بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 31 يوليو 2016

نقد حديث البخاري في زواج عائشة ـ اسلام بحيري .

اليوم السابع .
16 / 10 / 2008 .

ليست محاولة للتشكيك فى البخارى ومسلم ولا العلماء الأوائل .. ولكنها دفاع عن رسول الله زواج النبى من عائشة وهى بنت 9 سنين كذبة كبيرة فى كتب الحديث  .. 

إسلام بحيرى رئيس مركز الدراسات الإسلامية بـ " اليوم السابع " :  
السيرة وأمهات الكتب ترد على أحاديث البخارى وتؤكد أن ابنة أبى بكر تزوجت النبى وهى فى الثامنة عشرة من عمرها  ..


حينما تظهر أصوات العقلاء لتدافع عن الرسول عليه الصلاة والسلام مؤكدة بالتاريخ والروايات الموثقة عدم دقة الكثير من الروايات التى يأخذها البعض على الإسلام مثل رواية زواج النبى عليه الصلاة والسلام من السيدة عائشة وهى فى عمر تسع سنين ، تواجهها تلك العقبة المقدسة التى تقول بقدسية المناهج الفقهية القديمة، وكتب البخارى ومسلم ، وتعصمها من الخطأ ، وترفض أى محاولة للاجتهاد فى تصحيح روايتها حتى ولو كانت محل شك ، فهى العلوم وحيدة زمانها ، والتى لا تقبل التجديد ولا الإضافة ولا الحذف ولا التنقيح ولا التعقيب ولا حتى النقد .
وكذا هو الحال مع الرواية ذائعة الصيت التى يكاد يعرفها كل مسلم , والتى جاءت فى البخارى ومسلم , أن النبى ( صلى الله عليه وسلم ) وهو صاحب الخمسين عاما قد تزوج أم المؤمنين ( عائشة ) وهى فى سن السادسة , وبنى بها - دخل بها - وهى تكاد تكون طفلة بلغت التاسعة , وهى الرواية التى حازت ختم الحصانة الشهير لمجرد ذكرها فى البخارى ومسلم , رغم أنها تخالف كل ما يمكن مخالفته , فهى تخالف القرآن والسنة الصحيحة وتخالف العقل والمنطق والعرف والعادة والخط الزمنى لأحداث البعثة النبوية , والرواية التى أخرجها البخارى جاءت بخمس طرق للإسناد وبمعنى واحد للمتن –النص - ولطول الحديث سنورد أطرافه الأولى والأخيرة التى تحمل المعنى المقصود , ( البخارى - باب تزويج النبى عائشة وقدومها المدينة وبنائه بها - 3894 ) : حدثنى فروة بن أبى المغراء : حدثنا على بن مسهر، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة رضى الله عنها قالت : « تزوجنى النبى صلى الله عليه وسلم وأنا بنت ست سنين، فقدمنا المدينة ، ... فأسلمتنى إليه ، وأنا يومئذ بنت تسع سنين » .
بالاستناد لأمهات كتب التاريخ والسيرة المؤصلة للبعثة النبوية ( الكامل- تاريخ دمشق - سير اعلام النبلاء - تاريخ الطبرى - البداية والنهاية - تاريخ بغداد - وفيات الأعيان , وغيرها الكثير) , تكاد تكون متفقة على الخط الزمنى لأحداث البعثة النبوية كالتالى :
 البعثة النبوية استمرت (13) عاما فى مكة , و(10) أعوام بالمدينة , وكان بدء البعثة بالتاريخ الميلادى عام (610م) , وكانت الهجرة للمدينة عام (623م) أى بعد (13) عاما فى مكة, وكانت وفاة النبى عام (633م) بعد (10) أعوام فى المدينة , والمفروض بهذا الخط المتفق عليه أن الرسول تزوج (عائشة) قبل الهجرة للمدينة بثلاثة أعوام ، أى فى عام (620م), وهو ما يوافق العام العاشر من بدء الوحى ، وكانت تبلغ من العمر (6) سنوات , ودخل بها فى نهاية العام الأول للهجرة أى فى نهاية عام (623م) , وكانت تبلغ (9) سنوات , وذلك ما يعنى حسب التقويم الميلادى أى أنها ولدت عام (614م) , أى فى السنة الرابعة من بدء الوحى حسب رواية البخارى، وهذا وهم كبير .

نقد الرواية تاريخيا :

1 - حساب عمر السيدة (عائشة) بالنسبة لعمر أختها ( أسماء بنت أبى بكر - ذات النطاقين - ) : تقول كل المصادر التاريخية السابق ذكرها إن (أسماء) كانت تكبر (عائشة) بـ (10) سنوات , كما تروى ذات المصادر بلا اختلاف واحد بينها , أن (أسماء) ولدت قبل الهجرة للمدينة بـ (27) عاما , ما يعنى أن عمرها مع بدء البعثة النبوية عام (610م) كان (14) سنة , وذلك بإنقاص من عمرها قبل الهجرة (13) سنة وهى سنوات الدعوة النبوية فى مكة , لأن ( 27 – 13 = 14سنة ) , وكما ذكرت جميع المصادر بلا اختلاف أنها أكبر من (عائشة) بـ (10) سنوات, إذن يتأكد بذلك أن سن (عائشة ) كان (4) سنوات مع بدء البعثة النبوية فى مكة , أى أنها ولدت قبل بدء الوحى بـ (4) سنوات كاملات , وذلك عام (606م) , ومؤدى ذلك بحسبة بسيطة أن الرسول عندما نكحها فى مكة فى العام العاشر من بدء البعثة النبوية كان عمرها (14) سنة , لأن ( 4 + 10 = 14  سنة ) , أو بمعنى آخر أن (عائشة) ولدت عام (606م) , وتزوجت النبى (620م) , وهى فى عمر (14) سنة وأنه كما ذُكر بنى بها - دخل بها - بعد (3) سنوات وبضعة أشهر» أى فى نهاية السنة الأولى من الهجرة وبداية الثانية ، عام (624م) , فيصبح عمرها آنذاك ( 14 + 3 + 1 = 18سنة كاملة ) , وهى السن الحقيقية التى تزوج فيها النبى الكريم (عائشة) .

 2 - حساب عمر (عائشة) بالنسبة لوفاة أختها ( أسماء-ذات النطاقين ) : تؤكد المصادر التاريخية السابقة بلا خلاف بينها أن (أسماء) توفيت بعد حادثة شهيرة مؤرخة ومثبتة ، وهى مقتل ابنها ( عبد الله بن الزبير ) على يد (الحجاج) الطاغية الشهير , وذلك عام (73هـ) , وكانت تبلغ من العمر (100) سنة كاملة , فلو قمنا بعملية طرح لعمر( أسماء) من عام وفاتها (73هـ) , وهى تبلغ (100) سنة فيكون ( 100 - 73 = 27 سنة ) وهو عمرها وقت الهجرة النبوية , وذلك ما يتطابق كليا مع عمرها المذكور فى المصادر التاريخية , فإذا طرحنا من عمرها (10) سنوات - وهى السنوات التى تكبر فيها أختها (عائشة) - يصبح عمر (عائشة) (27 - 10 = 17 سنة ) وهو عمر (عائشة) حين الهجرة , ولو بنى بها - دخل بها - النبى فى نهاية العام الأول يكون عمرها آنذاك ( 17  + 1 = 18 سنة ) وهو ما يؤكد الحساب الصحيح لعمر السيدة (عائشة) عند الزواج من النبى ، وما يعضد ذلك أيضا أن (الطبرى)  يجزم بيقين فى كتابه ( تاريخ الأمم ) أن كل أولاد (أبى بكر) قد ولدوا فى الجاهلية , وذلك ما يتفق مع الخط الزمنى الصحيح , ويكشف ضعف رواية البخارى ، لأن (عائشة) بالفعل قد ولدت فى العام الرابع قبل بدء البعثة النبوية .

 3 - حساب عمر (عائشة) مقارنة (بفاطمة الزهراء) بنت النبى : يذكر (ابن حجر) فى (الإصابة) أن (فاطمة) ولدت عام بناء الكعبة , والنبى ابن (35) سنة , وأنها أسن - أكبر- من عائشة بـ (5) سنوات , وعلى هذه الرواية التى أوردها (ابن حجر) مع أنها رواية ليست قوية , ولكن على فرض قوتها نجد أن (ابن حجر) وهو شارح (البخارى), يكذب رواية (البخارى) ضمنيا , لأنه إن كانت (فاطمة) ولدت والنبى فى عمر (35) سنة, فهذا يعنى أن (عائشة) ولدت والنبى يبلغ (40) سنة , وهو بدء نزول الوحى عليه, ما يعنى أن عمر (عائشة) عند الهجرة كان يساوى عدد سنوات الدعوة الإسلامية فى مكة وهى (13) سنة, وليس (9) سنوات , وقد أوردت هذه الرواية فقط لبيان الاضطراب الشديد فى رواية البخارى .

نقد الرواية من كتب الحديث والسيرة :

1 - ذكر ( ابن كثير) فى ( البداية والنهاية ) عن الذين سبقوا بإسلامهم : « ومن النساء ... أسماء بنت أبى بكر وعائشة وهى صغيرة فكان إسلام هؤلاء فى ثلاث سنين ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يدعو فى خفية , ثم أمر الله عز وجل رسوله بإظهار الدعوة » , وبالطبع هذه الرواية تدل على أن (عائشة) قد أسلمت قبل أن يعلن الرسول الدعوة فى عام (4) من بدء البعثة النبوية , يما يوازى عام (614م) , ومعنى ذلك أنها آمنت على الأقل فى عام (3) أى عام (613م) , فلو أن (عائشة) على حسب رواية (البخارى) ولدت فى عام (4) من بدء الوحى , معنى ذلك أنها لم تكن على ظهر الأرض عند جهر النبى بالدعوة فى عام (4) من بدء الدعوة , أو أنها كانت رضيعة , وهذا ما يناقض كل الأدلة الواردة , ولكن الحساب السليم لعمرها يؤكد أنها ولدت فى عام (4) قبل بدء الوحى أى عام (606م) , ما يستتبع أن عمرها عند الجهر بالدعوة عام (614م) , يساوى (8) سنوات وهو ما يتفق مع الخط الزمنى الصحيح للأحداث, وينقض رواية البخارى .

2 - أخرج البخارى نفسه ( باب - جوار أبى بكر فى عهد النبى) أن (عائشة) قالت: «لم أعقل أبوى قط إلا وهما يدينان الدين ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله طرفى النهار بكرة وعشية ، فلما ابتلى المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا قِبَلَ الحبشة» , ولا أدرى كيف أخرج البخارى هذا , فـ (عائشة) تقول إنها لم تعقل أبويها إلا وهما يدينان الدين , وذلك قبل هجرة الحبشة كما ذكَرَت, وتقول إن النبى كان يأتى بيتهم كل يوم , وهو ما يبين أنها كانت عاقلة لهذه الزيارات , والمؤكد أن هجرة الحبشة، إجماعا بين كتب التاريخ كانت فى عام (5) من بدء البعثة النبوية ما يوازى عام (615م) , فلو صدقنا رواية البخارى أن عائشة ولدت عام (4) من بدء الدعوة عام (614م) , فهذا يعنى أنها كانت رضيعة عند هجرة الحبشة , فكيف يتفق ذلك مع جملة (لم أعقل أبوى) وكلمة أعقل لا تحتاج توضيحا , ولكن بالحساب الزمنى الصحيح تكون (عائشة) فى هذا الوقت تبلغ (4 قبل بدء الدعوة ، + 5 قبل هجرة الحبشة = 9 سنوات ) وهو العمر الحقيقى لها آنذاك .

 3 - أخرج الإمام (أحمد) فى (مسند عائشة) : « لما هلكت خديجة جاءت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون فقالت: يا رسول الله ألا تتزوج , قال : من ، قالت : إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا, قال: فمن البكر قالت: أحب خلق الله إليك عائشة ابنة أبى بكر» , وهنا يتبين أن (خولة بنت حكيم) عرضت البكر والثيب - المتزوجة سابقا - , على النبى فهل كانت تعرضهن على سبيل جاهزيتهن للزواج , أم على أن إحداهما طفلة يجب أن ينتظر النبى بلوغها النكاح , المؤكد من سياق الحديث أنها تعرضهن للزواج الحالى بدليل قولها (إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا) ولذلك لا يعقل أن تكون عائشة فى ذاك الوقت طفلة فى السادسة من عمرها , وتعرضها (خولة) للزواج بقولها (بكرا) .

 4 - أخرج الإمام (أحمد) أيضا عن (خولة بنت حكيم) حديثا طويلاً عن خطبة عائشة للرسول ، ولكن المهم فيه ما يلى : « قالت أم رومان : إن مطعم بن عدى قد ذكرها على ابنه, ووالله ما وعد أبو بكر وعدا قط فاخلفه ... لعلك مصبى صاحبنا » , والمعنى ببساطة أن (المطعم بن عدى) وكان كافرا قد خطب (عائشة) لابنه (جبير بن مطعم) قبل النبى الكريم , وكان ( أبو بكر) يريد ألا يخلف وعده , فذهب إليه فوجده يقول له لعلِّى إذا زوجت ابنى من (عائشة) يُصبى أى (يؤمن بدينك) , وهنا نتوقف مع نتائج مهمة جدا وهى: لا يمكن أن تكون (عائشة) مخطوبة قبل سن (6) سنوات لشاب كبير- لأنه حارب المسلمين فى بدر وأحد- يريد أن يتزوج مثل (جبير) , كما أنه من المستحيل أن يخطب (أبو بكر) ابنته لأحد المشركين وهم يؤذون المسلمين فى مكة , مما يدل على أن هذا كان وعدا بالخطبة , وذلك قبل بدء البعثة النبوية حيث كان الاثنان فى سن صغيرة ، وهو ما يؤكد أن (عائشة) ولدت قبل بدء البعثة النبوية يقينا .

 5 - أخرج البخارى فى ( باب – قوله : بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر) عن (عائشة) قالت: « لقد أنزل على محمد [ بمكة، وإنى جارية ألعب «بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ» , والمعلوم بلا خلاف أن سورة (القمر) نزلت بعد أربع سنوات من بدء الوحى بما يوازى (614م) , فلو صدقنا رواية البخارى تكون (عائشة) إما أنها لم تولد أو أنها رضيعة حديثة الولادة عند نزول السورة , ولكن (عائشة) تقول (كنت جارية ألعب) أى أنها طفلة تلعب , فكيف تكون لم تولد بعد ؟ ولكن الحساب المتوافق مع الأحداث يؤكد أن عمرها عام (4) من بدء الوحى، عند نزول السورة كان (8) سنوات ، كما بينا مرارا وهو ما يتفق مع كلمة (جارية ألعب) .

 6 - أخرج البخارى ( باب - لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاها) قال رسول الله : « لا تنكح البكر حتى تستأذن ، قالوا يا رسول الله وكيف إذنها قال أن تسكت » , فكيف يقول الرسول الكريم هذا ويفعل عكسه, فالحديث الذى أورده البخارى عن سن أم المؤمنين عند زواجها ينسب إليها أنها قالت كنت ألعب بالبنات - بالعرائس - ولم يسألها أحد عن إذنها فى الزواج من النبى, وكيف يسألها وهى طفلة صغيرة جداً لا تعى معنى الزواج , وحتى موافقتها فى هذه السن لا تنتج أثرا شرعيا لأنها موافقة من غير مكلف ولا بالغ ولا عاقل .

 نقد سند الرواية :

سأهتم هنا ببيان علل السند فى رواية البخارى فقط : جاء الحديث الذى ذكر فيه سن (أم المؤمنين) بخمس طرق وهى :

حدثنى فروة بن أبى المغراء : حدثنا على بن مسهر، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة .
حدثنى عبيد بن إسماعيل : حدثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن أبيه .
 حدثنا معلى بن أسد : حدثنا وهيب ، عن هشام بن عروة ، عن عائشة.
حدثنا محمد بن يوسف : حدثنا سفيان ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة .
 حدثنا قبيصة بن عقبة : حدثنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن عروة .

 وكما نرى ترجع كل الروايات لراو واحد وهو (عروة) الذى تفرد بالحديث عن أم المؤمنين (عائشة) وتفرد بروايته عنه ابنه (هشام) , وفى (هشام) تكمن المشكلة, حيث قال فيه (ابن حجر) فى (هدى السارى) و(التهذيب) : « وقال عبد الرحمن بن يوسف بن خراش : كان مالك لا يرضاه ، بلغنى أن مالكا نقم عليه حديثه لأهل العراق ، قدم – جاء - الكوفة ثلاث مرات ، قدمةً – مرة - كان يقول : حدثنى أبى ، قال سمعت عائشة ، وقدم – جاء - الثانية فكان يقول : أخبرنى أبى عن عائشة ، وقدم –جاء - الثالثة فكان يقول : « أبى عن عائشة » . والمعنى ببساطة أن (هشام بن عروة) كان صدوقا فى المدينة المنورة , ثم لما ذهب للعراق بدأ حفظه للحديث يسوء , وبدأ (يدلس) أى ينسب الحديث لغير راويه , ثم بدأ يقول (عن) أبى ، بدلا من (سمعت أو حدثنى ) , والمعنى أنه فى علم الحديث كلمة (سمعت) أو (حدثنى) هى أقوى من قول الراوى (عن فلان) , والحديث فى البخارى هكذا يقول فيه (هشام) عن (أبى) وليس ( سمعت أو حدثنى) , وهو ما يؤيد الشك فى سند الحديث , ثم النقطة الأهم أن الإمام (مالك) قال : إن حديث (هشام) بالعراق لا يقبل , فإذا طبقنا هذا على الحديث الذى أخرجه البخارى لوجدنا أنه محق , فالحديث لم يروه راو واحد من المدينة بل كلهم عراقيون ما يقطع أن (هشام بن عروة) قد رواه بالعراق , بعد أن ساء حفظه ولا يعقل أن يمكث (هشام) بالمدينة عمرا طويلا , ولا يذكر حديثا مثل هذا ولو مرة واحدة , لهذا فإننا لا نجد أى ذكر لعمر السيدة (عائشة) عند زواجها بالنبى فى كتاب (الموطأ) للإمام مالك , وهو الذى رأى وسمع (هشام بن عروة) مباشرة بالمدينة , فكفى بهاتين العلتين للشك فى سند الرواية فى البخارى، وذلك مع التأكيد على فساد متنها - نصها - الذى تأكد بالمقارنة التاريخية السابقة .

أما ابتناء الفقهاء والمحدثين وأولهم البخارى على هذا الحديث أوهاما من الأحكام عن زواج الصغيرات فهذه صفحة سوداء من صفحات التراث , سنؤجل المناقشة فيها إلى حين , والغريب أننا نجد الوهابيين يروجون مقولة ، إن البلاد الحارة تجعل البنت تبلغ باكرا وهى صغيرة , وهذا كلام البلهاء والسفهاء لأن البلاد الحارة وهى الجزيرة العربية ، مازالت حارة , بل إن الحرارة قد ازدادت أضعافا مضاعفة ، فلماذا لم نجد البنات تبلغ قبل أوانها فى السادسة أو حتى فى التاسعة , كما أن ذلك يتناقض مع الحقائق العلمية التى تؤكد عدم وجود دور يذكر للمناخ فى البلوغ المبكر .

 الخلاصة :

 أن السيدة عائشة تزوجت الرسول بعمر الـ (18) سنة على التقدير الصحيح , وليس (9) سنوات , وأن هذه الرواية التى أخرجها البخارى ببساطة رواية فاسدة النص ومرتابة السند , لأنها تخالف الشرع والعقل والأحاديث الصحيحة والعرف والذوق والعادة ، كما تخالف بشدة قصوى الخط الزمنى لأحداث البعثة النبوية , فلا يجب أن نجل البخارى ومسلم أكثر مما نجل الرسول الكريم , فلنا أن نقبل ما رفضوه وأن نرفض ما قبلوه , فالإسلام ليس حكرا على الفقهاء والمحدثين ولا على زمانهم فقط , لذا فإننا نستطيع وبكل أريحية أن نستدرك على كل كتب الحديث والفقه والسيرة والتفسير , وأن ننقدها ونرفض الكثير مما جاء بها من أوهام وخرافات لا تنتهى , فهذه الكتب فى النهاية محض تراث بشرى لا يجب ولا ينبغى أن يصبغ بالقدسية أو الإلهية أبدا, فنحن وأهل التراث فى البشرية على درجة سواء , لا يفضل أحدنا الآخر , فصواب أعمالهم لأنفسهم والأخطاء تقع علينا .





الأربعاء، 27 يوليو 2016

شيزوفرينيا الاخوان.. !!


شيزوفرينيا الاخوان .. !!

" الفصام أو ( الشييزوفرينيا  ( Schizophrenia)  ) ـ كما تعرفه الموسوهة الحرة على شبكة المعلومات ـ هو اضطراب نفسي يتسم بسلوك اجتماعي غير طبيعي وفشل في تمييز الواقع  " ..   
والاصل في الشخصية السوية أن يكون سلوك الفرد معبرا على السجية ( دون تكلف أو هروب ) عن الموروث الحضاري الذي يترسخ في شخصية الانسان منذ الطفولة الاولى فينشأ نشأة اجتماعية تعبر عن القيم الحضارية الراسخة في مجتمعه .. وهكذا يكون أي تعبير عن الانتماء يتعارض مع الفطرة الانسانية المتعارف عليها في اي مجتمع ، سلوكا مرضيا كثيرا ما يكون عائقا أمام تطوره حينما يكون واسع الانتشار ، بما يفتعله في واقع الناس من مشكلات وهمية تصرف أنظارهم عن مشاكلهم الحقيقية ..
وفي الواقع العربي تنتشر ظاهرة سلبية ذات طبيعة فصامية تحول الشعور بالانتماء من واقعه التاريخي المحسوس الذي ينمو داخل البناء الهيكلي للشخصية الى فكرة وهمية مقترنة بالقراءات التاريخية  والاسقاطات التي تجعل الولاء فوق حدود الواقع ، على غرار ما لمسناه من ردود الفعل الاخوانية التي عبر من خلالها اصحابها  ـ في أكثر من مناسبة ـ عن ولائهم للامة التركية أكثر من الأتراك أنفسهم معتمدين فقط على روابطهم الفكرية والتنظيمية بتنظيم الاخوان المسلمين .. ولكن يبقى السؤال مطروحا : الى أي مدى يتفق هذا الشعور مع شعور الاخوان الاتراك أنفسهم ..؟؟

وللاجابة عن هذا السؤال نتتبع علاقة الاتراك بواقعهم القومي ..

1 ـ الدستور :

يستهل الدستور التركي ديباجته التمهيدية ـ التي تقول مادته قبل الاخيرة بأنها جزءا منه ـ بالاشادة اللامتناهية بعظمة الامة التركية سموا وخلودا في اطار الوحدة القومية المقدسة التي بناها قائدها  أتاتورك ، حيث تقول الفقرة الأولى :
" مؤكدا على الوجود الابدي للوطن التركي والامة التركية والوحدة غير القابلة للانقسام لدولة تركيا السامية ، فان هذا الدستور متوافقا مع مفهوم الوطنية الذي طرحه مؤسس جمهورية تركيا ، أتاتورك ، القائد الخالد والبطل الفذ ، ومع اصلاحاته ومبادئه " ..
ولا اظن ان مواطنا عربيا حرا يقرأ ديباجة الدستور التركي وهو يعتقد أن تركيا تحركها الخلفية الاسلامية  ، ثم يبقى ـ بعد ذلك ـ على رأيه الا اذا كان غير موضوعي ( على الاقل ) حيث يمكنه ان يحصي في الفقرة التمهيدية وحدها تكرار العديد من الكلمات المتردفات المعبرة عن الكيان التركي الموحد " الامة التركية " أكثر من 15 مرة ، للدلالة على طبيعتها القومية ، مع التأكيد الصريح لفصل الدين ليس قانونا فحسب ، بل وتاريخا ايضا ، حيث نجد في الفقرة الخامسة من الديباجة توضيحا يقطع أي تأويل يمكن أن يفهم من الحديث عن القيم التاريخية والاخلاقية لتركيا بأنه اشارة الى الماضي الاسلامي ، مؤكدا بكل وضوح ـ باستعمال كلمة " تعني " ـ على انه ارتباط بالنزعة الحضارية لأتاتورك .. وهذا ما جاء في تلك الفقرة : 
" ... وأنه لا تمنح أي حماية لنشاط يضاد المصالح الوطنية التركية ، والوجود التركي ، ومبدأ عدم قابليتها للانقسام بدولتها وأراضيها ، والقيم التاريخية والاخلاقية التركية ، وتعني النزعة الوطنية ، والمبادء ، والاصلاحات ، والنزعة الحضارية لدى اتاتورك ، وأن المشاعر الدينية المقدسة لا تضمن في شؤون الدولة وسياستها كما يشترط مبدأ العلمانية " .
وهذا فيما يخص روح الدستور ، أما بالنسبة لبنوده الخاصة بشكل الدولة وطبيعة مؤسساتها ، فلا ينص الدستور التركي الا على اللغة التركية والانتماء الى قومية اتاتورك ، مؤكدا في مادة خاصة عن علمانية الدولة  ، وهو عكس ما نجده  في دساتير الدول الاسلامية التي تنص عادة الى جانب اللغة على أن الاسلام هو دين الدولة .
وهذه المواد الثلاثة الاولى المقفلة باحكام بواسطة المادة 4 ، وهي التي تؤكذ تأكيدا واضحا على طبيعة الدولة القومية والعلمانية :
" دولة تركيا دولة جمهورية " ( مادة 1 ) . " الجمهورية التركية جمهورية ديمقراطية علمانية اجتماعية ، تقوم على سيادة القانون ، في حدود مفاهيم السلم العام والتضامن الوطني والعدالة ، مع احترام حقوق الانسان والولاء لقومية أتاتورك ، وتقوم على المبادء الاساسية الواردة في الدباجة " ( مادة 2 ) . " دولة تركيا بامتها واراضيها ، كيان غير قابل للانقسام ولغتها هي اللغة التركية ..." ( مادة 3 ) . " لا يجوز تعديل أجكام المادة 1 من الدستور التي تحدد شكل الدولة ، وأحكام المادة 2 بشأن سمات الجمهورية ، وأحكام المادة 3 . ولا يجوز التقدم بمقترح لذلك " ( المادة 4 ) .
كما أن المتتبع لفصول ومبادئ الدستور التركي من ألفه الى يائه ، لا يجد اطلاقا كلمة " اسلام " ، بل هناك ـ كما اسلفنا ـ تنصيص صريح على علمانية الدولة وفقا للمبادئ التي ارساها أتاتورك ، حتى ان المادة التي تنص على آداء اليمين للنواب في البرلمان لا تتم وفق المبادئ الاسلامية ( القسم بالله ) :
المادة 81 :
" يحلف أعضاء الجمعية الوطنية الكبرى لتركيا عند توليهم لمهام مناصبهم اليمين التالية : أقسم بشرفي ونزاهتي أمام الأمة التركية العظيمة ، أن اصون وجود الدولة واستقلالها ، ووحدة البلاد والأمة التي لا تقبل التجزئة ، والسيادة المطلقة للأمة ، وأن احافظ مخلصا على سيادة القانون ، والجمهورية الديمقراطية العلمانية ، والمبادئ والاصلاحات التي أرساها اتاتورك ، والا احيد عن الهدف الذي يقضي بتمتع كل فرد بحقوق الانسان والحريات الاساسية ، في اطار السلام والرخاء في المجتمع ، والتضامن الوطني والعدالة والولاء الدستوري  " .
وفيما يخص رئاسة الشؤون الدينية تقول المادة 136 من الدستور التركي : 
" تقوم رئاسة الشؤون الدينية التابعة للادارة العامة ، بممارسة واجباتها المنصوص عليها في القانون المتعلق بها ، وفقا لمبادئ العلمانية ، على أن تنأى بنفسها عن جميع الآراء والأفكار السياسية ، وتهدف الى التضامن الوطني والوحدة الوطنية " .
هذا باختصار الدستور التركي الذي يؤكد فقط على خلفيته القومية ووجهه العلماني ...

2 ـ الصنم :

في تركيا أكثر من مائة صنم لاتاتورك ، موزعة على كل المدن والساحات الكبرى ، تأكيدا على ولاء الاتراك لامتهم وتاريخهم وابطالهم ..


                     تمثال أتاتورك وهو يبدّل الأبجدية العربية باللاتنية .





























































وفي تركيا أيضا الرئيس والوزراء وكل مؤسسات الدولة والشعب يحتفلون ـ ككل شعوب العالم ـ بالمناسبات القومية ، وكلهم وفاء واعتزاز بانتمائهم القومي ، المجسد في احتفائهم بالقادة التاريخيين والزعماء أمثال أتاتورك عندهم ..













استعراض عسكري في ساحة اتاتورك بمناسبة الاحتفال بعيد النصر .























    وضع أكاليل الزهور على ضريح أتاتورك .




وفي تركيا أخيرا وليس آخرا يفتتح أطفال المدارس أيامهم الدراسية بالنشيد الوطني التركي ، وبالقسم الأتاتوركي الفريد من نوعه :

" أنا تركي .. أنا أمين .. أعمل بجد ولدي مبدأ وهو أن أحمي صغيري وأحترم كبيري وأن أحب بلدي ووطني أكثر من نفسي . لدى حلم هو أن أكبر وأتقدم للأمام . أتاتورك العظيم ، أقسم لك أن أسير بلا توقف على الطريق الذي مهدته وللمبتغى الذي اخترته ، أملاً في أن يكون وجودي هدية للأتراك . سعيد هو من قال : أنا تركي " .

3 ـ بين الحقيقة والوهم :

باختصار ، في تركيا هناك حقيقة واحدة : الولاء للامة التركية ، تاريخا وحضارة ورموزا تاريخية ، ومستقبلا ومصالح .. تقابلها فئة واسعة من أمة العرب بالوهم : الولاء للتنظيم العالمي للاخوان المسلمين ، الذي يهمش انتماءهم لامتهم العربية ، ويضع علاقتهم بالاتراك في المرتبة الاولى .. محولين الحدث التركي اثر فشل الانقلاب الى دروس بالجملة ، كتعبير عن حقيقة السلوك الانفصامي في سلوك الاخوان ..
وراء هذا السلوك المرضي دوافع شتى تقوم كلها على الوهم .. ومنها اعتقاد الاخوان أن الاشادة المبالغ فيها باردغان وحزبه ـ وهم يصورون للناس " نجاحهم في تاركيا .." !! ـ  سيكون كافيا لستر فشلهم المحلي في أوطانهم حيث تواجههم شعوبهم بالسخت وخيبة الامل في كل مكان : من تونس الى مصر وليبيا واليمن وسوريا .. متناسين  أن مدح الشعب التركي وزعيم الاخوان الاتراك لن يفيدنا في شئ ، والواجب ـ بعد ابداء مشاعر الاعجاب والتعاطف ـ هو ولاء كل شعب لامته .
ومنها ايضا أن شعوبنا ليست في حاجة للدروس من احد ، لا في الديمقراطية وحقوق الانسان ، ولا في الولاء القومي والوطنية ، ولا في المسؤولية وغيرها ..
ففي الاولى نعرف ان الشورى ودستور المدينة تجارب عاشها مجتمعنا قبل ان يسمع بها الأتراك بعد الف عام ..
وفي الأخيرة قد رأينا أروع الدروس في تونس خلال الثورة حينما تحررت ارادة الناس ، فعادت الى مخزونها الحضاري النبيل : التعاون والتآزر والتآخي من خلال لجان الاحياء ، والى وعيها التاريخي : " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا " ، وراينا أعظم الملاحم : التحام الجيش بالشعب ، صعود المواطنين فوق الدبابات ، تبادل القبلات مع الجنود ، تقديم الورود ، تحية الجنود للشهداء .. وشاهدنا تقدير الناس للمصلحة الوطنية بعدم رفع الشعارات الخطية ، ووقوفهم صفا واحدا في وجه أعداء الثورة خلال اعتصامات القصبة ، حتى صارت تلك الأحداث ملحمة نضالية حقيقية أعطت الدروس للعالم كافة ... ولكن الاحزاب الفاسدة والمال السياسي هو الذي افسد كل شئ  .. 
من الواضح اذن ان فشل الاخوان في محطات كثيرة قد دفعهم لمزيد من الوهم الانفصامي والهروب مصورين ان ما يحدث هو دروس من الاخوان في تركيا ـ خاصة ـ لشعوبنا ـ عامة ـ غير مدركين أن الانقلاب كما قال السيد عبد الباري عطوان ـ هو درس لاردغان بالدرجة الاولى ، حيث وقف الشعب مع مصلحة الامة التركية وليس مع السلطة ، معتبرا أن فشل الانقلاب ساهمت فيه عدة أطراف ومنها المؤسسة العسكرية ذاتها ، وقد اعترف اردغان نفسه في خطاب العودة بهذه الحقيقة .. 
ثم ان الانقلاب ـ مهما ـ كان هو علامة فشل للسياسة التركية وليس العكس ، وبالتالي فهو درس للاخوان بالذات ، الذين يضعون علاقتهم بالتنظيم فوق علاقتهم بالأوطان ، فيبررون الرهان على فارس غير فارسهم .. وهو ما يدفعهم الى هذا المنطق الغريب : كل شئ حاصل في تركيا ، والشتيمة ، والاهانة راجعة على شعوبنا ..  !! غير مدركين أن هذه السياسة الممنهجة ، والمبالغة في تقزيم الذات لا تخلق الا وعي القطيع ..  


( القدس ) .

الأحد، 24 يوليو 2016

مفهوم الحرية في الإسلام .



مفهوم الحرية في الإسلام  .
الدكتور / محمد شحرور .

سأبدأ حديثي بالمقدمات الآتية :



أولاً – ثمة أمور عندي غير قابلة للنقاش ، منها الإيمان . فالإيمان بالله عندي تسليم وأنا مسلّم بوجود الله واليوم الآخر . وهذه مسلّمة. والمسلّمة هي أمر لا يمكن البرهان عليه علميا، كما لا يمكن دحضه علميا . ولهذا لا يجوز للملحد المنكر لوجود الله أن يقول : أنا ملحد لأن الإلحاد موقف علمي، ولا يجوز للمؤمن بوجود الله في المقابل أن يقول : أنا مؤمن لأن الإيمان موقف علمي . وعندي أن الإلحاد أو الإسلام خيار يختاره الشخص بنفسه ولنفسه . وغير قابل لأن يكون موقفاً إيديولوجياً لقيادة دولة أو مجتمع وفي هذا الخيار أنا من المسلمين .
ثانيا – الإيمان بأن محمدا عبد الله ورسوله، وبأن الكتاب الذي نزل عليه وحي موحى من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس . وهذا عندي أيضا إيمان تصديق أنا به مؤمن كشأن إيمان التسليم الذي أنا به مسلم. وبهذا أنا من المؤمنين أتباع الرسالة المحمدية .
ثالثا- الكتاب الموحى لا يعتبر دليلا علميا ، بل هو دليل إيماني . وعلى اتباع الرسالة المحمدية تقديم الدليل العلمي على صدقيته من خارجه . ولو كان القرآن دليلا علميا، لكفى أن نقول لأي إنسان قال الله تعالى كذا وكذا فيقبله . ومن هنا فان على اتباع الرسالة المحمدية عندما يخاطبون العالم أن يقدموا الدليل على صدقية ما ورد في المصحف من خارجه وليس منه . فالعقل كالمظلة لا يعمل إلا مفتوحا ، فإذا أغلق توقف عن العمل ، وتسبب في قتل صاحبه . وعلينا أن نفتح عقولنا حتى لا نموت . لكن الثقافة العربية الإسلامية الحالية ثقافة تقليدية تراثية نفتح الكتب والتلفزيونات والبرامج الثقافية ، فنجد الثقافة العربية الإسلامية تعيد إنتاج نفسها ، وتكرر نفسها . لماذا ؟ لأنها ثقافة تقوم على القياس ولا تقوم على الإبداع ، ونحن نحتاج إلى إبداع وليس إلى قياس . وهي بهذا الآن عاجزة عن إنتاج المعرفة .
نأتي الآن إلى المفاهيم والقيم. القيمة الأولى هي الحرية ، والقيمة الثانية هي العدالة. هاتان القيمتان كامنتان وراء كل الثورات الكبرى في العالم، السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية . فحتى في الثورات ذات الجانب الدنيوي نجد هاتين القيمتين الحرية والعدالة . ثورة أكتوبر الشيوعية قامت من اجل العدالة قبل أن تقوم من اجل الحرية ، وأعلنت صراحة أنها ديكتاتورية . وثورة الزنج قامت من اجل الحرية قبل أن تقوم من اجل العدالة . وهناك ثورات قامت من اجل الاثنتين معا .
من الناحية النظرية ، أين نجد مفاهيم الحرية والعدالة في تاريخنا العربي الإسلامي ، وأين نرى هذين المفهومين في كتاب الله الموحى وفي سنة نبيه محمد (ص) . وكيف مورس هذان المفهومان في تاريخنا العربي الإسلامي .
الحرية حتى هذه الساعة وعلى مر عصور التاريخ ليس لها وجود في الوعي الجمعي العربي والإسلامي . هناك سببان :
الأول معرفي بحت ، والثاني سياسي . فالسبب المعرفي هو أن كلمة الحرية لم ترد في كتاب الله إطلاقاً ، بل كل ما ورد في كتاب الله عن الحرية هو أنها ضد الرق . فقد ورد مصطلح ( تحرير رقبة ) خمس مرات في سور النساء والمائدة والمجادلة ، وورد في سورة البقرة (178) مرة واحدة { كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد } . وما عدا ذلك فلا نجد لكلمة الحرية ومشتقاتها أي وجود في التنزيل الحكيم .
وإذا انتقلنا إلى الحديث النبوي فنجد فيه كلمة العتق وهو معنى مقابل للرق ، ولا نجد أي شيء عن الحرية ، بل نجد فيه عكس ذلك كحديث حذيفة بن اليمان الذي يقول في آخره ( اسمع وأطع الأمير ولو ضرب ظهرك وأخذ مالك } (مسلم 3435 – العالمية CD) ، وقوله : ( اسمعوا وأطيعوا ولو ولّيَ عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ) ( البخاري 7142 ) وقوله : ( من بدّل دينه فاقتلوه ) (البخاري 6411 – العالمية ) وقوله : (عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرةٍ عليك ) ( مسلم 1836 ) وذلك يتعارض عمودياً مع حرية الاختيار .
والأدبيات الإسلامية التراثية وضعت طاعة أولي الأمر مع طاعة الله والرسول. وأبرزت مفهوماً تاريخياً مشوهاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهكذا نجد أن الجانب المعرفي للحرية مفقود في الأدبيات مما يؤكد أن الحرية كقيمة ضعيفة في الوجدان العربي الإسلامي ، هذا إذا كانت موجودة في الأصل . وهذا يؤكد أننا بحاجة إلى إبداع نظري حديث لتأصيل الحرية في هذا الوجدان ، لأن الحرية في أدبياتنا التراثية لم ترد إلا بمعناها ضد الرق فقط، ولم تتحدث أبداً عن الحريات الاجتماعية والسياسية وما شابه ذلك . وهو السبب الأول الذي تم فيه ترسيخ مفاهيم الاستبداد، والمؤسسة الوحيدة التي وصلتنا سالمة تاريخياً هي مؤسسة الاستبداد وعلى رأسها الاستبداد السياسي ( فرعون ) يتبعها مؤسسة الاستبداد الديني ( هامان ) .
أما العدالة فلها وضع آخر : فقد ورد الظلم مع مشتقاته في كتاب الله أكثر من ثلاثمائة مرة . والعدل الذي هو ضد الظلم ( ويعرف الظلم بأنه وضع الشيء في غير محله ) فهو موجود بشدة في الوجدان العربي الإسلامي .
وإذا قيل عن إنسان انه عادل منصف أعجبنا ولم نسأل عن القيم الأخرى فيه . حتى عمر بن الخطاب أمير المؤمنين استعمل لفظ الحرية في موقع المساواة والعدالة حين قال عبارته المشهورة في حادثة القبطي مع ابن عمرو بن العاص “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا” . قد يقول قائل : انه يذكر الاستعباد والأحرار . أقول : نعم ، لكنه لم يكن يعني الرق ونقيضه . كان لا يعني العدل في المساواة بين العبد والحر ، بل المساواة بين الحر والحر. والدليل أن الرق كان نظاما متبعا أيام عمر، وكان العبد يباع ويشترى ويؤجَّر ، ولم يفعل عمر شيئا من اجل إلغائه. ولو كان يعني بعبارته الحرية لفعل شيئاً من اجل الرق، لكنه لم يتدخل .
ولكن ما الذي حصل بعدها ؟ الذي حصل أننا من اجل العدالة قبلنا بعصا عمر، ومات عمر ، وبقيت العصا . لا بل كبرت وغلظت . وصرنا نقرأ عن الرشيد أو المأمون انه كان ينزل متنكراً ليتفقد أحوال الرعية ، فنمدحه ونترحّم عليه دون أن نسأل كم من المساجين كان في سجونه . صرنا نمدح الحجاج لأنه نقّط القرآن ، وننسى انه كان في سجونه حين مات – بحسب رواية الأصمعي – اكثر من 66 ألف سجين . قبلنا ذلك كله لأن مفهوم العدالة هو المسيطر على رؤوسنا، قبلناه إلى حد أننا اخترعنا مفهوما جديدا هو مفهوم المستبد العادل ، ومع ذلك كان هناك تجاوز للعدالة . فنحن حين ننظر في الإسلام التاريخي وفي أدبياته الفقهية التطبيقية ، نجد أن مفهوم العدالة قد حل محله مفهوم المستبد العادل ، وان الحاكم لا يعزل وإن جار أو ظلم. ولا يعزل حتى إن فسق أو أصيب بالجنون، لا يعزل ويحكم مدى الحياة . هكذا تبدو الحرية والعدالة في وعينا الجمعي وفي الكتب التي ما زالت تطبع حتى اليوم ونقبلها . ما زلنا نصفق للحاكم الذي يتنكر وينزل كي يتفقد أحوال الرعية ، مع أنه لم يبق الآن ما يدعوه إلى التنكر بوجود مؤسسات مجتمع مدني وأهلي تقوم بهذا الدور .
ننتقل الآن لبيان الأساس النظري لمفهوم الحرية كما ورد في كتاب الله تعالى ، وهل من المعقول أن الله سبحانه وتعالى لم يذكر هذه القيمة العظيمة ولم يهتم به ، ثم لنشرح بعده مفهوم الردة لما له من علاقة مباشرة بمفهوم الحرية . ففي كتاب الله مصطلحان : الأول هو العباد والثاني هو العبيد . فما الفرق بين العباد والعبيد ؟ لقد ورد المصطلحان في كتاب الله ، فهل نحن عباد الله أم عبيد الله ؟ هذا هو السؤال . والجواب إن الناس هم عباد وليسوا عبيداً في كتاب الله تعالى .
لقد جاء المصطلحان من اصل ثلاثي هو “ ع ، ب ، د ” وهو من ألفاظ الأضداد في اللسان العربي التي تعني الشيء وضده معاً . وفعل ( عَبَد )َ يعني أطاع كما يعني عصى في الوقت نفسه . أي أن العبادية تعني الطاعة والمعصية . وقد ورد هذا المصطلح بمعنييه في كتاب الله تعالى. فقال تعالى بمعنى الطاعة { إياك نعبد وإياك نستعين } (الفاتحة 5) . وقال تعالى بمعنى المعصية { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله …} ( الزمر 53 ) . وقال : { قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين } ( الزخرف 81 ) . وقال تعالى بمعنى الطاعة والمعصية معاً { نبّئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم } ( الحجر 49 ) . وقال : { والنخل باسقات لها طلع نضيد، رزقاً للعباد } (ق،10 11). وقال : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } ( الذاريات 56 ) . أي ليكونوا عباداً يطيعون ويعصون بملء إرادتهم واختيارهم . وليس كما يقول السادة العلماء أنه خلقهم ليصلوا ويصوموا ويكونوا عبيداً. فالعبودية غير مطلوبة أصلا . والله سبحانه لم يطلب من الناس أن يكونوا عبيداً له في الحياة الدنيا ، بل خلقهم ليكونوا عباداً ، فيهم من يطيع فيصوم ويصلي ، وفيهم يعصى فلا يصوم ولا يصلي .
إن حرية الاختيار التي يجسدها مصطلح العبادية هي كلمة الله العليا التي سبقت لأهل الأرض ، وقامت عليها حكمة الخلق بالأساس ، في قوله تعالى : { ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم …} ( يونس 19 وهود 110 وطه 129 وفصّلت 45 والشورى 14) . ولهذا فحين نكره الناس على الإيمان أو نكرههم على الإلحاد تكون كلمة الله هي السفلى . ولهذا أيضا أمر رسول الله صلوات الله عليه بالجهاد من اجل أن تكون كلمة الله هي العليا . ولكن عندما يُكره الناس على الصلاة ولو في المسجد الحرام تصبح كلمة الله هي السفلى . وعندما نُكره النساء على الحجاب كما في أفغانستان أو نكرههن على نزع الحجاب تصبح كلمة الله هي السفلى . القضية إذن قضية “ لا إكراه في الدين” وقضية حرية اختيار، لولاها لما بقي معنى ليوم الحساب ولا للثواب والعقاب . وتبين أن الحرية هي غاية الخلق في كتاب الله  .
ننتقل الآن إلى المصطلح الثاني في كتاب الله تعالى وهو العبيد . لقد ورد هذا المصطلح في القرآن خمس مرات . { وأن الله ليس بظلام للعبيد } ( آل عمران 182 والأنفال 51 والحج 10) ، { وما ربك بظلاّم للعبيد } ( فصّلت  46) ، { وما أنا بظلام للعبيد } (ق 29) . ونلاحظ أنها وردت كلها في مجال اليوم الآخر . لماذا؟ لأننا في اليوم الآخر عبيد ليس لنا من الأمر شيء . ولأننا في اليوم الآخر عبيد ليس لنا رأي ولا يحق لنا أن نتكلم أصلا . في الحياة الدنيا يؤمن الناس أو يلحدون يطيعون أو يعصون لأنهم عباد ، أما في اليوم الآخر فلا وجود لحرية الاختيار ، في اليوم الآخر هناك سَوْق . مثل السوق القسري إلى خدمة العلم. فيساق العصاة إلى النار تماماً مثلما يساق الطامعون إلى الجنة . يقول تعالى { وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا } (الزمر 71) ، { وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا } ( الزمر 73 ) . ونفهم من هذا كله أن الناس عباد الله في الدنيا وعبيد الله في اليوم الآخر . كما يتضح لنا بكل جلاء أن مفهوم الحرية في كتاب الله تعالى سبق مفهوم العدالة ، بدليل ورود الظلم مقرونا بالعبيد في الآيات الخمس. لماذا؟ لأن العبد المملوك لا يستطيع أن يقيم العدالة ، ومن هنا اقترن الظلم بالعبودية . أما العباد الأحرار فلا حاجة لتذكيرهم بالعدالة لأنهم يستطيعون أن يقيموها بأنفسهم باعتبارهم أحرارا. وحين يملك المرء حرية الاختيار ويرتفع عنه سيف الإكراه يصبح قادرا على تحقيق العدالة وصنعها. وهنا أذكر أن لفظ العبد والأمه في كتاب الله لا تعني الرق، والتي هي مفرد عباد، أما مفرد عبيد فهي العبد المملوك كما ورد في قوله تعالى: {ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء} (النحل) .
ننتقل الآن لننظر كيف اخذ الفقه الإسلامي التاريخي بالحرية والعدالة في مسألة الردة. إنما علينا أولا أن نميز ونحن نتحدث عن الردة بين نوعين : الردة السياسية ، والردة العقائدية . فالردة السياسية هي محاولة خروج على الحكم للاستيلاء عليه . ففي بريطانيا مثلا، إذا أراد إنسان أن يصبح حاكما ورئيس وزراء فكيف يتصرف ؟ انه ينتسب لحزب في بريطانيا ثم يسعى ليصل إلى رئاسة الحزب ثم لينتصر الحزب في الانتخابات … هذا هو الطريق. لكن الأمر مع الرسول (ص) مختلف . فقد بدأ نبيا ورسولا وانتهى مؤسسا لدولة مركزية في الجزيرة العربية عاصمتها المدينة المنورة . فترسخ في الوعي السياسي لدى الناس أن أي إنسان يريد أن يصبح له دور سياسي أو أن يصبح رئيس دولة يجب أن يدعي النبوة . أول من فعل ذلك في العصر النبوي هو الأسود العنسي فأمر الرسول بقتله . وعندما قام مسيلمة الكذاب وادعى النبوة ورفض أداء الزكاة للخليفة أبي بكر ، كان هناك موقفان: موقف أبي بكر وهو موقف اقتصادي سياسي ، وموقف عمر وهو موقف ديني يضمن حرية التصرف والممارسة . وقد انتصر وقتها موقف أبي بكر نظرا إلى أن الزكاة كانت الدخل المالي الوحيد للدولة . أما اليوم بعد اعتماد الأنظمة الضريبية من قبل الدولة فقد رجح عمليا موقف عمر ، إذ لا يتم الآن دفع الزكاة للدولة بل يصرفها أصحابها بأنفسهم علي مستحقيها . ولكن لو جاء أهل الإسكندرية الآن ورفضوا أداء الضرائب المحصلة للدولة المركزية ، فمعنى ذلك انهم انفصلوا عن الدولة. وهذه هي الردة السياسية .
والردة السياسية ليست حكرا على المجتمعات العربية والإسلامية ، فنحن لسنا بدعة من الناس . فأكبر الحروب التي جرت في أميركا بين الشمال والجنوب هي حروب انفصال وردة سياسية .
أما الردة العقائدية ، فمثالها أن يقول إنسان مسلم : أريد أن أصبح مسيحيا، أو بوذيا ، أو أن يقول إنسان مسيحي : أريد أن اصبح مسلما أو يهوديا . وحكم هذا الإنسان في الإسلام التاريخي القتل . لماذا يقتلونه ؟ ثمة من يقول: هناك حديث نبوي “من بدّل دينه فاقتلوه ”. ونحن نقول ، إذا كان الله سبحانه يقول : { من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } (الكهف 29) ويقول : { لا إكراه في الدين } (البقرة 256) ويقول لنبيه : { إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر } (الغاشية 22) فكيف يستقيم أن يأمر النبي بقتل المرتد ؟ مع العلم أن هناك من ارتد عن الإيمان بالمفهوم العقائدي ولم يتصرف الرسول حيالهم بأية إجراءات . وثمة من يقول: أنت دخلت في الإسلام طوعاً ولم يجبرك أحد ولهذا لا تستطيع الخروج الآن . ونحن نقول: إن معظم المسلمين دخل في الإسلام في شكل آلي لا طوعا ولا كرها، ولدوا من أبوين مسلمين فكانوا مسلمين ولو ولدوا في بلاد البوذية لكانوا بوذيين .
إنني ألوم من يطالب بالإصلاح السياسي بدون إصلاح ديني . وهذا أمر صعب جداً . فلا يمكن (حسب رأيي) أن يكون هناك إصلاح سياسي منفصل عن الإصلاح الديني ، فالعقلية التقليدية الموجودة عند الناس لا تهتم بأي إصلاح سياسي . سأعطي مثالا : هناك أبواب في الفقه الإسلامي التاريخي تحتاج إلى تغيير، منها باب سد الذرائع . وهو باب حسب المعنى السياسي يعني حالة الطوارئ والأحكام العرفية . مثلا : إذا خرجت امرأة إلى الطريق فيجب أن تلبس خيمة سوداء لأننا نخشى أن يقول لها رجل مرحبا . ولا يجوز أن تتعطر وإلا اعتبرت زانية، والأفضل للنساء أن ( يقرن في بيوتهن ) فلا يخرجن أبدا . باب آخر هو باب درء المفاسد خير من جلب المنافع . وهذا الباب حوّلنا إلى جبناء وبلداء وكسالى انحصرت علاقتنا بالدولة والحياة إلى درء مفاسد دون جرّ منافع ، رغم أن قانون الوجود قائم على المفاسد والمنافع معاً ، على الخير والشر معاً ، ونفي أحدهما يعني نفي الآخر حتماً. يقول تعالى { كل نفس ذائقة الموت، ونبلوكم بالشر والخير فتنة ، والينا ترجعون } (الأنبياء 35) . باب ثالث هو “ كل قرض جر منفعة فهو ربا ” تشددوا فيه بتعريف “ المنفعة ” وبالغوا بتوسيع حدود “الربا” ، وقرنوه بقواعد أخرى في تبديل الذهب بالذهب والفضة بالفضة والقمح بالقمح، حتى صارت المعاملات في الأسواق التجارية بالغة الصعوبة والتعقيد . ونسوا أن المنفعة هي أساس العلاقة بين كل أفراد المجتمع الإنساني أفراداً وجماعات ودولاً ، حتى أن العلاقة مع الله قائمة على المنفعة . ومع ذلك نسمع خطباء الجمعة على المنابر ، يتشدقون بأن الرسول (ص) مات ودرعه مرهونة عند يهودي . ونستغرب ونحن نتساءل: “أليس هذا إن صح أمرا معيباً ، وفي الأمة عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وعمرو بن العاص وغيرهم من مليونيرات قريش ؟ ثم نتساءل: كم كان مقدار الفائدة التي تقاضاها هذا اليهودي ؟ فالتاريخ لم يسمع من قبل بيهودي يقرض أعداءه اللدودين قرضاً حسناً . باب رابع هو باب التساهل في رواية الأحاديث الضعيفة في مجال الترغيب والترهيب . باب خامس خطير ومهم هو باب الشورى . قال تعالى آمراً نبيّه الكريم { وشاورهم في الأمر } ( آل عمران 159) . ثم قرن الشورى مع الصلاة ليدل على أهميتها في قوله تعالى: {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون } (الشورى 38) . ومع ذلك جعلوا الشورى للحاكم العادل الفقيه معلمة غير ملزمة ، أي أنهم حولوه إلى ديكتاتور ، ليس في الشرع ما يلزمه بآراء الآخرين . وهذا ما نراه في بعض الدول العربية في وضع مجالس الشورى . وإذا نظرنا إلى الشورى من الناحية التاريخية فهي فقيرة جداً وليس لها مؤسسات ، ومن المجحف الآن مقارنة الديموقراطية بالشورى ، لأن الديموقراطية لها تاريخ ومؤسسات ، والشورى ليست كذلك ، إلا إذا اعتبرنا أن الشورى قيمة تحتاج إلى مؤسسات حديثة . باب آخر هو باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو ما نعرفه اليوم باسم محاربة الفساد .
هذه المهمة الخطيرة وضعوها بيد الحاكم واسندوها إلى الدولة . في الوقت الذي يعلم الجميع أن الدولة بما لديها من أموال وجيش وأمن وشرطة وسلطة هي الأحوج من غيرها لأن تؤمر بالمعروف وتنهى عن المنكر . ثم مسخوا مسألة الفساد والنهي عن المنكر إلى حدود مضحكة . يقول أحد الدعاة الإسلاميين في كتاب له صدر بعد خروجه من السجن “ كنا نتدرب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الجامعة ، فإذا رأينا أحدهم يقف مع فتاة، استوقفناه . فإن كانت أخته تركناه، وان لم تكن سألناه لماذا يقف معها ونهيناه عن المنكر”. في بعض الدول العربية الإسلامية يساق الناس إلى الصلاة في الأسواق بالعصا تحت عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
إن غياب الوعي بمفاهيم الحرية ووضع الدين في خدمة السياسة كما هي الحال في جميع بلدان العالم الإسلامي، وتخلف الوعي بدور مؤسسات المجتمع المدني في الشورى ، والتشريعات الفقهية التراثية التي لا مكان فيها لآراء الناس ولا لمصالحهم، هو السبب الكامن وراء ظهور الأصولية الإسلامية السياسية اليوم والحركات المتطرفة التي تتطلع إلى الاستيلاء على الدين والحكم معا . أي دمج المؤسستين الدينية والسياسية في مؤسسة واحدة .
نحن أخيرا بحاجة إلى إصلاح سياسي، وإلى مؤسسات مجتمع مدني، فمجالس الشعب والأحزاب والنقابات والاتحادات والمنتديات والصحف موجودة وتحتاج إلى تفعيل ويمكن تفعليها بإصلاح فكري وديني وثقافي . وإلى خلق الإبداع المتجدد، لتفعيل ما عندنا من مؤسسات موجودة . وأهم هذا التفعيل هو خلق وتفعيل مؤسسات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهذا الخلق لا يكون إلا بالمعارضة السلمية والتي يقف على رأسها الأحزاب السياسية يليها النقابات المهنية وباقي مؤسسات المجتمع المدني. فالدولة هي المؤسسة القابلة للفساد فهي تحتاج لأن تُؤمر بالمعروف وتُنهى عن المنكر . وخير آلية توصل إليها الإنسان للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي المعارضة السياسية وحرية الصحافة وحرية التظاهر السلمي والتعبير عن الرأي . وفي هذا المفهوم، المعارضة وحرية الصحافة هي جزء أساسي من الممارسة الإسلامية وهي تمارس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان . والدولة الديموقراطية بمؤسساتها المختلفة تمارس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد ، أي أنه إن وجدت الدولة مؤسسة خاصة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي فرع إضافي للأمن . من هذا المفهوم لا يوجد حزب إسلامي وآخر غير إسلامي ، أي أن أية جهة ترفض المعارضة وحرية الصحافة وتداول السلطة هي جهة تقف ضد الإسلام كثقافة ومفهوم الحزب الإسلامي هنا لا معنى له . فإذا كان الحزب الإسلامي في السلطة ، فهل أحزاب المعارضة لا إسلامية . أي أن علاقة السياسي بشعبه تقوم على المثل العليا الإسلامية التي هي إنسانية شمولية .
أي علينا أن نفصل بين الديني والسياسي، كما على الحركات القومية اليسارية أن تفصل بين الوطني والسياسي . فإذا أردنا أن نصل بين الدين والسياسة وأخذنا الجانب السياسي في التاريخ الإسلامي نجد فيه الاغتيالات والسجون والحرب الأهلية والسم وقطع الرؤوس مع مؤسسة استبدادية عريقة بقيت على قيد الحياة حتى يومنا هذا. وهكذا نرى أن الدولة العلمانية الديموقراطية هي أحسن دولة يستطيع فيها الإسلام أن يظهر وجهه الحضاري الإنساني .
أما أسس الإصلاح الديني فهي تقوم على الأسس التالية :
1 – تبني نظام معرفي جديد نتعامل معه مع الكتاب والسنة ، أي أننا بحاجة إلى قطيعة معرفية مع التراث ، لا قطيعة تاريخية. ضمن هذا النظام نعيد النظر في كل آيات الأحكام ، وبالذات أحكام القتال الواردة في سورة التوبة والأنفال ومحمد. ونميز بين النص التاريخي وتاريخية النص . ومثال على النص التاريخي ، القصص القرآني (مثال قصة يوسف) فتؤخذ منه مواعظ وقوانين تاريخية ، ولا تؤخذ منه أحكام شرعية . ومثال على تاريخية النص (علم المواريث – علم الفراض) فآيات الإرث في سورة النساء ليست نصاً تاريخياً وهذا العلم الذي هو من صنع الفقهاء يحمل الصفة التاريخية وضعه النظام المعرفي المستعمل آنذاك . فما علينا إلا إعادة قراءة هذه الآيات بنظام معرفي جديد لينتج لدينا علم مواريث جديد . أي أنه لا يمكن أن يكون هناك أي تجديد بدون أن يكون هناك اختراقات للثوابت التاريخية للإسلام والتي وضعت من قبل الناس .
2 – على ضوء هذه المنظومة نعيد النظر بمركبات الأحكام الفقهية وهي الواجب والمحرم والحلال والمندوب والمكروه . علينا إيجاد تصنيف جديد وتعريف جديد لهذه المركبات وخاصة المحرم على أساس أن الحلال لا يحتاج إلى أي بينات أو براهين. وعلى هذه المنظومة تخليص الناس من الشعور بالذنب صباح مساء .
3 – إعادة النظر في أسس الفقه الإسلامي وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس . وتقديم تعاريف جديدة لهذه المصطلحات الأربعة وخاصة السنة والإجماع والقياس . وإعادة تعريفها يسمح بوجود برلمانات وانتخابات وتعددية .
4 – إعادة النظر في أركان الإسلام والإيمان وتحويل الخطاب الإسلامي إلى خطاب عالمي .
5 – يجب أن لا ننسى أن أسس الفقه الإسلامي وكل هذه التقسيمات تم وضع أسسها في العهد الأموي ودونت واكتملت في العصر العباسي ، أي أنها تقسيمات تاريخية غير مقدسة .
6 – إلغاء بنود كاملة من الفقه الإسلامي كالقيود التي وردت سابقاً . (مثال باب سد الذرائع وغيرها) .
7 – إنشاء فلسفة إسلامية معاصرة وعلم لاهوت إسلامي معاصر (علم كلام معاصر) قائم على أساس أن العمر غير مكتوب والأرزاق غير مقسومة وتضيق وتتسع وأن الأعمار تطول وتقصر . وأن كلمة الله التي سبقت للناس جميعاً هي حرية الاختيار .
8 – إنشاء نظرية في السلطة وفقه دستوري حيث لا يوجد في الإسلام التاريخي فقه دستوري وعلاقة السلطة بالناس على أساس العقد الاجتماعي ، وأن تعيين السلطان ليس من مهام الله، وإنما هو من مهام الإنسان . وأن الدعاء ( اللهم ولِّ علينا خيارنا ولا تولِّ علينا شرارنا ) ليس له معنى .
9 – ترسيخ قيمة الحياة عند الناس لأن رجال الدين خلال قرون نجحوا في إقناع الناس بالنظر إلى الحياة نظرة ازدراء . واستعمل نهاية الحديث (يصيبكم الله بالوهن، قالوا ما الوهن يا رسول الله ؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت) (مسند أحمد 21363) .
فكل إنسان يحب الحياة ويكره الموت عليه أن يشعر بالذنب. فأصبحنا لا نستغرب القتل الجماعي والمجازر كما لو أنها في وجداننا . وفي حقل الإصلاح الديني الثقافي الدولة هي أضعف حلقة هي في مواجهة المؤسسة الدينية والمجتمع قبل مواجهة الدولة .
وأختم كلامي هذا بالمقولة التاريخية التي تقول (سلطان تخافه الرعية خير للرعية من سلطان يخافها) ورسخت هذه المقولة في وعينا الجمعي . ولكي نبدأ بالإصلاح الديموقراطي في وعي الناس علينا أن نقلب هذه المقولة بشكل تصبح فيه (سلطان يخاف من الرعية خير للرعية من سلطان تخافه) وهذا هو عمل كل الديموقراطيات في العالم حيث السلطان يخاف من الرعية. وعلينا أن نسير تجاه هذا الهدف ونجعله جزءاً من عقيدتنا ووجداننا . وأريد أن أؤكد أن تقديس الحرية ووعي الناس لقيمتها لا يأتي بالقوة ولا يفرض ، وإنما ينتج عن إصلاح ثقافي ديني . وإن فكرة الديموقراطية بالقوة لا تختلف بالمحتوى عن فكرة المستبد العادل .
والحمد لله رب العالمين .
تشرين أول 2004