بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

عصمت سيف الدولة : جدل الإنسان رسالة إلى الأجيال العربية ـ حبيب عيسى .

عصمت سيف الدولة : جدل الإنسان رسالة إلى الأجيال العربية.
                                 حبيب عيسى . 

 أيها الحفل الكريم : إنني إذ أشكر لكم هذه المشاركة الممتازة في إحياء الذكرى السنوية الأولى لرحيل شيخ القوميين العرب عصمت سيف الدولة ، فإنني أجد نفسي مشدوداً إلى مستقبل الأمة العربية ، وإلى مستقبل الإنسانية جمعاء ، كما رسمه الراحل العظيم ، حيث الإنسان متحرر من العبودية ، والاستبداد ، والاستغلال ، والاستلاب ، وحيث تحيا الأمة العربية ، بما تملك ، وتنتج ، وتجهد ، وحيث يختفي من العالم التمييز العنصري ، والمناطقي ، والطائفي ، والمذهبي ، والطبقي ، والاجتماعي ، وحيث يختفي هذا النظام العالمي ، القديم ، الجديد ، الذي يستمد قوانينه من أعراف القراصنة ، وتجار العبيد ، ورعاة البقر ، وحيث تسود الإنسانية عدالة اجتماعية يستحقها الإنسان ، في كل مكان ، وعلى امتداد الزمان  .
 (1) 
وقبل أن أدخل إلى موضوع البحث الذي خصّني فيه “المنتدى القومي العربي” لابد أن أتقدم بشكر ، وباعتذارين ، إثنيّن :
– أما الشكر ، فهو للجنة التنفيذية “للمنتدى القومي العربي” (رئيساً وأعضاء) ، ليس لأنها تحيي الذكرى  السنوية الأولى لشيخنا الجليل الراحل ، وحسب ، (وهذا ليس بالقليل على أية حال) ، ولكن أيضاً لأنها حتى الآن لم تفكر بتغيير اسم “المنتدى القومي العربي” رغم هذا الحشد من اليافطات المذهبية ، والطائفية ، والإقليمية المعروضة في سوق النخاسة هذه الأيام ، مع الإغراءات ، والهدايا ، وهذا يؤكد أن المعركة مستمرة ، وأن الحديث عن “وفاة العرب” سابق لأوانه…. هم ، الأعداء ، يقولون أنهم كسبوا جولة…. ، ونحن نقول : إنها محنة ، و ستمضي ….  
 – وأما الاعتذار الأول ، فهو ، في حقيقة الأمر ، اعتراف ، و إقرار بأنني لن أدعّي الحياد ، وأنا أتحدث إليكم  عن منهج : “جدل الإنسان” ، لأن هذا مالا أستطيعه . فأنا قادم لأصدقكم القول ، فيما أعتقد ، أنه الصحيح ، لا من أجل المجاملة …… ، فالموقف عصيب ، والأمة جريحة ، والأعداء يرتعون في كل مكان ، والذين أمسكوا العصا من منتصفها ، لسنوات طويلة ، يمسكونها الآن من الطرف الذي يختارونه ، أو يجبرون عليه ، بالعجز ، وقلة الحيلة ، ولا فرق في ذلك …
وإذا كان أجدادنا ، قد قالوا سابقاً : ( آفة الرأي الهوى) ، فأنا أعترف أمامكم ، أنني أهوى ، وأنني متيمّ  بمن أهوى إلى حد اليقين ، وبالتأكيد ، فإن أجدادنا ، لم يقصدوا ،  بأية حال ، أن يكون الإنسان بلا موقف  يدافع عنه ، ويمنحه حياته كلها ، إذا اقتضى الأمر ، ذلك ، بل كانوا يحرضوّن على موقف كهذا ، خاصة إذا كانت الأمة معتدى عليها ، من خارجها ، استعلاء ، ومن داخلها ، خيانة ، واستبداداً ، تدق في ساحاتها ساعة النفير إلى موقف حاد ، كحد السيف ، في زمن يشهر فيه الأعداء ، والخونة سيوف الغدر ، ويقهقهون حتى تنفسخ أشداقهم على مشاهد أشلاء شهدائنا ، ويذرفون الدموع ، حتى تجحظ عيونهم ، على قتلى الأعداء ، فقد حتمّ على جيلنا ، أن يخوض معاركه الفكرية ، في خنادق معركة الدفاع ، عن الوجود ، وعن الحياة ذاتها .
 وأما الاعتذار الثاني ، فهو أنني لن  أتمكن في الدقائق التي حددها لي “المنتدى القومي العربي” ، أن أفي موضوع البحث حقه ، فجدل الإنسان ، الذي استغرق عمر صاحبه ، وجهده ، وبحثه ، لا يمكن أن أحيط في جوانبه المتعددة بدقائق ، لكنها دقائق ثمينة ، على أية حال ، وهي فرصة نادرة ، بالنسبة إليّ ، أن أخاطب هذا الحضور الممتاز ، من أبناء أمتي .
(2)  
وللحديث الجاد عن منهج ” جدل الإنسان ” لابد من الوقوف في محطات رئيسية ثلاث :
– المحطة الأولى : هي الظروف ، والملابسات الفكرية ، والفلسفية ، التي هيأت لولادة منهج  ” جدل الإنسان ” وجعلت منه  ضرورة ، وحاجة …!          
– المحطة الثانية : هي المنهج ذاته ” منهج جدل الإنسان ” .          
– المحطة الثالثة : هي التطبيقات ، والنتائج التي ترتبّت على إعمال المنهج ، في الواقع .
 (3) 
عن المحطة الأولى نقول : أن العالم ، كان قد نفض غبار الحرب العالمية الثانية منشطراً ، انشطاراً حاداً ، إلى كتلتين رئيسيتين ، تتصارعان معاً ، لكنهما تتفقان ، من غير اتفاق ، على مجابهة أية كتلة ثالثة. ولكل من هاتين الكتلتين منهج محدد ، وتجارب في بناء النظم ، والحياة ، والتفكير تريدان نشرها في العالم كله :  
– الكتلة الأولى : فيها بريق الحرية الفردية ، ” دعه يعمل، دعه يمر” ، لكنها انتهت إلى عنصرية استعمارية للعالم ، واستغلال حاد للبشر، وإحياء لأعراف القراصنة في العلاقات الدولية، باختصار شديد فإن التجربة الرأسمالية التهمت ما سمي عصر الأنوار ، وعصر النهضة في أوربا ، وأكلت حتى الليبرالية ، و المساواة ، والعدالة، وأصبح قانون المنفعة الأمريكي ، هو السائد.         
– الكتلة الثانية : فيها بريق العدالة الاجتماعية ، والتخطيط  الاجتماعي ، وإلغاء استغلال الإنسان ، للإنسان لكن ديكتاتورية البروليتاريا ، انتهت إلى ديكتاتورية الأمين العام ، ثم ، إلى تأبيده.. ، وباختصار شديد أيضاً فإن التجربة هناك أكلت أحلام ثوار أكتوبر بالتنمية ، و التطور ، والعدالة، وأكلت أحلام الإنسانية جمعاء ، ببناء تجربة نموذجية ، لمواجهة قراصنة الرأسمالية ، الذين يجوبون العالم .           
– ثم إلى جانب تلك الكتلتين ظهرت كتلة ثالثة ، تتلمس طريقها. يقودها رجال أفذاذ ، حاولوا رسم ملامح طريق ثالث أخذوا فيه من الجدلية المادية ، ومن القانون الطبيعي ، ومن الأفكار المحلية ، والدينية تحت شعار عريض يقول : ” نأخذ ما يناسبنا ، ونطرح ما سواه ” ، لكن التجربة ، أكلت الحلم ، مرة أخرى ، وأكلت قادته الأفذاذ . فتبيّن ، أن هذه الكتلة أخذت أسوأ ما في الكتلتين الأخريين .
(4) 
الوطن العربي كان في القلب ، من ذلك كله ، وأطراف الصراع  الدولي على العالم كانت نشيطة هنا، وتجلياتها الفكرية ، والنظرية ، والمنهجية كانت تتصارع في ساحة الوطن العربي ، صراعا عنيفاً ، وعندما بدأت حركة القومية العربية تتبلور ، بأطر تنظيمية ، في الخمسينات ، من هذا القرن ، فان القضايا السياسية الملحة ، لمواجهة الاعتداء الكثيف على وجود الأمة ، احتلت الأولوية ، وأصبح الاهتمام ، ببلورة منهج فكري محدّد ، يحتل المرتبة الثانية ، من الاهتمام ، وعندما بدا أن حركة القومية العربية انتقلت إلى الهجوم بإقامة دولة “الجمهورية العربية المتحدة” ، وبضرب القوى المعادية ، ضربات موجعة ، بين المحيط والخليج ، وعندما بدا أن عروش حكام الدول الواقعية العدوانية ، التي تحتل أرض الأمة ، بين المحيط والخليج ، تهّتز ، اهتزازا عنيفاً ، فإن الحماسة ، والشعارات ، والانخراط في المعارك اليومية شغل الحركة القومية العربية ، عن الالتفات إلى التأصيل الفكري ، والمنهجي ، والنظري حيث لا وقت للتفلسف ، خاصة ، وإن الإنتاج الفكري للإنسانية ، عبر التاريخ ، معروض لمن يريد ، فلماذا نضيّع الوقت في إنتاج نظري لا حاجة لنا فيه …؟ ، ولماذا هذه “الشوفينية” في المطالبة بنظرية من إنتاج العرب خاصة …؟    
 لكن المسألة ، لم تكن بهذه البساطة ، خاصة بعد الإنذار بالغ الدلالة صبيحة يوم 28 أيلول / سبتمبر 1961 عندما استطاع حفنة من الانفصاليين أن يغتصبوا الإقليم الشمالي للجمهورية العربية المتحدة ، بينما الجماهير العربية الهادرة ، بالحماسة ، عاجزة ، مذهولة رغم غلبتها العددية الساحقة فلا تعرف كيف تواجه الانفصاليين ، ولا تعرف كيف تعيد الوحدة ، كما لم تعرف من قبل كيف تحصّن “الجمهورية العربية المتحدة” ، وتمد حدودها إلى حيث حدود الأمة ، بين المحيط ، والخليج .
 في هذه المحطة بالذات بدأ الإدراك يتبلور ، بأن الحاجة إلى منهج يكون ضابطاً للحركة المطرّدة إلى التقدم ، والوحدة ، ليس ترفاً ، وأن منهج ” دعه يعمل دعه يمر ” لم يؤد إلى سعادة البشرية ، وحريتها  ، وإنما إلى استغلال مزدوج ، فالرأسماليون يستغلون شعوبهم ، ثم يجندونهم ، لاستغلال البشرية بأسرها ، وأن منهج ” ديكتاتورية البروليتاريا ” لم يؤد إلى العدالة الاجتماعية ، فالاستبداد هناك بات نموذجاً ، لأنظمة الطغيان في العالم كله ، وأن منهج التلفيق ، والتجريب ليس ناظما لحركة مضطردة إلى التقدم ، وأن منهج العودة إلى المذاهب ، والأديان ، لا يعني ، أكثر من العودة ، إلى أوحال الفتنة ، والنزول بالأديان إلى ساحة الخلط بين مفاهيم الانتماء الوطني ، والانتماء الديني ، وحدود كل منهما .              
تلك كانت هي الأرضية التي انطلقت منها الحاجة إلى منهج جديد يتجاوز المناهج التي تدمّر الإنسانية ، هذه الأيام . إن لم يكن ” جدل الإنسان ” فليكن سواه ، وباب الاجتهاد مفتوح ، على أية حال ، المهم ، أن يكون اجتهاداً ، لا فتنة .               
 أريد من ذلك ، كله ، أن أقول ، باختصار شديد ، أن المناهج الفكرية ، والفلسفية ، لا تولد من فراغ ، وليست منقطعة الصلة بالواقع ، وإنما ، وإن كانت ، في النهاية ، من إبداع فردي ، لرجل معين تحمل أسمه ، فيما بعد ، فإنها حصيلة لجملة من الإرهاصات الفكرية ، والتفاعل ، والتجريب ، والهزائم ، والانتصارات ، والتراكم الفكري ، فكل إنتاج فكري ، يتضمن شيئاً من النتاج الفكري ، السابق عليه ، ثم إضافة إليه ، يبدعه صاحبه ، ليتحول بدوره إلى تراث فكري ، وهكذا .. فالمناهج النظرية ، هي حاجة للبشرية ، بعد إن تكون المناهج السابقة ، قد استنفذت أغراضها .
 (5) 
ومنهج “جدل الإنسان” الذي أبدعه عصمت سيف الدولة لم يأت من فراغ ، وليس مقطوع الصلة بالإنتاج الفكري الإنساني ، فهو يتضمن شيئاً من هذا النتاج ، وإضافة من مبدعه ، من جهة ، وهو استجابة لحاجة قومية ملحة ، في أخصب مناطق العالم ، التي تتعرض لعدوان عنيف لا يوّفر فيه المعتدون استعمال أي سلاح ، من أي نوع . وبالتالي فإنه من الطبيعي أن يأتي الحل ، من هنا ، مرة أخرى ، في عصر يطرح فيه المترفون ، الذين يستنذفون ثروات العالم ، ويلوثون أجواءه ، بأن “عصر الإيديولوجيات” ، قد انتهى ، ليس لأنه انتهى فعلاً ، ولكن ، حتى لا يفكر أحد في تغيير هذا النظام العالمي الفاسد ، الظالم ، التي يتربّع فوقه ، حفنة من القراصنة ، واللصوص ، بينما الملايين من البشر ، في القاع ، يعانون أقسى ظروف القهر ، والظلم ، التي عرفتها البشرية ، حتى ، في عصورها الأولى .
 (6) 
عن المحطة الثانية ، التي تتعلق بالمنهج ذاته …. “منهج جدل الإنسان” ، فإننا نجد أنفسنا مشدودين للحديث عن مبدع هذا المنهج ، بعد أن تحدثنا عن الظروف الموضوعية التي أحاطت ، به ..
يقول التاريخ : انه في بداية عقد الخمسينات من هذا القرن توجهت فصائل من الفدائيين العرب المصريين إلى قناة السويس لخوض غمار حرب فدائية ضد جنود الاحتلال البريطاني ، ويضيف كتاب التاريخ ، أنه ، قد كان بين تلك الفصائل كتيبة يقودها “عصمت سيف الدولة” ، وأن ما دفع المؤرخ للحديث ، خاصة ، عن تلك الكتيبة بالذات ، والتي كانت تحمل اسم “كتيبة محمد فريد” ، أنها الكتيبة الوحيدة التي حملت معها ، بالإضافة إلى العتاد ، والسلاح ، والزاد … حملت ، مكتبة ضخمة ، بحيث كان أفرادها ، يقاتلون ، ثم يتناوبون على القراءة ، وهكذا …   
ثم ، يقول التاريخ مرة أخرى … أن مجموعة من الشباب العربي في مصر ، وأثناء معركة القناة ، عام 1956 ترسّخت لديها قناعة بأن معركة الأمة العربية ، واحدة ، وأنه لا بد من تشكيل حزب قومي عربي ، لتوحيد الأمة العربية ، وعندما عاد أحد أفراد هذه المجموعة من جولة له في بلاد الشام ، أعلمهم أن مجموعة من الشباب العربي ، في بر الشام ، قد أسسوا حزباً قومياً عربياً أسموه حزب البعث العربي الاشتراكي ، فاتصلت تلك المجموعة ، بالحزب ، واتصل الحزب بها ، وجرت محاورات ونقاشات جادة ، حول مفهوم القومية العربية ، ويقول د. جلال أمين عن تلك الفترة : ” كنا قد أنشأنا فرعاً “لحزب البعث العربي الاشتراكي” في مصر ، في منتصف الخمسينات، ولم يعمّر هذا الفرع ، أكثر من ثلاث سنوات ، إذ اضطررنا لحله ، تنفيذاً للاتفاق الذي تم بين جمال عبد الناصر ، وحزب البعث ، عندما اتفقا على إنشاء وحدة مصر ، وسورية ، في مطلع عام  1958″ ، ويضيف د. جلال أمين: ” اتصل بنا ، وقتها ، عصمت سيف الدولة ، الذي كان يكبرنا ، بنحو عشرة أعوام ، كان متحمساً ، طلق اللسان ، واسع الثقافة ، قاطعاً كحد السيف ، في أحكامه ، وعنيفاً في تقييمه للناس ، والأحداث ، مما جعلنا نتهيب من انضمامه للحزب ، فترددنا في قبوله ، ولم نكن ندري ، وقتها ، أنه ، سيصبح عما قريب ، ملء السمع ، والبصر ، ورائداً ، من رواد الفكر القومي العربي ، ومناضلاً صلباً ، من أجل القومية العربية ، والعدل حتى آخر لحظة في حياته ، نادر المثال ، في جرأته ، وإصراره على المبدأ ” .              
ثم يقول التاريخ ، أنه ، إثر انفصال الإقليم الشمالي عن الجمهورية العربية المتحدة ، وخلال فترة المراجعة ، والدعوة لتأسيس “الاتحاد الاشتراكي العربي” بديلاً عن “الاتحاد القومي” ، أصدر “عصمت سيف الدولة”  مجموعة من الكتيبات ، تحت عناوين : ( قومية عربية يعني إيه ؟ ) ، ( حرية يعني إيه ؟ ) ، ( وحدة يعني إيه ؟ ) ، ( اشتراكية يعني إيه ؟  ) .
(7)  
تلك  الإرهاصات ، كلها ، موضوعياً ، وذاتياً . أدت ، إضافة إلى عوامل أخرى ، أن يبدع عصمت سيف الدولة  “منهج جدل الإنسان” ، الذي ظهر أول مرة ، بتاريخ 15 كانون الثاني ( يناير) 1965. حيث تضمنه كتاب “ أسس الاشتراكية العربية ” ….                     
جاء في المقدمة : ” المنهج العلمي ، يجب أولاً ، وقبل كل شيء ، أن يكون علمياً ، أي مجرداً من التحيّز ، والتعصب ، والخوف . لهذا ، كان على أي عربي ، يريد أن يؤدي دوراً فكرياً ، في هذا الميدان ، أن يبدأ من أصعب النقاط : من الصفر ، لا تبهره الانتصارات ، فيجنح إلى تبريرها ، ولا تخيفه النكسات ، فيحتاط لها ، ولا تستفزه الاعتداءات ، فيتعصب لنفسه ، أو لغيره ، ولا تضغطه الشعارات ، فيجري وراء الجماهير يرفض ما ترفضه ، ويقبل ما تقبله ، وتلك بداية ثقيلة ، إن تجاوزها ، وجد نفسه أمام تراث فكري عريض ، كل تيار فيه ، بالغ الخصوبة ، وعليه عندئذ أن يقبله كتراث ، وأن يستفيد منه ، وأن يطهّر نفسه ، تماماً ، من التعصب معه ، أو ضده ، وأن يفهمه على ضوء الأحداث التي صاحبت نشوءه ، ثم يعزله عنها ليختبره على ضوء الأحداث التي يعيشها … ثم ، لو استطاع أن يهتدي إلى قاعدة علمية بسيطة أصبح محتوماً عليه أن يعود مرة أخرى إلى أمته ليختبر مقدرة القاعدة التي اهتدى إليها … تجيب عن الأسئلة التي تطرح ، عن الإنسان كفرد ، والإنسان في جماعة ، والجماعة في الطبيعة ، وحركة كل هذا في الزمان … كل هذا على ضوء مشكلات العصر ، الذي يعيش .. فيه … ” .                
ماذا يعني هذا في الواقع العربي ؟               
 “يعني ضرورة تجاوز الفراغ العقائدي ، إلى عقيدة ، وتجاوز “التجربة ، والخطأ” إلى منهج علمي ، وتجاوز التجمعات الجماهيرية المتعددة ، إلى حركة جماهيرية واحدة ، ذات منهج علمي ، وعقيدة واضحة ، تعلو بها ، على وحدة الصف  ، أو وحدة الهدف ، أو التضامن ، أو المنظمات الحزبية ، والجماهيرية الإقليمية ، وتتجاوز ، بها ، حتى طاقة الحكومات ، ومقدرتها ، بالقوة التي تستمدها من طاقة الجماهير ، ومقدرتها .. ”                
ثم يقول عصمت سيف الدولة عن “منهج جدل الإنسان” : لقد أعطيته كل ما أمكنني من جهد ، واستطعت فيما أعتقد ، أن أوفر له من ضمانات البحث العلمي ما قدرت عليه من نفسي ، فجاء مجرداً من التحّيز ، والتعصب ، والخوف ، أمّا المضمون فهو كل ما عندي من اجتهاد ، مهما كنت مقتنعاً به ، فإني مقتنع أيضاً ، بأن مناط الصواب ، والخطأ ، هو الحقيقة الموضوعية ، لا ما يدعيه المؤلفون … ولمّا ، أن رأيت أن تلك الفكرة الواحدة قد استطاعت أن تكون قاعدة لمفاهيم عديدة ، دون تناقض بينها ، توهمّت أنني قد أتيت بشيء يستحق أن يخرج للناس ، وربطت بينه كقاعدة انطلاق ، وغايته كحياة مقبلة … ” .
(8)
ان “منهج جدل الإنسان”  يرتكز على أربعة قوانين أساسية ، ثلاثة منها هي : قوانين الجدل ، التي جاء بها هيجل ، وأعملها في الفكر المجرد ، وحملت اسم “الجدلية المثالية” ، ثم أخذها عنه كارل ماركس ، وأعملها في المادة الصماء ، وحملت اسم “الجدلية المادية” ، ثم أخذها عنهما عصمت سيف الدولة وأعملها في الإنسان ، باعتباره ظاهرة نوعية ، تنفرد بأنها ” وحدة من الذكاء والمادة ” ، وحملت اسم “جدل الإنسان” ، وبذلك يقوم “منهج جدل الإنسان”  على القوانين التالية :  
  إن كل الأشياء ، والظواهر منضبطة حركتها من الماضي إلى المستقبل ، بقوانين حتمية معروفة ، أو يمكن معرفتها ، وأن الإنسان نفسه ، لا تفلت حركته ، من هذا النظام .
2- كل الأشياء ، والظواهر يؤثر بعضها ، في بعض ، خلال حركتها ، التي لا تتوقف ، فتلحقها تغيرات مستمرة ، وهذا قانون كلي ، يضبط حركة كل الأشياء ، والظواهر ، بما فيها الإنسان .
3- في نطاق القوانين السابقة ( التأثير المتبادل ، والحركة ، والتغير ) تخضع حركة كل شيء ، وأي شيء في الكون ، لقوانينه النوعية .
4- ينفرد الإنسان “بالجدل” قانونا نوعيا ” للتطور” ، وذلك ، لأن “الجدل” قانون للتطور ، والإنسان وحده ، والمجتمعات البشرية وحدها ، تتطور ، أما الأشياء ، والظواهر الطبيعية الأخرى ، فهي تتحول . وبذلك نصل إلى النتيجة القائلة : أن التغيرات التي تصيب الأشياء ، والظواهر عامة ، تتضمن نوعين : أولهما : ” التحول ” ، وهو ، ما يصيب كل الأشياء ، والظواهر من تغيرات تلقائية ، بفعل التأثير المتبادل ، فيما بينها ، خلال حركتها ، التي لا تتوقف . وثانيهما : ” التطور ” وهو إضافة للأشياء ، والظواهر ، ما كان لها أن تتحقق تلقائياً ، بفعل التأثير المتبادل بين الأشياء ، والظواهر خلال حركتها التي لا تتوقف ، إلا بتدخل ( واع ) بفعالية في القوانين التي تضبط حركة الأشياء ، والظواهر ….، والإنسان ” قادر ” على استخدامها ، لتغيير الأشياء ، والظواهر إلى ما يريد ” .
يمكن القول ، بناء على ذلك : أن ” التحول ” يصيب المادة في كل جزئياتها ، وأنواعها ، من أول الذرات إلى آخر المجرات … أما “التطور” فلا يصيب إلا الظواهر الإنسانية حيث تخضع حركة الإنسان وحده لقانون ” الجدل ” ، بالإضافة إلى خضوعه ، للقوانين الأخرى .
(9)
 إن أعظم دروس “الجدل” على الإطلاق هو : ” أولوية الإنسان ” لا بأي مفهوم ميتافيزيقي ، أو مثالي  ، أو أخلاقي ، ولكن في حركة التطور الاجتماعي ، يعتبر الإنسان وحده ، هو أداة تغيير واقعه ، وأن الناس وحدهم هم أداة الخلق في التطور الاجتماعي ، وبذلك نقول :  يتوقف “التطور الاجتماعي” من حيث مضمونه ، واتجاهه ، ومعدل سرعته ، ونصيبه من النجاح ، أو الفشل ، على العنصر البشري ، في أي مجتمع ، وكل ما عداه من قوى الطبيعة ، وموادها ، فهي إمكانيات متاحة ، والبشر ، وحدهم ، قادرون على استخدام تلك القوى ، والمواد في صنع “التطور الاجتماعي” . أما كيف يسير قانون “الجدل” في الإنسان … ؟ فيقول عصمت سيف الدولة : ” في الإنسان نفسه ، يتناقض الماضي ، والمستقبل ، ويتولى الإنسان نفسه ، حل التناقض ، بالعمل ، إضافة فيها من الماضي ، والمستقبل ، ولكن تتجاوزهما ، إلى خلق جديد ” . والنقيضان في “جدل الإنسان” هما الماضي ، والمستقبل ، اللذان يتبع أحدهما الآخر ، ويلغيه ، ولا يلتقي به ، قط ، ومع هذا يجمعهما الإنسان ، ويضعهما وجهاً لوجه ، في ذاته .
(10)  
لكن ، كيف يسير “قانون الجدل” في المجتمع … ؟ ، يقول : عندما نرّد الفرد ” الإنسان ” إلى مجتمعه ، لنرى ما يؤثر في فعالية قانونه ، وما يتأثر بها ، نجد : أن الواقع الاجتماعي ، هو محصلة تطور تاريخي ، وهو الذي يسهم في إثارة المشكلات ، وهو محدد موضوعياً ، لذلك فإن الحل الصحيح لأية مشكلة اجتماعية محدد موضوعيا ، والإنسان يشق طريقه الحتمي إلى الحرية ، بقدر ما يكتشف الحل الصحيح ، وينفذه ، ويفشل في تحقيق الحرية ، بقدر ما يجهل ، ذلك الحل الصحيح ، فلا ينفذه بالعمل ، ويهتدي الناس في مجتمع معين إلى الحل الصحيح بالجدل المشترك ، أو ما نسميه ” الجدل الاجتماعي ” أي المعرفة المشتركة ، بالمشكلات المشتركة ، والرأي المشترك ، في حلها ، والعمل المشترك تنفيذاً للحل ، فيتحقق به ، إضافة تحل بها المشكلات الاجتماعية ، وتثور بها مشكلات اجتماعية جديدة ، فتحل … وهكذا … فإن المجتمعات تتطور من خلال حل مشكلات الناس فيها ، بالعمل .                
 وبما أن الناس يختلفون في درجة معرفتهم ، وفي تقديم الحلول الصحيحة ، لمشكلاتهم ، فإنه ينشب بينهم صراع اجتماعي ، و”الصراع الاجتماعي” يكون حتمياً لإزاحة أية عقبة تقف في سبيل الجدل الاجتماعي ، ويتوقف التطور على قدر ما يستنفذ الصراع الاجتماعي ، من قوة ، إلى أن تزاح العقبة التي أقامها موقف الذين حاولوا تعويقه .
 (11)
إذن ، فالتطور الاجتماعي ، استناداً إلى ” جدل الإنسان ” ، ثم إلى ” الجدل الاجتماعي ” ، يبدأ من الواقع الاجتماعي ، كما هو ، بالمجتمع ، كما هو ، بالبشر في واقعهم المعين المشترك ، كما هو ، ولا يتم التطور إلا بقدر ما يشارك الناس في طرح المشكلات الاجتماعية ، ومناقشتها ، ومحاولة معرفة حلولها الصحيحة ، والمساهمة في العمل لحلها . بعد ذلك يمكن تحديد صيغة واحدة “لقانون التطور الاجتماعي” كما يلي : ” في حدود الكل الشامل للطبيعة ، والإنسان ، كل شيء مؤثر في غيره ، متأثر به ، وكل شيء ، في حركة دائمة ، وكل شيء ، في تغير مستمر ، وفي هذا الإطار الشامل ، يتحول كل شيء طبقاً لقانونه النوعي ، وينفرد الإنسان ، بالجدل ، قانوناً نوعياً لتطوره ، وفي الإنسان نفسه ، يتناقض الماضي ، والمستقبل ، ويتولى الإنسان نفسه حل التناقض ، بالعمل ، إضافة ، فيها من الماضي ، ومن المستقبل ، ولكن تتجاوزها إلى خلق جديد ” .                
يترتب على ذلك ، أن أية محاولة لتغيير الواقع ، على ضوء “جدل الإنسان” تفرض علينا أن نبدأ ، بتحديد واقعنا البشري ، من خلال الإجابة على السؤال ؟ من نحن … ؟ ، وعندما نعرف ، من نحن ؟ ، وما هو مجتمعنا ؟ ، فلن تكون عملية التغيير ، تجريداً . ويترتب على ذلك ، أن لكل أمة ، أبعاداً ثلاثة ، هي : 
– البعد الأول : يحددها ، من حيث علاقتها بالجماعات البشرية ، الخارجة عنها . 
– البعد الثاني : يحددها ، من حيث علاقتها بالجماعات الإنسانية ، الداخلة فيها . 
– البعد الثالث : يحددها ، من حيث مسيرتها ، كأمة . 
بالإضافة ، إلى حدها الرابع ” الحد الزماني ” الذي هو الواقع الاجتماعي للأمة ، في وقت معين .
 (12) 
لماذا “جدل الإنسان”  ؟ ، وما هي ضرورة المنهج … ؟               
 إن المسألة ، لا تتعلق بترف فكري ، ولا بالمباهاة بإنتاج نظري ، ولا مماحكة أصحاب المناهج الأخرى ، والدخول معهم في معارك لا تنتهي ، وإنما يتعلق الأمر كله ، بأمة عربية ممنوع عليها أن تتطور ، ممنوع عليها أن تعيش بما تملك ، ممنوع عليها أن تقول ـ أنها موجودة ، هكذا ، ممنوع علينا ، أن نكون عرباً ، كونوا ما شئتم ، إلا أن تكونوا عرباً ، ولا أتحدث عن العروبة ، هنا ، بمعنى الانتماء ، ولكن بمعنى الفعالية ، والشخصية الاعتبارية، والتأثير في عالم ، هي جزء منه… ممنوع عليها ذلك كله .. فإن قلتم إن هذا المنع جار بقرار دولي… فهو صحيح ، وإن قلتم أنه جار بخيانة من بعض أبناء الأمة ذاتها ، فهذا صحيح أيضاً ، وان قلتم أنه نتيجة عجز أبناء الأمة المخلصين ، فهذا صحيح كذلك .. ما يعنينا ، هنا ، هو معالجة هذا العجز، هو الانتقال ، من هذه السلبية التي تضع الكتلة الكبيرة من جماهير الأمة في موقع الفرجة على ذبح الأمة ، وتقطيع أوصالها ، إلى حالة يتحمل كلٌ مسؤوليته .              
وهذا يعني ، أن الذي يعنينا ، هو الفكر المسمى “قومي تقدمي” ، أو ما ينسب إليه ، وهو كثير ، وأزمة المنهج فيه واضحة ، ففيه يتحدث الكثيرون عن الأمة العربية ، والقومية العربية ، وعن الوحدة العربية ، وعما يجب ، أو لا يجب في الوطن العربي … دون أن نستطيع معرفة كيف توصلوا إلى ما يتحدثون فيه ، إلا أن يكون ترجمة لشعورهم ، بالانتماء القومي ، والشعور ، بالانتماء القومي ، قد يكون ذا دلالة صحيحة على وجود أمة ينتمي إليها المتحدث ، ولكنه لا يصلح مصدراً لمعرفة منطلقات تغيير الواقع القومي ، وغايته ، وأسلوبه ، يترتب على هذا ، أن الوحدة الفكرية ، بين القوميين التقدميين ، متوقفة على حل مشكلة المنهج في الفكر القومي التقدمي ، ذلك ، أننا في حاجة ماسة ، إلى معرفة كيف يكون الوجود القومي ، الذي هو محصلة تاريخ ماض ، ضابطاً لحركة تصنع المستقبل …؟ ، كيف يكون الانتماء القومي السلبي التزاماً حركياً ايجابياً ….؟ ، ونحن لا نعرف هذا ، إلا إذا عرفنا القوانين ، التي تضبط حركة المجتمعات ، من الماضي ، إلى المستقبل  .
 (13) 
أما عن المحطة الثالثة : المتعلقة بالتطبيق ، والنتائج التي ترتبت على إعمال المنهج في الواقع ، ودراسة المشكلات ، والظواهر ، بالاستناد إلى “منهج جدل الإنسان” نلحظ موقفاً استراتيجياً ثابتاً ، من مجمل القضايا المبحوثة ، يصمد أمام المتغيرات العنيفة ، فعلى مدى ثلاثين عاماً ، بدءاً من عام 1965 ، عالج   د . عصمت سيف الدولة ، كافة القضايا المطروحة ، والملحّة ، التي عاصرها استناداً إلى “منهج جدل الإنسان” ، فلا نعثر على تناقض بين موقف ، وآخر ، وإنما خط متسق من المواقف ، لم تقطعّه الأحداث ، والمتغيرات ، وكأنه سبيكة متجانسة ، لمواجهة الظروف المتغيّرة ، والصمود في وجه أعاصيرها :
1- إن المجتمعات تتطور ، خلال حل المشكلات التي يطرحها واقعها مستهدفة دائما إشباع حاجاتها المادية ، والثقافية المتزايدة ، أبداً .
2- ما دمنا أمة عربية واحدة ، فإن هذا يعني أن تاريخنا ، الذي قد نعرف كل أحداثه ، وقد لا نعرفها ، قد استنفذ خلال بحث أجدادنا عن حياة أفضل كل إمكانيات ، العشائر ، والقبائل ، والشعوب ، قبل أن تلتحم لتكوّن أمة عربية واحدة ، وأنها عندما اكتملت تكويناً ، كانت بذلك تقدم دليلاً موضوعياً ، غير قابل للنقض  ، على أن ثمة وحدة موضوعية ، قد نعرفها ، وقد لا نعرفها ، بين كل المشكلات التي يطرحها واقعنا القومي ، أياً كان مضمونها ، وإنها بهذا المعنى ، مشكلات قومية ، لا يمكن أن تجد حلها الصحيح ، إلا بإمكانات قومية ، وبقوى قومية ، في نطاق المصير القومي .
 3- إن وحدة الوجود القومي ، تحتم وحدة الدولة فيها ، بمعنى أن الدولة القومية ، التي تشمل الشعب ، والوطن ، كما هما محددان تاريخياً ، هي وحدها ، التي تجسّد سيادة الشعب ، على وطنه القومي ، ومشاركته التاريخية ، فيه .
 4- إن التقييم القومي ، للدولة الإقليمية ، أنها مؤسسة ، رجعية ، وفاشلة ، وهذا يصح بالنسبة إلى جميع الدول الإقليمية ، بدون استثناء .
 5- إن الأحزاب الإقليمية ، نماذج مثالية ، للفشل ، لأن أقصى نجاح لأي حزب إقليمي ، هو أن يستولي على السلطة في دولته الإقليمية ، التي هي ذاتها ، مؤسسة فاشلة ، فإن فشل في الاستيلاء على السلطة ، فهو أكثر فشلاً من الحاكمين أصحاب الدولة الإقليمية .
6- ليس صحيحاً أن القومية ، هدف برجوازي ، وأن العمال لا وطن لهم ، فقد ثبت ، أن للعمال وطن ، وأن البرجوازيين لا وطن لهم ، وأنهم يبحثون وراء الربح إلى أقصى موقع في هذا العالم ، ويتعاونون عن طريق الشركات متعددة الجنسيات ، وجواسيس الدول المهيمنة ، على النظام الدولي ، في سرقة ثروات الشعوب ، في كل مكان متاح لهم ، في هذا العالم .
 7- إن فلسطين ، كجزء من الوطن العربي ، إقليم مملوك ، ملكية مشتركة ، للشعب العربي كله ، وليس ملكاً خاصاً لشعب فلسطين ، وأن الشعب العربي كله ، ومن باب أولى شعب فلسطين وحده ، لا يملك الحق في التنازل ، أو التفريط ، أو المساومة على حرية فلسطين ، وأن مسؤولية تحرير فلسطين واقعة على الشعب العربي كله ، وليس على الشعب الفلسطيني وحده ، وأن كل الاتفاقيات ، أو المعاهدات ، أو القرارات ، والدساتير ، والمواقف ، والتصريحات ، سواء كانت صادرة عن دول أجنبية ، أو عن دول عربية ، أو عن بعض الفلسطينيين ، في الماضي ، أو الآن ، أو في المستقبل ، تمس حرية فلسطين ، غير مشروعة قومياً ، فهي ليست حجة على الأمة العربية ، ولا قيداً على حقها ، في تحرير فلسطين .  
8- لما كانت الأمة العربية ، تكويناً تاريخياً ، فإن اشتراك الشعب العربي ، في الوطن العربي ، هو مشاركة تاريخية بين الأجيال المتعاقبة ، وهذا يعني أنه ، ليس من حق الشعب العربي كله ، من المحيط إلى الخليج ، ولو كان ممثلاً في دولة الوحدة ، أن يتنازل عن أرض فلسطين ، أو أن يقبل الوجود الصهيوني على الأرض المغتصبة ، إنه بهذا يتصرف فيما لا يملكه وحده ، لأنه ملك مشترك بينه ، وبين الأجيال العربية القادمة ، ولو فعل ، لما كان ما يفعله حجة على الأجيال القادمة من الشعب العربي ….
(14)
 لم يترك د. عصمت سيف الدولة ، حدثاً يمر ، دون أن يشارك فيه ، لم يجامل أحداً ، منذ عام 1965، فقد أدرك أنه ، واستناداً إلى “منهج جدل الإنسان” ، أن الأمة تتعرض لمخاطر جسيمة ، وأن على الجماهير العربية ، أن تنتظم ، بتنظيم قومي ، فصاغ بياناً تأسيسياً لذلك ، حدد فيه كيف يمكن أن يولد هذا التنظيم ، من القاعدة ، إلى القمة ، وهو البيان الذي طاف الوطن العربي ، في تلك الأيام ، وأطلق عليه الشباب العربي في ذلك الوقت أسم ( بيان طارق ) تعبيراً عن حرق المراكب مع الإقليمية تماماً ، ثم أصدر كتبه عن الطريق إلى الوحدة ، والطريق إلى الاشتراكية ، والطريق إلى وحدة القوى العربية التقدمية ، والطريق إلى الديمقراطية ، ثم حلتّ بالعرب نكسة 5 حزيران ، يونيه ، فصاغ رسائله الشهيرة إلى الشباب العربي تحت عنوان ( ما العمل ؟ ) ، وعندما رحل جمال عبد الناصر ، أحس د . عصمت سيف الدولة ، بالخطر الداهم ، فجمع أوراقه كلها ، ودفعها إلى بيروت لنشر كتابه ” نظرية الثورة العربية ” ، وما كاد المخطوط يصل إلى بيروت ، حتى كان عصمت سيف الدولة قد أودع السجن ، تحت لائحة اتهام ، بأنه كاتب بيان ” طارق ” من جهة ، وأنه يؤسس لتنظيم قومي يهدف إلى إزالة الدول ” العربية ” كلها ، وكانت المفاجأة ، أنه لم ينف التهمة الأولى ، ولا الثانية ، وإنما قدم دفاعاً ، أو هجوماً ، لا سابق له في تاريخ القضاء ، استند فيه إلى “منهج جدل الإنسان” ، وإلى ، أن الثورة القومية على دول التجزئة ، هي عمل مشروع قانوناً ، ثم ، وعندما خرج من السجن جمع أوراق السجن في كتابه ” إعدام السجان ” ، وعندما وقع الرئيس السادات اتفاقية فصل القوات الثانية أرسل رسالة تاريخية إلى مجلس الشعب في مصر يحذرّه فيها من التصديق على المعاهدة ، لأنها خرق للدستور ، ثم اتبعها بكتاب تم توزيعه سراً تحت عنوان ” حكم بالخيانة ” تضمن إصدار حكم قضائي باسم الشعب العربي في مصر ، بإعدام الرئيس السادات ، وترك تنفيذ القرار للشعب العربي ، بالطرق المناسبة ، ثم كتب عن الأحزاب ، ومشكلة الديمقراطية في مصر ، وكتاباً آخر عن النظام النيابي ، وتقدم بدفاع تاريخي عن المشاركين في مظاهرات 18 و 19 يناير 1977 صدر بكتاب تحت عنوان ” دفاع عن الشعب ” وقد تقدم بدفاع آخر عن الجماعات الشيوعية في مصر صدر بكتاب آخر تحت عنوان ” دفاع عن الوطن ”  ثم تقدم بدفاع هام عن جماعة الجهاد وتلاه كتاب عن جمال عبد الناصر ، ثم زج به الرئيس السادات بالسجن مرة أخرى ، في أواخر أيامه ، وعندما ألقى الصهاينة ، بعرب فلسطين ، بالبحر أمام شواطيء بيروت عام 1982  ، التحق بهم في “مجلسهم الوطني” في الجزائر ، يناشدهم ، أن لا يعترفوا “بدولة إسرائيل” تحت أي ظرف ، وأنه ، إذا لم يعرفوا كيف يحررون فلسطين ، فليكفوا على الأقل عن التفريط بها ، ثم عاد إلى مصر ، ليدافع عن “ثورة مصر” ، ويقدم مرافعة ، قل نظيرها ، في التاريخ ، وليكتب عن “العروبة والأسلام” كتابه الهام الذي حمل الاسم ذاته ، يدافع فيه عن الأمة ، وهويتها ، وأصالتها ، وعن الدين الحنيف معاً ، ويحّذر فيه من الفتنة ، ومن الخلط بالمفاهيم ، ونراه يتحدث عن فصائل الحركة العربية القومية ، التي بدأت في المشرق خلال الفترة الأخيرة ، من الحكم العثماني ، مثل ” المنتدى العربي ” ، و ” الجمعية القحطانية ” وإلى آخرهم ثم يتساءل ( هل كان القادة مسلمين ، أو غير مسلمين ؟ ) ، فيقول : هذا سؤال لا ننزلق إلى أوحال الإجابة عليه ، نحن نعرفهم جميعاً ، عرباً ، دافعوا عن أمتهم ، واستشهد الكثير منهم في سبيل الدفاع عنها ، ونعرف منهم دفعة واحدة من الذين استشهدوا ، على أعواد مشانق السفاح التركي ” جمال باشا ” ، وبعد أن يعدد أسماءهم ، يتساءل مستنكراً ، ( فمن الذي يجرؤ أن يخوض في دماء شهداء الأمة العربية ليبحث عن الدين الذي كانوا إليه ينتمون …. ؟ )              
ثم يقول : ( لا يمكن الاحتجاج بالإسلام لإنكار الوجود العربي ، ولا الاستناد إليه في موقف مضاد للقومية العربية ، إلا إذا أنكرنا على الإسلام ، مضمونه الثوري الحضاري ، الذي أسهم في تكوين الأمة العربية ، و من ناحية أخرى ، لا يمكن إسناد الوجود العربي ، إلى الإسلام وحده ، لأن الأمة العربية كانت ثمرة تفاعل حضاري ، أسهمت فيه كل الشعوب ، والجماعات السابقة على وجود الإسلام ، بكل ، من فيها ، من مسلمين  ، وغير مسلمين  ) ....
(15) 
 ذلك كان بعض من “عصمت سيف الدولة” ، وبعض من منهجه ، وبعض من تراثه الفكري الخصيب الأصيل ، وذلك كان بعض من مواقفه الشجاعة الأصيلة ، فمن النادر ، أن نجد في التاريخ ، رجلاً تتسق فيه الفكرة ، مع الممارسة ، مع السلوك ، مع الموقف ، كعصمت سيف الدولة ، ففي غياب المؤسسة الاعتبارية التي تمثل الأمة العربية ، كان عصمت سيف الدولة ، يعتبر نفسه ، أنه صاحب هذه الأمة ، وأنه مسؤول عنها ، وبالتالي فإنه لا يمكن أن يسكت ، حتى عن مجرد التلميح الذي يسيء إليها .                
 في أواخر أيامه ، دعي إلى ندوة على هامش معرض القاهرة الدولي للكتاب ، وأراد أحدهم ، أن يفتح حواراَ تحت عنوان ” الموضوعية والواقعية ” حول التطبيع مع الصهاينة ، ففوجيء الحضور ، بعصمت سيف الدولة ، يدق على الطاولة بيده ، معلناً أن ” فلانا ” هذا يريد أن يقول كلاماً عن التطبيع ، ثم يقول ، أن هذا الكلام قد قيل بحضور عصمت سيف الدولة ، وهذا غير مسموح فيه أبداً . إنني أفضّل الانتحار على أن ألتقي بالصهاينة ، أو أبحث ، مجرد بحث ، أو أشارك في بحث عن التطبيع معهم  . ووقف معلناً فض الجلسة على الفور .                      
هذا هو عصمت سيف الدولة ، الذي رحل عنا ، منذ عام ، صحيح انه رحل حزيناً قلقاً على مستقبل أمته ، لكنه رحل شامخاً ، واثقاً ، بأن الأمة ستنهض لحمل رسالتها التاريخية ، وعندما تقرر الأجيال العربية القادمة ، أن تنتقل إلى ساحة الفعل القومي الثوري ، لإحياء الأمة ، والانتصار لها ، ستجد أن عصمت سيف الدولة ، قد ترك لها نهجاً ، وتراثاً ، ومدرسة لن تضل الطريق ، إن هي اقتدت ، وتمثلت . وأما ، ما لاقاه عصمت سيف الدولة ، من عداء ، واستعداء ، فلن ينال من مصداقية نهجه ، ونضاله ، وسيرته العطرة ، وأما ، ما ينفع الناس ، فيمكث في الأرض ...



 بيروت : 2 / 4 /  1997   “ المنتدى القومي العربي” 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق