بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 30 أكتوبر 2016

الوثيقة الصهيونية لتفتيت الأمة العربية .

قراءة وتقديم : محمد سيف الدولة .

تقديم :

1 ـ في عام 1982 نشرت مجلة " كيفونيم " التي تصدرها المنظمة الصهيونية العالمية ، وثيقة بعنوان " إستراتيجية إسرائيلية للثمانينات " . ولقد نشرت الوثيقة باللغة العبرية ، وتم ترجمتها إلى اللغة العربية ، وقدمها الدكتور عصمت سيف الدولة كأحد مستندات دفاعه عن المتهمين في قضية تنظيم ثورة مصر عام 1988.
2 ـ ولقد رأيت أهمية اعادة نشر هذه الوثيقة الآن للاسباب الآتية :
ـ إن تقسيم العراق كأحد أهداف الحرب الحالية على العراق (مارس 2003) هو أحد الأفكار الرئيسية الواردة في الوثيقة المذكورة .
ـ إن الخطط الحالية الساعية  لفصل جنوب السودان وتقسيمه ، هي أيضا ضمن الأفكار الواردة في الوثيقة .
ـ إن الاعتراف الرسمي بالامازيغية كلغة ثانية ، بجوار اللغة العربية في الجزائر هي خطوة لا تبتعد عن التصور الصهيوني عن المغرب العربي .
ـ إن مخطط تقسيم لبنان إلى عدد من الدويلات الطائفية ، الذي حاول الكيان  الصهيوني تنفيذه في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي وفشل في تحقيقه ، هو تطبيق عملي لما جاء بهذه الوثيقة بخصوص لبنان.
ـ إن الحديث الدائر الآن في الأوساط الصهيونية حول تهجير الفلسطينيين إلى الأردن ، والتخوفات العربية من استغلال أجواء العدوان على العراق لتنفيذ ذلك ، هو من أساسيات الأفكار المطروحة في الوثيقة .
ـ وأخيرا وليس آخرا ، أن الأخطار التي تتعرض لها مصر ، واردة بالتفصيل في الوثيقة الصهيونية .
3 ـ والحديث عن وثيقة من هذا النوع ، ليس حديثا ثانويا يمكن تجاهله ، فهم ينصون فيها صراحة على رغبتهم في مزيد من التفتيت لامتنا العربية . كما أن تاريخنا الحديث هو نتاج لمشروعات استعمارية مماثلة بدأت أفكارا، وتحولت إلى اتفاقات ووثائق، تلزمنا وتحكمنا حتى الآن .  
ـ فمعاهدة لندن 1840 سلخت مصر منذئذ وحتى تاريخه عن الأمة العربية . فسمحت لمحمد علي وأسرته بحكم مصر فقط ، وحرمت عليه أي نشاط خارجها . ولذلك نسمى هذه الاتفاقية ” اتفاقية كامب ديفيد الأولى .
ـ واتفاقية سايكس بيكو 1916 قسمت الوطن العربي ، هذا التقسيم البائس الذي نعيش فيه حتى الآن ، والذي جعلنا مجموعة من العاجزين ، المحبوسين داخل حدودا مصطنعة ، محرومين من الدفاع عن باقي شعبنا وباقي أرضنا في فلسطين أو في العراق أو في السودان .
ـ  و( وعد بلفور) 1917 كان المقدمة التي أدت إلى اغتصاب فلسطين فيما بعد .
ـ  ثم تلاه وقام على أساسه ، صك الانتداب البريطاني على فلسطين ، في 29 سبتمبر 1922 ، الذي اعترف في مادته الرابعة بالوكالة اليهودية / الصهيونية من أجل إنشاء وطن قومي لليهود . فأعطوا بذلك الضوء الأخضر للهجرة اليهودية / الصهيونية إلى أرض فلسطين .
ـ  فلما قوى شأن العصابات الصهيونية في فلسطين ، أصدرت لهم الأمم المتحدة ، قرارا بتقسيم فلسطين في 29 نوفمبر 1947، وهو القرار الذي أعطى مشروعية للاغتصاب الصهيوني وانشأ بموجبه الكيان الصهيوني .
ـ وهو القرار الذي رفضته الدول العربية في البداية . وظلت ترفضه عشرون عاما لتعود وتعترف به بموجب القرار رقم 242 الصادر من الأمم المتحدة في 1967 ، الذي ينص على " حق " الكيان الصهيوني في الوجود ، و "حقه " أن يعيش في أمان على أرض فلسطين المغتصبة .
ـ  وعلى أساس هذا القرار أبرمت معاهدة السلام بين مصرية والكيان الصهيوني الموقعة في 26 / 3 / 1979 ، والتي بموجبها خرجت مصر من الصراع العربي ضد المشروع الصهيوني ، لينفرد الكيان الصهيوني  بالأقطار العربية الأخرى .
كل ذلك وغيره الكثير ، بدأ أفكارا ، وأهدافا استعمارية ، وتحول فيما بعد إلى حقائق .
ـ وبالتالي فليس من المستبعد أبدا أن تتحول الأفكار ، التي وردت في الوثيقة الصهيونية المذكورة ، إلى أمر واقع ولو بعد حين . خاصة الآن بعد العدوان الامريكى على العراق ، ومخاطر التقسيم التي تخدم ذات التصور الصهيوني عن المنطقة .
4 ـ والوثيقة الصهيونية منشورة في الصفحات التالية بنص كلماتها وفقراتها ، مع فرق واحد ، هو أنني أخذت ما جاء متفرقا بالوثيقة بخصوص كل قطر ، وقمت بتجميعه في فقرة واحدة ، وحاولت  ترقيمه وتبنيده ، لتسهل متابعته .
5 ـ وأخيرا فان الهدف الذي رجوته من نشر هذه الوثيقة ، هو أن ننظر إلى العدوان علينا في مساره التاريخي ، وأن نراه على حقيقته كمخطط ، موحد ، منتظم ، متسلسل وممتد . وأن نحرر أنفسنا من منطق التناول المجزأ لتاريخنا ، الذي يقسمه إلى حوادث منفصلة عن بعضها البعض ، آملا في النهاية ألا تقتصر حياتنا على مجموعة من الانفعالات وردود الفعل اللحظية المؤقتة ، التي تعلو وقت الشدة ، وتخبو في الاوقات الأخرى . فتاريخنا كله ومنذ زمن بعيد ، ولزمن طويل آت ، هو وقت شدة .

نص الوثيقة الصهيونية .
أولا : نظرة عامة على العالم العربي والاسلامى .

1 ـ  إن العالم العربي الاسلامى هو بمثابة برج من الورق أقامه الأجانب  ـ فرنسا وبريطانيا في العشرينيات ـ دون أن توضع في الحسبان رغبات وتطلعات سكان هذا العالم .
2 ـ لقد قسم هذا العالم إلى 19 دولة كلها تتكون من خليط من الأقليات والطوائف المختلفة ، والتي تعادى كل منهما الأخرى وعليه فان كل دولة عربية إسلامية معرضة اليوم لخطر التفتت العرقي والاجتماعي في الداخل إلى حد الحرب الداخلية كما هو الحال في بعض هذه الدول .
3 ـ وإذا ما أضفنا إلى ذلك الوضع الاقتصادي يتبين لنا كيف أن المنطقة كلها ، في الواقع ، بناء مصطنع كبرج الورق ، لا يمكنه التصدي للمشكلات الخطيرة التي تواجهه .
4 ـ في هذا العالم الضخم والمشتت ، توجد جماعات قليلة من واسعي الثراء وجماهير غفيرة من الفقراء . إن معظم العرب متوسط دخلهم السنوي حوالي 300 دولار في العام .
5 ـ إن هذه الصورة قائمة وعاصفة جدا للوضع من حول ( إسرائيل ) ، وتشكل بالنسبة ( لإسرائيل ) تحديات ومشكلات وأخطار، ولكنها تشكل أيضا فرصا عظيمة  ..

ثانيا : مصر .

1 ـ في مصر توجد أغلبية سنية مسلمة مقابل أقلية كبيرة من المسيحيين الذين يشكلون الأغلبية في مصر العليا ، حوالي 8 مليون نسمة . وكان السادات قد أعرب في خطابه في آيار / مايو من عام 1980 عن خشيته من أن تطالب هذه الأقلية بقيام دولتها الخاصة أي دولة لبنانية مسيحية جديدة في مصر ..
2 ـ والملايين من السكان على حافة الجوع ، نصفهم يعانون من البطالة وقلة السكن في ظروف تعد أعلى نسبة تكدس سكاني في العالم .
3 ـ  وبخلاف الجيش فليس هناك أي قطاع يتمتع بقدر من الانضباط والفعالية .
4 ـ  والدولة في حالة دائمة من الإفلاس بدون المساعدات الخارجية الأمريكية التي خصصت لها بعد اتفاقية السلام .
5 ـ إن استعادة شبه جزيرة سيناء بما تحتويه من موارد طبيعية ومن احتياطي يجب إذن أن يكون هدفا أساسيا من الدرجة الأولى اليوم ..    إن المصريين لن يلتزموا باتفاقية السلام بعد إعادة سيناء ، وسوف يفعلون كل مافى وسعهم لكي يعودوا إلى أحضان العالم العربي ، وسوف نضطر إلى العمل لإعادة الأوضاع في سيناء إلى ماكانت عليه  .
6 ـ إن مصر لا تشكل خطرا عسكريا استراتيجيا على المدى البعيد بسبب تفككها الداخلي ، ومن الممكن اعادتها الى الوضع الذي كانت عليه بعد حرب يونية 1967 بطرق عديدة . 
7 ـ  إن أسطورة مصر القوية والزعيمة للدول العربية قد تبددت في عام 1956 وتأكد زوالها في عام 1967 .
8 ـ إن مصر بطبيعتها وبتركيبتها السياسية الداخلية الحالية هي بمثابة جثة هامدة فعلا بعد سقوطها ، وذلك بسبب التفرقة بين المسلمين والمسيحيين والتي سوف تزداد حدتها في المستقبل . إن تفتيت مصر إلى أقاليم جغرافية منفصلة هو هدف إسرائيل السياسي في الثمانينات على جبهتها الغربية .
9 ـ إن مصر المفككة والمقسمة إلى عناصر سيادية متعددة ، على عكس ماهى عليه الآن ، لن تشكل أي تهديد لإسرائيل بل ستكون ضمانا للزمن والسلام لفترة طويلة ، وهذا الأمر هو اليوم متناول أيدينا .
10 ـ إن دول مثل ليبيا والسودان والدول الأبعد منها سوف لا يكون لها وجود بصورتها الحالية ، بل ستنضم إلى حالة التفكك والسقوط التي ستتعرض لها مصر . فإذا ما تفككت مصر فستتفكك سائر الدول الاخر، إن فكرة إنشاء دولة قبطية مسيحية في مصر العليا إلى جانب عدد من الدويلات الضعيفة التي تتمتع بالسيادة الإقليمية في مصر ـ بعكس السلطة والسيادة المركزية الموجودة اليوم ـ هي وسيلتنا لإحداث هذا التطور التاريخي .
إن تفتيت لبنان إلى خمس مقاطعات إقليمية يجب أن يكون سابقة لكل العالم العربي بما في ذلك مصر وسوريا والعراق وشبه الجزيرة العربية . 

ثالثا : ليبيا .

ان القذافى يشن حروبه المدمرة ضد العرب أنفسهم انطلاقة من دولة تكاد تخلو من وجود سكان يمكن أن يشكلوا قومية قوية وذات نفوذ . ومن هنا جاءت محاولاته لعقد اتفاقيات باتحاد مع دولة حقيقية كما حدث في الماضي مع مصر ويحدث اليوم مع سوريا . 

رابعا : السودان .

وأما السودان ، أكثر دول العالم العربي الاسلامى تفككا ، فإنها تتكون من أربع مجموعات سكانية كل منها غريبة عن الأخرى ، فمن أقلية عربية مسلمة سنية تسيطر على أغلبية غير عربية افريقية إلى وثنيين إلى مسيحيين . 

خامسا : سوريا .

1 ـ إن سوريا لا تختلف اختلافا جوهريا عن لبنان الطائفية باستثناء النظام العسكري القوى الذي يحكمها . ولكن الحرب الداخلية الحقيقية اليوم بين الأغلبية السنية والأقلية الحاكمة من الشيعة العلويين الذين يشكلون 12% فقط من عدد السكان ، تدل على مدى خطورة المشكلة الداخلية .
2 ـ إن تفكك سوريا والعراق في وقت لاحق إلى أقاليم ذات طابع قومي وديني مستقل ، كما هو الحال في لبنان ، هو هدف إسرائيل الأسمى في الجبهة الشرقية على المدى القصير، فسوف تتفتت سوريا تبعا لتركيبها العرقي والطائفي إلى دويلات عدة كما هو الحال الآن في لبنان .
3 ـ وعليه فسوف تظهر على الشاطئ دولة علوية .
4 ـ وفى منطقة حلب دويلة سنية .
5 ـ وفى منطقة دمشق دويلة سنية أخرى معادية لتلك التي في الشمال .
6 ـ وأما الدروز فسوف يشكلون دويلة في الجولان التي نسيطر عليها .
7 ـ وكذلك في حوران وشمال الأردن سوف يكون ذلك ضمانا للأمن والسلام في المنطقة بكاملها على المدى القريب . وهذا الأمر هو اليوم في متناول أيدينا . 

سادسا : العراق .

1 ـ  إن العراق لا تختلف كثيرا عن جارتها ولكن الأغلبية فيها من الشيعة والأقلية من السنة ، إن 65% من السكان ليس لهم أي تأثير على الدولة التي تشكل الفئة الحاكمة فيها 20% إلى جانب الأقلية الكردية الكبيرة في الشمال .
2 ـ ولولا القوة العسكرية للنظام الحاكم وأموال البترول ، لما كان بالإمكان أن يختلف مستقبل العراق عن ماضي لبنان وحاضر سوريا .
3 ـ إن بشائر الفرقة والحرب الأهلية تلوح فيها اليوم ، خاصة بعد تولى الخميني الحكم في ايران ، والذي يعتبر في نظر الشيعة العراقيين زعيمهم الحقيقي وليس صدام حسين .
4 ـ  إن العراق الغنية بالبترول والتي تكثر فيها الفرقة والعداء الداخلي هي المرشح التالي لتحقيق أهداف إسرائيل .
5 ـ إن تفتيت العراق هو أهم بكثير من تفتيت سوريا وذلك لأن العراق أقوى من سوريا .
6 ـ ان في قوة العراق خطورة على إسرائيل في المدى القريب أكبر من الخطورة النابعة من قوة أية دولة أخرى .
7 ـ سوف يصبح بالإمكان تقسيم العراق إلى مقاطعات إقليمية طائفية كما حدث في سوريا في العصر العثماني .
8 ـ وبذلك يمكن إقامة ثلاث دويلات ـ أو أكثرـ حول المدن العراقية الكبرى .
9 ـ دولة في البصرة ، ودولة في بغداد ، ودولة في الموصل ، بينما تنفصل المناطق الشيعية في الجنوب عن الشمال السني الكردي في معظمه .

سابعا : لبنان .

أما لبنان فإنها مقسمة ومنهارة اقتصاديا لكونها ليس بها سلطة موحدة ، بل خمس سلطات سيادية ( مسيحية في الشمال تؤيدها سوريا وتتزعمها أسرة فرنجية ، وفى الشرق منطقة احتلال سوري مباشر، وفى الوسط دولة مسيحية تسيطر عليها الكتائب ، والى الجنوب منها وحتى نهر الليطانى دولة لمنظمة التحرير الفلسطينية هي في معظمها من الفلسطينيين ، ثم دولة الرائد سعد حداد من المسيحيين وحوالي نصف مليون من الشيعة ) .
( ملحوظة من المحرر : كان هذا هو الوضع اللبناني زمن كتابة الوثيقة ، ولكن القوى الوطنية اللبنانية نجحت في إعادة الوحدة الوطنية ) .

ثامنا : السعودية والخليج .

1 ـ إن جميع إمارات الخليج وكذلك السعودية قائمة على بناء هش ليس فيه سوى البترول .
2 ـ في البحرين يشكل الشيعة أقلية السكان ولكن لا نفوذ لهم .
3 ـ وفي دولة الامارات العربية المتحدة يشكل الشيعة أغلبية السكان .
4 ـ وكذلك الحال في عمان .
5 ـ وفي اليمن الشمالية وكذلك في جنوب اليمن .. توجد اقلية شيعية كبيرة .
6 ـ وفي السعوية نصف السكان من الأجانب المصريين واليمنيين وغيرهم ، بينما القوى الحاكمة هي أقلية من السعوديين .
وأما في الكويت فان الكويتيين يشكلون ربع السكان فقط .
8 ـ ان دول الخليج والسعودية وليبيا تعد أكبر مستودع في العالم للبترول والمال ولكن المستفيد بكل هذه الثروة هي اقليات محدودة لا تستند الى قاعدة عريضة وأمن داخلي ، وحتى الجيش ليس باستطاعته أن يضمن لها البقاء .
9 ـ وأن الجيش السعودي بكل ما لديه من عتاد لا يستطيع تأمين الحكم ضد الأخطار الفعلية من الداخل والخارج ، وما حدث في مكة عام 1980 ليس سوى مثال لما قد يحدث .  
10 ـ إن شبه الجزيرة العربية بكاملها يمكن أن تكون خير مثال للانهيار والتفكك كنتيجة لضغوط من الداخل ومن الخارج وهذا الأمر في مجمله ليس بمستحيل على الأخص بالنسبة للسعودية سواء دام الرخاء الاقتصادي المترتب على البترول أو قل في المدى القريب . إن الفوضى والأنهيار الداخلي هي أمور حتمية وطبيعية على ضوء تكوين الدول القائمة على غير أساس .

تاسعا : المغرب العربي :

1 ـ في الجزائر هناك حرب أهلية في المناطق الجبلية بين الشعبين الذين يكونان سكان هذا البلد .
2 ـ كما ان المغرب والجزائر بينهما حرب بسبب المستعمرة الصحراوية الاسبانية بالإضافة إلى الصراعات الداخلية التي تعانى منها كل منهما .
3 ـ كما أن التطرف الاسلامى يهدد وحدة تونس .

عاشرا : إيران وتركيا وباكستان وأفغانستان .

1 ـ فإيران تتكون من النصف المتحدث بالفارسية والنصف الآخر تركي من الناحية العرقية واللغوية ، وفى طباعه أيضا.
2 ـ وأما تركيا فهي منقسمة إلى النصف من المسلمين السنة ، أتراك الأصل واللغة ، والنصف الثاني أقليات كبيرة من 12 مليون شيعي علوي و6 مليون كردى سني .
3 ـ  وفى أفغانستان خمسة ملايين من الشيعة يشكلون حوالي ثلث عدد السكان .
4 ـ فى باكستان السنية حوالي 15 مليون شيعي يهددون كيان هذه الدولة .

إحدى عشر : الأردن وفلسطين .

1 ـ والأردن هي في الواقع فلسطينية ، حيث الأقلية البدوية من الأردنيين هي المسيطرة ، ولكن غالبية الجيش من الفلسطينيين وكذلك الجهاز الادارى . وفى الواقع تعد عمان فلسطينية مثلها مثل نابلس .
2 ـ وهي هدف استراتيجي وعاجل للمدى القريب وليس للمدى البعيد وذلك أنها لن تشكل أي تهديد حقيقي على المدى البعيد بعد تفتيتها .
3 ـ ومن غير الممكن أن يبقى الأردن على حالته وتركيبته الحالية لفترة طويلة . أن سياسة إسرائيل ـ اما بالحرب أو بالسلم ـ يجب أن تؤدى إلى تصفية الحكم الأردني الحالي ونقل السلطة إلى الأغلبية الفلسطينية .
4 ـ إن تغيير السلطة شرقي نهر الأردن سوف يؤدى أيضا إلى حل مشكلة المناطق المكتظة بالسكان العرب غربي النهر سواء بالحرب أو في ظروف السلم .
5 ـ إن زيادة معدلات الهجرة من المناطق وتجميد النمو الاقتصادي والسكاني فيها هو الضمان لأحداث التغير المنتظر على ضفتي نهر الأردن .
6 ـ ويجب أيضا عدم الموافقة على مشروع الحكم الذاتي أو أي تسوية أو تقسيم للمناطق .
7 ـ لم يعد بالإمكان العيش في هذه البلاد في الظروف الراهنة دون الفصل بين الشعبين بحيث يكون العرب في الأردن واليهود في المناطق الواقعة غربي النهر .
8 ـ إن التعايش والسلام الحقيقي سوف يسودان البلاد فقط إذا فهم العرب بأنه لن يكون لهم وجود ولا أمن دون التسليم بوجود سيطرة يهودية على المناطق الممتدة من النهر إلى البحر، وأن أمنهم وكيانهم سوف يكونان في الأردن فقط .
9 ـ إن التميز في دولة إسرائيل بين حدود عام 1967 وحدود عام 1948 لم يكن له أي مغزى .
10 ـ وفى أي وضع سياسي أو عسكري مستقبلي يجب أن يكون واضحا بأن حل مشكلة "عرب إسرائيل " سوف يأتي فقط عن طريق قبولهم لوجود إسرائيل ضمن حدود آمنة حتى نهر الأردن وما بعده .
11 ـ تبعا لمتطلبات وجودنا في العصر الصعب ( العصر الذري الذي ينتظرنا قريبا ) ، فليس بالإمكان الاستمرار في وجود ثلاثة أرباع السكان اليهود على الشريط الساحلي الضيق والمكتظ بالسكان في العصر الذري .
12 ـ ان إعادة توزيع السكان هو إذن هدف استراتيجي داخلي من الدرجة الأولى ، وبدون ذلك فسوف لا نستطيع البقاء في المستقبل في إطار أي نوع من الحدود ، إن مناطق " يهودا والسامرة " والجليل ، هي الضمان الوحيد لبقاء الدولة .
13 ـ وإذا لم نشكل أغلبية في المنطقة الجبلية فإننا لن نستطيع السيطرة على البلاد . وسوف نصبح مثل الصليبيين الذين فقدوا هذه البلاد التي لم تكن ملكا لهم في الأصل وعاشوا غرباء فيها منذ البداية .
14 ـ إن إعادة التوازن السكاني الاستراتيجي والاقتصادي لسكان البلاد هو الهدف الرئيسي والأسمى لإسرائيل اليوم .
15 ـ إن السيطرة على المصادر المائية من بئر سبع وحتى الجليل الأعلى ، هي بمثابة الهدف القومي المنبثق من الهدف الاستراتيجي الاساسي ، والذي يقضى باستيطان المناطق الجبلية التي تخلو من اليهود اليوم .

انتهت الوثيقة .

                               ذهاب الى صفحة عصمت سيف الدولة



الجمعة، 28 أكتوبر 2016

الأمة والاقليات .

 

 الأمة والاقليات .

الدكتور عصمت سيف الدولة .

 

في هذه الفقرة من الحديث نتناول أهم العلاقات بين الوجود القومي والجماعات البشرية داخله ، وهي علاقة الأمة بالاقليات . وفي تحديد هذه العلاقة تمر النظريات التي قيلت في الأمة ، وفي القومية ، وفي الوحدة … الخ باختبار دقيق تتميز به النظريات الصحيحة من النظريات الخاطئة ، وتفرز به الافكار الاصيلة من الانتهازية الفكرية . ذلك اننا عندما نلتزم عقائدياً بنظرية قومية نكون ملزمين بأن نتخذ موقفاً ” قومياً ” موحداً من كل المشكلات التي تتصدى لها . وهذا يحول ـ من ناحية ـ دون أن نتنازل عن مواقفنا القومية مهما تكن الصعوبات المرحلية التي تواجهنا ويحول ـ من ناحية أخرى ـ دون ان ننكر على الآخرين مواقفهم القومية . أي يحول دون أن تكون لنا نظرية قومية نلتزمها في قضايا أمتنا ، ونظرية او نظريات اخرى في القومية نستغلها في تبرير مواقفنا غير العقائدية من الأمم والجماعات البشرية الأخرى 

وينطبق هذا ، أول ما ينطبق ، على ادق مشكلة تطرحها الاقليات ونعني بها مشكلة ” الاقليات القومية ” وإن لم تكن هذه المشكلة – كما سنرى – هي المشكلة الوحيدة . ومشكلة ” الاقليات القومية ” لم تحظ من الفكر العربي بالدراسة التي تتناسب مع خطورتها ، بالرغم من انها مطروحة في الوطن العربي كمشكلة خطيرة . ويكون من المهم أن نجتهد في الاحاطة بالضوابط الفكرية لها احاطة وافية ولو اقتضى هذا أن يطول الحديث فيها . وأول ما ينبغي ان نعرفه هو مضمون مشكلة ” الاقليات القومية ” . ما هي حقيقة المشكلة التي كثيراً ما تثير الصراع وما هو الموضوع الذي يدور عليه الصراع بصرف النظر عن ادعاءات اطرافه ؟

الأصل أن الوجود القومي يطرح مشكلة علاقة الأمة بالدولة . وفي هذا تختلف النظريات . فلا تثور مشكلة ” الاقليات القومية ” أصلاً في أية نظرية تنكر الوجود القومي ، أو لاترى أن ثمة علاقة بين الوجود القومي والوحدة السياسية . أما النظريات التي تتضمن ان هناك علاقة ايجابية بين الوجود القومي والوحدة السياسية تقتضي أن تكون لكل أمة دولتها القومية ، فإنها تثير وتواجه مشكلة ” الاقليات القومية ” مستويين : أولهما المستوى الخارجي أي حق الدولة القومية في أن تضم اليها ما يقع خارج حدودها من الأمة التي تجسدها . وثانيهما المستوى الداخلي أي حق ما تضمه الدولة القومية من امم أخرى في ان يستقل عنها ويلحق بدولته القومية . وإذا كان الحديث على المستوى الأول ( الخارجي ) يدور عادة حول ” الوحدة القومية ” بينما يدور الحديث على المستوى الثاني (الداخلي) عادة حول ” الاقليات القومية ” إلا أن جوهر المسألة واحد ، حق الاستقلال القومي . وكل هذا يفترض أن هناك أمماً تتنازع فيما بينها على وجود ، أو حدود ، الدولة القومية . وتحتج كل منها بقوميتها . لتكون لكل امة دولتها . وهكذا نعرف من المشكلة ما لا يجوز أبداً ان ننساه أو نتجاهله : إن مشكلة ” الاقليات القومية ” هي في جوهرها مشكلة تحرر قومي .

انها ـ اذن ـ ليست مشكلة ” انسانية ” تحلها المساواة بين البشر . وليست مشكلة حكم فتحلها الحكومة الديموقراطية . وليست مشكلة تخلف اجتماعي فيحلها التعليم والتنمية . وليست مشكلة استغلال اقتصادي فتحلها الاشتراكية . ولكنها مشكلة تحرر أو حرية . إن هذا لا يمنع أن يكون المحرك لها ، عامل ، أو عدة عوامل ، إنسانية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية . بالعكس . إنها لابد أن تثور ابتداء من واحد من تلك المضامين الحية لأن الحرية ذاتها ليست مفرغة من مضامينها الانسانية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية . ولكنها متى ثارت حول ما يسمى حينئذ ” الحقوق القومية ” تكون أمام مشكلة تحرر قومي لن تحلها التنازلات الجزئية أو المكاسب المرحلية ، بل تحلها فقط ، ونهائياً ، عندما تستقل كل أمة بدولتها القومية لا دون هذا ولا أبعد منه .

لهذا فإن الحل القومي التقدمي لمشكلة ” الاقليات القومية ” لا يحتمل التردد أو المماطلة : على كل دولة قومية أن تلتزم حدود الوطن القومي وان تتخلى عما تضمه من الأمم الأخرى . لأن ” الدولة لا تحدد المجتمع على هوى الذين أقاموها ليحكموا بها ولكن المجتمع هو الذي يحدد الدولة على ما تقتضيه حقيقة وجوده الموضوعي . وعندما تكون الدولة متفقة مع الوجود الموضوعي للمجتمع تصبح تجسيداً سياسياً صحيحاً لهذا الوجود . أما إذا لم تكن متفقة معه فإنها تكون قائمة على غير اساس سوى القهر ويجب أن تزول . ” هكذا قلنا من قبل ونحن نطبق النظرية القومية التي نهتدي بها في هذا الحديث وهكذا نقول هنا تطبيقاً لذات النظرية . وعلى كل صاحب ، أو أصحاب نظرية في الأمة ، وفي القومية ، وفي الوحدة … الخ أن يقبلوا ما تلزمهم به نظريتهم . فالنظريات التي تأخذ بوحدة الأصل في تكوين الأمة تكون ملزمة بأن تعتبر أية جماعة من البشر ذات أصل واحد متميز أمة متميزة وأن تعترف لها بحق الاستقلال بدولتها القومية . والنظريات التي تأخذ بوحدة الدين في تكوين الأمة تكون ملزمة بأن تعتبر أية جماعة من البشر ذات دين خاص متميز أمة متميزة وان تعترف لها بحق الاستقلال بدولتها القومية . وعندما تكون النظرية قائمة على وحدة اللغة كمميز للأمة تكون ملزمة بأن تعتبر أية جماعة من البشر لها لغة خاصة متميزة أمة متميزة وأن تعترف لها بحق الاستقلال بدولتها القومية . وأخيراً ، وليس آخراً ، إذا كانت الارادة المشتركة في الاستقلال بدولة مميزاً كافياً للوجود القومي فلا بد من الاعتراف لأية جماعة من البشر تريد الاستقلال بدولة بأنها أمة متميزة لها حق الاستقلال بدولتها القومية … وهكذا .

المهم أن نقف من الواقع موقفاً عقائدياً ثابتاً ، ولا نصطنع العقائد لمواقفنا المتغيرة . حتى لو كنا نأخذ بنظرية لا تعرف للأمة مميزاً أساسياً تهتدي به ، وتجمع بين مميزات عدة ، فما علينا إلا ان نحدد تلك المميزات ثم نقيس واقع الجماعات البشرية عليها ، ونعترف لمن تجتمع لهم بانهم أمة ومن حقهم أن يستقلوا بدولتهم القومية . ذلك لأن الاستقلال في دولة قومية هو الموضوع الذي يدور عليه الصراع في مشكلة ” الاقليات القومية ”، بصرف النظر عن ادعاءات اطرافه . والمماطلة في قبول الحل القومي التقدمي يعني أن ثمة موقفاً انتهازياً يريد ان يفرض سيطرته باسم القومية.

هنا نترك كل صاحب ، أو اصحاب نظرية في القومية ليحددوا موقفهم ونعود نحن الى تحديد موقفنا على هدى النظرية القومية التي اخترناها.

عرفنا أن الوجود القومي ( الأمة ) حقيقة موضوعية لا تتوقف وجوداً و عدماً معرفتنا لها . فنحن ان عرفناها نكون قد اكتشفناها . وإن لم نعرفها فهي قائمة وإن كنا نجهلها . والتزاماً بهذا لا يصح أن ننكر على أية ” أقلية قومية ” وجودها لمجرد أننا لا نرغب في هذا الوجود أو لأننا نجهله . بل علينا ان ندرس الواقع الاجتماعي والتاريخي لأية أقلية حتى نكتشف حقيقتها الموضوعية ، ونعاملها أو نتعامل معها على هذا الاساس . ومن ناحية أخرى لا يصح ان نقبل مزاعم كل جماعة من الناس تدعي انها ”  أقلية قومية ” لمجرد انها تريد أن تكون كذلك أو لأن لها في الوجود القومي نظرية خاطئة أو ملفقة على الوجه الذي تريد . وإذا كنا نرفض أن نكون انتهازيين نصطنع لأنفسنا نظريات في القومية تبرر مواقفنا غير العقائدية من الأمم والجماعات البشرية الأخرى ، فإنا نرفض أيضاً ان نكون انهزاميين أمام الذين يصطنعون لأنفسهم نظريات في القومية لتبرير مواقفهم الانفصالية ، إن الانتهازية الفكرية ليست دائماً حالة مرضية بل كثيراً ما تكون موقفاً معداً بعناية لخدمة أغراض أبعد ما تكون عن المجال الفكري . وهي وإن كانت مخربة دائماً إلا انها تصبح بالغة الخطورة عندما تطرح في ساحات الصراع بين الناس والأمم . فلا ينبغي لنا أن نخدع في التبريرات النظرية فإن سلاح النظريات من أمضى اسلحة التخريب التي تسلطها القوى المعادية لحريات الشعوب ، لتبرر لعملائها أدوارهم الخائنة ثم لتحضر الشعوب فكرياً للهزيمة وقبول العبودية . وفي المرحلة التاريخية المعاصرة حيث كثيراً ما تغير القوى الاستعمارية والرجعية من اساليبها ، وتستغني بالتخريب الخفي عن البطش الظاهر ، أصبح السلاح الفكري أداة أساسية في خدمة الأهداف العدوانية وفي دفع العدوان أيضاً . لهذا فغن الحكم على الاجتهادات الفكرية حكماً مجرداً عن القوى التي تطرحها ، والظروف التي تطرح فيها ، فخ يمكن أن تختلط فيه الخيانة بالعقيدة ، فتصبح خيانة ” عقائدية ” أو عقيدة ” خائنة ” . وهذا يصح تماماً بالنسبة الى مشكلة ” الاقليات القومية ” والمبررات التي تثيرها أو تستند اليها . ويمكن معرفته من خلال اكتشاف العلاقة بين تحركات القوى المعادية وتحرك الاقليات بدعوى الحصول على ” حقوق قومية ” تدعيها العلاقة في التخطيط أو التوقيت أو القوى … الخ . وعندما نرى أن حركة اقلية ما متسقة في تخطيطها ، أو توقيتها ، أو قواها مع تحركات القوى المعادية فنحن أمام دليل ” أول ” على أننا لسنا في مواجهة ” أقلية قومية ” مقهورة تبحث عن الحرية بل أمام جماعة من العملاء يتحركون لخدمة مصالح القوى المعادية تحت ستار نظريات في القومية أعدها لهم سادتهم لستر خيانتهم . ولا يؤثر في هذا أن يكونوا واعين دورهم أو غير واعين فإن النوايا لا تغير من الواقع الموضوعي شيئاً . نقول أمام دليل ” أول ” لأنه ليس الدليل النهائي . إنه يكفي للحذر ولكنه لا يكفي لتحديد موقف . ذلك لأننا لا يمكن أن نذهب مذهباً آخر في الانتهازية فنستغل تحركات القوى المعادية لنفرض على الناس القهر ونتهم كل حركة تحررية أو تقدمية بأنها من صنع الاستعمار أو أداته ، ونرفض كل نظرية لا تعجبنا زاعمين لأنها من أعداء القوى المعادية واصطناعها ، ونوزع تهم الخيانة بلا حساب . اننا بهذا لا نخدم الا القوى المعادية نفسها التي قد تكون ما تحركت اذ تحركت فعلاً الا لتثير فينا رد فعل يدفع بنا الى المواقع التي تتفق ـ في النهاية ـ مع اغراضها ولا مخرج من هذا كله الا بالبحث العلمي الموضوعي لاكتشاف الحقيقة الاجتماعية والتاريخية للذين يقولون عن أنفسهم أنهم ” أقلية قومية ” ، ويتحركون تحت اعلام المطالبة ” بحقوقهم القومية ” . لا بد من المعرفة العلمية قبل أن نلتزم أو نتهم . ثم نعاملهم أو نتعامل معهم ـ بعد هذا ـ طبقاً للنظرية القومية التي نلتزمها ” نحن ” لا طبقاً للنظرية التي يدعون ” هم ” التزامها ، حتى لا تكون لنا أبداً نظريتان في موقف واحد .

هذه نقطة أولى وأساسية .

وقد عرفنا من قبل كيف : ” ننظر الى المجتمعات خلال تطورها الجدلي وحركتها التي لا تتوقف من الماضي الى المستقبل . فالأمة تدخل مرحلة التكوين القومي باستقرار الجماعات القبلية ( تحمل كل منها لغتها وثقافتها وتقاليدها ) على أرض معينة ومشتركة وبها تحل مشكلة الهجرة وتتميز بالاستقرار على الأرض عن الطور القبلي ” و التزاماً بهذا يجب أن يستهدف البحث العلمي في مشكلة الاقليات وواقعها الاجتماعي والتاريخي معرفة الطور الذي وصل اليه أطراف المشكلة ، لنعرف ما إذا كنا في مواجهة أقلية ، أو اقليات قومية أم لا ، ونستطيع أن نأخذ من المشكلة الموقف العقائدي السليم ونجد لها الحل التقدمي الصحيح . وطبقاً لما يسفر عنه البحث نكون أمام واحدة من المشكلات الاربع الآتية ، التي كثيراً ما تختلط بمشكلة ” الاقليات القومية ” في حين ان مشكلة ” الاقلية القومية ” ليست إلا واحدة منها ، تختلف عن باقيها مضموناً وحلاً .

أولاً ـ مشكلة التمييز العنصري :

والعنصرية التقاء على إحدى المميزات القبلية أو الموروثة عن الطور القبلي ، مثل وحدة الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو التقاليد . وتثور مشكلة التمييز العنصري عندما تكون الظروف التاريخية لقيام الدولة قد جمعت فيها مجموعة من القبائل حيث : ” داخل المجموعة الانسانسة الواحدة تتفرد كل جماعة وحدة قبلية متميزة عن القبائل الأخرى بأصلها الواحد ولغتها الواحدة ثم بنظمها وتقاليدها وثقافتها ”   ( أكثر دول أفريقيا الوسطى ) . أن تكون الظروف التاريخية لقيام الدولة قد جمعت فيها جماعات شبه قبلية مهاجرة من مجتمعات اخرى ( دول ـ أمريكا ـ استراليا ـ جنوب افريقيا ) أو مجتمعات متجاورة لم يكتمل التكوين القومي لأي منها فتصبح امة ( الهند وقت الاستقلال ) والمميز لمثل هذه الدولة أن اياً من الجماعات التي تضمها ليست جزءاً من أمة خارج حدودها ، وليست امة مكتملة في الوقت ذاته ، بل هي جماعات مستقرة على أرض واحدة في ظل دولة واحدة ، وتكون الدولة فيها ممثل الاستقرار على الأرض المشتركة . أي أنها جميعاً ” أمم ” في طور التكوين . ويدور الصراع الاجتماعي فيها بين قوى تحمل تراثها القبلي بقصد الاستيلاء على السلطة في الدولة ( أداة تحقيق المصالح المادية والثقافية ) احتجاجاً بالتفوق في الجنس أو الأصل أو الدين أو اللغة أو الثقافة ، في مواجهة قوى تحمل تراثها القبلي أيضاً وترغب في المشاركة في سلطة الدولة انكاراً للتفوق العنصري . ويشتد الصراع كلما كانت الفروق الحضارية بين الجماعات أكثر عمقاً . وتجنح الاقلية الى الانفصال إذا كانت ترى قواها وقوتها قادرة على فرضه من خلال الثورة أو الحرب الأهلية . وقد تنجح في ظروف مواتية فتنفصل مكونة دولتها المستقلة ( باكستان ) وقد تفشل فيتولى الغالبون فرض سيطرة الدولة على الجميع ( الولايات المتحدة قديماً ـ  ونيجريا حديثاً ) . وتتوقف نهاية الصراع العنصري على موقف الدولة منه . فلا ينتهي بدون انفصال إلا في ظل أكبر قدر من المساواة بين الناس جميعاً بصرف النظر عن مميزاتهم العنصرية ، واكبر قدر من حرية التفاعل الذي تتطور به الجماعات مختلفة الأصول واللغات والأديان والتقاليد فتستكمل تكوينها القومي فتصبح امة واحدة ذات حضارة مشتركة بالاضافة الى الأرض المشتركة .

ان هذا النموذج العنصري من مشكلة الاقليات من صنع القوى الاستعمارية التي فرضت سيطرتها احقاباً طويلة على الشعوب المختلفة فحبست نموها ، إن لم تكن قد ابادتها ، فلما ان تحررت اخيراً وجدت نفسها في ذات الطور القبلي الذي داهمها الاستعمار منذ قرون وهي عليه ، فكان عليها أن تكمل ـ متأخرة ـ مسيرتها الحضارية في ظل الدولة التي كان الاستعمار أيضاً هو الذي خطط حدودها يوم أن كانت الأرض قسمة بين القوى الاستعمارية . على أي حال فإننا هنا لسنا في مواجهة مشكلة ” اقليات قومية ” بل نحن في مواجهة تمييز عنصري قائمة على التفرقة بين البشر في الانسانية ، فهي في جوهرها مشكلة انسانية ، تحل عن طريق المساواة في دولة الديموقراطية .

ثانياً ـ مشكلة التعدد القومي :

تثور مشكلة التعدد القومي عندما تشترك عدة أمم في دولة واحدة تمثلها جميعاً وتمثل كل منها على حدة ، بدون سيطرة من امة على أخرى ، أي بدون ان تكون الدولة المشتركة أداة قهر تفرض بها إحدى الأمم سيطرتها على الأمم الأخرى التي تجمعها الدولة . وقد كان هذا النموذج من الدول سائداً في مرحلة تاريخية طويلة كانت وظيفة الدولة فيها مقصورة على المحافظة على الأمن الخارجي ( عصر الامبراطوريات ) وكان رئيس الدولة المشتركة بمثابة قائد عام للجيوش الامبراطورية . غير أن للدولة المشتركة التي تضم امماً متعددة نماذج معاصرة ونماذج متوقعة ايضاً .

فمن نماذج الدولة المشتركة في عصر الامبراطوريات دولة الخلافة في القدر الأكبر من تاريخها . فالخليفة كان ينتمي الى عشيرته ويسمى باسمها ، ثم يحكم باسم الاسلام الذي لم يكن من صنعه ، أمماً وشعوباً وقبائل كثيرة . ولم يكن حق قيادة الجند أو جباية الضرائب او تولي الوزارة او الولاية أو القضاء مقيداً بأي انتماء قومي أو شعوبي أو اقليمي . كان ذلك حقاً لكل قادر عليه كما يقدره الخليفة أو القائد العام لكل الناس من كل الأمم والشعوب والقبائل . ومن هنا كانت الخلافة ” دولة ” المسلمين كلهم ، ودولة كل امة أو شعب على حدة ، كانت دولة واحدة مشتركة بمعنى انه لم تكن اية أمة أو شعب يرى أن في الخلافة ما يمس وحدته القومية أو يحول دون استكمال وجوده القومي . وينطبق هذا على الخلافة العثمانية ذاتها . فقد كان الخليفة ” عثمانياً ” نسبة الى عشيرته ولم يكن في هذا يفترق عن الخليفة الأموي أو العباسي أو الفاطمي … الخ . لم يكن ” تركياً ” ينتمي الى أمة ، أو يمثلها ، أو يفرض سيطرتها على ما يحكم من أمم وشعوب وقبائل لسبب بسيط هو أن الأمة التركية لم تكن قد اكتملت تكويناً . وإذا كان الدارج فيما يكتب عن تاريخ الخلافة العثمانية رد التخلف الاجتماعي الى ما يقال له ” الاستعمار العثماني أو التركي ” فإن هذا لا يصدق إلا في مرحلة لاحقة لبداية القرن العشرين . أما قبل ذلك فلم يكن في تركيا نظام رأسمالي غايته الاستيلاء على الموارد المادية في انحاء الامبراطورية لتصنيعها واعادة تصديرها بضائع للمستهلكين ليحقق من وراء ذلك ربحاً . وهي العلامة المميزة للاستعمار . أما عن التخلف الاجتماعي فقد كان سمة عامة لحركة التطور في دولة الخلافة العثمانية وكانت القائل الطورانية التي تقيم حيث مركز الخلافة أكثر تخلفاً من كثير من المجتمعات الأخرى التي تضمها دولة الخلافة . وقد كانت طبيعة الدولة تتغير رويداً رويداً مع نمو التكوين القومي للمة التركية عن طريق استئثار الاتراك تدريجياً بوظائف الدولة وما يعكسه هذا من اختلاف تدريجي في موقف دولة الخلافة المشتركة من رعاياها . فلما ان اكتملت الأمة التركية تكويناً بدأت حركتها القومية تحاول من خلال منظمات عدة أهمها ” جمعية الاتحاد والترقي ” الاستيلاء على الدولة متحالفة في هذا مع القوى الاستعمارية الأوروبية التي كانت تستهدف فض الدولة المشتركة تمهيداً للاستيلاء على اجزائها غير التركية . وعندما استولت الحركة القومية التركية على ” الدولة ” فعلياً في ظل المرحلة الأخيرة من الخلافة وقبل الغاء الخلافة رسمياً زالت الصفة المشتركة للدولة وأصبحت دولة تركية يستخدمها الاتراك في فرض سيطرتهم على ما تبقى فيها من أمم وشعوب بعد أن كان الاستعمار الغربي قد اقتطع منها اجزاء عديدة . وبذلك فقدت الأمم الأخرى دولتها وبدأت حركتها القومية ضد السيطرة التركية الاستعمارية . ومثالها الحركة القومية العربية.

ومن نماذج  الدولة المشتركة المعاصرة ، اتحاد الجمهوريات السوفيتية . ففي أواخر الحرب الأوروبية الأولى كانت روسيا القيصرية تفرض سيطرتها على أمم وشعوب كثيرة تمتد من بولندا الى ساحل المحيط الباسفيكي . وكانت الدولة دولة الأمة الروسية . وبعد ثورة اكتوبر 1917 واجه لينين مشكلة تعدد الأمم ( القوميات ) في الدولة فاعترف لها من حيث المبدأ بحق الانفصال . ثم تولى ستالين صنع هذا الانفصال بالقوة إلى أن تحولت دولة روسيا إلى دولة سوفيتية مشتركة بين كل الأمم والشعوب في الاتحاد السوفيتي . وهذا اصبح الاتحاد في دولة هو صيغة الدولة المشتركة بين قوميات عدة ويتوقف بقاء الدولة المشتركة أو انقضاؤها بالانفصال على مدى احتفاظ الدولة بصفتها المشتركة أي تمثيلها لكل الأمم والشعوب وتمثيلها لكل امة وشعب في الوقت ذاته . وتقدم الاشتراكية هنا أكبر ضمانات بقاء الدولة المشتركة حيث الاشتراكية تعني ـ أو المفروض ان يتحقق بها ـ الغاء الاستغلال والقهر على مستوى الافراد وعلى مستوى الأمم .

ومن نماذج الدولة المشتركة المتوقعة ما يبنونه ـ الآن ـ جزءاً جزءاً في أوروبا الغربية ابتداء من السوق الأوروبية المشتركة . فليس من المستبعد أن تتكون دولة اتحاد أوروبا الغربية ، وربما الشرقية ، من خلال تراكم المصالح المشتركة بين الأمم المرشحة لها والمعالجة المشتركة لتلك المصالح . وبعكس ما يبدو ظاهرياً يرشح الواقع اتحاد دول أوروبا الشرقية للانجاز قبل اتحاد دول أوروبا الغربية . فمنذ سقوط الستالينية بدأ في شرقي أوروبا اتجاه اشتراكي إلى احترام الاستقلال القومي للأمم في العلاقات الخارجية والثقة بالاسلوب الديموقراطي في العلاقات الداخلية . وعندما يستقر احترام الانسان في ذاته وفي مجتمعه التاريخي تصبح الاشتراكية أهم عوامل الالتقاء البناء بين الأمم والمجتمعات وتقدم من ذاتها ضماناً ضد التسلط والاستغلال فتفتح امام تطور الأمم طريقاً ممهداً للتعاون ثم التقارب ثم المشاركة . بعكس هذا نرى أن سيادة النظام الرأسمالي في أوروبا الغربية ، والسيطرة الامريكية عليها ستحولان في النهاية دون ان تصل الى الاتحاد في دولة مشتركة ، إلا أن تصفى السيطرة الامريكية التي تخرب علاقاتها من الخارج ، وتصفى المنافسة الرأسمالية التي تخرب علاقاتها في الداخل . أي إلى أن تتحرر شعوب أوروبا الغربية .

تلك ثلاثة نماذج من الدول المشتركة في مراحل تاريخية مشتركة تسمح بأن تلاحظ سماتها الاساسية التي هي شروط صلاحيتها ايضاً . أولى تلك السمات المصلحة المشتركة . فهي تقوم عندما توجد مصلحة مشتركة بين عدد من الأمم والشعوب تكفي وتستلزم في ظروف تاريخية معينة اقامة دولة مشتركة فيما بينها تكون وظيفتها الحفاظ على تلك المصلحة المشتركة لا تتعداها . السمة الثانية الشمول . فهي تضم كل الأمم والشعوب المتحدة في الدول المشتركة بدون ان تترك خارجها اجزاء منها وبدون ان تضم اليها اجزاء من أمم أو شعوب اخرى . فإن تركت أو ضمت فتلك مشكلة اخرى سنعرفها فيما بعد لا تؤثر في طبيعة الدولة المشتركة . السمة الثالثة وحدة الدولة . أي ان الدولة المشتركة تعتبر دولة كل الأمم والشعوب في مواجهة القوى الخارجية كما هي دولة كل امة وكل شعب على حدة في علاقتها الداخلية . بمعنى أن كل أمة او شعب فيها يجد فيها دولته فإن افتقدها فهي ليست دولة مشتركة . وتنتظم تلك السمات عادة مواثيق ودساتير تعاهدية تنظم علاقة كل امة وشعب بالدولة المشتركة وعلاقة الأمم والشعوب داخلها .

المهم اننا في ظل الدولة المشتركة قد نواجه بعض المشكلات الدستورية ولكنا لانكون في مواجهة مشكلة اقلية او اقليات قومية .

ثالثاً ـ مشكلة التخلف القومي :

هذه هي المشكلة الأكثر اختلاطاً بمشكلة ” الأقليات القومية ” . ولكي نميز بينها تمييزاً صحيحاً ينبغي ان نتذكر ذلك السؤال الذي طرحناه من قبل ونحن بصدد الحديث عن وحدة المصير القومي : لماذا تكونت الأمم ؟ (فقرة 23) ثم نعيد هنا ذكر بعض الاجابة عنه . فقد قلنا : “  ان التكوين القومي للمجتمعات كان حصيلة نمو واضافة تحققت خلال الحل الجدلي لمشكلات الطور الاجتماعي الذي سبق القوميات فهو أكثر منه تقدماً ، أي فيه من الحريات أكثر مما كان ، وهو أكثر شمولاً فيتضمنه ولا يلغيه ولكن يضيف اليه ويحدده كما يحدد الكل الجزء . فكما أن المجتمع القبلي لم يلغ الأسرة فيه بل ظلت أسراً وبطوناً وأفخاذاً يقوم الدم فيها رابطة مميزة بين ذوي الدم الواحد ، بقيت الأسر في الأمة الواحدة واضيفت اليها الروابط المحلية والاقليمية فيما يتجاوز التمييز العائلي تمييزاً للخلف المستقر للجماعات القبلية قرى ومدناً ومناطق وأقليم ، ثم اضيفت اليها الرابطة القومية اضافة كانت حلاً لمشكلات السر والاقاليم ذاتها ، تحققت بها للافراد مع الأسر والاقاليم حريات لم تكن لتتحقق لهم بما تهيئه رابطة الدم وحدها او الروابط المحلية وحدها . اللغة الواحدة بقيت كما كانت من قبل وسيلة مشتركة لتبادل المعرفة وتبادل الرأي واصبحت أكثر غنى بما أضاف اليها الناس في المجتمع القومي من معارف وآراء جديدة طورتها فتجاوزت لغة الأسر والاقاليم التي بقيت لهجات تشملها اللغة الواحدة وتتخطاها ولكن لا تلغيها . ومثل هذا تحقق اضافة في العلم والمعرفة والعقائد والمقدرة على العمل ، فكسب به كل فرد من أية أسرة ومن اي اقليم علماً وثقافة وحريات أكثر مما كانت له وهو محصور في امكانيات بني دمه أو عشيرته أو قبيلته ، والاضافة لا تلغي المضاف اليه ولكن تكمله وتغنيه … الخ . ” ثم انتهينا الى القول : اننا لم نكن أمة عربية اعتباطاً بل تكوّنا أمة واحدة من خلال بحث الناس عن حياة أفضل ، فإذا كنا قد بلغنا من خلال تلك المعاناة التاريخية الطور القومي ، أي ما دمنا أمة عربية واحدة فإن هذا يعني ان تاريخنا الذي قد نعرف كل احداثه وقد لا نعرفها كلها قد استنفذ خلال بحث اجدادنا عن حياة افضل كل امكانيات العشائر والقبائل والشعوب قبل أن تلتحم معاً لتكون أمة عربية واحدة .

وفي تاريخ كل أمة يكون الوجود القومي دليلاً تاريخياً لا ينقض على صحة هذه المقولة ، غير أن التاريخ القومي قد يصادف في مسيرته التقدمية عقبات أو نكسات تقيمها أمامه أو تفرضها عليه القوى المعادية لمصيره القومي التقدمي ، وذلك بالسيطرة الظاهرة أو الخفية العسكرية او الثقافية أو الاقتصادية ، على وجه يسخّر امكانيات الأمة وقواها لخدمة القوى المسيطرة بدلاً من أن تكون مسخرّة للتقدم القومي . وعندما تفقد الأمة حريتها تسلب امكانياتها لتحقيق تقدم الغاصبين من ناحية وتشمل مقدرتها على تحقيق مصيرها التقدمي من ناحية أخرى . فتتخلف كأمة تتخلف في اللغة القومية ، وفي الثقافة القومية ، وفي الاقتصاد القومي ، وفي الفنون القومية ، وفي الحضارة القومية … الخ . كل ما هو قومي يصبح متخلفاً حتى لو قدم الغاصبون الى الشعب المستعبد انماطاً أخرى من التقدم لتكون بدائل حائلة دون الثورة القومية التحررية أو عقبة في سبيلها عن طريق امتصاص الضغط الثوري في الأمة المقهورة . وكثيراً ما يقدمون لغتهم ، وثقافتهم ، واقتصادهم ، وفنونهم وحضارتهم … لدعم سيطرتهم أولاً ولإلهاء الناس عما فقدوه ثانياً . حينئذ ـ أي خلال فترات التخلف ـ يحتاج الناس في الأمة المقهورة الى مقدرة فذة في الوعي لمجرد معرفة حقيقة المشكلات التي يعانونها والطريق الى حلها . ولما كان التخلف قد بدأ بأن سلب الغاصبون امكانيات الأمة على التقدم بالاستيلاء على موارها وقواها القومية ، ثم سلبها المقدرة على استردادها بإلغاء دولتها القومية فإن مفتاح المستقبل المتجاوز لمرحلة التخلف يكون بالتحرر والوحدة القومية . وتعرف القوى المسيطرة ، المستغلة ، هذا فينصب تخريبها اول ما ينصب على الوعي القومي . ويكون ذلك بأساليب عدة ، أخطرها سحق الوجود القومي في وعي الناس عن طريق تفريغ القومية من أي مضمون تقدمي . أي بطرح القومية كرابطة عاجزة عن تقديم الحلول التقدمية للمشكلات التي يعانيها الناس فعلاً . وتلعب الافكار ومناهج التعليم والنشاط الاعلامي والنظريات ذلك الدور المخرب الذي تحدثنا عنه من قبل . وتصبح الأمة خرافة أو وجوداً سلبياً ، وتصبح القومية غير واقعية ، أو غيرعلمية ، أو رجعية ، أو عدوانية … وكل ما يخطر على بال الذين يريدون ان يحولوا بين الأمة وبين معرفة الطريق الصحيح الى الحرية . وكلما خربوا تخلفت الأمة فسهلت عملية التخريب فزادت تخلفاً فازدادوا تخريباً … وهكذا في حلقة جهنمية تجسدها الآن ـ في الوطن العربي تلك المقولة الشيطانية ”  لكي ننتصر على اعدائنا لابد اولاً من ان نتجاوزهم حضارياً ونحن لا نستطيع ان نتجاوزهم حضارياً إلا أن انتصرنا عليهم أولاً … ” ويبدو المستقبل القومي ، أو استرداد الأمة للمقدرة على تحقيق مصيرها التقدمي ميؤوساً منه ، وتبدو القومية رابطة غير ذات فائدة ، ويبدو الحديث عن المصير القومي التقدمي تهويمات مثالية لا علاقة لها بالواقع ومشكلاته ، ويبدو القوميون التقدميون أكثر الناس عبثاً وتكون الأمة حينئذ قد وصلت الى أحط درجات التخلف ، لا لأنها سلبت امكانيات التقدم فحسب ، ولا لأنها غير قادرة على ان تتقدم بما هو متاح فقط ، بل لأنها تكون قد فقدت حتى معرفة حاجتها الى الخلاص . وذلك أقصى ما يريد السادة ان يصل اليه المستعبدون .

ولكن الأمم ، ذلك الوجود الموضوعي الذي كونه التاريخ ، لا يلغيها التخريب ، ولا تعود قبائل وشعوب مرة اخرى بحكم قانون التطور الجدلي الصاعد دائماً ، ولكنها قد يتعثر تطورها فإذا بها متخلفة في السباق الحضاري بين الأمم . وفي أشد مراحل التخلف ظلاماً يتوهج الوعي القومي في بؤر محدودة ، يعوض بوضوحه الصارم انتشاره المحدود ، ويعبر عن مناعة الأمة ضد الموت ، وإصرار التطور على إكمال مسيرته التقدمية . في ظلمة الجهل الكثيفة ومن بين انقاض التخريب الفكري ، تظل القومية قادرة على أن تضيء الطريق الى المستقبل فنعرف على هديها مشكلات التخلف ذاتها ، فإذا هي مشكلات واضحة تتطلب حلولاً لا تقل عنها وضوحاً ، ومنها مشكلة الاقليات .

فالمسألة ـ  ببساطة ـ انه عندما يحول التخلف القومي الذي فرضته القوى المعادية دون ان تبرر الأمة وجودها كطور ارتقت اليه الجماعات والقبائل والشعوب من خلال البحث عن حياة أفضل ، أي عندما يحول التخلف القومي دون أن تقدم القومية مضمونها التقدمي للناس ، يبدأ الناس الذين تحركهم دائماً الرغبة في التقدم بالبحث عنه من خلال علاقات اخرى . علاقات أوسع ( الانسانية ـ الأممية ) أو علاقات أضيق ( العشائرية ـ القبلية ـ الشعوبية ) . وفي نطاق البحث عن حياة أفضل عن طريق الروابط الضيقة تطرح المشكلات التي تختلط بمشكلة الاقليات القومية ذلك لأن محاولات الارتداد الى الروابط الأدنى من القومية تبرز خصائصها القبلية والشعوبية الأولى حتى يلتقي الناس عليها . فيعود الناس الى البحث عن الاصول العرفية القديمة أو الاجناس البشرية المنقرضة متخذين من الاسماء التاريخية أدلة على وحدة العرق أو من اللون دليلاً على وحدة الجنس . أو يعودون الى ما تبقى من اللهجات واللغات القديمة فيحاولون احياءها كتابة ولو بحروف مستعارة من اللغة القومية متخذين من تلك اللهجات واللغات الميتة ادلة على وحدة التاريخ . وعندما يفتقدون الجنس أو العرق أو اللغة أي عندما يكون انتماؤهم القومي نقياً بدون شائبة بدائية . يعودون الى المذاهب الدينية البالية محاولين أن يتخذوا من خرافات ” الطائفية ” رابطة اجتماعية . باختصار يحاول الناس العودة الى الروابط ” العنصرية ” المتخلفة لأنهم في مراحل التخلف القومي ، يفتقدون الحل القومي التقدمي القادر على انقاذهم من مواقعهم المتردية . وتصبح الاقليات أقليات عشائرية أو قبلية أو طائفية أو شعوبية . يبحث كل منها عن طريق الى التقدم من خلال الرابطة العنصرية المتاحة في غيبة التقدم القومي . يبررها ، ويغذيها ، ويحالفها ، البحث عن طريق الى التقدم من خلال الروابط الانسانية والأممية غير المتاحة ولو في غيبة التقدم القومي . فكلها افرازات مراحل التخلف القومي . وكلها تبحث عن الطريق الى التقدم وإن أخطاته . ان هذا مهم . مهم ان نفهم انها جماعات تبحث عن طريق الى التقدم الاجتماعي حتى لاتخطيء معرفة حل المشكلة . إذ ليس حل المشكلة على اي وجه مواجهة العصبية العنصرية بالتعصب القومي الذي يكتفي بإدائه التحركات العشائرية أو القبلية أو الطائفية أو الشعوبية ويستنفذ جهده في محاولة اتهام الناس بالخيانة ثم يستكين الى الواقع القومي المتخلف الذي أفرخ محاولات الارتداد العنصري . انها محاولات رجعية وفاشلة . نعم . ولكن هذا تشخيص للمرض وليس علاجاً . إنما العلاج ، أو حل المشكلة في إعادة المضمون التقدمي للقومية ذلك لأنه اذا كانت تلك الجماعات من العشائر والقبائل والطوائف والشعوب قد تجاوزت خلال المعاناة التاريخية المشتركة أطوارها البدائية الأولى واصبحت امة واحدة من خلال البحث عن حياة افضل فإن السبيل الوحيد للحفاظ على هذا التجاوز الموضوعي في وعي الناس أن تبقى الحركة القومية تقدمية أبداً ، وهكذا نرى ، طبقاً للنظرية القومية التي نهتدي بها ، أن القوميين التقدميين في كل امة هم المسؤولون أولاً عن ردة الاقليات الى روابطها العتيقة بقدر ما يعجزون عن حل مشكلة التحرر ومسؤولون اخيراً عن تصفية هذه الردة بقدر ما يحققون من تقدم . وقبل ان يوفوا هم بمسؤولياتهم لا يحق لهم أن يتهموا المرتدين بالخيانة . أما إذا واجهوا العصبية العرقية للأقلية المرتدة باستعلاء العنصر الغالب واضطهدوا الأقلية ، أو واجهوا العصبية اللغوية بالتعصب للغة القومية فحرّموا لغة الاقلية ، أو واجهوا العصبية القبلية بالتعصب الحضاري فطاردوا القبائل ، أو واجهوا العصبية الطائفية بالتعصب الديني فكفروها … فلا هم قوميون ولا هم تقدميون . لأنهم بهذا وحده يبررون مواقف الاقليات المرتدة ، ويشاركونها في الرجعية ، ويسهلون لأعداء امتهم مهمة التخريب المسلطة عليها .

ومع هذا فإن إحدى الأقليات ، أو بعضها ، قد يصل في مردته الى حد المطالبة بالاستقلال بجزء من الوطن القومي بدعوى إنها ” أقلية قومية ” وليست مجرد افراز لمرحلة التخلف القومي . فكيف يمكن التمييز بين الاقليات العنصرية المرتدة في مرحلة التخلف القومي ، وبين الاقليات القومية ؟ … لا يكفي هنا الاحتجاج بالمميزات السابقة على التكوين القومي : الأصل أو اللغة أو الثقافة أو التقاليد . فيبقى الاحتجاج بالأرض الخاصة والمشتركة . وقد عرفنا من قبل أن أية نظرية في الأمة لا تسلم بأن الأرض الخاصة والمشتركة ( خاصة بالجماعة البشرية دون غيرها ومشتركة فيما بينها ) عنصر لازم لأية جماعة بشرية لتكون أمة نظرية فاشلة في التعريف بالأمة . وهكذا يكون على أية اقلية مرتدة تطرح نفسها على انها أقلية قومية أن تثبت هي ، أو يكون علينا نحن ان نتحقق من انها جزء من تكوين قومي خارج الحدود كان في فترة تاريخية سابقة على تخطيط الحدود السياسية قد اختص دون غيره بالأرض التي يقيم فيها . لا يكفي ان تكون جماعات أقامت فيها فكل البشر يقيمون على الأرض ، والاحتجاج بالاقامة عودة الى مشكلة الاقليمية . إنما يجب ان تكون قد اختصت بتلك الأرض دون غيرها من الشعوب الأخرى وعلى وجه خاص دون ذلك الشعب الذي تريد ان تقتطع من دولته الأرض التي تدعي إنها ارضها الخاصة والمشتركة ، بما يعنيه هذا من ان الشعب قبل دولته لم يكن قادراً على ان يقيم في أرضها بغير اذن منها وذلك واقع اجتماعي وتاريخي يمكن دائماً التحقق منه . فإن لم يكن الأمر كذلك فإن تلك الاقلية جزء من الأمة التي تحاول أن تنفصل عنها ولو كانت ما تزال محتفظة ببعض خصائصها القبلية الأولى . أي انها وإن لم تكن إفرازاً لمرحلة تخلف قومي طارئة إلا أنها جزء متخلف من الأمة . انها جزء من الشعب رغم تخلفها وشريكة شركة تاريخية في الوطن القومي كله . ووجود جماعات متخلفة في أية أمة ـ بحكم البيئة الجغرافية عادة ـ لا يعني انها لا تنتمي اليها . فقد عرفنا انه : ” عندما تكتمل الأمة وجوداً قد تظل فلولاً من الجماعات القبلية محاصرة أو محصورة على أطراف الأرض الوعرة أو متخلفة في اماكن متفرقة داخل الوطن القومي ، وقد تحاول من حين الى آخر أن تكمل مسيرتها التاريخية مستقلة وان تبدأ منفردة بدخول مرحلة تكوين قومي خاص بها ، وهذا لا يكون إلا بأن تقتطع لنفسها جزءاً من الأرض تختص به . ولكن الأمر يكون قد حسم تاريخياً باختصاص الأمة التي سبقت تكويناً بالأرض المعنية المشتركة ، كل جزء منها ، وحتى اقصى اطرافها بغض النظر عمن يكون مقيماً على أرضها وفي كنفها من أفراد أو اسر أو عشائر لا ينتمون اليها أو من يكون متخلفاً من ابنائها لأن التكوين القومي الجديد لن يكون هنا إلا على حساب تكوين قومي اكتمل تاريخياً .

ثم يبقى الاحتكام الى البناء الحضاري الذي اكتملت به ، وخلاله ، الأمة تكويناً . فلن نفتقد في الحضارات القومية العريقة أن نجد لاسلاف الاقليات المتخلفة أدواراً خلاقة في بناء الأمة التي يدفعهم التخلف الى محاولة التخلي عنها وهي امتهم .

على أي حال فإن حل مشكلة تلك الاقليات المتخلفة من الأمة هو ذاته الحل القومي التقدمي . فقد عرفنا أن الأمم لم تتكون اعتباطاً ولكن من خلال بحث الناس عن حياة أفضل ، وعندما تقدم الأمة لكل ابنائها الحياة الأفضل ، أي عندما تكون القومية تقدمية ، تكتشف حتى الاقليات المتخلفة عبث المحاولات التي تقوم بها لتصنع من نفسها أمة متخلية عن امتها . وان كان وجود تلك الاقليات يكشف من ناحية اخرى عن خلل في مسيرة التقدم القومي أدى الى ان تسبق الأمة حضارياً بعض ابنائها ويكون على الأمة أن تصحح مسيرتها بمزيد من العطاء القومي للأقليات المتخلفة حتى تستوي مسيرتها القومية .

رابعاً ـ مشكلة الاقليات القومية :

أخيراَ نصل الى المشكلة الأصيلة بعد ان عرفنا ما يختلط بها من مشكلات مشابهة . ونعرف الآن إنها تقوم عندما تفرض الحدود السياسية على الأمم فلا تتفق مع وجودها الموضوعي وتؤدي الى ان يقتطع جزء من أمة ويضم الى دولة اخرى . وقد اصطنع الاستعمار الاوروبي أكبر مجموعة من هذه الدول خاصة بعد الحرب العالمية الأولى . والموقف القومي من هذه المشكلة ـ كما عرفنا ـ لا يحتمل التردد أو المماطلة . فعلى كل دولة أن تتخلى عن الاقلية القومية فيها لتلحق بدولتها القومية . وعلى الحركة القومية في كل أمة أن تمد ثورتها الى كل الوطن القومي ولو كان جزء منه قد اقتطع وألحق بدولة مغتصبة او مصطنعة . ذلك لآن مشكلة الاقليات القومية هي في جوهرها مشكلة تحرر ولا تمكن ـ قومياً ـ المساومة على الحرية .

وهكذا نعرف المشكلات على هدى النظرية القومية التقدمية . وعلى هذا تتحدد المواقف من المشكلات وحلولها . وتكون كل مشكلة متسقة مع حلها وعندما يغيب الوعي العقائدي ، ونخطيء في معرفة المشكلات المطروحة لن تزيدها الحلول الخاطئة الاتعقيداً . ومن أخطر الاخطاء في مشكلة الاقليات ان نأخذ بما يدعيه أو يتصوره أطراف المشكلة فنسمي كل اقلية قومية ونعترف بأن مطالبها ( المنصبة على امكانيات التقدم عادة ) هي حقوق قومية اننا بذلك نمهد لتمزيق الأمة . ولا يقل عن هذا خطراً أن نخطيء في التعرف على الاقليات القومية الحقيقية فنفرض عليها البقاء بسلطة الدولة . اننا بذلك نخون التزامنا القومي العقائدي ونتخذ من القومية غطاء لاستعباد الشعوب وطال الزمان أو قصر سيدفع كل خاطيء ثمن خطيئته .

فهل في الوطن العربي أقليات قومية ؟

ان هذا السؤال يتصل بالواقع التاريخي والاجتماعي يمكن معرفة الاجابة عليه بالبحث العلمي . ونحن نعرف أن في الوطن العربي أقليات عنصرية : عشائرية وقبلية وطائفية وشعوبية ، هي افرازات مرحلة التخلف التي تمر بها الأمة العربية منذ وقت غير قصير . ونعرف ان في الوطن العربي أقليات متخلفة من القبائل فوق قمم الجبال ومن البدو في اعماق الصحراء ومن الفلاحين في الريف العربي . وكلها حصيلة عدم استواء المسيرة القومية . ونعرف ان علاج كل هذا متوقف على العطاء القومي التقدمي . ثم اننا نعرف ان ليست كل التحركات العشائرية أو القبلية أو الطائفية أو الشعوبية بريئة من العلاقة بتحركات القوى المعادية لمصير أمتنا . وتكاد بعض تلك التحركات أن تكون في توقيتها وتخطيطها وقواها ، تحت القيادة المباشرة لأعدائنا . نعرف كل هذا ومن يبحث يعرفه ويعرف أكثر منه .

ولكن الذي نعرفه حقاً هو أن في الوطن العربي أقليات قومية . ان للأمة العربية أقليات قومية اقتطعها منها الذين فرضوا عليها الحدود السياسية . لنا أقلية قومية في عربستان أضيفت الى ايران . ولنا اقلية قومية في الاسكندرون أضيفت الى تركيا . ولنا أقلية قومية في اريتريا أضيفت الى الحبشة . ولكن ليس في داخل الحدود السياسية القائمة في الوطن العربي أقلية قومية واحدة مقتطعة من امة خارج تلك الحدود . ولم يكن من الممكن تاريخياً أن يكون الأمر على غير هذا ، فإن الأمة العربية لم تكن هي المعتدية التي فرضت حدودها على الأمم المجاورة فاقتطعت منها اجزاء ضمتها الى دولتها القومية . وكيف يمكن أن يحدث هذا وليس للأمة العربية دولة قومية ؟ … بل رسمت كل تلك الحدود وفرضت على الأمة العربية المعتدى عليها ، فلم يكن من المعقول أن يضيف اليها المعتدون شيئاً من خارجها ومع هذا فتكاد القوى المعادية والجماعات العشائرية والقبلية والطائفية والشعوبية المرتدة أن تمزق الأمة العربية وتعود بها عشرات القرون الى الوراء . وهذا مفهوم تماماً فلقد كدنا أن نصل كأمة الى اقصى درجات التخلف القومي .

ولكن الغريب أننا بدلاً من أن يستفزنا هذا الواقع المتردي فنحشد قوانا لإعلاء القومية وإعادة المضمون التقدمي اليها كحل وحيد لمشكلة الاقليات ينبري أكثر الناس ادعاء للعلم وللقومية وللعقائدية ليبرروا الهروب من المشكلة و” يفلسفوا ” الهزيمة فيعترفوا للاقليات المتخلفة بأنها أقليات قومية واهمين بأن ذلك الاعتراف هو نهاية المطاف و ” الحل الأبدي ” للمشكلة . ان اكتشاف الموقف العقائدي الصحيح ولو من خلال تجربة الفشل لا عيب فيه إلا أنه جاء متأخراً ، ولكن عندما يكون الموقف ” العقائدي ” ” تبريراً ” ” عقائدياً ” للفشل يكون الأمر مختلفاً تماماً . انها الانهزامية . الثمن الذي يدفعه عادة كل الذين يتصدون لمشكلات القومية مغامرة بدون نظرية صحيحة في القومية .

ثم أين هي الاقليات التي يقال لها ” قومية ” في الوطن العربي ؟

قبائل الكرد في شمال العراق ؟ قبائل البربر في المغرب ؟ قبائل الزنوج في جنوب السودان ؟

اننا لا نستطيع أن نقدم ـ هنا ـ تلك الدراسة العلمية التي قلنا أن لا بد منها لمعرفة الواقع التاريخي والاجتماعي للاقليات . ومع هذا فقد نستطيع أن نشير الى بعض مصادر الخطأ في دراسة تلك الاقليات .

أول مصادر الخطأ هو ” الاسم ” فعندما لا نعرف متى وكيف ولماذا اطلقت الاسماء نكون معرضين للوهم المباشر الذي يوحي به ” الاسم ” فنظن أن تعدد الاسماء يعني تعدد وتوازي المجتمعات التي تطلق للدلالة عليها . وفي هذا الوهم تبدو كلمات ” كردي ” و ” بربري ” و ”  نوبي ” و  زنجي ” و ” مصري ” الخ . كما لو كانت مقابلة ومتميزة عن كلمة ” عربي ” . بل سبدو كما لو كانت كلمة ” عربي ” ذاتها قد احتفظت بدلالتها الأولى ” بدوي ” . وكل هذه أوهام لغوية ناتجة من اننا ما نزال نستعمل كلمات قديمة بدون انتباه الى تطور دلالاتها فتختلط علينا الدلالات . مثال هذا ان كلمة “عرب ” ذاتها لم ترد في التاريخ إلا في نقوش للملك الآشوري ” نبوبولاصر ” يسجل فيها انتصاراته على ملك دمشق الأرامي في عام 854 قبل الميلاد وهي كلمة سامية ( أرابي ) تعني البادية أو سكان البادية . ولم يكن لها أية دلالة اثنولوجية ، خاصة فقد كان كل من الآشوريين والآراميين قبائل سامية . وكلمة ” كرد ” لم يستطع أحد حتى الآن أن يقطع علمياً في أصل دلالتها . وكلمة ” بربر ” تطلق على عديد من القبائل تمتد اقامتها من واحة سيوة الى ساحل المحيط الاطلسي لم يكن بينهما شيء مشترك سوى أنها تتحدث لهجة واحدة ” البربرية قريبة بدورها من لغة مصر القديمة . والفينيقيون هم تجار الصبغة الحمراء في مدينة صور كما أسماهم الاغريق أخذاً بكلمة ” فوانكس ” الاغريقية وتعني ” أحمر ” . ولم تكن تدل على أية خصائص اجتماعية . والفينيقيون هم بعض الكنعانيين أي الشرقيين . ومصر الآشورية ، ومصرين في الآرامية ، ومصرايم في العبرية تعني ” الحد ” ولا تعني شعباً بعينه . فالمصريون هم الذين يسكنون مصر تمييزاً جغرافياً للساكنين و ” ليبي ” كانت التسمية التي اطلقها الاغريق على سكان شمال أفريقيا جميعاً . وفرعون هو البيت الكبير ، ثم هو الملك منذ الاسرة الثامنة عشرة . ولم يكن يعني حتى مصري . فملوك الهكسوس الوافدون من ليبيا كانوا فراعنة . وملوك الاسرتين الثانية والعشرين والثالثة والعشرين الوافدون من ليبيا كانوا فراعنة أما فراعنة الأسرة الخامسة والعشرين فقد كانوا من النوبة . وهكذا . ان ” الفرعونية ” نظام للحكم يساوي الملكية . ونسل الفراعنة يعني الامراء أولاد الملوك . أما الشعب الذي كان يسكن مصر في ظل الفراعنة فلم يكن شعباً فرعونياً إلا بمعنى انه طبقاً للنظام الفرعوني كان مملوكاً ملكية خاصة للملك الفرعون . فإن أردنا أن نعرف أصله العرقي فهو من القبائل السامية التي كانت تملأ الأرض التي نسميها اليوم الوطن العربي .

إذاً فإن كنا ما نزال نحمل أسماء الكرد أو الليبيين أو البربر أو السودانيين أو المصريين … فإن هذا لا يعني إننا لسنا “عرباً ” لأن العروبة انتماء الى تكوين اجتماعي لاحق زمانياً واكثر تطوراً اجتماعياً فهو لا ينقض ما قبله بل يتلوه ولا ينفي عناصر تكوينه الأولى بل يتجاوزها . تماماً كما أن كوننا ” عرباً ” لايعني إننا ” بدو ” أخذاً بدلالة اللفظ القديم لأن العروبة تجاوز حضاري للبداوة . فلا يقولن احد أنني لست عربياً لأنني كردي أو بربري أو مصري أو فينيقي أو ليبي . لأن هذي لا تؤذي تلك في الزمان او في الطور الاجتماعي فلا تناقضها ولا تنفيها .

فإذا تحررنا من أوهام ” الأسماء ” بقي أن نتحرر من وهم الأصول العرقية القديمة . ان كان الاجداد القدامى للأكراد من القبائل الميدية التي تنتمي الى الجنس الآري ، وكان الزنزج حاميين ، وكان الساميون قد ملأوا الأرض العربية خلال هجرات تاريخية طويلة فإن كل هذا قد زال واختلطت الاجناس . ان كرد الجنوب ليسوا من جنس كرد الشمال . وبينما اختلط البربر بالفينيقيين الساميين الوافدين من شمال الجزيرة العربية فلم يعودوا ساميين ولا حاميين فإن قبائل العبابدة والبشارية والهداندوة وبني عامر الذين ملأوا الأرض من أسوان الى جنوب السودان ( شرق النيل ) هم ساميون حاميون أو هم لا ساميون ولا حاميون . وتنتشر في طرابلس قبائل بيض الوجوه شقر الشعر زرق العيون وفي صعيد مصر قرى كاملة من امثالهم . وإلى فلسطين جاء الفلسطينيون ( المقاتلون بالحديد ) من جزيرة كريت وجزر بحر إيجة . وإلى المغرب جاءت قبائل الوندال الأوروبية . وغزا الزنوج اليمن قبل أن تبدأ موجة الهجرات من اليمن إلى أفريقيا مرة أخرى . ويكاد يحفظ سكان مصر أنسابهم الى قبائل قريش وجهينة والازد وحمير ولخك وبني سليم وبني هلال وخزام وكتامة وزويلة والبربر … الخ ، بعضها وفدت من أقصى الشرق وبعضها جاءت من اقصى الغرب . وخلال الحروب الصليبية كان أغلب الحاكمين في الوطن العربي والكثرة من جيوشهم من أصول كردية فهل عادوا مرة أخرى الى شمال العراق أم ذابت الملايين من نسلهم في أمتهم العربية ؟ وخلال قرون طويلة من الغزو المغولي والفارسي والاغريقي والروماني والصليبي والأوروبي الحديث التقت كل الاجناس على هذه الأرض فهل عادوا مرة اخرى أم إنهم يعيشون فينا نحن العرب ؟ بل إن في الوطن العربي بضعة ملايين يستطيع كل منهم أن يثبت أن جده الرابع وربما الثالث كان شركسياً أو أرمنياً أو تركياً او أوروبياً او مملوكاً لا يعرف أحد من أين جاء ، ومع هذا فكل هؤلاء “عرب ” بمعنى انهم ينتمون الى الأمة العربية وإن لم يكونوا بدواً في أي يوم ولم يعرف أجدادهم الجزيرة العربية أبداً . فكما لا يستطيع أي عربي أن يقول أنني عربي لأنني سامي ، كذلك لا يستطيع أحد ان يقول إنني لست عربياً لأنني آري أو مغولي أو حامي . تلك كانت العناصر المتمايزة الأولى التي انصهرت فأصبحت أمة عربية . وعندما تكتمل الأمة تكويناً ، فتصبح مجتمعاً قومياً يذوب فيه كل وافد إليه مقيم فيه إلى أن يصبح جزءاً منه .

ثم يأتي وهم ” اللهجات ” . إن اللغة المشتركة للأمة العربية هي اللغة العربية . فهي لغتها القومية . واللغة العربية هي أحدث فروع اللغات السامية الأولى ذات الأصول اللغوية الواحدة . والتي هي لغات كل المجتمعات والجماعات القبلية التي كانت تملأ الأرض العربية قبل التكوين القومي . ولقد كانت حداثة اللغة العربية ، أي كونها تمثل آخر مراحل التطور في اللغات السامية هي التي أهلتها لتكون اللغة القومية المشتركة ، فلم يجد احد من أصحاب اللغات ذات الأصول السامية صعوبة كبيرة في أن يقبل اللغة العربية لغة له هذا بالاضافة إلى أنه بالفتح الاسلامية أصبحت اللغة العربية هي لغة الحياة ولا نقول لغة العبادة . ومع هذا فإن اللغة المشتركة لا تعني اختفاء اللهجات الموروثة من عهود ما قبل التكوين القومي . فإذا كانت القبائل الكردية تتحدث لهجة ( أكثر من واحدة في الواقع ) ، وكانت اللهجة البربرية ما تزال باقية في جماعات قبلية كبيرة تستمد اسمها القبلي من لهجتها فإن هذا غير مقصور عليهم . فما يزال النوبيون يتحدثون لهجة ” تبداوي ” أو ” بداويت ” وهي لهجة قديمة . وقد ظلت أجيال من الشعب العربي في الجزائر تتحدث الفرنسية . ومع هذا فلا يصح الاحتجاج باللهجات المتبقية من الطور القبلي ليقال أن كل هؤلاء ليسوا عرباً . ذلك لأن إستعمال اللهجات او حتى اللغات القبلية لا ينفي الاشتراك في معرفة وفهم وإستعمال اللغة القومية . وهل كان الايوبيون من القبائل الكردية يحكمون مصر بوساطة مترجمين ؟ … وكيف حمل البربر اللغة العربية الى الاندلس ؟ . وما هي اللغة المشتركة لسكان جنوب السودان حيث يكاد يكون لكل قبيلة ولكل عشيرة لهجة خاصة ؟ 

وعندما تتوافر اللغة القومية المشتركة في الأرض المشتركة تكون الحصيلة ثقافة مشتركة وقيم مشتركة . إذ اللغة والأرض هما مصدرا البناء الحضاري . وكما لا يصح الاحتجاج على اللغة القومية المشتركة باللهجات القبلية أو ما تبقى منها ، لا يحتج على التكوين القومي الحضاري بالتقاليد المحلية . يكفي ان نعرف أن لكل قرية في الوطن العربي تقاليد محلية خاصة . ولكل اقليم تقاليد خاصة ولكل منطقة جغرافية تقاليد خاصة . لا في الأمة العربية وحدها ولكن في كل الأمم . وليس في هذا ما يناقض الوجود القومي وحضارته المشتركة . لديهم إذن أن تكون للقبائل الكردية تقاليد من نتائج البيئة الجبلية الوعرة التي تعيش فيها . أو أن تكون للبدو تقاليد تتفق مع متطلبات الحياة في الصحراء القاحلة . أو أن تكون للمدن الكبرى تقاليد مستعارة من أوربا . أو أن تكون لسكان جنوب السودان تقاليد من نتاج المناخ الحار الذي لا يطيق الكساء .

ثم يأتي أكثر أسباب الخطأ انحطاطاً : اللون .

ان اللون ليس أكثر من الاستجابة الفيزيولوجية لمتطلبات المناخ ثم ينتقل بالوراثة . فهو عملية مادية يخضع لها كل البشر ولا تقوم مميزاً اجتماعياً أو حضارياً بين البشر ، ولكنه ليس الاستجابة الوحيدة . فنوع الشعر ، ومحيط الجمجمة ، وطول العظام … الخ ، كل هذه نتائج ملاءمة بين التكوين الفسيولوجي للانسان وبيئته الجغرافية وليس لها أي مدلول يتجاوز هذا . وإذا كان علماء الاجناس قد قسموا الناس الى جماعات ، أو أجناس ، حسب ألوانهم أو تركيب عظامهم ، فإن ذلك لا يتضمن أية قسمة اجتماعية أو مصيرية . وعندما يقال أن سكان جنوب السودان ” زنوج ” لا يدل هذا القول إلا على انه تتوافر فيهم الخصائص الفسيولوجية التي تأثرت بالبيئة الجغرافية لوسط افريقيا . ولا يعني على أي وجه أنهم امة تكونت تاريخياً لتكون سوداء أو بسبب أنها سوداء . أن السود في جميع انحاء العالم يكافحون ضد ” التفرقة العنصرية ” استناداً الى مقولة علمية هي ان الناس لا يتميزون فيما بينهم بألوانهم . وان ليس لكلمة الأسود او الزنجي أي مدلول حضاري أو اجتماعي . فما الذي يفعله الذين يحتجون على الأمة العربية بألوانهم وينكرون انتماءهم القومي لأنهم زنوج . انهم لا يفعلون شيئاً سوى تأكيد ” التفرقة العنصرية ” التي فرضها المستعمرون . انهم يحتجون بما علمهم سادتهم ويتخذون من ألوانهم مميزاً يفرقهم عن الآخرين . فهل هم يطلبون الحرية أم انهم ينفذون إرادة المستعمرين ؟ .. ثم اولئك الذين يستعلون عليهم بألوانهم الأقل سواداً أو البيضاء هل يفعلون شيئاً سوى استفزازهم ليتمردوا  مساهمين بذلك مساهمة غبية في تأكيد ” التفرقة العنصرية ” بقبولهم اللون مميزاً للمجتمعات . لو صح أن الألوان تميز الأمم فعبثاً نجد في الأرض أمة عربية . ولن نعرف من الألوان المختلطة المتعددة المتفاوتة التي نصادفها في كل مكان من الوطن العربي إلى أي أمة في الأرض ينتمي كل واحد من هؤلاء . ولكان علينا أن نحسب كل أشقر في الوطن العربي منتمياً إلى أمة أوروبية . فلماذا يكون الشقر من سكان الشام عرباً ولا يكون السود من سكان السودان وجنوبه عرباً ؟ وما هو إذن اللون العربي ؟

على أي حال ، أن انتقاء بعض المميزات القبلية ( العرقية او اللغوية أو الفسيولوجية ) للاحتجاج بها على الوجود القومي خطأ متسرع . انما يجب ” أن ننظر الى المجتمعات خلال تطورها الجدلي وحركتها التي لا تتوقف من الماضي الى المستقبل ” وهكذا يكون الاحتكام في شأن الأقليات إلى قاعدة علمية صارمة : هل تنتمي أية أقلية في الوطن العربي إلى أمة خارج الحدود السياسية القائمة في الوطن العربي ؟ إن كانت تنتمي فتلك أقلية قومية ويكون أول واجبات الحركة القومية العربية ان تحررها فترفع عنها الولاء السياسي المفروض عليها لتستقل وتلحق بالأمة التي تنتمي اليها ودولتها القومية . إن الحركة القومية العربية إذ تفعل هذا لا تحرر الاقلية القومية ولكن تحرر نفسها أيضاً من سلبيات القهر والتسلط العربية وبالمقابل ، عندما لا تكون لأية أقلية في الوطن العربي أمة هي جزء مقتطع منها فإنها أقلية متخلفة ينبغي أن ييسر لها من امكانيات التقدم ما يعوض تخلفها ، ولكنها ـ على أي حال ـ جزء من الأمة العربية لا تملك من أن تقتطع من الوطن القومي جزءاً لتقيم عليه دولة ولا يملك أحد حق منحها ما تريد .

ثم أن لدينا مقياساً لا يخطيء في التعرف على ما وراء ادعاء أية أقلية بأنها أقلية قومية . انه موقفها من الوحدة العربية . ذلك لأن أية أقلية تزعم أنها قومية وتتحرك من اجل أن تكون لها دولتها القومية لابد أن تسلم بمبدأ ” دولة قومية واحدة لكل أمة ” . ويكون عليها أن تحدد موقفها من التجزئة العربية وهدف الوحدة على الوجه الذي يتفق مع هذا المبدأ ليكون اتساق مواقفها من الحركات القومية دليلاً على صدق اعتقادها صحة ما تزعم لنفسها . عندئذ ستجد نفسها ملزمة بالتعامل مع دولة الوحدة العربية ، الدولة القومية للأمة العربية ، ويكون عليها أن تسهم ايجابياً في إلغاء التجزئة إلى أن توجد تلك الدولة التي لا يصح ـ قومياً ـ أن يكون لأحد غيرها صلاحية الاعتراف باستقلال ما قد يكون على أرضها من أقليات قومية . لا يصح ـ قومياً ـ لأن أي قومي حقاً لا يمكن أن يقبل الاعتراف بشرعية الدولة الاقليمية ، ولا يمكن أن يعول على ما قد تصدره من بيانات أو تعقده من اتفاقات أو تبرمه من معاهدات تنصب على مدى سيادة الشعب العربي على وطنه . ولا شك في أن دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية لن تتردد لحظة في تحرير أية أقلية اثبتت من خلال نضالها ضد التجزئة انها قومية الوعي والحركة فعلاً . ولكن الأمر يختلف تماماً عندما نرى أقلية تزعم القومية وتدعي لها حقاً في مبدأ ” دولة قومية واحدة لكل أمة ” تخون منذ البداية ما تدعيه فتعادي الحركة العربية التقدمي ، وتتآمر مع اعدائها ، وتقف ضد الوحدة العربية ، وتتحالف مع الاقليميين ، وتحتج بالتجزئة وتدعمها ، وتزيد فتحاول أن تكسب بيانات أو اتفاقات أو معاهدات من دولة اقليمية ، هي تعلم ـ لو كانت قومية حقاً ـ انها دولة غير مشروعة فلا تملك ان تعطي ما لا تملكه .

وأخيراً :

فقد تجاوزنا في هذه الفقرة من الحديث عن أقليات أخرى توجد أو قد لا توجد في الوطن القومي بعضها عن طريق الهجرة الفردية وبعضها عن طريق الغزو . الأولى تنظمها القوانين الداخلية تنظيماً يتضمن عادة إباحة الاقامة بشروط خاصة ثم منح المواطنة للمقيمين بعد فترة من الزمان يثبتون فيها ولاءهم لمجتمعهم الجديد ويكون هذا تمهيداً لاندماجهم في الأمة التي لجأوا إليها . أما الثانية فهي عدوان استيطاني نعرف الموقف القومي منه عند حديثنا عن الحرية .

                                  ذهاب الى صفحة عصمت سيف الدولة