بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 29 يونيو 2016

جدل الإنسان رسالة إلى الأجيال العربية.

عصمت سيف الدولة : جدل الإنسان رسالة إلى الأجيال العربية.
                                 حبيب عيسى . 

 أيها الحفل الكريم : إنني إذ أشكر لكم هذه المشاركة الممتازة في إحياء الذكرى السنوية الأولى لرحيل شيخ القوميين العرب عصمت سيف الدولة ، فإنني أجد نفسي مشدوداً إلى مستقبل الأمة العربية ، وإلى مستقبل الإنسانية جمعاء ، كما رسمه الراحل العظيم ، حيث الإنسان متحرر من العبودية ، والاستبداد ، والاستغلال ، والاستلاب ، وحيث تحيا الأمة العربية ، بما تملك ، وتنتج ، وتجهد ، وحيث يختفي من العالم التمييز العنصري ، والمناطقي ، والطائفي ، والمذهبي ، والطبقي ، والاجتماعي ، وحيث يختفي هذا النظام العالمي ، القديم ، الجديد ، الذي يستمد قوانينه من أعراف القراصنة ، وتجار العبيد ، ورعاة البقر ، وحيث تسود الإنسانية عدالة اجتماعية يستحقها الإنسان ، في كل مكان ، وعلى امتداد الزمان  .
 (1) 
وقبل أن أدخل إلى موضوع البحث الذي خصّني فيه “المنتدى القومي العربي” لابد أن أتقدم بشكر ، وباعتذارين ، إثنيّن :
– أما الشكر ، فهو للجنة التنفيذية “للمنتدى القومي العربي” (رئيساً وأعضاء) ، ليس لأنها تحيي الذكرى  السنوية الأولى لشيخنا الجليل الراحل ، وحسب ، (وهذا ليس بالقليل على أية حال) ، ولكن أيضاً لأنها حتى الآن لم تفكر بتغيير اسم “المنتدى القومي العربي” رغم هذا الحشد من اليافطات المذهبية ، والطائفية ، والإقليمية المعروضة في سوق النخاسة هذه الأيام ، مع الإغراءات ، والهدايا ، وهذا يؤكد أن المعركة مستمرة ، وأن الحديث عن “وفاة العرب” سابق لأوانه…. هم ، الأعداء ، يقولون أنهم كسبوا جولة…. ، ونحن نقول : إنها محنة ، و ستمضي ….  
 – وأما الاعتذار الأول ، فهو ، في حقيقة الأمر ، اعتراف ، و إقرار بأنني لن أدعّي الحياد ، وأنا أتحدث إليكم  عن منهج : “جدل الإنسان” ، لأن هذا مالا أستطيعه . فأنا قادم لأصدقكم القول ، فيما أعتقد ، أنه الصحيح ، لا من أجل المجاملة …… ، فالموقف عصيب ، والأمة جريحة ، والأعداء يرتعون في كل مكان ، والذين أمسكوا العصا من منتصفها ، لسنوات طويلة ، يمسكونها الآن من الطرف الذي يختارونه ، أو يجبرون عليه ، بالعجز ، وقلة الحيلة ، ولا فرق في ذلك …
وإذا كان أجدادنا ، قد قالوا سابقاً : ( آفة الرأي الهوى) ، فأنا أعترف أمامكم ، أنني أهوى ، وأنني متيمّ  بمن أهوى إلى حد اليقين ، وبالتأكيد ، فإن أجدادنا ، لم يقصدوا ،  بأية حال ، أن يكون الإنسان بلا موقف  يدافع عنه ، ويمنحه حياته كلها ، إذا اقتضى الأمر ، ذلك ، بل كانوا يحرضوّن على موقف كهذا ، خاصة إذا كانت الأمة معتدى عليها ، من خارجها ، استعلاء ، ومن داخلها ، خيانة ، واستبداداً ، تدق في ساحاتها ساعة النفير إلى موقف حاد ، كحد السيف ، في زمن يشهر فيه الأعداء ، والخونة سيوف الغدر ، ويقهقهون حتى تنفسخ أشداقهم على مشاهد أشلاء شهدائنا ، ويذرفون الدموع ، حتى تجحظ عيونهم ، على قتلى الأعداء ، فقد حتمّ على جيلنا ، أن يخوض معاركه الفكرية ، في خنادق معركة الدفاع ، عن الوجود ، وعن الحياة ذاتها .
 وأما الاعتذار الثاني ، فهو أنني لن  أتمكن في الدقائق التي حددها لي “المنتدى القومي العربي” ، أن أفي موضوع البحث حقه ، فجدل الإنسان ، الذي استغرق عمر صاحبه ، وجهده ، وبحثه ، لا يمكن أن أحيط في جوانبه المتعددة بدقائق ، لكنها دقائق ثمينة ، على أية حال ، وهي فرصة نادرة ، بالنسبة إليّ ، أن أخاطب هذا الحضور الممتاز ، من أبناء أمتي .
(2)  
وللحديث الجاد عن منهج ” جدل الإنسان ” لابد من الوقوف في محطات رئيسية ثلاث :
– المحطة الأولى : هي الظروف ، والملابسات الفكرية ، والفلسفية ، التي هيأت لولادة منهج  ” جدل الإنسان ” وجعلت منه  ضرورة ، وحاجة …!          
– المحطة الثانية : هي المنهج ذاته ” منهج جدل الإنسان ” .          
– المحطة الثالثة : هي التطبيقات ، والنتائج التي ترتبّت على إعمال المنهج ، في الواقع .
 (3) 
عن المحطة الأولى نقول : أن العالم ، كان قد نفض غبار الحرب العالمية الثانية منشطراً ، انشطاراً حاداً ، إلى كتلتين رئيسيتين ، تتصارعان معاً ، لكنهما تتفقان ، من غير اتفاق ، على مجابهة أية كتلة ثالثة. ولكل من هاتين الكتلتين منهج محدد ، وتجارب في بناء النظم ، والحياة ، والتفكير تريدان نشرها في العالم كله :  
– الكتلة الأولى : فيها بريق الحرية الفردية ، ” دعه يعمل، دعه يمر” ، لكنها انتهت إلى عنصرية استعمارية للعالم ، واستغلال حاد للبشر، وإحياء لأعراف القراصنة في العلاقات الدولية، باختصار شديد فإن التجربة الرأسمالية التهمت ما سمي عصر الأنوار ، وعصر النهضة في أوربا ، وأكلت حتى الليبرالية ، و المساواة ، والعدالة، وأصبح قانون المنفعة الأمريكي ، هو السائد.         
– الكتلة الثانية : فيها بريق العدالة الاجتماعية ، والتخطيط  الاجتماعي ، وإلغاء استغلال الإنسان ، للإنسان لكن ديكتاتورية البروليتاريا ، انتهت إلى ديكتاتورية الأمين العام ، ثم ، إلى تأبيده.. ، وباختصار شديد أيضاً فإن التجربة هناك أكلت أحلام ثوار أكتوبر بالتنمية ، و التطور ، والعدالة، وأكلت أحلام الإنسانية جمعاء ، ببناء تجربة نموذجية ، لمواجهة قراصنة الرأسمالية ، الذين يجوبون العالم .           
– ثم إلى جانب تلك الكتلتين ظهرت كتلة ثالثة ، تتلمس طريقها. يقودها رجال أفذاذ ، حاولوا رسم ملامح طريق ثالث أخذوا فيه من الجدلية المادية ، ومن القانون الطبيعي ، ومن الأفكار المحلية ، والدينية تحت شعار عريض يقول : ” نأخذ ما يناسبنا ، ونطرح ما سواه ” ، لكن التجربة ، أكلت الحلم ، مرة أخرى ، وأكلت قادته الأفذاذ . فتبيّن ، أن هذه الكتلة أخذت أسوأ ما في الكتلتين الأخريين .
(4) 
الوطن العربي كان في القلب ، من ذلك كله ، وأطراف الصراع  الدولي على العالم كانت نشيطة هنا، وتجلياتها الفكرية ، والنظرية ، والمنهجية كانت تتصارع في ساحة الوطن العربي ، صراعا عنيفاً ، وعندما بدأت حركة القومية العربية تتبلور ، بأطر تنظيمية ، في الخمسينات ، من هذا القرن ، فان القضايا السياسية الملحة ، لمواجهة الاعتداء الكثيف على وجود الأمة ، احتلت الأولوية ، وأصبح الاهتمام ، ببلورة منهج فكري محدّد ، يحتل المرتبة الثانية ، من الاهتمام ، وعندما بدا أن حركة القومية العربية انتقلت إلى الهجوم بإقامة دولة “الجمهورية العربية المتحدة” ، وبضرب القوى المعادية ، ضربات موجعة ، بين المحيط والخليج ، وعندما بدا أن عروش حكام الدول الواقعية العدوانية ، التي تحتل أرض الأمة ، بين المحيط والخليج ، تهّتز ، اهتزازا عنيفاً ، فإن الحماسة ، والشعارات ، والانخراط في المعارك اليومية شغل الحركة القومية العربية ، عن الالتفات إلى التأصيل الفكري ، والمنهجي ، والنظري حيث لا وقت للتفلسف ، خاصة ، وإن الإنتاج الفكري للإنسانية ، عبر التاريخ ، معروض لمن يريد ، فلماذا نضيّع الوقت في إنتاج نظري لا حاجة لنا فيه …؟ ، ولماذا هذه “الشوفينية” في المطالبة بنظرية من إنتاج العرب خاصة …؟    
 لكن المسألة ، لم تكن بهذه البساطة ، خاصة بعد الإنذار بالغ الدلالة صبيحة يوم 28 أيلول / سبتمبر 1961 عندما استطاع حفنة من الانفصاليين أن يغتصبوا الإقليم الشمالي للجمهورية العربية المتحدة ، بينما الجماهير العربية الهادرة ، بالحماسة ، عاجزة ، مذهولة رغم غلبتها العددية الساحقة فلا تعرف كيف تواجه الانفصاليين ، ولا تعرف كيف تعيد الوحدة ، كما لم تعرف من قبل كيف تحصّن “الجمهورية العربية المتحدة” ، وتمد حدودها إلى حيث حدود الأمة ، بين المحيط ، والخليج .
 في هذه المحطة بالذات بدأ الإدراك يتبلور ، بأن الحاجة إلى منهج يكون ضابطاً للحركة المطرّدة إلى التقدم ، والوحدة ، ليس ترفاً ، وأن منهج ” دعه يعمل دعه يمر ” لم يؤد إلى سعادة البشرية ، وحريتها  ، وإنما إلى استغلال مزدوج ، فالرأسماليون يستغلون شعوبهم ، ثم يجندونهم ، لاستغلال البشرية بأسرها ، وأن منهج ” ديكتاتورية البروليتاريا ” لم يؤد إلى العدالة الاجتماعية ، فالاستبداد هناك بات نموذجاً ، لأنظمة الطغيان في العالم كله ، وأن منهج التلفيق ، والتجريب ليس ناظما لحركة مضطردة إلى التقدم ، وأن منهج العودة إلى المذاهب ، والأديان ، لا يعني ، أكثر من العودة ، إلى أوحال الفتنة ، والنزول بالأديان إلى ساحة الخلط بين مفاهيم الانتماء الوطني ، والانتماء الديني ، وحدود كل منهما .              
تلك كانت هي الأرضية التي انطلقت منها الحاجة إلى منهج جديد يتجاوز المناهج التي تدمّر الإنسانية ، هذه الأيام . إن لم يكن ” جدل الإنسان ” فليكن سواه ، وباب الاجتهاد مفتوح ، على أية حال ، المهم ، أن يكون اجتهاداً ، لا فتنة .               
 أريد من ذلك ، كله ، أن أقول ، باختصار شديد ، أن المناهج الفكرية ، والفلسفية ، لا تولد من فراغ ، وليست منقطعة الصلة بالواقع ، وإنما ، وإن كانت ، في النهاية ، من إبداع فردي ، لرجل معين تحمل أسمه ، فيما بعد ، فإنها حصيلة لجملة من الإرهاصات الفكرية ، والتفاعل ، والتجريب ، والهزائم ، والانتصارات ، والتراكم الفكري ، فكل إنتاج فكري ، يتضمن شيئاً من النتاج الفكري ، السابق عليه ، ثم إضافة إليه ، يبدعه صاحبه ، ليتحول بدوره إلى تراث فكري ، وهكذا .. فالمناهج النظرية ، هي حاجة للبشرية ، بعد إن تكون المناهج السابقة ، قد استنفذت أغراضها .
 (5) 
ومنهج “جدل الإنسان” الذي أبدعه عصمت سيف الدولة لم يأت من فراغ ، وليس مقطوع الصلة بالإنتاج الفكري الإنساني ، فهو يتضمن شيئاً من هذا النتاج ، وإضافة من مبدعه ، من جهة ، وهو استجابة لحاجة قومية ملحة ، في أخصب مناطق العالم ، التي تتعرض لعدوان عنيف لا يوّفر فيه المعتدون استعمال أي سلاح ، من أي نوع . وبالتالي فإنه من الطبيعي أن يأتي الحل ، من هنا ، مرة أخرى ، في عصر يطرح فيه المترفون ، الذين يستنذفون ثروات العالم ، ويلوثون أجواءه ، بأن “عصر الإيديولوجيات” ، قد انتهى ، ليس لأنه انتهى فعلاً ، ولكن ، حتى لا يفكر أحد في تغيير هذا النظام العالمي الفاسد ، الظالم ، التي يتربّع فوقه ، حفنة من القراصنة ، واللصوص ، بينما الملايين من البشر ، في القاع ، يعانون أقسى ظروف القهر ، والظلم ، التي عرفتها البشرية ، حتى ، في عصورها الأولى .
 (6) 
عن المحطة الثانية ، التي تتعلق بالمنهج ذاته …. “منهج جدل الإنسان” ، فإننا نجد أنفسنا مشدودين للحديث عن مبدع هذا المنهج ، بعد أن تحدثنا عن الظروف الموضوعية التي أحاطت ، به ..
يقول التاريخ : انه في بداية عقد الخمسينات من هذا القرن توجهت فصائل من الفدائيين العرب المصريين إلى قناة السويس لخوض غمار حرب فدائية ضد جنود الاحتلال البريطاني ، ويضيف كتاب التاريخ ، أنه ، قد كان بين تلك الفصائل كتيبة يقودها “عصمت سيف الدولة” ، وأن ما دفع المؤرخ للحديث ، خاصة ، عن تلك الكتيبة بالذات ، والتي كانت تحمل اسم “كتيبة محمد فريد” ، أنها الكتيبة الوحيدة التي حملت معها ، بالإضافة إلى العتاد ، والسلاح ، والزاد … حملت ، مكتبة ضخمة ، بحيث كان أفرادها ، يقاتلون ، ثم يتناوبون على القراءة ، وهكذا …   
ثم ، يقول التاريخ مرة أخرى … أن مجموعة من الشباب العربي في مصر ، وأثناء معركة القناة ، عام 1956 ترسّخت لديها قناعة بأن معركة الأمة العربية ، واحدة ، وأنه لا بد من تشكيل حزب قومي عربي ، لتوحيد الأمة العربية ، وعندما عاد أحد أفراد هذه المجموعة من جولة له في بلاد الشام ، أعلمهم أن مجموعة من الشباب العربي ، في بر الشام ، قد أسسوا حزباً قومياً عربياً أسموه حزب البعث العربي الاشتراكي ، فاتصلت تلك المجموعة ، بالحزب ، واتصل الحزب بها ، وجرت محاورات ونقاشات جادة ، حول مفهوم القومية العربية ، ويقول د. جلال أمين عن تلك الفترة : ” كنا قد أنشأنا فرعاً “لحزب البعث العربي الاشتراكي” في مصر ، في منتصف الخمسينات، ولم يعمّر هذا الفرع ، أكثر من ثلاث سنوات ، إذ اضطررنا لحله ، تنفيذاً للاتفاق الذي تم بين جمال عبد الناصر ، وحزب البعث ، عندما اتفقا على إنشاء وحدة مصر ، وسورية ، في مطلع عام  1958″ ، ويضيف د. جلال أمين: ” اتصل بنا ، وقتها ، عصمت سيف الدولة ، الذي كان يكبرنا ، بنحو عشرة أعوام ، كان متحمساً ، طلق اللسان ، واسع الثقافة ، قاطعاً كحد السيف ، في أحكامه ، وعنيفاً في تقييمه للناس ، والأحداث ، مما جعلنا نتهيب من انضمامه للحزب ، فترددنا في قبوله ، ولم نكن ندري ، وقتها ، أنه ، سيصبح عما قريب ، ملء السمع ، والبصر ، ورائداً ، من رواد الفكر القومي العربي ، ومناضلاً صلباً ، من أجل القومية العربية ، والعدل حتى آخر لحظة في حياته ، نادر المثال ، في جرأته ، وإصراره على المبدأ ” .              
ثم يقول التاريخ ، أنه ، إثر انفصال الإقليم الشمالي عن الجمهورية العربية المتحدة ، وخلال فترة المراجعة ، والدعوة لتأسيس “الاتحاد الاشتراكي العربي” بديلاً عن “الاتحاد القومي” ، أصدر “عصمت سيف الدولة”  مجموعة من الكتيبات ، تحت عناوين : ( قومية عربية يعني إيه ؟ ) ، ( حرية يعني إيه ؟ ) ، ( وحدة يعني إيه ؟ ) ، ( اشتراكية يعني إيه ؟  ) .
(7)  
تلك  الإرهاصات ، كلها ، موضوعياً ، وذاتياً . أدت ، إضافة إلى عوامل أخرى ، أن يبدع عصمت سيف الدولة  “منهج جدل الإنسان” ، الذي ظهر أول مرة ، بتاريخ 15 كانون الثاني ( يناير) 1965. حيث تضمنه كتاب “ أسس الاشتراكية العربية ” ….                     
جاء في المقدمة : ” المنهج العلمي ، يجب أولاً ، وقبل كل شيء ، أن يكون علمياً ، أي مجرداً من التحيّز ، والتعصب ، والخوف . لهذا ، كان على أي عربي ، يريد أن يؤدي دوراً فكرياً ، في هذا الميدان ، أن يبدأ من أصعب النقاط : من الصفر ، لا تبهره الانتصارات ، فيجنح إلى تبريرها ، ولا تخيفه النكسات ، فيحتاط لها ، ولا تستفزه الاعتداءات ، فيتعصب لنفسه ، أو لغيره ، ولا تضغطه الشعارات ، فيجري وراء الجماهير يرفض ما ترفضه ، ويقبل ما تقبله ، وتلك بداية ثقيلة ، إن تجاوزها ، وجد نفسه أمام تراث فكري عريض ، كل تيار فيه ، بالغ الخصوبة ، وعليه عندئذ أن يقبله كتراث ، وأن يستفيد منه ، وأن يطهّر نفسه ، تماماً ، من التعصب معه ، أو ضده ، وأن يفهمه على ضوء الأحداث التي صاحبت نشوءه ، ثم يعزله عنها ليختبره على ضوء الأحداث التي يعيشها … ثم ، لو استطاع أن يهتدي إلى قاعدة علمية بسيطة أصبح محتوماً عليه أن يعود مرة أخرى إلى أمته ليختبر مقدرة القاعدة التي اهتدى إليها … تجيب عن الأسئلة التي تطرح ، عن الإنسان كفرد ، والإنسان في جماعة ، والجماعة في الطبيعة ، وحركة كل هذا في الزمان … كل هذا على ضوء مشكلات العصر ، الذي يعيش .. فيه … ” .                
ماذا يعني هذا في الواقع العربي ؟               
 “يعني ضرورة تجاوز الفراغ العقائدي ، إلى عقيدة ، وتجاوز “التجربة ، والخطأ” إلى منهج علمي ، وتجاوز التجمعات الجماهيرية المتعددة ، إلى حركة جماهيرية واحدة ، ذات منهج علمي ، وعقيدة واضحة ، تعلو بها ، على وحدة الصف  ، أو وحدة الهدف ، أو التضامن ، أو المنظمات الحزبية ، والجماهيرية الإقليمية ، وتتجاوز ، بها ، حتى طاقة الحكومات ، ومقدرتها ، بالقوة التي تستمدها من طاقة الجماهير ، ومقدرتها .. ”                
ثم يقول عصمت سيف الدولة عن “منهج جدل الإنسان” : لقد أعطيته كل ما أمكنني من جهد ، واستطعت فيما أعتقد ، أن أوفر له من ضمانات البحث العلمي ما قدرت عليه من نفسي ، فجاء مجرداً من التحّيز ، والتعصب ، والخوف ، أمّا المضمون فهو كل ما عندي من اجتهاد ، مهما كنت مقتنعاً به ، فإني مقتنع أيضاً ، بأن مناط الصواب ، والخطأ ، هو الحقيقة الموضوعية ، لا ما يدعيه المؤلفون … ولمّا ، أن رأيت أن تلك الفكرة الواحدة قد استطاعت أن تكون قاعدة لمفاهيم عديدة ، دون تناقض بينها ، توهمّت أنني قد أتيت بشيء يستحق أن يخرج للناس ، وربطت بينه كقاعدة انطلاق ، وغايته كحياة مقبلة … ” .
(8)
ان “منهج جدل الإنسان”  يرتكز على أربعة قوانين أساسية ، ثلاثة منها هي : قوانين الجدل ، التي جاء بها هيجل ، وأعملها في الفكر المجرد ، وحملت اسم “الجدلية المثالية” ، ثم أخذها عنه كارل ماركس ، وأعملها في المادة الصماء ، وحملت اسم “الجدلية المادية” ، ثم أخذها عنهما عصمت سيف الدولة وأعملها في الإنسان ، باعتباره ظاهرة نوعية ، تنفرد بأنها ” وحدة من الذكاء والمادة ” ، وحملت اسم “جدل الإنسان” ، وبذلك يقوم “منهج جدل الإنسان”  على القوانين التالية :  
  إن كل الأشياء ، والظواهر منضبطة حركتها من الماضي إلى المستقبل ، بقوانين حتمية معروفة ، أو يمكن معرفتها ، وأن الإنسان نفسه ، لا تفلت حركته ، من هذا النظام .
2- كل الأشياء ، والظواهر يؤثر بعضها ، في بعض ، خلال حركتها ، التي لا تتوقف ، فتلحقها تغيرات مستمرة ، وهذا قانون كلي ، يضبط حركة كل الأشياء ، والظواهر ، بما فيها الإنسان .
3- في نطاق القوانين السابقة ( التأثير المتبادل ، والحركة ، والتغير ) تخضع حركة كل شيء ، وأي شيء في الكون ، لقوانينه النوعية .
4- ينفرد الإنسان “بالجدل” قانونا نوعيا ” للتطور” ، وذلك ، لأن “الجدل” قانون للتطور ، والإنسان وحده ، والمجتمعات البشرية وحدها ، تتطور ، أما الأشياء ، والظواهر الطبيعية الأخرى ، فهي تتحول . وبذلك نصل إلى النتيجة القائلة : أن التغيرات التي تصيب الأشياء ، والظواهر عامة ، تتضمن نوعين : أولهما : ” التحول ” ، وهو ، ما يصيب كل الأشياء ، والظواهر من تغيرات تلقائية ، بفعل التأثير المتبادل ، فيما بينها ، خلال حركتها ، التي لا تتوقف . وثانيهما : ” التطور ” وهو إضافة للأشياء ، والظواهر ، ما كان لها أن تتحقق تلقائياً ، بفعل التأثير المتبادل بين الأشياء ، والظواهر خلال حركتها التي لا تتوقف ، إلا بتدخل ( واع ) بفعالية في القوانين التي تضبط حركة الأشياء ، والظواهر ….، والإنسان ” قادر ” على استخدامها ، لتغيير الأشياء ، والظواهر إلى ما يريد ” .
يمكن القول ، بناء على ذلك : أن ” التحول ” يصيب المادة في كل جزئياتها ، وأنواعها ، من أول الذرات إلى آخر المجرات … أما “التطور” فلا يصيب إلا الظواهر الإنسانية حيث تخضع حركة الإنسان وحده لقانون ” الجدل ” ، بالإضافة إلى خضوعه ، للقوانين الأخرى .
(9)
 إن أعظم دروس “الجدل” على الإطلاق هو : ” أولوية الإنسان ” لا بأي مفهوم ميتافيزيقي ، أو مثالي  ، أو أخلاقي ، ولكن في حركة التطور الاجتماعي ، يعتبر الإنسان وحده ، هو أداة تغيير واقعه ، وأن الناس وحدهم هم أداة الخلق في التطور الاجتماعي ، وبذلك نقول :  يتوقف “التطور الاجتماعي” من حيث مضمونه ، واتجاهه ، ومعدل سرعته ، ونصيبه من النجاح ، أو الفشل ، على العنصر البشري ، في أي مجتمع ، وكل ما عداه من قوى الطبيعة ، وموادها ، فهي إمكانيات متاحة ، والبشر ، وحدهم ، قادرون على استخدام تلك القوى ، والمواد في صنع “التطور الاجتماعي” . أما كيف يسير قانون “الجدل” في الإنسان … ؟ فيقول عصمت سيف الدولة : ” في الإنسان نفسه ، يتناقض الماضي ، والمستقبل ، ويتولى الإنسان نفسه ، حل التناقض ، بالعمل ، إضافة فيها من الماضي ، والمستقبل ، ولكن تتجاوزهما ، إلى خلق جديد ” . والنقيضان في “جدل الإنسان” هما الماضي ، والمستقبل ، اللذان يتبع أحدهما الآخر ، ويلغيه ، ولا يلتقي به ، قط ، ومع هذا يجمعهما الإنسان ، ويضعهما وجهاً لوجه ، في ذاته .
(10)  
لكن ، كيف يسير “قانون الجدل” في المجتمع … ؟ ، يقول : عندما نرّد الفرد ” الإنسان ” إلى مجتمعه ، لنرى ما يؤثر في فعالية قانونه ، وما يتأثر بها ، نجد : أن الواقع الاجتماعي ، هو محصلة تطور تاريخي ، وهو الذي يسهم في إثارة المشكلات ، وهو محدد موضوعياً ، لذلك فإن الحل الصحيح لأية مشكلة اجتماعية محدد موضوعيا ، والإنسان يشق طريقه الحتمي إلى الحرية ، بقدر ما يكتشف الحل الصحيح ، وينفذه ، ويفشل في تحقيق الحرية ، بقدر ما يجهل ، ذلك الحل الصحيح ، فلا ينفذه بالعمل ، ويهتدي الناس في مجتمع معين إلى الحل الصحيح بالجدل المشترك ، أو ما نسميه ” الجدل الاجتماعي ” أي المعرفة المشتركة ، بالمشكلات المشتركة ، والرأي المشترك ، في حلها ، والعمل المشترك تنفيذاً للحل ، فيتحقق به ، إضافة تحل بها المشكلات الاجتماعية ، وتثور بها مشكلات اجتماعية جديدة ، فتحل … وهكذا … فإن المجتمعات تتطور من خلال حل مشكلات الناس فيها ، بالعمل .                
 وبما أن الناس يختلفون في درجة معرفتهم ، وفي تقديم الحلول الصحيحة ، لمشكلاتهم ، فإنه ينشب بينهم صراع اجتماعي ، و”الصراع الاجتماعي” يكون حتمياً لإزاحة أية عقبة تقف في سبيل الجدل الاجتماعي ، ويتوقف التطور على قدر ما يستنفذ الصراع الاجتماعي ، من قوة ، إلى أن تزاح العقبة التي أقامها موقف الذين حاولوا تعويقه .
 (11)
إذن ، فالتطور الاجتماعي ، استناداً إلى ” جدل الإنسان ” ، ثم إلى ” الجدل الاجتماعي ” ، يبدأ من الواقع الاجتماعي ، كما هو ، بالمجتمع ، كما هو ، بالبشر في واقعهم المعين المشترك ، كما هو ، ولا يتم التطور إلا بقدر ما يشارك الناس في طرح المشكلات الاجتماعية ، ومناقشتها ، ومحاولة معرفة حلولها الصحيحة ، والمساهمة في العمل لحلها . بعد ذلك يمكن تحديد صيغة واحدة “لقانون التطور الاجتماعي” كما يلي : ” في حدود الكل الشامل للطبيعة ، والإنسان ، كل شيء مؤثر في غيره ، متأثر به ، وكل شيء ، في حركة دائمة ، وكل شيء ، في تغير مستمر ، وفي هذا الإطار الشامل ، يتحول كل شيء طبقاً لقانونه النوعي ، وينفرد الإنسان ، بالجدل ، قانوناً نوعياً لتطوره ، وفي الإنسان نفسه ، يتناقض الماضي ، والمستقبل ، ويتولى الإنسان نفسه حل التناقض ، بالعمل ، إضافة ، فيها من الماضي ، ومن المستقبل ، ولكن تتجاوزها إلى خلق جديد ” .                
يترتب على ذلك ، أن أية محاولة لتغيير الواقع ، على ضوء “جدل الإنسان” تفرض علينا أن نبدأ ، بتحديد واقعنا البشري ، من خلال الإجابة على السؤال ؟ من نحن … ؟ ، وعندما نعرف ، من نحن ؟ ، وما هو مجتمعنا ؟ ، فلن تكون عملية التغيير ، تجريداً . ويترتب على ذلك ، أن لكل أمة ، أبعاداً ثلاثة ، هي : 
– البعد الأول : يحددها ، من حيث علاقتها بالجماعات البشرية ، الخارجة عنها . 
– البعد الثاني : يحددها ، من حيث علاقتها بالجماعات الإنسانية ، الداخلة فيها . 
– البعد الثالث : يحددها ، من حيث مسيرتها ، كأمة . 
بالإضافة ، إلى حدها الرابع ” الحد الزماني ” الذي هو الواقع الاجتماعي للأمة ، في وقت معين .
 (12) 
لماذا “جدل الإنسان”  ؟ ، وما هي ضرورة المنهج … ؟               
 إن المسألة ، لا تتعلق بترف فكري ، ولا بالمباهاة بإنتاج نظري ، ولا مماحكة أصحاب المناهج الأخرى ، والدخول معهم في معارك لا تنتهي ، وإنما يتعلق الأمر كله ، بأمة عربية ممنوع عليها أن تتطور ، ممنوع عليها أن تعيش بما تملك ، ممنوع عليها أن تقول ـ أنها موجودة ، هكذا ، ممنوع علينا ، أن نكون عرباً ، كونوا ما شئتم ، إلا أن تكونوا عرباً ، ولا أتحدث عن العروبة ، هنا ، بمعنى الانتماء ، ولكن بمعنى الفعالية ، والشخصية الاعتبارية، والتأثير في عالم ، هي جزء منه… ممنوع عليها ذلك كله .. فإن قلتم إن هذا المنع جار بقرار دولي… فهو صحيح ، وإن قلتم أنه جار بخيانة من بعض أبناء الأمة ذاتها ، فهذا صحيح أيضاً ، وان قلتم أنه نتيجة عجز أبناء الأمة المخلصين ، فهذا صحيح كذلك .. ما يعنينا ، هنا ، هو معالجة هذا العجز، هو الانتقال ، من هذه السلبية التي تضع الكتلة الكبيرة من جماهير الأمة في موقع الفرجة على ذبح الأمة ، وتقطيع أوصالها ، إلى حالة يتحمل كلٌ مسؤوليته .              
وهذا يعني ، أن الذي يعنينا ، هو الفكر المسمى “قومي تقدمي” ، أو ما ينسب إليه ، وهو كثير ، وأزمة المنهج فيه واضحة ، ففيه يتحدث الكثيرون عن الأمة العربية ، والقومية العربية ، وعن الوحدة العربية ، وعما يجب ، أو لا يجب في الوطن العربي … دون أن نستطيع معرفة كيف توصلوا إلى ما يتحدثون فيه ، إلا أن يكون ترجمة لشعورهم ، بالانتماء القومي ، والشعور ، بالانتماء القومي ، قد يكون ذا دلالة صحيحة على وجود أمة ينتمي إليها المتحدث ، ولكنه لا يصلح مصدراً لمعرفة منطلقات تغيير الواقع القومي ، وغايته ، وأسلوبه ، يترتب على هذا ، أن الوحدة الفكرية ، بين القوميين التقدميين ، متوقفة على حل مشكلة المنهج في الفكر القومي التقدمي ، ذلك ، أننا في حاجة ماسة ، إلى معرفة كيف يكون الوجود القومي ، الذي هو محصلة تاريخ ماض ، ضابطاً لحركة تصنع المستقبل …؟ ، كيف يكون الانتماء القومي السلبي التزاماً حركياً ايجابياً ….؟ ، ونحن لا نعرف هذا ، إلا إذا عرفنا القوانين ، التي تضبط حركة المجتمعات ، من الماضي ، إلى المستقبل  .
 (13) 
أما عن المحطة الثالثة : المتعلقة بالتطبيق ، والنتائج التي ترتبت على إعمال المنهج في الواقع ، ودراسة المشكلات ، والظواهر ، بالاستناد إلى “منهج جدل الإنسان” نلحظ موقفاً استراتيجياً ثابتاً ، من مجمل القضايا المبحوثة ، يصمد أمام المتغيرات العنيفة ، فعلى مدى ثلاثين عاماً ، بدءاً من عام 1965 ، عالج   د . عصمت سيف الدولة ، كافة القضايا المطروحة ، والملحّة ، التي عاصرها استناداً إلى “منهج جدل الإنسان” ، فلا نعثر على تناقض بين موقف ، وآخر ، وإنما خط متسق من المواقف ، لم تقطعّه الأحداث ، والمتغيرات ، وكأنه سبيكة متجانسة ، لمواجهة الظروف المتغيّرة ، والصمود في وجه أعاصيرها :
1- إن المجتمعات تتطور ، خلال حل المشكلات التي يطرحها واقعها مستهدفة دائما إشباع حاجاتها المادية ، والثقافية المتزايدة ، أبداً .
2- ما دمنا أمة عربية واحدة ، فإن هذا يعني أن تاريخنا ، الذي قد نعرف كل أحداثه ، وقد لا نعرفها ، قد استنفذ خلال بحث أجدادنا عن حياة أفضل كل إمكانيات ، العشائر ، والقبائل ، والشعوب ، قبل أن تلتحم لتكوّن أمة عربية واحدة ، وأنها عندما اكتملت تكويناً ، كانت بذلك تقدم دليلاً موضوعياً ، غير قابل للنقض  ، على أن ثمة وحدة موضوعية ، قد نعرفها ، وقد لا نعرفها ، بين كل المشكلات التي يطرحها واقعنا القومي ، أياً كان مضمونها ، وإنها بهذا المعنى ، مشكلات قومية ، لا يمكن أن تجد حلها الصحيح ، إلا بإمكانات قومية ، وبقوى قومية ، في نطاق المصير القومي .
 3- إن وحدة الوجود القومي ، تحتم وحدة الدولة فيها ، بمعنى أن الدولة القومية ، التي تشمل الشعب ، والوطن ، كما هما محددان تاريخياً ، هي وحدها ، التي تجسّد سيادة الشعب ، على وطنه القومي ، ومشاركته التاريخية ، فيه .
 4- إن التقييم القومي ، للدولة الإقليمية ، أنها مؤسسة ، رجعية ، وفاشلة ، وهذا يصح بالنسبة إلى جميع الدول الإقليمية ، بدون استثناء .
 5- إن الأحزاب الإقليمية ، نماذج مثالية ، للفشل ، لأن أقصى نجاح لأي حزب إقليمي ، هو أن يستولي على السلطة في دولته الإقليمية ، التي هي ذاتها ، مؤسسة فاشلة ، فإن فشل في الاستيلاء على السلطة ، فهو أكثر فشلاً من الحاكمين أصحاب الدولة الإقليمية .
6- ليس صحيحاً أن القومية ، هدف برجوازي ، وأن العمال لا وطن لهم ، فقد ثبت ، أن للعمال وطن ، وأن البرجوازيين لا وطن لهم ، وأنهم يبحثون وراء الربح إلى أقصى موقع في هذا العالم ، ويتعاونون عن طريق الشركات متعددة الجنسيات ، وجواسيس الدول المهيمنة ، على النظام الدولي ، في سرقة ثروات الشعوب ، في كل مكان متاح لهم ، في هذا العالم .
 7- إن فلسطين ، كجزء من الوطن العربي ، إقليم مملوك ، ملكية مشتركة ، للشعب العربي كله ، وليس ملكاً خاصاً لشعب فلسطين ، وأن الشعب العربي كله ، ومن باب أولى شعب فلسطين وحده ، لا يملك الحق في التنازل ، أو التفريط ، أو المساومة على حرية فلسطين ، وأن مسؤولية تحرير فلسطين واقعة على الشعب العربي كله ، وليس على الشعب الفلسطيني وحده ، وأن كل الاتفاقيات ، أو المعاهدات ، أو القرارات ، والدساتير ، والمواقف ، والتصريحات ، سواء كانت صادرة عن دول أجنبية ، أو عن دول عربية ، أو عن بعض الفلسطينيين ، في الماضي ، أو الآن ، أو في المستقبل ، تمس حرية فلسطين ، غير مشروعة قومياً ، فهي ليست حجة على الأمة العربية ، ولا قيداً على حقها ، في تحرير فلسطين .  
8- لما كانت الأمة العربية ، تكويناً تاريخياً ، فإن اشتراك الشعب العربي ، في الوطن العربي ، هو مشاركة تاريخية بين الأجيال المتعاقبة ، وهذا يعني أنه ، ليس من حق الشعب العربي كله ، من المحيط إلى الخليج ، ولو كان ممثلاً في دولة الوحدة ، أن يتنازل عن أرض فلسطين ، أو أن يقبل الوجود الصهيوني على الأرض المغتصبة ، إنه بهذا يتصرف فيما لا يملكه وحده ، لأنه ملك مشترك بينه ، وبين الأجيال العربية القادمة ، ولو فعل ، لما كان ما يفعله حجة على الأجيال القادمة من الشعب العربي ….
(14)
 لم يترك د. عصمت سيف الدولة ، حدثاً يمر ، دون أن يشارك فيه ، لم يجامل أحداً ، منذ عام 1965، فقد أدرك أنه ، واستناداً إلى “منهج جدل الإنسان” ، أن الأمة تتعرض لمخاطر جسيمة ، وأن على الجماهير العربية ، أن تنتظم ، بتنظيم قومي ، فصاغ بياناً تأسيسياً لذلك ، حدد فيه كيف يمكن أن يولد هذا التنظيم ، من القاعدة ، إلى القمة ، وهو البيان الذي طاف الوطن العربي ، في تلك الأيام ، وأطلق عليه الشباب العربي في ذلك الوقت أسم ( بيان طارق ) تعبيراً عن حرق المراكب مع الإقليمية تماماً ، ثم أصدر كتبه عن الطريق إلى الوحدة ، والطريق إلى الاشتراكية ، والطريق إلى وحدة القوى العربية التقدمية ، والطريق إلى الديمقراطية ، ثم حلتّ بالعرب نكسة 5 حزيران ، يونيه ، فصاغ رسائله الشهيرة إلى الشباب العربي تحت عنوان ( ما العمل ؟ ) ، وعندما رحل جمال عبد الناصر ، أحس د . عصمت سيف الدولة ، بالخطر الداهم ، فجمع أوراقه كلها ، ودفعها إلى بيروت لنشر كتابه ” نظرية الثورة العربية ” ، وما كاد المخطوط يصل إلى بيروت ، حتى كان عصمت سيف الدولة قد أودع السجن ، تحت لائحة اتهام ، بأنه كاتب بيان ” طارق ” من جهة ، وأنه يؤسس لتنظيم قومي يهدف إلى إزالة الدول ” العربية ” كلها ، وكانت المفاجأة ، أنه لم ينف التهمة الأولى ، ولا الثانية ، وإنما قدم دفاعاً ، أو هجوماً ، لا سابق له في تاريخ القضاء ، استند فيه إلى “منهج جدل الإنسان” ، وإلى ، أن الثورة القومية على دول التجزئة ، هي عمل مشروع قانوناً ، ثم ، وعندما خرج من السجن جمع أوراق السجن في كتابه ” إعدام السجان ” ، وعندما وقع الرئيس السادات اتفاقية فصل القوات الثانية أرسل رسالة تاريخية إلى مجلس الشعب في مصر يحذرّه فيها من التصديق على المعاهدة ، لأنها خرق للدستور ، ثم اتبعها بكتاب تم توزيعه سراً تحت عنوان ” حكم بالخيانة ” تضمن إصدار حكم قضائي باسم الشعب العربي في مصر ، بإعدام الرئيس السادات ، وترك تنفيذ القرار للشعب العربي ، بالطرق المناسبة ، ثم كتب عن الأحزاب ، ومشكلة الديمقراطية في مصر ، وكتاباً آخر عن النظام النيابي ، وتقدم بدفاع تاريخي عن المشاركين في مظاهرات 18 و 19 يناير 1977 صدر بكتاب تحت عنوان ” دفاع عن الشعب ” وقد تقدم بدفاع آخر عن الجماعات الشيوعية في مصر صدر بكتاب آخر تحت عنوان ” دفاع عن الوطن ”  ثم تقدم بدفاع هام عن جماعة الجهاد وتلاه كتاب عن جمال عبد الناصر ، ثم زج به الرئيس السادات بالسجن مرة أخرى ، في أواخر أيامه ، وعندما ألقى الصهاينة ، بعرب فلسطين ، بالبحر أمام شواطيء بيروت عام 1982  ، التحق بهم في “مجلسهم الوطني” في الجزائر ، يناشدهم ، أن لا يعترفوا “بدولة إسرائيل” تحت أي ظرف ، وأنه ، إذا لم يعرفوا كيف يحررون فلسطين ، فليكفوا على الأقل عن التفريط بها ، ثم عاد إلى مصر ، ليدافع عن “ثورة مصر” ، ويقدم مرافعة ، قل نظيرها ، في التاريخ ، وليكتب عن “العروبة والأسلام” كتابه الهام الذي حمل الاسم ذاته ، يدافع فيه عن الأمة ، وهويتها ، وأصالتها ، وعن الدين الحنيف معاً ، ويحّذر فيه من الفتنة ، ومن الخلط بالمفاهيم ، ونراه يتحدث عن فصائل الحركة العربية القومية ، التي بدأت في المشرق خلال الفترة الأخيرة ، من الحكم العثماني ، مثل ” المنتدى العربي ” ، و ” الجمعية القحطانية ” وإلى آخرهم ثم يتساءل ( هل كان القادة مسلمين ، أو غير مسلمين ؟ ) ، فيقول : هذا سؤال لا ننزلق إلى أوحال الإجابة عليه ، نحن نعرفهم جميعاً ، عرباً ، دافعوا عن أمتهم ، واستشهد الكثير منهم في سبيل الدفاع عنها ، ونعرف منهم دفعة واحدة من الذين استشهدوا ، على أعواد مشانق السفاح التركي ” جمال باشا ” ، وبعد أن يعدد أسماءهم ، يتساءل مستنكراً ، ( فمن الذي يجرؤ أن يخوض في دماء شهداء الأمة العربية ليبحث عن الدين الذي كانوا إليه ينتمون …. ؟ )              
ثم يقول : ( لا يمكن الاحتجاج بالإسلام لإنكار الوجود العربي ، ولا الاستناد إليه في موقف مضاد للقومية العربية ، إلا إذا أنكرنا على الإسلام ، مضمونه الثوري الحضاري ، الذي أسهم في تكوين الأمة العربية ، و من ناحية أخرى ، لا يمكن إسناد الوجود العربي ، إلى الإسلام وحده ، لأن الأمة العربية كانت ثمرة تفاعل حضاري ، أسهمت فيه كل الشعوب ، والجماعات السابقة على وجود الإسلام ، بكل ، من فيها ، من مسلمين  ، وغير مسلمين  ) ....
(15) 
 ذلك كان بعض من “عصمت سيف الدولة” ، وبعض من منهجه ، وبعض من تراثه الفكري الخصيب الأصيل ، وذلك كان بعض من مواقفه الشجاعة الأصيلة ، فمن النادر ، أن نجد في التاريخ ، رجلاً تتسق فيه الفكرة ، مع الممارسة ، مع السلوك ، مع الموقف ، كعصمت سيف الدولة ، ففي غياب المؤسسة الاعتبارية التي تمثل الأمة العربية ، كان عصمت سيف الدولة ، يعتبر نفسه ، أنه صاحب هذه الأمة ، وأنه مسؤول عنها ، وبالتالي فإنه لا يمكن أن يسكت ، حتى عن مجرد التلميح الذي يسيء إليها .                
 في أواخر أيامه ، دعي إلى ندوة على هامش معرض القاهرة الدولي للكتاب ، وأراد أحدهم ، أن يفتح حواراَ تحت عنوان ” الموضوعية والواقعية ” حول التطبيع مع الصهاينة ، ففوجيء الحضور ، بعصمت سيف الدولة ، يدق على الطاولة بيده ، معلناً أن ” فلانا ” هذا يريد أن يقول كلاماً عن التطبيع ، ثم يقول ، أن هذا الكلام قد قيل بحضور عصمت سيف الدولة ، وهذا غير مسموح فيه أبداً . إنني أفضّل الانتحار على أن ألتقي بالصهاينة ، أو أبحث ، مجرد بحث ، أو أشارك في بحث عن التطبيع معهم  . ووقف معلناً فض الجلسة على الفور .                      
هذا هو عصمت سيف الدولة ، الذي رحل عنا ، منذ عام ، صحيح انه رحل حزيناً قلقاً على مستقبل أمته ، لكنه رحل شامخاً ، واثقاً ، بأن الأمة ستنهض لحمل رسالتها التاريخية ، وعندما تقرر الأجيال العربية القادمة ، أن تنتقل إلى ساحة الفعل القومي الثوري ، لإحياء الأمة ، والانتصار لها ، ستجد أن عصمت سيف الدولة ، قد ترك لها نهجاً ، وتراثاً ، ومدرسة لن تضل الطريق ، إن هي اقتدت ، وتمثلت . وأما ، ما لاقاه عصمت سيف الدولة ، من عداء ، واستعداء ، فلن ينال من مصداقية نهجه ، ونضاله ، وسيرته العطرة ، وأما ، ما ينفع الناس ، فيمكث في الأرض ...

 بيروت : 2 / 4 /  1997   “ المنتدى القومي العربي” 






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق