بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 27 يناير 2013

صراع مع الذاكرة ..



صراع مع الذاكرة ..

قال تعالى :  " ادْعُ إِلَى سَبِـيـلِ رَبِّكَ بِالْحِكْـمَةِ وَالْمَوْعِـظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّـتِي هِيَ أَحْسَـنُ إِنَّ رَبَّكَ هُـوَ أَعْـلَمُ بِمَنْ ضَـلَّ عَـنْ سَبِـيـلِهِ وَهُـوَ أَعْـلَمُ بِالْمُهْـتَـدِيـنَ، وَإِنْ عَـاقَـبْـتُـمْ فَعَاقـِبُوا بِمِثْـلِ مَا عُـوقِـبْـتُـمْ بِهِ وَلَـئِنْ صَبَـرْتُـمْ  لَهُـوَ خَـيْـرٌ لِلصَّابِرِينَ ". هكذا يأمرنا ديننا  بما أمر به رسولنا ، أن تكون الدعوة الى الله بالحكمة والموعـظة الحسنة ، والصبر على الناس و المخالفين ، وان يكون منهج التغـيير هو اتباع اسلوب الجدل و ليس العـنف والقوة الظالمة ، و ان يكون  ذلك على الملأ وليس بالتسلل ليلا والتخفـّـي عـن انظار الناس ، حيث يفاجئ المجتمع من حين الى آخـر بأعمال تطال الاضرحة ومقامات الاولياء الصالحين في كثير من الاماكن من طرف اشباح لا يتركون اثرا غـير المشاهد المرعـبة من حـفـر للقبور و مصاحف محروقة كتعبير عن الهمجـية والجهل ، وهي هجمة منظمة اقل ما يقال فـيها انها جبانة لان الذين يفعـلون ذلك لا يتحـرّكون الا  ملـثــّـمـيـن ، على عجل من امرهم  وتحت جنح الظلام مثل الخفافـيش .. وهذا يعـني انهم يدركون منذ البداية ان عـملهم غـير مقبول ، لذلك لا يستطـيعـون الجهـر به  ، ولا يقدر احد منهم ان يـُـنسبه لنفسه فيكذبون عندما يتكلمون .. و لعـل الامر قد يتعـدى الكذب الى النفاق ، عندما نراهم يخـفون اعـمالا هي من صميم معـتقداهم ، مما يجعل كل ما يصرّحون به للناس محل شك و ريـبة .. و الواقع ان الهجوم على الاضرحة هو عمل منظم تقوم به جهات معـروفة بانتمائها الى الوهابية ، لم يقع في تونس فحسب ، بل انه وقع في العديد من البلدان من افغانستان الى مصر والمغـرب والجزائر ومالي .. وبنفس الاسلوب ،  مستهدفين بالدرجة الاولى  وحدة المجتمع من خلال استهداف تيار الصوفية الذي يرابط  في تلك المواقع و ينشط داخلها في اطار رؤية خاصة تربط الاف المواطنين بطـقوس ورثوها منذ قـرون طويلة ، ولا يمكن باي حال من الاحوال ان نحاربها بالعـنف او ان نسئ لشريحة كبيرة من المواطنين ، بل عـلينا ان كنا نفهم ديننا حقا ان نعـمل على تغـيير قـناعات الناس بالعلم والتربية وتغيير المناهج والصبر ، خاصة وان اسلافنا الذين فـتحوا بلدانا تمتـدّ مـن مشرق الارض الى مغـربها ، لم يتعاملوا مع ما وجدوه من ارث حضاري بالهدم والحـرق ، وحفـر القـبور .. ولعل بقاء اهـرامات مصـر أكبر دليل على  عظمة الصحابة الذين لم يتوجـّـهوا الى ما تركه الفـراعـنة بالهدم او بالمحو من الذاكـرة ، ولم يفتعـلوا صراعات وهمية مع الماضي ، بل تركوا ذلك التراث الحضاري شاهدا على تاريخ من شيتّـدوه  وهو الماضي الجامد الذي لم يعد له اي اثر في حياتنا سوى ما يبعثه فينا من شعور عميق بالانتماء الحضاري والتاريخ العريق  ...    

 ( نشرية القدس العدد 56 ) .

ثنائية العـقل والحرية في الاسلام ..



ثنائية العـقل والحرية في الاسلام ..  


 ان عظمة الدين الاسلامي تكمن في اعـتماده على العـقـل تجسيدا لحرية الانسان . لذلك لم يكلـّـف الله الا العاقل البالغ ، فجعل شرط التكليف اكتمال العـقل .. ثم اعـتمد في ما أمر به من تكليف  على الحجج العـقلية والاقناع .. و قد ورد هذا المعـنى في العديد من آيات القرآن . قال تعالى : " قـل سيـروا في الأرض فانظـروا كيف بدأ الخلق ( العـنكبوت . 20 ) .. وحتى الترهيب والترغيب من خلال وصف النعيم في الجنة أو وصف العذاب في النار، ذكـره سبحانه ليكون  ذلك جزءا من اختيار الانسان .. فـتـكون وقـتها مسألة الكفـر والايمان ، او مسألة الطاعة والمعصية ، هي مسألة تقـرير مصير يقـرّره الانسان بنـفسه وهو يعـلم كل كـبيـرة وصغـيرة لما سيترتب عن اختياره .. ولو لم يكن ذلك كذلك لما صحّ  اصلا مبدأ العـقـاب والثواب . قال تعالى :" وَمَا كُـنَّا مُعَذِّبِيـنَ حَـتَّى نَبْعـَثَ رَسُولًا  " ( الاسراء 15 ) . قال الحافظ ابن كثير في تفسيره لهذه الآية : إخبار عن عدله تعالى، وأنه لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسول إليه ( انتهى ) .

 لذلك فان التشدّد المفرط في وصف الناس بالكفـر والدعاء عليهم وقـذفهم وتعـنيفهم ، هو من اكثر الاساليب تعارضا مع الدين لانه يمثل مصادرة بالغـيب لما منحه الله لعـباده رأفة بهم ، واغلاقا دون مبرر لباب تركه الله مفـتوحا مدى الحياة وهو باب التوبة ... فمن ادرانا بأن من نسمّيه كافرا سيموت على الكفر ؟ وان آيات القرآن الكريم لتغـني عن الكلام . قال تعالى :  وَلاَ تَـقُـولُوا لِمَنْ أَلْـقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً . ( النساء : ٩٤  )  وقال سبحانه : لَعَـلـّـَـكَ بَاخِعٌ نَـفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِـنِـيـنَ ، إِنْ نَـشَأْ نـُنـَزِّلْ عَـلَيْهِـمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَـظَـلـَّـتْ أَعـْنَـاقُـهُمْ لَهَا خَاضِعـِيـنَ  . ( الشعراء 3 و 4 )   قال بن كثير مفسّرا  : " وقوله :  ( لعلك باخع  ) أي : مهلك  نفسك  .  أي : مما تحرص [ عليهم ] وتحزن عليهم ( ألا يكونوا مؤمنين  ) ، وهذه تسلية من الله لرسوله ، صلوات الله وسلامه عليه ، في عـدم إيمان من لم يؤمن به من الكفار ، كما قال تعالى :  ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) )  فاطر : 8 ) ، وقال :  " فلعـلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا) الكهف : 6 ) " .  ثم قال تعالى :  ( إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فـظـلـّـت أعناقهم لها خاضعـين  ) أي :  ( لو شئنا لأنزلنا آية تضطـرّهم إلى الإيمان قهرا ، ولكنا لا نفعل ذلك  ،  لأنا لا نريد من أحد إلا الإيمان الاخـتـياري ، وقال تعالى :  ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تــُـكره الناس حتى يكونوا مؤمنين  )  ) يونس : 99  ) ، وقال :  ( ولو شاء ربــّـك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين . إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) )  هود : 118 ، 119 ) ، فـنفـذ قدره ، ومضت حكمته ، وقامت حجــّـته البالغة على خلقه بإرسال الرسل إليهم ، وإنزال الكتب عليهم " ( انتهى ) ..  
والله أعلم .. 

 

 ( نشرية القدس العدد 56 ) .

الأحد، 20 يناير 2013

في ذكرى المولد النبوي الشريف ..



في ذكرى المولد النبوي الشريف ..

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهـره على الدين كله ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و على آله و اصحابه اجمعـين ..
قال تعالى : ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) . وقال صلى الله عليه و سلم عن انس بن مالك : ( انك مع من أحببت ) . قال أنس فما فـرحنا بعد الإسلام فرحا أشد من قول النبي صلى الله عـليه وسلم:  فإنك مع من أحببت ...
في مثل هذه المناسبات ، ترتفع اصوات النهي عـن كثير من الاعمال بغـير حق . مدعـية  ان ما لم يفعله الرسول صلى الله عليه و سلم او اصحابه من بعده هو من البدع . و هم يتناسون القاعدة الشرعـية التي يعتمدها و يقرّها كل العلماء وهي ان " الأصل في الأشياء الإباحة لذلك لا حرام إلا ما ورد فيه نص صحيح صريح . " كما يتناسون ما يتـّـبعونه  من مظاهرالسلوك التي لم تكـن حتى لتخطر على بال الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم زمن الوحي .. اذ هي كلها من امور الغـيب الذي لم يكن يعلمه الا الله .. وهؤلاء ان كانوا صادقين فعلا فيمال يدعونه عن  مقولة البدع عليهم ان يتخلوا عـن كل ما ظهر بعد الرسول صلى عليه وسلم من مظاهر حياتية واكتشافات ووسائل عصرية .. عليهم أن يتخلوا عن ركوب السيارة والقطار والطائرة .. وان لا يستعملوا الهاتف الجوال ، والتلفاز والكهرباء والمكيفات وكل الوسائل المنزلية والشخصية الحديثة التي لم يستعملها الرسول صلى الله عليه و سلم او الصحابة ... ثم عليهم ان لا يقيموا في النزل عندما يسافـرون ، و ان لا يفتـرشوا ما لم يستعمله الرسول فراشا له ، وان ينزعوا تلك الاحذية الثمينة التي يشترونها ، ليلبسوا نعالا من جلود الحيوانات ، وعليهم ان لا يستعملوا الاسلحة المتطوّرة ، والمتفجرات التي يقومون بتهريبها ويتاجرون بها .. فاما ان يعيشوا حياة الرسول كاملة فيقلدونه في كل شئ او ان يكـفوا عـن مغالطة الناس .. و الواقع ان كل ما يروّجونه هو البدعة ذاتها . لانه لا يستند الى نص صريح  من كتاب الله او من سنة رسوله . كما ان الثابت عـن رسول الله و صحابته انهم لم يغـيـروا من مأكلهم او ملبسهم او من نمط حياتهم شيئا اثناء البعـثة .  بل ان الرسول صلى الله عليه و سلم قد واصل حياته كما كان قبل الرسالة .. فهو يلبس ما يلبسه اهله وعشيرته من المسلمين ومن غير المسلمين ، ويجلس كما  يجلسون وياكل ما ياكلون ، ويشاركهم افراحهم واتراحهم دون ان يطلب منهم تغييرا لنمط  عيشهم الا ما خالف مقاصد الدين ، ولم يطلب منهم تعقيدا لحياتهم ، بل على العكس من ذلك فقد كان داعيا لليسر لا للعسر في جميع نواحي الحياة .. وهو ما يؤكد ان كل هذه المسائل متروكة للتطور ، وهي  مسائل متغـيـرة ومتبدّلة من زمان الى زمان ، و من مكان الى مكان ، حسب ظـروف الناس ، وان من يفعل عكس ذلك فهو يعارض الفترة السليمة التي تجعل الناس يغـيّـرون عاداتهم وتقاليدهم عندما تصبح قيدا على حريتهم  وتطوّرهم ..

 ( نشرية القدس العدد 55 ) .

بين الدين والمجتمع .



بين الدين والمجتمع .       

قبل الاسلام كانت البشرية تمرّ بالمراحل الاولى البدائية التي ميزت المجتمعات العشائرية والقبلية في كل مكان ، فكانت تلك الحقبة الطويلة  تتميز بالعلاقات القائمة أساسا على الروابط الدموية ، بما فيه من  عـزلة وانغلاق وعدوانية في علاقتها بالآخر ... بينما كانت تشوب علاقاتها الداخلية نزعة نحوالسيطـرة ، والاضطهاد  ، والانحراف الخ ..
ولعل انتشار الكثير من مظاهر الفساد التي حاربها الدين منذ البداية ، دليل واضح على ما افرزته تلك النشاة الاولى  ..  مما استوجب بعث الرسل لاصلاحها وهدايتها  .. و لما كانت البشرية في طفولتها الاولى ، فان الديـن كثيرا ما كان مسايرا للوعي الانساني حين اعتمد في تلك المراحل على الحجج الملموسة المتمثلة في المعجزات بدل الحجج العقلية المجرّدة التي جاءت متأخـرة في عصر القرآن .. فبعـث الله النبيين داعين الى التوحيد والهداية وترك المعاصي ، وكان لكل قوم نبي أو رسول من انفسهم ، فـتـعددت الرسالات بتعـدد الاقوام رغم بقاء مضامينها  .. ولعل من يتامّل نظـرة الاسلام للرسالات السابقة كما وردت  في القرآن الكريم ، يدرك كيف كان الدين يتطور في علاقاته بتطور المجتمعات حيث كان يغـيـر اساليبه مع المحافظة على جوهـره ، حتى ان الله سبحانه قد وصف الرسل و اتباعهم بالمسلمين .. قال تعالى : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا أنك أنت السميع العليم ربنا وإجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ) البقرة 127 ، 128. وقال ايضا : (أم كنتم شهداء إذ حضر يعـقوب الموت إذ قال لبنيه ماتعـبدون من بعدي قالوا نعـبد إلهك وإله أبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلها واحدا ونحن له مسلمون ) البقرة 133. .. كما قال على لسان نوح عليه السلام  وهو يخاطب قومه : ( إن توليتم فما سألتكم من أجـر أن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين ) يونس -72 .. و قال تعالى على لسان موسى عليه السلام : ( ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين ) الأعراف 126 . كما أخبرنا سبحانه عن قوم عيسى عليه السلام فقال : ( وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا أمنا وأشهد بأننا مسلمون ) المائدة 111 .. بل ان الله قد قطع الشك في الدلالة على هذا المعـنى الاجمالي لجوهـر الرسالات السماوية حين ردّ على من يجادل في انتساب ابراهيم عليه السلام الى الديانات السابقة وهو السابق عليها جميعا فيذكرها مرة واحدة ثم يقول : ( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ( آل عمران:67 ) . 
لا يتعارض اذن جوهـر الرسالات مع جوهر الاسلام .. غير ان الدين الاسلامي الذي مهّدت له جميع الاديان السابقة قد جعله الله  خاتما لها و موحدا لجميع الناس باختلاف الوانهم والسنتهم  لذلك اخرجه للناس كافة ، و ميّزه اولا بحججه العقلية ايذانا بدخول البشرية في  مرحلة النضج العقلي والادراك التي تمكـن البشر من الاختيار الحرّ القائم على التمييز بين الخير والشر ، والكفر والايمان .. فكان الاسلام دين العقل والمنطق حيث  كان دائما يحيل الحجة الى العقل ( افلا تنظـرون ، افلا تعقلون ، افلا تبصرون ، افلا يتدبرون ، افلا يتفكرون .. ). .. كما ميزه الله ثانيا بالمسايرة للتطور فكانت احكامه عامة تقبل الاستنباط والاجتهاد في كل زمان ومكان .. الى جانب كونه غير خاص بنمط من انماط المجتمعات في أي عصر ، اقرارا بانتقال البشرية الدائم والمستمر من الاطر الاجتماعية الضيقة الى الاطر الاوسع و الاشمل على المستوى الانساني . أي ان جميع المراحل التي تمر بها البشرية في كل عصر ليست خالدة في الزمان ، و هي متغيرة حتما ، ومتطوّرة من طور الى طور عندما تستنفذ  تلك المكونات طاقاتها فتصبح تلك العلاقات المقتصرة عليها عائقا امام تطوّرها و تقدّمها ، وعندها يحدث تجاوز عن طريق الخروج من تعدد الكيانات الى الوحدة والانصهار طويل المدى الذي يؤدّي الى  ظهور كيانات جديدة اكثـر مقدرة على التطور .. فيتمّ احتواء جميع المكوّنات السابقة  لتصبح مجـتمعة عـناصر اثراء وتـنوّع  لا تقوم الوحدة الا عليها .. بل يظلّ يغـني بعضها بعضا بتـنوّعه و اختلافه ليكون ذلك كله نموذجا لتنوّع الخاص في نطاق العام ، و تـنوّع الجزء في نطاق الكل حتى يصير الخاص  الذي يخص الجزء ملكا للجميع .. فتصبح مثلا جميع الاسر والعشائر والقبائل في عصر الامم ، جزءا لا يتجزأ من الامة .. الذين يتميّزون داخلها بانتماءهم القومي عن غـيرهم دون امتياز . فيكوّنون معا  شعبا واحدا ،  استقر على ارض واحدة  ، فانتج خلال تفاعله الحر ، التلقائي ، الطويل ، ثقافته الخاصة و تاريخه الخاص وحضارته الخاصة ولغته التي يتواصل بها مع شركائه الخ .. كل هذا لا يسير في الكون دون ضوابط بل هو بتدبير واحكام من الله الذي جعله سنة الاهية لا يجدي احدا انكارها ولا يقدر بشرا على تغييرها .. قال تعالى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ . ( الحجرات:13) .
ان هذه الآية لا تدع مجالا للشك في سنة التطور التي يجب ان نتامّلها و نكتشف اسرارها بدل انكارها . كما انها تبين اهم مقصد من مقاصد الدين في ظل تلك الصورة التي خلق الله عليها عباده : حيث الاصل هو الاختلاف والتنوع والتعدد الذي لا يسمح بالتطور الا عندما يتحقق التعايش والتعاون بين جميع البشر في اطار التقوى دون بغي من احد على احد .. لذلك كان للدين مضمونا واحدا ، وجوهرا واحدا هو التوحيد ، والرجوع الى الله لتحقيق كل القيم  الانسانية النبيلة التي اشتركت فيها جميع الرسالات ..
ان هذه الصورة الاجمالية مهمّة لمعـرفة ما حصل من مسايرة و تناسق بين التطور البشري وتطور الأديان . فعندما انتقلت البشرية من اطوار بدائية الى اطوار اكثر شمولا واكثر ارتقاء الى الوحدة الانسانية المنشودة ، كان الدين يتغير كذلك ويتطوّر في اساليبه متحوّلا من الخصوصية القبلية لكل رسالة الى الانفتاح على المجتمعات المجاورة مثلما حصل مع موسى عليه السلام الذي توجه الى مصر لمخاطبة فرعون ، ومثلما فعل السيد المسيح عليه السلام ، الذي بشر قومه برسالة محمد (صلى الله عليه وسلم ) .. وهكذا تم التمهيد لاخراج الرسالة من اطارها القبلي ( القوم ) ، الى الناس كافة ،  بلا قيود ، و لا حدود ..
وقد كان هذا التطور على مستوى شمولية الرسالة الانسانية،  باعثا جديدا لاخراج تلك المجتمعات القبلية من عزلتها ، فاتحا أمامها آفاقا جديد للانصهار و الوحدة على غير الاسس القديمة القائمة على رابطة الدم .. وقد كانت أول خطوة في سبيل ذلك تاسيس  دولة المدينة بعد الهجرة ، ثم توسيع قاعدتها الى مكة بعد الفتح .. وقد قطع الاسلام  قطعا نهائيا  مع الرجوع الى الوراء حين اكد بان الوحي قد انتهى ، و ان الدين قد اكتمل في ظل الشكل الاجتماعي الموجود .. حين قال : ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِينًا ﴾ ( المائدة 3 ) .  و عندما اجزم في قوله ( ان الدين عند الله الاسلام  ) ( آل عمران 13 ) و ان من يبتغي غير ذلك لا يقبل منه .. حيث قال  : ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) . ( آل عمران 85 ) ،  فانه قد قطع ايضا مع الرجوع الى العلاقات القبلية القديمة باعتبار ما تم تاسيسه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم  ، تاركا الآفاق مفتوحة للمزيد من التطوّر ، والوحدة بين البشر .. والله أعلم .

 ( نشرية القدس العدد 55 ) .