رسالة الدكتور عصمت سيف الدولة الى تونس .
القاهرة في أول
يناير 1985
الأخ الأستاذ عبد اللطيف الصغيري ـ تونس
السلام عليك
ورحمة الله وبركاته وبعد ،
1 ـ فأشكر لك اهتمامك بالكتابة إليّ تسألني الجواب ، أو تستجوبنی . ان تكن الأولى فهي دعوة الى حوار حول ما يشغلك من
أفكار . وهذي ثقة ما زالت تضيء لي دروب الفكر كلما سألني شاب عربي جوابا على سؤال
يشغل فكره ، إذن فهي دعوة مقبولة ومشكورة معا .
وإن تكن الثانية
فهي حق لك ، ولكل شاب عربي ، على أولئك الذين ينشرون أفكارهم في حقل الوعي العربي
ثم يزعمون ان كل فكرة هي تخصيب يخص بذور الثورة - والثورة كلمة كبيرة کما لاشك
تدرك . فأولى بكل شاب عربي جاد أن يحذر الكلمات الكبيرة تلقی في حقل وعيه ، اذ أن
بعض الكلمات " الكبيرة " قد تصبح على لسان قوی معينة في مجتمع معین في
زمان معين من الكلمات " الكبائر " . ألم يكن جيلكم شاهد عيان على ما فعل
بعض جيلنا بأنبل الكلمات ؟ .. تكریس تجزئه الوطن العربي الواحد باسم الاستقلال . اجتثاث جذور
التراث القومي باسم المعاصرة ، الكهانة باسم الدين . الاستسلام باسم السلام . قهر
المستضعفين باسم الوحدة الوطنية ..الخ . وما يشك أحد ولا نحن نشك في نبل دلالة
كلمات الاستقلال والمعاصرة والدين والسلام والوحدة الوطنية مجردة ، وطالما هي
مجردة فقد تكون على هذا المستوى مثلا عليا . أما دلالتها الواقعية في الزمان
والمكان فلا يمكن الاستيثاق من نبلها أو خبثها الا بعد معرفة من هو قائلها ، ومتى
قالها ، وأين قالها ، ولماذا قالها . ومن هنا يتأكد حق الشباب العربي في استجواب
القائلين قبل أن يصدق ما يقولون . ولا يغني الصدق في القول عن الصدق في الموقف .
ألم تر أن الله قد قال : " اذا جاءك المنافقون قالوا نشهد أنك لرسول الله
والله يعلم أنك لرسوله والله يشهد ان المنافقين لكاذبين " (سورة المنافقون ـ
1 ) . صدقوا قولا ولم يصدقوا موقفا . فأمر الله تعالى : يا ايها النبي جاهد الكفار
والمنافقين وأغلظ عليهم " (سورة التوبة ـ 73 ) . على هدي هذا فهمت ما وراء استجوابك . انه ليس
" استنطاقا " في اتهام ولكنه ممارسة لحق الاستفهام من شاب عربي جاد أخذ
ما قرأ لي مأخذ الجد فاستحق الشكر . وقد يكون فطنا الى شخوص يشهدون علنا أن الأمة
واحدة ، والوحدة لازمة ، والثورة فرض ولكنهم إذا قاموا للجهاد " قاموا كسالى
" واولئك هم القوميون الوحدويون الثوريون ... المنافقون المذبذبون بين الإقليمية
حيث المكاسب والمناصب وبين القومية حيث التزكية والتضحية . وهم كثر في الوطن
العربي . وهم أكثر خطرا على الأمة العربية من منكري وجودها أنفسهم . وهم أكثر
تعويقا للوحدة من أعدائها أنفسهم . ذلك لأنه إذا كان الكفار في الدرك السافل من
النار فان المنافقين في الدرك الأسفل .
ولقد ناديتني "
والدي " فاسمح لي بأن أناديك " أخي " لا ضيقا بما يذكر الشيوخ بقرب
آجالهم ولكن للاحتفاظ للحوار بمستوى الندية الذي لا يستقيم الا عليه . والاحتفاظ
لموضوعه بإطار الأخوة الذي لا يثمر الا فيه .
2 ـ أخي أنت تسألني : " أولا : بعد رفض عبد
الناصر يأتي دورك لترفض المقترح الذي يقول لماذا لا يعلن عصمت سيف الدولة عن
التنظيم القومي خاصة وهو بعيد عن السلطة ؟ ".
انه سؤال متردد
. استمعت إليه بصيغ عاطفة وبصيغ عاصفة . وحينما كنت في تونس منذ شهرين استمعت اليه
بصيغ جماعية جارفة . ولقد كنت أعتذر دائما عن الجواب أو أجيب بما يشبه الاعتذار .
وكثيرا ما رُدّ اعتذاري الى أسباب منكورة ، كما رده بعض الذين لا يعلمون الى أسباب
منكرة . أعتقد بعد مقابلتي كثيرا من الشباب الواعد في تونس قد آن الأوان لأقدم
الجواب الموعود . وإذ تكن أنت الشاب العربي الذي لا اعرفه الا من رسالته ولم
يعرفني الا مما قرأ لي فانك تصلح لتلقي الجواب الموجه في شخصك الى كل من يهمه أن
يعرف من الشباب العربي الذين لم اعرفهم بعد ، والذين لم يعرفوني الا كما عرفتني
انت .. وسأحكي لهم في شخصك قصتي مع التنظيم القومي وسأبدأ مما قلته في رسالتك من
أن عبد الناصر قد رفض إعلان التنظيم القومي . ابدأ به لأصحح البداية بعد إذنك .
3 ـ ان عبد الناصر لم يرفض الإعلان عن التنظيم القومي . لقد أعلن في صيف
1963 أنه ضرورة تاريخية وكان ـ رحمه الله ـ يسميه الحركة العربية الواحدة . كان
ذلك على اثر فشل محاولات إقامة دولة وحدة تضم مصر والعراق وسورية . كان ممثلو
الدول الثلاث قد تشاوروا وتحاوروا فاتفقوا على إنشاء (1) قيادة واحدة (2) ميثاق
فكري واحد (3) دستور واحد ، ثم انفضوا بعد أن ضربوا أجلا لإعلان دولة الوحدة
الثلاثية .
لا أحسبك
والكثير من جيلك قادرين على إدراك ما كنا نحن حينئذ ندركه . كنا نرتقب ضوء الصبح
بعد ظلمة الانفصال . كنا نوشك أن نهتدي الى الطريق بعد أن ضلت أقدامنا . كنا نثق
بأن قد توفر لتجربة الوحدة المنظورة ما فات توفره للوحدة المغدورة . كنا نحسب أن
أخطاء الوحدة بين مصر وسوريا كانت كبوة جواد الوحدة الشاملة ثم نهض وها هو يوشك أن
ينطلق .. ولماذا الا ينطلق ؟ وحدة القيادة من أجل وحدة التنظيم . وحدة الفكر قبل
وحدة الممارسة . وحدة الدستور قبل وحدة الحكم . قبول معلن لقيادة عبد الناصر
القائد الفعلي للجماهير في الأقطار الثلاثة . كل الشركاء أبرياء من الشك في ولائهم
لأمتهم العربية أو في صدق إرادتهم دولة الوحدة ... لم يكن يخطر على بال أحد أن ثمة
ما يلزم لإقامة الوحدة غير ما توفر لها ...
ومع ذلك ، أخي ،
فشلت المحاولة ، وتحول الشركاء الى أعداء ألدّاء . وعاد الظلام أكثر كثافة ، وتردى
جواد الوحدة ...
لماذا ؟ .. أين
الخطأ ؟ ..
أجاب عبد الناصر
. كان أول ما أجاب : ان الحركة العربية الواحدة (التنظيم القومي) قد أصبحت ضرورة
تاريخية . فعلم من لم يعلم أنه لا وحدة القيادة ، ولا الوحدة الفكرية ، ولا وحدة
الدستور كافيات لإقامة الوحدة أو الحفاظ عليها . كان الخطأ كامنا في تكوين
الجماهير المنظمة وراء القيادة الموحدة ، وراء الميثاق الموحد ، وراء الدستور
الموحد . فقد كانت تلك الجماهير منظمة في مصر (الاتحاد الاشتراكي العربي) وفي
العراق (حزب البعث العربي الاشتراكي) وفي سورية (حزب البعث العربي الاشتراكي)
ولكن كلا منها كان قائما على قاعدة إقليمية . ولم یكن تشكيل القيادة الموحدة إلا
تمثيلا للأقاليم ، فكانت في حقيقتها الموضوعية " جبهه " بین منظمات إقليمية تخضع حركتها لقانون الجبهة : الصراع من
خلال الوحدة . وقانون الجبهة : تصفية الرفاق على الطريق الى الهدف المشترك .
ولا شك أنك تعلم
يا أخي أن العناق مقدمة لازمة للتقبيل أو للتقتيل . وتعلمنا من التجربة درسا لا يُنسی
.
لم يكن عبد
الناصر ليرفض التصحيح إذا اكتشف الخطأ من خلال التجربة فلقد كان ذاك منهجه . فما
ان أعلن عن ضرورة الحركة العربية الواحد ، حتى بدأ التنفيذ . أن الذي قد لا يعرفه
الكثيرون أن عبد الناصر لم يلبث بعد إعلانه عن الحركة العربية الواحدة ان اختار
خمسة من المفكرين العرب والمناضلين تحت قيادته وطلب إليهم أن يضعوا مشروع ميثاق
للحركة . كان من بينهم المرحوم کمال رفعت والأستاذ احمد بهاء الدين من مصر الأستاذ
أديب نحوي من سورية، والأستاذ أديب الجادر عن العراق الأستاذ حسان وظائفي من
الأردن . فوضعوا وثيقة فكرية حررت من نسخة واحدة بخط يد الأستاذ أديب نحوي وسلمت
الى الرئيس . ثم كتم أمرها كما كان متفقا
عليه (رواية الأستاذ أديب نحوي) . ولكن أمرها ظل مكتوما ولم يزل .
أما على المستوى
التنظيمي فلم يكن متاحا لعبد الناصر إلا ما يملكه : جهاز الدولة . فعهد الى السيد فتحي
الديب رئيس مكتب الشئون العربية في رئاسة الجمهورية ، ونائب رئيس المخابرات العامة
وقتئذ ، وحلقة الاتصال بن عبد الناصر وقادة ثورة الجزائر من قبل ، عهد إليه بأن
يبدأ في تكوين الحركة العربية الوحدة سرا . ولم يكن مبرر السرية الحفاظ على أمن
التنظيم بل كان مبررها أن عبد الناصر لم يكن قائدا قوميا فقط بل كان رئيس دولة
أيضا . وكانت قيود ثقيلة من الدستور وميثاق الجامعة العربية ، والقانون الدولي تحول
بينه وبين " التدخل في شئون الدول العربية الداخلية ". ولم تكن الحركة
العربية الواحد مجرد تدخل في شؤون الدول العربية الداخلية بل کانت إعدادا لقوى
الثورة العربية ضد استقلالها دائه من حيث هي أداة تحقيق الوحدة . فحالت الدولة دون
ان يتولى القائد مهام قيادته وأوكلها الى غيره وتعلمنا من هذا درسا لا يُنسی .
لم يلبث السر أن
أصبح معروفا . کما أصبح معروفا أن قد اختير للحركة العربية الواحدة اسم " الطليعة
العربية " . ولما تفقدنا وجودها في مصر فافتقدناها ، وعرفنا ان السيد فتحي
الديب نائب رئيس المخابرات العامة المسئول عن أمن دولة مصر قد حل مشكلة التناقض
بین إقليمية الدولة وقومية التنظيم بأن اخرج مصر ، أو قل الجماهير العربية في مصر،
أو قل ثلث الأمة العربية ، من نطاق التنظيم ، ونشط بكل أدوات ووسائل الجهاز الذي
يتبعه في الدعوة والاستقطاب والتجنيد من "غير المصريین" .. هكذا كانت
الصورة : تكاثر الطليعيون العرب في بعض الأقطار العربية ومن الشباب العربي الوافد
الى مصر ولم يكن مباحا لأي مصري أن يكون طليعيا عربيا إلا في مراكز المساعدة
المكتبية للسيد فتحي الديب ، أما في مصر فقد تكاثر الطليعيون الاشتراكيون في تنظیم
"مصری" مستقل المنطلقات والغايات والوسائل عن تنظيم الطليعة العربية .
لم يكن مباحا لأي عربی من غير مصر ان يلتحق به . فتعلمنا من هذا درسا لا يُنسی .
4 ـ في عام 1964 انعقد في القاهرة مؤتمر اتحاد المحامين العرب ، وكان
" مظاهرة قومية " . كان نفر كثير من المحامين في مصر أعضاء عاملین في
تنظیم " طليعة الاشتراكيين " السري أيضا . وكان مبرر السرية ان تكون
العضوية انتقاء من جانب القيادة في غفله من المرشحين أنفسهم حتى لا يتزاحم على
عضويته الانتهازيون . وقد خطر لي في ذلك الوقت أن الفرصة مواتيه لحل التناقض بين "
الطليعة العربية " و" طليعة الاشتراکيین " فتقدمت الی المؤتمر
العام لاتحاد المحامين العرب باقتراح إصدار توصية موجهة الى القائد العربی عبد
الناصر ، مضمونها بلغة المحامين : حيث ان القيادة العربية الممثلة في شخص عبد
الناصر قد بدأت في العمل على تجسيد حركة الجماهير العربية في اطر منظمة غير علنية
للأسباب التي يقدرها المؤتمر، وحيث أن العمل ما يزال في بدايته ، وحيث أن نمو
التنظيم في مصر في معزل عن نمو التنظيم خارجها سيجعل التحامهما معا في تنظیم قومي
واحد صعبا ان لم يكن مستحيلا ، فان مؤتمر المحامين العرب يوصي الرئيس بالاستجابة الى
تطلع الجماهير العربية الى تنظيمها الموحد ... بالعمل على التحام التنظيمين منذ البداية تحت قيادته .
طبع هذا الاقتراح ووزع على المؤتمرین في القاهرة - بدون إعلان صدره ـ
وكان رد الفعل سلبيا على مستوى المؤتمر بفعل موقف " طليعة الاشتراكيين "
(التنظيم المصري) وعلى مستوى الدولة بفعل القيادة المصرية " للطليعة العربية
" (التنظيم العربی) .. بالإضافة الى مستوى أجهزة الأمن التي
كان همها أن تعرف كيف يطبع منشور ويوزع بصرف النظر عن مضمونه . ولم يلبث ان جاء الرد " الرسمي " : ان وحدة القوى العربية
التقدمية لا تقوم الا بعد أن تحقق تلك القوی وحدتها في كل قطر على حدة ... وتعلمنا
من هذا درسا لا يُنسی .
5 ـ في عام 1965 كنت قد أصدرت أول كتبي : " أسس الاشتراكية العربية "
متضمنا فصلا عن التنظيم القومی تحت عنوان " الطليعة العربية " .. فدعاني
السيد فتحي الديب (عام 1966) الى مقابلته في مكتبه برئاسة
الجمهورية . وهناك كشف لي ما كان مكشوفا من أمر التنظيم الذي يقوم بأمر إنشائه
بتفويض من الرئيس عبد الناصر كما قال . وعرض عليّ المشاركة مساعدا فاعتذرت . ولما
أصبح الحوار حادا رفضت . ويبدو أنني تجاوزت حدود ما کان يتوقعه مني حين قلت له انه
مشروع فاشل بل هو مناهض وضار بالحركة العربية الواحدة التي قال عبد الناصر أنها أصبحت
ضرورة تاريخية . وذكرت له الأسباب :
1- ان المميز الأساسي للحركة العربية الواحدة التي دعا إليها عبد الناصر
على أثر فشل محاولات الوحدة الثلاثية هو قومية التكوين الداخلي للتنظيم . لقد كان
عبد الناصر هو القائد عام 1963، وكان ثمة ميثاق قومی ارتضته قيادة
الاتحاد الاشتراكي العربی في مصر، وقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق ، وقيادة
حزب البعث العربی الاشتراكي في سورية ، وكانت ثمة قيادة قومية مشتركة مثله لتلك
المنظمات . كل ما كان ناقصا هو قومية التكوين الداخلي أو وحدة التنظيم القومي
ولهذا كان الفشل . وكان لنا في ذلك درس لا ينسى (الدرس الأول ) .
2 - أن التنظيم القومي لا يكون قوميا إذا أنشأه قائد ولو كان قائدا قوميا
فذا مثل عبد الناصر . ان مواثيقه حينئذ ستكون صيغة لأفكار قائده أو لأفكار صفوة
يختارهم قائده ويرضي عنهم . وسيكون مؤسسوه ممن يعجبون قائده أو ممن يعجبون به ، وسيكون
اختيار القيادات والكوادر ممن يعرهم القائد معرفة " شخصية " ويثق فيهم
ثقة " شخصية " أو ممن يستطيعون - صادقين أو منافقین ـ أن يدخلوا دائرة
معرفته أو یكسبوا ثقته . وستكون إرادة النمو والانتشار أو التوقف والانكماش متوقفة
على إرادة القائد المؤسس . باختصار سيكون تنظيم مؤسسه أو حوارييه ولن يكون تنظيم
الأمة العربية وأداة الشعب العربي في ثورته الوحدوية ، وقد كان لنا في ذلك درس لا
يُنسی ( الدرس الثاني ) .
3- ان التنظيم القومي لا يكون قوميا أذا أنشأته دولة ولو كان رئيس
الدولة قائدا قوميا فذا مثل عبد الناصر. ولو كانت الدولة ذات ثقل کمصر . أن الدولة
- اية دولة - هي التجسيد الحقوقي لجريمة التجزئة القومية . انها نقيض الوحدة . ان إلغاءها
هو هدف الثورة العربية ، ولما كان التنظيم القومي هو أداة الثورة العربية فلست
أعرف كيف يمكن أن تنشئ الدولة ـ أية دوله - أداة الثورة ضد وجودها ذاته . فان قيل
ان رئيس الدولة قائد ثائر لا تهمه دولته بقدر ما تهمه وحدة أمته ، فلن نقول کیف اذن
يتفقد الحدود حتى لا يتسلل " عربي " الى دولته بدون إذن منها ، ولن نقول
کیف إذن " تعترف " دولته بشرعية التجزئة حينما " تعترف "
بالدول العربية الأخرى . ولن نقول کیف اذن يقبل تمثيل دولته على قدم المساواة مع
" ممثلي " الدول العربية الأخرى في الجامعة العربية ، بل نقول ما يكفي
بدون تجريح للقائد القومي الثوري رئیس الدولة : أن القيود الدستورية والعربية
والدولية التي تكبل دولته تعوق مقدرته على أن ينشئ او يقود تنظيما قوميا . إنها
تحول دون الانتشار خارج حدود دولته تحت قيادته الا إذا أنكر قيادته . إنها تحول
دون أن يتخذ من رئیس کل دولة عربية الموقف الذي يتفق مع إرادة التنظيم القومي في
كل دولة عربية . انه سینكر علاقته بقواعد التنظيم ان كشفت . انه سيتخلى عن الدفاع
عنها أن ضربت ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى أنه سينشئ ويؤسس ويقود من خلال أجهزة
دولته . وأجهزة دولته مسؤولة عن أمن دولته . و بالتالي لن تسمح تلك الأجهزة بأن
ينتشر التنظيم في داخل الدولة . كيف تسمح أجهزة الأمن في الدولة - آية دولة -
بتنظيم يستهدف الغاء الدولة ذاتها ؟ لهذا فان الدولة ـ أيه دولة ـ اذ تنشئ تنظيما
تسمّيه قوميا تنشئه خارج حدودها ليكون - حينئذ - أداتها هي من خلال رئاسة الدولة
فلن يكون قوميا . إنها حينئذ ستحول دون أن ينتشر داخلها بحجة أن وجود القائد يغني
عن وجود التنظيم فلن يكون قوميا . لقد كان لنا في هذا درس لا ينسي . انه درس قائم
من المفارقة بين قيادة في مصر تنشئ تنطیما يقال له قوميا وتحرّم على المصريين
الانتماء إليه (الدرس الثالث) .
4 - ثم ان الدولة ـ أيه دولة - ليست لعبه يفعل بها القائد - أي قائد ـ ما يشاء . في يوم الانفصال المشؤوم عام 1961 كان رد فعل القائد القومي جمال عبد الناصر ردا قوميا . اصدر أمرا بالاستيلاء على كل مراكب النقل الموجودة في مواني مصر. أمر بشحنها بكل القوات المسلحة المتاحة . أمر الطيران بأن يحمل الى شواطئ الإقليم الشمالي كتائب من القوات الخاصة المحمولة جوا بقيادة الضابط جلال هريدي . أمر جلال هريدي بان يسقط قواته في اللاذقية ويؤمّن المواقع اللازمة لاستقبال الجند المحمولين بحرا . كان ذلك رد الفعل القومي من قائد قومي : فما الذي حدث ؟ بعد أن وصلت قوة المظليين وهبطت وقبل أن تصل القوات المحمولة بحرا صدر أمر بالراديو الی جلال هريدي بإلغاء "العملية" والاستسلام لقوات الانفصاليين . وصدر أمر بعودة المراكب الى الموانی وتفريغها من الجنود . وأعلن عبد الناصر الجريح قبوله الانفصال في مرثية تاريخية للوحدة الموؤودة . لماذا ؟ لأنه ما بين الصبح والمساء أحاطت الدولة بعبد الناصر . أعنى دولة مصر . لتضع تحت نظره کل ما اصطنعه رجالها من أسباب دوليه وعربية وسياسية واقتصاديه وماليه للنكوص الإقليمي عن المعركة القومية . فسحب عبد الناصر أوامره . فماذا لو كان التنظيم القومى قائما يقاتل في الإقليم الشمالي دفاعا عن الوحدة ضد الانفصاليين ... هل ينفذ أوامر القائد القومي أم ينفذ أوامر رئيس الدولة . إننا نحمد الله - هكذا قلت - الذي لا يحمده على مكروه سواه أن التنظيم القومي لم يكن قائما حينئذ حتى لا يكون أداة تنفيذ سياسية " دولة مصر الإقليمية " بدلا من أن يكون أداة تنفيذ الثورة العربية الوحدوية . وحتى لا يتمزق التنظیم کما تمزقت أفئدة القوميين الذين كانوا يقاتلون ضد الانفصال في دمشق وحلب في انتظار الإمداد من عاصمة دولة الوحدة التي ناضلوا من اجل إقامتها . وان ذلك لدرس لا ينسى . تلتها دروس لا تنسي من موقف الدولة تحرم ثلث الشعب العربي من الانخراط في صفوف تنظيم يقال له قوميا حتى لا تمتد " مخاطره " المحتملة الى أمنها الداخلي ( الدرس الرابع ) .
آن کنت لا تدرك
مدى ما يمثله موقف الرفض هذا لدعوة تأتي باسم عبد الناصر في ذلك الوقت فذلك ـ ربما
ـ لانك لم تكن معاصرا له ، لقد كان اختيارا بين ان اتبع قيادة قومية کنت ممن
يؤمنون باستحقاقها القيادة ، وبین ولاء عميق للأمة العربية يحول دون أن اقبل ما
اعتقد انه غير متفق مع مصلحتها ، ولقد كان ذلك هو الموقف الرئيسي الذي اختلفت فیه
مع اتجاه عبد الناصر ، ولكنه كان كافيا في ذلك الوقت لتقيم منه أجهزته سدا حال دون
أن ألتقي بعبد الناصر طوال حياته ولو مرة واحدة . أكثر من هذا فبينما كنت اكتب
البيانات والنشرات لكثير من القوى "الناصرية " المناضلة في العراق وسورية
ولبنان والأردن ، كانت التعميمات الداخلية في " الطليعة العربية " تحذر
أعضاءها من الاتصال بي أو حتى قراءة کتبي . ولثلاث مرات - کما عرفت فيما بعد -
طالب السيد فتحي الدیب من عبد الناصر أن يأذن باتخاذ الإجراءات اللازمة "
لوضع حد لنشاطي " التخريبي " في صفوف الطليعة العربية . ولهذا "
أقصوصة " سأحكيها لك .
6 ـ بالرغم من الحصار الذي كان مفروضا علىّ ، فان عبد الناصر لم يوافق قط
على "وضع حد لنشاطي " . ولما كنت مقتنعا في ذلك الوقت بأن مشكلة التنظيم
القومي تقع خارج مصر فقد اتجه نشاطي الفكري اني حيث المشكلة ، كان عبد الناصر قائد
الجماهير العربية في مصر وكان الشباب العربي من مصر منظما تحت قيادته ، وكان تصوري
لحل مشكلة التنظيم القومي هو الدعوة له وإعداد الشباب العربي من أجل وحدة التنظيم
تحت قيادة عبد الناصر . ومن هنا كانت دعوتي موجهة الى الشباب العربي من المحيط الى
الخليج الذين كانوا ينتظرون ان يدعوهم عبد الناصر الى الالتحاق بالحركة العربية
الواحد . وكنت ابحث عن حل لمشكلة الالتحام تلك بعيدا عن " الطليعة العربية
" القائمة على أساس من الانفصال وليس الالتحام . ولم يعقني عن البحث عن الحل
موقف دولة عبد الناصر مني . من هنا توثقت علاقتي بكثير من
القادة القوميين الذين كانوا ضيوفا على القاهرة في ذلك الوقت . وكان من بينهم الأخ
الصديق محمد الخير ( أبو مضر) أمين عام حركة الوحدويين الاشتراكيين المناضلة ضد
الانفصاليين في سورية ، كان من أقرب ضيوف القاهرة الي عبد الناصر ..
سألني أبو مضر يوما
: لقد أنشأت ثلاثة كتب كانت خاتمه کل کتاب منها هي : " أما كيف يقوم التنظيم
القوي فهذا حديث آخر " . واعتقد - هكذا قال محمد الخير عليه رحمه الله - أن من
حق الشباب العربي عليك أن تحدثهم هذا الحديث الآخر ان كان لديك حديث آخر . ثم أضاف
کما أخذنا منك ما نشرناه باسم حركة الوحدويين الاشتراكيين اكتب للحركة رأيا تنشره
عن مشكلات إقامة الحركة الواحدة .
قلت ـ وهذا ما
سيتكرر قوله بعد ذلك - ولكني لا أريد للشباب العربي أن يتلقى رأيا في التنظيم القومی
يكون مرتبطا بشخص . فان الموقف من الرأي سيكون متأثرا بالموقف من صاحبه آن سلبا وان
إيجابا . قال : سننشره باسم الحركة لا باسمك . قلت اذن لبيك .
كان ذلك عام 1966 أيضا .
وانكببت على صياغة رأيي أو خلاصته في وثيقة عرفت باسم " بیان
طارق " نشرت أولا في سوريه ثم انتشرت ثم جذبت إليها غير قليل من الشباب من
قليل من الأقطار العربية ، يبدو من رسالتك انك قرأتها فلا مبرر لإعادتها . اذكر
فقط انها كانت خطة لإعداد الشباب العربي للالتحام تحت قيادة عبد الناصر عام ۱۹۷۰ ، فقد كان عبد الناصر وعد بالدعوة الی مؤتمر " وطني " عام 1970 لإعادة النظر في " ميثاق العمل الوطني " الذي أصدره عام 1962. فكان تصوري لحل مشكلة التنظيم القومي - في ذلك الوقت - هو إعداد
" اكبر عدد من الشباب العربي ليحضروا " المؤتمر الوطني " ويشاركوا
في مناقشة " ميثاق العمل الوطني " من أجل تحويل المؤتمر الوطني الى
مؤتمر قومي ، وتحويل المؤتمر الوطني الى مؤتمر قومي ، وتأسيس الحركة العربية
الواحدة في القاهرة تحت قيادة عبد الناصر . كان يرشح هذه الخطة للنجاح أن عبد
الناصر كان قد عبر أكثر من مرة عن رغبته في أن تتاح له فرصة التخلي عن رئاسة الدولة
ليتولى قيادة الاتحاد الاشتراكي العربي (کما فعل ماوتسی تونج ) وكنت احسب أن كل
الظروف مساعدة على أن تكون الفرصة عام ۱۹۷۰ حيث يتخلى
القائد عن رئاسة دولة إقليمية ليتولى قيادة تنظم قومي . وكان استحقاقه القيادة
حقيقة تاريخية يشهد لها ويشهد بها عشرات الملايين في الوطن العربي . وما يشهدون بما ادعاه عبد الناصر أو تلقاه منحة من أحد ولكن بما اكتسبه
بحق خلال تاريخ طويل من النضال الذي بدأ مصريا ثم تطور خلال المعارك الحية فأصبح
قوميا .
تطرقت الدراسة
الى التجارب السابقة ، تجربة حزب البعث و تجربه القوميين العرب وتجربة " الطليعة
العربية " لمعرفة لماذا فشلت تجارب قام بها قوميون لا شك في قوميتهم ، مناضلون
لم يدخروا جهدا في سبيل وحدة أمتهم ، وانضمت الدروس الى خلاصات الدراسة ، فانتهت
الى ما انتهت إليه في بيان طارق . لكي يكون التنظيم قوميا لا بد له من أن يختار
ويراقب ويستبدل قيادته أو أن يكون قادرا على هذا اذا أراد . وان عملية إنشائه يجب أن تكون کانشاء الجيوش الحديثة لأول
مرة . لا يبدأ بالقادة " الجنرالات " ولا يبدأ بالتجنيد ، ولكن يبدأ
بالضباط . منهم تنبثق القيادة بمقياس الكفاءة . واليهم يجند الجند ليدربوهم ويقودوهم
وبهذا يكتمل الجيش تكوينا ، ثم یبقی قوة ضاربة مهما تغپر الجند ومهما تغير القادة ،
فلا يتوقف التنظيم القومي وجودا وعدما ، حركة وعمودا ، فكرا وممارسة على قيادته . لا
بد إذن من " مرحلة " إعداد الضباط .. وأسميت تلك " مرحلة الإعداد
" التي تسبق تأسيس التنظيم القومي . والباقي تعرف تفاصيله من بیان طارق .
نشرت الدراسة
وانتشرت وتكونت حولها حلقات من الشباب العربي في أقطار متفرقة وعرفوا باسم "
الأنصار " . يعنون بذلك أنهم ليسوا التنظيم القومي عينه بل أنهم فقط أنصار
التنظيم القومي الذي يعملون على أعداد أنفسهم للانخراط فيه حينما تكتمل شروط تأسيسه
. وكان لا بد من أن يحدث جدل فكري بین " الأنصار " وبين المنتظمين في "
الطليعة العربية " يدور حول المفاضلة بین أسلوبي الإنشاء . وجاءت الي فتحي
الديب أخبار من جامعة حلب في سوريه ومن مدينة الزرقاء في الأردن بأن الجدل قد تحول
الى خصومة فاعتبر " الأنصار " تنظيما معارضا . واعتبره مناهضا ، ونسب
إليّ شرفا لا أدعيه هو أنني من موقعي في القاهرة أقود تنظيما معارضا مناهضا اسمه
" الأنصار ". وكان ما كان من اتهام ومحاصرة في القاهرة .. هذا بالرغم من انه وأجهزته حاولوا بكل ما يملكون من أساليب معرفة محرّر
بیان طارق فلم يفلحوا ولم يفلح غيرهم الى أن ووجهت به عام 1972 أثناء التحقيق فيما اتهمني به السادات
من أنني أعمل على قلب نظم الحكم في الدول العربية جميعا لإقامة دولة الوحدة ، فقلت
نعم إني صاحب بیان طارق ومازلت مصرا عليه ، وقضى بسجني عشر سنوات ( في ذات يوم
الحكم ضدي حكمت محكمة أخرى على جاسوس إسرائيلي بعشر سنوات أيضا ) . فأراد صديق في
جريدة الأهرام ان يحتج على الحكم الصادر ضدي فنشر نبأي الحكمين متجاورين في الصفحة
الأولى من الأهرام ، وقد كشف ذلك الاحتجاج الحقيقة . والحقيقة في أيام السادات أن
الدعوة الى التنظيم القومي كانت مثل تجسس الصهاينة على دولته . هذا قبل ان يوقع
اتفاقية کامب ديفيد وتصبح أسباب التجسس مشروعه تحت عنوان التطبيع .
7 ـ لم یكن بیان طارق، هو وحده السبب في ذاك الحكم الجسيم بل كان معه وقبله
أمر آخر متصل بإنشاء التنظيم القومى أيضا ، ذلك أنني كنت قد فطنت الى ما ينتظر
الأمة العربية بعد وفاة قائد جماهيرها
الفذ جمال عبد الناصر . مصدر الفطنة ، معرفتي أنور السادات منذ عام 1946 . نحن إذن
مقدمين على ردة مدمّرة . والتنظيم القومى بخصائصه الطموحة غائب ، فما الحل .
هنالك ألقيت محاضرة
وجهت فيها نداء الى الجماهير العربية بأن تلتحم معا لتملأ الفراغ الذي تركه القائد
العملاق ، ووجهت فيها دعوة ملحة الى الناصريين من تلك الجماهير بأن لا ينتظروا
ناصرا آخر ولا يختلقوه بل التحموا في الحركة العربية الواحدة لتحفظوا المسيرة من
مخاطر الردّة ... كان ذلك في نوفمبر 1970. وكنت قد تلقيت قبيل وفاة عبد الناصر دعوة من قيادة الثورة في ليبيا
الى زيارتها إلقاء سلسلة من المحاضرات بمناسبة البدء في تنظيم الجماهير على غرار الإتحاد
الاشتراكي العربي في مصر . فلما غاب عبد الناصر اعتذرت في رسالة مكتوبة قلت فيها
ما اذكر منه أن ما كان يمكن ان يقال في حياة عبد الناصر لم يعد قوله مجديا بعد
وفاته ، وان الأمة العربية مقدمه على مرحله مغايره نوعيا عما كانت عليه ، فجاءنی
رسول يحمل إليّ تأكيدا للدعوة بحجه ان الزيارة قد أصبحت ألان أكثر لزوما مما قبل
.. فزرت ليبيا لأول مرة .
استقبلني الأخ
العقيد معمر القذافي في مكتبه وكان جل أعضاء مجلس الثورة حاضرين . وجاء السؤال
الذي لم أكن انتظره : كيف يمكن إنشاء التنظيم القومي الذي ما فتئت تدعو إليه مع
التسليم بأنه أصبح لازما حيويا بعد وفاة عبد الناصر . فأجبت وسئلت وأجبت خلال حوار
طويل لست في حل من ذكر تفاصيله . المهم ان الحوار قد انتهى باقتراح من جانبی بأن يُعد
مشروع وثيقة فكرية تطرح على كل القوميين في الوطن العربي ليبدوا فیها آراءهم مكتوبة
خلال مدة معينة ، ثم تعاد صياغتها على ضوء ملحوظاتهم ، ثم توجه الدعوة إليهم لعقد
مؤتمر تأسيسي تتم فيه الصياغة النهائية . ثم يضع المؤتمر لوائحه الداخلية "
وينتخب قيادته . ثم تبدأ المسيرة .. وأضفت انه من اجل اجتناب الخلط - العربي
" السائد بین الموضوع والذات اقترح ألا تحمل " الوثيقة - المشروع اسم أو
أسماء واضعيها بالرغم مما في ذلك من حرمان من شرف إعلان مساهمتهم فيها .
سألني الأخ عبد
السلام جلود ، ومن يضع مشروع الوثيقة ؟ قلت ما دمت انأ الذي اقترحت
ان يحرم صاحبها
من شرف إعلان مساهمته فيها فاني مستعد أن أضعها ، وافترقنا على أن أبدا وضع
المشروع ..
بعد يومين فقط
حُملت اليّ رسالة شفوية بأن رسالة قد وردت من القاهرة تحذر الإخوة في ليبيا مني وتنسب
الى أنني قائم فعلا على تنظيم وأنني قد استغل فتح أبواب الاتصال في ليبيا لتجنيد
بعضهم . وقيل لي بمودة ووضوح ما رأيك ؟،
قلت لمن حمل الرسالة ، ممن جاءت الرسالة ؟ قال من شعراوي جمعة ( وزير داخليه مصر
في ذاك الوقت ) فقلت أن الرسالة واضحة فان كان بها غموض فاسألوا صاحبها . الواقع انني غضبت
غضبا لم استطع أن اعبر عنه الا بالاستعلاء على أن أكون محل اتهام . وبذات المودة
والوضوح دعيت الى ان أنسى الأمر كله والا أتأثر به وان اکمل برنامج زيارتي ، ولكني
كنت غير قادر على ما دعيت اليه فغادرت ليبيا الى القاهرة في أول طائرة . وفي
القاهرة شننت حملة تشهير شعواء ضد شعراوي جمعة ..
فاستدعاني في
يناير ۱۹۷۱. وقابلني بمودة مدهشة . ثم سأل : لماذا تهاجمني ؟ فقلت له : أنها
البداية اما السبب فهو (وقصصت عليه ما حدث في طرابلس) . لدهشتي ازداد مودة وذكرني
بأنه وزير الداخلية ولو لم يكن يريد لي أن اذهب الى ليبيا لكان قادرا على منعي من
السفر . فقلت له : اذن هو فتحي الديب ، قال نعم هو فتحي الديب . أنه لم يرسل الى
الإخوة في ليبيا رسالة بل ذهب وراءك وابلغهم ما أبلغوك به . ثم أضاف ما الذي بينك
وبين فتحي الديب فقصصت عليه نبأ الدعوة التي ذكرتها من قبل . فأطلعني على اضبارة
كثيفة الأوراق وقال هذه اضبارتك . وعرفت منه ان فتحي الديب قد طلب أكثر من مرة الی
الرئيس عبد الناصر الإذن بوضع حد " لنشاطي " وفي كل مرة كان الرئيس يحيل
الطلب الى وزارة الداخلية و ان وزارة الداخلية كانت ترد - بعد رقابه صارمة وطويلة
- انني لست معاديا ولا مناهضا ولا مخربا .. ثم قال : دعنا من هذا وأنساه فنحن في
مرحلة جديدة حرجة ، وقد اطلعت على المحاضرة التي القيتها بشأن الحركة العربية
الواحدة وقد أردت أن أراك لأسألك : كيف يمكن تأسيس الحركة العربية الواحدة ؟ فأعدت
عليه حرفيا الجواب الذي سمعه الإخوة في ليبيا . وافترقنا متفقين على أن أضع مشروع الوثيقة من اربع نسخ . ارسل واحدة منها الى الاخ معمر القذافي واحتفظ لنفسي بواحده
، وأقدم له نسختين له واحدة وواحدة لقيادة تنظیم " طليعة الاشتراكيين "
. لماذا طليعة الاشتراكيين؟ قال لان محاضرتك كانت موضع دراسة دقيقة في التنظيم وقد
انتهى الأمر الى الأخذ برأيك والبدء في بناء الحركة العربية الواحدة حتى تملأ
الجماهير العربية المنظمة الفراغ الذي تركه الغياب المفاجئ لقائدها ..
انه الفجر
الجديد يقترب ، هكذا قلت لنفسي ، اعتزلت الناس وعملي سبعة أشهر بكل ايامها
ولياليها وساعاتها ودقائقها حتى اذا جاء يوليو ۱۹۷۱ کنت قد أكملت ما نشر بعد ذلك تحت عنوان " نظرية الثورة العربية
" . لو التفت الى صياغته لوجدت انه بدون مقدمه . لوجدت أنه يمكن ان ينتزع منه
فصل وتبقى الفصول متصلة . لوجدت انه يمكن أن تنتزع من كل فصل فقرة وتبقى الفقرات
متصلة . لأنني كنت اكتب مشروعا قابلا للمناقشة والحذف والإضافة صغت مادته مما اعتقد
انه خلاصة الفكر القومى التقدمي کله بما فيه الفكر الذي قدمه عبد الناصر وفكر المجتهدين
غيره من القوميين وفكري . كل ما يميزه انه صياغة لمشروع مقبل وليس صياغة لفكر ماض
.
ولكن في يوليو ۱۹۷۱ كان قد مضي شهران على انقلاب ۱۰ مايو الذي أطاح فيه السادات بكل رموز
الناصريين في مصر، وكان شعراوي جمعة الطرف الثالث في الاتفاق في غياهب السجن . ولم
تكن تلك مفاجأة لي فقد كنت أتوقعها وأحاول التحريض على سبقها . ذلك لأني کما قلت
لك اعرف السادات منذ 1946 . ولكن المفاجأة الحقيقية كانت تصديق الأخوة في ليبيا
مزاعم السادات الوحدوية وانحيازهم إليه في صراع مايو ۱۹۷۱. ولم يکن من مبررات ذاك الانحياز الا انه الرئيس الشرعي لدولة مصر .
انه اذن تفضيل للتعامل مع الدولة ..
8 ـ وحملت کتابي کما هو الى الرقابة في القاهرة اطلب التصريح بنشره فرفض
طلبي . فاعترضت وطلبت بمعرفة أسباب الرفض ومناقشتها واوضحت بصرامة أيضا أنني لا اقبل
آن يرفض طلبي بدون ان اعرف الأسباب ، ولا اقبل الأسباب بدون ان أناقشها . فتحدد لي
موعد بعد أسبوعين لعرض الأسباب ومناقشتها . فوجئت في الموعد فإنني أواجه لجنة
يرأسها مدير الرقابة على المطبوعات ، وتضم ثلاثة راجعوا الكتاب ووضعوا أسباب الرفض
ثم .. ممثلا للمخابرات العامة ومثلا لوزارة الداخلية . كان ذلك لافتا
ومثيرا للدهشة . دهشتي . ما الذي حشر ممثلي المخابرات والداخلية ؟. لم يحدث مثل
هذا من قبل . فتصورت حينئذ ما ستثبت صحته بعد ذلك . ان السادة الجدد في أجهزة
الأمن المصرية يعرفون قصة نظرية الثورة العربية منذ زيارة ليبيا الى مقابلة شعراوي
وعلاقة الكتاب بمشروع التنظيم القومي . وبدأت
المناقشة واستمرت نحو ثلاث ساعات رددت فيها كل الاعتراضات ورددت خلالها ـ عشرات المرات ـ على سؤال تكرر بعد كل قسم من أقسام الكتاب : حتى لو
كانت وجهة نظرك صحيحة فلماذا تكتب هذا وتنشره الآن ، وما فائدته ، ولمن هو موجه ... في النهاية قلت لهم احذفوا ما لا تريدون أن ينشر بحيث لا يتجاوز مائة
صفحة واتركوا لي الباقي انشره أو لا انشره . أما اذا رفضتم نشره فإنني أقول منذ
الآن انني سأنشره خارج مصر .
واستمهلوني أسبوعين
ابلغوني بعدهما قرار منع نشر الكتاب جملة وتفصيلا فأرسلته فور القرار الى بيروت
لينشر.
9 ـ في أواخر ديسمبر ۱۹۷۱ سافرت الى بيروت لأوقع عقد نشر الكتاب ، ثم منها الى دمشق على موعد
مع قادة منظمة " فتح " للاتفاق على خطة الدفاع عن الشباب الذين اعدموا
وصفي التل في القاهرة . فقد كان من المنتظر أن أتولى الدفاع عنهم أو ان اساهم فيه ،
وكان لي رأي في خطة الدفاع تقتضي موافقة قيادة الثورة عليها .
في دمشق قابلت
صدفة کما ظننت وتدبیرا کما اتضح بعد ذلك شابا عربيا من مصر اسمه محمد عبد الشفيع ،
عرفته اول مرة وهو طالب في كلية الاقتصاد والسياسة بجامعة القاهرة اثناء ندوة كان
قد دعاني هو وبعض الطلبة الى حضورها . يحمل هذا الشاب في جمجمته مخا قريب الكفاءة
من الكمبيوتر . وهو ايضا قومي الوعي ، تقدمي الاتجاه ، وحدوي الغاية . فلم البث
حتى وضعته مني موضع الابن . كنت فخورا بأن يوجد مثل محمد عبد الشفيع من بين الجيل
العربي الجديد في مصر . ثم عرفت منه أنه يعمل مساعدا لدی فتحي الديب في مكتب
الشؤون العربية . لم يؤثر هذا في إعجابي به ورعایتي إياه ... ثم قابلته في دمشق وأردت أن أفاخر به شباب الإقليم الشمالي وأن افتح
له أبواب معرفة المناضلين في الثورة الفلسطينية ، فطلبت من " فتح " ان
تستضيفه معي فاستضافته . وهكذا أتيح لمحمد عبد الشفيع ان يقابل كل من قابلني ، وأن
يحضر كل اجتماعاتي وأن يستمع الى كل ما يدور فيها من حوار حول الآلام العربية
والآمال القومية ، وما كنت لأقابل وأحاور الا الشباب القومي ، وما كان الحوار ليدور
الا حول ألم التجزئة وأمل التنظيم القومي . وسمع مني وانا اتحدث الي الشباب القومي
من سورية ولبنان والعراق ، والشباب القومي من كوادر منظمة التحرير الفلسطينية أن
كتاب " نظرية الثورة العربية " هو مشروع الميثاق الفكري للتنظيم القومي
کما اراه ، وأنني لن اكتب بعد ذلك شيئا في هذا الموضوع . وانه قد آن الأوان ليبدأ
الشباب القومي العمل على امتلاك اداة الثورة القومية ، وان أول خطوة هي مناقشة
تعديل هذا المشروع اضافة او حذفا وإكمال نقصه المحتمل من تراث الفكر القوى الغنى
... الى آخره .
عدت ، ومعي عبد
الشفيع ، في منتصف يناير ۱۹۷۳ . وفي 16 فبرا بر ۱۹۷۳ قبض علي وحملت عنوة الى سجن القلعة ،
وكان سجن القلعة مزدحما بالشباب . أعرف هذا من هتافاتهم طوال الليل وأغلب النهار .
فقد كنت في زنزانة " خاصة جدا ". بعد يومين عرضت علي النيابة بدأ
التحقيق لأعرف لأول مرة أن للاتهام صلة بالتنظيم القومي . كان أول سؤال : ماذا
تعرف عن الوثيقة التي تحمل عنوان " بیان طارق " ؟ ، كان يكفيني ان انكر
معرفتي به ، ولكني في ثوان حاسمات تصورت - خطأ - ان قد يكون المتهمون الذين تعج بهم
زنازين القلعة متهمين بحيازة بیان طارق أو بمحاولة انشاء التنظيم القومي على هدیة .
ووجدت ان من واجبي ان أدافع عما أدعو الشباب إليه . فقلت اني صاحب بیان طارق
ومتمسك بكل ما جاء فيه . ودافعت عن ضرورة التنظيم القومي على مدى ثلاثة ايام كان
التحقيق يدور فيها ليلا في مبني مباحث امن الدولة .
كنت قد ووجهته
خلال التحقيق ، بأقوال منسوبة الى محمد عبد الشفيع ، ولكني لم أتكد من ان محمد عبد
الشفيع من بين المتهمين الا بعد شهر ، حين نقلنا الى سجن القناطر واتيح لي ان اعرف
من أمر بقية المتهمين ما عرفت . وكان أول ما عرفت ان بقية المتهمين ـ الذين لم اكن
اعرف منهم الا واحدا - يشكون في أن يكون زميلهم وصديقهم محمد عبد الشفيع قد اوقع
بهم . فانحزت اليه ودافعت عنه . حتى اذا ما جاءت المحاكمة التي استمرت ۱۷ يوما خلال شهر يوليو ۱۹۷۲ ، وقف محمد عبد
الشفيع ليقول انه ضحية تغرير رجال الأمن ، وانه يعمل في الحقيقة معهم ، وله ثلاثة
جوازات سفر بأسماء مختلفة ، وانه مكلف منذ سنين بمراقبتي ، وان فتحي الديب قد
ارسله ورائي الى دمشق ، وأنه لم يقاہلني صدفة ، وانه قدم تقريرا بعد عودته انتهى
فيه الى انني سأعتزل الكتابة وأتفرغ لتأسيس التنظيم القومي ، وانه قد ساعد في
اصطناع القضية واًدخل فيها متهما ليشهد بان لي علاقة تنظيمية بباقی المتهمين ، وأنه
وًعد بأن يكون " شاهد ملك " ، وان أجهزة الامن قد غدرت به ... ولكنه شهد ايضا - وهو مغيظ - بان فتحي الديب يخشى منذ سنوات أن يلتفت
الرئيس عبد الناصر الى فينتزع مهمة تأسيس التنظيم القومي منه ، وقد يطلب الىّ
الرأي او يدعونى الى اداء تلك المهمة فأراد فتحي الديب منذ البداية أن يشوه صورتي
لدى الرئيس ( كان فتحي الديب يظن أن كل الناس على شاكلته يكون قوميا او لا يكون
تبعا للأمر الذي يصدر اليه من رئيس الدولة ) وكلفه هو بأن يضع تقارير غير صحيحة فوضعها
ثم أشاد بي ما شاء أن يشيد ... فسألته المحكمة عن التماس كان قد قدمه
الى السادات " بعد انتهاء التحقيق " يعلن التوبة ويطلب العفو ويعيد تأكيد
أتهامي ... فلم يجب اجابه شافيه ... وكان ذاك الالتماس هو سند المحكمة حين قضت بإدانتي
.
كانت أقوالا
مذهلة ، ولكنها كانت درسا لا ينسى ، فهذا شاب عبقري الذكاء ، قومي الفكر ، تقدمي
الاتجاه ، وحدوي الغاية ، أي أنه - بكل المقاييس المجردة - يصلح نموذجا للطليعي في
التنظيم القومي . ومع ذلك فها هو يكذب ويتآمر ويغش وپوقع بمن يعرفهم وبمن كان منه
في منزلة الاب . فهل تغني عبقرية الذكاء ، وقومية الفكر، وتقدمية الاتجاه ووحدوية
الغاية عن صلابة الخلق . وكيف يمكن التحقق من صلابة الخلق قبل أن يمر صاحبه بمحنه
الاختبار ؟ . لقد كان توفيقا أن أخص الفصل الأخير من کتاب " أسس الاشتراكية
العربية " للحديث عن أخلاق الطليعي . ولكني - هناك - كنت أريد أن أثبت آن
منهج جدول الإنسان قادر على أن يفسر لنا تفسيرا علميا تلك الأخلاق التي ربانا
عليها تراثنا الروحي . ومع ذلك كيف يمكن الاختبار ؟. الحمد لله على أن التنظيم
القوي لم يؤسس من قبل حينما كان عشرات ومئات بل آلاف يرشحون أنفسهم للانخراط فيه
يوم أن كان عبد الناصر يدعو اليه ، ويحاول أعوانه تأسيسه ، فلما مات عبد الناصر
انقلبوا يأكلون لحمه ميتا : وحمدت الله على أن دعوت في بيان طارق الى أن يسبق
تأسيس التنظيم القومي مرحلة إعداد يختبر فيها الناس خلال نضال حقیقي دفاعا عن
الشعب العربي ضد القهر الاقليمي فلا يجتاز الاعداد الى التأسيس الا قومي الفكر
وتقدمي الاتجاه ، ووحدوي الغاية ... صلب الخلق . هكذا كنت أفكر بينما كان محمد عبد
الشفيع يدلي بأقواله المذهلة .. ومنذئذ حفظت الدرس ودعوت الشباب الى أن يحفظوه .
ولان الدرس كان في ظروف قاسیة فقد تبدلت عندي أولويات المقاييس : صلابة الخلق
أولا، وحدوية الغاية ثانيا ، تقدمية الاتجاه ثالثا ثم قومية الفكر رابعا وأخيرا ..
ارجو ان تتأمل
هذا الترتيب الغريب ، فليس ثمّة تنظيم في الأرض قد عرفه فالتزمه . ولكن التزامه
مسألة حياة أو موت بالنسبة الى التنظيم القومي ، لأنه لا يوجد ولم يوجد علی الأرض
تنظیم يعد نفسه لتحقيق مثل ما هو مطلوب من التنظيم القومي : الغاء مجموعة من الدول
، وإقامة دولة واحدة في ظروف عربية ودولية معادية جميعا لدولة الوحدة العربية .
صلابة الخلق
أولا ، ومن هو على خلق يصدق اذا قال ان غايته الوحدة ، ومن كانت غايته الوحدة فهو
تقدمي الاتجاه ، ثم يأتي الفكر القومى لیبرّر ويفسّر ويعمّق منطلقات المسيرة وغايتها
. فان آمن به من هو على خلق فقد صح ایمانه وصدق ... اما صاحب الفكر القومی ولو كان مبدعا فهو آخر من يرجي منه في تأسيس
التنظيم القومي الا أن يكون - أولا - علی خلق قویم .
تعلمت هذا من
تجربة محمد عبد الشفيع الواقعية . وكنت قد تعلمته من قوانین جد الانسان النظرية ،
فحيث يكون الانسان " هو الجدلي الوحيد وقائد التطور يكون الحديث عن منطلقات التطور
واساليبه وغايته غير ذي جدوی قبل معرفة من هو ذلك الانسان الذي سيبدأ من المنطلقات
خلال الأساليب الى الغايات بدون أن يتراجع او يتوقف أو ينحرف او يخون .
10 - كانت القضية مهترئه من الناحية "الحقوقية"
، فألغت هيئة قضائية تسمّی " مكتب مراجعة الأحكام" الحكم الذي صدر ضدي
بالسجن عشر سنوات .. الغي الحكم وخرجت من السجن بعد ثمانية عشر شهرا مشحونه
بالدروس والعبر .. ولكن السجن لم يكن مأساة كما كنت اتصور من قبل ، تعرف هذا لو
كنت قرأت كتاب " اعدام السجان" ... ولكنه كثف اقتناعي بان لا بديل عن
التنظيم القومی : لقد كنت أعيه کأداة اقامة دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية
والحفاظ على وحدتها ، فأصبحت أعي له وظيفة أخرى : أنه الأداة الوحيدة للحفاظ على
أمن القوميين من خطر الاقليمين . لقد كنت على يقين ولم أزل انه لو كان في مصر وجود
لتنظيم قومي عام 1972 لما جرؤ السادات على أن يستهين بی الى درجة الزج بي في السجن
من أجل تهمة ملفقة ، فتمنيت لو وعى كل الشباب القومى ما وعيته : لا أمل في حياة
خاصة آمنه في أية دولة عربية الا في حماية التنظيم القومي . كل احلام وأمال الشباب
العربي في المستقبل ستتبدّد طالما بقي التنظيم القومي غائبا . كل حياة في ظل
التجزئة الاقليمية هي حياة جزئيه تنقصها الكرامة والحرية . ان القوميين سيبقون
مستضعفين في وطنهم غرباء في دولهم الى أن يوحدوا وطنهم في دولة الوحدة ... أو ... تطحنهم المطاحن الاقليمية ثم تعجنهم في مستنقعها ثم تشكل منهم اقليمين
شائهين ..
اذن فلتنذر بقية
الحياة للتنظيم القومي وحده ، وهأنذا أخرج من السجن فأجد أنني اصبحت لأول مرة - معروفا
للرأي العام في مصر . ما فتئت صحف السادات تشهّر بذلك المغرور الذي انشأ تنظيما من
14 شابا ليسقط الدول العربية جميعا ويقيم
دولة الوحدة حتى التفت کثير من الشباب في مصر الى أنه لابد من تنظيم لإقامة دولة
الوحدة ولا غرور . وتسللت كتبي من الخارج عبر الحدود الى القاهرة ، وقرأ الشباب
" نظرية الثورة العربية" قبل أن أقرأها منشوره (نشرت وانا في السجن) .
بدأت أتلقي الدعوات من شباب الجامعات خاصة لأتحدث في المسائل القومية .
ولكن السادات فرض
معركة جديدة .
11 - کنت اعرف ان السادات لم يهاجم عبد الناصر الا لانه مرتد عن طريقه . کنت علی يقين من أن الغاية هي تصفية ما انجزه عبد الناصر على طريق الحرية
والاشتراكية والوحدة وليس شخص عبد الناصر . وكنت ادرك تماما الى این يتجه السادات .
مصر العربية سترتد الى مصر الفرعونيه . مصر المتحررة سترتد الى مصر التابعه . مصر
التي تسير على درب الاشتراكية سترتد رأسمالية . بدأت الردة كلها في اکتوبر 1973 ، كانت قوات الصهاينة قد اخترقت القناة وتسللت الى الدلتا واقتربت من
القاهرة . فانهزم السادات شخصيا هزيمة ساحقه . السادات هو الذي انهزم داخليا ولم
تنهزم القوات المسلحة . فلم يستطع أن يأمر قواته المتفوقة عددا وعدة التي تجمعت في
مواجهة الصهاينة بتصفية المتسللين وكانت قادرة على ذلك كما اعترف هو نفسه . بدلا
من ذلك قابل كيسنجر وتمّت الصفقة . انسحاب
الصهاينة الى شرق القناه ( اتفاقية فض الاشتباك الاولی ۱۹۷۳) مقابل الانفتاح الاقتصادي والسماح لرؤس الاموال الاجنبيه بالتدفق الى
مصر واباحة الوكالة التجارية عن الشركات الاجنبيه ورفع كل القيود عن التجارة
الخارجية وايقاف قيادة القطاع العام للنشاط الاقتصادي ( قوانین 1984) . وتدفقت الأموال وأنشئت البنوك وتحول بعد المصريين الى سماسره ، وعرف
الشعب العربي في مصر السلع الاستهلاكية الأوربية والامريكية واليابانية ، وانكمش
الطلب على السلع المصرية فتعطل الانتاج الوطني ، وبدأت مديونيه الدولة ترتفع الی
آلاف الملايين .. فاصبحت امعاء شعبنا في قبضة الامريكين ، ثم خطوة خطوه ، و" لكن
واقعيين " .. أن رأس الامال جبان . ان المعونه مشروطة بالاستماع الى "النصائح"
. لا بد من انهاء حالة الحرب مع اسرائيل حتى يتم الاستقرار والرخاء . فوقعت في اول سبتمبر 1975 اتفاقية أسميت
اتفاقية فض الأشتباك الثانية وهي ليست كذلك . فقد أقرت فيها حكومة السادات بأن "النزاع"
مع اسرائيل لا يجدي فيه القتال وتعهدت بألا تلجأ الى القوة بعد ذلك ، وقبلت رقابة
دقيقة تقوم بها الولايات المتحدة الأمريكية حتى لا تخلف ما وعدت به . وأنشئت في سيناء
قواعد للطيران الأمريكي المكلف بالرقابة ، ثم ... ثم ... زيارة القدس ومؤتمر بغداد والقطيعة بين الدول الحرية التي تطورت الى
عداء .. ثم كامب ديفد والعلم الاسرائيلي الذي يرفرف في القاهرة ... الخ ..
انها مصر تقتطع من جسم
الامة العربية كما اقتطع الاسكدرون وعربستان وأريتريا وأوجادين ولكن بأسلوب النصف الثاني من القرن
العشرين . تقتطع تحت سمع وبصر الدول العربية الاقليمية فماذا فعل الاقليمون . اجتمعوا
في بغداد وقرّروا أولا شراء السادات ببضعة بلايين من الدولارات . ولما كانت امريكا
اغني فقد رفض السادات ، فقرر المجتمعون في بغداد اكمال المشروع الامریكی فقطعوا
علاقاتهم مع مصر . تم القطع بمقص ذي سلاحین احدهما صهيونی امریكي والأخر عربي
اقلیمي . هل كانوا قادرين على غير هذا ؟ انهم لم يكونوا قادرين على غير هذا لانهم
اقليميين . اما لو كانوا قومیین فان احباط اقتطاع مصر أو اسقاط اتفاقية كامب ديفيد
لم يكن يقتضي الا بدء القتال ضد دولة الصهاينة على طول الجبهة الشرقية واليكن بعد
ذلك ما يكون . لم يكن من الممكن ان يحدث للأمة العربية اسوأ من اقتطاع مصر . ولك
أن تتصور ما كان يمكن أن يحدث على ضوء علمك من الحرب ضد ایران ببطولة شعبنا العربي
في العراق وكفاءة جنوده . فأكاد أقول أن كل الحكام العرب ، بدون استثناء ، قد
تعاملوا مع اقتطاع مصر الذي يسمونه عزلتها او انعزالها کما يتعامل ورثة الثري المتوفي
. يبكونه علنا حين يموت ويحلمون بإرثه وهم يبكون فيفرحون خفية .. الآن أتيحت الفرصة لكل حاكم أن يكون خليفة عبد الناصر العظيم . ان كنت تشك
في هذا فراجع لقاءات قادة تلك الدول واهتماماتهم بعد 1985 لعلك ان تصادف فيما ترجع اليه ان قد كان من بين ما اهتم به بعض
الحكام الذين يرشحون انفسهم للخلافة "تأليف"
مواثيق و نظریات ومناقشتها في مؤتمرات ... ولم لا ؟ الم يكن لعبد الناصر میثاق
ناقشه في مؤتمر؟ ثم تلك المحاولات المحمومة الملوثة التي
حاولها حكام وقادة كثيرون يحلمون بأن تكون تحت قيادة دولهم ومنظماتهم قوة منظمة من
العرب المصرييں في مصر المستباحة لأحلامهم ، فاغدقوا على كثير من المصريين الهاربين
من بطش السادات . والمتهاربين من بطش لا يستهدفهم ، والعاملين المهاجرين اليهم
بحثا عن لقمة العيش الشريف واسموا كل اولئك "الحركة الوطنية المصرية في
الخارج" . وشكلوا من بينهم منظمات فأساءوا الى مناضلين من مصر كان لابد لهم
من مغادرتها لكي يحتفظوا بالمقدرة على الاستمرار في نضالهم ، وأفسدوا مناضلين من مصر
كانوا محصنین ضد غواية المال .. وفتحوا أبواب القرار للجبناء والانتهازین ... فما فعلوا شيئا غير تدعيم موقف السادات وأضعاف الحركة الوطنية في
داخل مصر ذاتها .
تحديا للسادات
ذهب وفد من المعارضين الى بغداد عام ۱۹۷۹. کان خلق كثير من كل مكان في الوطن العربي قد تلقوا دعوات الى
المشاركة في مؤتمر لمناقشة وثيقة صدرت في العراق باسم " الميثاق القوي"
. وهنالك استمعت الى ما لا استطيع نسيانه من سباب بأكثر الكلمات بذاءة وادناها
انحطاطا ، الى أن حدث ان اقترح احدهم ارسال برقية الى القاهرة تتضمن رأيهم في مسلك
حكومتها ، فقال اقليمي من لبنان كان يرأس الجلسة ما معناه أن الورقة التي تصدر من
بغداد طاهرة لا يجوز أن تُلوّث بأجواء القاهرة ، فطفح الكيل وأخذت الكلمة . وقلت
لهم اننا نقدّر أسباب بلاغتكم في السباب لأننا نعلم انكم لا تستطيعون شيئا غيره .
أما نحن القادمين من القاهرة فنملك بدائل كثيرة تغنينا عن السباب البذئ . نحن نعِد
باسقاط کامب دیفد ولن تكون هذه نهاية ما
نقوم به ، بل اننا سنعود بعدها الى عواصم عربية كثيرة لنحاسب اولئك الذين شاركوا
بالاتفاق أو التحريض أو المساعدة ، وحضّروا المسرح العربي بالعمل في غير الوقت
المناسب ، او بالامتناع عن العمل في الوقت المناسب لتكون القاهرة أول عاصة يرفع
فيها العلم الصهيوني . سنعود الى القاهرة ولكن لينتظر كل واحد منكم عودتنا الى
القطر الذي يعود اليه لتصفية الحساب .
12 - ماذا كان وراء هذا الوعد الوعيد ؟ كان وراءه ارادة من حديد بأن يؤسس
التنظيم القومي في القاهرة . فالتنظيم القومى وحده هو الذي يستطيع تحرير مصر
واسقاط کامب ديفيد ومحاسبة الاقليميين كافة في الوطن العربي جميعا . حسابا عسيرا
على دورهم الذي اسهموا به في اقتطاع مصر من جسم الأمة العربية .
أنها تكاد تكون
اقليمية مصرية ؟
هكذا تساءل بعض
الذين لا يعلمون " وهكذا روّج ويروّج
المنافقين من القوميين ، فتأمّل ايها الشاب العربي من تونس ما سأقوله لك فانه ثراء
للفكر القومي من خلال تجربة الواقع
، وهو هو الذي
سيضع اقدام الشباب العربي على الطريق الصحيح الى تنظيمهم القومي حقا .
13 - لقد تعلمنا من أساتذنا الأجلاء ما هي الأمة ، وعرفنا من خصائص الأمة
التي تعلمناها أننا أمة عربية واحدة ، وأثمر تعليمهم ما لا شك يسعدهم فأضفنا الى
الثوة الفكرية الغنية التي خلفوها لنا السؤال : لماذا الامة ؟ وأجبنا عليه في كل
كتاب اصدرناه منذ 1965 ، فعرفنا معرفة اليقين ان وحدة الامة تعنى - حتما - وحدة المصير ، وان
الشرود من الانتماء القومي فشل محض ...
کان يزکي تلك
المعرفة واقع الحركة العربية التحررية بقيادة عبد الناصر . نحن تحررت مصر تحت
قيادته تحررت أغلب الأقطار العربية . وحين اصبح قائدا قوميا وقال ان القومية هي
التي خلقتنی (1958) لم يجرؤ عربي على انكار القومية ، وعصف عبد النار في مصر بمن انكروها متحالفين
مع من أنكروها في العراق . وحينما تحققت وحدة 1958 كان كل الناس وحدويین ، وكانت تلك الظاهرة اكثر بروزا في مصر . كل
العرب في مصر أصبحوا قوميین وحدويین ... ولما قال بعض الكتاب العرب من المشرق انه انجاز عبد الناصر البطل أو شهوة
الانتماء الى حركة منتصرة قلنا - وكتبنا - ان كان هذا يصدق في مصر فما بال الأقطار
العربية الأخرى تندفع على الطريق القومي تحت قيادة عبد الناصر ، بل هي وحدة المصير
، ان شبكة "أعصاب قومية "كامنه تحت جلد الأمة العربية الواحدة تشد أعضاءها
بعضها الى بعض وتنسق بين حركاتها لتؤدى غاية واحدة وما مصر الا "مخ العرب
" كما قال بنو اميتان الكاتب الأديب الوزير الفرنسي . ان تستيقظ مصر تنتبه
الاعضاء . ان تتقدم تتقدم . ان تتراجع تتراجع ، حينئذ لم يكن التراجع يتوقع الحدوث
...
ومع ذلك فان صحة
النظرية كلها كانت متوقفة على ما اذا كان يمكن ان تتراجع أقطار الأمة العربية كلها
اذا تراجعت مصر . لان التراجع حينئذ سيكون تعبيرا عن وحدة المصير ، الوحدة
الموضوعية الكامنة في تكوين الامة الواحدة ذاته ، وليس الرغبة في التراجع .
ومات عبد
الناصر، وجاء السادات و انحسرت الحركة التقدمية في مصر ، وارتدت من الطرق القومي ،
وحاولت الاقطار العربية الاخرى ان تتكتل لتقاوم ، فكنت كأنني اسمع صوت نسيج الأمة يتمزق
. كان ثمة رباط عضوي يحول دون ان تختار مصر مصيرها منفردة ففشلت مصر في أن تنفرد
بالمصير الذي اختاره السادات . وفشلت الأقطار العربية الاخرى في أن تختار لها مصيرا
منفردا عن مصير مصر ففشل المؤتمرون في بغداد . فشلت كل الدول العربية بما فيها مصر
في أن تمزق النسيج القومي الذي يجمعها . وبالرغم من مقاومة الردة ارتدّت كل الدول
العربية عن مواقعها قبل کامب ديفيد لأن مصر تجذبها . وبالرغم من كل محاولات اکمال
الردة لم تستطع مصر أن تتجه الى اقصى ما كان يريده لها السادات لان الأقطار
العربية الاخرى کانت تشدّها . وأثبتت تجربة التراجع وحدة المصير بأقوى مما اثبتته
تجربة التقدم ، وبرغم الماسي التي عاناها الشعب العربي في دوله العاجزة عن التقدم
منفرده كما هي عاجزه عن التراجع منفرده . لم يعد من حق أي فكر غير قومي أن يأمل في
ثقة الذين عاشوا مرحلتي التقدم والتراجع معا . ولم يعد من حق أي كافر بوحدة الامة
العربية أن ينكر وحدة مصيرها ، ولم يعد من حق أي قومي أن يشك في حق القوميين
التقدمين في النصر النهائي ، وبالتالي لم يعد ثمة عذر لأي قومي في أن يبخل بجهده عن
انشاء اداة هذا النصر ، اعني التنظيم القومي ..
ولكن تلك التجربة
التاريخية التي اثبتت صحة الفكر القومي في منطلقاته وأسالیبه وغاياته قد صححت
الرؤية السابقة لكيفية تأسيس التنظيم القومي وبناء هياكله ومنطلق حركته . واني اذ
أوشك على نهاية حديثي اليك أرجو ان يحظى ما سأقوله بأقصی درجات انتباهك ..
14 – ان ما أثبتته تجربة تقدم مصر وردّتها من تأثير في حركه بقية الأقطار
العربية تقدما او ارتدادا ليس ميزة لمصر . فليس المصريين الا عربا . ولكنه أثر من
آثار وحدة المصير الذي هو ايضا من آثار وحد الامة . وبالتالي فان لكل قطر عربي مثل
هذا الأثر ، حتى لو كان في حجم "البحرين" . انما يختلف الاثر تبعا لثقل
القطر المؤثر ، الثقل الحضاری والبشري والاقتصادي والدولی ... ولا شك انك تعلم - من التاريخ - ان مصر كانت منذ الفتح العربي في قلب
الامبراطورية الاسلامية التي لم تنقطع الحروب عند اطرافها ، فكانت مصر مهجرا آمنا
بموقعه بعيدا عن ساحات الكر والفر بين الجيوش المتحاربة . فلاذ بها بناة الحضارة
من العلماء والمفكرين والأدباء والبنائين والفتاتين ، ورشحها أمنها الذي تحرسه
الجيوش عند الاطراف لتكون قاعدة القيادة ومكان التعبئة البشرية وموقع الصناعات . منها
تسير الجيوش ، وفيها مكان القيادة ، وإليها لجأ الخلفاء من المشرق حين هُزموا واليها
اتجه الخلفاء من المغرب حين انتصروا . ثم انها قد تعربت وأحاط بها العرب يحرسون
عروبتها حتى أمنت بينما كانت الأقطار الأطراف تعاني من الصراع ضد الشعوبيين وصراع
الشعوبیین ضدها وتحرس عروشها بالقوة ضد مخاطر الغزو الشعوبي . فلم يحتج أي عربي في
مصر الى أن يثبت عروبته لان احدا قي مصر لم ينكر علی أي عربی عروبته . وهكذا اكتملت
الأمة العربية تكوينا وتولی العرب من مصر وضع آخر لبنات التكوين القومي حينما خرجت
الجيوش العربية من مصر لتنهي الوجود الصليبي في المشرق بعد صلاح الدين ..
ولكل شئ وجهه
الاخر ، فاذا كان من حسن حظ مصر العربية أن تكون القلب الآمن للأمة العربية فان من
سوء حظ الأمة العربية أن مصر قد اصبحت بهذا وحده مصدر خطر على سلامة مسيره الوحدة
، لأن مصر هذه اکثر مقدرة على الحياة في عزلة عن امتها من أي قطر آخر . اقول فهي
اكثر تعرضا لأمراض الاقليمية من غيرها من الاقطار . ولم يكن غريبا أن يفطن
المستعمرون الى ان الاستيلاء عليها هو نصف الطريق أو اكثر الى الاستيلاء على الوطن
العربي كله . وليس غريبا أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تحاول مع اقطار عربية
كثيرة تهيمن عليها أن تصفي الشعور بالانتماء العربي عن طريق التسلط الثقافي والفني
کما تفعل بمصر الان ..
أول الطريق الصحيح الى الوحدة العربية اذن أن تصبح مصر وحدوية . أن تُطهّر
مصر من الاقليمية فكرا وأدبا وفنا وسياسة . واداة هذا التطهير هو التنظيم القومي .
وبالتالي فلن يكون اي تنظيم قومي قادرا على بدأ مسيرته الوحدوية -
مجرد البدأ - ما لم يكن له في مصر وجود متكافئ مع مقدرة مصر على التأثير وله في
مصر طليعيون من العرب ، يحملون هوية الدولة المصرية أو هوية اية دولة فهذا ما لا يتوقف
عنده التنظيم القومي ، قادرون على تطهير مصر القاعدة من الاقليمية ...
ضد هذه الحقائق
التاريخية حرم الشعب العربي في مصر من أن يساهم في الاعداد لبناء التنظيم القومي .
وانت تعرف الان كيف كان هذا الحرمان ومن المسؤول عنه . وأدّى ذلك الى تناقض عوّق
وما يزال يعوّق مولد اداة الثورة العربية . فبينما تزخر اغلب الاقطار العربية بالألوف
من الشباب القومي التقدمي "الجاهز" للانخراط في صفوف التنظيم القومي ،
انقضت مرحلة عبد الناصر والشباب القومي في مصر محرومون من مجرد التطلع الى الاسهام
في بناء التنظيم القومي ، وجاء السادات ومخاطر اقتطاع مصر فانشغلوا عن التنظيم
القومي بالنضال من أجل الحفاظ على مصر عربية .
من هم هؤلاء
الشباب القومي ..
انهم النبات
النامي من بذو القومية التي نثرها عبد الناصر في تربة مصر الخصبة . درسوا القومية
في جميع مراحل التعليم من الابتدائي الى الاعدادي الى الثانوي الى الجامعة . صدّقوا
ما قرأوا امنوا به . أقول تربّوا على القيم القومية . انهم يسمّون أنفسهم "الناصريون"
بالرغم من أن اغلبهم لم يعاصروا عبد الناصر فلم يجدوا بأسا في أن ينتسبوا الى عبد
الناصر "الرمز" لما يحاول السادات تصفيته من منجزات ومكاسب . وهم
مختلطون بناصريين آخرين ، كل من الفريقين صادق الانتماء . انما ينتمي الناصريون
القوميون الى عبد الناصر قائد الجماهير العربية ، وينتمي الناصريون الآخرون الى
عبد الناصر قائد مصر . يفتقدون جميعا الخبرة التنظيمية فما يزالون مجموعات لم تتوحد
بعد ، ولكنهم چميعا مناضلون صلبون ، اثبتوا صلابتهم في عشرات المعارك التي خاضوها
ضد السادات ..
15 - ان خبرتي بهؤلاء الشباب عريضة وطويلة وعميقة ، وبالتالي استطيع ان
اقول ان من بينهم سيكون بناء التنظيم القومي في مصر . وتتولّي الظروف العينية في
مصر اعدادهم . فهم يخوضون معركة قومية وهم يدافعون عن حرية مصر وعروبتها وتقدمها .
وهم يخوضونها في الشارع ملتحمين بالجماهير العربية . وهم يخوضونها بعيدا عن السلطة
وضدها . وهم خلال كل هذا ينضجون فكرا وحركة . أهم من هذا كله انهم يكتبون خبراتهم
التنظيمية من خلال الممارسة وليس تلقيا من اية قيادة علويه فكرية أو حركية ، وحينما
تكتمل خبرتهم سيكونون هم الذين أنشأوا تنظيمهم ولم ينخرطوا في تنظيم انشأه غيرهم ،
فتكون قد اكتملت بهم وفيهم كل شروط المؤسسين التي تضمنها بیان طارق ،
16 - كل ما هم في حاجة اليه هي الثقة فيهم والصبر عليهم بدون تدخل من خارجهم
حتى لو كان من أجل المساعدة ، اعني أنه لا ینبغي اجهاض مرحلة الاعداد التاريخي
التي يمرون بها بحجّة تسهيل مولد التنظيم . اني ادرك هذا والتزمه ، ولقد كانت
حراسة تجربتهم الذاتية من تسلل يأتي من خارجهم الى صفوهم بدعوى "المساعدة"
سببا في القطيعة بيني بوين اصدقاء قدامى من القوميين الورثة . كنت اعرف من أمر
الساحة ما لا يعرفون فحذّرت باسم القومية من تخريب الامل القومي الناشئ في مصر .
فلما لم يجد التحذير قاطعت ثم قطعت . وإني لأتمنى ، وأدعو ، الشباب القومي الذي
طال انتظاره حتى كاد ييأس من أن يملك اداة ثورته العربية المرتقبة ، الى أن يدرك
ان اخوة لهم في مصر سيولدون من رحم الامة العربية المباركة في اقرب ما يظنون ،
فليصبروا حتى يولد اخوهم ولادة طبيعية حتی یبدأوا معا بناء تنظيمهم القومي .
غدا ستشرق الشمس
و"بشر الصابرين " .
17 - هكذا ، أخي ، مرّت السنين كاد العمر ان ينقضي والحياة كلها تدور حول
محور اهتمام واحد : التنظيم القوى اداء الثورة العربية من اجل اقامة دولة الوحدة
الاشتراكية الديموقراطية . حينما كنت اسير في ذات الاتجاه الذي يقود عبد الناصر
الجماهير العربية اليه ، بينما كان كل العرب في مصر وخارج مصر مهتمين بشرف
الاقتراب من القائد المنتصر ، وكان كل المفكرين مشغولين بتأصيل وتفسير وتبرير
"الميثاق" الذي أصدره الرئيس ، وكان كل الساسة منبهرين بالانتصارات غافلين
عن مخاطر غياب التنظيم القومي ، اخرجت اول کتبي من أجل التنظيم القومي . ولم يكن اهتمامي به ليترك لي هامشا اهتم فيه
بالحدیث عن القائد أو الميثاق أو الانتصارات فجاء خاليا من اية اشارة الى ما كان
يشغل كل الناس . وحينما اختلفت مع دولة عبد الناصر في کيفية تأسيس التنظيم القومي
افترقت عن دولة عبد الناصر من اجل التنظيم القومي . وما كتبت اذ كتبت ، وما نشرت اذ
نشرت ، وما تحدثت اذ تحدثت الا دعوة الى التنظيم القومي ، ولم اقترب من مغريات
كثيرة كانت متاحة لى الا من أجل ان ابقى قريبا من الدعوة الى التنظيم القومي . وفي
عهد السادات ومعمعة الصراع ضد الاتجاه الساداتي الذي بدأ بالسجن عام ۱۹۷۲ وانتهى بالسجن عام ۱۹۸۱ لم أكف عن الدّعوة والتحريض ورعاية الشباب القومي في مصر ليكمل اعداد
نفسه بنفسه ويكتسب خبرته من معاناته ليكون من بینه بناتا للتنظيم القومي ، ولقد اتُّهمت
في عهد السادات بأنني شيوعي وبأنني على علاقة وثيقة بالجماعة الدينية المسمّاة
"جماعة التكفير والهجرة" ، وأنني "طليعي" من بقايا منظمة فتحي
الديب ، وبأنني عميل للاتحاد السوفييتی ، وبأننى مؤلف الكتاب الأخضر وما يعنيه هذا
من علاقات تنظيمية فاضطررت في عام ۱۹۸۰ أن انشر اعلانا
في جريدة الأهالي بعنوان "يبان للناس" قلت فيه اذا كانت السلطة تبحث عن
مبرّر اتهام فاني أعلن انني ادعو وأحرض على قيام التنظيم القومي اداء الثورة
العربية من أجل دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية وليس لي اهتمام بأية دعوة
أخرى ولا بأية علاقة مع آخرين ، فان كان هذا اتهاما فاني اعترف به .
هذا وأنا مع الشباب العربي والكهول والشيوخ أيضا . ومع فصائل المعارضة
جميعا في خندق واحد نخوض معركة ضارية ضد السادات والصهيونية والامبريالية من أجل
الحفاظ على مصر عربية تقدمية متحرّرة . وكما دفع غيري الثمن دفعته . ولم يحدث قط ، لا خلال تلك الفترة ولا
قبلها ان دعوت الشباب العربي الى ما لا أکون مستعدا لأدائه معهم . فلتكن واثقا من
انني أدعو للتنظيم القومي وأرجو ان أكون منخرطا فيه معا . من أجل هذا حرّمت على
نفسي ان انخرط في صفوف أي حزب اقلیمي .
فما الذي تعاتبني عليه ؟.
انني لم ألعب دور القائد والزعيم والمؤسس ؟..
أخي ، سأقول لك الصدق كله .
18 - ليس انسانا من لا يتطلع الى التفوّق ويسعى اليه . وليس بشرا من لا
يطمح الى القيادة أو الزعامة او ما شئت من رموز التفوّق . انكار هذا تواضع مخادع .
ولكن المسألة ليست هنا . المسألة ، جوهر المسألة ، هو كيف يصل الانسان الى حيث
تتطلع نزعاتة البشرية . هنا محك الصدق الذي هو جوهر الخلق القويم . والصدق هنا يتعلق
بالجواب على السؤال : لمن الولاء . للأمة العربية أم للذات . ان ولائي الاول
والاخير للأمة العربية . هذا الولاء يحدّد لقيام التنظيم القومي شروطا موضوعية
وشروطا ذاتیة هي التي تعلمتها من الدراسة والدروس والتي أعلنتها على الكافة في كتب
منشورة .. وهي التي قصصت عليك قصتها . فكيف تعتب على انني اكف نفسي عن أن أسلك الى
التنظيم القومي مسلكا تعلمت من الدروس المرة انه مسدود دون غايته العظيمة ؟. وإن استبدل التنظيم القومي اداة الثورة العربية بتنظيم أعلنه فیكون
اداة لا شباع الغرور الانساني ؟ . كيف تعتب على أن ولائي ما يزال للأمة العربية
بالرغم من النزوع الانساني الى شرف ما تدعوني اليه ؟ کیف تفصلني عن افكاري فتضعني
موضع الداعية الى الزام الآخرين بما لا يلزم به نفسه ؟ صدقني ان قلت لك انه لم تشب
سعادتي في تونس الا شائبه واحدة آلمتنیي واصابتني بقدر من الاحباط بالرغم من الأمال
التي أحياها الشباب القوي الذين قابلتهم . تلك كانت معرفتي بأن من الشباب من يقبلون
ان ينسبوا اليّ فيقال لهم "عصمتيون "أو "عصمويون" (لا اعرف
كيف ينطقونها ) . أخي ، ان القومي حقا لا يقبل ان ينتسب او ينسب الى فرد . الم أقل
للشباب في نظرية الثورة العربية أن القومية هي أرقی علاقة بين البشر وان الفردية
نقيضها وأحط المواقف البشرية . فكيف يمكن أن يتصور شاب عربي يزعم أنه قد وعى قولي وأعجبه
انني لا اصاب بخيبة الأمل حينما اجده يقبل ان ينسب نفسه أو يُنسب الى فرد ولو كان
هذا الفرد هو انا ؟ أخي ، اولى بالشباب القومي ان ينتسبوا الى منطلقاتهم فهم قوميون
، أو غاياتهم فهم وحدويون ، أو اتجاههم فهم تقدميون فذلك أدنی الی أن يفهمهم الناس .
أخي تأمل
ميراثنا من تراثنا : لقد اسمانا القرآن "مسلمون " ولم یسمّنا "محمّديون"
فانتسبنا الى دين الخالق ولم ننتسب الى شخص الرسول وهو أعظم الخلق .
وبعد ،
فقد جار جوابي سؤالك
الأول على ما تستحق اسئلتك الثمانية من أجوبة ، فأرجو أن تقبل آعتذاري عن القصور،
وان كنت أحسبني قد أجبت على كثير من الأسئلة خلال ما قدمت من جواب . اما سؤالك
السادس الخاص بمشكلة قيام تنظيمين في قطرین فما کنت سأجيب عليه حتى لو لم أطل .
انه من الأسئلة التي على الشباب العربي أن يقدم عليها جوابه لا ان يتلقاه ، ذلك
لأن الذين سيعجزون عن حل تلك المشكلة سيكونون اكثر عجزا عن معرفة اسلوب الغاء
الدول المتعددة لإقامة دولة واحدة ..
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته ..
عصمت سيف الدولة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق