بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

جدل الانسان .


جدل الانسان . 

د.عصمت سيف الدولة .


16 ـ أزمة الفكر القومي وتفوقه 

إذا كانت المشكلة بالنسبة الى النظريات التي تحدثنا عنها محصورة في قصور المنهج فإنها بالنسبة إلى أكثر ما يكتب ، ثم ينسب ، الى الفكر القومي العربي مشكلة غيبة المنهج اطلاقاً . ان القليل من الفكر القومي العربي الذي نعرف له منهجاً واضحاً هو ما طرحه الليبراليون العرب . وذاك فكر عرفنا أزمته الخاصة وقصوره المتسق مع قصور منهجه عن الوفاء بنظرية للتقدم الاجتماعي في الوطن العربي ( فقرة 6 ) . إنه رجعي فأزمته أزمة اصحابه وبالتالي لا يعنينا أن يتجاوز أزمته . إنما الذي يعنينا هو الفكر المسمى قومياً تقدمياً أو ما ينسب اليه وهو كثير . وأزمة المنهج فيه واضحة . ففيه يتحدث الكثيرون عن الأمة العربية وعن القومية العربية وعن الوحدة العربية وعما يجب أو لايجب في الوطن العربي … أحاديث كالمواعظ أو المناجاة الذاتية ، يعز معها الحوار ، لأننا لا نستطيع أن نعرف مما يقولون كيف عرفوا ما يتحثون فيه إلا ان يكون ترجمة لشعورهم بالانتماء القومي . والشعور بالانتماء القومي قد يكون ذا دلالة صحيحة على وجود أمة ينتمي اليها المتحدث ولكنه لا يصلح مصدراً لمعرفة منطلقات تطوير الواقع القومي وغايته وأسلوبه .
ولقد نلتقي في الفكر القومي بمن يرفض صراحة ، ويدين ، الالتزام بمنهج فيما يقول . وهذا لايصدمنا لأنه دفاع عن اسلوب قائم في الممارسة على محاولة التقدم من خلال التجربة والخطاً . فهو قريب من الحملات الدعائية ولا يرقى ـ فيما نقدر ـ الى مرتبة الاجتهاد الفكري . إنما الذي يصدم حقاً فهو غيبة المنهج كما يجسدها التلفيق بين المناهج في البناء الفكري الواحد . وقد أغرق مفكرو هذا الاتجاه الوطن العربي بكتب وكتابات كثيرة الصفحات ، ضخمة الكلمات ، عالية النبرات عن القومية والوحدة والاشتراكية ، استغلوا فيها تتابع الصفحات في الكتب استغلالاً غير خفي . ففي فصل يحدثنا الكاتب عن القومية والوحدة حديثاً موروثاً من اساتذة الفكر الليبرالي . وفي فصل تال يحدثنا عن الاشتراكية حديثاً غريباً أو مناقضاً ، لليبرالية كثيراً ما تقحم فيه إقحاماً التعبيرات المستعارة من التراث الماركسي بعد أن تسلب دلالتها الأصلية . وفيما بين الفصلين ينقطع المنطق انقطاعاً فجاً ، فكأننا أمام كاتبين مختلفين تحدث كل منهما حديثاً خاصاً في فصل خاص . وعبثاً نحاول أن نجد علاقة بين القومية والاشتراكية إلا في العنوان الذي يجمع عادة بين الكلمتين . هذا الاسلوب في التلفيق لعلاج غيبة المنهج هو السمة السائدة في أكثر ما هو مطروح من الفكر القومي المسمى تقدمياً . وهو افراز مرحلة تاريخية وجد فيها الذين تعلموا القومية بمفهومها الليبرالي انهم محمولون بحكم ضرورة التنمية الاقتصادية على أن يكونوا اشتراكيين أو من دعاة الاشتراكية . وهم يمثلون التيار السائد في الحركة القومية العربية التي تحدثنا عنه من قبل ( فقرة 6 )  .
غير أن أزمة المنهج في الفكر القومي غير مقصورة على محاولات الجمع بين القومية الليبرالية والاشتراكية بل نجدها ، ربما أكثر وضوحاً ، في قول مطروح ومتردد في الأدب القومي العربي ، في كل الأدب القومي العربي تقريباً ، كما لو كان بدهياً وهو ليس من البداهة في شيء . ذلك هو القول بأننا مادمنا أمة عربية واحدة ” فيجب ” أن تكون لنا دولة سياسية واحدة . أما لماذا ” يجب ” ما بعد هذا فلا جواب . أو أن ثمة إجابات خاطئة كالقول الذي لاتخفى منابعه الليبرالية بأن الوحدة هي غاية الاتجاه “ الطبيعي ” للأمم . أو أن ثمة إجابات صحيحة وإن كانت هي ذاتها مبررة بغير القومية . مثل تلك الاجابات المبررة ” بالمنفعة ” التي يريد كل متحدث أن يتخذ الوحدة إليها سبيلاً فيتخذها حجة لوجوب الوحدة . فيجب أن تقوم الوحدة العربية لأنها نافعة ـ مثلاً ـ في التغلب على أزمة الزيادة المفرطة في كثافة السكان في دولة عربية أخرى . أو لتكون لنا دولة كبرى هي وحدها التي تنفع في عصر الدول الكبرى . أو لنستطيع إعداد جيش كبير وقوي هو وحده الذي ينفعنا في صراعنا ضد الامبريالية والصهيونية . أو لأنه بالوحدة نوفر الامكانيات المادية والبشرية اللازمة لبناء الاشتراكية رخاء وحرية … الخ .
وقد قلنا ، ونعيد ، أن هذي إجابات صحيحة .
إنما المسألة هي كيف عرفنا أنها صحيحة ؟ … إن كنا قد عرفناها عن طريق البحث العلمي في تلك الظاهرة الاجتماعية التي تسمى أمة ، والقوانين التي تضبط حركة تطورها حتماً ، فعرفنا منها أن المستقبل التقدمي لا يتحقق للأمة إلا في ظل دولتها القومية ، فإننا نلتزم ” الوحدة العربية ” غاية حتى في الحالات أو الاوقات التي لا تلمس فيها منفعتها الجزئية او المرحلية ، وحتى لو اقتضى تحقيقها تضحيات نقدمها مرحلياً أو يقدمها بعضنا ، يقيناً علمياً منا بأن ذلك هو ثمن التقدم المطرد للجميع ولو في المدى الطويل . أما إذا كنا قد عرفنا أنها إجابات صحيحة قياساً على الحالة الملموسة إلى ” المنفعة ” ذاتها فذلك خطأ خطر لأن المنفعة ضابط ذاتي للحركة . ولو قبلناه ضابطاً لما يجب وما لا يجب لكان حجة علينا كما قد يكون حجة لنا . إذن لقبلنا مبررات العدوان منا ، أو علينا ، كلما بدا لنا ، أو لغيرنا ، أن العدوان نافع . إذن لقبلنا أن نختلف ونفترق في كل حالة على حدة ، ومن وقت لآخر ، حول ما هو نافع وما لا ينفع تبعاً لتقدير كل منا . إذن لاحترمنا السلبيين الذين يؤثرون العافية على مخاطر النضال من اجل الوحدة والعافية نافعة . إذن لأعجبنا فاقتدينا الاقليميين الذين يحققون في التجزئة ما ينفعهم . إذن لقدرنا حكمة الانتهازيين والمستسلمين والمرتدين الذين لا يجدون نفعاً في الوحدة أو الذين قد يجدون أن الوحدة لم تعد نافعة . إذن لكان علينا ، أمانة منا مع أنفسنا أن نكف عن تحريض الناس على الاستشهاد في سبيل الوحدة لأن الموت عدم فهو لا ينفع صاحبه شيئاً … الخ .
ثم إنه إذا كانت الوحدة العربية تبرر المنفعة فإن المنفعة لا تبرر الوحدة العربية . إذ لو كانت المنفعة كما نعرفها من حاجتنا الملموسة هي ضابط معرفتنا ما يجب وما لا يجب لكان واجباً علينا أن نقبل الوحدة في الحدود التي  نتغلب بها على أزمة السكان لا أكثر . أو إلى الحدود التي تكفي لقيام دولة كبرى لا أبعد . او بالقدر اللازم لبناء جيش كبير وقوي ولا نزيد . أو أن نسوي بين الوحدة العربية وبين وحدات جزئية داخل الوطن العربي بين كل مجموعة من الدول ترى أن في وحدتها نفعاً لها ، أو أن وحدتها أكثر نفعاً لها من الوحدة العربية الشاملة . أو أن نبارك وحدة العراق وايران ، أو سورية وتركيا ، أو السودان واثيوبيا ، كما نبارك وحدة العراق وسورية والسودان في دولة الوحدة العربية . أو أن تكون الوحدة الافريقية بديلاً مقبولاً عن الوحدة العربية … الخ . وأخطر من هذا كله أن نراقب حسابات الوحدة سنوياً ، أو دورياً ، لنتأكد من أن ” الأرباح ” ثابتة أو مطردة . فإن انقضت المنفعة التي كنا من أجلها طلاب وحدة نرتد عن الوحدة ونقبل الانفصال .
فإذا لاحظنا أن في الوحدة العربية منافع جمة للشعب العربي ، وأن طرح أمثلة منها فيما يكتب عن الوحدة لازم ليختبر الناس في حاجاتهم الملموسة كيف يمكن أن تحل الوحدة مشكلات الناس ، وأنه لا مفر لكاتب أو متحدث عن الوحدة من أن يختار من تلك الأمثلة ما يناسب الظروف الجزئية أو المرحلية التي يدور فيها الحديث ، إذا لاحظنا كل هذا أدركنا مدى خطورة غيبة المنهج في الفكر القومي المسمى تقدمياً . ذلك لأنه بغيبة المنهج يغيب المبرر العقائدي للوحدة ومنافعها ، ما نعرفه ونلمسه منها ، وما لا نعرفه ولا نلمسه فتبقى الوحدة معلقة على ما نعرفه أو نلمسه من المنافع وحدها فإن حدث ان كانت معرفتنا المنفعة غير صحيحة ، أو أشبعت حاجتنا فانقضت المنفعة ، سقطت الوحدة … ربما إلى أن نحتاج إليها مرة أخرى . وكأن الوحدة لباساً نستبدل به لباساً غيره من فصل الى فصل . ونحن لا نخطيء كثيراً إذا قلنا إن الجانب الأكبر من الكتابات العربية عن الوحدة لا يزيد كثيراً عن أن يكون سرداً مبوباً لمنفع الوحدة كما يقدرها كاتبوه وهذا جهد جدير بالتقدير . لولا أنهم يستغنون فيه بالاجابة على السؤال السطحي : ما هي منافع الوحدة ؟ .. عن الاجابة على السؤال الأعمق : لماذا تكون للوحدة كل هذه المنافع ؟ .. ثم ينتهون إلى القول : ما دمنا أمة عربية واحدة ” فيجب أن تكون لنا دولة سياسية واحدة .
أياً ما كان الأمر فإن ذاك الوجوب ” المفترض ” استجابة لمبررات نفعية كثيراً ما يبدو كما لو كان ” مفروضاً ” بفعل دوافع استغلالية ، فيصد الناس عنه ، وربما الوحدة ذاتها ، لأن أحداً لا يقبل الإكراه في الرأي ولو كان الرأي نافعاً ، كما لا يقبل التقدميون الاستغلال ولو تستر بالوحدة . وهو ـ لاشك ـ ينطوي على قفزة فكرية تخلفت عنها ـ في أغلب الدراسات ـ ثغرة فاصلة بين الماضي والمستقبل . بين الأمة والوحدة . لم يكن صعباً على ” الفطنين ” المتربصين ان ينفذوا منها لكشف الخلل الداخلي في البناء الفكري لكثير من الدراسات المنسوبة الى الفكر القومي التقدمي . إذ عندما يفتقد البناء الفكري منهجه ويتقدم الى الناس بواجهة مزوقة بالمنافع الحالة ، لن يكون صعباً على من يريد أن يكشف عدم اللزوم المنطقي بين المنافع المطروحة والمبررات الفكرية المقدمة لها . ثم يقدم عن المنافع بديلاً يبدو أكثر منفعة ، أو يعدد ما يصاحب المنافع من اضرار تحيق بالنفعيين ، تمهيداً للتشكيك في جدوى الوحدة العربية أو لزومها احتجاجاً بضعف الحجة فيما قدمت اقلام بعض دعاة الوحدة والمدافعين عنها بدون منهج .
غير إن هذا ليس أخطر ما تمثله أزمة المنهج في الفكر القومي التقدمي إذ أن القوى المعادية للوحدة العربية لن تعجز ـ على أي حال ـ عن اختلاق حجج مضادة للفكر القومي التقدمي حتى لو كان بالغاً غاية الاحكام . كا ان القصور أو الخطأ في الاجتهادات الفكرية ليس غريباً ويتحمل كل مجتهد مسؤولية اجتهاده . إنما الخطر الحقيقي يتمثل فيما يسببه القصور في الفكر القومي من اضطراب داخل الحركة القومية ذاتها . حيث تؤدي غيبة المنهج في الفكر القومي التقدمي الى عجزه عن توحيد القوى العريضة التي تتبناه وترفع شعاراته وتتحرك على هديه . فنرى الناس ، أغلب الناس إن لم نقل كل الناس تقريباً ، متفقين على أن غايتهم ” الحرية والوحدة والاشتراكية ” أو أياً ما كان ترتيب الكلمات ما دامت تعني معاً إقامة دولة الوحدة الاشتراكية والديموقراطية في الوطن العربي . فإذا ما تحاوروا مع غيرهم ، أو فيما بينهم ، نرى الكلمات الواحدة وقد أصبحت ذات دلالات مختلفة . فلا يتفقون على مفهوم الحرية ولا على الطريق اليها . ولا يتفقون على الطريق إلى الوحدة ولا على بنائها الدستوري . ولا يتفقون على مضمون موحد للاشتراكية ولا على كيفية بنائها في الوطن العربي . ولا يعنون ـ حتى مجرد عناية ـ بالاتفاق على فهم واحد لتلك المشكلة بالغة الخطر والخطورة ونعني بها مشكلة الديموقراطية . ثم ، وهذا أخطر ما في الأمر ، لا يتفقون على العلاقة بين الحرية والوحدة والاشتراكية ، لا على المستوى الفكري ولا على المستوى التطبيقي . كل هذا وهم يتحركون في اتجاه ” الحرية والوحدة والاشتراكية ” كما يفهمها كل فريق منهم . فإذا بهم عاجزون عن أن يلتقوا في قوة مناضلة واحدة ، أوحتى على أن يجنبوا قواهم الصدام والصراع فيما بينهم ، لأن غيبة المنهج في الفكر القومي التقدمي الذي يرفعون ـ جميعاً ـ شعاراته تحول دون أن يلتقوا على ” نظرية ” قومية تقدمية واحدة يحتكمون اليها فلا يختلفون فلا يبقى إلا أن يحتكم كل فريق إلى ” نظريته ” الخاصة ويحاكم بها رفاقه . فنرى القوميين التقدميين في الوطن العربي فرقاً موحدة الغايات ، موحدة الشعارات ، ممزقة الصفوف.
وهكذا نرى أن الوحدة الفكرية بين القوميين التقدميين متوقفة على حل مشكلة المنهج في الفكر القومي التقدمي ، وانه ـ في هذا ـ ما يزال في حاجة الى مزيد من التأصيل الذي يدخل به الوجود القومي إطار ” نظرية ” الحركة ويلتقي فيها بالمستقبل فيتصلان . أي أننا في حاجة الى معرفة كيف يكون الوجود القومي الذي هو محصلة تاريخ ماض ضابطاً لحركة تصنع المستقبل . كيف يكون الانتماء القومي السلبي التزاماً حركياً ايجابياً . ونحن لا نعرف هذا إلا إذا عرفنا القوانين التي تضبط حركة المجتمعات من الماضي الى المستقبل . وهي معرفة مفتقدة في أكثر الاجتهادات التي تنسب الى الفكر القومي التقدمي .
ومع هذا ، أو بالرغم من هذا ، فإن الفكر القومي التقدمي أكثر تفوقاً في صحته من أي فكر آخر مطروح في الوطن العربي . إن غيبة المنهج فيه حالت دون الوحدة العقائدية بين القوميين التقدميين وبالتالي حالت دون أن يتحولوا به إلى قوة واحدة منظمة ، قومية تقدمية معاً . وتلك سلبية نعرفها ونعترف بها . ولكنه في هذا لا يفتقد ما يملكه غيره من اي فكر يزعم التقدمية في الوطن العربي . الفكر الليبرالي قائم على منهج يبرر الوحدة ولا يبرر الاشتراكية ( فقرة 6 ) فهو رجعي . الفكر الماركسي قائم على منهج يبرر الاشتراكية ولا يبرر الوحدة ( فقرة 11  )  فهو اقليمي . وهكذا يصوغ القوميون وغير القوميين أفكارهم عن ” الوحدة الاشتراكية ” ، من وتبعاً ، لحصيلة التجربة والخطأ في ساحة الممارسة وفي هذا يستوون . ثم يتفوق الفكر القومي في التزامه إطار ووعاء للنضال الاشتراكي ، وهو بهذا يلتقي التقاء صحيحاً بالواقع العربي ، وتستجيب له معطيات هذا الواقع على وجه لا تجده الافكار الاخرى ، وتحقق الحركة القومية بالرغم من هزائمها ، انتصارات لا تستطيع تحقيقه حركة أخرى ، وتحظى بانتماء أعرض الجماهير التي تبدو محصنة ضد الفكر اللاقومي بالرغم مما تعرفه وتعترف به من ان فكرها القومي التقدمي غير قادر على أن تتحول به الى قوة قومية تقدمية واحدة.
أكثر من هذا تفوقاً ـ فيما نرى ـ هو انفتاح الفكر القومي التقدمي في الوطن العربي على التراث الفكري الانساني وتحرره من الجمود ومحاولته الدائبة تصحيح مضامينه وإنمائها . ما يزال بعض الماركسيين في الوطن العربي لا يحتجون إلا بما قاله ماركس في علم الاجتماع وإلا بما قاله انجلز في علم الطبيعة منذ مائة سنة . وما يزال غيرهم لا يحتجون إلا بما قاله الفقهاء منذ عشرة قرون . وكأن شيئاً لم يحدث في علم الاجتماع أو علم الطبيعة منذ ماركس وانجلز . وكأن المعرفة الانسانية لم تتقدم خطوة منذ أن توقف اجتهاد الفقهاء او أوقف . وتلك قيود ثقيلة تضع المستقبل تحت رحمة الماضي . هذا بينما الفكر القومي التقدمي في الوطن العربي يواكب حركة الحياة الانسانية خطوة خطوة وجيلاً جيلاً . ويعب من منابع التقدم العلمي عباً . يحمله الآن وينميه جيل اشتراكي تجاوز اساتذته من جيل الليبراليين ولمّا يمنح بعد كل ماهو قادر عليه من عطاء . وتقتحمه بجرأة خلاقة عقول شابة تنتمي الى عصر الذرة لا تجد في مضامينه ولا في تقاليده ما يحول بينها وبين التصدي لمسؤولية الابداع الفكري ، بل ترى في انطلاقته النامية ملامح المستقبل الذي هي صاحبته .
وهذا فضل كبير .
ثم هذي ملحوظة تستحق الانتباه .
فيها نرى الفكر القومي التقدمي يبدأ بداية متفوقة في صحتها . وفيها نرى الأمة العربية تصوغ أفكار أبنائها بدون أن يدري كثير منهم إن الدارس المتابع للفكر القومي وتطوره ، كما لا شك يصدم بغيبة المنهج الذي يصل بين المقدمات والنتائج ، لا بد يعجبني صحة أغلب المقدمات وصحة أغلب النتائج بالرغم من انقطاع الصلة المنطقية بينها . وكان مصدر الصحة في القول يقع خارج نطاق ما يقال . والحق انه كذلك . فبقدر ما درسنا وتابعنا نعتقد أن مرجع الصحة في الفكر القومي التقدمي المطروح في الوطن العربي الى أن كل الاجتهادات تخفي ورائها تسليماً صامتاً ومفترضاً بأن الانسان هو الذي يصنع مستقبله لأنه هو العامل الاساسي في التطور . ويفصح بعض المجتهدين فيسمونه ” المنطلق الانساني ” . وهذا ـ فيما نعتقد أيضاً ـ هو العنصر المشترك المميز لكل الدراسات التي تكون بمجموعها مصادر الفكر القومي التقدمي . إنها دراسات منطلقة من ” نظرة ” واحدة مشتركة بين كل الدارسين ، بصرف النظر عن تفاوتهم في مدى القدرة على تأصيلها أو مدى التوفيق في تطبيقها ، تلك هي ” النظرة ” الى الانسان باعتباره العامل الاساسي في التطور . فإذا لاحظنا أن كل النظريات التي بدأت بإنكار هذه الحقيقة قد تجمدت ، أو انتهت بعد معاناة الفشل الى قبولها ، لأدركنا كيف بدأ الفكر القومي التقدمي بالرغم من اختلاف الكاتبين اختلافاً قد يصل الى حد التناقض فيما يتجاوز ” النظرة الانسانية ” الى الواقع وحركة تطوره .
لسنا نعرف تفسيراً له إلا انهم ينتمون إلى أمة بدأت ونمت واكتملت تكويناً واكتسبت تراثها الحضاري خلال معاناة تاريخية طويلة كان منهجها منذ البداية ” متميزاً أساساً بكشفه وتأكيده دور الانسان في تطوير الواقع وانفراده وحده بهذا الدور ومسؤوليته عنه … ( وأنه ) خلال قرون طويلة من الممارسة استقر المنهج في وعي الناس فأصبح قيمة تضبط مواقفهم …” ( فقرة 12 ) وفي رأينا أن ” الانسانية ” كقيمة حضارية كسبتها الامة العربية خلال مراحل تكوينها القومي هي التي تعبر عن ذاتها فيما يكتبه القوميون التقدميون فيعالجون مشكلات واقعهم انطلاقاً من ” افتراض” مسلم به هو أن الانسان هو العامل الاساسي في حركة التطور . وهي هي التي تفسر تلك الاستجابة التي يلقاها الفكر القومي التقدمي لدى اعرض الجماهير العربية التي تشكل العنصر البشري من الأمة العربية . استجابة الفطرة التي صاغها التراث الحضاري لأمتهم استجابة الذي يلتقي بذات أفكاره . وهي هي التي تصدهم عما يناقضها صداً يسبق البحث العلمي ولا يتوقف عليه وإن كان البحث العلمي إن تصدى له برره . وهكذا تصوغ الأمة العربية بتراثها الحضاري أفكار ابنائها حتى من لا يفطن منهم الى حضورها في ذاته . ومنه تعرف لماذا تزاحم ” النظرة الانسانية ” المنهج المادي فيما يطرحه بعض الماركسيين من العرب مزاحمة وصلت الى حد محاولة ” تعريب ” الماركسية . إنها محاولة لإنهاء الصراع في ذواتهم بين ما يتمثل فيهم من تراث وبين ما تعلموه في بعض الكتب .
هذا شأن الفكر القومي التقدمي إجمالاً كما نراه من خلال صلته بمشكلة المنهج . وليس من شأن هذا أن ينكر قيمة بعض الدراسات الطليعية في الفكر القومي التقدمي التي قامت على أسس منهجية واضحة وإن كانت قاصرة . ومؤدى كل هذا ، وخلاصته ، إن كل الفكر القومي التقدمي الذي يبدأ من الوجود القومي وينتهي الى الوحدة الاشتراكية قائم على ” نظرة انسانية ” واحدة هي أن الانسان هو العامل الاساسي في حركة التطور الاجتماعي . وليس ” المادة ” وهو ما ينفي انها نظرة مادية . وليس ” الفكر ” وهو ما ينفي انها نظرة ” مثالية ” . انها نظرة ” انسانية ” :  هذه النظرة المميزة للفكر القومي التقدمي في الوطن العربي هي الممهد لاستجابة الناس له في الواقع العربي ، وهي التي تقربه من الحلول الصحيحة لمشكلات الشعب العربي . وأما مرجع ما فيه من قصور عن تحويله الناس إلى قوة جماهيرية واحدة فهو انه لم يستطع أن يكتشف من النظرة الانسانية الصحيحة الى الواقع ، المنهج الصحيح لتغيير الواقع .  

17 ـ المنهج الانساني :

عرفنا من حصيلة الممارسة على هدى مناهج عدة إن تحرر الانسان شرط أولي لامكان تغيير الواقع الاجتماعي إلا أن التطور الاجتماعي لا يحدث تلقائياً نتيجة ممارسة الحرية الفردية ( عرفناه من الممارسة الليبرالية ) . وأن انتظار ليدخل الانسان في سياق حركتها التاريخية لايؤدي إلى تطويرها بل على الناس إن أرادوا التقدم الاجتماعي أن يتصدوا ايجابياً لحركة مجتمعاتهم ليقطعوا مسيرتها التلقائية ويطوروها إلى ما يريدون حتى تتطور ( عرفناه من الممارسة الماركسية ) وأن الناس قادرون على تطوير مجتمعاتهم ولو كانت متخلفة ، وبرغم كل العقبات المادية التي تقف في طريقهم ، وعندما يفقدون هذا الدور القائد لحركة التطور الاجتماعي تركد المجتمعات وتتخلف ( عرفناه من الممارسة في ظل الاسلام ) . وان الانطلاق من الانسان باعتباره العامل الاساسي في التطور الاجتماعي هو التقاء صحيح بالواقع الاجتماعي تستجيب له معطياته وأعرض جماهيره إلا أنه يبقى قاصراً عن تحقيق الوحدة الحركية بين الجماهير العريضة ما لم يتحول إلى منهج انساني (عرفناه من الممارسة القومية)  .
وهكذا يمكن أن نقول أن كل المناهج والنظريات والافكار والمواقف كانت صحيحة أو غير صحيحة ، أي صدقت توقعاتها في الممارسة أو لم تصدق ، بقدر ما اقتربت أو ابتعدت عن هذه الحقيقة الموضوعية : ” في نطاق التأثير المتبادل بين الاشياء والظواهر يكون الانسان هو العامل الاساسي في حركة التطور الاجتماعي ، دائماً ، وفي كل الظروف . ”
غير أننا ، بهذا وحده ، لانكون قد حللنا مشكلة المنهج . إنما نكون قد قطعنا المسالك الفكرية الهاربة من البحث عن حل لمشكلة المنهج في الانسان نفسه . ووصلنا إلى مواجهة المشكلة كما هي بدون تزييف . لنستطيع أن نقول أنه إذا كانت مشكلة المنهج هي : ” ما يبدو من تناقض بين حتمية قوانين التطور الاجتماعي وحرية الارادة الانسانية ” فإن حلها متوقف على ما إذا كان الانسان نفسه خاضعاً في حركته ، أو غير خاضع ، لقوانين حتمية . إن كان خاضعاً فحل المشكلة هو أن نكتشف تلك القوانين لنعرف منها كيف يكون خاضعاً لها وحراً في الوقت ذاته . أما إن كانت حركة الانسان غير خاضعة لقوانين حتمية فلا يوجد منهج لتغيير الواقع الاجتماعي وبالتالي لا توجد مشكلة . وتكون كل محاولة لتطوير الواقع الاجتماعي نحو غاية معينة من قبل ، عن غير طريق التجربة والخطأ ، محاولة عابثة أو غير علمية على الأقل . لأن انعدام المعرفة بقوانين الحركة ، أو انعدام قوانين الحركة ، يحول دون المقدرة على توقع المستقبل التلقائي فيحول بالتالي دون المقدرة على صنع المستقبل الذي نريد ( فقرة 2 )  .
والانطلاق من الانسان ” كموضوع ” للبحث العلمي من أجل حل مشكلة المنهج أو محاولة حلها لا يعني إعداد قائمة بملكاته نختار مفرداتها على ضوء مقولات فكرية اخترناها من قبل ونريد أن نصل بينها وبين الانسان . فنقول ـ مثلاً ـ ” إن له يدين رائعتي التكوين ” كما قال بليخانوف ليصل الانسان وصلاً تعسفياً بما كان يؤمن به ـ ابتداء ـ من أن أدوات الانتاج هي المحرك الأول للتطور الاجتماعي ، أو نقول انه كائن حي ، عاقل ، اجتماعي ، منتج ، مريد عاطفي … الى آخر تلك الاوصاف التي قد تكون صحيحة وإن كان يمكن ان تضاف اليها قائمة أخرى بأوصاف صحيحة ايضاً لعل من أهمها تمييزاً للانسان أنه : ناطق . لنرتب على كل ملكة من ملكاته ما نشاء من نتائج فنقول ـ مثلاً ـ انه ناطق ، فله لغة ، تجمع بينه وبين غيره ، فتكون مميزاً للآمة … فالانسان ـ اذن ـ قومي . ثم نجمع بين كل ما اخترناه من نتائج رتبناها على ملكات اخترناها لنقول في النهاية : ما دامت مقولاتنا الفكرية متصلة بملكات الانسان فإنها حصيلة منهج ” انساني ” في معرفة منطق التطور الاجتماعي . كل هذا افتعال . لأن كل هذا أو بعضه قد يصلح أن يكون موضوعاً لعلم دراسة الانسان ( الانثروبولوجيا ) ولكن علم دراسة مناهج حركة الاشياء والظواهر والمجتمعات شيء آخر . انه يأخذ الاشياء والظواهر والانسان نفسه مواضيع للبحث عن القوانين التي تضبط حركتها . وما يهمه من الانسان وهو يبحث عن قوانين حركته الاجتماعية هو اكتشاف ” كيف ” يستعمل الانسان ملكاته من أول يديه الرائعتين إلى آخر لغته الجميلة ، وليس اكتشاف كم من أمور يستطيع الانسان أن يفعلها استعمالاً لملكاته المتعددة . ذلك لآن غاية البحث العلمي في الانسان لحل مشكلة المنهج ان يجيب عن السؤال : كيف يمارس الانسان دوره القائد لحركة التطور الاجتماعي.
والبحث العلمي لمعرفة الاجابة على هذا السؤال بحث ممكن وسهل  ذلك ، ذلك لأن البحث العلمي يبدأ بملاحظة حركة ” الفرد ” فإن ثبت إطراد حركته على قاعدة واحدة أصبحت القاعدة قانوناً عاماً يحكم حركته وحركة النوع الذي ينتمي اليه . وعندما يكون الانسان هو موضوع البحث العلمي يكون البحث ميسوراً لكل من يريد ويقدر بغير حاجة الى ( وبعيداً عن أي حاجة الى ) إسناد ميتافيزيقي أو تأمل مثالي فهاهو الانسان في كل منا وفي أي آخر ، ظاهرة نوعية محددة ومتكررة ، قابلة دائماً للملاحظة العلمية لاكتشاف ما قد يكون من قوانين تضبط حركتها وقابلة دائماً لاختبار تلك القوانين فيها مرة أخرى ، وما نشاء مرات ، لمعرفة مدى صحة ما اكتشفناه . فإن اكتشفنا القوانين التي تضبط حركة الانسان حتماً يسهل علينا بعد هذا أن نعرف ضوابط حركة التطور الاجتماعي . ذلك لأن الانسان هو ” المفرد ” المشترك في كل الظواهر الاجتماعية في كل مكان وفي كل زمان . فإذا اكتشفنا ان له قانوناً يضبط حركته حتماً بمعنى أنه يتطور طبقاً له ولا يتطور إلا طبقاً له ، نرد هذا المفرد المشترك إلى ما يؤثر فيه ويتأثر به . أي إلى ظروفه ( مجتمعه ) وبهذا نرجع الى الظاهرة الاجتماعية ذاتها فإن اضيف اليها حدها الزماني أصبحت ظاهرة تاريخية . غير ان الظاهرة وتاريخها وحركتها إلى المستقبل تكون غير مفهومة إلا على ضوء القانون الذي اكتشفناه . إذ عن طريق معرفة ما أثر في فعاليته أو تأثر بها ، في واقع معين في زمان معين ، يمكن فهم الواقع وكيفية تغييره عن طريق التحكم في العوامل المؤثرة والمتأثرة بقانون حركة الانسان .
حل مشكلة المنهج ـ اذن ـ يقتضي دراسة خاصة في الانسان كظاهرة نوعية متفردة بأنها ” وحدة من الذكاء والمادة  لاكتشاف قوانين حركته التي تضبط علاقته بغيره من الناس وبالطبيعة وبالوجود الشامل الذي يحتويه هو وغيره والطبيعة معاً . وقد تكفلت نظرية ” جدل الانسان ” بهذه الاضافة على الوجه المطروح باستفاضة في  كتاب ” أسس الاشتراكية العربية ” ( ص 59 وما بعدها ) . ومن هنا يعتبر “جدل الانسان” هو المنهج الذي يفسر النتائج الصحيحة لكل الدراسات والمواقف التي تنطلق من التسليم بأن الانسان هو العامل الاساسي في التطور إذ ان ” جدل الانسان ” هو النظرية التي أوضحت ” كيف ” يكون الانسان هو العامل الاساسي في التطور . كيف يمارس الانسان دوره القائد لحركة التطور الاجتماعي .    

18 ـ ماهو جدل الانسان ؟

لقد كان كتاب ” أسس الاشتراكية العربية ” كله مخصصاً لطرح ” جدل الانسان ” كمنهج واختبار صحته في عديد من القضايا : الحرية الديموقرطية ، حركة التاريخ ، الاشتراكية ، الأمة ، القومية ، الوحدة ، التنظيم ، الأخلاق … الخ . وكان من بين وسائل اختباره الاحتكام اليه ثم الى ” المادية الجدلية ” في فهم بعض تلك القضايا لنعرف ايهما أصدق مع حصيلة الممارسة . ولسنا نستطيع أن نعيد هنا ما هو مطروح هناك . إنما نقدم منهج ” جدل الانسان ” لنعرف كيف نستخدمه حتى نستخدمه بعد أن نعرف في صياغة ” نظرية ” تغيير الواقع العربي . وفيما يلي نقدمه على الوجه الذي يسهل الرجوع اليه فيما بعد.
” جدل الانسان ” منهج لتغيير الواقع . فلا هو مقولة فلسفية فيما وراء الواقع ولا هو ” نظرية ”  تحدد منطلق تغيير الواقع وغايته واسلوبه . إنما هو مجموعة من القواعد والقوانين الموجودة في الواقع الموضوعي . إذ نعرفها فنلتزمها نستطيع أن نغيّر الواقع . وليس ” جدل الانسان ” ابداعاً غير مسبوق بل هو المنهج الجدلي بعد ان صححته التجربة . ولكن ليس تكراراً لما سبقه لأنه يختلف عنه فيما صححه . وعلى هذا فإن منهج ” جدل الانسان ” يتضمن :
(1) أصلاً مسبوقاً .
(2) وإضافة من عنده .
(3) تصحح قانون الجدل .
(4) وتحل مشكلة المنهج .
(5) وتنتهي الى صيغة جديدة للمنهج الجدلي . 

أولاً ـ الأصل :  

1 ـ يقوم ” جدل الانسان ” على ذات القاعدة التي قامت عليها مناهج كثيرة في التطور ، ونعني بها : إن كل الاشياء والظواهر منضبطة حركتها من الماضي الى المستقبل بقوانين حتمية معروفة أو تمكن معرفتها . ويذهب ” جدل الانسان ” ، مع بعض تلك المناهج وخلافاً لبعضها الآخر ، إلى ان الانسان نفسه لا تفلت حركته من هذا الانضباط الشامل لحركة كل الاشياء والظواهر .
ومنه نتعلم :
إنه مادام ” انضباط الاشياء والظواهر في حركتها من الماضي الى المستقبل بقوانين أو نواميس حتمية شرطاً أولياً لإمكان تغيير الواقع ” ( فقرة 2 ) فإن تغيير واقعنا مهما تكن صعوبته هو أمر ممكن . وبهذا تسقط مبررات اليأس والسلبية ولا يبقى إلا ان نعرف كيف نحقق هذا ” الممكن ” . ويرشدنا ” جدل الانسان ” إلى الخطوة الأولى : معرفة الواقع الذي نريد أن نغيّره ، كما هو ، معرفة صحيحة عن طريق البحث العلمي فيه لاكتشاف القوانين التي تضبط حركته ، وشروط فعاليتها ، وكيفية التحكم في تلك الشروط لنعرف كيف نحقق الممكن الذي نريد . بهذا يفرض علينا ” جدل الانسان ” أن نتحرر من المثالية التي تخضع حركتنا لتصورات فكرية مجردة غير قابلة للتحقيق ثم أن نبحث وندرس ونتعلم حتى نعرف واقعنا وكيف نغيّره . وينذرنا ” جدل الانسان ” منذ البداية بالفشل الذي تستحقه أية حركة تستهدف تغيير الواقع لتحقيق أحلام غير قابلة للتحقق لأنها لا تتفق مع حتمية القوانين التي تضبط حركة الواقع الذي تريد أن تغيّره . أو أية حركة تستهدف من تغيير الواقع ما هو ممكن ولكنها تفتقر إلى ” العلم ” بما تريد أن تغيره . تلك مثالية والمثالية فاشلة .
2 ـ ويتضمن ” جدل الانسان ” ويأخذ عما سبقه ما عرفناه عند الحديث عن الجدلية ( فقرة 9 ) من ان كل الأشياء والظواهر :
(1)  يؤثر بعضها في بعض ،
(2)  خلال حركتها التي لا تتوقف ،
(3)  فتلحقها تغيرات مستمرة  .
ويتفق مع بعض المناهج السابقة في أن تلك القوانين الكلية الثلاثة تضبط حركة كل الاشياء والظواهر بما فيها الانسان نفسه .
ومنه نتعلم :
أن ندرس ونتابع ونستوعب ونستفيد من الشروح الجديدة التي قدمها ، ويقدمها ، الفكر الانساني لهذه القوانين الثلاثة فنعرف ـ أولاً ـ اننا عندما نحاول اكتشاف واقعنا لنغيّره لا يكفي ان نعرفه كما هو وحده ومعزولاً عن غيره . بل لابد لنا أن نكتشف معه ما يتأثر به وما يؤثر فيه من خارجه . ثم عندما نحاول تغييره أن ندخل في حسابات التخطيط لتغييره ، وفي تقدير القوى اللازمة لهذا التغيير ، وفي وسائل التغيير ذاتها ، ذلك التأثير المتبادل بين واقعنا وغيره فنعد مقدماً ونستعد لما تولده حركة التغيير ـ حتماً ـ من أفعال تؤثر في غير واقعنا ومن ردود أفعال تؤثر في واقعنا . ونحن لا نستطيع ان نقدر هذا التأثير المتبادل تقديراً صحيحاً إذا اكتفينا بما نعرفه في زمان معين ولو كان صحيحاً . ذلك لأننا يجب ان نعرف ـ ثانياً ـ إن واقعنا وغيره في حركة دائمة فلا نقيم خطط تغيير واقعنا كما لو كان ثابتاً . إن الانتباه إلى حتمية قانون الحركة يحتاج منا إلى تدريب شاق . لأننا أنفسنا نتحرك مع الواقع فيصعب على كثير منا أن يدرك الحركة ذاتها فيتصور أن الواقع حاضر . إنه حاضر معنا وبالنسبة الينا لأننا نصاحبه في حركته . ولكنه ونحن معه في حركة دائمة من الماضي الى المستقبل . إننا نتغلب على هذه الصعوبة إذا اعتدنا ان نضيف إلى قائمة الاسئلة التي نطرحها لنعرف من اجابتها ما هو الواقع وكيف نغيّره ، السؤال : متى ؟ … فنحدد الواقع وخطة تغييره في الزمان . ثم السؤال : أين ؟ … فنحدد الواقع وخطة تغييره في المكان . وندرب أنفسنا على ألا نفهم شيئاً أو أحداً ، أو نقيّمه ، أو نريده ، أو نريد له ، إلا في حديه من المكان والزمان معاً وخلال حركته المستمرة بين هذين الحدين . فنفهمه في حالة صيرورة مابين أعمق ماض نذكره إلى اقصى مستقبل نتصوره . عندئذ نفهمه فهماً صحيحاً ونكتسب ملكة الفهم الصحيح للواقع في حركته التي لا تتوقف . وسيسهل علينا أن نستفيد من قانون الحركة الحتمي إذا عرفنا ـ ثالثاً ـ أن التأثير المتبادل بين واقعنا وغيره خلال الحركة المستمرة يصيب كل منهما بتغييرات مستمرة . قد تكون تلك التغيّرات طفيفة أو خفية فلا ندركها ، وقد تكون عنيفة أو مفاجئة فندركها ، لا يهم . المهم ان ننتبه إلى أن الواقع قد تغيّر ـ حتماً ـ في ماضيه ويتغير ـ  حتماً ـ في مستقبله ، خلال حركته المستمرة من الماضي إلى المستقبل وبحكم قانون التأثير المتبادل الحتمي . فلا نقيم خطط تغيير الواقع إلا بعد أن نعرف من حركته في الماضي ( تاريخه كيف تغيّر حتى أصبح كما نعرفه . ونعد مقدماً للتغيرات التي ستلحقه حتماً في مستقبله ونحن نخطط لتطويره إلى المستقبل الذي نريد . وعندما ندرك ان هذه التغيرات تتم خلال الحركة المستمرة ونربط بين فعالية القوانين ( الحركة والتغير ) وتأثيرهما المتبادل ، نتعلم كيف أن التاريخ ليس ركاماً من الأحداث نعرفها لنرضي فضولنا بل خبرة متراكمة نتعلمها لنبني مستقبلنا ، وان خططنا الشاملة المكان ليست مجرد تحديد لمواقع نضالنا بل مواجهة لمعطيات عينية لا تمكن مواجهتها بنجاح بعيداً عن مكانها ، وإن خططنا الممتدة في الزمان ليست مجرد تقسيم لجهودنا على مراحل او توزيعاً للجهود على الاجيال المتعاقبة بل اختياراً واعياً وواقعياً وعلمياً معاً للاهداف والقوى والاساليب المرحلية المتغايرة تبعاً لتغيّر الواقع الذي تواجهه في زمانه . وهكذا ينذرنا ” جدل الانسان ” بالفشل الذي تستحقه أية حركة تستهدف تغيير الواقع جاهلة الرابطة الشاملة لواقعنا وغيره والتي تحتم أن يكون واقعنا مؤثراً في غيره متأثر به ، أو متجاهلة حركة الواقع التي لا تتوقف فتفضل تاريخ الواقع عن مصيره ، أو متجمدة عند ذات الأهداف والقوى والاساليب التي كانت مناسبة لمرحلة فتجاوزها الواقع المتغيّر أبداً فلم تعد مناسبة .
3 ـ في نطاق هذه القوانين الكلية الثلاثة ( التأثير المتبادل والحركة والتغير ) تخضع حركة كل شيء لقوانينه النوعية الخاصة .
ومنه نتعلم :
أن معرفتنا ، فالتزامنا ، النظر إلى الواقع وفهمه في إطار العلاقة الشاملة التي تجمع بينه وبين غيره وتحتم أن يكون مؤثراً متأثراً متحركاً متغيراً أبداً ليست إلا خطوة أولى . أو أنها خطوة أولى لازمة ولكن غير كافية لنعرف كيف نغير واقعنا وننجح في تغييره . فهذا الواقع الذي نتحدث عنه كما لو كان وجوداً بسيطاً هو وجود مركب من ذرات مختلفة التركيب تتجمع في عناصر متميزة الخصائص تقسم الى انواع متعددة ز فمنه الجماد والنبات والحيوان والانسان . ومنه الطاقة ومنه المادة . وإلى كل عنصر ، وكل نوع وكل جنس ينتمي ما لاحصر له من الجزئيات . ولكل ذرة ، أو عنصر أو نوع … الخ  ” علم ” متخصص في اكتشاف ماهيته وقوانين حركته ولا يفيدنا ـ هنا ـ ان نعدد تلك العلوم المتخصصة . إنما يفيدنا ان نعلم ـ من جدل الانسان ـ أن ” العلم ” بمعناه الفني المتخصص ، أي معرفة مفردات الواقع من أول الذرات الى آخر البشر ، واكتشاف خصائصها وقوانين حركتها وعلاقاتها المتبادلة شرط جوهري لامكان تغيير الواقع لا تغني عنه معرفة انها جميعاً يؤثر بعضها في بعض خلال حركتها التي لا تتوقف فتصيبها تغيرات مستمرة . بل إن هذه المعرفة العلمية بالانواع وقوانينها الخاصة هي التي تمكننا من الاستفادة بالقوانين الكلية الثلاثة التي عرفناها . إذ ان القانون النوعي الذي يضبط حركة كل شيء على حدة هو الذي يحدد لنا ” شرط ” فعالية القانون الكلي فيه . فنعرف منه كيف يحدث التأثير المتبادل بينه وبين غيره وكيف تتم حركته واتجاهها وكيف يتغير ومضمون ذلك التغير وبهذه المعرفة نستطيع أن نتحكم في الأثر ومداه وفي الحركة واتجاهها وفي التغير ومضمونه . أي نستطيع أن نستخدم فعالية القوانين الكلية في إحداث التغييرات التي نريدها في الواقع العيني المركب من أنواع مختلفة بقدر ما يكون علمنا بها صحيحاً . بدون هذا ” العلم ” المتخصص في الأنواع ، بدون التسلح بالمعرفة الصحيحة والوافية في الفيزياء والكيمياء والاحياء ، بدون علم الجيولوجيا والجغرافيا والهندسة والطب ، بدون هذه العلوم التي يسمونها ” تكنولوجيا ” بدون علم الاجتماع ، بدون علم الاقتصاد ، بدون علم القانون ، … الخ لا نعرف كيف نغيّر واقعنا فلا ننجح في تغييره حتى لو كنا قد عرفنا أن تغييره ممكن . وكما أن المعرفة الجزئية المتخصصة بمفردات الواقع وقوانينها النوعية لا تكفي لمعرفة كيف يتغيّر الواقع الشامل فيعجز العلماء المقصورة معرفتهم على مجالات تخصصهم في تغييره ، كذلك لا يستطيع أكثر الناس ثورية تغيير واقعهم إلى ما يريدون بدون علماء متخصصين . ولا يستطيع أحد أن يغيّر من الواقع شيئاً إلا بقدر ما يعلم وفي مجال علمه لا أكثر ولا أبعد . وهكذا ينذرنا ” جدل الانسان ” بالفشل الذي تستحقه أية حركة تتوقع تغيير الواقع الى ما تريد اتكالاً على جهود العلماء المتخصصين في مجالاتهم وتستغني بالتقدم الجزئي عن التقدم الشامل ، أو ، اتكالاً على إرادتها التغيير بدون ” علم ” فتستغني بالهدم عن البناء وبالساسة عن العلماء.
وبعد ،
فتلك نذر ثلاثة وعاها غيرنا من قبل فأصابوا ما كانوا يستهدفون بقدر ما وعوها . ينذرنا بها ” جدل الانسان ” مجدداً ، تأكيداً لاتصال المعرفة الانسانية وتحذيراً من أن نهدر ـ جهلاً أو تعصباً ـ خبرة السابقين فلا نزيد عن ان نكررالاخطاء التي علمتهم لمجرد الرغبة الطفولية أن تكون لنا ” نظرية ” خاصة .
غير ان ” جدل الانسان ” يقدم الينا نذراً مضافة .  

ثانياً ـ الاضافة :  

4 ـ كان المنهج الجدلي كما عرفناه ( فقرة 9 ) يتضمن : ” (4) ان هذه التغيرات المستمرة هي تطور نام يتم خلال الصراع بين المتناقضات الكامنة في الشيء ذاته . ” وكان ذلك عند أصحابه قانوناً كلياً ” يضبط حركة الاشياء والظواهر . في هذا يختلف ” جدل الانسان ” فيفترق عن المناهج التي تجمعه بها اصول واحدة ليقرر أنه : في نطاق القوانين الكلية الثلاثة الأولى ” يتحول ” كل شيء طبقاً لقانونه النوعي وينفرد الانسان بالجدل قانوناً نوعياً ” لتطويره ”  .
ان ” جدل الانسان ” يقدم الينا مفردات ذات دلالات مقصودة ، فلا ننسبن اليها دلالات أخر ولا نسلبنها دلالتها ” التغيرات ” التي تصيب الاشياء والظواهر تتضمن نوعين : أولهما ” التحول ” وهو ما يصيب كل الاشياء والظواهر من تغيرات تلقائية بفعل التأثير المتبادل فيما بينها خلال حركتها التي لا تتوقف . وثانيهما ” التطور ” وهو إضافة الاشياء والظواهر ما كان لها ان تتحقق تلقائياً بفعل التاثير المتبادل بين الاشياء والظواهر خلال حركتها التي لا تتوقف إلا بتدخل ” واع ” بفعالية القوانين التي تضبط حركة الاشياء والظواهر ” قادر ” على استخدامها لتغيير الاشياء والظواهر الى ما ” يريد   .
 التحول ” يصيب المادة في كل جزئياتها وأنواعها من أول الذرات إلى آخر المجرات . إذ تخضع حركتها لقوانين ميكانيكية أو كوانطية معروفة او تمكن معرفتها ويحكمها قانون المادة الحديدي (المادة لاتفنى ولا تتجدد) . فكما يتحول الماء الى بخار يتحول البخار الى ماء بدون اضافة او رقي . وكما تتحول المادة الى طاقة تتحول الطاقة الى مادة بدون اضافة او رقي . وهي لا تتحول إذ تتحول إلا بمؤثر من خارجها . لأن المادة خالية من التناقض الداخلي والصراع . فهي لا تتطور جدلياً إلى ما هو ارقى بل تتاثر خلال حركتها فتتحول طبقاً لقوانينها النوعية من حالة الى حالة وتعود سيرتها الاولى بدون ان ترقى .
أما ” التطور ” فلا يصيب إلا الظواهر الانسانية حيث تخضع حركة الانسان وحده لقانون ” الجدل ” الذي سنعرفه فيما بعد ، بالاضافة الى خضوعه للقوانين الكلية الثلاثة الأولى فيولد وينمو ويموت بدون اضافة شأنه شأن اية مادة أخرى . ولكنه حيث يكون انساناً واعياً يضبط حركته قانون الجدل حتماً . طبقاً له يؤثر ويتاثر ولا يستطيع ان يؤثر ويتاثر إلا طبقاً له وهكذا يكون قانون الجدل قانوناً نوعياً خاصاً بحركة الانسان وحده ” كوحدة نوعية من الذكاء والمادة ” به يطور واقعه فيضيف اليه ما لم يكن ليتحقق في الواقع إلا لأنه أراده وعمل على تحقيقه .
فلا نقعن في الخلط الذي ورثناه من نظرية داروين عن ” التطور ” في عالم الاحياء . لقد كان المؤشر لانتباه داروين ملاحظته الفلاحين يقومون بتهجين حيواناتهم ليستولدوها سلالات جديدة أفضل . جديدة بمعنى انها ما كانت لتولد بدون تهجين . وأفضل بمعنى أنها أكثر مناسبة لما يريد الفلاحون . كان أولئك الناس يطورون الواقع طبقاً لقانونهم ( الجدل ) بالتحكم في قوانين الحيوان ( الوراثة ) . فلما لاحظ داروين خلال رحلاته اختلاف الانواع في عالم الحيوان عمم ملحوظته الأولى فظن ان ثمة انتخاباً بين الانواع تختاره الطبيعة . والواقع انه لم يلاحظ إلا كيف تؤثر الأنواع في الطبيعة وتتأثر بها فتتغير خصائصها بدون انتخاب أو اختيار . انها تتلاءم مع بيئتها ” سلبياً ” فتتغير ولا تغيّر بيئتها ” ايجابياً ” لتلائمهما كما يفعل الانسان . أما ما ظنه صلة بين الانواع ولم يعرف كيف تحدث فذلك ما عرفه مندل الذي كان معاصراً لداروين وإن لم يكن ـ حينئذ ـ معروفاً . ولم يعرف إلا عندما اعترف العالم والعلم ـ بعد ذلك بوقت غير قصير ـ بما كان قد اكتشفه من قوانين الوراثة . ولم تعد الدارونية ـ او الدارونية الحديثة كما يسمونها ـ إلا محصلة دراسة فعالية قوانين الوراثة في الأنواع وفيما بينها في نطاق قوانين التأثر المتبادل والحركة والتغير التي تحكم العلاقة بين الانواع وبيئتها . وقوانين الوراثة ـ كما يعرف الاخصائيون ـ ذات دلالة مذهلة على اتساق قوانين الطبيعة وخلوها من التناقض . وهكذانعرف ان الطبيعة ، حتى في عالم الأحياء ، تتحول ولا تتطور . ما تزال ” الاميبا ”  والدودة معاصرتين في الطبيعة للقرد والانسان . ولا يمكن القول ـ إلا مجازاً ـ بأن القرد ” أرقى ” من الدودة مادام كل منهما ما يزال على ذات البعد من الانسان الذي ينفرد بالمقدرة على ” الفعل الارادي ” فيخلق ما لم يكن موجوداً على ما يريد . ذلك لأن ” الرقي ” كما نستعمله في ” جدل الانسان ” تعبير عن ثمرة هذا الخلق الارادي .
ومنه نتعلم :
أعظم دروس الجدل على الاطلاق : أولوية الانسان .
أولوية الانسان ، لا بأي مفهوم ميتافيزيقي أو مثالي أو اخلاقي ، ولكن في حركة التطور الاجتماعي : يتوقف التطور الاجتماعي من حيث مضمونه ، واتجاهه ، ومعدل سرعته ، ونصيبه من النجاح أو الفشل على العنصر البشري في أي مجتمع . كل ما عداه من قوى الطبيعة وموادها امكانيات متاحة ولكن البشر وحدهم هم القادرون على استخدام تلك القوى والمواد في صنع التطور الاجتماعي وعلى البشر وحدهم يتوقف ما يكون من أمر تلك القوى والمواد . فحتم على الناس ألا يتغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم ، أو ، كما يكون الناس يكون تطورهم الاجتماعي . نستطيع أن نترجمه إلى مباديء استراتيجية فنقول : لا تحرر بدون أحرار ، لا وحدة بدون وحدويين ، لا اشتراكية بدون اشتراكيين . ونستطيع ان نترجمه الى تخطيط فنقول أن وجود ” الكوادر” الثورية يجب ان يسبق قيام ” التنظيم الثوري ” وإن قيام التنظيم الثوري” يجب أن يسبق الثورة ونستطيع أن نترجمه الى برامج تنفيذية فنقول : إن تدريب العاملين على صناعة معينة يجب ان يسبق بدء تشغيل مصانع انتاجها ، وأن حل مشكلات العاملين يجب ان يسبق حل مشكلات العمل . ونستطيع أن نترجمه إلى مواقف فنقول : ان السلبية موقف عقيم ، وان الاستهانة بالناس خطأ ، وان فرض الوصاية عليهم خطأ فاحش ، أما الاستبداد فيهم فتخريب لحركة التطور الاجتماعي . ونستطيع ان نترجمه الى تقييم فنقول : إن الجبناء والمنافقين والمترددين حتى في حياتهم الخاصة لا يمكن ان يصلوا الى التطور الثوري . وإن المستبدين حتى في منازلهم لا يمكن ان يكونوا ديموقراطيين . وان المختلسين والمرتشين حتى لو كانوا عباقرة الاقتصاد لا يصلحون لادارة مشروع اشتراكي … الخ . وكم نستطيع أن نترجم من هذا الدرس العظيم : الانسان أولاً .
وهكذا ينذرنا ” جدل الانسان ” بالفشل الذي تستحقه أية حركة تحاول ان تفهم الواقع بدون ان تبدأ بالانسان ، او تعد لتغييره بدون ان تبدأ بالانسان ، أو تحاول تغييره بدون ان تبدأ بالانسان او تستهدف من التغيير مستقبلاً لا يكون فيه الانسان أولاً ، جاهلة أو متجاهلة إن الانسان ، وحده ، هو أداة تغيير واقعه ، وان الناس ، وحدهم ، هم أداة الخلق في التطور الاجتماعي .
فكيف يخلق الناس ما يريدون .  

ثالثاً ـ القانون :  

5 ـ ” في الانسان نفسه يتناقض الماضي والمستقبل ويتولى الانسان نفسه حل التناقض بالعمل إضافة فيها من الماضي والمستقبل ولكن تتجاوزهما الى خلق جديد ” . وفيما يلي بيان قصير عن هذا القانون ننقله من ” أسس الاشتراكية العربية ” ( ص 118 وما بعدها )  .
يقول :
” …  النقيضان في جدل الانسان هما الماضي والمستقبل اللذان يتبع أحدهما الآخر ، ويلغيه ، ولا يلتقي به قط ومع هذا يجمعهما الانسان ويضعهما وجهاً الى وجه في ذاته . ( يسترجع الماضي بالذاكرة ويستقدم المستقبل بالمخيلة وكلاهما من خصائص الانسان وحده )  .
 والماضي ـ بالنسبة الى الانسان ـ مادي جامد غير متوقف عليه وغير قابل للتغيير وبمجرد وقوعه يفلت من امكانية الالغاء ، ولكن الانسان ، إذ يعرف عن طريق استرجاعه كيف وقع ، يدرك امتداده التلقائي في المستقبل . والمستقبل ـ بالنسبة الى الانسان ـ تطور لا يحدّه قيد من المكان أو الزمان . واقصى مستقبل لأي انسان ان تتحقق جميع احتياجاته . وفي الانسان يجتمع النقيضان وتثور المشكلة بالصراع بين الماضي ممتداً تلقائياً في المستقبل وبين المستقبل الذي يريده الانسان . وبين الماضي يريد ان يمتد فيلغي ما يريده الانسان وبين ما يريده الانسان ان يتحقق فيلغي امتداد الماضي وتكون المشكلة ـ التي تعبر عن الصراع ـ هي ذلك الفرق بين الواقع المسترجع من الماضي والمستقبل الذي يريده الانسان . ويعبر عنه سلبياً بالحاجة ، أي شعور الذات بعدم الاكتفاء ( من تجربة الماضي ) ونزوعها الى الاكتفاء ( في المستقبل )  ومقاومة الظروف ( الماضي ممتداً تلقائياً في المستقبل ) لاشباع تلك الحاجة . وبقدر ما يكون الفرق كبيراً يكون التناقض عميقاً فيكون الصراع قوياً فتكون المشكلة حادة . وبقدر ما يسترجع الانسان من ماضيه يتصور من مستقبله ويتحدد شمول المشكلة التي لابد حلها . ويظل الصراع قائماً : ظروف الماضي تفرض نفسها على المستقبل . ويتم الصراع بين الماضي والمستقبل حيث يلتقيان ، ولا نقول الحاضر إذ لا وجود لما يسمى الحاضر بين الماضي والمستقبل إلا إذا ألغينا الزمان . عند نقطة الالتقاء تلك ـ وفي الانسان ـ يكون الصراع ويكون الحل الذي يتحقق بالعمل متضمناً إضافة جديدة .
 أما كيف يحل التناقض فقد قلنا أن صراع النقيضين يطرح المشكلة التي لا بد ان تحل ، ثم يستعمل الانسان ادراكه ( إحدى خصائص الانسان وحده ) ليعرف كيف نشأت المشكلة ، أي ما هو وجه التناقض بين الظروف وحاجته . ( الظوف تعبير عن امتداد الماضي والحاجة تعبير عن المستقبل الذي يريده الانسان ) . ويستفيد الانسان من مقدرته على معرفة الماضي في المستقبل وهو ما اسميناه الامتداد التلقائي للظروف . كما يستفيد من معرفته العلمية للظروف لتعديل المستقبل الذي يتصوره الى المستقبل الممكن علمياً . أي يجد حلاً يتضمن ما يريده الانسان وتسمح به قوانين الظروف معاً . هذا الحل يتحقق بالعمل المادي أو الذهني تبعاً لطبيعة المشكلة . هذا الحل يلغي من الظروف كما يحددها الماضي ما لا يتفق مع المستقبل كما يريده الانسان ، ويلغي من المستقبل الذي اراده الانسان ما لم يتفق مع امكانيات الظروف وقوانين تغييرها النوعية . فيخلق في ـ كل لحظة وفي كل مكان ـ مستقبلاً متفقاً مع حاجة الانسان وظروفه ، أي خالياً من جمود الماضي وخيال المستقبل . أما أداة الخلق فهو العمل ( إحدى خصائص الانسان وحده ) الذي يحل التناقض وتتم به الحركة الجدلية .
 كيف تتسق الحركة الجدلية بعد هذا ؟
 بفعل الماضي والمستقبل ذاتهما . إذ أن الحل الذي يتحقق بالعمل إضافة ينتهي بها تناقض وينشا بها تناقض جديد . لأن ما يتحقق فعلاً يلحق فور تحققه بالماضي فالزمان لا يتوقف . وبذلك تنشأ نقطة التقاء جديدة بين الماضي والمستقبل ، أي صراع جديد ومشكلة جديدة . ويسهم الحل الذي كان مستقبلاً ثم اصبح ماضياً بتحققه في أثناء الماضي الذي يسترجعه الانسان وهو يواجه مستقبله الجديد ، فيزيد مدى تصوره المستقبل ، ويكشف له مدى جديداً في حاجاته ، وينشأ بذلك صراع جديد ثم يحل ، وهكذا وكل ما يتحقق في الواقع يعتبر خطوة الى الامام ( تقدم ) لأنه اضافة . وهكذا تتابع المشكلات وتتابع الحلول ويتقدم الانسان وحاجته معلقة دائماً على بعد أمامه في سباقه مع ظروفه . يندفع الى المستقبل وكلما حقق جزءاً من مضمونه امتد امامه وظل مستقبلاً ذا مضمون جديد . وفي تاريخ الانسان سار هذاالجدل من البسيط الى المركب ومن المحدود الى الأكثر شمولاً ( بفعاليته التي تنمي وتضيف أبداً ) ، وكلما زادت تجارب الانسان اغتنت ذاكرته فاتسعت تصوراته وزادت حاجاته فزادت مشكلاته فأبدع لها مزيداً من الحلول . ولهذا لم يستو تقدم الانسان على نسبة واحدة واصبح يحل في شهور ما كان يحله في قرون مع ان مشكلاته قد تضاعفت اضعافاً .
 وإذا كان الجدل قانوناً خاصاً بنوع الانسان فإن الانسان لا يفلت من القوانين الكلية التي تحكم الطبيعة وهو جزء منها يؤثر ويتأثر في حركة دائمة وتغير مستمر ، وتحكمه تلك القوانين كوحدة من الذكاء والمادة . فهو لا يستطيع مهما كان ذكياً أن ينفصل عن الظروف التي تحيط به أو لا يتأثر بها أو يتوقف عن التأثير فيها . ولا يستطيع مهما كانت ارادته أن يثبت نفسه فلا يتغير عضوياً وفكرياً . كما لا يستطيع مهما بلغ تصوره أن يخلق طبيعة غير الطبيعة الموجودة فعلاً والتي تشمله . لهذا فغن جدل الانسان كقانون يعطل ( لاتحل المشكلة ) اذا لم يكن الجدل مستنداً الى المعرفة الصحيحة بالطبيعة وقوانينها واستعمال تلك القوانين استعمالاً صحيحاً … الخ ”  .
يكفي هذا بياناً .
هذا هو قانون جدل الانسان .
وهو قانون حتمي .
(1) حتمي بمعنى أن أي نشاط يقوم به الانسان ، ذهني أو مادي ، سلبي أو ايجابي ، ومهما يكن مضمونه هو محاولة من جانبه لحل مشكلة يتناقض فيها واقعه مع ارادته ، ولا يستطيع أي انسان أن يكف عن محاولة حل مشكلاته إذ حتم على الانسان ، بحكم قانونه النوعي ، أن يكون جهازاً لا يتوقف لحل المشكلات .
(2) حتمي بمعنى أن أي نشاط يقوم به الانسان ، ذهني أو مادي سلبي أو ايجابي ، ومهما يكن مضمونه له غاية ثابتة هي تحرره من حاجته كما يعرفها من ذاته . ولا يستطيع أي انسان أن يستهدف من نشاطه غير التحرر من حاجته كما يعرفها من ذاته . إذ حتم على الانسان ، بحكم قانونه النوعي ، أن يستهدف دائماً حريته .
و(3) حتمي بمعنى أن تحرر الانسان من حاجته في موضوع معين يؤدي مباشرة الى حاجته في    موضوع جديد . ولا يستطيع أي انسان أن يكف نفسه عن الحاجة أو أن يشبع حاجاته المتجددة أبداً . إذ حتم على الانسان ، بحكم قانونه النوعي ، أن يظل أبداً مفتقداً حرية جديدة باحثاً عن حريات متجددة .
و(4) حتمي بمعنى ان الانسان يتحرر من حاجته بتغيير واقعه وليس بتغيير ذاته كإنسان ولا يستطيع أي إنسان أن يتحرر من حاجته إلا بتغيير واقعه . إذ حتم على الانسان ، بحكم قانونه النوعي ، أن ينتزع حريته من قيود واقعه .
ولا بأس في ان نضيف أنه :
(5) حتمي بمعنى أن الانسان يحقق من حريته ، في واقع معين في وقت معين ، بقدر ما يتفق مع طبيعة هذا الواقع في زمانه . ولا يستطيع أي انسان أن يحقق من حريته ، في واقع معين في وقت معين ، أكثر مما يتفق مع طبيعة واقعه في زمانه إذ حتم على الانسان ، بحكم ان الجدل قانون ” نوعي ” خاص به وحده ، أن تتاثر فعاليته بحتمية القوانين الموضوعية التي تحكم واقعه .
هذا هو القانون وهذي هي حتميته .
فكيف يتم التطور الاجتماعي ؟
نرد المفرد ( الانسان ) الى مجتمعه لنرى ما يؤثر في فعالية قانونه وما يتأثر بها . ونحن لا نستطيع أن نرى هذا بوضوح إلا إذا تحررنا نهائياً من تأثير تيار فكري علمنا ويعلمنا أن المجتمع ” كائن ” مستقل عن الناس فيه . وقد استدرج هذا التيار بعضنا ، وما يزال يستدرجهم ، إلى محاولة اكتشاف قوانين خاصة بحركة ذلك الكائن الموهوم مختلفة نوعياً عن القوانين التي تضبط حركة البشر . عندما نتحرر من هذا الوهم نواجه المجتمع على حقيقته . جماعة من الناس في واقع معين واحد . واقع معين زائد ناساً متعددين يساوي واقعاً مشتركاً . وذلك هو المجتمع : جماعة من الناس يعيشون معاً في واقع معين مشترك فيما بينهم . قد تكون الجماعة أسرة ، أو عشيرة ، او قبيلة ، او شعباً … لايهم . أنهم أفراد متعددين ينشط كل منهم في الواقع المشترك طبقاً لقانونه النوعي : جدل الانسان . كل منهم يسعى ولا يستطيع إلا أن يسعى لاشباع حاجته وكل منهم يستهدف ولا يستطيع إلا ان يستهدف حريته … الخ . هذا لا يتغير في المجتمع . فالمجتمع لا يحيل الانسان ” شيئاً ” جامداً ولا يحوّل الناس الى قطيع من الحيوان. وإنما الذي يتغير هو الواقع ذاته . إذ عندما يتعدد الناس في واقع معين واحد يصبح هذا التعدد بما يتضمنه من مشاركة جزءاً من الواقع . جزءاً من الواقع الذي يواجه كل انسان . يصبح واقعاً اجتماعياً واقعاً اجتماعياً لا بمعزل عن أي إنسان فيه ولكن بالنسبة الى كل انسان فيه . ويكون على “جدل الانسان ” أن يشق طريقه الحتمي الى الحرية في هذا الواقع الاجتماعي . وهو يشقه بنجاح مطرد إذا تعامل مع الواقع الاجتماعي كما هو على حقيقته الموضوعية .
وأولى الحقائق الموضوعية هي أن الواقع الاجتماعي محصلة تطور تاريخي . تطور في الماضي . ” والماضي ـ بالنسبة الى الانسان ـ مادي جامد غير قابل للتغيير وبمجرد وقوعه يفلت من امكانية الالغاء” . ومؤدى هذا انه عندما يولد الانسان فيجد أنه انسان من مجتمع معين يصبح إلغاء هذا المجتمع مستحيلاً إنه مجتمعه أراد هذا أم لم يرده . أعجبه أم لم يعجبه . وما عليه إلا ان يتعامل معه كما هو أو أن يهرب الى حيث يعيش مشرداً بدون مجتمع أو إلى حيث يجد مجتمعاً يشركه في واقعه وعندئذ سيواجه الحقيقة التي هرب منها : قبول التعامل مع مجتمعه ( الجديد ) كما هو .
والحقيقة الثانية هي ان الواقع الاجتماعي هو الذي يسهم في إثارة المشكلات في المجتمع . لأن الواقع ( حصيلة الماضي ) الذي يناقض ما يريده الانسان هو ـ هنا ـ واقع اجتماعي . ومؤدى هذا أنه لا وجود في المجتمع لما يسمى المشكلات الخاصة . إن كل المشكلات التي يواجهها أي إنسان في حياته هي مشكلات اجتماعية في حقيقتها الموضوعية . بحيث لا يمكن فهمها فهماً صحيحاً إلا على ضوء الواقع الاجتماعي الذي أسهم في اثارتها أو إلا من حيث هي تعبير عن تناقض قائم بين الواقع الاجتماعي كما هو وبين ما يريده الانسان فيه .
الحقيقة الثالثة ، أجدر الحقائق بالانتباه ، لأنها عقدة العقد في مشكلات التطور الاجتماعي ، هي أنه مادام الواقع الاجتماعي محدداً موضوعياً فإن الحل الصحيح لأية مشكلة اجتماعية محدد موضوعياً . ونحن نعي هذا تماماً إذا تذكرنا أن التناقض الجدلي يقوم بين الواقع ، وهو هنا واقع اجتماعي محدد موضوعياً وغير قابل للالغاء ، وبين المستقبل كما يريده الانسان و ” المستقبل ـ بالنسبة الى الانسان ـ تصور لا يحده قيد من الزمان أو المكان ” . لا قيد ولا حد لما يتمناه الانسان لنفسه فيشعر بالحاجة اليه إنه يصوغه كما يريد من تجاربه أو تجارب غيره في واقعه الاجتماعي أو مما يعرف من واقع الناس في المجتمعات الاخرى . لا قيد ولا حد للطموح الانساني ولكن مهما تعددت وتفاوتت واختلفت وتناقضت حاجات الناس فإن حلها الصحيح ، في مجتمع معين في وقت معين ، محدد موضوعياً بالواقع الاجتماعي ذاته . فلو استطعنا أن نحصر كل ما يحتاجه الناس في مجتمع معين ونعرف في ذات الوقت كل ما يستطيع الواقع أن يقدمه لعرفنا ما هي المشكلات الحقيقية التي يطرحها الواقع الاجتماعي وكيف تحل . أي لعرفنا الحل الصحيح للمشكلات الاجتماعية كما هو محدد موضوعياً . مؤدى هذا أن كل مشكلة اجتماعية لها حقيقة واحدة مهما اختلف فهم الناس لها وبصرف النظر عن مدى ادراك صاحبها لحقيقتها . وان اية مشكلة اجتماعية ليس لها إلا حل صحيح واحد في واقع اجتماعي معين في وقت معين . قد يكون لها اكثر من حل خاطيء ، قاصر او متجاوز أو مناقضاً ، يحاوله صاحبه فيفشل في حلها ، ولكن حلها الصحيح لا يمكن إلا ان يكون واحداً بحكم أن الواقع الاجتماعي واحد .
الحقيقة الرابعة ، والخاتمة ، أن ” الانسان ” يشق طريقه الحتمي الى الحرية بنجاح بقدر ما يكتشف ذلك الحل الصحيح وينفذه ، ويفشل في تحقيق الحرية بقدر ما يجهل ذلك الحل الصحيح فلا ينفذه . ويصدق هذا بالنسبة الى أي إنسان في المجتمع فيشبع حاجاته بيسر ويطرد تقدمه نحو الحرية كلما استطاع أن يعرف الحل ” الاجتماعي ” الصحيح لمشكلاته وأن يلتزمه في الممارسة ( العمل ) . قد يغريه النجاح المؤقت في اشباع حاجاته عن طريق الحلول الخاطئة ولكنه لن يلبث أن يتبين أنه كان حلاً خاطئاً ، فيسترد منه المجتمع ما اختلسه ليعود فيواجه ذات المشكلات التي ظن انه قد حلها الحل الصحيح . ويصدق بالنسبة الى كل الناس في المجتمع فيطورون واقعهم ” الاجتماعي ” بيسر ويطرد التطور الاجتماعي اذا ، وكلما ، استطاعوا ان يعرفوا الحل ” الاجتماعي ” الصحيح لمشكلاتهم وان يلتزموه في الممارسة ( العمل ) ويفشلون في تطوير واقعهم ولا يتطور المجتمع إذاً ، وكلما ، جهلوا الحل ” الاجتماعي” الصحيح لمشكلاتهم أو لم يلتزموه في الممارسة ( العمل ).
فكيف يهتدي الناس في مجتمع معين إلى هذا الحل الصحيح ؟
بالجدل المشترك . أو ما نسميه ” الجدل الاجتماعي ” ، المعرفة المشتركة بالمشكلات الاجتماعية والرأي المشترك في حلها والعمل المشترك تنفيذاً للحل في الواقع الاجتماعي فتتحقق به إضافة تحل بها المشكلات الاجتماعية وتثور بها مشكلات اجتماعية جديدة فتحل … الخ مع ملاحظة ان حركات الجدل هذه تمثل ايقاعاً ثابتاً للقانون . معرفة المشكلة قبل معرفة الحل وشرط لها . ومعرفة الحل قبل التنفيذ بالعمل وشرط له . ولا يمكن أن تحل أية مشكلة حلاً علمياً عن غير طريق الصدفة إلا بالتزام هذا الايقاع الذي نسميه حركة الجدل . إذن فالمجتمعات تتطور من خلال حل مشكلات الناس فيها . وبقدر ما تحل مشكلات الناس فيها تتطور لا اكثر . ولا يتم التطور إلا في المجالات الاجتماعية التي تحل مشكلات الناس فيها إلا بعد . أن ” الجدل الاجتماعي ” هو ” جدل الانسان ” في الحركة الاجتماعية ” ، أو هو الصيغة الاجتماعية ” لجدل الانسان ” . فهو حتمي . فحيثما واينما يتسق النشاط الاجتماعي معه تنشط حركة التطور . وحيثما واينما لا تتسق تبقى المشكلات الاجتماعية يعانيها الناس وتتعثر حركة التطور .
قد يكون هذا واضحاً . ولكن لماذا هذه “المشاركة ” في الجدل الاجتماعي ؟
مادام الواقع الاجتماعي الذي يثير المشكلات الاجتماعية محدداً موضوعياً وما دامت الحلول الصحيحة للمشكلات الاجتماعية محددة موضوعياً ، فلماذا لا يصح أن التطور الاجتماعي يتم ويطرد او يمكن ان يتم ويطرد ولو تولى واحد او جماعة من العلماء أو العباقرة او الملهمين … الخ ، تحديد المشكلات الاجتماعية واكتشاف حلولها الصحيحة ، ويكون على الناس بعد ذلك أن ينفذوا بقوة عملهم تلك الحلول العلمية أو العبقرية أو الملهمة … الخ ؟ لماذا لا يصح هذا خاصة إذا لاحظنا أن معرفة المشكلات الاجتماعية والحلول الصحيحة لها قد تحتاج إلى كفاءة ثقافية لا تتوافر لكل أو أغلب الناس في المجتمع ؟
لو صح هذا لما كان الجدل الاجتماعي هو القانون الحتمي للتطور الاجتماعي .
هذا واضح ايضاً . ولكنه غير صحيح .
لا نريد أن نحتج بما هو دارج في الكتابات عن التطور الاجتماعي من أن مشاركة ” الجماهير ” في حركة التطور الاجتماعي لازمة لأن أي إنسان بمفرده أو اية جماعة محدودة من الناس لا تستطيع ان تحيط بكل المشكلات الاجتماعية او بحلولها الصحيحة أو أن تقوم بكل العمل اللازم لانجاز متطلبات التطور الاجتماعي . لا نريد ان نحتج به ، لا إنكاراً لعجز أي إنسان أو اية جماعة محدودة من الناس الاحاطة بكل المشكلات الاجتماعية أو بحلولها الصحيحة والعمل المناسب للتطور الاجتماعي بما يعنيه هذا من انهم يعوقون التطور الاجتماعي الممكن بقدر عجزهم ولا انكاراً للمقدرة المضاعفة على التطور الاجتماعي التي تؤدي اليها مشاركة الناس في معرفة المشكلات الاجتماعية واكتشاف حلولها الصحيحة والعمل على تنفيذها في الواقع . لا ننكر هذا لأنه صحيح ولكننا لانحتج به لأن الاحتجاج به على حتمية قانون التطور الاجتماعي خطأ . إذ أن الحتمية في القانون موضوعية بصرف النظر عن مقدرة الناس او عجزهم عن استعماله استعمالاً صحيحاً . ثم لنحذر من الفهم الخاطيء بأن مبرر مشاركة الناس في تطوير واقعهم الاجتماعي هو عجز المتصدين لتطويره عن الوفاء بكل مسؤولياته ، وكأن الناس مجرد قوة ” احتياطية ” تحت تصرف القيادة ، تشركهم في التطوير الاجتماعي إذا رات انها في حاجة اليهم وتستغني عنهم إن استطاعت … وهو تحذير لازم وجدير بانتباه كل المشغولين بالتطور الاجتماعي في مجتمعاتهم النامية بوجه خاص ، حيث لا ينكر احد أن اغلبية الناس في تلك المجتمعات متخلفة ، كأثر من آثار القهر الاستعماري ، في المقدرة على معرفة الحقيقة الاجتماعية للمشكلات او في المقدرة على اكتشاف الحلول الموضوعية الصحيحة لها ، أو في المقدرة على اداء العمل المناسب لتنفيذ تلك الحلول في الواقع ، وكثيراً ما يؤخذ واقع التخلف هذا حجة لفرض الوصاية على الشعوب لأنها ” قاصرة ” فما ان تتحرر من قهر اجنبي حتى تجد نفسها مقهورة من ابنائها .
بل نقول :
إن الناس في أي مجتمع بحكم أنهم بشر ( بحكم قانونهم النوعي ) لا يكفون ولا يستطيعون أن يكفوا عن معاناة مشكلاتهم حتى لو لم يعرفوا حقيقتها الاجتماعية . لا يكفون ولا يستطيعون أن يكفوا عن محاولات اكتشاف حلولها الصحيحة حتى لو كانوا عاجزين عن اكتشافها . لا يكفون ولايستطيعون أن يكفوا عن العمل الذهني أو المادي ، الايجابي او السلبي ، الذي يعتقدون انه يحل مشكلاتهم حتى لو لم يكن هو العمل المناسب لحل تلك المشكلات . اشتراك الناس ، إذن ، في محاولات تغيير الواقع الاجتماعي حتمية لا يستطيعون ان يكفوا انفسهم عنها . وإنما المسألة هي ما إذا كان هذا النشاط الذي يقوم به الناس يؤدي الى حل مشكلاتهم فعلاً أم انه يبدد طاقاتهم في محاولات فاشلة لحلها . إنه يؤدي إلى حل مشكلاتهم فعلاً بقدر ما يكون تنفيذاً لحلول صحيحة لمشكلات حقيقية ، فيتم التطور الاجتماعي وتطرد حركته التقدمية . أما إذا كان عملاً غير مناسب لتنفيذ حلول صحيحة ، أو كان عملاً مناسباً ولكن في تنفيذ حلول خاطئة ، أو كان عملاً مناسباً في تنفيذ حلول صحيحة ولكن لمشكلات غير حقيقية ، فإنه اهدار لطاقات الناس لا يحل مشكلاتهم فلا يتم التطور الاجتماعي . وهذا ما يحدث عندما يكون الناس متخلفين في المقدرة على معرفة الحلول الموضوعية الصحيحة لها ، أو في المقدرة على اداء العمل المناسب لتنفيذ هذه الحلول في الواقع . عندما يكون الناس على هذا القدر من التخلف يكون تخلفهم ذاته واقعاً اجتماعياً . جزءاً من واقعهم الاجتماعي . فيثير مشكلة اجتماعية جديدة مصدرها التناقض الكامن في الناس انفسهم بين “واقع”  عجزهم عن معرفة الحقيقة الاجتماعية لمشكلاتهم من ناحية وبين ارادتهم معرفتها من ناحية اخرى بين “واقع ” عجزهم عن اكتشاف الحلول الموضوعية الصحيحة لمشكلاتهم من ناحية وبين ارادتهم اكتشافها من ناحية اخرى . بين ” واقع ” عجزهم عن ممارسة العمل المناسب لحلها من ناحية وارادتهم حلها من ناحية اخرى . باختصار يطرح تخلف الناس في مقدرتهم على تطوير واقعهم مشكلة اجتماعية جديدة مصدرها التناقض القائم فيهم بين واقع عجزهم عن التطور الاجتماعي وبين ارادتهم التطور . وتكون هذه اخطر المشكلات الاجتماعية حيث تكون . هذا إذا سلمنا بان الناس هم اداة التطور الاجتماعي . لأن هذا التخلف هو حينئذ عجز في الاداة يعوق التطور الاجتماعي بقدر ما تكون عاجزة .
كيف يمكن علاج هذه المشكلة الاجتماعية الخطيرة ؟
بتغيير الواقع في الناس انفسهم . بتغيير تخلفهم في المقدرة على التطوير الاجتماعي . وذلك باشتراكهم على اوسع نطاق في معرفة المشكلات التي يثيرها واقعهم الاجتماعي ، واشتراكهم على أوسع نطاق في اكتشاف حلولها الصحيحة ، واشتراكهم على اوسع نطاق في العمل الاجتماعي . إنهم بهذا يطورون مقدرتهم الجدلية ، أي يطورون مقدرتهم على حل مشكلاتهم الاجتماعية حلاً صحيحاً . إذن ، فليست المشاركة ، التي يكتسب بها جدل الانسان صيغته الاجتماعية فيصبح جدلاً اجتماعياً ، حلاً لمشكلة اقتصادية أو فنية قد لا يعرفه الا العلماء المتخصصون ، إنما هي فعالية جدل الانسان وهو يطور فعاليته نفسه . وبها يحل مشكلة المشكلات جميعاً ، التي يتوقف على حلها تحويل ما يعرفه العلماء المتخصصون في أي مجال من حبر على ورق إلى واقع حي متطور . تلك هي مشكلة تخلف الناس في المقدرة على حل المشكلات الاجتماعية حلاً صحيحاً . لهذا لا يكون ” الجدل الاجتماعي ” هو القانون الحتمي لتطور المجتمعات فحسب بل يكون ـ مع هذا وقبله ـ القانون الحتمي لتطور مقدرة الناس على تطوير مجتمعاتهم . فلا يصح معه فرض الوصاية علىالشعوب بحجة قصورها . ولا يصح معه الاستغناء عن مشاركة الناس في تطوير مجتمعاتهم بما يستطيعه العلماء ولو كانوا من العباقرة او الملهمين … الخ .
المجتمع ، إذن ، لا يؤثر في حتمية جدل الانسان .
بل أن تلك الحتمية تبدو اوضح ما تكون عندما يقوم في المجتمع واقع يتحداها . انها عندئذ تمزق المجتمع نفسه وتثير بين الناس فيه ” صراعاً اجتماعياً ” قد يصل الى حد الموت . وذلك عندما يختلف الناس في ما هي الحلول الصحيحة لمشكلات التطور الاجتماعي . ونكون في مواجهة مشكلة اجتماعية جديدة مصدرها التناقض بين الواقع الاجتماعي في حركة تطوره الحتمية وبين ارادة الذين يريدون تعويقه . وهي مشكلة يمكن حلها بالجدل الاجتماعي الذي يكتشف به هؤلاء ان ارادتهم يجب ان تتسق مع حركة التطور الاجتماعي بحكم ان الحلول الصحيحة لكل المشكلات الاجتماعية محددة موضوعياً بالواقع الاجتماعي ذاته وان ما يريدونه ولا يتفق في الوقت ذاته مع مقتضيات التطور الاجتماعي لن يحققوه طال الزمان أم قصر ، وانهم لا يفعلون بمحاولة فرض ارادتهم إلا تحدي حتمية التطور الاجتماعي … الخ . المشاركة الجادة في محاولة معرفة المشكلات الاجتماعية على حقيقتها الموضوعية ولو مع الاختلاف الفكري ، والمشاركة الواعية في محاولة اكتشاف الحلول الصحيحة ولو مع الخلاف في الرأي ، كفيلان بأن تعرف في النهاية الحقيقة الموضوعية للمشكلات وحلولها ، وفيها يتبين من يريد أن عليه ان يفرق بين طموحه الانساني بالنسبة إلى المستقبل وبين ما يمكن تحقيقه بحكم الواقع الاجتماعي في وقت معين وان عليه في كل وقت بذاته ان تتفق ارادته مع معطيات الواقع الاجتماعي ومتطلبات تطوره في ذلك الوقت . وعندما يتبين هذا ويلتزمه ينتهي الخلاف تمهيداً للمشاركة في العمل . وتحل هذه المشكلة . ولكن قد يحدث ـ لأسباب متعددة ـ ان يصر هؤلاء على موقفهم المضاد لحركة التطور الاجتماعي ويحولون بهذا الاصرار دون ان يؤدي الجدل الاجتماعي الى غايته الحتمية . وقد يتجاوزون الاصرار والمقاومة إلى محاولة استخدام ، أو استخدام ، مقدرتهم المالية او الاقتصادية او الفكرية او السياسية … الخ ، في منع الجدل الاجتماعي أو تخريبه بالقوة  او بتزييف المشكلات الاجتماعية وتضليل الناس فيها ، أو فرض حلول غير حلولها الصحيحة ، او تسخير الناس في عمل لا يحل مشكلاتهم الاجتماعية . حينئذ يصبح الصراع الاجتماعي حتمياً . وتكون غايته حل المشكلة التي أثارها هؤلاء بموقفهم المضاد لتطور المجتمع . وطوال فترة الصراع الاجتماعي ، وفي مجالاته ، تنصرف مقدرة الناس العلمية والفكرية والمادية الى حل هذه المشكلة بدلاً من تفرغها للتطور الاجتماعي الذي اصبح مستحيلاً ، فيتوقف التطور الاجتماعي بقدر ما يستنفذ الصراع الاجتماعي من قوة إلى ان تزاح العقبة التي اقامها موقف الذين حاولوا تعويقه بعدم التزامهم قانونه الحتمي : الجدل الاجتماعي . ويلاحظ هنا أثر الحتمية في موضعين : حتمية الصراع الاجتماعي لإزاحة أية عقبة تقف في سبيل الجدل الاجتماعي . وحتمية توقف التطور الاجتماعي في كل وقت ومجال تقوم فيه عقبة في سبيل الجدل الاجتماعي.
واخيراً .
فمن حتمية الصراع هذه ، وعلى ضوء ما قلناه من قبل من ان ” جدل الانسان ” قانون نوعي خاص بالانسان وحده فتخضع فعاليته لقانون التأثير المتبادل والحركة والتغير ، نستطيع ان نتعرف على شرط قانون ” جدل الانسان ” في صيغته الفردية وصيغته الاجتماعية ( الجدل الاجتماعي   شرطه في صيغته الأولى وجود الانسان الحر . وجود الانسان بكل خصائصه كوحدة من المادة والذكاء متحرراً مما يؤثر فيه فيحول دون مقدرته على الجدل . وعندما يتخلف هذا الشرط ، وبمقدار ما يتخلف ، تضعف فعالية جدل الانسان ز ويكف الانسان عن الجدل بالموت . وشرطه في صيغته الاجتماعية ( الجدل الاجتماعي ) وجود المجتمع الحر ايضاً . وجود جماعة من الناس يعيشون في واقع معين مشترك . وعندما يتخلف هذا الشرط ، وبمقدار ما يتخلف ، تضعف فعالية الجدل الاجتماعي بين أفراد من الناس او حتى جماعات لا يعيشون في واقع معين مشترك . اما عندما يكون ثمة مجتمع قد قام فيه ما يمس وجوده فإن مشكلة الناس فيه لا تكون تطويره بل استرداده لأنفسهم حتى يستطيعوا بعد هذا ـ وليس قبله ـ تطويره .
من كل هذا نتعلم دروساً في التطور الاجتماعي :
منها ان التطور الاجتماعي يبدأ من الواقع الاجتماعي كما هو . بالمجتمع كما هو . بالبشر في واقعهم المعين المشترك كما هم . ويكون علينا ، أول ماعلينا ، ونحن نحاول معرفة واقعنا لنطوره ان نعرف معرفة صحيحة ونحدد بدقة ، واقعنا الاجتماعي . ان نجيب على أول الأسئلة التي يطرحها التطور الاجتماعي : ما هو مجتمعنا . وان نحتفظ به كما هو . وان نحافظ عليه كما هو . وان نتعامل معه كما هو . سواء أعجبنا أو كان منا من يتمنى لو لم يكن منتمياً اليه . وهكذا ينذرنا جدل الانسان بالفشل الذي تستحقه أية حركة تستهدف تطوير الواقع جاهلة او متجاهلة ، او رافضة التعامل مع ، حقيقته الاجتماعية كما هي .
ومنها ان التطور الاجتماعي ليس مجرد نمو خلال الاضافة بل إن كل إضافة ينمو بها المجتمع ويتطور هي حل لمشكلة اجتماعية واقعية . فليس كل ما يحدث في الواقع الاجتماعي تطور . ويكون علينا ونحن نحاول أن نفهم كيف تطور الواقع الاجتماعي ، مادياً أو فكرياً أو بشرياً … الخ ، حتى أصبح ” كما هو ” ان نضيف سؤالاً جديداً الى الاسئلة التي عرفناها من قبل .. فبعد ” ما هو ؟ … ” الذي نعرف من الاجابة عليه ما هية الحدث التاريخي ، وبعد ” أين ؟ … ” الذي نعرف من الاجابة عليه حده المكاني ، وبعد ” متى ؟ … ” الذي نعرف من الاجابة عليه حده الزماني ، نسأل : لماذا ؟ … ومن الاجابة عليه نعرف المشكلة الاجتماعية التي كان محاولة لحلها فنعرف قيمته الحقيقية كإضافة في حركة التطور الاجتماعي وذلك بمعرفة ما إذا كان قد حل المشكلة التي أثارته والى أي مدى . ويفيدنا هذا في ان نفرق ، في واقعنا الاجتماعي ، بين ما كان ثمرة تطور تاريخي وبين آثار التحولات التلقائية أو ميراث الفشل السابق . فنتمسك ونحافظ ونطور الأول ونصحح في المستقبل الاخطاء التي وقعت في الماضي . وهكذا ينذرنا جدل الانسان بالفشل الذي تستحقه أية حركة تستهدف تطوير الواقع متجاهلة أو جاهلة تطوره التاريخي أو غير قادرة على التعرف في الواقع على ما هو ثمرة تطويره وما هو من بقايا مراحل تخلفه .
ومنها إن التطور الاجتماعي هو حل مشكلات الناس في المجتمع لا أكثر ولا أقل . ويكون علينا ونحن نحاول أن نعرف ما الذي يجب أن نفعله لنطور واقعنا الاجتماعي أن نعرف مشكلات الناس معرفة صحيحة . مشكلات الناس بما فيهم نحن وليس مشكلاتنا نحن دون الناس . ونحن نعرفها بالمقارنة بين الواقع الاجتماعي كما هو وبين ما يريده الناس كما هو . إن المشكلة هي الفرق بينهما في المضمون والمدى . وبدون هذا لا يمكن ان نعرف المشكلات الاجتماعية فلا نستطيع حلها . وهكذا ينذرنا جدل الانسان بالفشل الذي تستحقه اية حركة تستهدف تطوير الواقع لحل مشكلات أصحابها او متجاهلة مشكلات الناس . أو جاهلة او متجاهلة حقيقة الواقع الاجتماعي . أو مدعية للناس مشكلات لا يشعرون بها في انفسهم .
ومنها ان التطور الاجتماعي لايتم بمحاولة تحقيق ” كل ” ما يريده الناس بل بتحقيق ما لا يمكن تحقيقه فعلاً مما يريدونه في مجتمع معين وفي وقت معين وقمة النجاح هو تحقيق كل الممكن . ويكون علينا أن نكتشف هذا الممكن موضوعياً في كل وقت ونحن نحاول أن نعرف الحلول الصحيحة لمشكلات الناس في واقعنا الاجتماعي . إن التخطيط لحل المشكلات الاجتماعية على مراحل واقعية يصبح لازماً لنجاحنا . ومع هذا ، ففي كل الحالات ، يجب ان نكف أنفسنا عن محاولة تحقيق أي امر في غير الوقت الذي يسمح الواقع الموضوعي بتحقيقه . ولا يجوز لنا ، مهما تكن الظروف ، ان نعد بأكثر مما يمكن تحقيقه . ولا ينبغي لنا ، أبداً ، ان نخشى ، أن يرفض الناس وعودنا الواقعية . فطال الزمان أو قصر سيتعلم الناس ولو من فشل الوعود الكاذبة كيف يقبلون ما هو صحيح . وهكذا ينذرنا جدل الانسان بالفشل الذي تستحقه أية حركة تستهدف تطوير الواقع جاهلة او متجاهلة الحلول الصحيحة للمشكلات الاجتماعية كما هي محددة موضوعياً بالواقع الاجتماعي ذاته او تنافق الناس فتعدهم بما لا تستطيع ان تحققه .
ومنها ان الناس أداة التطور الاجتماعي ، ولا يتم التطور الاجتماعي إلا إذا، وبقدر ما ، شارك الناس في طرح المشكلات الاجتماعية ومناقشتها ومحاولة معرفة حلولها الصحيحة والمساهمة في العمل اللازم والمناسب لحلها ، ويكون علينا ان نشترك مع الناس ونشركهم معنا ونحقق لهم ولنا أوسع مجالات المشاركة في طرح المشكلات الاجتماعية ومناقشتها ومحاولة معرفة حلولها الصحيحة والعمل لحلها . وعندما نرى الناس أو بعضهم عاجزين عن معرفة حقيقة المشكلات الاجتماعية  أو عن اكتشاف حلولها الصحيحة أو نراهم مفتقدين المهارة اللازمة لتنفيذ تلك الحلول في الواقع فلا نعزلهم عنا ولا ننعزل عنهم ولا نستعلي عليهم ، بل ننتبه ، بقوة ، إلى أننا نواجه فيهم أخطر مشكلات التطور الاجتماعي التي يطرحها واقعنا : تخلف البشر . فلا نهرب منها او نستهين بها بل نضعها فوراً في المرتبة الأولى من المشكلات الاجتماعية الملحة التي يجب ان تحل . التوعية مفيدة ولكنها لا تغني عن تنمية الوعي من خلال دراسة المشكلات الاجتماعية مهما اقتضت من جهد . والارشاد مفيد ولكنه لا يغني عن تنمية المعرفة عن طريق النشاط الفكري مهما صاحبها من اخطاء . والرقابة مفيدة ولكنها لا تغني عن تنمية المهارة عن طريق الممارسة مهما تطلبت من وقت . وهكذا ينذرنا جدل الانسان بالفشل الذي تستحقه أية حركة تستهدف تطوير الواقع جاهلة او متجاهلة ان مشاركة الناس في تحقيق التطور لازمة فتعزل نفسها عن الناس أو تعزلهم عنها . أو تستعلي على الناس في المجتمع فتفرض عليهم وصايتها بحجة انهم لا يعرفون ” مصالحهم الحقيقية 
ومنها أنه عندما تحول أية قوة ، لأي سبب ، دون التطور الاجتماعي يصبح الصراع الاجتماعي حتمياً . وتكون غايته تصفية القوى المضادة للتطور ليستأنف التطور الاجتماعي مسيرته بدون صراع . ويكون علينا ونحن نحاول ان نطور واقعنا ان نتمسك بقوة بالحلول الصحيحة لمشكلات التطور الاجتماعي وألا نتنازل عنها او نساوم عليها مهما تكن القوى التي نواجهها وان نحاول بكل وسيلة ممكنة اقناع الآخرين بصحة مواقفنا . ثم ان نكون مستعدين دائماً لدخول معركة الصراع الاجتماعي بكل اسلحته ضد كل القوى التي حتمته بمواقفها المضادة للتطور الاجتماعي . وان ندخله ، بدون تردد ، في كل مجالاته ن بيقين المؤمن بأنه لا يصح في النهاية إلا الصحيح ، واثقين من انه مهما تكن موازين القوى في بداية الصراع أو في مراحله فإن النصر معقود في النهاية لغايتنا . وهكذا ينذرنا جدل الانسان بالفشل الذي تستحقه أية حركة تستهدف تطوير الواقع وتخشى أعداء تطوره فتتراجع او تساوم او لا تعد للصراع عدته فتشتري سلامتها الحاضرة بمستقبل الناس في المجتمع .
هذا يكفي .
فهل حلت مشكلة المنهج ؟

رابعاً ـ حل المشكلة :  

6 ـ لعلنا أن نكون قد تبينا في سياق الحديث الذي سبق عن ” جدل الانسان ” في صيغته الفردية والاجتماعية ( الجدل الاجتماعي ) ان مشكلة المنهج كما نذكرها : ” ما يبدو من تناقض بين حتمية قوانين التطور الاجتماعي وحرية الارادة الانسانية ” ، كان مصدرها التناقض بين واقع القصور الفكري عن معرفة قوانين التطور الاجتماعي الموضوعية وبين ارادة معرفتها . وان هذا التناقض لا يقوم الا عند الذين لا يعرفون ان مصدر الحتمية في حركة التطور الاجتماعي وفي حرية الارادة الانسانية هو قانون واحد . وعندما نعرف أن حركة الانسان وحركة المجتمع منضبطتان بقانون واحد . وعندما نعرف ان حركة الانسان وحركة المجتمع منضبطتان بقانون حتمي واحد ( جدل الانسان ) يتجه بهما إلىغاية واحدة ( الحرية ) يزول ما كان يبدو من تناقض بينهما فلا تكون ثمة مشكلة .

خامساً ـ صيغة المنهج الجدلي :  

7 ـ إذا اردنا ان نجمع كل ما عرفناه من قوانين التطور الاجتماعي في صيغة واحدة يسهل علينا تذكرها لكانت على الوجه الاتي :
(1)  في الكل الشامل للطبيعة والانسان : (2) كل شيء مؤثر في غيره متأثر به (3) كل شيء في حركة دائمة . (4) كل شيء في تغير مستمر . (5) في إطار هذه القوانين الكلية الثلاثة يتحول كل شيء طبقاً لقانونه النوعي . (6) وينفرد الانسان بالجدل قانوناً نوعياً لتطوره . (7) في الانسان نفسه يتناقض الماضي والمستقبل : (8) ويتولى الانسان نفسه حل التناقض بالعمل ، (9) إضافة فيها من الماضي ومن المستقبل ، (10) ولكن تتجاوزها إلى خلق جديد ”  .
ويكون هذا هو منهج ” جدل الانسان ” او صيغة المنهج الجدلي بعد ان صححته التجربة بكل ما يتضمنه من أصل مسبوق وإضافة من عنده .  

19 ـ عود على بدء :  

قد نجد منهج جدل الانسان معقداً في صيغته غير ان هذا لا ينبغي أن ينسينا أننا تعلمنا منه دروساً تبدو بدهية من فرط صدقها مع خبرتنا المتراكمة مع الممارسة . وقد تغرينا تلك البداهة فنستغني بها عن المنهج . عندئذ نرتكب خطأ جسيماً . لأن البداهة ليست طريقاً علمياً إلى المعرفة . وإنما يبدو الأمر لأي منا بدهياً على ضوء خبرته الذاتية المتراكمة فيبدو له صحيحاً الى الدرجة التي لا تحتاج الى البحث لمعرفة لماذا هو صحيح . فغن كانت تلك الدروس تبدو لنا بدهية فلأن ” جدل الانسان ” يضبط حركتنا حتى بدون أن نعرفه وليست خبراتنا المتراكمة التي نرى على ضوئها أن تلك دروس بدهية إلا ثمرة فعالية جدل الانسان فينا . غير انه يبقى صحيحاً ان الاحتكام الى البداهة خطأ . إن اختلفنا فيها نفترق ولا بد ان نفترق . لأن الناس لا يستوون في خبراتهم الذاتية . وما يكون صحيحا بالبداهة عند واحد قد يكون خطأ بالبداهة أيضا عند آخر . ان الاحتكام للحقائق الموضوعية هو وحده  الذي يحفظ الوحدة بين الناس فلا يفترقون ولو اختلفوا رأيا. يقينا منهم بأنه مادامت الحقائق موضوعية فان معرفتها معرفة صحيحة بالبحث العلمي والحوار كفيلة بأن تنهي الخلاف في الرأي .
وطبقا لجدل الانسان طبقا لمنطق التطور الاجتماعي كما عرفنا سنجتهد فيما يلي لنصوغ نظرية تغيير واقعنا . ان كان المنهج خاطيء فكل ما سنقوله سيكون خطأ . ولن يصح مما نقول الا بالقدر ما هو صحيح في المنهج . اما اذا كان “جدل الانسان” صحيحا فان أي خطأ في النظرية يكون مرجعه الى قصور في معرفة واقعنا معرفة صحيحة . هو خطأ يمكن تصحيحه طبقا لجدل الانسان ذاته ...

                             
 ذهاب الى صفحة عصمت سيف الدولة .                                          

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق