصي في الآخرة ، واستبدال الدية بالعقوبة والتوبة ، والعفو ) بل هي ، مثل كل أحكام الاسلام ، قائمة على ما يحقق مصالح البشر ، أو حماية المصالح كما يقال في فقه القانون الجزائي ، وذلك بالزجر الكافي والمناسب اجتماعياً للمحافظة على قوة الالزام في القواعد الآمرة أو الناهية وهي " الحدود " أي الفوارق بين الحلال والحرام ، وإن كان قد جرى إطلاق كلمة الحدود مجازاً على العقوبات . وإذا كان " لا اجتهاد في الحدود " فليس لأحد أن يبيح ماهو محرم فإن تقدير الجزاء الكافي والمناسب على خرق الحدود قابل للاجتهاد ، وفيما يؤكد نفاذ القواعد ويحمي المصالح في كل الظروف المتغيرة . من هنا فليس دقيقاً فيما نرى ، أن يقال إن عمر بن الخطاب قد عطل حدّ السرقة عام المجاعة . فما كان له أو لغيره أن يبيح ما حرّم الله . ولكنه رأى في ظروف معينّة أن جزاء قطع اليد لايؤدي غايته في الزّجر وحماية المال . ويدخل في هذا كل ما اجتهد الأئمة في اشتراطه للمسؤولية عن الجرائم فهي شروط متعلقة بإيقاع الجزاء وليس بشرعية الفعل . هذا يكفي الآن حتى لا يغيب عن الانتباه أن الشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الاسلام ليست مقصورة على الجرائم والمجرمين بل هي تنظيم لعلاقات الناس وهم يمارسون حياتهم العادية السوية ، فتربط بينهم وتحيلهم إلى مجتمع إسلامي  . 
                                                                         
لنأخذ مثلا من حياة مسلم سويّ :

* كان صاحبنا يتبع ما يهديه إليه "عقله ومصلحته وهواه وشهوته " ثم شهد بألاّ إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، فأصبح  مسلما : له على المسلمين حقوق المسلم وعليه للمسلمين واجبات المسلم . إنه منذئذ لا يستطيع أن يتبع ما يهديه إليه " عقله ومصلحته وهواه وشهوته " وإنما عليه أن يتبع " الشرائع والقواعد والآداب " التي جاء بها الاسلام . فإن لم يفعل ردّه المسلمون إلى ما يتفق مع الاسلام وأوقعوا به الجزاء الذي يردع غيره   .كيف ؟ هداه " عقله ومصلحته وهواه وشهوته " إلى أن " يعاشر " امرأة معينة وارتضت هي معاشرته على هدى عقلها ومصلحتها وهواها وشهوتها . لو تركا لما اهتديا إليه لتعاشرا . فيقول الاسلام لهما : لا . تعاشرا زواجاً وليس سفاحاً . ( محصنين غير مسافحين ) { النساء : 24 } . فيقبلان الزواج . ولكن قبل أن يشرعا فيه يقدم لهما الاسلام قائمة بنساء موصوفات ليرى صاحبنا ما إذا كانت المرأة التي اختارها من بينهن أم لا . فإن كانت من بينهن فلا زواج ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ، إنه كان فاحشة ومقتاً ، وساء سبيلاً . حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم ، وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ، إن الله كان غفوراً رحيماً . والمحصنات من النساء ) { النساء : 22 - 24  .ولقد يتحقق صاحبنا من أن المرأة التي اختارها وارتضته زوجاً ليست من بين قائمة المحرّمات ، لأنه هو نفسه كان قد تزوجها هي نفسها من قبل وطلّقها ثلاث طلقات . وقد هداه " عقله ومصلحته وهواه وشهوته " إلى أن يتزوجها مرة  أخرى وقبلت هي . الاسلام يقول : لا . ( فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره ) { البقرة : 230 } . فلا يتزوجها صاحبنا بصرف النظر عن عقله ومصلحته وهواه وشهوته  .
ولقد يضيق صاحبنا بالانتظار فيختار امرأة أخرى وترتضاه هي زوجاً بعد أن يعرف من أمرها أنها كانت إلى عهد قريب زوجاً لغيره . فيتعجل الزواج فيقول له الاسلام  لا . لاتتعجل . إن كانت مطلقة فعليك أن تتأكد أولاً من أنها غير حامل من زوجها السابق ، ثم تتأكد ثانياً من أنه انقضت على طلاقها ثلاثة أشهر وتعدّ الأيام عدّاً ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ، ولايحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ) { البقرة : 228 }  فتأخذ صاحبنا الفرحة إذ أن من اختارها لم تكن مطلقة وإنما توفّي عنها زوجها منذ أربعة أشهر ويهم بالزواج قيقول له الاسلام : لا . ليس قبل عشرة أيام أخر . ( والذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً ) { البقرة : 234  .

وينتظر صاحبنا عشرة أيام لا تنقص يوماً واحداً . ثم قد يهم بها وتهم به ، فيقول لهما الاسلام : ليس قبل العقد ، لأن الزواج ليس فعلاً بل هو عقد وميثاق غليظ . ( واخذن منكم ميثاقاً غليظاً ) { النساء : 21} . وقد يسر لصاحبنا " عقله ومصلحته وهواه وشهوته " بتساؤل : وما الفرق ؟ إن الفرق الآن أنّ العقد لا ينعقد إلاّ برضاكما ، نحن راضيان . لا . لابدّ من أن يشهر العقد ليعلم الناس أنكما راضيان . ثم إن عليك أن تدفع لها مهراً . ( وآتوهن أجورهن بالمعروف ) { النساء : 25 } . كم ؟ . . لايهم . إنه رمز الالتزام وليس ثمن بضاعة تشترى ثم إن العقد يلزمك أنت بالنفقة ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ) { النساء : 34 } من مالك أنت ، وليس من مالها هي . ( فلا تأخذوا منه شيئاً ) النساء : 20 } . إلا إذا رضيت هي . ( فإن طبن لكم عن شيء منه فكلوه هنيئاً مريئاً ) { النساء : 4 } ثم انه قد تكون بينكما شروط غير ممنوعة . مثل ...؟  مثل أن تحتفظ هي لنفسها بحقّ  فسخ الزواج . أما الفروق الأخرى فستعرفها في مستقبل حياتكما الزوجية إن شاء الله  .                                                        
وينعقد العقد ويفرح العروسان ويشهران زواجهما بأن يدعوا الأهل والأصحاب إلى وليمة عامرة بكل طعام وشراب اهتديا إلى أنه يسر المدعوين " عقلاً ومصلحة وهوى وشهوة " فلا يتركهما الاسلام إلى ما اهتديا  . إذ يراهما يكادان يسرفان إنفاقاً فيأمرهما بعدم التبذير . ( إن المبذّرين كانوا إخوان الشياطين ) { الاسراء :27 } أو يكادان يقتران فينّبههما الاسلام إلى أن منع التبذير لايعني إباحة التقتير : ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً ) { الفرقان : 67 } ؛ ( ولاتجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ) { الاسراء : 29 } .  فيهتديان ويولمان  .

ويراجع الاسلام قائمة الطعام والشراب خشية أن يكون " العقل والمصلحة والهوى والشهوة " قد دسّت في الشراب خمراً ( أو مخدّرات ) ( يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ) { المائدة : 90 } أو دسّت في الطعام مما حرّم على المسلمين ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب ){ المائدة : 3  .

* وتجري الحياة بالزوجين على قاعدة المساواة بينهما . ( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ) { البقرة : 228 } . والتعاون على مافيه حفظ المودة والرحمة بينهما ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) { الروم : 21 } . ( هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهن ) { البقرة : 187 } ، بدون عدوان ، ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان ) { المائدة : 2 } . ويترك لهما بعد ذلك أن يدبّرا حياتهما معاً على ما يرضيهما بدون شذوذ عما تجري به أفضل التقاليد في مجتمعهم ( وعاشروهن بالمعروف ) { النساء : 19 } . ويحذّر صاحبنا خاصة من نزوات " هواه وشهوته " . ( فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً ) { النساء : 19 } . فإن اختلفا حتى كادا يفترقان فعلى أهلهما التدخل لانهاء الخلاف صلحاً : ( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها ، إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما ، إن الله كان عليماً خبيراً ) { النساء : 35 } ؛ ( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً ، والصلح خير ) { النساء : 128 } . ويحذر الاسلام الزوجة خاصة من أن تبالغ فيما تحمّل زوجها من نفقات نزقاً أو تظاهراً بثراء غير متحقق ، إذ ليس عليه إلا ( رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، لا تكلف نفس إلا وسعها ) { البقرة : 233 } . ثم يأمرهما معاً بألا يصلا فيما ينفقانه إلى حد التبذير : ( إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ، وكان الشيطان لربه كفوراً ) { الاسراء : 27 } . وفي هذه الحدود ( لينفق ذو سعة من سعته ) { الطلاق : 7  }  .                                                                                                              
* فإذا لم يستطيعا بعد كل هذا أن يعيشا معاً فلا إكراه في الزواج كما لا إكراه في الدين . ( فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) { البقرة : 229 } . ويأمرالاسلام بالثقة في صدق أسباب الافتراق إذا كانت الزوجة هي التي أرادته فيكون الفراق بائناً . ولكنه يحتاط ضد نزوات هوى الرجل فيأمر بأن ( الطلاق مرتان  )  { البقرة : 229 } فإذا اعاد إليه مرة ثالثة ( فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره ) { البقرة : 230 } . وللزوجة دائماً حق انهاء العلاقة الزوجية بالخلع ، أو إذا احتفظت به في العقد ، أو إذا كان استمرار الزواج يسبب لها ضرراً ( فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ، ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا ) { البقرة :  231}  .                                                         
* ولكن صاحبنا لا ينفصل عن زوجته لأنه لايتبع مجرد ماهداه إليه " عقله ومصلحته وهواه وشهوته " حينما يتعارض مع الشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الاسلام منظمة للزواج وفيما بين الزوجين ، بل يستمر وينجب بنين وبنات يتأدبون بآداب الاسلام التي قرنت بين الايمان بالله وعدم الشرك به وبين الاحسان بالوالدين . ( لاتعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا ) { البقرة : 83 } . ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ) { النساء : 36 } . ( قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ) { الانعام : 151 } . ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً ، اما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً . واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربّ ارحمهما كما ربيّاني صغيراً ) { الاسراء  : 23 ، 24 } . ولكن في حدود الايمان بالله : ( ووصينا الانسان بوالديه حسناً . وإن جاهداك لتشرك بي ماليس لك به علم فلا تطعهما) { العنكبوت : 8  }   .

ولقد تشبّ لصاحبنا ابنة ويجيء إليه من يخطبها ، فتقبل ، ولكنه حين يتشاور مع زوجته يتفقان على إرجاء الزواج . فيقول هو حتى تكمل تعليمها ، وتقول هي : ولتبقى تساعدني في المنزل في غير أوقات الدراسة . ويتّبعان ماهداهما إليه عقلهما ومصلحتهما ، وتغيب عنهما نواميس الحياة التي يحجبها الحياء ، فيردّهما الاسلام إلى ماغاب عنهما . ( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً ) { النور : 33 } فيفهم الزوجان ما أراد الله أن ينبّه إليه . فيأذن الوالد وينعقد العقد ويبدأ تكوين أسرة جديدة طبقاً لذات الشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الاسلام وحكمت حياة أسرة صاحبنا . 

* غير انه ماتكاد الأسرة الجديدة تتكون حتى ينهدم ركن أسرة سابقة . فقد يجيء الخبر بوفاة والد صاحبنا ويحزن صاحبنا هو وأقاربه ثم يجتمعون ليروا ماذا يفعلون بما ترك المتوفي من مال . ويكادون يقتسمونه على ما تهديهم إليه عقولهم ومصالحهم وأهواؤهم ، ويدّعي كل واحد بأنه قد أبرّ المتوفي أكثر من غيره ، أو أن المتوفي كان يبرّه أكثر من الآخرين ، ويحتج بعضهم بأنهم أشد حاجة إلى المال من غيرهم ، ويتساءل أحد الحاضرين عما يكون من أمر الصغير اليتيم ابن المتوفي . ويكادون يتنازعون . فلا يتركهم الاسلام لعقولهم ومصالحهم وأهوائهم بل يقول لهم : أولاً : لايرث أحدكم شيئاً قبل أن يستوفي غير الوارثين حقوقهم . إذ لاميراث إلا ( من بعد وصية يوصي بها أو دين ) { النساء : 12 }  ثانياً : أما بعد ذلك فدعكم الآن من عقولكم ومصالحكم وأهوائكم التي لاتتفق أبداً ، واقتسموا المال الموروث طبقاً لما يلي : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين فإن كنّ نساءّ فوق اثنتين فلهن ثلثا ماترك وإن كانت واحدة فلها النصف ، ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد ، فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث ، فإن كان له إخوة فلأمه السدس ، من بعد وصية يوصي بها أو دين ، آباؤكم وأبناؤكم ، لاتدرون أيهم أقرب لكم نفعاً فريضة من الله ، إن الله كان عليماً حكيماً ) { النساء : 11 } . ( ولكم نصف ماترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد ، فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن ، من بعد وصية يوصين بها او دين ، ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد ، فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين ، وإن كان رجل يورث كلالة ، أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس ، فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث ، من بعد وصية يوصي بها أو دين غيرمضار ، وصية من الله ، والله عليم حليم ) { النساء : 12 } . ( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ، إن امروء هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ماترك ، وهو يرثها إن لم يكن لها ولد ، فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك ، وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء فللذّكر مثل حظ الانثيين ، يبين الله لكم أن تضلوا ، والله بكل شيء عليم ) { النساء : 176 }  فيأخذ كل صاحب حق حقه . ويمر ذلك الحدث بسلام دون أن يكون سبباً في الخلاف أو الفرقة او النزاع بين الاقرباء . فحتى الذين لا يصيبون من مال المتوفي شيئاً لايتهمون من يصيبون منه بأن قد ظلموهم . ذلك لأن تلك شرائع الاسلام لايضعها أحد منهم طبقاً لما يهديه إليه " عقله ومصلحته وهواه " ولا يفرضها على غيره . ولو يتركون لعقولهم ومصالحهم واهوائهم  يتّهم بعضهم بعضاً . ولو يستبدلون بهذا النظام نظاماً موضوعاً يضعه الأقوى ويفرضه على الآخرين ، قد يبدلّون فيه من حين إلى حين تبعاً لتقلّب مصالحهم وأهوائهم وقوتهم  .

* ثم أن الاقرباء الذين لا يصيبون من التركة ميراثاً لا يحرمون منها إن كانوا محتاجين ، لاهم ولا أولئك الذين لا يخفى عليهم ما راب في ثروة صاحبنا من بعد الميراث بحكم الجيرة . فصاحبنا مسلم وقد أمر بما أمر به المسلمون .  ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت ايمانكم ، إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً . الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً ) { النساء : 36 ، 37 } . ذلك لأن في مال المسلم القادر حقاً لمن حرم منه وسأله ، حتى لو لم يكن من ذوي القربي ( وفي أمولهم حق معلوم للسائل والمحروم ) { الذاريات : 19 } . على أي حال فإن ذوي القربى الذين لايصيبون شيئاً من التركة ميراثاً ويحضرون قسمتها فيما بين الورثة يصيبون منها ما يرضيهم قلّ أو كثر ، نفاذاً للشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الاسلام . ( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر ، نصيباً مفروضاً . وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولاً معروفا ً) { النساء : 7 : 8   .} ويخرج كل هذا من نصيب صاحبنا . 

* أما نصيب أخيه القاصر اليتيم الذي وضع تحت وصايته فقد حرمت عليه الشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الاسلام المساس به قلّ أو كثر . بل عليه أن يديره لحساب  صاحبه أحسن ما تكون الادارة وأن يرده إليه حينما يبلغ الرشد كاملاً غير منقوص . ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده ، وأوفوا بالعهد ، إن العهد كان مسؤولاً ) { الاسراء : 34 } ، بعد أن يقدم إليه حساباً عن كيف تسلّم المال ، وكيف أداره وكيف تطور زيادة أو نقصاً بين يديه وما إذا كان قد اقتطع منه اجر إدارة أم لا . ذلك لأن شرائع وقواعد وآداب الاسلام لا تكافيء مدير مال اليتيم بأجر إلا أن يكون فقيراً . ( وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا ، ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف ، فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ، وكفى بالله حسيباً ) { النساء : 6 } . 

ذلك مايكون من أمر صاحبنا في علاقاته بزوجه وبنيه وأقاربه وما يتداول فيما بينهم من مال ، مهراً أو ميراثاً أو وصية أو احساناً ، أي علاقاته بأفراد أسرته والأقربين منه قرابة عصب أو قرابة رحم أو قرابة جيرة  .
أما العلاقة مع الآخرين ، مع الناس ، فهي علاقة عقود ( اتفاقات إرادية بين الراشدين بدون إكراه أو غش )  . ماهو محل أو موضوع أو مضمون تلك العقود ؟ يختلف الأمر في الزمان والمكان ، فلا نستطيع أن نتابع علاقات صاحبنا مع غيره إلا أن نعرف في أيّ مجتمع يعيش وفي أيّ زمان كان مجتمعه . ولما كانت الشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الاسلام غير مقصورة على مجتمع معين أو زمان معين فإنها لم تأت مفصلة الأحكام ، ولكنها  - مع ذلك - لم تترك الناس لما تهديهم إليه عقولهم ومصالحهم واهواؤهم وشهواتهم ، بل فرضت قواعد من النظام العام يكون على صاحبنا أن يلتزمها أيّان كان  .
 فمصدر الرزق هو الطبيعة : الأرض والسماء والبحار والأنهار والأنعام . . . الخ ( هو الذي خلق لكم مافي الأرض جميعاً ) { البقرة : 29 } . ( ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض ) { لقمان : 20 } . ( يأيها الذين آمنوا كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ) { البقرة : 168 } . ( ولقد مكّناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش) { الأعراف : 10 } . . . الخ  .                                                                                                           
أما سبب الرزق فهو وحده العمل . ( وأن ليس للانسان إلا ما سعى ) { النجم : 39 } . ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) { التوبة : 105 } . ولقد حرم الاسلام ثلاثة أنواع من الكسب تأتي جميعاً بدون أن يخالطها عمل . الأول الربا : ( أحل الله البيع وحرّم الربا ) { البقرة : 275 } . والثاني المقامرة . ( يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيكان فاجتنبوه ) { المائدة : 90 } والثالث المال غير المستحق بصرف النظر عن سبب عدم استحقاقه . ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) { البقرة : 188 } . أما الميراث فهو فائض تراكم عمل المتوفي بعد وفاته يؤول إلى من كان يعلم أنه آيل اليهم فكان - على وجه - يعمل لهم  . على صاحبنا بعد ذلك أن يرتزق بعمله ما يشاء . عمله الحالي ، أو الناتج المتراكم من عمله السابق ، وأن يتملكه . ولما لم يكن صاحبنا ولا غيره بقادر على أن ينتج وحده كل ما يحتاج الى استهلاكه ، فإنه يتبادل الخدمات والمنتجات مع غيره من العاملين والمنتجين . وكل تبادل عقد . وكل وعد بالتبادل عقد . وكل تبرع عقد . وكل فسخ للعقد هو عقد . وكل وفاء بعقد هو عقد . وهكذا يكتشف صاحبنا أن حياته كلها بكل مافيها من علاقات مع الآخرين هي سلسلة لا نهائية من العقود المتجددة أبداً وأنها ليست إلا حلقة من سلسلة العلاقات الاجتماعية التي تشد الناس بعضهم إلى بعض حتى تحيلهم مجتمعاًبعد أن كانوا أفراداً ، وتقيد - في الوقت ذاته - بعضهم لحساب بعض ، فتحيا علاقاتهم نظاماً بعد أن كانت أهواء . وتجعل حياة كل واحد منهم متوقفة على حياة الآخرين ، فتحول دون " الفردية " التي تريد أن تخلي بين الفرد وبين مايهديه إليه" عقله ومصلحته وأهواؤه ونزواته " .
يتذكر صاحبنا كلّ هذا كلّما قضم لقمة من خبز حصل عليه وفاء بعقد ؛ من تاجر أعد له مكاناً للبيع وفاء بعقد ؛ حمله إليه حامل وفاء بعقد ؛ وطحنه طحّان وفاءً بعقد ؛ في مطحنة يعمل فيها كل عامل وفاء بعقد ، ويديرها مدير وفاء بعقد ، ويحصّل أجورالطحن فيها صرّاف بعقد ، ويحمل الحب اليها ناقل وفاء بعقد ، تسلمه ممن حصده وفاء بعقد ، بعد أن كان رواه راو وفاء بعقد ، وزرعه زارع وفاء بعقد ، وحرسه حارس وفاء بعقد ، في أرض استغلها وفاء بعقد ، ليحصل من وراء ذلك على مال يوفي منه عقد شراء لقمة من خبز يقضمها .  وما كان للأول أو للأخير أن يقضم لقمة من خبز حين يجوع ، أو يشرب شربة ماء حين يعطش ، أو يلبس ، أو يسكن ، أو يطبب أو يداوي ، أو يعلّم أو يتعلّم ، أو يخترع أو يصنع ، أو يستهلك ، أو حتى ينام آمناً ، لو لم يكن مئات الألوف من الناس الذين لا يعرفهم كافة قد أوفوا بعقود قد عقدوها . فتكتفي الشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الاسلام بأن تأمر بالمحافظة على سلامة هذه السلسلة اللانهائية من العلاقات الاجتماعية التي تنظم الافراد فتحيلهم مجتمعا منظماً فتأمر المؤمنين جميعا أمراً : ( يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) { المائدة :1  .
وتزيد فتأمر بما يحول دون إعاقة الوفاء من نسيان أو مماطلة أو جشع فتأمر بالكتابة في الديون المؤجلة : ( إذا تداينتم بدين الى أجل مسمى فاكتبوه ) { البقرة : 282 } . وتأمر بالرهن الحيازي في المنقول لضمان الوفاء في حالة غياب المدين ( وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة ) { البقرة : 283 } وتأمر بأن يكون البيع مشهودا : ( وأشهدوا إذا تبايعتم ) { البقرة : 282 . } .

* نكتفي بما تقدم من حياة مسلم ، تجري هادئة بدون أن يتعرض للعقوبات الجزائية . ولو شئنا لتتبعنا حتى يقضي توجهه مجموعة كثيفة من الشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الاسلام . ولكن هذا يطول . ولقد رأينا كيف أن كل ما ضربناه مثلاً من الشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الاسلام قد جاءت في صيغ آمرة أو ناهية أو مكملة . نعني بالمكملة ما تنظم أمراً إذا وقع بإرادة صاحبه ، ولكنها تترك أمر وقوعه أو عدم وقوعه لاختيار المسلمين . كما رأينا أن كل الشرائع والقواعد والآداب واردة على علاقة اجتماعية ، ثنائية أو جماعية ، وبالتالي فإن أمر التزامها أو اهدارها ليس متروكا لاختيار أحد أطرافها ، فرداً كان أو جماعة على ما تهديهم  إليه " عقولهم ومصالحهم وأهوائهم ونزعاتهم " . كلا . ان يلتزموها يستوفهم شركاؤهم فيها إلى التزامها ولو قتالاً . فتـنــبــثق " السلطة العامة " كضرورة اجتماعية لحراسة النظام وفرض نفاذ قواعده ولو بالاكراه . من هنا تعرف أن التكليف الصريح بإقامة سلطة عامة تزيّد غير بليغ مادام الأمر قد جاء بأسبابها الموضوعية .
اما كيف تقوم هذه السلطة العامة ، فيتوقف جوابه على ماهية كل مجتمع وظروف الناس فيه المختلفة مكاناً ، المتطورة زماناً . فيكتفي الاسلام بما هو صالح للمحافظة على قاعدة المساواة بين الناس في أي مجتمع ، في أي مكان ، وفي أي زمان : الشورى: ( وأمرهم شورى بينهم ) { الشورى : 38 } . والعدل ( واذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) { النساء : 58 } . وكلاهما " نظام " ، لهذا جاء التكليف به خطاباً للجماعة .  فالشورى نظام إجرائي لاتخاذ متعددين متساويين قرارت موحّدة . فهي غير مقصورة على تبادل العلم بمشكلة مشتركة ، ولا على تبادل المعرفة بحلولها المحتملة وأساليب تحقيقها ، ولكن هي في النهاية تعيين القرار الذي يرى كل مشارك أنه الحل الصحيح للمشكلة المعروضة وذلك " بالاشارة " به على الآخرين . والأمر بالشورى قطعي الدلالة على تحريم الاستبداد من ناحية ، ووجوب الشورى من ناحية أخرى ، في كل أمر ، أيا كان مضمونه ، يخص جماعة ، أيا كان عددهم . فيصبح إسناده إليهم فهو " أمرهم " جميعا وليس أمر أحد غيرهم  .
أما القرار الذي تسفر عنه الشورى فهو ملزم لكافة الشركاء في الأمر، للأسباب التي تحدثنا عنها من قبل ( فقرة 77 ) . فإن كان القرار مما لا ينهض به كل أصحابه ، دخل اختيار من يتولى القيام على تنفيذه في نطاق الشورى ، فإن اختاروه ، ثم قبل ، أصبح وليّ ذاك الأمر تفويضاً من أصحابه ملزماً بقرارهم وذلك من ناحيتين :
  الأولى ، أن مصدر شرعية ولايته تفويض محدد المضمون بالقرار ذاته ، فإن خالفه فقد شرعية الولاية .
 الثانية ، ان مخالفة ما أسفرت عنه الشورى رجوع الى الاستبداد المحرّم أصلاً . فإن التزم حدود التفويض ، وما دام ملتزماً ، وجبت طاعته : ( اطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) {  النساء : 59 } . إذن هي طاعة الجماعة ، وإلا كان للجماعة أن تخلعه . أما كيف ؟ ومتى ؟ وأين ؟ ولماذا يتشاورون ؟ فمتروك لهم ، يلتمسون أصلح أسبابه في زمانهم ومكانهم مع جواز التفويض السابق والاجازة اللاحقة ، وفي هذا يكون أمرهم شورى بينهم أيضاً . إن الالتفات الى جواز التفويض السابق والاجازة اللاحقة يسهل فهم كيف كانت الشورى تتم على درجتين أو أكثر في الأمور المشتركة بين التجمعات القبلية إلى أن تصل إلى متحدث باسم القبيلة ، وكيف كانت تتم بين عدد محدود في مرحلتها الاخيرة وكيف كانت الثقة في القائد ، والمبادرة الى تنفيذ رأيه تفويضاً سابقاً أو إجازة لاحقة . والعدل نظام اجرائي لبيان وجه الحق بين المختلفين فيه طبقا للقواعد المنظّمة لعلاقات الناس قبل الاختلاف وذلك بما يسمى الحكم " القضاء " ، ثم تنفيذ الأثر الذي ترتبه تلك القواعد في محلّه ولو بالاكراه . وبدهي أن كل هذا ، شورى وعدلا ، يجري ويدور في الحياة الدنيا . فالناس لا يتشاورون إلا في أمور الحياة . والناس لا يحكمون بين الناس إلا في الحياة . فكلاهما ، الشورى والعدل ، نظام للحياة الدنيا . ثم إنهما محددان بقواعد النظام العام الاسلامي ، فإن اختلف الناس فيما إذا كانا ، شكلاً أو موضوعاً - يتفقان أو لا يتفقان - وقواعد النظام الاسلامي كان فرضاً عليهم أجمعين أن يرجعوا إلى تلك القواعد في القرآن فثمة حكم الله : ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله )  { الشورى : 10 } والناس لا يختلفون في شيء إلا في الحياة الدنيا  .                              



السبت، 13 أغسطس 2016

المنهج حجر الاساس ..


المنهج حجر الاساس ..
الدكتور عصمت سيف الدولة .

في البدء كنا عربا قبل أن نعرف ما هي العروبة . كان أهلنا في الصعيد يغضبون غضبا يعبرون عنه ردعا لمن يشك في عروبة الاسر . كل الأسر . وكنا أطفالا نصطنع الغضب والمعارك دفاعا عن عروبتنا قبل أن نعرف ماهي العروبة وكنا نتحلق حول أجدادنا وكبار السن يقصون علينا سلاسل من الأنساب تنتهي حتما بجد عربي وراعي غنم وفد في جيش عمر بن العاص فاتحا . يا جدي ..  وهل كان عمر بن العاص عربيا ؟ اخرس يا غبي " امال يعني كان انجليزي " .. كان الانجليز يحتلون مصر منذ عرابي ، فلم يكن أجدادنا يميزون العربي الذي هو منا الا بتقيضه الأنجليزي الذي هو علينا .. وهو كريم لأنه عربي . وهو شهم لأنه عربي . وهو عزيز النفس لأنه عربي . وهو حامي الجيرة لأنه عربي . فعرفنا العروبة فضيلة تنطوي على كل الفضائل ، ومن حين الى حين ، يتزوج فتى ، أو تقام حفلة ختان صبي ، فيجتمع أهل القرية في ساحاتها ليشاركوا ويشاهدوا معالم الفرح الجماعي . يصطف الشياي وقد تساندت أكتافهم وتشابكت أيديهم ويحيط بهم الباقون رجالا ونساء جلوسا على الأرض الطيبة . ثم يبدأ " عوض الله " في قيادة المصطفين على ايقاع دفه الكبير . هو يحدو ويرقص وهم يرددون متمايلين على ايقاعه شعرا بدويا غريب اللهجة حتى اننا نحن الصغار لا نفهمه وان كنا نتمايل معهم . ومن ركن مظلم تنفلت فتاة محجبة فتجلس أمام الشباب من الراقصين ، فيتوقف الرقص ويتقدم الشاب خطوة ليلقي على تلك التي لا يعرفها موال " غزل " صريح . حتى اذا ما فرغ هلل الجميع وانسحبت الفتاة ، وعاد الى الصف ليبدأ الرقص على ايقاع الدف وترديد الأغاني . كانت تلك أسعد ليالينا .. ليالي " زفة العرب " كما كان أهلنا يسمونها .. فعرفنا أن العروبة مصدر بهجة جماعية .. ولم يكن أحد من قروى الصعيد يعرف عن العروبة الا أنها علاقة جماعية على الأصل الواحد .، وفضائل السلوك وبهجة الحياة .. وقرابة فوق الأسر موثقة في صحف عتيقة تحتفظ بها الأسر ليعرف منها كل مولود عربي ـ حين شب ـ مكانه من " شجرة العائلة " التي تنتهي دائما ـ الى عربي جاء الى مصر مع عمر بن العاص .. بعد سنين طويلة من الخبرة والعلم عرفنا أن أغلب ، أو على الأصح بالنسية الى قريتنا " الهمامية " كل تلك الوثائق مزيفة .. اصطنعت لتؤكد شعورا غير زائف بالانتماء العربي ، فلم تكن في زيفها أقل دلالة على صدق الشعور مما لو كانت وثيقة تاريخية ..
قبل أن ندرك كيف يحمل الشعور الصادق صاحبه على تأكيده بالكتابة ، كنا قد تعلمنا القراءة والكتابة والحساب ، ودخلنا مدرسة التاريخ المكتوب عن الأمة والقومية والعروبة ، والتطور .. الخ .فعرفنا من أساتذتنا الأوائل أن العروبة ليست " زفة فرح " بل هي انتساب الى أمة . وحفظنا عن ظهر قلب تقريبا كل أوصاف الأمة كما عددها كل الذين وصفوا الأمة من جميع الأمم .. فلم يعد لدينا شك في أننا ننتمي الى أمة توافرت لها كل أوصاف الأمم .. وعشنا كل آلام العرب ، وآلامنا . وحملنا كل هموم العرب ، همومنا ، وحددنا آمالنا من آمال أمتنا ..
ثم ألح علينا سؤال بعد أن درسنا حتى آخر كلمة النظرية الماركسية في الأمة . سؤال طرحه الماركسيون ولم يطرحه أحد من قبلهم فيما نعلم . لماذا تتكون الأمم ؟ . قالوا ان الطبقة البورجوازية الصاعدة في اوروبا بعد عهد الاقطاع قد " كونت " الأمم فتوسع نطاق السوق الرأسمالي . هكذا كانت ألمانيا وهكذا كانت ايطاليا .. الخ . لم نستطع أن نفهم ، لماذا اذن ، اقتصر جهد البورجوازية الألمانية على تكوين الأمة الألمانية ، واقتصر جهد البورجوازية الايطالية على تكوين الأمة الايطالية ؟ لماذ لم تكون البورجوازية الاوروبية أمة أوروبية الا اذا كانت كل بورجوازية منها قد " وجدت " أمة كانت متكونة من قبل ، واقتصر جهدها على توحيدها .. لا بد أن يكون وجود الأمة سابقا على توحيدها في دولة ..
وبقي السؤال الذي طرحه الماركسيون ، لماذا تتكون الأمة ؟.. بدون جواب ، فاجتهدنا في الاجابة .. من أين نبدأ ؟ ـ أولا ـ من معرفة كيف تتكون الجماعات البشرية ، ثم نعرف ـ ثانيا ـ كيف تتطور من طور الى طور . وكان لا بد من معرفة قوانين التطور الاجتماعي أولا ، اذ أن بداية تكوين الجماعات البشرية معروفة . وكانت البداية اسرا ، ثم عشائر ، ثم قبائل ، ثم شعوبا ، ثم أمما ، فكيف تتطور ( تنمو ) الاسر لتكون عشيرة ، وتتطور العشائر لتكون قبيلة ، وتتطور القبائل لتكون شعوبا ، وتتطور الشعوب لتكون أمما .. ومن يدري ماذا سيكون بعد ذلك ؟
ما هو قانون التطور البشري ؟
كل فرد يسعى الى اشباع حاجنه  لا يألو . كل أسرة تسعى لاشباع حاجاتها لا تألو . تتصارع الأسر على ما يشبع حاجاتها من موارد حتى تتساند ثم تلتحم عشيرة تكون بقوتها الموحدة أقدر على توفير احتياجات الاسر داخلها . ثم تتصارع العشائر حتى تتساند ثم تلتحم قبيلة تكون بقوتها أقدر على توفير أحتياجات العشائر داخلها ، ثم تتصارع القبائل حتى تتساند وتلتحم شعبا يكون بقوته أقدر على توفير احتياجات القبائل فيه ومن مظاهر قوته الاستئتار بأرض معينة وحمايتها والاشتراك في الانتفاع بمواردها . حتى اذا ما استقر الشعب سنين قد تكون قرونا من التفاعل فيما بينه وبين الأرض المعينة ، ينشئ من تفالعله مجموعة من التقاليد والآداب والنظم والفنون والعادات فيكنمل بحضارته أمة . ويحمل الأطفال منذ الميلاد حضارة أمتهم نقلا عن امهاتهم اللواتي حملنها أطفالا عن اطفال عن أطفال ..
نطبق على أمتنا العربية ، انتقلت من الطور القبلي الى الطور الشعبي بالهجرة الى المدينة ( الوطن الخاص بأهل المدينة ) فأصبح أهل المدينة شعبا . وتفاعل شعب المدينة عن طريق الدعوة والفتح بشعوب محيطة وقبائل أخرى وحدها الاسلام بعد تعدد ، آمنها بعد خوف وحماها بعد اباحة لكل غزو ، وتركها قرونا تتفاعل فيما بينها وبين الارض المشتركة ، أداتها لغة واحدة ، وحدودها نظام واحد ، الى أن اكتشف الذين كانوا شعوبا متفرقة ، خلال قرنين من الدفاع عن  الارض المشتركة  ضد الغزو الصليبي ، أنهم أمة مكتملة ذات حضارة عربية تميزهم كأمة عن باقي الامم وباقي الشعوب نتيجة نفاعل الاسلام الحضاري مع ما لا ينقصه من الحضارات السابقة على التكوين القومي ..
وبعد ... ؟
وبعد فان الحضارة العربية التي أنشأتها الامة العربية التي أنشأها الاسلام تتضمن ـ مثل كل الحضارات ـ ضوابط للسلوك ، ومعايير للقيم ، وحدودا للنظر خاصة بها ، ومن بينها مؤشر منهجي حضاري ... هو ذلك الذي يتبعه العربي على السجية بدون افتعال وربما بدون أن يعي به .
 من اين اكتسبه ؟
من الاسلام .
من القرآن على وجه التحديد .
قلنا في كتاب " نظرية الثورة العربية " أولى مشكلات المنهج ... هي " الحتمية " . انضباط الأشياء والظواهر بقوانين حتمية . ولنلاحظ من الآن أن تعبير " القوانين " كما نستعمله يساوي في دلالته تعبير " النواميس " أو تعبير " السنن " كما هي مستعملة في الفكر الاسلامي . وعليه فان الحتمية في الاسلام لا يمكن لمسلم أن ينكرها ويبقى مسلما ، فقد اتخذ الاسلام من انضياط نظام الكون ونبات نواميسه حجة على الذين لا يؤمنون . ودعا الناس الى ان يتأملوا ما في الكون من آيات أو سنن لا تتبدل " سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا " ( الأحزاب 62 ) . " ولا تجد لسنة الله تحويلا " ( الاسراء 77 ) . " أفلم ينظروا الى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج ، والارض مددناها وألقينا فيها رواسي ، وأنيتنا فيها من كل زوج بهيج " ( ق 6 و 7 ) ." انظر الى ثمره أذا اثمر وينعه " ( الأنعام 99 ) . " فالق الاصباح وجعل اليل  سكنا والشمس والقمر حسبانا " ( الانعام 96 )  ... والآيات القصص / 71 ، 72 والرعد /4 ، والروم 22 / وفاطر / 27 و 28 ، والجاثية / 43 ، والبقرة / 164 ، والذاريات / 20 و 21 ، وفصلت / 53 ، والانبياء / 22 .. 
في نطاق هذا الكون المنضبط وحركته بسنن لا تتبدل ، من القادر عن تغييره وتطويره ؟ ..
يجيب القرآن أنه " الانسان " . هو الفاعل الصانع المغير المطور ولا تكون الطبيعة المادية الا موضوع فعله . ويستعمل القرآن تعبير " السخرة  " للدلالة على هذه العلاقة . وهو تعبير قوي الدلالة على أن الانسان هو صانع واقعه والقادر المسؤول عن تغييره . " ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض " ( الحج 65 ) . " وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار " ( ابراهيم 32 ) . " وسخر لكم الشمس والقمر {ائبين وسخر لكم الليل والنهار " ( ابراهيم 33 ) . " وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا ، وتستخرجوا منه حلية تلبسونها " ( النحل 14 ) . " وسخر لكم ما في السماوات وما في الارض جميعا " ( الجاثية 13 ) . " .. الخ . ويقطع القرأن في أن شيئا من الواقع لن يتغير الا اذا تغير الناس . " ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " ( الرعد 11 ) . " وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأعلها مصلحون " ( هود 117 ) .
لذلك هو المنهج الاسلامي في كلياته .
قاعدته الأولى أن كل الأشياء والظواهر منضبطة حركتها بقوانين أو سنن حتمية .
وقاعدته الثانية : أنه في نطاق هذه الحتمية يكون الانسان حرا في تغيير واقعه .
وقاعدته الثالثة : أن الانسان وحده القادر على التغيير والمسؤول عنه .
خلال قرون طويلة من الممارسة استقر هذا المنهج في وعي الناس فأصبح " قيمة " تضبط مواقعهم بدون حاجة الى اسناد ديني . ومنه استمدت الحضارة العربية  التي نشأت ونمت واكتملت في ظل الاسلام ذلك الطابع الانساني المميز الذي لا يخطئ الباحثون الاهتداء اليه : الانسان هو البداية . ولقد حصن هذا المنهج الامة العربية ضد كافة المناهج المادية أو المثالية أو النفعية .. ليس ثمة ما يضاف الى صيغته الكلية الا وفاء العرب بما امروا بالوفاء به . تأمل الانسان ودراسته لاكتشاف قوانين حركته منفردا ، ثم قوانين حركته مجتمعا مع غيره . ومع ذلك فسواء أوفوا أو لم يوفوا ، فان حضارته المكونة لشخصيته تزوده حتى بدون أن يعي بمؤشر منهجي هو ان يبدأ نظره الى كل شئ من الانسان ، مؤشر عربي حضاري يوجه المجتهدين في الدراسة الى حيث بدايتها : الانسان ، ويوجه العاملين الى بداية العمل ، الانسان ، ويوجه الراغبين في النصر الى معايير النصر : الانسان  .

***
لماذا فشل المسلمون – اذن – في مواصلة تقدمهم الاجتماعي ؟
نصحح السؤال أولاً لأن صيغته غير صحيحة .
إذ أن الحديث عن الفشل يبدو حديثاً مجرداً من ظروفه التاريخية . فإلى نهاية القرن السادس عشر كانت المجتمعات التي دخلها الاسلام أكثر تقدماً من أي مجتمع آخر . أو على الأقل لم تكن أكثر تخلفاً من غيرها من المجتمعات المعاصرة . فقبل ذلك التاريخ – مثلاً – كانت الحروب الصليبية في بواعثها وفي قواها وفي نظمها وفي أهدافها محكاً للتمايز الحضاري ، ولا نقول العسكري ، بين المعتدين والمدافعين . وكانت تبدو موجة بربرية تحاول اجتياح مجتمع متحضر ، كما اجتاحته موجة غيرها شنها المغول البرابرة . وليس من المنكور أن تلك الحروب الصليبية كانت وساطة ، أو إحدى وسائط ، انتقال الحضارة من العرب الى أوروبا . وهذا لاينفي أنه لم تمض بضعة قرون حتى عادت القوى الأوروبية ففرضت سيطرتها على العالم مسلمين وغير مسلمين . ونحن نعرف أن تلك موجة رأسمالية . ومع ذلك لا نريد أن نحاكمها بما لم نعرفه إلا بعد أكثر من قرن من أنها كانت من أشد الموجات التي اجتاحت العالم عداوة للانسان . فقد استعبدت العالم بجيوش من عبيد الرأسماليين بل نقول انها في نشأتها الأولى كانت ثمرة تقدم علمي لا شك فيه . ولا شك في أن التقدم العلمي تقدم حضاري . هنا بدأ التخلف وهنا فقط يصح طرح السؤال عن الفشل على ان تكون صيغته  :
لماذا فشل المسلمون في الدفاع عن مجتمعاتهم ؟
في حدود هذا الحديث عن المنهج نقول لم يفشل المسلمون . إن الذين فشلوا لم يفشلوا لأنهم مسلمون بل لأنهم لم يوفوا بمسؤوليات ترك لهم الاسلام مسؤولية الوفاء بها . ذلك لأن الاسلام وضع بين أيديهم أسس المنهج وترك لهم استكماله واستعماله .
علمهم أن ثمة قوانين أو نواميس تضبط حركة الاشياء والظواهر حتماً وترك لهم أمر اكتشافها ومعرفة شروط فعاليتها واستخدامها .
وعلمهم أن كل ما في الأرض والسماء مسخر لهم وترك لهم أمر اكتشاف عناصر الأرض والسماء وقواها ومعرفة كيفية تسخيرها لإرادتهم .
وعلمهم أنهم قادرون ومسؤولون عن تطوير واقعهم على ما يريدون وترك لهم إكتشاف مشكلات واقعهم وإمكانيات تغييره وغاية هذا التغيير .
كل هذا لأن الاسلام – كما هو – دين يخاطب الناس كافة ، في كل مكان وفي كل زمان . نقول الاسلام " كما هو " لأننا لا نستطيع ، وما ينبغي لنا ، أن نفهم الاسلام أو أن نحاول فهمه إلا كما هو مطروح في كتابه.
وهو مطروح في كتابه على أنه خطاب إلى الناس كافة ، في كل زمان وفي كل مكان . وما كان الاسلام ليكون على هذا الوجه الانساني الشامل ، بغير قيود من المكان أو الزمان ، لو لم يترك للناس في كل مكان وفي كل زمان أن يتأملوا ويتعلموا ويكتشفوا ويعملوا ويغيروا وفاء منهم بمسؤوليات عن التطور الاجتماعي طبقاً لواقعهم وظروفه التاريخية .
وهكذا ، إذا كنا قد قلنا أن ما يسبق المنهج من مقولات ميتافيزيقية لا يؤثر في صحته إن كان صحيحاً علمياً ، فإن ما يلي المنهج من أحكام في منطلقات وغايات وأساليب التطور الاجتماعي متروك للاجتهاد . نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ، أما ما هو المعروف وما هو المنكر فعلينا أن نكتشفه في واقعنا فنعرفه أو ننكره . وقد بدأ الاجتهاد مع بداية الاسلام . وكان النبي يجتهد فيما لم يأت به نص وكان يخطيء أحياناً في اجتهاده فيعتذر لأصحابه بأنهم أدرى بأمور دنياهم . ومن بعده اجتهد المسلمون في أمور دنياهم وصاغوا اجتهاداتهم في آراء وأفكار ومذاهب عديدة ومختلفة ومتصارعة في كثير من الأوقات . وكل اجتهاد ينسب الى صاحبه ولو أسماه مذهباً اسلامياً . وصحته انه مذهب ( نظرية ) في الفكر الاسلامي . ويتحملون مسؤولية ما في المذاهب من قصور ولهم فضل ما فيها من توفيق . وهي مذاهب لا شاملة في المكان ولا عامة في الزمان ولم تفلت من قانون التطور الحتمي . فاختلفت من مكان الى مكان ومن زمان الى زمان في المكان الواحد . كذلك فعل الامام الشافعي فغير في مذهبه عندما انتقل من العراق الى مصر . ومن قبله أوقف عمر نفاذ نص في القرآن ( المؤلفة قلوبهم ) في ظرف تاريخي لم يكن مسبوقاً في حياة المسلمين . ومن هنا لا يمكن فهم تلك الاجتهادات والمذاهب بعيدة عن ظروفها التاريخية الراهنة إلا ان تكون دعوة الى نظرية ( مذهب ) محددة اجتهد اصحابها فجاءت موفية بمسؤوليتهم كمسلمين عن بيان منطلقات وغايات واساليب التطور الاجتماعي كما يتطلبها واقع مجتمعاتهم . وهو اجتهاد يحتاج الى عناء فيهرب منه الكثيرون .
أياً ما كان الأمر فالاختلاف في الاجتهاد وتعدد المذاهب ( النظريات ) في الفكر الاسلامي لم يكن خروجاً على المنهج أو مساساً بوحدته . لأن ما يتحقق في كل واقع على حدة هو حصيلة معالجة ذلك الواقع على ضوء المنهج . فإن اختلف الواقع اختلفت الحصيلة – الفكرية او العلمية – بالرغم من وحدة المنهج . ولما كان الاسلام لم يلبث أن امتد الى مجتمعات مختلفة في واقعها ومدى تطورها فإن حصيلة التطور الاجتماعي كانت مذاهب مختلفة وممارسة مختلفة ايضاً . فلم يكن هناك مجتمع اسلامي واحد حتى نستطيع أن نقول أن المسلمين عامة فشلوا بما يتضمنه هذا من ايحاء بانهم فشلوا لأنهم مسلمون .
وقد نجح المسلمون في تطوير حياتهم الاجتماعية ، أينما كانوا ، طوال الفترة التي كانوا فيها محتفظين بحريتهم في اكتشاف قوانين الطبيعة وقوانين التطور الاجتماعي . يوم أن كان العلم عبادة والاجتهاد مثوباً ولو كان خاطئاً . وعندما فقدوا حريتهم توقفوا عن التقدم بمعدل السرعة التي كانوا قد بدأوا بها مسيرتهم الحضارية فسبقهم غيرهم . وقد فقدوها في – مجتمعنا – يوم أن تستر الاستبداد بالخلافة وأصبح للأحاديث الموضوعة وللإجماع المصطنع وللقياس الخاطىء وللمذاهب الخاصة قدسية النص القرآني . وأطلقت الأحكام من حدودها في الزمان والمكان ، وتحولت دولة المسلمين إلى دولة كهانة يحكمها الخلفاء ورجال الدين بدلاً من العلماء والفلاسفة والمفكرين والباحثين . فتجمدت المذاهب في الشريعة على مضامين كسبتها في مراحل تاريخية سابقة ، فأصبحت قاصرة عن أن توفي بالحلول الصحيحة لمشكلات الحياة في مراحل تالية . فقام جمودها عائقاً في سبيل التطور . وهكذا كان قد قفل باب الاجتهاد ، استبداداً ، عائقاً دون تقدم المجتمعات الاسلامية ، وليس قفل باب الاجتهاد من الاسلام في شيء بل هو يناقض منهجه  ..

( كانت هذه مقدمات عن المنهج ، ولمعرفة اسس المنهج الانساني عند عصمت سيف الدولة يمكن الرجوع الى كتاب الاسس ) .