بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 18 نوفمبر 2024

ما وراء الاشتراكية .

PDF

 ما وراء الاشتراكية .

د.عصمت سيف الدولة .

ليس اخر الحديث عن "الاشتراكية العربية" أن نقول : اننا مع تسليمنا بأن جوهر الغاء استغلال الانسان لأخيه الانسان ، فانا نضيف الى الاشتراكية سمتها القومية لنعبّر بكلمة واحدة عن المضمون الاشتراكي المقابل لحصيلة أمتنا من الاستغلال ، وأنه اذا كنا متميزين عن غيرنا من الأمم بأن الاستغلال الرأسمالي يتجسد في احتلال بعض أجزاء وطننا العربي ، وتمزيق أمتنا دولا شتى ، وحبس تطورنا عند مرحلة متخلفة من النمو الاقتصادي ، فان "الاشتراكية العربية" تكون أوضح التعبيرات دلالة على أن "الغاء الاستغلال" الذي يكافح الشعب العربي من أجل تحقيقه ، يعني الغاء الاستعمار والتجزئة والتخلف . يعني حياة الحرية والوحدة والرخاء . ليس هذا اخر الحديث بل أوله . انها البداية البسيطة الملموسة الصالحة بهذا لتفتيت جمود أولئك الذين تكلس رفضهم السلبي "للاشتراكية العربية" . اننا نبدأ بما لا يستطيعون انكاره ، رغبة منا في أن يقبلوا – مجرد قبول – أن يسيروا معنا حتى نهاية الشوط .

فاذا كان مقبولا أن نستمر في الحوار عن "الاشتراكية العربية" فتلك فرصة مواتية لنغوص معا الى مستويات من البحث أعمق قليلا ، علناً عندئذ أن نجد – معا – أن وراء الاشتراكية نظرة تحتم أن تقترن دائما بسمتها القومية ، فلا تكون سمتها تلك مجرد اختبار غير لازم لتعبير أوضح دلالة يستمد كل قيمته من انضباطه اللغوي ، بل تكون استجابة لنظرة ذات قيمة خاصة قد تستحق أن نقبلها .

ولا بأس في أن نكشف نحن ما في المميز الذي ذكرناه أولا "للاشتراكية العربية" من قصور يحتم أن نتجاوزه اجتهادا في البحث عن أسس غير قاصرة ، اذا كانت "الاشتراكية العربية" تعني تحرر الانسان العربي من الاستغلال الرأسمالي في صوره : الاستعمار والتجزئة والتخلف ، فان بعض الأمم من العالم الثالث لها ذات الحصيلة من الاستغلال الرأسمالي ، فهي محتلة مجزأة متخلفة . وفيها تكافح الجماهير العاملة – كما نفعل نحن – من أجل الغاء ذلك الاستغلال بالتحرر والوحدة والرخاء . وتجمعها معا تحت شعار الاشتراكية كما نفعل نحن أيضا . فهل معنى ذلك أن تلك الأمم المكافحة تناضل من أجل "اشتراكية عربية" ؟ !! وكيف يتسنى هذا الا بأن تفقد "الاشتراكية العربية" سمتها القومية لتصبح عالمية ، أو بان تسقط تلك الأمم المكافحة سمتها القومية لتستعير عروبتنا ؟ واذا لم يكن الامر كذلك وكانت لكل منها اشتراكية ذات مضمون مماثل لمضمون الاشتراكية العربية فما الذي يميز هذي عن تلك حتى لو كانت لا تمتاز عليها بشيء ؟ .

الاشتراكية والقومية :

ان أخطر منزلق يتعرض له القائلون بالاشتراكية العربية ، أن يحاولوا الخروج من هذا المأزق بالبحث عن أسباب التميز في مشاعرهم القومية . عندئذ يجردون الاشتراكية العربية نهائيا من أي سمة علمية . ذلك لأن القومية – كما نعرف – وان كانت صنعة التاريخ ومحصلة تفاعل عناصر موضوعية عديدة ، الا أنها تنتهي الى شعور مستقر بالانتماء القومي يحسه الانسان في نفسه ، ويستغني به عن تلمس أسبابه التاريخية . وعند تلك المرحلة من النضج القومي ينطوي هذا الشعور غير المعلل على عاطفة حب كامنة وان كانت قابلة للانفعال عند الاستفزاز . وسواء أكانت كامنة أم منفعلة فهي قادرة – عند الاستفزاز خاصة – على التأثير في أفكار أصحابها وسلوكهم ، بحيث يحتاج الامر الى تحوط شديد من الجنوح الى العاطفة القومية عندما نعجز عن تبرير أفكارنا أو سلوكنا تبريرا علميا . لا ضمان مع العجز عن التأصيل العلمي للفكر والسلوك معا في أن تنقلب الاشتراكية العربية - بفعل العاطفة القومية - من اشتراكية متميزة الى اشتراكية ممتازة . ممتازة الى حد أن تصبح عالمية أو الى الحد الذي تسقط فيه الأمم سمتها القومية الخاصة لتستعيرها منا . هنا يفتح باب التعصب القومي على مصراعيه ليقدم للخائفين من الشوفانية – بحق – مبررات قوية لموقفهم ضد الاشتراكية العربية .

اذن ، فكلنا - الذين مع الاشتراكية العربية والذين ضدها - في حاجة الى مزيد من الحوار العلمي على مستوى أعمق من المنطلق القومي . وهذا يعني ألا تكون القومية هي المسلمة الأولى التي نبني عليها سرح أفكارنا الاشتراكية ، بل نفتش عما وراءها من أسس تؤكد أو تنفي أن تكون القومية ذاتها منطلقا الى الاشتراكية .

كل هذا والحوار محصور بين الاشتراكيين ، فلندخل في الموضوع .

المستقبل للاشتراكية :

وموضوعنا مجموعة من البشر تعيش معا في وسط جغرافي وتكافح بالفكر والعمل وأدواته لتحقيق حياة أفضل تسميها الاشتراكية . تلك هي الظاهرة التي نريد أن نفهمها لنحدد مضمون وسمات تلك الغاية التي تسعى الى تحقيقها ، فهل هذا ممكن وكيف ؟

تتوقف الإجابة على منهج كل واحد في فهمه للظواهر الاجتماعية . تتوقف على النظرية التي يتخذها مقياسا لتحديد أبعاد الظاهرة وضبط حركتها بقصد تحديد مضمون ذات الظاهرة في المستقبل .

ولن يفاجأ أحد بمن يقول ان كل هذا عبث لأن المستقبل غير قابل للمعرفة العلمية . ان معرفته العلمية للمستقبل تعني امكان التنبؤ به طبقا لقاعدة حتمية ، ولما كانت الظواهر الاجتماعية ، أو تلك الظاهرة التي نبحثها ، تكون من أفراد من بني البشر أخص ما يميزهم أنهم قادرون على اختيار مستقبلهم فان هذا يعني أنهم سيختارون المستقبل الذي يروق لهم . وكل محاولة لمصادرة هذا الاختيار الحر ، واستباق المستقبل قبل ان يقع لتحديد مضمونه محاولة غير علمية ، لأنها تتجاهل إرادة أولئك الذين سيصنعونه على ما يريدون .

تلك نظرية يلوذ بها أعداء الاشتراكية . اذ لو صح أن المستقبل غير قابل للمعرفة أو التحديد فان الحديث عن المستقبل الاشتراكي لا بد من أن ينقطع . لنقبل ما هو قائم فعلا فهو اليقين الوحيد ، ولنترك للمستقبل أن يكشف - في حينه - للذين سيعيشونه ماذا اختارت لهم الصدف أو الأهواء أو الأقدار . وان جاءت الاشتراكية فعلا فسيعلمون هم خصائصها وسماتها ، أما نحن فتفصلنا إرادة البشر عن معرفة المستقبل فلا نتحدث عنه ، وبالتالي نكف عن عبث الدعوة اليه .

غير أن تلك النظرية ذاتها وراء جهد بعض الاشتراكيين الذين يتخذون التجربة والخطأ منهجا لتحقيق المستقبل الاشتراكي . انهم لا يريدون الالتزام مقدما بمضمون خاص للاشتراكية التي يتحدثون عنها ، تاركين للممارسة اليومية أن تنتهي الى ما تنتهي اليه . انهم يرفضون عادة النظريات ويرون فيها قيودا معوّقة ، ويغضون من قيمة العمل الفكري في الحقل الاشتراكي ، ويفخرون بأنهم ينتقون من الواقع حلولا لمشكلاتهم عندما تقع ، وانهم يهذا يحققون اشتراكية تنبثق من واقعهم . وهكذا أصبح التحرر الكامل من الالتزام بنظرية - على أيديهم - نظرية كاملة بدون التزام . والعيب الرئيسي في تلك النظرية أنها خالية من أي ضمان لتحقيق الاشتراكية أو عدم الارتداد عنها . اذ لما كان المصدر الوحيد لسمة الاشتراكية التي يطلقونها على ما يمارسونه هو قولهم انه اشتراكية ، فان أحدا لا يستطيع أن يضمن ألا يطلقوا ذات الشعار على بناء يقيمونه لا يمت للاشتراكية بصلة . أو لا أحد يستطيع أن يضمن ألا يلغوا ما صنعوه في سبيل الاشتراكية بحجة تحقيق الاشتراكية أيضا . ان المقياس أولا وأخيرا هو تقديرهم الشخصي . ولو أردنا أن نعرف – طبقا لهذه النظرية - خصائص وسمات الاشتراكية التي تسعى المجتمعات البشرية الى تحقيقها ، لكان المميز الوحيد لها مستمدا من نسبتها الى اسم قادة تلك المجتمعات .

نظرية الوسط الجغرافي :

أقرب من هذا الى البحث العلمي أولئك الذين يفتشون في الظاهرة عن العامل "الأساسي" في تطورها . ما هو دافع حركتها وموجهها وصاحب الأثر الأقوى في تحديد نوع المستقبل الذي ستنتهي اليه . اذ لو عرفنا العامل الأساسي في التطور الاجتماعي نستطيع - مع التسليم بأن المستقبل للاشتراكية – أن نسِم تلك الاشتراكية بسمته . ومع أننا هنا نقترب من البحث العلمي الا أن الأمر ينتهي الى عديد من النظريات التي تختلف تبعا للعامل الذي اختاره كل صاحب رأي ليكون عاملا أساسيا . فمثلا ، يقول أصحاب نظرية الوسط الجغرافي أو البيئة ان تلك الجماعة من البشر تقيم على الأرض . والأرض مختلفة أجزاؤها جغرافيا ومتنوعة في درجة الحرارة والرطوبة ونوع النبات والحيوان وموارد المياه وأنواع الرياح ..الخ . متنوعة الى الحد الذي تطبع فيه البشر بطابعها فيختلفون لونا وطولا ومقدرة ..الخ . انها اذن البيئة الجغرافية التي تحدد وتتحكم في اتجاه التطور وسرعته وغايته . فاذا كان المستقبل الاشتراكي سيكون متنوعا - وهو متنوع تبعا للبيئة - فيجب أن نبحث في الأرض عن كل منطقة متسقة جغرافيا . عندئذ نعرف أن الاشتراكية التي نتحدث عنها ستكون اشتراكية أوربية مثلا ، أو متوسطية (نسبة الى حوض البحر الأبيض المتوسط) ...الخ . تلك نظرية بعض الذين يبهرهم كفاح الشعوب الافريقية ضد الاستعمار فيديرون الحديث خلطا حول "الافريقية" كسمة للقومية أو الاشتراكية . وينسون أو يتناسون ما يسقط نظريتهم من أساسها . ان كل أرض افريقيا وجبالها ووهادها وغاباتها وأمطارها ..الخ عاجزة عن تبرير أن يكون المستقبل في افريقيا للاشتراكية فأولى بها أن تعجز عن تحديد خصائص الاشتراكية في افريقيا . ان الأرض مهما كانت جغرافيتها لا تختار نوع الحياة التي يعيشها البشر فوقها . وقد اتسعت أرض افريقيا للاستعمار والعبودية قرونا ، ولا تزال تحمل على كاهلها أفرادا مثل تشومي وحكومات مثل حكومة روديسيا ، ودولا مثل جنوب افريقيا . لا شك في ان للبيئة أثرا معوقا أو مساعدا في حركة التطور ، ولكنها لا تحدد نوع المستقبل الذي ينتهي التطور اليه . انها ليست العامل الأساسي . ولن تكون الاشتراكية فقط إقليمية .

نظرية الوسط الجغرافي احدى النظريات المادية ، أي التي تركز على عنصر أو أكثر من العناصر المادية لتوليه قيادة التطور ، اذ ترى فيه العامل الأساسي الذي يطبع التطور بطابعه . ومع أن أغلب تلك النظريات المادية قد سقطت ، الا ان ثمة نظرية مادية لا تزال تغالب السقوط وان كان مآلها اليه : انها الماركسية .

النظرية الماركسية :

ترى الماركسية أنه من الممكن أن نعرف الظواهر الاجتماعية وان نكشف قانون حركتها وأن نحدد خصائص مستقبلها على ضوء القانون الذي اكتشفناه . كل هذا ممكن بشرط أن نطرح النظرة الميتافيزيقية وأن ننتهج الى معرفتنا البحث العلمي . والنظرة الميتافيزيقية تعني تلمس أسباب التطور في قوة خارج الظاهرة ذاتها . اذا تجنبنا هذا وجدنا أنفسنا أمام الظاهرة الاجتماعية كما هي . ويسهل علينا أن نكشف أنها تتطور وتشق طريقها من الماضي الى المستقبل طبقا لقوانين حتمية ومادية . ومادية تعني أولا أنها ليست من صنع قوة خارجة عن الطبيعة . وتعني ثانيا أنها غير متوقفة على إرادة الانسان . وقد اكتشف ماركس – هكذا يقولون – تلك القوانين وصاغها فيما يعرف بالمادية الجدلية . وخلاصتها أن الطبيعة بما فيها الانسان والمجتمعات تتطور طبقا لقوانين أربعة : التأثير المتبادل – الحركة الدائمة – التغير المستمر – الجدل . والجدل - أهم تلك القوانين – يعني أن التطور لا يتم بالانتقال الميكانيكي من العلة الى المعلول بل عن طريق الصراع بين المتناقضات الكامنة في الشيء ذاته ، والذي ينتهي بأن يخرج الى الوجود – طفرة – شيء جديد مختلف نوعيا عن النقيضين وان كان هو ذاته يحتوي على بذور تناقض جديد لن يلبث حتى يصبح تناقضا ينتهي بطفرة . وهكذا في سلسلة من الصعود الدائم خلال الصراع الجدلي .

بالرغم من أن تلك النظرية الجدلية مطابقة تماما – من حيث الحتمية وقوانينها والتطور الصاعد – لما قاله هيجل فيلسوف المثالية ، الا أنها متميزة عنها مما يعتبر أساسا جوهريا في الماركسية ، ونعني بها انها مادية . فالقوانين قوانين المادة . والجدل جدل المادة . وليس الفكر الا انعكاسا لمنجزات التطور المادي . المادة هي العامل الأساسي في التطور وقائدته . هي تتطور أولا والانسان يتبعها الى حيث هي متطورة .

فاذا أردنا أن نفهم حركة المجتمعات على هدي هذه الفلسفة المادية ، لنحدد خصائص الاشتراكية فلنسقط أولا ما يدور بأفكار الناس وأحلامهم ، ولننظر في مضمون الحياة المادية التي يعيشونها . عندئذ سنكتشف أن قوى انتاج الحياة المادية تتضمن عنصرين : أدوات الإنتاج وعلاقات الإنتاج . وسنجد – بحكم نظريتنا المادية – أن أدوات الإنتاج تلعب الدور الأساسي في التطور ، فهي التي تحدد نوع العلاقات التي تربط البشر حول عملية الإنتاج ، ونكون بهذا قد اهتدينا الى مفتاح التطور لنرى أنه سائر الى حيث يسير تطور أدوات الإنتاج . فاذا أردنا أن نعرف مستقبل أية جماعة من البشر فلننظر أولا في مدى ما وصلت اليه أدوات انتاجها المادي من تطور . فان كانت في مرحلة العبودي فمستقبلها الى الاقطاع ، وان كانت في مرحلة الإنتاج الاقطاعي فمستقبلها الى الرأسمالية ، وان كانت في مرحلة الإنتاج الرأسمالي فمستقبلها الى الاشتراكية حتما . لماذا حتما ؟ لأن النظام الرأسمالي – بدون توقف على إرادة الرأسماليين أو العمال أو أي انسان – يتضمن تناقضا داخل عملية الإنتاج ذاتها . فمع أن عملية الإنتاج اجتماعية يسهم فيها الجميع بحكم التطور الفائق لأدوات الإنتاج ، وكون الإنتاج في النظام الرأسمالي للربح وليس للاستهلاك ، مع هذا نجد أن علاقة الإنتاج لا تزال متخلفة اذ يملك أفراد قلائل أدوات الإنتاج ملكية خاصة . ولما كانت علاقة الإنتاج تابعة لتطور أدوات الإنتاج ، لأن أدوات الإنتاج المادي هي قائدة التطور ، فلابد من أن تتحطم علاقة الإنتاج في النظام الرأسمالي لتتسق وتلحق بأدوات الإنتاج : لابد من أن تصبح علاقة الإنتاج اجتماعية ، ويتحقق هذا بإلغاء الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج .. عندئذ يزول التناقض وندخل المرحلة الاشتراكية . وهكذا نعرف علميا أن الاشتراكية هي الغاء الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج الرأسمالي .. وأنه يجب أن تسبقها مرحلة رأسمالية لأن ترتيب مراحل التطور وتتابعها نفسه ذو سمة مادية بمعنى لا يتوقف على إرادة الناس . ولما كانت تلك خصائص الاشتراكية فهي لا تتغير تبعا لأمزجة الناس أو لبيئاتهم أو لأممهم . أدوات الإنتاج هي أدوات الإنتاج في كل مكان . والملكية هي الملكية في كل مكان . فلا يقال بعد هذا أن ثمة اشتراكيات متميزة على أية قاعدة ، ولا يقال أيضا أن ثمة اشتراكية عربية ، وان قيل هذا فهو فضح لافتقار تلك الدعوات لأي أساس علمي .

منطق صلب . استطاع أن يجمع ملايين البشر تحت رايته ليمارسوا الحياة ، ويصنعوا الاشتراكية على ذلك الأساس المميز : "المادية" . غير أن تلك الممارسة ذاتها قد أسقطت المادية .

فبعد خمسين سنة من البناء الاشتراكي طبقا للمنج المادي ، انتهت التجربة الى نتيجتين : الأولى أن المجتمعات المرشحة ماديا للاشتراكية لم تنتقل اليها ، وأن المجتمعات المحرمة عليها الاشتراكية طبقا للمنهج المادي الماركسي قد اندفعت اليها . مجتمعات في أوروبا وأمريكا وصلت ذروة النضج الرأسمالي وبلغت فيها أدوات الإنتاج قدرا خياليا من التطور ، ومع ذلك لم تستطع تلك الأدوات القائدة الرائدة أن تجر الناس هناك الى الاشتراكية . بينما مجتمعات أخرى في العالم الثالث غير مؤهلة ماركسيا الا للإقطاع أو للرأسمالية ، ولا تملك أدوات انتاج رأسمالية أو غير رأسمالية ، وان ملكتها فهي نماذج بالغة التخلف ، تولى الناس فيها قيادة تطورها متخطين مراحل كاملة ، متحدّين أدوات انتاجهم ليقتحموا الطور الاشتراكي . ولما أن حدث هذا لأول مرة في روسيا المتخلفة نظر اليه وفسر على أنه استثناء من النظرية ، غير أن الأمر قد اطرد حتى أصبح الاستثناء الروسي قاعدة . وكاد يثبت للاشتراكية سمة جديدة وهي أنها وسيلة المتخلفين الى التقدم . واستقر الامر حتى سلم الاشتراكيون بإمكان التطور الى الاشتراكية عن غير الطريق الرأسمالي .

وكان طبيعيا أن يعاد النظر في الموضوع كله للبحث عن علة هذه المفارقة .

تجربة العالم الثالث :

أما الذين قضوا حياتهم ثوارا مناضلين تحت لواء المادية الماركسية ، فقد كان صعبا عليهم أن يسقطوا اللواء الذي جمعوا الجماهير حوله ، فانطلقوا يؤوّلون النظرية ويمدّون أبعادها لتغطي حصيلة الممارسة الحية . أو يؤوّلون ظروف الممارسة ويهوّنون من قيمة الصدع بين النظرية والتطبيق .

أما الذين لا يربطهم بالماركسية رباط خاص ، الذين يقدّرونها كمحاولة رائعة ولكنهم لا يقدّسونها ، فأولئك أبناء العالم الثالث أصحاب القدر الأكبر من التجربة التي أسقطت الماركسية . السؤال الأول الذي طرحوه هو : ان قيمة أي نظرية علمية في أن تجنب الذين يصنعون الحياة على هديها مفاجآت الممارسة ، فاذا كانت حصيلة الممارسة قد جاءت على غير ما يتفق مع المنهج الماركسي فما فائدة الماركسية ؟ ولما كانوا غير متعصبين للماركسية أو ضدها فقد اتجهت جهودهم الى البحث عن علة قصور المنهج الماركسي . لم يدينوا تجربتهم الرائدة ، ولم ينكروا طموحهم الاشتراكي ، بل بحثوا عن الثغرة النظرية فوجدوها .

ولعل الأمر أن يكون قد أخذ شكل الحوار الاتي : من الذي فشل في الانتقال بالمجتمعات الرأسمالية النامية الى الاشتراكية ؟ الناس هناك . ومن تحدى أدوات الإنتاج المتخلفة وتخطى الرأسمالية واقتحم المرحلة الاشتراكية ؟ الناس هنا . من الذي يقود التطور اذن ويحدد غايته ويحقق تلك الغاية ؟ الناس في كل مكان . من الذي يدرك المشكلة ويصمّم حلها ويحقق الحل بالعمل ؟ الانسان .

وأثار العالم الثالث حماسا بالغا لاحترام الانسان والثقة فيه ، واقر له من خلال تجربته الذاتية بأنه العامل الأساسي ، القائد لعملية التطور . القائد الثائر الذي يستطيع أن يهزم الاستعمار بكل قواه المادية وهو لا يملك الا انسانيته . القائد القادر الذي يستطيع أن يحطم قيود التخلف ويلغي الاستغلال ، وينتقل الى الاشتراكية وهو لا يملك أدوات انتاج متطوّرة أو غير متطوّرة . القائد الواثق الذي بلغت ثقته بقيادته أن يسقط المرحلة الرأسمالية بكاملها من تاريخه ، ويصنع ذلك التاريخ كما يريد لا كما تريد أدوات الإنتاج المادي . وكما يحدث عادة في غمرة الحماس ، اتخذ البعض من سقوط النظرية الماركسية حجة لإسقاط النظرية عامة والاستغناء عنها بالتجربة والخطأ وثقة الاشتراكيين بأنفسهم .

الا أن هذا لا يمنع أن الحماس ولو للإنسان ليس منهجا علميا . ولابد -ان صح أن الانسان يستأهل هذه الثقة – أن يؤدي البحث العلمي الى تأكيد موضوعي هادئ لها . أي لابد من أن توجد النظرية التي تنتهي الى أن الانسان قائد التطور فعلا ، وأن يكون البحث العلمي الهادئ هو الطريق الى اكتشافها . والا فان الحماس لن يجدي شيئا .

ولا يشغل العالم الثالث الان شيء – على المستوى الفكري – أكثر من البحث العلمي لاكتشاف النظرية العلمية التي تؤكد حصيلة التجربة . نظرية تؤكد أن الانسان هو العامل الأساسي في التطور وقائده .

الانسان هو قائد التطور :

نقطة الانطلاق التي أرستها الممارسة وحدّدتها لأي بحث في هذا المجال هي ، اسقاط النظرة المادية الى عملية التطور . التخلي نهائيا عن الفرض الأول وهو أن المادة أيا كانت صورتها تلعب الدور الأساسي في عملية التطور وتحديد اتجاهه وغايته . بعد هذا يصبح الأمر أكثر يسرا . فحتى الماركسية لو جُرّدت من أساسها المادي لانتهى الأمر الى مجموعة من القوانين التي تحكم حركة التطور والتي يقال لها قوانين الجدل . والانتباه الى ما أثبتته الممارسة من أن الانسان هو قائد التطور ، ينتهي ببساطة الى أن يكون الجدل – أي التطور الصاعد – قانونا خاصا بنوع الانسان ، وتبقى قوانين التأثر والحركة والتغير كلية وحتمية تحكم الطبيعة بما فيها الانسان ، بينما ينفرد هو كنوع متميز بطريقته الخاصة للانتقال من الماضي الى المستقبل . فمن ظروفه المادية الجامدة الى أقصى غاياته كما يتصورها فكريا ، يقود الظروف ويطوّعها بالعمل وأدواته ، ليحقق المستقبل الذي يريده .

ويكون ميسورا عندئذ تعليل الحل الاشتراكي . فيكفي الانسان القائد أن يعرف الاستغلال الرأسمالي معرفة فكرية – وان لم يجرب الرأسمالية – ليختار الاشتراكية . ولما كان الانسان هو الذي يطوّع المادة ويصوغها على ما يريد ، فإننا نفهم بيسر لماذا استطاع ويستطيع أن ينطلق من أي طور اجتماعي الى الاشتراكية رأسا .

المهم هو النظرة أو النظرية أو نقطة الانطلاق التي تكمن وراء الاشتراكية التي نتحدث عنها ونريد أن نحدد خصائصها .

وقد انتهينا الى اسقاط النظرة المادية . وردّ العالم الثالث الى الانسان قيمته . وأصبح الانسان هو الذي يضع أصابعه على الاشتراكية التي يبنيها وتحمل عنه سمته وطابعه . مجرد أن نردّ الى الانسان قيمته في البناء الاشتراكي ، ونوليه ما يستحقه من ثقة ، ونعترف له بما هو أهل له من مقدرة ، تحتم علينا أن نسم أعماله بسمته .

فعلى مستوى البشرية تمثل الاشتراكية النموذج الإنساني للحياة . ان كل اشتراكية إنسانية لأنها من صنع الانسان . ولكننا – داخل هذا الاطار الشامل – نجد التاريخ قد تولى قسمة الناس أمما ، وأن الانسان يتميز بالأمة التي ينتمي اليها . وأن تلك هي الرابطة القومية التي تجمع أبناء الأمة الواحدة وتميزهم عن غيرهم . لهذا يحتم علينا مجرد انطلاقنا غير المادي في البحث عن المضامين الاشتراكية ، أن نسم كل اشتراكية بسمتها القومية ، معبرين بذلك عن معرفتنا بأن الانسان هو الذي يصنعها فهي تحمل طابعه أينما كان . ولما كان هو متميزا قوميا ، فان كل اشتراكية ستكون متميزة قوميا . وتكون لنا "الاشتراكية العربية" ، وتكون للأمم الأخرى اشتراكيتها الخاصة ولو اتحدت مع اشتراكيتنا في المضمون الاقتصادي .

وهكذا نكتشف أن وراء الإصرار على "الاشتراكية العربية" إصرارا على أن تبقى للإنسان قيمته الأساسية في عملية الخلق الاشتراكي .

مجلة الفكر المعاصر العدد 15 - بتاريخ 1 ماي 1966 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق