الوحدة
بين القومية والإقليمية .
د.عصمت
سيف الدولة .
مقال منشور بمجلة الفكر المعاصر عدد 70 – ديسمبر 1970 .
1
- منذ أن مزق المستعمرون الأوروبيون
الوطن العربي ثم اقتسموه فيما بينهم وأقاموا عليه دولا اصطنعوا لها الحدود والحكام
، ما تزال الوحدة العربية هدفا لكل المناضلين من أجل الحرية .
أولئك الذين
يرفضون أن يخدعوا أنفسهم أو يخادعوا الاخربن ، فيزعمون التحرر وهم سجناء الحدود
التي أرساها المستعمرون ، وهم يرثون
الدولة التي أنشأها لأول مرة السادة
السابقون .
أولئك الذين
يعرفون أن اجلاء الغاصبين خطوة أولى ، لا أكثر ، لتصفية تركتهم ، وأنهم لن يذوقوا
طعم الحرية فعلا الى أن تُمحى ، الى الأبد ، بصمات الاستعمار في الوطن العربي .
ومن بصماته الشّائهة تلك الحدود التي رُسمت على الخرائط في مكاتب المستعمرين
فمزّقت أمة واحدة الى شعوب متعدّدة ، وجزّأت وطنا واحدا الى دول عديدة .
ومن قبل ،
ظن بعض الذين ألهتهم فرحة النصر على المستعمرين أنهم قد كسبوا معركة التحرر يوم أن
كسبوا معركة الجلاء ، فجاءت الأحداث التي نعاصرها وأثبتت بقسوة أن أحدا في الوطن
العربي لا يستطيع ان يزعم التحرر طالما بقي جزء لم يتحرر . وأن المستعمرين لم
يكونوا يعبثون يوم أن جزّأوا الوطن العربي دولا ، ومزّقوا الشعب شعوبا . فعلى
الأرض العربية في فلسطين ، ومن بين العرب أنفسهم في أقطار أخرى ، وفي حماية الحدود
المصطنعة واستقلال كل دولة بشؤونها الداخلية ، يُبقي الاستعمار على قواه ويحشدها ،
ويدرّبها ، ويسلّحها ، ويعدّها للانقضاض ، خفية أو علنا ، تخريبا أو حربا ، على
المناضلين من أجل الحرية فور انتصارهم في معارك الجلاء .
ونحن نعيش
اليوم أقصى الدروس التي يلقّنها التاريخ الحي للذين لم يدركوا بعد أنه اذا كان
التحرّر من الاستعمار الظاهر أمرا لا يحتاج الاّ الى الشّجاعة الثورية ، فان
الحفاظ على الحرية أمر لا يتحقّق الاّ في دولة الوحدة .
فعلى ضفاف
النيل دولة عربية استطاعت تحت قيادة واحدة من أصلب وأشجع أبطال الحرية في التاريخ
أن تُجلي عنها المستعمرين في معركة محلية قومية دولية ، سياسية ومسلحة ، عنيدة
ومعقدة ، دارت في سنة 1956 ، ثم اتجهت بكل قواها المادية التي لا تتاح لدولة عربية
غيرها ، وبكل قواها البشرية التي لا تتوافر لدولة عربية أخرى ، وتحت قيادة عبد
الناصر الذي لا يشابهه أحد ، تحاول بجدية قالت عنها تقارير خبراء الأمم المتحدة
أنها فريدة في العالم الثالث ، لتحقق للشعب العربي فيها حياة أفضل . لتترجم التحرر
الى مأكل ومسكن وعلم وصحة ومتعة لكل مواطن . فما الذي حدث ؟.. منذ سنة 1956
حتى هذه الساعة لم يترك المستعمرون للشعب العربي هناك ، ولا لقيادته ، يوما واحدا
ينعمون فيه بالحرية . واتصلت المعارك بدون انقطاع من أول الحرب النفسية الى الحرب
الاقتصادية الى الحرب الساخنة . ولما بدى أن ذلك الشعب المكافح العنيد تحت قيادته
الصلبة الواعية يكاد يتجاوز مرحلة البناء الاقتصادي والاجتماعي ، وان التامر الخفي
والصراع غير المسلح لم يمتص كل مقدرته ، تامرت قوى عربية في حماية دولها الإقليمية
، وتحركت القوى الاستعمارية في قاعدتها المغتصبة في فلسطين ، وعرف من لم يعرف لماذا
رُسمت الحدود ، ولماذا أقيمت الدول . ففي أسبوع اسود من يونيو (حزيران) 1967 دفع
الشعب العربي ثمنا فادحا في سيناء وهو يتقدم اليها ، لا دفاعا عن القاهرة المستقلة
، ولكن دفاعا عن استقلال دمشق ، وادركنا جميعا مدى الكارثة التي حلت بنا يوم
الانفصال سنة 1961 ، وتعلمنا من الهزيمة درسا ثمينا ، او يجب ان نكون قد تعلمنا
منها الدرس المتكافئ مع تضحياتنا : لا يستطيع أحد في الوطن العربي أن يحافظ على
حريته الا اذا تحرر الوطن العربي جميعا ، ولا يستطيع العرب أن يحافظوا على حرية
وطنهم الا اذا تحققت لهم القوة الكافية لردع المتامرين ، ولا تتحقق تلك القوة في
الوطن العربي الا بوحدته . وهكذا بدون فلسفة ، أو بدون سفسطة يستطيع حتى العميان
أن يروا ، يستطيع حتى الجهلة أن يعرفوا ، أن أحلام الحرية في ظل التجزئة وهم ، وأن
الوحدة ، وحدها هي الضمان الوحيد ، الذي يكف عنا القوى الاستعمارية فنستطيع حينئذ
- فقط – أن نقول لقد انتصرنا في معركة الحرية .
فهل تعلمنا
؟ ... أم تذهب أرواح شهدائنا هدرا ؟
لا أريد أن
أجيب . ويكفي أن أقول أن جمال عبد الناصر قائد معركة التحرر العربي ، قائد معركة
الصمود برغم الهزيمة ، قد استنفذ اخر سنة من حياته وهو يحاول أن يقنع طغمة من
الإقليميين في الشرق العربي بأن يكفوا عن صراعاتهم الصبيانية حول مواقعهم
الإقليمية الرخيصة ، ليقيموا الجبهة الشرقية . لأن أحدا لن يستطيع أن يحلم بالحرية
ما دامت فلسطين محتلة . وقضى جمال عبد الناصر ، وبقيت الإقليمية الخائنة . وسيدفع
الاقليميون يوما الثمن العادل جزاء خيانتهم . ولن يرحمهم أحد حينئذ ، لأنهم في
أسوأ فترات التاريخ العربي ، لم يرحموا أمتهم الجريحة .
ان غدا
لناظره قريب .
2
– ومنذ أن سقطت الليبرالية
وتعلمت الشعوب من معاناة الحياة اليومية في ظل الفقر والاستغلال أن الحرية ليست
كلمة تقال ، وأن الاستقلال ليس شعارا يرفع ، وأن الناس لا يأكلون الكلام . بل
الحرية عمل لكل قادر وعلم لكل ناشئ ، وعلاج لكل مريض ، ومنزل لكل اسرة ، وراحة لكل
شيخ . وبعد هذا كله مقدرة متاحة لكل انسان في أن يتمتع بمباهج الحياة بعد أن يكون
للحياة ذاتها مضمون الحرص عليه . منذ أن وعى الناس كل هذا ما تزال الوحدة العربية
هدفا لكل المناضلين من أجل الرخاء والاشتراكية . أولئك الذين يرفضون أن يخدعوا
أنفسهم أو يخادعوا الاخرين باستقلالهم العقيم ، وبأعلامهم المزوقة ، وبمقاعدهم
المريحة في هيئة الأمم المتحدة ، أرقاما أصفارا في عدّاد الدول لا أكثر ولا أقل .
أولئك الذين يعرفون أن الاستقلال خطوة الى الهدف الأصيل : حياة أفضل للمواطنين .
وأن الحرية التي لا يلمس كل مواطن ، كل مواطنة ، أنها قد تُرجمت وتجسّدت في مأكل
أفضل وملبس أفضل ، وثقافة أفضل ... كلمة جوفاء يفرح بها الحاكمون ويدقّون لها
الطّبول لأنّهم وحدهم الذين ينعمون بثمراتها . أولئك الذين يعرفون أن الدولة ليست
مخفرا للحدود تحمي الوطن وتترك الناس فيه يأكل بعضهم بعضا ، وأن وظيفتها أن تخطط
وتوجه وتنفذ كل الإمكانات الاقتصادية والبشرية فيها من أجل التقدم الاجتماعي ، وأن
أية دولة عاجزة عن أن تفي بمسؤوليات هذه الوظيفة تفقد مبررات وجودها ولا تستحق أن
يموت جندي واحد من أجل الإبقاء عليها . والتقدم ليس جعجعة بل هو علم وجهد وبذل
وتضحية ... ثم رخاء . ذلك لأن الذين يعرفون كيف يُصنع التقدم في القرن العشرين ،
يعلمون علم اليقين ضخامة وجسامة المتطلبات السياسية والاقتصادية والمالية والفنية
والبشرية اللازمة لها بمنطق عصر العلوم وسباق الرخاء بين الدول الكبرى . وعندما
نعرف هذا ، ونكف عن الاحلام غير العلمية وغير الواقعية ، يبيّن حتى للذين يدفنون
رؤوسهم في الرمال ، ان التقدم الاجتماعي لا يقوم على أساس التجزئة كما قال عبد
الناصر سنة 1964 . يبيّن حتى للمغرورين بمقدرتهم الذاتية كم هي واهمة أحلام الحياة
الأفضل في ظل التجزئة . يبيّن للفرحين بدولهم الهزيلة ، وأعلامهم المزوقة
وبمقاعدهم المريحة أنهم فرحون بدول غير معقولة كما يفرح الأطفال بلعبهم الغريبة .
يبين لكل الإباء والامهات الذين لا يريدون لأبنائهم أن يعانوا مذلة الفقر ، الذين
يحلمون من أجلهم بمجتمع كتلك المجتمعات المتقدمة في أمريكا وفي أوروبا ، ان الفرصة
الوحيدة لتحقيق تلك الأحلام لا تكون الا في دولة الوحدة الاشتراكية . الدولة
الوحيدة القادرة بما تملك من ثروات طبيعية متكاملة وقوى بشرية ملتحمة أن تدخل - في
ظل التخطيط الاشتراكي - سباق التقدم الاجتماعي ثم تفوز .
3
– هذه هي الوحدة العربية ،
الأمل . المنقذ . الطريق الذي لا طريق غيره للانتقال من العبودية الى الحرية . ومن
الفقر الى الى الرخاء . ومن المذلة الى الكبرياء . ومن الهزيمة الى النصر .
الى الإباء
والامهات خاصة قولوا لأبنائكم ، والى الشباب تأملوا مستقبلكم : عندما تكون فرص
التقدم المتاحة أقل مما يكفي الجميع فان أحدا لا يستطيع أن يحصل على فرصة الا اذا
سرق فرصة غيره ، ولا أحد يستطيع أن يتقدم الا على جثة أخيه . فان أردتم أن تتقدموا
في حياتكم بشرف وبدون سرقة أو استغلال ، فأقيموا الدولة التي تمنحكم جميعا فرص
التقدم وتفيض . أقيموا دولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية .
4
– نعم أنا أعلم أن هذا
كلام معاد . ونعرف جميعا أن أحدا في الوطن العربي لم يعد – بعد كل التجارب المريرة
– ينكر ضرورة الوحدة العربية ، ونرى الناس في كل مكان من الوطن العربي يهتفون
للوحدة العربية ، ويتظاهرون من أجلها ، ويدعون اليها ، ويقسمون بأغلظ الايمان انهم
قابلون التضحية حتى بالحياة من أجل تحقيق الوحدة .
كل الناس في
الوطن العربي ، فيما يزعمون ، وحدويون .
شيء عجيب .
لماذا اذن لم تتحقق الوحدة ؟ هذا هو السؤال المشكلة . وهو مشكلة بالغة التعقيد .
ومع ذلك فان كل امال الوحدة ستظل سرابا اذا لم نجد لها حلا .
هذه المشكلة
كيف نشأت ، وكيف يمكن أن تحل هو موضوع هذا الحديث . أما ما سبق من حديث منفعل فهو
مقدمة نجتر من خلالها مرارة الهزائم التي لحقت بأمتنا ، ونبدّد بها بعض الأوهام
التي نعيش فيها ثم نواجه المشكلة التي تواجه القوى الوحدوية في الوطن العربي ،
وأول خطوة الى حل أية مشكلة أن نعرفها على حقيقتها .
5
– لماذا يعجز الوحدويون في
الوطن العربي بالرغم من أنهم يمثلون أعرض الجماهير العربية ، وتنتمي اليهم أخلص
وأصلب الفصائل الثورية ، لماذا يعجزون عن تحقيق الوحدة العربية ؟ .. ان أول إجابة
ترد على الخاطر هي أن ثمة قوى كبيرة وعاتية ، دولية ، وفي الوطن العربي ، تبذل
جهودا ضخمة في كل الساحات وعلى كل المستويات لتحول دون تحقيق وحدتها في محيط دولي
معاد أو سلبي ، وهو ما لم تواجهه أية حركة قومية في التاريخ . توحدت ألمانيا في ظل
تحالف مع أقوى الدول المعاصرة لوحدتها . ولم تطلب القوى الدولية من الايطاليين
ثمنا لمباركة وحدتهم أكثر من ثلاثة الاف جندي اشتركوا بهم في حرب القرم ضد روسيا
القيصرية . أما نحن فان أخلص أصدقائنا ينصحنا بعدم التسرع في الوحدة . ويقف العالم
كله تقريبا ضد هدف الوحدة العربية . لأننا نريد أن نحقق الوحدة في عصر احتكرات
الدول الكبرى . ولا يريد أحد أن يرى دولة عربية كبرى كفيلة – كما تعلّموا من
التاريخ القديم وبحكم أصالتها الحضارية – أن تحرّر العالم من احتكارات القوة .
بعضهم من موقع الصداقة يكف عنا المساعدة في تحقيق الوحدة . وأكثرهم يقفون ضد
الوحدة خفية أو علنا . وهكذا يعجز الوحدويون في الوطن العربي عن إقامة دولة الوحدة
.
هكذا يوحي
الينا أعداؤنا ، وهكذا يردّد الانهزاميون منا .
وهو قول
صحيح ولكنه غير كاف لفهم المشكلة . ذلك لأننا سواء رفضنا العبودية نريد الحرية ،
أو رفضنا الاستغلال نريد الاشتراكية ، أو رفضنا التخلف نريد الرخاء ، أو رفضنا
الجهل نريد العلم ، أو رفضنا التجزئة نريد الوحدة ، أيا كان هدفنا ، فثمة قوى
مضادة لن تكف لحظة واحدة ، ولن تترك أسلوبا واحدا بدون أن تستخدمه للحيلولة دون أن
نحقق أهدافنا . اننا في عصر لا يمنح أحد فيه أحدا شيئا . وعلى من يريد شيئا أن
ينتزعه . في عصر يحتكم الى القوة ويقترن فيه الصراع بالعنف ، لا يتوقع الا
الأغبياء أن يتقدموا شبرا الا اذا اقتلعوا الأقدام الواقفة عليه عنوة . وفي مواجهة
ذات القوى المضادة استطعنا أن نحقق قدرا من الحرية وأن نحقق قدرا من التقدم
الاجتماعي ، خلال معارك ضارية . فلماذا لم يقل أحد اقبلوا الاحتلال لأن ثمة قوى
مضادة عاتية لا تريد لكم الحرية ، ولم يقل أحد اقبلوا الاستغلال لأن ثمة قوى مضادة
عاتية لا تريد لكم الاشتراكية . ثم يحتجون بذات القوى المضادة العاتية لينشروا في
أفئدتنا بذور الهزيمة أو ليبرّروا جبنهم أمام مخاطر النضال من أجل الوحدة .
ويتخلّون عن أهدافهم لأن أعداءهم يريدون لهم أن يتخلّوا ؟
لماذا خاضت
القوى الوحدوية في الوطن العربي معارك ضارية ، وقدّمت تضحيات هائلة ، وهي تناطح
الاستعمار والقوى الامبريالية العاتية حتى حرّرت بعض الأقاليم ، ثم كفّت عن
الاستمرار في نضالها الى أن تحقق الوحدة ؟
لا يمكن أن
يقتنع أحد بأن ضراوة القوى المضادة هي التي حالت بين أبطال معارك التحرر وبين
تحقيق الوحدة . صحيح اذن أن القوى المعادية معوّق للوحدة ، وهي معوّق طبيعي بحكم
منطق العصر الذي نعيش فيه ، ولكن جوهر المشكلة لا يكمن في صفوف القوى المعادية
للوحدة ، بل يكمن في صفوف القوى الوحدوية نفسها .
ان اتهام
القوى الوحدوية في الوطن العربي بأنها هي المسؤولة الأولى عن الإبقاء على التجزئة
، اتهام خطير لا يمكن أن نتحمل مسؤولية إعلانه بدون أن نطرح مبرّراته العقائدية .
والمسألة
باختصار شديد أن العقيدة القومية تقوم على خمسة أسس متكاملة :
أولا : ان الأمة جماعة بشرية
تكوّنت تاريخيا من جماعات وشعوب كانت مختلفة لغة وتراثا وألوانا ومصالح ، متصارعة
ومتفاعلة خلال ذلك الصراع ، انتهت بعد مرحلة تاريخية طويلة من المعارك الى أن
تلتحم لتكون شعبا واحدا ذا لغة مشتركة وتراث مشترك ومصالح مشتركة . وهذا لا خلاف عليه
. انما الخلاف حول الأرض الخاصة المشتركة كعنصر من عناصر التكوين القومي . ونحن
نرى أن الاختصاص برقعة مشتركة من الأرض هو العنصر الجوهري المميز للأمة . ذلك لأن
العناصر الأخرى مثل وحدة اللغة التي تركز عليها النظرية الألمانية ، أو وحدة
المصالح الاقتصادية التي تركز عليها النظرية الماركسية ، أو وحدة الثقافة التي
يشيد بها كثير من الكتاب العرب ، أو حتى وحدة الإرادة التي تركز عليها النظرية
الفرنسية ...الخ . كل هذه العناصر ممكن أن تتوافر وأن تجتمع لجماعات بشرية لا ترقى
الى مستوى " الأمة " كالمجتمعات القبلية مثلا . انما تجاوزت الطور
القبلي ودخلت طور التكوين القومي بالاستقرار على أرض معينة ثم اكتملت تكوينا
باختصاصها بتلك الأرض المشتركة وبهذا أصبحت أمة .
ثانيا : يترتب على
هذا أن الأمة تكوين واحد من الناس (الشعب) والأرض (الوطن) معا . فنحن عندما نقول
أننا أمة عربية ثم نتحدّث عن الوطن العربي لا يكون حديثنا عن شيئين منفصلين ، بل
عن الكل (الأمة) الذي يتضمن الجزء (الوطن) .
فالشعب
العربي (الناس) والوطن العربي (الأرض) يكوّنان معا الأمة العربية ، التي ما تحوّلت
من شعوب شتى وأوطان عدة الى أمة الا عندما التحم الشعب العربي بالوطن العربي واختص
به ليكوّنا وجودا اجتماعيا واحدا وجديدا هو الأمة العربية .
ثالثا : ثم انه لما
كانت الأمة تكوينا تاريخيا فان اشتراك الشعب في الوطن هو مشاركة تاريخية . تحول من
ناحية دون الشعب وأن يتصرف في وطنه أو في جزء منه في أية مرحلة تاريخية معينة لأن
الوطن شركة تاريخية بين الأجيال المتعاقبة . وتحول من ناحية أخرى دون أي جزء من
الشعب وأن "يتصرف" في الإقليم الذي يعيش عليه أو في جزء منه بالتنازل
عنه للغير أو تمكين الغير من الاستيلاء عليه علاقة (خارجية) ، وتحول من ناحية
ثالثة دون أي جزء من الشعب وأن يستأثر بأي إقليم عن بقية الشعب (علاقة داخلية) .
رابعا : ان الأمة
كتكوين تاريخي لم تتكوّن اعتباطا أو مصادفة بل تكوّنت من خلال بحث الناس عن حياة
أفضل . فاذا كنا قد بلغنا خلال المعاناة التاريخية الطور القومي ، أي مادمنا أمة
عربية واحدة فان هذا يعني أن تاريخنا الذي قد نعرف أحداثه وقد لا نعرفها ، قد
استنفذ كل إمكانيات العشائر والقبائل والشعوب فبل أن تلتحم معا لتكون أمة عربية
واحدة وانها عندما اكتملت تكوينا كانت بذلك دليلا موضوعيا غير قابل للنقض على أن
ثمة "وحدة موضوعية" ، قد نعرفها وقد لا نعرفها ، بين كل المشكلات التي
يطرحها واقعنا القومي ، أيا كان مضمونها . وانها بهذا المعنى مشكلات قومية لا يمكن
أن تجد حلها الصحيح الا بامكانيات قومية ، وقوى قومية ، في نطاق المصير القومي .
قد يحاول من يشاء أن يحل مشكلاته الخاصة بامكانياته القاصرة ، ثم يقنع بما يصيب
ولكنه لن يلبث أن يتبين ، في المدى القصير أو الطويل ، أن الحل الصحيح المتكافئ مع
الإمكانيات القومية ، المتّسق مع التقدم القومي قد أخطأه عندما اختار أن يفلت
بمصيره الخاص من الوحدة الموضوعية للمشكلات التي تشكّل حلولها المصير القومي
الواحد .
خامسا : وأخيرا ،
فان هذه الوحدة الموضوعية بين المشكلات التي يطرحها الواقع القومي بما تعنيه من أن
حلولها الصحيحة المتكافئة مع المقدرة القومية غير قابلة للتحقق الا بامكانيات وقوى
قومية في نطاق المصير القومي تفرض الوحدة العربية كأداة يستحيل بدونها وضع كل
الإمكانيات والقوى القومية ، واستعمالها ، في سبيل حل المشكلات العربية ، وتحقيق
المصير العربي الواحد . ان هذا لا يعني ان الإقليميين ودولهم عاجزون تماما عن
تحقيق أي نجاح في مواجهة المشكلات التي يتصدون لها ، بل يعني تماما أنهم لا ينجحون
الا مؤقتا وأنهم لن يلبثوا أن يتبينوا ، في المدى القصير أو الطويل ، أن الوحدة
لازمة لاطراد النجاح أو الحفاظ عليه .
تلك هي
الأسس الخمسة المتكاملة للعقيدة القومية . ولعلنا لا ندعي لها ما لا تستحق ، ولا
نسلب أحدا شيئا يستحقه اذا قلنا أنه بالرغم من زحمة العقائد والنظريات في الوطن
العربي وبالرغم من ادعاءات العلم والعلمية ، وبالرغم من استهانة الكثيرين بعمق
وأصالة الفكر القومي ، لا يفعل تاريخنا خلال خمسين سنة الا تقديم الدليل على صحة
العقيدة القومية وسلامة الموقف القومي .
وهذا الموقف
القومي العقائدي تقفه أصلب فصائل القوى الوحدوية في الوطن العربي وأعمقها وعيا ،
تستهدف الوحدة العربية لأنها الأداة الوحيدة لتحقيق المصير الواحد الذي لا يمكن
لأحد – حتى لو أراد – أن يهرب منه . فهم لا يهابون مخاطر النضال لأن هذا هو قدرهم التاريخي
. ولا يقبلون عن الوحدة بديلا لأنهم يعرفون أن التاريخ قد تولى حرق كل البدائل .
ولا تلهيهم الانتصارات الإقليمية المؤقتة لأنهم يعرفون أنها زائلة . ولا يخافون
متاعب الوحدة لأنهم يعرفون أن في الوحدة تعويضا لكل المتاعب . ولا يتنازلون عن
الوحدة الشاملة لأنهم يعون أن التاريخ الذي كوّن الامة العربية قد رسم حدود دولتها
القومية .
أولئك
الوحدويون القوميون .
ولو كان كل الوحدويين
قوميين لتحققت الوحدة منذ وقت بعيد .
ولكن
المشكلة في حقيقتها أن ليس كل الوحدويين قوميين .
كيف ؟
6
– ان الإجابة على هذا
السؤال أولى بانتباه كل القوى الوحدوية القومية . لأن فيها – كما أعتقد – نكتشف
حقيقة المشكلة وقد نهتدي الى الحل .
فقد عرفنا
من قبل أن الأمة العربية وجود تاريخي موضوعي ، وأن وحدة المصير القومي تعني أن ثمة
علاقة موضوعية بين كل المشكلات التي يطرحها الواقع القومي ، وأنها بذلك لا تحل الا
في اطار المصير القومي الواحد . وقلنا أن هذا كله لا يتوقف على معرفة الناس به .
فسواء عرفوه أم لم يعرفوه ، هو قائم في الواقع الموضوعي . مؤدى هذا أن الامة
العربية كوجود تفرض ذاتها على الإقليميين في الوطن العربي أرادوا هذا أم لم يريدوه
. فاذا بكل دولة إقليمية تجد نفسها ، بعد محاولات الهرب من المشكلات القومية ،
وتجاهل الوحدة الموضوعية بين تلك المشكلات ، تجد نفسها مضطرة الى أن تشارك في
معارك المصير العربي . وكذلك يجد أنفسهم كل الإقليميين الذين يستهدفون غايات
إقليمية سواء على المستوى التحرري أو المستوى الاشتراكي . أي يجرهم ويجبرهم الفشل
من محاولات الإفلات بمصائرهم الخاصة على أن يقبلوا مرغمين دخول المعارك الدائرة
حول المصير القومي الواحد ، ومنها معارك الوحدة .
فاذا بقطاع
كبير من القوى التي ترفع شعار الوحدة ، من الإقليميين يرون في اختلاطهم بالقوى
الوحدوية القومية كسبا لجهد يختلسونه بادعاء الوحدة . ويشاركون فعلا في معارك
الوحدة ولكن من منطلقات اقليمة . ونعرفهم من نوع الدولة التي يقدمونها تبريرا
لموقفهم "الوحدوي" . فالوحدة عندهم مقرونة بمكاسب سياسية واقتصادية
واجتماعية تحل مشكلاتهم الإقليمية . وهذا كما عرفنا صحيح . فالوحدة تحل مشاكل
الإقليم . ولكن النضال من أجل الوحدة شيء اخر . انه صراع وتضحيات ومتاعب وهزات في
الكيانات الإقليمية تقتضيها عملية لالتحام . وهنا عندما يطرح النضال من أجل الوحدة
متاعبه ، وقبل أن تقدم الوحدة عطاءها يتراجع الوحدويون الاقليميون ، ويخونون ،
ويوقفون المسيرة كلها دون غايتها ، لأن غايتها عندهم أن تضيف الى ما عندهم لا أن
تقتضي منهم التضحيات اللازمة لبنائها . فترى القوى الوحدوية كلها مشلولة ، ومتوقفة
، أو مرتدة عن غايتها العظيمة . وترى دعاة الوحدة يستعينون بالأمة العربية كلها ،
باسم القومية وباسم وحدة المصير ، ليحرّروا قطعة من أرض الوطن العربي ، والأمة
العربية تبذل وتعطي وتضحي ، حتى اذا ما تحرّر شبر وثب اليه أحد
"الوحدويين" وأقام عليه دولته ورفع علما أكثر تزويقا من أعلام
الاخرين ، وانقلب من مناضل الى حاكم . وقد
تكررت هذه المأساة المهزلة في التاريخ العربي الحديث أكثر من مرّة . وذهب بعض
الذين وصلوا الى النصر في معركة التحرير بالتضحيات الصامتة التي بذلها الشعب العربي
في أقطار أخرى الى حد معاداة القومية والارتداد الى أخطبوط علاقات الرأسماليين .
هذا واقع
كلنا نعرفه .
وعليه فأقول
بمنتهى الوضوح ، ان مشكلة القوى الوحدوية القومية أنها انخدعت في الإقليميين .
يرفعون شعار الوحدة ، ويستغلون طاقات الأمة العربية في تحقيق غاياتهم الإقليمية .
فارتضت بين صفوفها كل من قال أنه يستهدف الوحدة بدون أن تسأل لماذا اختار وأية
وحدة تلك التي اختارها . فاذا بالناس في الوطن العربي ، كل الناس تقريبا ، فيما
يزعمون ، وترى الناس في كل مكان في الوطن العربي يهتفون بالوحدة ، ويتظاهرون من أجلها
ويصفقون لدعاتها ويقسمون بأغلظ الايمان أنهم قابلون التضحية حتى بالحياة من أجل
تحقيق الوحدة . فاذا جاء وقت التضحية لا بالحياة ، بل بما هو أقل من هذا بكثير ،
أداروا ظهورهم وأصمّوا اذانهم واستكبروا استكبارا . فاذا بكل النضال الوحدوي قائم
على حسابت وهمية في قواه ، فيتراجع أو ينهزم .
هذه هي
المشكلة كما أراها .
انها اختلاط
القوى الوحدوية القومية التي تستهدف الوحدة من منطلق قومي عقائدي ولا تعلق الوحدة
على شرط ، بالقوى الإقليمية الانتهازية التي تستهدف الوحدة بشرط الحفاظ على
مصالحها الإقليمية أو تنميتها على حساب الشعب العربي . وطالما بقي هذا الاختلاط
قائما ، وطالما خشي الوحدويون القوميون فرز الصفوف ، وطالما تستروا على الخيانات
يلمسونها بأيديهم كل يوم من الوحدويين الانتهازيين لن يستطيعوا على أي وجه أن
يلتقوا فيلتحموا في تنظيم قومي مقصور عليهم ، مطهّر تماما من الفكر الإقليمي ،
والولاء الإقليمي ، والمصالح الإقليمية ، والأهداف الإقليمية ، وقبل هذا من
العقلية الإقليمية . وبغير هذا التنظيم القومي الثوري لن يستطيع الوحدويون
القوميون فرض الوحدة على كل أعدائها ، وسحق كل القوى التي تقف في طريقها ، في صراع
مفتوح لا تردّد فيه ولا تراجع عنه ، ثم الصبر على متابعته وتضحياته الى أن تتم
الوحدة الشاملة .
7
– هذا اجتهاد في حل مشكلة
معقدة ، لا نزعم أنه القول الأخير . ولكني أزعم أنه مما أرى صحيح وليست العبرة بما
يزعمه كل واحد من صحة في رأيه ، ولكن العبرة بأن نجتهد جميعا حتى نكشف الحل الصحيح
الذي يتوقف عليه مصير أمتنا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق