بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 27 مايو 2020

عن نوستالجيا النظام الرئاسي في تونس . / د.سالم لبيض .

عن نوستالجيا النظام الرئاسي في تونس .
د.سالم لبيض .

26 مايو 2020

تنفجر نوستالجيا النظام الرئاسي في تونس، هذه الأيام، في صيغة حركةٍ تبشيريةٍ، تقودها شخصيات عمومية، وأحزاب سياسية، ووسائل إعلامية وأخرى اتصالية، تدعو إلى تعليق العمل بالدستور والبرلمان التونسيين، وإحياء النظام الرئاسي الذي أقرّه دستور تونس لسنة 1959، منتهي الجدوى والصلاحية سنة 2011. ويستمد هذا الحنين شرعيته من عدم استقرار النظام البرلماني المعدّل الذي ارتضاه المجلس الوطني التأسيسي، وضمنه الدستور التونسي لسنة 2014، ولما اتسم به عمل البرلمان التونسي من ضعف في الأداء، مقابل هدر الوقت والقدرات، في نقاشات بيزنطية، وصراعات إيديولوجية، ومناكفات سياسية، ومعارك هامشية، بين تنظيمات سياسية وحزبية لا يخفي بعضها تطرّفه وميوله العنيفة الدينية، ونزوع بعض آخر إلى إحياء الحزب القديم المنحلّ المتلاشي، وإعادة إنتاجه تحت شعارات شعبوية، حتى بات مجلس نواب الشعب عنوان ضعف الكفاءة، وترذيل السياسة، والتندر الشعبي الذي تغذّيه خطاباتٌ تحريضية، وأحاديث تهكّمية، تبثها برامج إذاعية وتلفزيونية، وتنشرها منصات اجتماعية وشبكات اتصالية.

ولكن تلك النزاعات التي أحيت الحنين إلى النظام الرئاسي، وتكاد تتحول إلى مشترك يسكن الوعي الجمعي التونسي، بما في ذلك وعي النخب الفكرية والسياسية، لا تحول دون إجراء أركيولوجيا تاريخية عن ذلك النظام منذ نشأته أول مرّة سنة 1957، ومسيرته نصف قرن أو يزيد، وعوامل فشله والثورة عليه وإسقاطه يوم 14 يناير/ كانون الثاني 2011. فقد انتصب الحبيب بورقيبة، الممتطي شرعية الحركة الوطنية ورئيس حكومة الاستقلال زمن حكم محمد الأمين باي الملكي، أول رئيس للجمهورية التونسية، التي أُعلنت يوم 25 يوليو/ تموز 1957 من على منبر المجلس القومي التأسيسي الذي انتُخب يوم 25 مارس/ آذار 1956 من أجل وضع دستور للبلاد وإقامة نظام ملكي - دستوري، ومن ثمّة إنهاء حكم سلالة البايات الأتراك - الحسينيين الذي أقامه حسين بن علي التركي سنة 1705. ولكن الرئيس الأسبق، الحبيب بورقيبة، صاحب التكوين الحقوقي والقانوني المتشبع بالثقافة السياسية الليبرالية الغربية، والذي اشتغل بالمحاماة والصحافة، وسُجن لأجل أفكاره السياسية وتمثّلاته الوطنية، بعدما زاول دراسته في المدرسة الصادقية بتونس وبجامعة السوربون الفرنسية، وبعدما شارك في التظاهرات الفكرية ومتابعة الدروس النفسية التي كانت تُلقى في مستشفى سانت – آن الفرنسي، المعروف عنه حضوره مناقشات مجلسي النواب والشيوخ الفرنسيين، وانحنائه أمام تمثال أوغست كونت، صاحب المقولة الشهيرة "عش للآخرين"، وتأثره بفلسفته الوضعية، كان يرى في نفسه ملكا على شاكلة بايات تونس، أكثر من كونه رئيس جمهورية، يقبل بالتداول على الحكم وفق انتخاباتٍ دوريةٍ شفافةٍ وغير مزوّرة. حتى أنه كان يتغنّى في ميعاد خواصّه "إيجا يا فطّومة شوف ولدك ولّى باي"، وفطومة هي والدة الرئيس بورقيبة، والباي هو حاكم البلاد وملكها، وهذا التغنّي هو الترجمة العملية لوصف بورقيبة "العاهل الجمهوري" الذي استعمله محمد مزالي في كتابه " نصيبي من الحقيقة".
والترجمة السياسية لرغبة الرئيس الذي استجاب لمناشديه في مؤتمر حزبه سنة 1974 بتولي الرئاسة مدى الحياة قائلا "هذا الاقتراح عُرض عليّ منذ عام 1959 في المجلس التأسيسي فرفضته، ثم عُرض في المؤتمر الماضي، إلّا أنّه كان هناك من يضايق هذا الاقتراح، والآن أنا مستعدّ لقبوله إن كان بالإجماع وأنا من خُلقت في خدمة الشعب"، اقتراح سرعان ما استحال تنقيحا للدستور التونسي في فصله عدد 39 المؤرخ في 19 مارس/ آذار 1975 جاء فيه: "وبصفة استثنائية، واعتبارا للخدمات الجليلة التي قدّمها المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة للشعب التونسي، إذ حرّره من ربقة الاستعمار، وجعل منه أمة ودولة مستقلّة وعصرية كاملة السيادة، يعلن مجلس الأمة إسناد رئاسة الجمهورية مدى الحياة إلى الرئيس الحبيب بورقيبة". وستكون تلك الفكرة المناقضة للحداثة السياسية الغربية، ومقتضيات مبادئ التعدّد والتمثيل السياسي، وفصل السلطات المستندة إلى الحقوق وحريات الفكر والتعبير والتنظيم، التي تشبّع بها بورقيبة في تجربته الباريسية، منشأ حكم استبدادي وبوليسي شخّصه الزعيم النقابي أحمد التليلي، الذي توفي في ظروف غامضة، في رسالةٍ موجهة إلى رفيق دربه الرئيس بورقيبة سنة 1966 واصفا جهاز البوليس بقوله "إن هذا الجهاز وما يسبّبه من نفقاتٍ لعبء ثقيل على كاهل هذا البلد الصغير.. فكل مواطن اليوم مهما كانت منزلته في المجتمع، ومهما كانت وظائفه السياسية، هو مراقب مراقبة شديدة من طرف أنواع عديدة من البوليس".
وستكرّر هذه الفكرة لدى المؤرخ التونسي، مصطفى كريم، في مقاله المرجعي "تأملات في شخصية بورقيبة"، قائلا "إن السنوات الأخيرة للنظام قد شهدت قمعا شنيعا تمثّل ذلك في أحداث 26 جانفي 1978 ثم أحداث قفصة سنة 1980 ثم ثورة الخبز، إلى آخره. إن هذا القمع قد نجح في القضاء على قوى المجتمع المدني والتي أخذت في البروز وتهيئة الأرضية  لإقامة بوادر دكتاتورية بوليسية في النظام البورقيبي". وهذه الدكتاتورية التي طال قمعها وانفتحت سجونها ومعتقلاتها وآلتها في تصفية وملاحقة كل القوى السياسية والحزبية والنقابية والطلابية والإعلامية والمدنية، وكل من اختلف مع الرئيس بورقيبة وحزبه الدستوري، مهما كان لونه السياسي من يوسفيين وعروبيين ويساريين وإسلاميين ودستوريين، هي ثمرة النظام الرئاسي وحزبه الواحد، الذي كان في كلّ مرّة يخوّن مخالفيه ومعارضيه ويجرّمهم، وحتى مقرّبين منه، ويزوّر الانتخابات من أجل الاستمرار في الحكم، بشهادة أحمد التليلي، الذي دوّن في رسالته السالفة الذكر "كان بعض الحزبيين ومن ضمنهم مرشّحون يتساءلون في ما بينهم لماذا تنظّم الحكومة انتخابات، لماذا كلّ هذه المصاريف وكلّ هذه المشاق للإتيان بالناخبين ودعوتهم إلى وضع الورقة الوحيدة التي كانت على ذمّتهم في صندوق الاقتراع بدون أية إمكانية في الاختيار؟"، وباعتراف محمد مزالي، الذي علّق، في رسالته المفتوحة إلى بورقيبة عام 1988، على تزوير الانتخابات التشريعية لسنة 1981، والتي أشرف عليها من موقع الوزير الأول "بأنه وصمة عار أصابت الديمقراطية، وكان عليّ أن أذهب أبعد من ذلك وأقدّم استقالتي".
ولقد تدعّم هذا الخيار الاستبدادي القمعي للنظام الرئاسي باختيار بورقيبة الحداثي التفكير العسكري زين العابدين بن علي لتولي مناصب أمنية متقدّمة في الدولة، على غرار الإدارة العامة للأمن الوطني ووزارة الداخلية والوزارة الأولى، ما مكّنه من قمع الحركات الاجتماعية والمدنية ووأد الأحزاب السياسية، والقيام بانقلابه الطبي في 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 1987. وعلى الرغم من إعلانه، منذ البداية، في بيانه عشية إطاحة الرئيس الحبيب بورقيبة، أن لا رئاسة مدى الحياة بعد اليوم، إلا أنه طوّع جميع النصوص القانونية لرئاسةٍ كان يبغي ديمومتها على الطريقة البورقيبية، واستنساخها بشكل مشوّه، فهو لا يعتبر نفسه أقل شأنا وقيمة من بورقيبة، منتهجا المناشدة وتنقيح الدستور سنة 2002 بالرفع من السنّ القصوى للترشّح للانتخابات الرئاسية من 70 إلى 75 عاما وإلغاء القيود المفروضة على عدد ولايات الرئيس التي كانت محددة بثلاث فقط، والاعتماد على التجمع الدستوري الديمقراطي التونسي (الحاكم) حزبا للدولة، يتولى مراقبة المجتمع وتوجيهه، مستندا إلى مقاربةٍ أمنيةٍ يؤمنها جهاز بوليسي  شوكته قوية، يخضع لإمرته مباشرة، سمته الرئيسية اضطهاد المعارضين، بمن فيهم الذين يشكّلون أدنى خطر على النظام الحاكم، حتى أصبحت تونس جمهورية الخوف، على حد تعبير المؤرخ التونسي الهادي التيمومي في كتابه "الاستبداد الناعم".
كل هذا الإرث الشديد القتامة الذي فاضت به كتب المؤرخين، وطفح في تقارير الدبلوماسيين ومقالات الصحافيين ومنصات المدوّنين، عن تجربة النظام الرئاسي في تونس، لم يترك حيزا أمام النواب المؤسسين (2011 – 2014)، للتفكير في إعادة إنتاجه، ومركزة السلطة من جديد في يد رئيس واحد، بعدما امتزجت السياسة بالاستبداد والفساد، وانتعش حكم العائلة ونهب ثروات الدولة في الفترتين البورقيبية والبنعلية. وإن الثغرات التي ظهرت في تجربة النظام البرلماني المعدّل لا تساوي نفسا بشرية واحدة قُتلت بغير وجه حق في ظل النظام الرئاسي الذي شهد من المآسي الإنسانية والمذمة السياسية ما لا يحصى ولا يعد، والأجدر إصلاح تلك الثغرات الناتجة عن عجزٍ في التسيير والإدارة، ونهم في الحكم من رئيس مجلس النواب، أو لإخلالات في القانون الانتخابي، وجب معالجتها بوضع ميثاق شرف برلماني، واعتماد معايير أخلاقية وسياسية وعلمية، تقي المجلس من الانحرافات التي تطرأ عليه من حين إلى آخر.





الجمعة، 22 مايو 2020

نكبة فلسطين .. ليست ذكرى فقط ! / د.صبحي غندور .

نكبة فلسطين .. ليست ذكرى فقط !

د.صبحي غندور . 

نكبة فلسطين لم تبدأ يوم 15 مايو من العام 1948، وهي الآن ليست مجرّد ذكرى فقط. النكبة الفلسطينية بدأت في مطلع القرن العشرين وهي تستمرّ الآن بأشكال مختلفة بعد أكثر من مائة عام. فلقد سبق إعلان "المجلس اليهودي الصهيوني" في فلسطين لدولة "إسرائيل" في 14/5/1948 ومطالبته لدول العالم الاعتراف بالدولة الإسرائيلية الوليدة عشيّة انتهاء الانتداب البريطاني، سبق ذلك، عشرات السنين من التهيئة اليهودية الصهيونية لهذا اليوم الذي أسماه العرب والفلسطينيون بيوم النكبة. وكان خلف هذا الإعلان منظّمة صهيونية عالمية تعمل منذ تأسيسها في العام 1897 على كلّ الجبهات، وهي التي حصلت من بريطانيا على "وعد بلفور" الشهير ونظّمت هجرة يهودية كبيرة للأراضي الفلسطينية على مدار أكثر من ثلاثة عقود، مروراً بحربين عالمتين استثمرت الحركة الصهيونية نتائجهما لصالح "خطّة إقامة دولة إسرائيل"، كما ربطت مصالحها الخاصة بمصالح دول كبرى بسطت سيطرتها على المنطقة العربية بعد انهيار الدولة العثمانية.  

عام 1897، قال تيودور هرتزل مؤسّس الحركة الصهيونية العالمية، مخاطباً أعضاء المؤتمر الصهيوني الأوّل الذي انعقد في سويسرا، "إنّكم بعد خمسين عاماً ستشهدون ولادة دولة إسرائيل".

وكان كلام هرتزل سبباً لاستهزاء بعض أعضاء المؤتمر، لأنّ المسافة الزمنية التي تحدّث عنها لم تكن بنظر هذا البعض كافيةً لإحداث تغييراتٍ في العالم وفي أرض فلسطين لتظهر، كحصيلة لهذه المتغيّرات، دولة إسرائيل.

وبالفعل، فقد شهدت نهاية العقد الرابع من القرن العشرين إعلان دولة إسرائيل وبدء مرحلة جديدة في تاريخ المنطقة العربية، وانتقالاً نوعياً في عمل الحركة الصهيونية بحيث أصبح للمنظّمة الصهيونية العالمية دولة اعترفت بها الأمم المتّحدة ولكن ليس لهذه الدولة خارطة تبيّن حدودها الدولية النهائية، وهي ما زالت كذلك حتّى الآن.

وفي أواسط الخمسينات تبادل بن غوريون (رئيس وزراء إسرائيل السابق) مع وزير خارجيتها آنذاك موسى شاريت، عدّة رسائل تحدّثت عن الأسلوب المناسب اعتماده لإنشاء دويلة على الحدود الشمالية مع لبنان تكون تابعة لإسرائيل ومدخلاً لها للهيمنة على لبنان والشرق العربي كلّه. وكان الحلّ في خلاصة أفكار هذه الرسائل: البحث عن ضابط في الجيش اللبناني يعلن علاقته بإسرائيل ثمّ يدخل الجيش الإسرائيلي ويحتلّ المناطق الضرورية وتقوم دولة متحالفة مع إسرائيل.

وهذا المشروع الإسرائيلي رأى النور عام 1978 حينما أعلن الرائد في الجيش اللبناني سعد حداد إنشاء "دولة لبنان الحر" في الشريط الحدودي بين لبنان وإسرائيل.

وفي شباط/فبراير 1982، نشرت مجلة "اتجاهات -كيفونيم " التي تصدر في القدس، دراسة للكاتب الصهيوني أوديد بينون (مدير معهد الدراسات الإستراتيجية) تحت عنوان "إستراتيجية لإسرائيل في الثمانينات" وجاء فيها: "إنّ العالم  العربي ليس إلا قصراً من الأوراق بنته القوى الخارجية في العشرينات، فهذه المنطقة قُسّمت عشوائياً إلى 19 دولة تتكوّن كلّها من مجموعاتٍ عرقية مختلفة ومن أقلّياتٍ يسودها العداء لبعضها (...) وأنّ هذا هو الوقت المناسب لدولة إسرائيل لتستفيد من الضعف والتمزّق العربي لتحقيق أهدافها باحتلال أجزاء واسعة من الأراضي المجاورة لها وتقسيم البعض الآخر إلى دويلات على أساس عرقي وطائفي".

ثمّ تستعرض دراسة أوديد بينون صورة الواقع العربي الراهن، والاحتمالات الممكن أن تقوم بها إسرائيل داخل كل بلد عربي من أجل تمزيقه وتحويله إلى شراذم طائفية وعرقية.

وهذا المشروع الإستراتيجي لإسرائيل في ثمانينات القرن العشرين، والذي يتّصل مع خطّتها السابقة في حقبة الخمسينات، جرى بدء تنفيذه أيضًا من خلال لبنان والاجتياح الإسرائيلي له صيف عام 1982 ثمّ إشعال الصراعات الطائفية خلال فترة الاحتلال وفي أكثر من منطقة لبنانية.

وفي 11 آب/أغسطس 1982، أي خلال فترة الاجتياح الإسرائيلي للبنان، قال رئيس حزب العمل الإسرائيلي آنذاك شيمون بيريز ما نصّه الحرفي: "إنّنا لا نريد وتحت أيّة ظروف أن نتحوّل إلى شرطي في لبنان، ولكن الحلّ الأقرب للتحقيق بالنسبة لمستقبل لبنان هو تقسيمه وإعادته مصغّراً إلى الحدود التي كان عليها قبل الحرب العالمية الأولى أي إلى نظام متصرّفية جبل لبنان".

وفي عام 1982 أيضاً أعلن أرييل شارون أنّ نظرية "الأمن الإسرائيلي" تصل إلى حدود باكستان!

***

هذا العرض المختصر للمخطّط الصهيوني في المنطقة العربية يعني أنّه مهما طال الزمن ومهما تغيّرت الحكومات الإسرائيلية من حيث طبيعتها وأشخاصها، فإنّ تنفيذ المخطط يبقى مستمرًّا حتّى يحقّق أهدافه الكاملة.

فلا ترتبط الإستراتيجيات والخطط الإسرائيلية بحزبٍ معيّن في إسرائيل ولا بشخصٍ محدّد، بل هناك مؤسّسات وأجهزة وأدوات تتابع التنفيذ، منذ مؤتمر "بال" في سويسرا عام 1897 مروراً بتأسيس دولة إسرائيل ثمّ حروبها على دول المنطقة.

وما يقوله الزعماء الصهاينة عن مخطّطاتهم (كما فعل هرتزل) لا يعني التنبّؤ أو التنجيم الفلكي، بل هو ممارسة (الأسلوب العلمي) في الصراع حيث هناك دائماً (حركة يومية) و(خطط عملية) لتنفيذ (إستراتيجية) تخدم (الغاية النهائية) الموضوعة سلفًا. فكلّ خطّة في أي صراع عليها مراعاة عنصريْ (الإمكانات المتاحة) و(الظروف المحيطة) لاستخدامهما واستغلالهما لصالح المخطّط المنشود تحقيقه.

وما سبق عرضه عن المخطّطات الصهيونية، لا يعني أننا – كعرب- ننفّذ ما يريد الصهاينة! بل الواقع هو أنّنا ضحيّة غياب التخطيط العربي الشامل مقابل وجود المخطّطات الصهيونية والأجنبية الشاملة. فنكون دائماً "ردّة فعل" على "الفعل" الإسرائيلي أو الأجنبي الذي يتوقّع سلفاً (بحكم التخطيط العلمي) ماهيّة ردود أفعالنا قبل أن تقع لتوظيفها في إطار أهدافه.

أيضاً، كانت المشكلة وستبقى، بما هو حاصلٌ فلسطينياً وعربياً من انقسامات وصراعات يبني عليها العدو الإسرائيلي ومن يدعمه. المشكلة هي في تنازلات عربية وفلسطينية جرت في المفاوضات والاتّفاقيات مع إسرائيل. المشكلة هي في انتقال الصراع العربي/الإسرائيلي من تقزيمٍ له أساساً بالقول إنّه "صراع فلسطيني/إسرائيلي"، إلى تقزيمٍ أكبر بوصفه صراع إسرائيل مع "منظّمات مسلّحة"!. كذلك، فإنّ سقوط المراهنة على دور أميركي "نزيه ومحايد" لم يرافقه تحسين الواقع الفلسطيني والعربي، وتغيير للنهج المعتمَد منذ عقود.

مشكلة الانقسام الفلسطيني ازدادت حدّةً بعد توقيع اتّفاقيات "أوسلو" والتي ثبت، بعد 28 عامًا، عجزها عن تأمين الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. وتستفيد إسرائيل طبعًا من تداعيات الحروب الأهلية العربية، ومن الموقف الأميركي الذي يدعم الآن حكومة نتنياهو وسياستها في كامل قضايا الملفّ الفلسطيني.

فالمواقف التي تصدر عن إدارة ترامب بشأن القضية الفلسطينية، كلّها تتبنّى ما يدعو إليه نتنياهو من أجندة وقرارت بشأن الأراضي المحتلّة وحقوق الشعب الفلسطيني، لكن المصيبة ليست في الموقف الأميركي فقط أو في بعض المواقف الدولية الأخرى، فالأوضاع العربية مسؤولة أيضاً عن حجم المأساة التي عاشها ويعيشها الشعب الفلسطيني. فعناصر المواجهة العربية والفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي ما زالت حتّى الآن غائبة، ووحدة الشعب الفلسطيني هي العنصر الأهمّ المفقود حاليًا، وكذلك الحدّ الأدنى من التضامن الرسمي العربي ضدّ إسرائيل والسياسة الأميركية الداعمة لها. كلّ ذلك هو الواقع الآن، إضافةً إلى استمرار حروبٍ أهلية عربية بأشكال مختلفة، وتزايد عوامل التفكّك لا التوحّد في المجتمعات العربية. فكيف لا تستفيد حكومة نتنياهو وإدارة ترامب من هذا الواقع العربي المزري، وكيف يأمل البعض بتغيير المواقف الأميركية والدولية لصالح الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني؟!.

فكفى الأمَّة العربية والقضية الفلسطينية هذا الحجم من الانهيار ومن التنازلات، وكفى أيضاً الركون لوعودٍ أميركية ودولية يعجز أصحابها عن تحقيق ما يريدون من إسرائيل لأنفسهم، فكيف بما يتوجّب على إسرائيل فعله للفلسطينيين والعرب؟!



الخميس، 14 مايو 2020

عائدون ...

عائدون ...







ما هي النكبة ؟ / أناهيد الحردان .

ما هي النكبة ؟

أناهيد الحردان .

 

تستدعي مفردة النكبة (أو الكارثة) إلى الذاكرة تأسيس دولة إسرائيل على أرض فلسطين عام 1948 عن طريق طرد أكثر من نصف سكان فلسطين التاريخية، وتدمير التراث الفلسطيني ، والمؤسسات الاجتماعية والسياسية في الاراضي المحتلة . إن الاجابة الممكنة عن سؤال حول معنى النكبة في الزمن الحاضر يمكن أن نجدها في حوارات الذاكرة الجمعية الفلسطينية ، خصوصاً تلك الموجودة في مخيمات اللاجئين الذين تم طردهم خارج حدود فلسطين التاريخية عام 1948. في حوارات الذاكرة الجمعية هذه ، لا نجد النكبة كمؤشر واضح على الكارثة التي حاقت بالشعب عام 1948 فقط ، ولكنها مؤشر أيضاً على كوارث مستمرة على الشعب كنتيجة لاستمرار احتلال أرض الوطن.  

في سوريا ، حيث قمت بأبحاث حول ذكريات النكبة مع كل من الجيل الأول والثاني والثالث من اللاجئين الفلسطينيين ، وكان بالإمكان تتبع هذه الحوارات إلى وقت اتفاقيات أوسلو عام 1993 على الأقل ، حيث قام الناشطون في تلك المجتمعات ، وكرد فعل على التهديد الذي مثلته القيادة الفلسطينية لحقهم في العودة ، بخلق حوارات جديدة حول الذاكرة قدم من خلالها الناشطون معاني ودلالات مرتبطة بعام 1948، وخصوصا تلك المرتبطة والمؤسسة على القضيتين الأساسيتين للتحرر والعودة

ومع ذلك ، فإن معنى النكبة في حوارات الذاكرة يفترض مسبقا أن أهمية عام 1948 بقيت ثابتة وعالمية منذ وقوع الحدث، وأن هذه المعاني لا تزال مفهومة ومنتشرة بشكل عالمي في زمننا الحاضر. ورغم ذلك، فإن أهمية معنى النكبة بحد ذاته قد تغيرت بشكل جذري منذ تأسيس هذا المفهوم في عام 1948. ولا نقصد هنا أن نقلل من القضايا الرئيسة في التحرر والعودة ، والتي تظل مركزية في أي مشروع يحاول إزالة الاحتلال عن فلسطين التاريخية ، ولكن بالأحرى ، أن نقدم للطرق التي كان التعبير عن المفهوم المحدد للنكبة فيها نتيجة للشروط المادية التاريخية والسياسية التي غيرت الحركة الفلسطينية بشكل خاص ، والسياق العربي بشكل عام والذي ظهر بعد عام 1948 بشكل أوسع ، ورد فعل الفلسطينيين العاديين ، وهم في هذه الحالة اللاجئون في سوريا ، على هذه الظروف

في الوقت الذي يبقى فيه مفهوم النكبة الذي يعتبرها تجسيداً مستمراً للمأساة الفلسطينية التي حدثت ولا زالت تحدث مهماً ، والذي تم بكل تأكيد إبرازه بشكل أكبر بسبب الحرب في سوريا ، فإن ذكريات النكبة لا تؤكد أو تعيد إنتاج حوارات الذاكرة الجمعية حول فهم ما حدث عام 1948. إن ذكريات أبناء هذا المجتمع الخاصة ورواياتهم الثابتة للذاكرة تعيد تشكيل تلك الحوارات بل وتتحداها، وتمهد للمعاني المتعددة والمتناقضة أحياناً لمفهوم النكبة .

وللإجابة على السؤال حول ما هي النكبة، أو بشكل أكثر تواضعاً لنعقّد إمكانية إعطاء إجابة واحدة، فأنا أختبر الطرق التي تغيرت بموجبها المفاهيم المرتبطة بالنكبة على مدار العقود الستة الماضية ، والطرق التي اختارها جيل النكبة في سوريا ليتذكر بها أو لينسى عن طريقها عام 1948 في مواجهة المعاني المختلفة والمتغيرة للنكبة .


***

في آب/أغسطس عام 1948، وحين كانت الحرب على الفلسطينيين لا تزال مشتعلة ، كان عالم التاريخ والمفكر القومي المولود في دمشق ، قسطنطين زريق (1919-2000) ، أول من وصف تطورات الحرب ووصفها بالنكبة في كتابه الصغير، "معنى النكبة." بالنسبة لزريق، كانت الحرب على الفلسطينيين نكبة منذ اللحظة الأولى من ناحية نتائجها الكارثية على مشروع القومية والوحدة العربية ، والتحرر والتخلص من الاستعمار، حيث أن فلسطين جزء من الأمة العربية التي كان العرب يحلمون بها . ورغم أن تصور زريق لعام 1948 كنكبة يتضمن بالتأكيد تهجير سكان فلسطين ، فإن هذا لم يكن إهتمام زريق الأساس ولكنه كان جزءاً فقط من الأشياء التي جعلت من تأسيس دولة إسرائيل على أرض فلسطين أمراً كارثياً .

لقد كانت هذه هي الأبعاد المنطقية التي تم بموجبها تصور الحرب كنكبة والتعبير عن هذا المعنى، ليس فقط في عام 1948، ولكن أيضا في العقدين اللذين أعقبا الحرب وحين كان المشروع القومي الوحدوي في أوجه . في هذين العقدين، أصبحت النكبة - عند العرب أكثر من الفلسطينيين - مرتبطة بالقطيعة الفعلية مع النظام العربي القديم الذي تركه الاستعمار الفرنسي - البريطاني والذي خلق النكبة في المقام الأول ، والوعد بفجر جديد بشرت به الانقلابات العسكرية والايديولوجيات والحركات والتيارات الصاعدة آنذاك .

المعنى العملي لهذا، خصوصاً في ضوء ثورة يوليو 1952 في مصر وبروز جمال عبد الناصر كمنافس قوي على الزعامة الاقليمية، هو أن التفكير في 1948 أصبح متشابكاً مع كل من مشروع التحرر القومي العربي إضافة إلى عملية التأسيس للأنظمة العسكرية الذي شهدته الخمسينات والستينات. وفي هذا السياق، فقد قال جمال عبد الناصر- والذي كان برتبة صاغ في الجيش المصري أثناء حرب 1948- في كتابه المنشور عام 1954، فلسفة الثورة ، إن النكبة كانت بالمفهوم السياسي كارثة على المشروع الوحدوي العربي أكثر منها سبباً لقيام ثورة يوليو، ولذلك فهي تعد جزءاً من المجال السياسي للثورة

وحتى أثناء التنظيم الأولي الفلسطيني إثر عام 1948 – خصوصاً تحت راية جماعات القومية العربية مثل حركة القوميين العرب ، وحزب البعث وغيرها - فقد بقيت قضية النكبة قضية عربية ، وتم تصورها بهذا المنظور. كان علينا أن ننتظر حتى ظهور حركة فتح ليبدأ الفلسطينيون بتنظيم أنفسهم تحت راية فلسطينية ووضع تصور للنكبة ضمن إطار عمل فلسطيني خالص

لقد أتاحت حرب حزيران عام 1967، والتي احتلت فيها إسرائيل أجزاء من مصر بضمنها قطاع غزة والجولان السورية والضفة الغربية لنهر الأردن، تحولا آخر في مفهوم النكبة . وفي البدء ، وفي السنوات الأولى التي أعقبت حرب حزيران، ظهرت أعمال نقدية تعاملت مع الهزيمة الجديدة على أنها كارثة جديدة تمثل تواصلا عضويا للنكبة الأولى وتحمل نفس الجذور المسببة لها. وبهذه الطريقة ، تعامل التفكير العربي مع الهزيمة الجديدة متجاوزاً نكبة 1948. وما إن انطلقت "الثورة الفلسطينية" بعد تولي الفلسطينيين زمام الأمور في منظمة التحرير الفلسطينية (PLO) في عام 1969، حتى اختفى الانشغال الفكري بنكبة 1948، حتى ولو كان باعتبارها جزءاً من الهزيمة الجديدة، من أدبيات فترة ما بعد حرب 1967. تركزت كل الأنظار وقتها على الثورة الفلسطينية، على المشهد الذي يتحرك بحيوية ويحدد الطرق التي ستؤدي لتحرير فلسطين . في النهاية ، فإن حل موضوع النكبة عن طريق تحرير فلسطين التاريخية اتخذ نذاك مكاناً ثانوياً ، حيث كان الفدائيون يركزون جهودهم على تغيير الواقع الذي أفرزته المكاسب الإسرائيلية عام 1967.

إن "عودة" مفهوم النكبة للظهور مرة أخرى في الثمانينات كمفهوم فلسطيني أكثر منه كنكبة عربية ، جعل النكبة تأخذ مساراً أكثر راديكالية في الشكل والمضمون ، وهو المفهوم الذي نراه في وقتنا الحالي . العودة للظهور هذه أصحت ممكنة بفضل الاهتمام المتجدد بالماضي الفلسطيني . وقد حدث هذا في سياق نهاية زمن منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان وطردها إلى تونس . كما أنها أصبحت ممكنة كنتيجة لمحاولات الفلسطينيين لانعاش ذكرياتهم حول قراهم ، ومدنهم وطرق معيشتهم في فلسطين والتي دمرتها النكبة، على خلفية لاشرعية الحكومات الاسرائيلية ، إضافة إلى تعاظم الاهتمام الشعبي والسياسي والأكاديمي بهذه الذاكرة في ضوء انهيار الإتحاد السوفيتي السابق

هذه العودة إلى الماضي والذكريات اكتسبت زخماً أكبر بعد اتفاقيات أوسلو ، وفي سياق التهديدات التي تطال حق اللاجئين في العودة إلى منازلهم وأراضيهم كنتيجة لتلك الاتفاقيات. وفي هذا السياق ـ أو اللجوء للذكريات في مواجهة تهديد الازالة السياسية - فقد قاد هذا التوجه إلى تركيز محدد على ذكريات النكبة ، خصوصاً في مجتمعات اللاجئين ، وجيل 1948، وهو الشاهد الوحيد المتبقي على الكارثة التي حاقت بالشعب في 1948، والتي أصبح حلها عن طريق تطبيق حق العودة مهدداً ـ للمرة الأولى - على يد القيادة الفلسطينية نفسها.

حدث هذا الأمر في سوريا على نطاق واسع كنتيجة لما عرف بحركة العودة . هذه الحركة ظهرت كرد على اتفاقيات أوسلو، وكمحاولة لإضعاف أجندة منظمة التحرير والسلطة الوطنية الفلسطينية التي خلقتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة ، وخصوصاً فيما يتعلق بالتمثيل الشرعي للاجئين ، وإمكانية أن تقوم المنظمة / السلطة بلتراجع عن حق العودة في المفاوضات . على المستوى المحلي ، بدأ الناشطون بحشد الذكريات المرتبطة بفلسطين التاريخية والنكبة كمصادر لحركة جماعية . ومن خلال هذا الحشد الخاص بالذكريات كمصادر ـ ما فعله الناشطون حقيقة هو أنهم أفسحوا المجال لظهور حوارات "الذاكرة كضمان للعودة" في مجتمعاتهم .

 

***

وعلى خلفية المضامين المتعددة والمتغيرة للنكبة ، فإن السؤال هو كيف يمكن لأفراد المجتمع أن يختاروا أن "يتذكروا" أو حتى أن "ينسوا" هذه الحادثة التي حولتهم وعوائلهم إلى لاجئين من الجيل الثالث أو الرابع في ضوء المعاني التي أصبحت النكبة تتضمنها ، وخصوصا فيما بعد أوسلو ؟ وما الذي يمكن لهذا أن يخبرنا عن معنى النكبة اليوم ؟ إحدى الطرق الممكنة للتعامل مع هذا السؤال هو عن طريق استقصاء ماهية الأشياء من نكبة 1948 التي اختار من تمت مقابلتهم من جيل النكبة الذي يختفي سريعاً أن "يتذكرها" "ينساها" وكيف ؟

أحدد موقع ذكريات هذا الجيل في مكان بين دورهم المتوقع في حوارات ذاكرة النكبة الجديدة ، وتأثيرات تلك الحوارات فيما يخص الذكريات الخاصة لكل منهم ، إضافة إلى المناسبات العائلية "الاعتيادية" ، تلك التي يعود فيها الأجداد إلى البداية عند النهاية. وفي مقابل هذا ، فإن إحدى ذكريات النكبة، مثل مذبحة كفر عنان ، يمكن لها أن توفر مدخلاً إلى معنى آخر محتملاً للنكبة اليوم . هذا المعنى متجذر في كل من ذاكرة أولئك الذين شهدوا الموت والدمار عام 1948، والذين يحاولون أن يتذكروا بعد ستة عقود حتى يضمنوا حلا للنكبة وللعودة المستقبلية .

استقيت أول معلوماتي عن مذبحة كفر عنان خلال مقابلة مع المرحوم الحاج أبو خليل . كان عمه قد سمع أخباراً عن محاصرة القرية في ياقوق ، القريبة من طبريا ، واتجه إلى هناك حيث كان لهم أقرباء يعيشون في تلك القرية التي أصبحت محتلة .  وحين وصل عمه، شاهد من مسافة آمنة كيف تم اختيار أربعة عشر رجلا ممن استسلموا ليتم إعدامهم على يد فرقة إعدام صهيونية من أربعة رجال . بعد أن سمعت بمصير ابنها ، عادت إحدى أمهات الضحايا إلى موقع المذبحة بعد ستة أيام وحملت جثة ابنها على حمار وأخذته معها عائدة إلى الجولان السورية . ورغم أنه كان مصاباً بما يقرب من خمسين طلقة، فقد أخبرني الحاج أن الرجل عاش ليصبح الناجي الوحيد من المذبحة . نجا الرجل ، وتعافى وتزوج ورزق بأولاد في مخيم خان الشيخ ، الذي يقع على بعد 30 كيلومتراً جنوب غرب دمشق على الطريق إلى الجولان المحتلة وقريباً من كفر عنان ، ثم مات لاحقا دون أن يعود إليها .

تحدثت فيما بعد أم عبد العزيز، والتي كانت طفلة حين هربت من صفد مع عائلتها بعد الهجوم الصهيوني على قريتها، وقصت نفس القصة عن رجل من عشيرة المواسي من كفر عنان . قالت إنه نجا من الموت رغم أن جسده كان مثقبا بالرصاص لأن والدته جاءت لتحمله على ظهر حمار حيث عادت إليه بعد رحلة دامت ستة أيام . علمت أم عبد العزيز بنجاة الرجل لأنهم أصبحوا جيراناً في جرمايا ، وهي قرية في الجولان السوري حيث أقامت عائلتها كلاجئين إلى أن احتلتها اسرائيل وقامت بتدميرها وتهجير سكانها في عام 1967. وفيما بعد ، قص أبو عمار، والذي هرب من نصر الدين في طبرية إلى  هضبة الجولان السورية وهو طفل مع عائلته بعد الهجوم الصهيوني على قريته ووقوع مجزرة أخرى هناك ، نفس هذه القصة . وقد ركز على نفس النقاط، أي النجاة المعجزة ، والجروح المتعددة ، وإصرار الأم على إعادة إبنها إلى الجولان

إن "التطابق" الداخلي والخارجي في هذه "القصة داخل القصة" - إذا صح التعبير- مبهر، وبشكل خاص فيما يتعلق بالنقاط المثيرة : الطلقات العديدة ، الطلقة في الفم، عودة الأم - وكلها تم تذكرها وروايتها من قبل أشخاص تمت مقابلتهم وجاءوا من مناطق قريبة في فلسطين التاريخية. كل هؤلاء ذهبوا كلاجئين في الجولان السوري، وكانوا في وقت المقابلة يعيشون في المخيمات الفلسطينية في داخل أو قرب دمشق

عندما نقرأ قصة النكبة هذه التي ترويها الذاكرة في سياق "موت المجتمعات الفلسطينية في الجليلوالتي صنعتها أحداث 1948، يمكن لنا أن نقول إن هذا "التطابق" المبهر لا يحتوي على فهم واحد محدد ومطلق للنكبة، ولكن من الممكن جدا أن أفراد هذا الجيل قد يشكلون "مجتمعات الذاكرة" لروبرت بيلا وزملائه ، و"مجتمعات الضياع" لجوديث بتلر . هذه إمكانية يمكن أن نقرأها في هذه القصص التي تشاركنا بها ذاكرة عام 1948، وكما هي مروية من قبل فضاءات وأزمنة تم انتزاعها من جذورها كما وصفت سابقاً

وفي حين أن التناسقية الرائعة في الذاكرة المروية يمكن أن تضعف من "قيمة الحقيقة" فيما يخص التاريخ الوضعي ، وبالتأكيد في الحاجة للنكبة كتاريخ مضاد للمشروع المستمر في الاستيطان الصهيوني والإزالة ، فإنها في الوقت نفسه لا تضعف قيمة الحقيقة فيها فيما يخص وصف التفاصيل لفداحة كارثة عايشها أولئك الذين لا زالوا أحياء رغم الافتقار المستمر إلى الاعتراف بهذا المعنى وتداركه . إن مشاهدة المجزرة ، والنجاة المعجزة للرجل ، والبطولة الضمنية للأم في هذه القصة من الذاكرة تعبر كذلك عن التدمير المتوحش والقتل الذي شهدته النكبة ، وأن النجاة الوحيدة الممكنة كانت عبر الحدود التي رسمت خلال 1948، ودور المرأة الرئيسي في إعادة تجذير العوائل التي تم اقتلاعها وتشتيتها في مجتمعات في المنافي . أنا أجادل هنا أن هناك معنى آخر للنكبة اليوم ، معنى ساكن في مجتمعات حية ، وهو الذي يعطيها صفة الحياة

 

***

في نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2012، وفي ظل وصول الحرب بشكلها الواسع إلى مخيم اليرموك ، وبعد الهجرة الجماعية لأغلب سكانه ، انفجرت سيارة مفخخة في ساحة الريجة في المخيم . ويوضح هذا الفيديو  المنتشر عن الوضع بعد التفجير مقدار الدمار في الساحة والمنطقة المحيطة بها . يخبرنا صوت مصور الفيديو، والذي لا يمكننا رؤيته، أن الرجال الذين ينتمون إلى كتيبتين منفصلتين مما يسمى "الجيش السوري الحر" شاهدتا قائد سيارة مشبوهة يترك سيارته، وحين تمت مواجهته واعترف بما سيحدث تم إخلاء الساحة .  ورغم أنه لم تكن هناك إصابات بشرية أو وفيات فقد تم تسجيل حجم الدمار فالفيديو إضافة إلى الصور التي وضعت على مجموعة اليرموك في الفيسبوك (مخيم اليرموك نيوز) ، وهي صفحة يتم تحديثها بشكل دائم بأخبار المخيم . أظهرت إحدى الصور الساحة وهي مدمرة بشكل كبير، إضافة إلى منزل عائلة (الصمادي) الذي يواجه قسم منه الساحة بشكل مباشر والذي أصيب بأضرار كبيرة .

بعد بضعة أيام ، انتشرت صورة أخرى للساحة المدمرة على صفحة أخبار اليرموك . هذه المرة ، كانت الصورة صورة الحاج أبو سميح ، الابن الأكبر لعائلة الصمادي واقفاً خارج منزل العائلة نصف المدمر متكئاً على عصاه ، وينظر مباشرة نحو الكامرة محاطاً بأنقاض ساحة الرجى. أثناء مقابلتي للحاج أبو سميح قبل ما يقرب من خمس سنوات، تحدث الحاج عن نكبة فلسطين . كان وقتها متطوعاً شاباً في جيش الجهاد المقدس، وهي جماعة متطوعين غير اعتياديين كانوا يعملون في فلسطين قبل دخول الجيوش العربية النظامية في مايو/أيار 1948. أصيب بطلق ناري قرب معلول ونقل إلى مستشفى في الناصرة ، ومن هناك إلى مستشفى في بيروت، وأخيراً إلى مستشفى في دمشق بسبب تكدس الجرحى . حين وصل إلى الحدود السورية، صرف آخر قرشين في جيبه على شراء جريدة . التم الشمل مع عائلته التي كانت مشتتة بين فلسطين ولبنان وسوريا أخيراً ، وبقي في مسجد يؤوي اللاجئين في دمشق إلى أن انتقل إلى مخيم اليرموك في الخمسينات . في اليرموك ، بدأ في إعادة بناء حياته من الصفر واستغرقه زهاء عشرين عاماً ، كما أخبرني ، ليتخلص من الفقر الذي عانى منه هو وأسرته كلاجئين .


بالنظر إلى تاريخ الحاج أبو سميح وأهميته بالنسبة لمجتمعه ، فقد كانت الصورة الثانية له مع نصف منزل العائلة المدمر المواجه لساحة الريجة يحمل التعليق التالي :

في مخيم اليرموك .. شيخ لا زال مرابطاً في منزله - في شارعه - في مخيمه - دمّر الانفجار أجزاءً من منزله ومنطقته وساحته لكنه رفض الخروج من منزله . الحاج أبو سميح صمادي .. عاصر نكبة فلسطين ليرفض نكبة أخرى تتجلى بخروجه من المخيم .

وهكذا ، وفي خلال خمس سنوات وعلى خلفية الحرب في سوريا ، تغيرت النكبة من الكارثة التي حاقت بالفلسطينيين في 1948 ، والتي شهدها الحاج سميح وبقي شاهداً عليها حتى ذكراها الستين ، إلى نكبة تعبر عن نفسها بخروج الحاج من مخيم اليرموك . وفيما يبقى المعنى الرئيس للنكبة هو القضية التي لم تحل بعد للكارثة الفلسطينية السابقة والمستمرة ، فإن معنى النكبة تغير مرة أخرى، ويتم الحديث عنه من زاوية ارتباط الفلسطينيين بمنازلهم (ومخيماتهم) ، حتى وإن كانت في سوريا . ونتيجة لهذا ، فإن الحرب لا تغير البلد بكامله ومعه مجتمع اللاجئين الفلسطينيين فحسب ، ولكنها تستمر أيضاً في تغيير معاني ودلالات نكبة 1948.

 

] ترجمه من الإنجليزية إلى العربية ـ علي أديب [


 

*هذا المقال هو نسخة مختصرة من ورقة بحث قدمت في ورشة عمل "ذكريات فلسطين:  نكبة  1948 والتي عقدت في معهد البحث الثقافي في برلين، ألمانيا في مارس/آذار 2013. 

 


الأحد، 10 مايو 2020

قراءة فى مذكرات محمد نجيب . / عمرو صابح .


قراءة فى مذكرات محمد نجيب .
عمرو صابح .

اللواء محمد نجيب هو أول رئيس لجمهورية مصر ، قام بتعيينه مجلس قيادة ثورة 23 يوليو 1952 عقب إلغاء النظام الملكي ، وإعلان الجمهورية في 18 يونيو 1953 ، واللواء محمد نجيب هو الرجل الذي تصدر قيادة الثورة منذ يومها الأول ، وصدرت قرارات الثورة منذ 23 يوليو 1952 حتى نهاية أزمة مارس 1954 باسمه ، ولكن رغم هذا الدور الذي لعبه محمد نجيب في الثورة ، إلا انه انهال على الثورة والضباط الأحرار بأقذع الاتهامات وأحط الشتائم ، كما تبرأ من الثورة وكل سياساتها ، وهاجم جمال عبد الناصر بضراوة ونعته بأقذر الصفات ، خاصة في كتابه " كنت رئيساً لمصر" الصادر فى عام 1984 .
و منذ صدور كتاب " كنت رئيساً لمصر " ، تحول الكتاب للمرجع الرئيسي لكل خصوم ثورة 23 يوليو من الليبراليين و الإخوان و ثكالى وأرامل الملك فاروق ، فالكتاب يضم بين دفتيه نقد بالغ الحدة وشديد العصبية ضد ثورة 23 يوليو من رجل تزعمها في بدايتها ، وكان واجهة لحكم الضباط .

المدهش أن كتاب " كنت رئيساً لمصر " ، ليس أول كتاب يحتوى على مذكرات الرئيس محمد نجيب ، بل هو الكتاب الذي يحتوى على النسخة الثالثة من مذكرات الرئيس محمد نجيب  .
 النسخة الأولى من مذكرات الرئيس محمد نجيب ، صدرت فى عام 1955 بعنوان   " مصير مصر " ، وقام بصياغة الكتاب الصحفي الإنجليزي " لي وايت "، وتم نشر الكتاب ببريطانيا والولايات المتحدة ، وتمت ترجمته للعربية فى نفس العام ، ولكن النظام الناصري منع نشره في مصر ، وفى عام 1995 أصدرت دار ديوان طبعة جديدة منه .
 اللافت للنظر ان الرئيس محمد نجيب أهدى الطبعة الأولى من كتاب "مصير مصر" لرئيس الوزراء العراقي " نورى السعيد " ، والذي كان من أكبر الموالين لبريطانيا في العالم العربي ، ومن أشد المعادين لجمال عبد الناصر وثورة 23 يوليو ، وكان يصف مذهبه السياسي بقوله :
) أنا هاشمي الولاء .. إنجليزي السياسة( .
وفى عام 1975 أصدر الرئيس محمد نجيب النسخة الثانية من مذكراته بعنوان " كلمتي للتاريخ " ، وقد صاغه له الضابط الحر والمؤرخ " أحمد حمروش " ، وقد ذكر حمروش في مذكراته " نسيج العمر " تفاصيل لقاءه بالرئيس محمد نجيب وتسجيله للنسخة الثانية من مذكرات نجيب .
 وفى عام 1984 صدر كتاب " كنت رئيساً لمصر"، الذي احتوى على أخر تنقيح لمذكرات محمد نجيب ، وقد صاغه له الكاتب الصحفي " عادل حمودة " .
توجد نسخة رابعة من مذكرات الرئيس محمد نجيب ، نشرها الأستاذ " عادل حمودة " في كتاب بعنوان " الوثائق الخاصة بالرئيس نجيب " صدر في عام 1985 عن مؤسسة روز اليوسف ، وكتب الكاتب الصحفي الكبير  " صلاح حافظ " مقدمة الكتاب .
والمثير للدهشة أن الأستاذ " عادل حمودة " هو من صاغ كتاب " كنت رئيساً لمصر " ، ثم صاغ كتاب " الوثائق الخاصة بالرئيس نجيب" ، والأكثر غرابة ان أخر صفحات كتاب  " الوثائق الخاصة بالرئيس نجيب" ، وتحت عنوان مؤلفات عادل حمودة ، يوجد كتاب " كنت رئيساً لمصر "!! كواحد من مؤلفات عادل حمودة  !!
من سيطالع النسخ الأربعة من مذكرات الرئيس نجيب ، سوف يفاجئ باختلافات واضحة وفادحة في روايات و أراء نجيب  ، خاصة بين النسخة الأولى من مذكراته " مصير مصر" ، والنسخة الأخيرة " كنت رئيساً لمصر" .  

سوف أعرض عبر السطور التالية بعض الأمثلة على تناقضات الرئيس محمد نجيب :
-  الواقعة الأولى خاصة برأي نجيب في جمال عبد الناصر.
" ذات يوم أحضر عامر أحد أصدقائه معه صاغاً شاباً تذكرت أنى قابلته في الفالوجة في فلسطين وأعجبت بشجاعته في القتال ، واسمه جمال عبد الناصر ، كان قد أصيب خلال المعارك ، وكاد يموت وبمجرد تعافيه رفض أن يعود للقاهرة ، وصمم على العودة لميدان القتال " .

ص 21 من كتاب "مصير مصر" مذكرات اللواء محمد نجيب .

 "خلال شهور الحرب لم يلفت جمال عبد الناصر انتباهي ، لكنى أتذكر أنه كان يحب الظهور ، ويحب أن يضع نفسه في الصفوف الأولى والدليل على ذلك ما حدث في الفالوجا
كنا نلتقط صورة تذكارية ففوجئت بضابط صغير يحاول أن يقف في الصف الأول مع القواد ، وكان هذا الضابط جمال عبد الناصر ولكنى نهرته وطلبت منه العودة لمكانه الطبيعي في الخلف ، وعرفت عنه بعد ذلك أنه لم يحارب في عراق المنشية كما أدعى ولكنه ظل طوال المعركة في خندقه لا يتحرك " .

ص81 من كتاب "كنت رئيسا لمصر" مذكرات اللواء محمد نجيب  .

-  الواقعة الثانية خاصة برأي محمد نجيب في قانون الإصلاح الزراعي .

 " وهل هناك من وسيلة أفضل لرفع معنويات الفلاح وبالتالي ملكاته من تمكينه من حيازة قطعة أرض ، ان الفلاح الذي لا يملك أرضا لا يعدو أن يكون إنسانا محطما ، أما الفلاح مالك الأرض فهو رجل حي لا يتردد في الدفاع عن أرضه ولو جاد بالحياة . والفرق بين الفلاح مالك الأرض والفلاح المعدم هو الفرق بين الإنسان والحيوان الذي يمشي على قدمين . ولا بد لنهضة مصر من رجال . لذا كان قانون الإصلاح الزراعي وسيلتنا لتحويل  الفلاح المصري لرجل قادر على بناء وتنمية وطنه. لذا تخلصت من وزارة على ماهر لأصدر القانون الذي غير مسار حياة الفلاح المصري للأفضل " .

ص 97 من كتاب "مصير مصر" مذكرات اللواء محمد نجيب .

 "صدر قانون الإصلاح الزراعي رغم معارضتي ، ونزولا على رأى الأغلبية . فقد كنت مع الضرائب التصاعدية . وكنت أرى إننا سنعلم الفلاح الذي حصل على الأرض بلا مجهود أو تعب ، الكسل والنوم في العسل .. وكنت أرى ان تطبيق القانون سيفرض علينا إنشاء وزارة جديدة لمباشرة تنفيذه "وزارة الإصلاح الزراعي" وهذا سيكلفنا أعباء مالية وإدارية لا مبرر لتحملها . وكان من رأيي ان وجود الملاك الجدد بجانب الملاك الأصليين سيثير الكثير من المتاعب والصراعات الطبقية .

ص 159 من كتاب "كنت رئيساً لمصر" مذكرات اللواء محمد نجيب .

-  الواقعة الثالثة خاصة برأي الرئيس محمد نجيب في جماعة الإخوان المسلمين .

"  في 12 فبراير 1954 ، أثناء الاحتفال بالذكرى الأولى لإمضاء اتفاقية السودان ، هاجمت مجموعة من الإخوان المسلمين شباب هيئة التحرير في جامعة القاهرة . وأشعل الإخوان النار في مكبرات الصوت وعربات البوليس ، وأصابوا اثنا عشر طالبا بجراح ، لم تكن تلك الحادثة الأولى من نوعها ، وقد حذرنا البوليس بأنها لن تكون الأخيرة ، لهذا قررت حل جماعة الإخوان المسلمين ، وأغلقت أماكن اجتماعاتها ، وأمرت بالقبض على كثير من  قادة الجماعة ، وكان بينهم "مرشدهم العام" حسن الهضيبي ، وصالح عشماوي محرر (الدعوة) ، وهى الصحيفة الرسمية الأسبوعية الناطقة بلسانهم " .

ص122 من كتاب "مصير مصر" مذكرات محمد نجيب .

" لم أكن موافقا على حل الإخوان .
ولم أكن موافقاً على البيان  الخاص بأسباب حلهم  ..
وأحسست أن موقفي أصبح في غاية الحرج .. هل أنا موافق على كل هذا ؟
هل أنا رافضه وغير مقتنع به ؟ .. أين أنا من كل هذا بالضبط ؟
ولم أجد مفرا من أن أقدم استقالتي !".

ص 220 من كتاب "كنت رئيسا لمصر" مذكرات محمد نجيب .

 أكتفي بهذه الأمثلة للدلالة على شخصية الراوي ، وما يحكيه من قصص تتغير بمرور الزمن بل وتتناقض أيضاً ، حتى يظن القارئ أن هناك نجيبان وليس نجيب واحد .
يمثل كتاب " كنت رئيساً لمصر" أيقونة تاريخية لكل خصوم ثورة 23 يوليو ، فهو الكتاب المقدس لدى الليبراليين ، والإخوان المسلمين ،وثكالى وأرامل وشماشرجية العهد الملكي .
على امتداد صفحات الكتاب الضخم 420 صفحة ، يؤكد الرئيس محمد نجيب أنه كان مجرد واجهة للثورة ، وليس صاحب قرار في أي شئ ، فهو ضد خروج يوسف صديق وعبد المنعم أمين من مجلس قيادة الثورة ، وضد إعدام العاملين خميس والبقري ، وضد قانون الإصلاح الزراعي ، وضد قرار إلغاء الدستور ، وضد قرار حل الأحزاب ، وضد تعيين عبد الحكيم عامر قائداً للجيش ، وضد إعلان الجمهورية في هذا التوقيت ، وضد تعيينه رئيساً للجمهورية بدون استفتاء ، وضد حل جماعة الإخوان المسلمين  !!
كل تلك القرارات صدرت خلال رئاسة محمد نجيب وعليها توقيعه ، ولكنه فى التنقيح الثالث لمذكراته  " كنت رئيساً لمصر يؤكد رفضه لها رغم توقيعه عليها !!!
بنص تلك الشهادة للرئيس محًمد نجيب يكون هو من وصف نفسه بكونه مجرد بصمجي ، بلا شخصية ، يقبل صدور القرارات باسمه رغم رفضه لها ، وهو بذلك يؤكد وجهة النظر التي تراه مجرد واجهة للثورة  .
والمدهش رغم تلك الاعترافات للرئيس محمد نجيب ، إلا أنه يصر على كونه قائد الثورة وسبب نجاحها ، بل ان عنوان التنقيح قبل الأخير لمذكراته نفسها ، يوحى بأنه لا يصدق أنه كان رئيساً لمصر فى يوم ما .
على امتداد صفحات كتاب " كنت رئيساً لمصر " ، يبدو الرئيس نجيب شديد التعاطف مع جماعة الإخوان المسلمين ، ومدافعاً عن كل تصرفاتها ، بل انه يصف محاولة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر في المنشية في أكتوبر 1954 بالتمثيلية المرتبة مسبقاً بمعرفة عبد الناصر وأجهزته الأمنية.
خلال التحقيقات مع قادة جماعة الإخوان المسلمين بعد محاولة اغتيال عبد الناصر عام 1954 ، اعترف كل قادة الجماعة بما فيهم قادة التنظيم الخاص المسلح للجماعة بالتنسيق مع الرئيس محمد نجيب منذ أبريل 1954 من أجل اغتيال جمال عبد الناصر ، وكان دور الرئيس نجيب بعد اغتيال عبد الناصر يتمثل فى سيطرته على الجيش بعد قتل عبد الناصر ، وعودته لتسلم مقاليد السلطة الحقيقية.

ولكن يبدو ان علاقة الرئيس نجيب بجماعة الإخوان المسلمين ، كانت أعمق من ذلك ، وترجع لزمن بعيد ، فقد كشفت الكاتبة الصحفية " إيناس مرشد " في عدد مجلة الإذاعة والتليفزيون ، الصادر فى 18 مارس 2017 ، عن خفايا علاقة الرئيس ” محمد نجيب ” بجماعة الإخوان المسلمين ، عبر  نشر 3 خطابات بخط يد ” محمد نجيب ” يتم نشرها للمرة الأولى  .

 كتب محمد نجيب في خطاباته الثلاثة شهادته عن كونه واحد من مؤسسي جماعة الإخوان ، ومن المشاركين في اختيار شارتها وشعارها ، ومن المعجبين بإقرارها نظام الشورى بين أعضاءها ، ومن الساعين لنقل مقرها من الإسماعيلية إلى القاهرة لتكون في قلب الأحداث من أجل تحقيق الهدف الأكبر بإقامة دولة الخلافة  .
جاءت تلك الشهادة الخطيرة في 3 خطابات أرسلها محمد نجيب لصديقه ” محمد أبو خليل ” وكيل وزارة المعارف العمومية بالشرقية ، وعضو جماعة الإخوان المسلمين عن وقائع 3 اجتماعات حضرها محمد نجيب للتنظيم الإخوان فى بداية تأسيسه ، وبتواجد قادة التنظيم وعلى رأسهم مؤسس جماعة الإخوان ” حسن البنا  “.
-  الخطاب الأول بتاريخ 15 ديسمبر 1928 وفيه يعبر محمد نجيب عن سعادته لرؤية صديقه محمد أبو خليل في اجتماع التنظيم الإخواني .
-  الخطاب الثاني بتاريخ 1 يناير 1929 ، وقد غاب عنه محمد أبو خليل ، وفيه يروى نجيب لصديقه ما دار فى الاجتماع من مناقشات لاختيار شعار وشارة جماعة الإخوان ، والنقاش حول إقرار مبدأ الشورى داخل الجماعة .
-  الخطاب الثالث بتاريخ 30 يناير 1929 ، ولم يحضره محمد أبو خليل ، وفيه يحكى له محمد نجيب تفاصيل ما دار عن سعى قادة التنظيم الإخواني لنقل مقرهم للقاهرة من أجل تحقيق هدف الجماعة فى إقامة الخلافة فى مصر ، وأن يكون الملك فؤاد هو خليفة المسلمين !!!. 
 يفتح هذا السبق الصحفي ملف محمد نجيب مجدداً ، فالرجل الذي اختاره الضباط الأحرار كواجهة لثورتهم ، والذي انقلب عليهم فيما بعد ، وخاض ضدهم صراعاً مريراً على السلطة ، متحالفاً خلاله مع الوفديين والإخوان والشيوعيين ، وانتهى به الحال مهزوماً ثم محدد الإقامة في قصر زينب الوكيل بالمرج ، كان من مؤسسي جماعة الإخوان المسلمين ،ولعل هذا يفسر سر نقمته على ثورة 23 يوليو ، وسعيه لتشويهها فى مذكراته .
يرى البعض ان المعاملة القاسية للرئيس محمد نجيب  عقب اعفاءه من منصبه في 14 نوفمبر 1954 ، و تحديد إقامته في قصر زينب الوكيل بالمرج ، كانت هي سبب نقمته البالغة على ثورة 23 يوليو ، ولكن اللواء حسن طلعت مدير المباحث العامة الأسبق ، يقدم رؤية أخرى لحقيقة علاقة محمد نجيب بجمال عبد الناصر خلال سنوات إقامته بقصر زينب الوكيل بالمرج .
يقول اللواء حسن طلعت في حوار صحفي مع الكاتب عبد الله إمام ، انه كان مشرفاً بنفسه على تلبية كل طلبات الرئيس محمد نجيب خلال إقامته بقصر زينب الوكيل بالمرج ، وان الرئيس نجيب طلب أكثر من مرة أن يتم تسديد ديونه ، وزيادة معاشه الشهري ، وتغيير سيارته ، وقد وافق الرئيس عبد الناصر على تنفيذ كل طلباته .
وبخصوص قصر زينب الوكيل ،  يؤكد اللواء حسن طلعت أن القصر كان مؤثث بأثاث فاخر ، ويحتوى على حديقة كبيرة ، وظل محتفظاً بحالته الجيدة حتى وفاة زوجة الرئيس محمد نجيب في ديسمبر 1970 ، أي بعد وفاة الرئيس عبد الناصر بثلاثة شهور .
دخل الرئيس نجيب عقب وفاة زوجته في نوبة اكتئاب ، وأدمن احتساء الخمور ، وأهمل رعاية حديقة القصر ، وملأ القصر بالقطط والكلاب ، كما بدد أثاثه الفاخر .
تلك هي شهادة اللواء حسن طلعت عن علاقة نجيب بالرئيس عبد الناصر فى الفترة من 1954 حتى 1970 .
وهى شهادة أكدها محمد رياض أحد الضباط الأحرار المقربين من الرئيس محمد نجيب ، والذي عمل كسكرتير لنجيب أثناء توليه رئاسة الجمهورية.
- يبدو الرئيس محمد نجيب في كتابه " كنت رئيساً لمصر "،  متألماً من الطريقة القاسية التي جرى التعامل بها معه خلال العدوان الثلاثي عام 1956 ، ويؤكد انه كان يريد العودة للجيش خلال العدوان كمقاتل ضد الغزاة!! ، ولكن جمال عبد الناصر عامله بقسوة وأهانه عبر رجاله ، وقام بنقله للصعيد طوال فترة الحرب .
في ذكرى مرور مائتي عام على الحملة الفرنسية على مصر ، كلفت الحكومة الفرنسية الكاتب والمؤرخ الفرنسي " روبير سوليه " بتأليف كتاب عن العلاقات المصرية الفرنسية خلال الفترة ما بين القرنين السادس عشر والعشرين ، وقد صدر الكتاب بعنوان " مصر : ولع فرنسي " .
فى عام 1999 ترجم الأستاذ لطيف فرج  الكتاب للغة العربية ، وصدر الكتاب ضمن سلسلة كتب مهرجان القراءة للجميع ، فى صفحة 312 من الطبعة العربية ، يروى الكاتب تفاصيل مفاوضات الحكومة الفرنسية مع الرئيس محمد نجيب عبر ضابط مخابرات فرنسي اسمه " جاك بييت " حضر لمصر سراً ،عقب تأميم الرئيس عبد الناصر لشركة قناة السويس ، موفداً من رئيس الوزراء الفرنسي " جى موليه " للتفاوض مع محمد نجيب على الحلول محل جمال عبد الناصر ، وتشكيل حكومة وحدة وطنية لا تعادى الغرب ، وتهيئ الرأي العام لإجراء مفاوضات للسلام مع الإسرائيليين ، وحسب شهادة جاك بييت ، وافق نجيب على تلك المقترحات ، ولكنه اشترط موافقة البريطانيين أيضاً على توليه الحكم بعد الإطاحة بجمال عبد الناصر .
أعتقد أنه أصبح مفهوماً الآن لماذا جرى التعامل مع محمد نجيب بقسوة عقب بدء العدوان الثلاثي على مصر .
-  كتاب " الوثائق الخاصة بالرئيس نجيب" وهو التنقيح الرابع لمذكرات الرئيس محمد نجيب ، يبدو أقل شططاً وحدة عن كتاب " كنت رئيساً لمصر " فى تقييم الرئيس نجيب للرئيس عبد الناصر  .
 فالرئيس نجيب يعترف فيه أن جمال عبد الناصر هو قائد تنظيم الضباط الأحرار ، وان جمال عبد الناصر وعبد الحكيم هما من قاما بضمه للتنظيم ، ويعترف انه لم يكن يعرف أعضاء اللجنة التأسيسية للتنظيم ، ويقر أنه كان يرسل برقيات تأييد وتهنئة للرئيس جمال عبد الناصر في كل المناسبات الشخصية والقومية طيلة حياة عبد الناصر ، ويؤكد انه يتفق مع الرئيس جمال عبد الناصر في ضرب الإقطاع و بناء القطاع العام وإصدار القرارات الاشتراكية .
بل ان الرئيس نجيب يقول انه الوحيد من رجال الثورة الذي أتيحت له فرصة كتابة مذكراته أكثر من مرة ، مرة وهو رئيس للجمهورية " مصير مصر " ، ومرة بعد خروجه من قصر المرج " كلمتي للتاريخ " ، ومرة وهو في نهاية العمر " كنت رئيساً لمصر "!!
ويقول الرئيس " محمد نجيب " أنه لم يقبض أى أموال مقابل كتابه " مصير مصر" الصادر في عام 1955، بينما تقاضى 45 ألف جنيه من مجلة "الحوادث" اللبنانية ، مقابل كتابه " كلمتي للتاريخ " الصادر في عام 1975 ، وتقاضى 500 جنيه فقط مقابل كتابه "كنت رئيساً لمصر" الصادر في عام 1984 .

-  الحقيقة ان تغيير الرئيس محمد نجيب لرواياته وآراءه لم يقتصر على ذلك ، بل رصد الكاتب والمؤرخ " صلاح عيسى " في كتابه " مثقفون وعسكر " في فصل " حرب المذكرات السياسية في الفكر العربي"  ، اختلافات في الطبعة المصرية لمذكرات نجيب التي صدرت بعنوان " كلمتي للتاريخ "عن الطبعة اللبنانية لنفس الكتاب ، شملت الاختلافات بين الطبعتين فقرات محذوفة ، وأخرى أعيد صياغتها ، وقام الأستاذ صلاح عيسى برصد تلك الاختلافات ، وختم كلامه عن كتاب " كلمتي للتاريخ " بأنه جعل من الخونة أبطالاً ومن الأبطال خونة .
-  من سيقوم بمراجعة النسخ الأربعة لمذكرات الرئيس الراحل " محمد نجيب " سوف يتأكد من وجود اختلافات واضحة في شهادته على التاريخ في كل نسخة ، مما يلقى بظلال كثيفة على مصداقية تلك الشهادة التي صدرت على مدار 30 سنة ، وصاغها له ثلاثة من الصحفيين ، والمأساة أن كتاب " كنت رئيساً لمصر " الذي يحتوى على التنقيح الثالث لمذكرات الرئيس نجيب ، تحول إلى حائط المبكى لكل خصوم جمال عبد الناصر وثورة 23 يوليو 1952 ، ولو راجع هؤلاء المصابون بارتكاريا جمال عبد الناصر ، التنقيحات الثلاثة الأخرى لمذكرات الرئيس نجيب لأدركوا ان شهادته مجروحة ، وتختلف من كتاب لأخر .
-  لم يكن الرئيس محمد نجيب ضحية لثورة 23 يوليو ، بل كان ساعياً للاستحواذ على السلطة بالتحالف مع كل خصوم الثورة ، كما دخل فى خصومه مع معظم رفاقه من قادة الثورة ، وقد أجمع هؤلاء فى مذكراتهم وشهاداتهم للتاريخ على محدودية دوره في الثورة ، ومحاولته تصفية الثورة ، وتسليم السلطة لأعمدة النظام الذي أطاح به الثوار في 23 يوليو 1952  .