المرجعية
التاريخية في الأثر الأدبي للدكتور عصمت سيف الدولة .
(2)
» يا عزيز عيني وأنا بدّي أروّح بلدي ... «
خواطر / خالد
فهمي
نُشر في مجلة بدايات ، العددان 23
- 24 .
.... وإذا انتقلنا لتفاصيل حياة هؤلاء الفلّاحين بعد "كبسهم" في فيالق العمل المصريّة فلن نجد خيراً من علياء مسلم وأبحاثها الدقيقة في الوثائق البريطانيّة . فإضافةً لعثورها على وثائقَ هامّة تؤكّد أنّ هؤلاء الرجال خدموا في الجيش البريطانيّ لا في الجيش المصريّ ، أجرتْ علياء مسلم تأريخاً شفهيّاً مع فلّاحي فيالق العمل . وقد قامتْ بهذا العمل بشكلٍ فريد وفَذّ ، فقد تعقّبتْ أغنيةً دأب هؤلاءِ الفلّاحون على ترديدها أثناء خدمتهم الطويلة في الجيش البريطانيّ ، وتتبّعتْ هذه الأغنية ، إن جاز التعبير، في سيناء ففلسطين ففرنسا . كان الرجال ينشدون هذه الأغنية أثناء العمل على مدّ السكك الحديديّة في سيناء ، وأثناء تفريغ السفن والمراكب على سواحل فلسطين ، وأثناء حفر الخنادق على طول الجبهة الغربيّة في شماليّ فرنسا .
استمعتْ علياء مسلم للرجال وهم يغنّون . درستْ كلماتِ الأغنية
وحلّلت موسيقاها . ثمّ رسمتْ صورةً دقيقة لحياة هؤلاء الرجال اليوميّة : علاقتهم
بقادتهم البريطانيّين ، إحساسهم بالغربة ، وحنينهم لوطنهم ، جُوعهم ، مرضهم ،
وموتهم.
عندما أقول إنّ علياء مسلم أجرتْ تأريخاً شفاهيّاً فلا أقصد بالطبع أنّها
استجوبتْ هؤلاء الرجال ، بل أقصد أنّها اعتمدتْ على مصادرَ أرشيفيّة بريطانيّةٍ
أشارتْ ، بدورها ، لهذه الأغنية التي دأب الفلّاحون على ترديدها . وبشكل أكثر
تحديداً ، تتبّعتْ مسلم رواياتٍ لملازمين بريطانيّين علّقوا على هذه الأغنية ، وعن
طريق تحديدها لأماكن وتواريخ هذه الروايات تمكّنتْ من تتبّع الرجال وأغانيهم من
القاهرة للعريش ثمّ رفح فعكّا فبيروت فاللاذقية وأخيراً على متن السفن التي
أقلّتْهم لبولونيا على بُعد أميالٍ قليلة غربيّ جبهة القتال في شمال شرقيّ فرنسا .
كما عثرتْ مسلم على تقارير بريطانيّة للأغنية نفسها أنشدَهَا العمّالُ المصريّون
عند رجوعهم لبلادهم عام 1918 .
العمال المصريون على متن السفينة التي أقلتهم لبولونيا شمال فرنسا ، 1917
لم تكن الأغنية سوى أغنية "يا عزيز عيني" التي لحّنها سيّد درويش وأنشدتْها نعيمة المصريّة في السنوات القليلة السابقة على الحرب . وبدراسة تاريخ أسطوانات الفونوغراف في مصر تقول مسلم إنّ "يا عزيز عيني" أغنية من الفولكلور المصريّ تعود لفترةٍ أقْدم من سنوات الحرب العالميّة الأولى بكثير، وإنّ كلماتها التي تحمل معاني الغربة والضياع والحسرة تعبّر عن تجارب التجنيد المصريّة طوال القرن التاسع عشر. وكدارسٍ لتاريخ جيش محمّد علي ولتجربة آلاف الفلّاحين الذين جُّندوا في هذا الجيش ، أستطيع القول إنّي أوافق علياء مسلم في حكمها هذا .
يا عزيز عيني وانا بدّي أروّح بلدي
آه يا عزيز عيني وانا بدّي أروّح بلدي
آه يا عزيز عيني بعدك على عيني
صابح مسافر وداخل ليه يودّعني
بكى وبلّ المحارم قلت ليه يعني
هو البكي صنْعتك ولّا دلع يعني
لا هو البكي صنْعتي ولا هو دلع يعني
لولا كلام العوازل مر يوجعني
آه يا عزيز عيني بعدك على عيني
وتقول علياء مسلم عند تحليلها للأغنية إنّها متعدّدة الطبقات ، وإنّها تتراوح
بين تجربة الرجال الذين سيقوا إلى الحرب (يا عزيز عيني وانا بدّي أروح بلدي) وألم الأحبّة
الذين هُجّروا (هو البكى صنْعتك ولا دلع يعني) . كما تلفت أنظارنا لمعلومة هامّة ،
ففي أثناء الحرب تحوّرت كلمات الأغنية على نحوٍ دالٍّ حين أضحت "بلدي
يا بلدي والسلطة خَدِت ولدي" . الأغنية وبتنويعاتها المختلفة ، تعبّر عن الإحساس العميق بالغربة المستشري في
الصعيد قُبيل اندلاع الحرب وأثناءها .
الثورة الفلّاحيّة تفتتح ثورة 1919 :
وفي دراسة ثاقبةٍ أخرى تحلّل مسلم معنى هذه الكلمة المفتاحيّة ،
السلطة ، وإيحاءاتها ، فتستكمل جهودها في مجال التأريخ الشفاهي وتستمع لأغاني
العمّال ونكاتِهم في جبهات الحرب بالإضافة إلى الجبهة الداخليّة ، تلك الأغاني
والنكات التي استرقَ السمع إليها ودوّنها الملازمون البريطانيون . كما تستحضرُ
هتافات ثورة 1919 وشعاراتِها ، التي عكستْ مواقفَ ضدّ الحكومة أحياناً وضدّ الوفد
أحياناً أخرى . ثمّ تُسقط مسلم كل هذه المادّة السمعيّة على المذكّرات الفريدة
التي كتبها عصمتْ سيف الدولة والتي نُشرتْ في جزأين طُبع الأوّل عام 1995 وصدر
الثاني عام 1996 قبل وفاة المؤلّف بأشهرٍ قليلة .
كان عصمتْ سيف الدولة محامياً
مشهوراً وكاتباً عروبيّاً له مؤلّفاتٌ كثيرة ، وتتّضح من مذكّراته نظرتُه الثاقبة
لعادات وتقاليد قريته في الصعيد وقدرتُه على رصْد تلك العادات بعيون أنثروبولوجيّة
حادّة . لكنّ ما يهمّنا هنا هو وصفُه لتجربة أحد الفلّاحين وانخراطه في «فيالق العمل
المصريّة» ، تلك التجربة التي يوردها في الجزء الثاني من المذكّرات . يمكن اعتبار
هذا الجزء الذي نُشرَ بعنوان "مشايخ جبل البداري" كتعليقٍ على هذا
المصطلح المحوريّ ، أي "السلطة" ، السلطة العسكريّة البريطانيّة
تعاوِنُها سلطة الإدارة المحلّيّة للحكومة المصريّة. ويجدر بنا ، مرّة أخرى ، أن
نعتمد على قراءة علياء مسلم لنصّ عصمت سيف الدولة الثريّ والمعقّد حتى نفهم كيف
سعت السلطة للسيطرة على حياة آلاف الرجال وأجسادهم حتى تزجَّ بهم للعمل في فيالق
العمل ، وكيف قاوم هؤلاء الرجالُ تلك السلطة وامتنعوا عن التطوّع في فيالق العمل
تلك .
تتوقّف مسلم عند قصّةٍ دالّة
يرويها سيف الدولة في نصّه الرائع لتشرح طريقة التطوّع في «فيالق العمل المصريّة»
ولتتتبّع تجربة الرجالَ في هذه الفيالق على جبهات القتال . إنّها قصّة عبّاس
إسماعيل ، المثقّف الأزهريّ لقرية الهماميّة ، مركز البداري ، مديريّة أسيوط . فكما نرى ــ في مقال علياء في هذا العدد من
«بدايات» ــ عندما حاول عبّاس مقاومةَ الحكومة بالحكومة عن طريق كتابة عريضة باسم
الفلّاحين المعترِضين على التطوّع في «فيالق العمل» لخدمة الجيش البريطانيّ باءتْ
محاولتُه بالفشل وانتهى به الحال مقبوضاً عليه ومجبراً ، هو نفسه ، على "التطوّع"
للخدمة . فبعدما قدّم عبّاس عريضته بعشر دقائق ، وحسب نصّ عصمت سيف الدولة :
"عاد
رشاد إلى مكتبه يحمل محضراً محرّراً بخطّ المأمور يتضمّن استدعاءَ المدعوّ عبّاس
محمّد إسماعيل من ناحية الهماميّة مركز البداري وإقراره بأنّه محرّر عريضة برغبةِ
مذكورين فيها من أهل الهماميّة في عدم التطوّع لخدمة السلطة ، وبسؤاله عن التفاصيل
أقرّ بأنّ الذين لم تردْ أسماؤهم في العريضة يرغبون في التطوّع ، واذ تبيّن لنا
أنّ اسم المذكور غيرُ واردٍ في العريضة مع أنّ شروط التطوّع تنطبق عليه ، فقد
اعتبرْنا إقراره أمامنا رغبةً منه واستعداداً للتطوّع فأصدرنا الأمر بتحقيق رغبته
وحجزه بمقرّ المركز لترحيله مع باقي المحتجَزين غداً…" .
وكما أوضحتْ علياء في مقالها المنشور في هذا العدد ، لم ينقذْ عبّاساً من
"التطوّع" سوى قريبه ومريده يونس عبد الله الذي ذهب مكانه لبولونيا ضمن
«فرقة العمل المصريّة» التي ساعدت الجيشَ البريطانيّ في القتال على الجبهة
الغربيّة . وهناك عانى يونس الأمرّين وشاهد أهوال الحرب وعنصريّتها ، فأفرادُ
«فرقة العمل المصريّة» يُمنعون من دخول المطاعم الفرنسيّة ، ويعاملهم الضبّاطُ
الفرنسيّون معاملةً مهينةً تجاوزتْ في قسْوتها ووحشيّتها المعاملة التي يتلقّاها
الجنود البيض الفرنسيّون أو الإنكليز من ضبّاطهم . وينتهي بيونس الحالُ مشتركاً
في تمرّدٍ انتهى بمجزرةٍ أودتْ بحياة كلّ زملائه الفلّاحين ، ولم ينج من المجزرة
إلّا بالتظاهر بالموت وبإرساله للمستشفى الميدانيّ ، ومنه عاد لمصر حيث روى
قصّته في «المنضرة» في قريته ، الهماميّة .
ما يُبهرُ حقّاً في تحليل مسلم لنصّ سيف الدولة أنّها لا تتوقّف عند هذه القصّة الدراميّة بل تتعقّب يونسَ بعد عودته من جبهة القتال ، كما تدرس أشكالاً أخرى من مقاومة الفلّاحين للسلطة . هذه المرّة لم تكن السلطة التي قاومها الفلّاحون هي السلطة العسكريّة البريطانيّة ، ولا سلطة الحكومة المصريّة المتواطئة معها ، ولكنّها سلطة الباشوات ملّاك الأراضي المقيمين في القاهرة والذين يسعَون لطرد الفلّاحين من الأرض . تحتلّ قصصُ مقاومة الفلّاحين للباشوات الثلثَ الأخير من "مشايخ جبل البداري" حيث نقرأ عن الصراع المستميت بين فلّاحي قرية الهمامّية على (الجزيرة) ، تلك الأرض التي تكوّنتْ من طرح النهر والتي يعتبرها الفلّاحون ملكَهم ولكن يسعى الباشواتُ للاستيلاء عليها لخصوبتها وغلاء ثمنها . يعود يونس من الجبهة الغربيّة ليرى البلد (الهماميّة / مصر) في ثورةٍ عارمة . فبعد أربع سنواتٍ عانى أثناءها الفلّاحون من اغتصاب أرضهم ، وسرقة مواشيهم ، والاستيلاء على محاصيلهم ، وبعدما أُجبروا على التطوّع في حربٍ لا تعنيهم ، فاض بهم الكَيل ، فانتفضوا في هبّاتٍ فلّاحّية طوال صيف وخريف 1918 ، أي قبل التاريخ الرسميّ لاندلاع ثورة 1919 بستّة أشهرٍ كاملة ، فأضرمت النيران في مراكز الشرطة ، وكثرت السرقات من بيوت الباشوات ، وتعدّدت حوادث القتل التي استهدفتْ جيش الاحتلال . وكما توضح مسلم ، كانت تلك الثورة الفلاحيّةُ في مصر جزءاً من ثوراتٍ كبيرةٍ اندلعتْ في أماكنَ عدّة في العالم اعتراضاً على الثمَن الباهظ الذي دفعه الفلّاحون في الحرب العظمى . فلم يكن صدفًةً أن تشهد الجزائر وغرب أفريقيا ، وقبلَهما روسيا ، ثوراتٍ فلّاحيّة ضدّ السلطة . أمّا في مصر ، فكما أوضح كلٌّ من إليس غولدبرغ وراينهاردت شولتز ، كانت تلك هي أكبر ثورة فلّاحية شهدْتها البلاد في تاريخها الحديث ، ويجب اعتبارها البدايةَ الحقيقيّة لثورة 1919 . كانت السلطة التي ثار عليها الفلّاحون هي سلطة المحتلّ البريطانيّ ، وسلطة الحكومة المحلّيّة المتواطئة معه التي جرّدت الفلّاحين من ممتلكاتهم مساعدةً منها في المجهود الحربيّ ، وسلطة الباشوات ملّاك الأراضي اللذين آثروا الهدوء والدّعَة أملاً في انتزاع تنازلاتٍ من البريطانيّين بعد انتهاء الحرب ..
المرجعية التاريخية في الأثر الأدبي للدكتور عصمت سيف الدولة (1) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق