حين تكون قوميا تقدميا ..
رضا لاغة .
ينطلق عصمت سيف الدولة من واقع تاريخي موضوعي يتمحور حول التحذير من مخاطر
المنهج التجريبي ، وهي حقيقة تبدو جلية منذ هزيمة يونيو 1967 . إن هذا الواقعة
التاريخية تشكّل صدمة في مسيرة النضال القومي ، لذلك يجب أن نستلهم منها الدروس ؛
فمن يريد أن يشتغل بالمستقبل العربي عليه أن ينطلق من " مسلمة أولى هي ضرورة
النظرية " . غير أن الكاتب يستدرك بالقول أن مفهوم النظرية ينطوي على دلالة
مضللة علميا و تاريخيا . ففي المجال العلمي يحيل هذا المفهوم إلى نظريات شتى ،
منها ما هو اقتصادي ( نظرية القيمة ...) أم قانوني ( نظرية فصل السلطات) أو هندسي
( نظرية إقليدس) . أما في المجال التاريخي ، ينطلق الكاتب من تقييم الحاصل المعرفي
الذي ميز حقبة ما بعد الحرب الباردة التي اصطبغت بلون الماركسية " كنموذج
لنظرية النضال الثوري في المجتمعات المختلفة " . إن هذا المعطى الثاني (
التاريخي ) مثّل إحراجا للشباب العربي ، فمن جهة هم مخلصون في خدمة النضال العربي
و لكنهم ، وربما للسبب ذاته ، يجدون أنفسهم بين وضعيتين : إما أن يتأثروا سلبيا
بالفكر الماركسي أو أن ينساقوا وراء نقده ؛ و" لو أتعبوا
أنفسهم أكثر في الإحاطة بالفكر الماركسي واستيعابه لتبيّنوا بيسر أن ما يسمونه
النظرية الماركسية غير قائم إلا في أذهانهم " .
يبدو أن النظر في التراث الماركسي يفرز فكرة التعامل مع نظريات ، من حيث
ارتباط معنى الماركسية بالتجربة الثورية التي تشكلت على أساسها ، لذلك كان سياق
الفهم يختلف من ماركس إلى لينين مثلا .إن فاعلية التأويل هنا لا تخضع لمنهجية
معينة صرفة ولكنها مرتبطة بموجّه أساسي يكون فيها قائد التجربة معيار الترجيح و
مصدر الفهم الداخلي لنسق تطور الإيديولوجية . إن مضمون هذا التغيير الذي طرأ على
الماركسية تاريخيا هو ذاته ما كان ليحدث لو لا عمل الإنسان . فهل نستطيع بعد
التسليم بهذه الحقيقة : " إن التغيير غير قابل للتحقق تلقائيا بدون عمل
الإنسان" ، أن نتحرر من شرط المعرفة المسبقة بالقوانين العلمية التي تحكم
الظواهر؟
يحاول عصمت سيف الدولة ، في اجتهاده ، استيضاح بداهة الإجابة من خلال عنصر
الزمان باعتباره " أوّل و أخطر شروط التغيير" ، فما " دمنا نبدأ من
الواقع لتغييره في المستقبل ، فإن إمكان هذا التغيير لا يكون متوقفا على مجرد
إرادتنا و علمنا ــ بل قبل الإرادة و العمل ــ على ما إذا كانت الأشياء والظواهر
التي يتكوّن منها الواقع منضبطة في حركتها من الماضي إلى المستقبل بقوانين أو
نواميس حتمية أم لا "
إن هذا المعطى يمثّل شرط لإمكان تغيير الواقع ، و ليس سببا ، و هذا ما لم تتفطن له الماركسية كتصور يقوم على نزعة إدماجية قاسية للإنسان لا تترك له أي قدر من التمايز مع سائر الظواهر ، بينما يقتضي المنهج الاعتراف بكونه هو من ينتج التطور وفق فهم جدلي للواقع . فأين تتجلى درجة العلمية في المنهج ؟
إن هذا المعطى يمثّل شرط لإمكان تغيير الواقع ، و ليس سببا ، و هذا ما لم تتفطن له الماركسية كتصور يقوم على نزعة إدماجية قاسية للإنسان لا تترك له أي قدر من التمايز مع سائر الظواهر ، بينما يقتضي المنهج الاعتراف بكونه هو من ينتج التطور وفق فهم جدلي للواقع . فأين تتجلى درجة العلمية في المنهج ؟
يجيب عصمت سيف الدولة بــ" أن انتصارنا في تغيير الواقع إلى ما نريد
متوقف على مدى علمنا بالقوانين الناظمة للوجود و تسخيرها وظيفيا لصالحنا. إن
الإنسانية وهي تعيد أحداث انتصاراتها على الطبيعة تراكم فهمها العلمي وفق مقاربة
جدلية تضع بعين الاعتبار إدراكها الشامل للقوانين التي تضبط العالم. هنا بالذات
تتمظهر مشكلة الإنسان الذي يجابه قصورا في المعرفة بالقوانين؛ " فالطبيعة ما
تزال عامرة بقوانين أو نواميس لم تعرف بعد " .
إن هذه المهمة تصبح أكثر صعوبة عندما يشغل بالنا التغيير الذي سيري في الوجود
الاجتماعي الذي لا يمكن مماثلته بالظواهر الطبيعية . ينبغي أن نقر ، من منظور عصمت
سيف الدولة ، وهذا ما أثبتته الأبحاث العلمية ، بوجود قانون نوعي خاص طالما سنفرط
في استخدامه والاستشهاد به ونعني بذلك جدل الإنسان ، لأن مصدر المشكلة يكمن فيما
يبدو من تناقض بين الإقرار بانضباط الظواهر بقوانين حتمية وإفراد الإنسان بالحرية
والإرادة .
لئن كان هذا التمييز حاضرا في الفكر الغربي ، إلا أن ذلك لم يمنعه من الوقوع
في الفخ الليبرالي الذي علّم الناس " أن واقعهم قابل للتغيير وأن ما يحول دون
تغييره هي القيود المفروضة على فعالية القوانين الطبيعية التي تضبط حركته " ؛
إلا أن الليبرالية لم تنجح في الكشف عن هذه القوانين فتركت مسألة تطوير الواقع
مرتهن للقدرية ضمن اعتقاد راسخ مفاده أن مصلحة المجتمع تتحقق تلقئيا بتحقق مصلحة
الفرد . تلك كانت " الثغرة" في الفكر الليبرالي .
كان كل جهد عصمت سيف الدولة ، يتمثّل في مرحلة أولى ، في دحض هذه الأطروحة
الليبرالية ، أخذا بزمام بناء النظرية لبلوغ الحقيقة المطلوبة عن كيفية تطور
الوجود الاجتماعي . إن هذه المجادلة العلمية تلقي بنا إزاء مفهوم الجدل الذي نسّبه
الكاتب إلى الفلسفة الهيغلية مستعرضا في الآن ذاته ، الخلاف الذي نشب بينها و بين
الماركسية . فإذا كان اعتقاد هيغل يتأسس على أسبقية الفكر على المادة ن فإن ماركس
، وبعكس ذلك ، يقر بأسبقية المادة على الفكر. و دون أن ننساق وراء التعقيدات
الفلسفية لهذا التعارض يخلص عصمت سيف الدولة إلى استخلاص مهم: إن أيا من هذين
الرؤيتين يصلح أن يكون منهج لتغيير الواقع ؛ لأن " الإنسان فيهما يتغير مع
غيره في سياق حركة المجتمع" . يضاف إلى ذلك أن المفترضات النظرية التي انطلقا
منها ( المادة أوّلا أم الفكر ) هي محض " ادعاءات ميتافيزيقية غير قابلة
للاختبار العلمي" .
يعمل إذن عصمت سيف الدولة على تعرية المنهج الجدلي المادي ، الذي ينسب لنفسه
صفة العلمية لكونه يتنزل كطور تجاوزي للجدل الهيغلي ، مبينا قصوره من خلال زيف
الاعتقاد بأن البنية الفوقية هي مجرد انعكاس للبنية التحتية .
إن قصور الماركسية يكمن في تجاهلها لحقيقة كون الإنسان هو قائد عملية التطور ؛
إنها تزج بالإنسان إلى مضمار الحتمية التاريخية ؛ إن الكاتب هنا لا يساوره شك في
عبارة الجدل و لكنها تظل غير مبررة ما لم ننسبها للإنسان بوصفه " وحدة نوعية
من المادة و الذكاء " . لنصغ إلى زكي نجيب محمود وهو يبوح عن انطباعه لهذا
الاكتشاف المنهجي الذي بنا عليه عصمت سيف الدولة نظريته في التغيير الاجتماعي .
إنه " ظاهرة تستوقف النظر في ميدان الفكر الفلسفي ، على اختلاف العصور ، و في
شتى أقطار الأرض، وهي أن ذوي الأصالة من أصحاب الفكر يغلب أن يكونوا من هواته ، و
قل أن يكونوا من محترفيه ، وربما كانت العلة في هذا ، هي أن هؤلاء المحترفين
تشغلهم دراسة المذاهب القائمة بتفصيلاتها وتفريعاتها ، حتى تفرّقهم أمواجها ، فلا
يجدون لأنفسهم من الفراغ ما يمكنهم من الانصراف إلى تناول المشكلات الحية بالتفكير
المبتكر الأصيل " .
عندما يصف زكي نجيب محمود جدل الإنسان بكونه تفكيرا مبتكرا وأصيلا ، فمعنى ذلك
أنه يؤيّد صراحة المعيار المنهجي الذي بنيت عليه نظرية الثورة العربية . إن الجزء
المحوري في وجهة نظر زكي نجيب محمود يمكن أن ندركه لا فقط من خلال شروط الصحة
الافتراضية المنسوبة للجدل ، وإنما من الدور الواعي لهذا الإسهام في تشكيل رؤية فلسفية
للذات العربية . يقول:" وإني لأمهّد بهذا الرأي الذي أسلفته للإشادة بثمرة
ناضجة من ثمار الفكر الفلسفي العربي المعاصر الأصيل ، قدمها مفكر ــ من غير رجال
الفلسفة المحترفين ــ حيث أراد أن يعالج موضوعا هو في صميم الصميم من حياتنا
الفكرية و حياتنا العملية على السواء وما أعني به أسس الاشتراكية العربية " .
يستخدم عصمت سيف الدولة ، إذن جدل الإنسان ، بوصفه " العامل الأساسي في
التطور" ، ويتناول هذه الحقيقة بالنقاش لفهم معناها مما لا نعرفه من التراث ؛
فالكاتب يؤمن بوجود علاقة بين ذواتية بين الثقافات . لذلك نجده يهاجم أولئك الذين
يعترضون ، بادعاءات هووية ، على أن نخضع نهضتنا لإغراء الحضارة الغربية. إن نظرة
متعمقة في هذا الصدد ترسخ الأساس التشاركي للحاصل المعرفي الإنساني والمتجلية في
مبدأ التثاقف. فمثلما أخذنا عن اليونان لبناء عصرا ذهبيا تلقّف عنا الغرب نتاج
علومنا ، و بذلك أضحت المعرفة الإنسانية كسبا كليا شاملا متكاملا لا يمكن أن نزهد
فيه بعنوان الأصالة . إن من يفعل ذلك ينسحب من طريق الكينونة و يبقي حبيس أطلال
الماضي . و حين يطعن الكاتب في هذا الخطاب الذي يتشكل تبعا لوهم " إخلاص
النية للتراث " ، يثبت من ناحية أخرى ، و بمحاجة راسخة ، البعد الإسلامي لهذا
المنهج ؛ فيوضّح كيف أن الخطاب الديني متمركز في جذوره العميقة على فكرة الناموس
أو ما نسميه بلغة العلم الحتمية . فليس ثمة ما يضاد هذه الحقيقة التي تستمد
مقوماتها من النص القرآني . ويعرّف الراغب الأصفهاني السنن فيقول : « السنن : جمع
سنة ، وسنة الله تعالى: قد تقال لطريقة حكمته، وطريقة طاعته ؛ وهي متنوعة منها سنة
التغيير كما قال الله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) ، ومنها سنة المداولة كما قال الله تعالى : (
وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ) ، و منها سنة التدافع و غيرها
كثير . وبالفعل ما من تدبر لكتاب الله تعالى إلا و نجد فيه إخبار عن دليل الإتقان
على نحو ما وضح ابن رشد وقبل ذلك الفارابي والكندي . فقد حرص علماء الإسلام على
تأويل النص القرآني لذلك ليس غريبا أن يتولّد الخلاف بين الجبرية و القدرية
بوصفهما موقفين متعارضين في استيعاب التصور الذي يمكن أن نحمله عن الحتمية والحرية
الإنسانية .
يحاول الكاتب في خضم هذا الجهد النظري لمعالجة التراث وضع مشروعه من خلال منح
الأهمية اللازمة للنص الديني و إعادة تشكيل فهم ينتصر للعقل وفق استدلال مفاده أن
الحتمية لازمة ليتصوّر الناس المستقبل الذي ينتظرهم ، " فبقدر ما نعرف و
نحترم القوانين أو النواميس التي تضبط حركة الواقع نستطيع أن نغيره ".
إن هذه النتيجة تصلح أن تكون نقطة تقاطع تجمع بين المنهج العلمي ، بصرف النظر
عن كونه ابتكارا غربيا أو إنسانيا و المنهج الإسلامي . وليس كافيا أن نعلن هذه
الحقيقة لنعود إلى الدين بتطرف، فالمشكلة لا تزال قائمة : من المسئول عن تغيير
الواقع ؟ من يقود حركة التطور الاجتماعي ؟ لماذا فشلنا وتأخرنا كمسلمين ؟
يحدد لنا عصمت سيف الدولة البداية التاريخية لظهور الأزمة ، فالمشكل فينا
لأننا زغنا وانحرفنا عن منهجنا القويم ، فلم نعد نحتكم سوى إلى اللحظة الأكثر
شكلية في الانتساب إليه . فشلنا لأننا لم نقدر على هضم المعايير التي على أساسها
نتطور.
من هنا ولهذا السبب يتوقف الكاتب عند أزمة الفكر القومي التقدمي التي تزداد
حدة ، فنسيج هذه الإيديولوجية يعوزها المنهج أصلا. أنظر إلى الفكر العربي
الليبرالي " إن أزمة المنهج فيه واضحة ففيه يتحدث الكثيرون عن الأمة العربية
وعن القومية العربية وعن الوحدة العربية وعما يجب أو لا يجب في الوطن العربي ...
أحاديث كالمواعظ أو المناجاة الذاتية " ؛ فالخطاب القومي عند هؤلاء يرتكز على
منهج التجربة والخطأ وهم بذلك ينتجون مفارقة هائلة تجعل من جهودهم بمثابة حملات
دعائية غير متطابقة مع الملامح الرئيسية للمشروع القومي منظورا إليه من زاوية
تقدمية . فالقول بأننا أمة عربية واحدة حقيقة لا يطالها الشك لأنها تنمو في سياق
الطبيعة المعاشة للطليعة العربية . وطبقا لهذه الحقيقة فإننا ملزمون ببذل جهد
لتحقيقها بوصفها وعاء المستقبل التقدمي الذي يتجسد في ظل دولتها القومية. غير أنه
وتمشيا مع غياب المنهج ، ما أن يشرع القوميون في التحرك نحو غاياتهم ( الحرية
والوحدة والاشتراكية ) حتى يجدوا أنفسهم في صدام وصراع يعجزون فيه على " أن
يلتقوا في قوة مناضلة واحدة " ؛ فتظهر الحقيقة المفزعة والتي سوف نتحدث عنها
بمزيد من التفصيل : " إن القوميين في الوطن العربي فرق موحّدة في الغايات
ممزقة الصفوف" . ولذا من المهم حسم إشكالية المنهج كضمانة تقي القوميين من
الانقسام والتشظي . يشير عصمت سيف الدولة في هذا المقام إلى أن الطريق الذي سيسلكه
يكتسي طابعا تجاوزيا من جهة كونه يخلص الفكر القومي من تـأثير التفكير الليبرالي والنزعة
الماضوية المتكلسة للتراث ، استنادا إلى قناعة راسخة مفادها أن الإنسان هو العامل
الأساسي في حركة التطور الاجتماعي .
يختم عصمت سيف الدولة نظرته القيمة الشاملة لإشكالية المنهج كسياق تطوري ذو
نزعة إنسانية بتعريف جدل الإنسان كمنهج لتغيير الواقع " فلا هو مقولة فلسفية
فيما وراء الواقع ولا هو نظرية تحدد منطلق تغيير الواقع و غايته و أسلوبه . إنما
هو مجموعة من القواعد والقوانين الموجودة في الواقع الموضوعي إذ نعرفها فنلتزمها
نستطيع أن نغير الواقع " . وقبل أن نشرع في فحص تطبيقات المنهج التي تبرر
القول بوجود نظرية للثورة العربية ، من المفيد أن نذكر بأن كل حركة تريد أن تعمل
على فهم الواقع أو تغييره بدون أن تبدأ بالإنسان فمآلها الفشل و الإخفاق . ومن
وجهة نظر ميتودولوجية يقوم الإنسان بتأدية مهامه الجدلية النوعية من خلال حسم
التناقض الذي ينشأ بين الماضي والمستقبل . لكن إذا كنا نريد الرجوع بصورة واقعية
إلى بناء نظرية التطور الاجتماعي ، وهو أمر ضروري ، علينا إكمال الطريق المتصل
بالتطور الاجتماعي لأن الإنسان مدني بطبعه والمجتمع هو الذي ينتج المشكلات ، بوصفها
حقائق موضوعية ، يواجهها الإنسان .
في الواقع يتعقد التحليل والمحاجة هنا لأن الكاتب يطرح مراهنتين أساسيتين : علينا أن نوضح أولا العلاقة بين جدل الإنسان والجدل الاجتماعي وأن نرسم تصور يظهر كحل استبدالي لمنهج التجربة والخطأ كإطار مرجعي للنظرية .
في الواقع يتعقد التحليل والمحاجة هنا لأن الكاتب يطرح مراهنتين أساسيتين : علينا أن نوضح أولا العلاقة بين جدل الإنسان والجدل الاجتماعي وأن نرسم تصور يظهر كحل استبدالي لمنهج التجربة والخطأ كإطار مرجعي للنظرية .
يوضح عصمت سيف الدولة هذه السيرورة المركبة للجدل بقوله : " إن الجدل
الاجتماعي هو الصيغة الاجتماعية لجدل الإنسان" ، ليغدو المشكل : كيف سيحل
واقع التناقض القائم بين عجز الناس عن التطور الاجتماعي وإرادتهم على التطور؟
يتحدث الكاتب ضمن إطار جماهيري من خلال عرض مجمل المشكلات على الناس كسيرورة تعلّم
، لفهم أسبابها ، وهو ما يفضي إلى تطوير مقدرتهم الجدلية على حلها. إذن مثلما أن
جدل الإنسان قانون حتمي للإنسان كوحدة نوعية من المادة و الذكاء ، فإن الجدل
الاجتماعي هو " القانون الحتمي لتطور المجتمعات " .
على هذا النحو من النظر يمكن أن نستنتج ، في ظل المعطيات السابقة ، أنه لا
يمكن ابتداع نظرية في الحقل السياسي كحل للمشكلات التي يطرحها الوجود الاجتماعي ،
إلا بتوفير شرطها الوحيد ألا وهو المنهج كإجراء يوفر الشروط الموضوعية للحل وبالتالي
تغيير الواقع وفق مبدأ التطور الذي هو سنّة الجدل الاجتماعي ، غير أننا في إطار
هذه العلاقة المتبادلة بين النظرية و المنهج مدعوين أن نجابه سؤالا مهما : من نحن ؟
وخلاصة ما يراه عصمت سيف الدولة في هذا أننا أمة عربية واحدة مكتملة التكوين .
يعني هذا القول في جملة ما يعنيه وحدة المصير الذي يستدعي بدوره وحدة الدولة التي
تحيل إلى سيادة الشعب . فهي " شرط لازم لإمكان معرفة حقيقة المشكلات
الاجتماعية في المجتمع القومي" . إن مهمة النظرية إذن تبدأ من " الوجود
القومي إلى المصير القومي" ، و لأن الأمة العربية هي أمة مجزأة إلى دول
إقليمية فإنه بالضرورة سيكون " التقييم القومي للدولة الإقليمية أنها مؤسسة
رجعية وفاشلة . وهذا بالنسبة إلى جميع الدول الإقليمية بدون استثناء" . ومع
ذلك يسجل الكاتب تمييزا بين دولة إقليمية منسجمة مع وجودها في حال تقلد الحكم قوى
إقليمية وأخرى مناقضة لغاياتها فترفع شعارات القومية ، في حال تقلد الحكم قوى
قومية ، " فتثير قدرا من البلبلة الفكرية وتشكك في النظرية القومية " .
إن معيار التمييز هنا يقود إلى رفض التصور القومي المنبجس من داخل الدولة
الإقليمية و مؤسساتها . وهذا استخلاص مهم سنعود إليه لاحقا عند تقييمنا لهذا الطرح
. ولعل هذا تحديدا ما سنناقش فيه عصمت سيف الدولة وفق المتغير السياسي العاصف الذي
يسري في واقعنا المعاصر.
لا نروم من خلال إشارتنا إلى هذه النقطة تبرير التداخل بين الدولة الإقليمية ولا
نحسب إسهام عصمت سيف الدولة خال من الوجاهة ولكننا نر يد أن ندشن خطوة في التأصيل
النظري لنمتحن صلابة كيف يكون الالتزام العقائدي بتحقيق دولة الوحدة أول خصائص
التنظيم القومي ولا يكون الالتزام العقائدي للدولة الإقليمية ، حين يحكمها قوميين
، طريقا نحو تيسير الوحدة بل قد يمثل ذلك بلبلة فكرية على نحو ما وضح الكاتب ؟
إن تحولا فكريا كهذا يعد تطورا يبعث على الاطمئنان ويكفي القوميين محاذير
التمترس في جوقة الحقائق العنيدة للفردية القاتلة . وأولى تلك الحقائق الوعي بالثالوث
المخرب : التجزءة و التخلف والليبرالية التي لن تختفي من صفحات تاريخ الأمة إلا
بمجاوزة الثغرات التي ظلت تعتري التفكير القومي الذي مدنا بتصورات مبتورة عن
الشروط التاريخية لوحدة المصير القومي . هذه الإشارة السريعة تخوّلنا استخراج أهم
ما يترتب من نتائج توحيد معايير الفهم الجدلي للوجود الاجتماعي و أولها "
تعيين الغايات التي يجب أن يتجه الجهد الإنساني إلى تحقيقها في الواقع الاجتماعي
حتى يتطور" . إن أكثر ما يقلق في هذا الطور أن توجد ميولات إيديولوجية
متناقضة ؛ وهو خطر يعزى لغياب الوحدة الفكرية . لذلك يجب أن يكون ضبط الغايات على
" قدر من الوضوح والدقة والواقعية " . إن الكلام على وضوح الغايات ودقتها
يفترض تعزيز الصلة بالشعب العربي لنعرف المشكلات التي يواجهها ونلتزم بتحقيقها .
الغاية هي " أن نعرف من الشعب العربي نفسه المشكلات الواقعية التي يثيرها
التناقض بين واقعه وأن نكتشف حلولها الصحيحة ثم نلزم أنفسنا بتحقيقها " . إن
هذه من أعظم الصعوبات التي تواجه الطليعة العربية ، فكل الأفكار ، حتى وإن بدت
تقدمية تتحطم أو تنهار أمام استعلاء الطليعة عن الجماهير الذين يطمحون إلى إحراز
ما يمكن تحقيقه من تقدم . ويقودنا هذا إلى التسليم بحقيقة في تمام الوضوح نختصرها
في عبارة التخلف بسبب الاستعمار والتجزئة والاستغلال. تلك هي غاية النضال العربي
التي لا مساومة فيها : " استعادة الإمكانيات المغتصبة أو المسلوبة " .
ما عسانا نقول حينئذ عن فلسطين سوى أنها عنوان لمعركة التحرر العربي في مواجهة
الاستيطان الصهيوني الغاصب الذي يسلب الأمة العربية جزءا من كيانها . إن الاستعمار
وفق هذا المنظور يشكل عائقا يحول دون ممارسة الشعب العربي لسيادته . هكذا تكون
غاية النضال العربي المتمثلة في تحقيق دولة الوحدة العربية .
هذا العبور من واقع مجزأ إلى واقع موحد يملي على الكاتب أن يتكلم عن مشكل
الديمقراطية . فهو يسأل كيف سيكون حل الديمقراطية في دولة الوحدة العربية ؟
إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن مشكلة الديمقراطية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالفكر
القومي التقدمي الذي يطرحه عصمت سيف الدولة ، فإنه في المقابل ينفي وجود أي تصور
في شأن الديمقراطية. إنه بذلك يحاول إرساء معقولية سلوكية مفادها أنه ليس في مقدور
القوميين الانخراط في ممارسة النضال القومي من أجل قيام دولة الوحدة دون الوعي
بالعلاقة بين الديمقراطية و القومية ؛ وللأسف الشديد فإن التغاضي عن هذه العلاقة
جعل القوى القومية التقدمية وكأنها متواطئة مع الاستبداد . إن هذه الثغرة تفقد
مبررات الثقة للدور النضالي للقوميين إزاء الجماهير العربية ، يضاف إلى ذلك أن
لهذا المشكل وجه تنظيمي يتمحور حول كيفية تعامل القوى القومية داخل التنظيم القومي
الذي يستهدفونه كأداة لتحقيق دولة الوحدة . إن الشرط الديمقراطي يجنّبهم مواجهة
الصعوبات التي تعرض وحدتهم التنظيمية للانقسام و التشتت.
وجوهر مشكلة الديمقراطية يكمن في التساؤل التالي : كيف تكون الدولة الشعب كله ؟
وجوهر مشكلة الديمقراطية يكمن في التساؤل التالي : كيف تكون الدولة الشعب كله ؟
إن أي دولة متى كانت دولة فرد أو جماعة أو طبقة تكون مناقضة لشرطها الديمقراطي
. من هنا تصبح الدولة الدكتاتورية هي التي يسمح نظامها الوضعي " للناس بأن
يكتشفوا الحلول الصحيحة للمشكلات الاجتماعية بأسلوب اكتشافها ( الجدل الاجتماعي )
فلا يستطيعون أن يكتشفوها " . طبعا ليس من السهل الكلام عن الديمقراطية وفق
هذا التعبير المجرد ما لم نرسم سياقا تطوريا لها يقوم على ثلاث أبعاد : المشكلة
فالحل فالعمل . ولأن المشكلات يجري تحديها قوميا كان لا بد أن يكون أسلوب حلها
بالعمل القومي . وما يضاعف من حدة القلق الناشئ من ضياع الديمقراطية في واقع قومي
مجزأ هو البيروقراطية . على أن الديمقراطية ، في نظر الكاتب ، " هي الحصانة
ضد البيروقراطية " . لذلك لا بد أن تتوفر إرادة لكي يتعلم الشعب كيف يطالب
بحقوقه دون خشية حكامه . سيبادر كثيرون إلى القول : من المؤكد أن ليس لنا تقاليد
ديمقراطية وإن تاريخ أمتنا لا يرضي أحدا ، فهو تاريخ الانقلابات العسكرية . يجيبنا
عصمت سيف الدولة : وهل الماضي حجة على المستقبل ؟
من غير الممكن في نظر عصمت سيف الدولة أن نتحدث عن الديمقراطية بمعزل عن
الاشتراكية ، فإذا كنا قد " عرفنا أن الديمقراطية هي النظام القانوني الذي
يسمح للشعب باكتشاف الحلول الصحيحة لمشكلاته الاجتماعية و تنفيذها بالعمل ... يكون
تحرير الشعب من القهر الاقتصادي شرطا لا بد منه للممارسة الديمقراطية "
لسنا هنا بصدد عرض يوتوبيا سياسية ، ولكننا نتكلم ، بحسب وجهة نظر الكاتب ، عن علاقة عضوية بين الديمقراطية والاشتراكية . وإذا كان لنا ضمن إشارة سريعة أن نبوّب أهم ما يترتب عن هذا الطرح المنهجي للكاتب لقلنا في سياق تناسبي لما قال : " الاشتراكية العربية نظرية لإقامة النظام الاشتراكي في دولة الوحدة الديمقراطية " .
إن التقدم في التحليل يفرض على الكاتب أن ينفذ إلى أبعد من ذلك ليضع أساليب جديدة في التخطيط الاستراتيجي . إن المعركة التي يستأهل القوميين أن يخوضوها هي وضع إستراتيجية تنبني على أساس تصورهم للواقع . باختصار إن جوهر مهمة الحزب القومي الديمقراطي الاشتراكي" أن يصل بين واقعه وغاياته بخطة إستراتيجية " . و قبل أن ننصرف للمناقشة المهيبة حول كيفية إعداد الإستراتيجية ، ينبه الكاتب أنه لا يجب على القوميين أن يشغلوا أنفسهم بهذه القضية ما لم يبنى الحزب القومي الديمقراطي الاشتراكي ؛ فهو وحده " واضع الخطة والمسئول عن وضعها " .
لسنا هنا بصدد عرض يوتوبيا سياسية ، ولكننا نتكلم ، بحسب وجهة نظر الكاتب ، عن علاقة عضوية بين الديمقراطية والاشتراكية . وإذا كان لنا ضمن إشارة سريعة أن نبوّب أهم ما يترتب عن هذا الطرح المنهجي للكاتب لقلنا في سياق تناسبي لما قال : " الاشتراكية العربية نظرية لإقامة النظام الاشتراكي في دولة الوحدة الديمقراطية " .
إن التقدم في التحليل يفرض على الكاتب أن ينفذ إلى أبعد من ذلك ليضع أساليب جديدة في التخطيط الاستراتيجي . إن المعركة التي يستأهل القوميين أن يخوضوها هي وضع إستراتيجية تنبني على أساس تصورهم للواقع . باختصار إن جوهر مهمة الحزب القومي الديمقراطي الاشتراكي" أن يصل بين واقعه وغاياته بخطة إستراتيجية " . و قبل أن ننصرف للمناقشة المهيبة حول كيفية إعداد الإستراتيجية ، ينبه الكاتب أنه لا يجب على القوميين أن يشغلوا أنفسهم بهذه القضية ما لم يبنى الحزب القومي الديمقراطي الاشتراكي ؛ فهو وحده " واضع الخطة والمسئول عن وضعها " .
يميط عصمت سيف الدولة اللثام عن الخصائص العامة للإستراتيجية. فهي أولا قومية
وهي ثانيا هجومية وثالثا مرنة ورابعا ثورية .
( يتبع) ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق