بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

بين الفكر القومي والمشروع القومي ...


بين الفكر القومي والمشروع القومي ...


من المعروف ان الدين به المحكم والمتشابه لان الواقع متغير ومتطور ، لكن شرائح واسعة من القوميين يريدون ان تكون كل القضايا محكمة  اي من الثوابت ، فيغرق الكثيرون في المتشابهات ويبنون عليها صرحا من الافكار والمواقف والتجاذبات فيتحول اغلبها الى مهاترات وخلافات لا يستفيد منها سوى اعداء المشروع القومي ... والسبب كما يبدو في علاقة مباشرة بمفهومين اساسيين متداخلين : الفكر القومي ، والمشروع القومي .
ومن هذه الناحية يفترض ان يقع التمييز بين المشروعين على اساس خصائص كل منهما : 

- المشروع النظري الحاسم المتعلق بالمنطلقات والغايات والاسلوب كمحددات فكرية موضوعية لمشكلات قائمة ومطروحة في الواقع : الاحتلال والتجزئة والتخلف ، من اجل تحقيق اهداف النضال العربي : دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية ..
وهو نظري بمعنى انه يقوم على مقاربات متداخلة فلسفية وعلمية وتاريخية وغيرها .. تنتهي بصياغة جملة من التعريفات والمفاهيم تكاد ان تكون الواحدة منها نظرية خاصة في المنهج وفي الامة والقومية والحرية والديمقراطية والاشتراكية وغيرها من المجالات .. وهو حاسم بمعنى ان كل المفاهيم الواردة فيه محددة بمنهجية علمية تقطع مع الافكار المثالية والميتافيزقية لتتحول الى ثوابت فكرية وضوابط   لازمة لتحديد الاهداف الاستراتيجية الكبرى التي تقود المسيرة النضالية نحو الغايات النهائية المرجوة  .. وقد وردت تفاصيل هذا المشروع الفكري في كتابات الدكتور عصمت سيف الدولة الذي قام فيها بضبط المشكلات والحلول والمواقف الاستراتيجية بمنهجية واضحة : " المشكلة ، الحل ، العمل " في جميع القضايا المطروحة في الوطن العربي ، وهي افكار قديمة جديدة اغلبها قد انضجتها التجارب القومية الى ان صارت شعارات ومواقف واساليب عملية معروفة ومتداولة حتى قبل ان تظهر كتابات المرحوم عصمت سيف الدولة ...

- والمشروع العملي الشامل والنسبي الذي يلتقي فيه الثوريون العرب على مهمات نضالية تمتد وتقصر زمنيا حسب امكانياتهم الذاتية لانجاز ما يجب انجازه في النهاية : دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية ..
وهو عملي بمعنى انه يضع المقولات النظرية واصحابها تحت الاختبار لمدة طويلة في الواقع ، فلا تستمر المواقف والتحالفات على حالها  حتى تحقيق الاهداف النظرية كافة .. ونسبي بمعنى انه يواجه كل يوم متغيرات جديدة تقتضي تفاعلا على نطاق واسع مصحوبا باجتهادات ومواقف جديدة غير حاسمة بسب الاختلاف الموضوعي للمقدرة الجدلية للافراد .. وشامل بمعنى انه يشمل كل المراحل النضالية التي تعترض سبيل الحركة القومية خلال حركتها وهي تتفاعل مع واقها كما هو من اجل تغييره ، حيث تبدو كل مشكلة في الوطن العربي تحمل الشيء ونقيضه .. حتى الحركة القومية ذاتها بتناقضاتها الخاصة : قومية- اقليمية .. احزابها اقليمية ، جمعياتها اقليمية ، تنظيماتها  الطلابية اقليمية ، وافرادها المستقلون اقليميون ، فلا يكاد واحد منهم ان ينجو - على مستوى الحركة - من صفة الاقليمية .. وهكذا ، تثور المشكلة ..
 ففي الوقت الذي يحاول فيه القوميون التاكيد على الخطاب القومي والثبات على المواقف القومية في كل قضية يشهدها واقعهم ، يحاصرهم الواقع الاقليمي ليجعل حركتهم الاقليمية عاجزة فيختلفون .. ثم لا يستطيعون - وهم يديرون معاركهم على المستوى النظري العام - ان يحسموا خلافات مجال حسمها الاجتهاد الخاص بكل معركة من المعارك المتعددة التي يمكن ان تواجههم على المدى الاستراتيجي في ساحت وظروف ذاتية وموضوعية تختلف من مرحلة الى اخرى .. اي ان ما يميز المراحل النضالية في هذا المشروع هو اختلاف المواقف التكتيكية والتحالفات باختلاف محاورها النضالية وقواها المتصارعة وامكانياتها ، فتتغير خلالها المعايير المحددة للموقف القومي – في الداخل والخارج – بتغير مواقف ومواقع القوى النشيطة على الساحة قربا او بعدا من الاهداف المرحلية والاستراتيجية للمشروع القومي في كل مرحلة من مراحله .. وهي مشكلة قائمة بالفعل لا تستوي وضوحا في اذهان القوميين ، فلا يتخذون منها نفس المواقف ويحصل الاختلاف ..
 ففي حين يفترض ان يتم الحكم على المواقف في الداخل قياسا الى الاهداف الاستراتيجية ، يكون من الانسب الحكم على مواقف الاخرين قياسا الى الاهداف المرحلية ، حيث يمكن ان تدخل وتخرج اطراف متعدة من دائرة التحالفات بانتهاء المهمات المرحلية ، بينما تستمر العلاقة بين القوميين حتى النهاية ، بكل مواقفهم المتنوعة من المشاكل الظرفية وبكل تفرعاتها الثانوية ، الى غاية بناء دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية ..
وهكذا يكون المشروع النظري مشروع وحدة فكرية هدفها تحقيق الوحدة التنظيمية بما تهيئه من ارضية سليمة لخدمة القضايا الرئيسية على مستوى فهم المشكلات في بعدها القومي وعلى مستوى ايجاد الحلول المناسبة لها خلال كل مرحلة من مراحل النضال العربي .. فهو مشروع قائم على اساس فكري ايديولوجي دقيق ومفصل لكل النواحي الفكرية في اطارها المبدئي الحاسم في كل ما يتعلق بوحدة الوجود القومي ، وبحرية الوطن والمواطن ، وبعلاقة الكل بالاجزاء ، وباستغلال الثروات .. وبالمكون الحضاري للامة العربية وعلاقاتها التاريخية والمستقبلية بمن حولها ... فهو النقيض - على المستوى الفكري - من المشاريع الفكرية الاقليمية والاخوانية واليمينية بشكل عام .. وهو في النهاية مشروع منجز من ناحية البنية الفكرية ، ومتحقق ولو على مستوى الافراد ، لكنه يبقى مجرد ترف فكري لا يغير شيئا من الواقع طالما انه لم يتحول الى حركة منظمة وتخطيط محكم  لمشروع واضح ، فلا يوظف توظيفا سليما حسب متطلبات كل مرحلة وكل معركة من معارك النضال القومي .. وهو اذن على هذا المستوى وحده لا  يتجاوز – على اهميته وضرورته – الجانب السلبي في الموضوع ..
بينما المشروع القومي كمشروع للمستقبل هو مشروع عملي ثوري يحوّل تلك الافكار والمقولات والمبادئ والنظريات والدروس المستفادة  الى واقع حي حينما يلتحم من خلاله الثوريون العرب في اداة نضالية واحدة هدفها تفجير الثورة العربية لتحقيق تلك المبادئ في الواقع المعاش خلال مسيرة نضالية طويلة لا تستمر فيها الادوار والمهمات والمواقف والتحالفات على وتيرة واحدة في كل مرحلة من مراحل النضال ، ولن تكتمل اهدافها ببناء دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية قبل ان يكون القوميون العرب قد تحولوا الى قوة ضاربة منظمة .. فهو النقيض على مستوى الممارسة والفعل من المشاريع الرجعية الصهيونية الامبرالية في الوطن العربي .. وعلى هذا الوجه يمثل المشروع القومي الجانب الايجابي في هذا الموضوع من حيث انه لا يتوقف عند المقولات النظرية المتبلورة فحسب بل يتجاوزها الى مستوى الفعل الذي يسهم في تغيير الواقع من جهة ، وفي تطوير المقولات النظرية وتحيينها وتخليصها من الجمود عن طريق الممارسة النضالية من جهة ثانية حتى تكون قادرة فعلا على الاسهام في تحقيق هذا المشروع الحضاري المستقبلي بنجاح .. 
من هنا نفهم تكامل المشروع الفكري مع المشروع الثوري ولا نخلط بين المضامين والخصائص المميزة لكل منهما حين الاحتكام الى الضوابط الفكرية والمنهجية لتحديد الاهداف الاستراتيجية للمشروع القومي وحين الحكم على المواقف التكتيكية خلال الممارسة .. ويبقى القول جائزا ان التمييز غير الفصل ، لان المشروع القومي المستقبلي واحد ، فكرا وممارسة  ..
في الجانب الفكري العقائدي تحوّل المشروع النظري على يد المفكر القومي عصمت سيف الدولة الى سلاح نظري فعال بيد القوميين يستطيعون من خلاله حسم كل المعارك الفكرية ذات الصلة بمستقبل الحياة في الوطن العربي ، فكان الهدف الاساسي من وراء هذا المشروع اختصار الطريق للمستقبل ، فهو مشروع وحدة فكرية نضالية لبناء دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية .. وفي هذا الاطار قدم الاجابات الحاسمة لكل الاسئلة المطروحة على الساحة الفكرية في اطار بنية مفاهيمية موحدة مبنية على اساس واحد " منهج جدل الانسان " . لذلك يصعب على من لا يعرف المنهج الذي استعمله في كل اجتهاداته ، ان يفهم مشروعه سواء على مستوى الفكر او الممارسة ..
وفي اطار هذا المشروع النظري الايديولوجي تتنزل كل المقولات الفكرية الواردة في نظرية الثورة العربية وتتبلور كل المواقف الحاسمة من القضايا الاساسية لمشكلات الحياة في الوطن العربي ، حيث تكون المواقف النهائية واضحة فيما يتعلق بالعديد من الثنائيات : الاحتلال والتحرر ، الاستغلال والاشتراكية ، التجزئة والوحدة ، الاستبداد والديمقراطية ، الرجعية والتقدمية الخ ... اي ان متطلبات صياغة الاسس النظرية تقتضي تقديم مواقف حاسمة من جملة هذه القضايا على المستوى النظري ، بحيث يكون القوميون دائما وحتى النهاية مع وحدة الوجود القومي وضد اي محاولة للرجوع بالمجتمع القومي الى المراحلة السابقة على تكوينه ، اي ضد التجزئة الحالية والمواقف الاقليمية وضد اي مشروع يجزئ المجزأ ليعود بالوجود القومي الى المراحل السابقة  كالطائفية والقبلية والشعوبية .. وهم مع الحرية  والتحرير والمقاومة وضد الاستسلام والتسوية والقبول باي مشروع احتلالي قائم او بصدد التخطيط للتوسع او الاقدام على احتلال جديد على اي شبر من الارض العربية .. وهم ايضا وعلى الدوام مع التكامل والتقارب والوحدة وضد  التجزئة والاقليمية فكرا وممارسة حتى تتحقق الوحدة الشاملة وتزول الدويلات الاقليمية المصطنعة .. كما انهم مع الديمقراطية الشعبية والاشتراكية وضد الاستبداد والقهر المادي والمعنوي حتى يتحرر المواطن العربي نهائيا من كل القيود في دولة قومية مدنية اشتراكية ديمقراطية ، بقطع النظر عن الانظمة القطرية القائمة ، سواء كانت رجعية او تقدمية ، اقليمية او قومية ، اشتراكية او راسمالية طالما انها لا تخطو خطوة نحو الغايات القومية التكتيكية والاستراتيجية .. فهي مواقف عامة مبدئية ثابتة من وجهة نظر  قومية  ..
اما في الجانب العملي من المشروع ، فان الدكتور عصمت سيف الدولة لم يدخل في اي تفاصيل خاصة بالمهمات المرحلية والخطط التكتيكية للحركة القومية لانه ببساطة مشروع تغيير تجري احداثه في الواقع الاقليمي والدولي يتطلب تفاعل مباشر مع الاحداث ، ومواجهة ميدانية لا يمكن توقعها . فهي مجالات خلافية مفتوحة على الاجتهاد والحسم عن طريق الجدل والحوار داخل الاطر الديمقراطية لصياغة الموقف القومي من القضايا المطروحة كما تقتضيه طبيعة كل مرحلة .. فلا يخضع فيها نصيب كل واحد من الخطا او من الصواب سوى لمعيار واحد : المقدرة الجدلية لكل فرد . فلا يستهان فيها براي او بموقف مهما كانت قيمته بالنسبة للاخرين ، ولا يفترق فيها القوميون الصادقون مهما اختلفت اراؤهم طالما يعود فيها الحسم 
للاسلوب الديمقراطي  وعدم الحياد عن الثوابت القومية ..
قد تبدو المسالة محسومة بالنسبة للعديد من القوميين ، لكنها ليست كذلك بالنسبة للبعض الاخر  وهم يشددون ويؤكدون على فرز الصفوف بناء على مواقف متذبذبة من احداث جارية ومتغيرة ، والمشكلة دائما في علاقة بين الفكر والممارسة .. اذ ان الفرز اذا كان بين التقدميين ، لا يتم على اساس المتغيرات الظرفية والتاويلات المتعلقة بفروع كل مشكلة ، بل على اساس الثوابت المتعلقة بالخيارات الكبرى للمشروع القومي ككل .. اي لا يكون الفرز على اساس الموقف من الاهداف التكتيكية المتعلقة بالمشكلات الظرفية ، بل على اساس قرب المواقف او بعدها من الهدف الاستراتيجي في كل جانب من جوانبه .
واذا كان الفرز على مستوى المجتمع ككل فهو يتم بين التقدميين والرجعيين بحسب المحاور النضالية المطروحة في كل ساحة من الساحات وبحسب الملابسات التي تحف بكل مشكلة وانعكاساتها على مستقبل الصراع وتاثيرها على الاهداف الاستراتيجية ، فتاخذ التاويلات والاولويات مكانها في الجدل .. وقد يكون الفرز احيانا شاملا فئات مختلفة من القوى السياسية سواء من الانظمة او من صف المقاومة او من الاحزاب والسياسيين والاعلاميين وغيرهم تبعا لمتطلبات كل مرحلة اي قياسا على الاهداف المرحلية ، كأن يكون الفرز احيانا بين التحرريين والمستبدين ، وبين انصار الوحدة والاقليميين ، وبين انصار المقاومة والمستسلمين ، وبين الاشتراكيين والراسماليين ، وبين العملاء والوطنيين .. الى غير ذلك  من المعارك التي يمكن ان تؤدي الى الاشتباك بين اطراف هذه الصراعات في كل مرحلة من مراحلها ، وكلها مراحل مهمة من مراحل الثورة العربية والمشروع القومي ككل وبالخصوص قبل امتلاك الآداة القومية ..  وكل هذا من اجل رص الصفوف المقاومة – اي مقاومة – لهزيمة المشروع الرجعي الصهيوني  الامبريالي في الوطن العربي ، في الاقطار ، وفي المدن والارياف وفي الجامعات وفي النقابات ، وفي الخارج وفي كل مكان .. اي بمعنى اخر ان كل ما يكتب خارج هذا السياق مراهقة سياسية ومهاترات لا تكون نتائجها سوى اثارة معارك جانبية لا يستفيد منها الا اعداء المشروع القومي ... 


 ( القدس ) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق