بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 3 ديسمبر 2020

عبد الناصر والحملة الظالمة / عبدالله امام .

 عبد الناصر والحملة الظالمة . 

 عبدالله امام .
7/7

الذين أيدوا.. هم الذين هاجموا
يستحيل على الباحث أن يجمع ما يكتبه بعض الكتاب يوميًا من هجوم محموم على جمال عبد الناصر، فحجم ما ينشر يفوق إمكانية أي باحث في الجمع والرصد، والتنوع.
فكأن هناك مباريات بين بعض الكتاب في الهجوم على جمال عبد الناصر، والتشهير بفترة حكمه، وتشويه كل ما يمسه، وأن هناك من يقف منتظرًا نهاية المباريات ليمنح الجوائز والمكافآت والأوسمة على المتفوقين.. وقد يكون من المفيد أن يتذكر الناس مواقف هؤلاء الكتاب أنفسهم، ورأيهم السابق في جمال عبد الناصر.. ليس كشفًا لمواقفهم - إذا كانت لهم مواقف - ولا لأن ذلك أسهل على الباحث فإن حجم ما كتبوه مدحًا وتأييدا لجمال عبد الناصر لا يقل حماسًا ولا حجمًا عما كتبوه ضده.. ولكن لأن أجيالًا جديدة لم تتبين حقيقة مواقف بعض الكتاب، وربما يتصورون أن ما يكتبونه الآن، هو رأيهم الثابت، وعقيدتهم التي يدافعون عنها..
فإذا اكتشف هذا الجيل الجديد، وإذا نشطت ذاكرة الجيل القديم، ووقفوا على حقيقة هؤلاء الكتاب، أيقنوا أن هذه الحملات، وهذا الهجوم المحموم، ليس وليد صدق أو مبدأ، وعقيدة كما أنهم بالطبيعة يكونون مدفوعين إليه بوسائل مختلفة.
ما كتبه، هؤلاء المصفقون لكل حاكم وهو في السلطة. المنقبون من مثالبه فيما بعد. كتبوه أيضًا بعد أن رحل جمال عبد الناصر عن رؤية مختلفة، مندفعة في التأييد والحزن للفقد..
وتأييد جمال عبد الناصر وهو في القيادة أمر يمكن - يمكن فقط - تبريره بالنسبة للذين يهاجمونه الآن.
ولكن البكاء عليه ميتا بحرارة شديدة، هو الأمر الغريب. والمريب، الذي يدعو إلى وقفة تأمل، كيف كان رأي هؤلاء في جمال عبد الناصر، وكيف تغير إلى النقيض تمامًا، وما هي العوامل التي أدت إلى هذا التغير، والظروف التي أفرزته وإذا كان الكاتب هو في البداية والنهاية موقف فلنتأمل مواقف بعض الذين يهاجمون من جمال عبد الناصر.. حيًا.. وميتًا.
التوأمان... المتقلبان:
التوأمان.. مصطفى وعلى أمين من أبرز النماذج للكتاب الذين يتحمسون للرأي ونقيضه.. وللرجل وعدوه.. وحماسهم في التأييد والدفاع عن الحاكم وهو في السلطة والهجوم عليه بعد تركه موقعه أمر لابد أن يكون موضع دراسة.. ليس للتقلب بين الشيء وعكسه، بل في الحماس الشديد في التأييد، بنفس الحماس الشديد في الرفض. حتى يبدو الواحد منهما من فرط حماسه بطلًا من أبطال الدفاع عن الحريات، وصيانة حقوق الشعب، والوقوف إلى جانب المظلومين.. وتلك مدرسة في الوصول إلى قلوب الناس. أجاد التوأمان استخدامها جيدًا طوال سنوات عملهما في الصحافة حتى أصبح الحاكم يجد نفسه محتاجًا إلى حماسهما في تأييده لما يجمعان بين قدرات صحيفة، وكلمات تبدو صادقة.
ولقد كان من أخطاء الثورة أنها استفادت منهما مهنيًا بعد أن أعلنا ولاءهما المطلق بها، وانطلقا في فرش الزهور وتعبيد الطريق أمام مجموعة نظيفة من الفساط الشباب الحديثي الخبرة.
وكان في مقدمة ما فعلته الثورة بعد يوم واحد من قيامها. إلقاء القبض على مصطفى وعلى أمين باعتبارهما من الأعمدة التى كانت تساند بحماس شديد النظام الملكي، وتعادي الوفد لحساب الملك، وكانت صحفهما هي التي وصفت الملك بأنه العامل الأول والغداني الأول، والعالم الأول، واخترعوا قصصا روائية عن تواضع الملك وفدائيته، وصلاحه وتقواه، وحتى عن الجمل الذي هرب من المذبح، ولجا إلى قصر الملك يستنجد به، ويحميه من الذبح.
وبعد الثورة مباشرة، أفرج عنهما نتيجة وساطات متعددة. فتطوعا بتقديم رأس الملك ونظامه هدية لرجال الثورة، بدأ مصطفى أمين سلسلة مقالات يحكي فيها قصة فاروق كاملة، ولياليه ومغامراته، ونماذج من فساده وفساد عصره.. وقد جمع هذه المقالات في عدد من الكتب وكان من المنطقي أن يتنبه رجال الثورة إلى أن الرجل الذي باع الملك بعد أن تغني في محاسنه، وتغزل في عصره، وروج له، هذا الرجل عندما ينقلب بهذه الطريقة، وبهذه السرعة، لا يمكن أن يثق فيه أحد.
ولكن رجال الثورة آثروا أن يستخدموه.. وظل يتغزل في الثورة ورجالاتها جميعًا ويتغنى بحبه جمال عبد الناصر، ويشيد بقراراته حتى ضبط في قضية تجسس لحساب المخابرات المركزية الأمريكية وحُوكم، وصدر عليه حكم بالسجن، وسُجِن فعلًا إلى أن جاء السادات، وأصدر قرارًا بالإفراج الصحي عنه، وأعاده لموقعه في أخبار اليوم ليقود بنفسه حملة تصفية مرحلة جمال عبد الناصر، ليس لحساب السادات وحده، بل أيضا تصفية لحساباته الشخصية.
وأصبح مصطفى أمين في نظر القارئ العادي البطل الذي يدافع عن الحريات، والقلم الذي ظُلِم، وأضطهد في عهد الديكتاتورية.
ونسي البعض أو تناسى كل ما وراءه من تاريخ، ولا يختلف توأمه عنه.. إلا في أنه عندما ألقي القبض على شقيقه أثر البقاء في الخارج حتى استدعاه السادات، ووضعه رئيسًا لتحرير جريدة الأهرام مكان محمد حسنين هيكل، وكان المعنى لا يخفي حتى على الساذج.
ولمصطفى أمين، كما أن لعلى أمين «معلقات» يصعب عدها في مدح عصر عبد الناصر. وتقريظه والتغزل فيه. وفي كل انجازاته. بل وفي تبرير أخطائه أيضًا..
وسوف نكتفى بمقال واحد لمصطفى أمين، كتبه - في المصور - بعد القوانين الاشتراكية عام 1961 بعنوان «كيف فكر وكيف قرر» يقول فيه:
عندما كانت إسرائيل وصحف الاستعمار تؤكد أن عبد الناصر مريض. كان عبد الناصر في أحسن صحة. وكانت الابتسامة لا تفارق شفتيه. كانت عيناه مليئتين بالثقة والتصميم. وكان الذين يقابلونه يدهشون لقوة أعصابه. كان عبد الناصر بعد حوادث سوريا كما كان في حوادث مارس سنة 1954 وفي أثناء معركة العدوان سنة 1956.ومن صفات عبد الناصر أن الأحداث تليده قوة، والأزمات تزيده ثباتًا. وهو في هذه الأوقات يقف على قدميه فيبدو أطول مما هو. وتبدو الأحداث أصغر مما هي وبذلك يراها من «علو» ويحكم عليها من فوق. دون أن يتأثر بالحوادث الصغيرة، ولا يهمه رأى الأفراد وإنما تعنيه رأي الملايين.
وكان يقوم من نومه في الساعة السادسة صباحا. يرتدى قميصًا أبيض وبنطلونًا، ينزل إلى مكتبه في الدور الأرضي. المكتب مليء بالدوسيهات. لم يكف المكتب. وضع عند الناصر الدوسيهات والأبحاث على أرض غرفة المكتب. كان يقرأ كل شئ كان يقابل عددًا كبيرًا من الناس رسميين وغير رسميين كان يسمع أكثر مما يتكلم. كان له قدرة غريبة على الإنصات للآراء التي لا يوافق عليها. انه يشجع كل من يجتمع به لقول رأيه واقتراحاته.
ويخطئ من يتصور أن عبد الناصر لا يعرف ما يقوله الناس، كل الناس أنه يبتسم لما يقال في الأندية. لأنه يعرف أنها تمثل رأي الأقلية. ولكنه يهتم بما يقوله العمال في مصانعهم والفلاحون في حقولهم والعلماء في معاملهم والمثقفون في مكانهم والضباط والجنود في خط النار. وهؤلاء في رأيه هم: الأغلبية الساحقة. وهو يتأثر بهم، ولا يتأثر برأی يقوله فرد في نادي الجزيرة او نادى محمد علي. فعبد الناصر بطبيعته يتفاعل برأى الأغلبية الساحقة. وهذه الأصوات الضعيفة الهامسة تصل إلى أذنه كأنها دوی هائل لأنها أصوات الملايين. أما الأصوات المرتفعة الأخرى التي ترتفع في الأندية الكبيرة والقصور العالية تصل إلى أذنه كالهمسات.
وعندما يقول عبد الناصر أن اصابعه كانت على نبض الأمة، وأذنيه كانت على دقات قلبها كان يعني أنه على اتصال وثيق بآمال وآلام الملايين.. وهذه الآمال والآلام هي التي جعلته يختار طريق الثوار لا طريق المستسلمين البائسين.
نقول له نعم:
سوف نختار واحدًا من سلسة مقالات كتبها على أمين يدعو الشعب لانتخاب جمال عبد الناصر رئيسًا تحت عناوين: باسم الدستور ننتخبه - وباسم الاحرار ننتخبه، وباسم الشهداء ننتخبه - وباسم البعث الجديد ننتخبه - وباسم العدل ننتخبه.. الخ أما آخر هذه المقالات فكان عنوانه باسم مصر وسوريا نقول نعم وقد جاء فيه:
نعم نريد حاكمًا عادلًا. الحاكم واحد منا. اخترناه بأنفسنا ليحمل علمنا ويعلن كلمتنا وينفذ مشيئتنا. يستمد قوته من قوتنا. ويعتمد في سلطانه على سلطاننا، ولا يسوقنا.. قصره قلبنا. وحصنه فؤادنا. وصولجانه حبنا وسلطاته ثقتنا.
نعم.. نريد حاكما شريفًا.. يعيش لهذه الأمة لا لنفسه أعطاها روحه أعطته تأييدها، ومنحها حبه، فمنحته ايمانها، وصمد من أجلها فوقفت خلفه تحميه وتفديه لم يدعها للحرب بل حارب معها. لم بأمرها بالقتال. ولكنه قاتل في صفوفها، لم يجلس في برج عاجي يصدر التعليمات بل اندمج فيها وتجاوب معها وعبر عن إحساسها فانبعث صوته ينشد ألحانها، فيه من أرض الجبل صلابته، وفيه من أرض الوادي خصبه، فيه من هواء مصر حرارته. وفيه من هواء سورية قوته. فيه من نهر النيل اندفاعه ومن نهر بردى رقته. فيه ما في الشعبين من طيبة مع الضعيف. وعناد مع القوى وذكاء في غير خبث، وإيمان في غير تعصب. وثقة في غير كبرياء. وقوة لا تكشف عن نفسها إلا في الأزمات والخطوب.
نعم.. نريد حياة طيبة مليئة بالحب، خالية من الخوف يسودها الاستقرار، ويختفي منها القلق. حياة فيها حرية وفيها رخاء. وفيها ثقة وفيها أمل وفيها إيمان، من أجل هذا تقول مصر لعبد الناصر: نعم وتقول سوريا: نعم.
موكب الملايين:
وإذا كان موسى صبرى لأسباب خاصة به وحده قد ظل حتى اليوم مُبقيًا على ولائه للسادات، الذي وضعه رئيسًا لمؤسسة صحفية كبرى، وقربه منه، وكان يكتب خطبه وأصبح صديق العائلة، الأمر الذي أتاح له أن يحقق طموحًا كان يسعى إليه بأن يقترب من محمد حسنين هيكل، وأن يضع نموذج هيكل أمامه فكما أن هيكل كان قريبًا من عبد الناصر، وظل وفيًا لمبادئه، فإن موسى صبرى تصور أنه بالإبقاء على ولائه للسادات يمكن أن تتساوى الرؤوس..
ورغم قسوة التشبيه والمقارنة فإنه بكل أسف هكذا يفكر موسى صبرى.
وكان موسى صبرى رئيسًا للتحرير أيام عبد الناصر وكان أيضًا من فرقة المؤيدين والمبررين وسوف نكتفي بمقال كتبه بعد رحيل عبد الناصر. تحت عنوان «موكب الملايين».
«
النهار حزين. الليل حزين. الإنسان حزين. العالم بشرقه وغربه حزين. القلوب المُنكسة ودعت بالأمس قلب مصر.. سارت الملايين الباكية في موكبه الأخير في اليوم الأول من أكتوبر عام 1970.
ذهب نار الشعلة. رافع العلم لف جثمانه العلم. الهامة الشامخة رقدت في مثواها الصوت الأول صداه يملأ الآفاق. العظيم ترك شعبًا عظيمًا.
وبعد يوم الوداع.. لوعة ومرارة وضيق.
النهار حزين. الليل حزين. الإنسان حزين.. وبعد الوداع.. أيام لوعة ومرارة وضيق.
العبء تتضاعف أثقاله.. ولكن الناصرية رسخت في أعماق شعب وأصبحت قانون حياة. الشعب طيب وفي ودود الشعب قال كلمته بالأمس، كما لم يقلها طوال ثمانية عشر عامًا. الشعب قال بالأمس.. لا حياة لنا بعدك يا ناصر.. قالها ودمعه دم. وصوته وجيعة، وقلبه أشلاء. الشعب قالها.. لا حياة لنا بعد ناصر إلا بناصر. هو المستقبل إذا أردنا أن يكون لنا مستقبل.
النهار حزين. الليل حزين الإنسان حزين. وبعد يوم الوداع.. أيام لوعة ومرارة وضيق.
العبء يتضاعف أثقاله. ولكن.. فليكن الموكب الأخر الذي جمع الملايين حول عبد الناصر هو الموكب الدائم للملايين لحماية مبادئ عبد الناصر.
تماسكى يا مصر:
وإبراهيم الوردانى نموذج آخر من الكتاب الذين كرسوا أقلامهم طوال السبعينات للهجوم على جمال عبد الناصر، ولقد كان بالطبع موقفه مختلفًا طوال سنوات عبد الناصر، وقد امتد إعجابه بعبد الناصر إلى الرجال الذين يعملون معه، فهو يصف تواضع شعراوي جمعة، بأنه لم يعرف الوزير من الخفير ويصف ضياء الدين داود بأنه ضياء مصر، ولقد كتب عقب رحيل عبد الناصر مباشرة مقالًا طويلًا تحت عنوان «بعد استرداد الأنفاس» ومقالا آخر عنوانه «تماسكى يا مصر» جاء فيه:
أنين الناس يسحق ضلوعي.. فحيح الحزن ينفخ النار في وجهي... وأينما تحركت أينما تحركت.. هذا هو كوبري الجلاء، وكم عبره عبد الناصر في طريقه إلى الجامعة إلى ليالي السمر الوطني الشهية التي كنا نصهر عليها كما نسهر مع أم كلثوم.. مات عبد الناصر.. مات ولن يعود.. ولن يعود.. لن يخطب.. لن يناقش.. لن يوزع الجوائز على الأولاد والبنات في عيد العلم.. لن نعود ونراه يقف شاهقًا في عربته وكأنه المسلة.
هذا هو المعرض.. ومن يعود يفتتحه.. من يقص الحبل.. والصورة.. الصور ولكل صاحب دكان لقطة معه يتيه بها ويتفاخر.. يعلقها في البيت.. ويعلقها في المكتب ويطبع منها نسخًا.
هذه هي حديقة الأندلس وذات مساء بعيد كنا هنا، وكان عبد الناصر مازال في ثياب بكباشي.. حينما أُعلنت مصر جمهورية.. مساء هائل.. كأنما ولدنا من جديد واستفتحنا مع التاريخ «سنة واحد جمهورية».
أذهب إلى منشية البكري.. أستنشق رائحة الغائب من خلف السور.. ولكن أي سور إن مصر كلها اليوم سرادق عزاء.. أذهب إلى سراي القبة.. ويلاه.. هناك جثمان وهناك صمت.. وماذا سوف أفعل هناك.. الناس هناك هم الناس هنا.. واللوعة باتت عطاء واحد نزلت به السماء على مصر في ليلتها الرهيبة.
انا واقف على مفترق الطرق عند كوبرى قصر النيل.. هذا هو الهيلتون ومنذ ساعات كان هنا «موتور» اسمه جمال عبد الناصر يقود طابورًا مصفحًا من مائة مليون.. لا أطيق أن أتحرك. يجب أن أذهب إلى أي مكان هل أذهب إلى النادى هل أذهب لأرى الناس في بولاق وماذا يصنعون وكيف يصرخون والسبتية وشبرا وعابدين والسيدة والحسين.. هل أذهب الى مقر صديقى فلان أو فلان أو فلان وترى هل أجدهم.. لعلهم مثلى الآن حيارى متطايرون فأين يذهبون.. كلنا يتامى والأب انعزل عنا فجأة.. انصرف ولن يعود.
انصرف جمال عبد الناصر كيف.. كيف؟.. إنه حامل المسئولية ويالها من مسئولية إنها عبوات من حوله، عبوات فحله ثقيلة. تحاصره تنام بجوار فراشه يخرج بها على أكتافه.. وهل غيره قدر على حملها سواه.. إنه خُلِق لها.. وهو عريض الأكتاف وقوى وفي الثانية والخمسين.. كيف يُخطف هكذا بغتة.
لا.. أيها الرئيس:
وانهال الكاتب والمفكر الإسلامي خالد محمد خالد في جريدة الوفد على جمال عبد الناصر ولقد كان لخالد محمد خالد موقف مختلف طوال سنوات حكم عبد الناصر.
كانت قضيته الديمقراطية، وعلى امتداد جلسات مُذاعة على الهواء قال رأيه في مواجهة عبد الناصر، الذي رد عليه أمام الناس، واستوعب رأيه، ولم يصادره، كما أنه لم يضار واتضح من المناقشة أنه عندما صودر له كتاب أبرق إلى جمال عبد الناصر فأفرج عن الكتاب فورًا، واتضح أيضا أن جمال عبد الناصر طلب إليه الكتابة في جريدة الجمهورية وأن المسئولين عندما كانوا يترددون في نشر بعض مقالاته كانت تعرض على عبد الناصر فيوافق على نشرها.. واتضح أيضا أن عبد الناصر كان يلتقي به.. وقال لعبد الناصر في مؤتمر اللجنة التحضيرية الذي اختاره عبد الناصر عضوا به أن شجاعته يستمدها من حسن ظنه، ومن فهمه لجمال عند الناصر.
وإذا كان خالد محمد خالد قد تحول من أشد الناقدين لجمال عبد الناصر المهاجمين لإجراءات الثورة، فإننا نكتفي بعد هذه المقدمة بسطور من مقال كتبه ووجهه إلي عبد الناصر بعد التنحي عقب النكسة ونشره في جريدة الجمهورية تحت عنوان «لا.. أيها الرئيس» جاء فيه:
الجيش الذي يخسر معركة أو معركتين أو عشرًا. لا يكون مهزومًا إلا إذا تجرع الهزيمة، ورضى أن يغص بها حلقه. فمرارة الهزيمة ليست في وقوعها. بل في تجرعها. وحساب الأرباح والخسائر في الحروب لا يجري على نمط «دفاتر اليومية» التي يمسك بها أصحاب الحوانيت حسابهم.
لقد شهدنا المانيا النازية من سنوات قريبة تكنس أوربا كنسًا. تتغدى بدولة وتتعشى بأخري. دول كانت أشد منا بأسًا وأكثر عنادًا وأجنادًا، احتلها هتلر في أيام ثم احتل فرنسا الإمبراطورية ووقع جنرالاتها وثيقة التسليم في عربة قطار جيئ بها من المتحف. ثم زحف كالإعصار إلى روسيا فمسحها ودمرها تدميرًا وبيلًا وقرع أبواب موسكو.
ثم ماذا..!
لقد رفضت تلك الأمم كلها أن تتجرع الهزيمة. لم تكن هناك هزيمة، وانحسر الزحف الضاري تحت المقاومة الباسلة.
واليوم - إذا كانت «ترسانات» أمريكا قد تفتحت لجيش اسرائيل يغترف منها بغير حساب.. وإذا كانت أمريكا قد أعطته من المدد المنظور وغير المنظور ما أتاح له نصرًا سريعًا وغادرا، فليس معنى ذلك أننا هزمنا.. إننا لن نهزم إلا إذا تجرعنا الهزيمة ولن أتجرعها أبدًا.. إن شعبنا ليس قويًا فحسب، ولا مقدرًا فحسب، بل هو مصدر كوني من مصادر الطاقة والقوة.
انه قاهر التتار بعد ان داسوا العالم وسحقوه.. وأنه الذي قرعه ابراهيم باشا أبواب أوروبا.
وإرادة النصر لا تكمن في خطط عدونا ولا في سر المعركة معنا أو ضدنا أنما هي مستقرة في ضمائرنا وفي تصميمنا.
أين مكانك أيها الرئيس.. ابق معنا.. وخض بنا الأهوال ما يشاء أعداؤنا المجرمون وأكثر مما يشاؤون.. وإن فقد أحد الشجاعة على مواصلة المعركة معك، فليخرج من صفوفنا.. إن الجبناء لا يملكون حق السير معنا.. لا.. لن تذهب عنا.. ولن تدع الشمس تشرق على عالم يريد بك سوءًا أي سوء.
وقد استمر هذا هو موقف خالد محمد خالد حتى بعد وفاة عبد الناصر فكتب في رثائه «وداعًا للرجل؟» قال فيه:
لقد مات بطل 23 يوليو يا رجال.. مات المُخاطر الجسور الذي لم يعرف الجزع ولا اليأس ولا الهدوء، مات الرجل الذي عاش حياته السياسية مادًا عنقه إلى نصال الخطر غير مبال ولا مكترث.. إلخ..
عباد الشمس:
وسوف لا نناقش مواقف واتهامات جلال الحمامصى لجمال عبد الناصر وهي اتهامات لا تقف عندما ورد في كتابه طعنًا في ذمة عبد الناصر، بل أنها مستمرة كل يوم بمناسبة، وبدون مناسبة، وكان جلال الحمامصی - بكل أسف - المسئول عن جريدة الجمهورية جريدة الثورة كما رشحه عبد الناصر نقيبا للصحفيين، ووضعه مسئولًا عن الإعلام المصري في الولايات المتحدة وعهد إليه بمهمة إنشاء وكالة أنباء الشرق الأوسط الرسمية، كما كان أغلب سنوات عبد الناصر بعد ذلك مسئولًا في صحيفة الأخبار - وقد كتب عقب الهزيمة العسكرية مطالبًا عبد الناصر بالبقاء، ولا يتنحى عن موقعه... وكان جلال الحمامصى قد اتخذ موقفًا شديد الحماس مع الثورة منذ بدايتها حتى أن جريدة المصرى الوفدية نشرت عنه يوم 31 مارس 1954 مقالًا بتوقيع المصري قالت فيه بالنص:
«
الأستاذ جلال الحمامصى صاحب الكلمة التي نشرها في الزميلة الأخبار أمس تحت عنوان دخان في الهواء. هذا الاستاذ الحمامصي نربي في دار المصري وكان المحور الرياضى، ثم رقي إلى سكرتير تحرير المصري، ولما استوى الأستاذ على قدميه وصار له قلم تطلع إلى الأفق فوجد أن الشمس تشرق على الكتلة فطار إليها، ولما أذل يجمها أصدر الأسبوع وكان أسبوعًا، ثم طار وآوته أخبار اليوم وقتًا من الزمن، لأن الشمس كانت تشرق عليها، ثم إلى «الزمان» حيث النعيم المُقيم، وأخيرًا حطت به عصا الترحال في الأخبار، فليس الأستاذ هو الذي يكتب عن الحرية، وقد كان كعباد الشمس يُولِى وجهه حيث تشرق الشمس، وحيث الدفء ماذا يقول المصري في الأستاذ الحمامصى، ليس هناك ما يقوله سوى قول الشاعر:

أعلمه الرماية كل يــوم فلما اشتد ساعده رمانى

وكم علمته نظم القوافى فلما قــال قـــافية هجانى

وكان هذا هو رأي الوفد في جلال الدين الحمامصى.. أما رأى الحمامصى في جمال عبد الناصر فقد قاله بعد التنحي عام 1967 أخبار اليوم 10 يونيو - تحت عنوان «ابق معنا» وقد جاء فيه:
البطل.. يظل بطلًا في كل وقت.
وقد كان جمال عبد الناصر في 23 يوليو 1952 بطلًا.
وفيما بين التاريخين واجهت جمال عبد الناصر أصعب المشكلات، وواجه المؤامرات تلو المؤامرات وصمد لها جميعًا، وعرف كيف يخرج منها وهو رافع الرأس، بل أن الذين دبروا له كل هذه المؤامرات هم الذين سقطوا الواحد بعد الآخر.
وإذا كان جمال قد أراد أن يواجه النكسة الخطيرة التي واجهها الشعب العربي خلال الأيام الأخيرة بشجاعة نادرة، وأن يحمل نفسه المسئولية.. كل المسئولية فهذا ما يجب أن نقول فيه كلمة.
إن المؤامرة لم تكن موجهة إلى شخص جمال عبد الناصر بل كان هدفها تصفية الشعب العربي كله بطاقاته الوطنية. وإمكانياته الجبارة. ومن أجل هذا حشدت لها قوى العدوان كل ما تحت يدها ورسمت خطوط المؤامرة بحيث تطعن الشعب العربي في الصميم.
ولقد وضح منذ يوم الاثنين الماضي - يوم بداية العدوان الجديد - أن المؤامرة الاستعمارية قد رسمت بعد أن ضاق الاستعمار ذرعا بقوة الشعب العربي ونهضة الشعب العربي وكفاح الشعب من أجل حقه في الحياة الحرة الكريمة.
لقد كان الشعب يتطلع دائمًا الى قائد، وإلي زعيم يأخذ بيده لتحقيق هذه الأهداف فلما جاء جمال عبد الناصر ليتحمل كل هذه المسئوليات مفوضة لأمن الشعب المصرى وحده بل من الشعوب العربية جميعها - استطاع جمال أن يحقق الكثير من هذه الأهداف وأن يندفع بالشعوب العربية الى أكثر مما كانت تتطلع إليه.
فلما أراد جمال عبد الناصر أن يتحمل اليوم المسئولية وحده فهذا ليس من حقه. فالمسئولية مشتركة والنكسة لا تعنى أن يترك القائد المكان الذي وصل اليه بإرادة - الشعوب العربية.. دون أن يترك لهذه الشعوب الحق في أن تقول كلمتها.
إن البناء الضخم الذي شيدناه بالعرق والحب والوفاء يجب ألا نسمح له بأن ينهار في لحظات، وإذا كانت النكسة الأخيرة قد تركت آثارًا مريرة , فنحن قادرون على تصحيحها وأن نواجه مسئوليتنا بشجاعة.
ووجود جمال عبد الناصر معنا في هذه المرحلة ضرورى.. بل وحتمى.
إن الشعب لا يريد من جمال عبد الناصر أن يذهب بل أنه يريده معه وهو يبنى من جديد، ويريده معه وهو يعاود مواجهة قوى الاستعمار في معارك الثأر القادمة.
هذه إرادة الشعب.. وقد عودنا جمال عبد الناصر أن يخضع لإرادة الشعب.
كلمات من السماء:
هل نأتي ببقية قائمة الكتاب.. الذين يعيشون.. والذين توفاهم الله، ليقف الجيل الجديد على مواقفهم، ويعرف مدى جديتهم أو استخفافهم بعقول القراء ولنبرهن للناس مدى تمسكهم بالمبادئ التي روجوا لها، ثم انقلبوا عليها..
مثلًا الكاتب الكبير نجيب محفوظ الذي انغمس في السياسة.. وأصبح عدوًا لعبد الناصر فجأة، كتب عند وفاته تحت عنوان «كلمات من السماء» يقول:
حياك الله يا أكرم ذاهب.. حياكم الله وهداكم.. إني أحني رأسي حبًا وإجلالًا.. تحية طيبة ولكن لانني ما سق من قولك «ارفع رأسك يا أخي».. نحن من الحزن.. في ذهول شامل.. لا يحق الذهول لمن تحدق به الأخطار وتنتظره عظام الأمور.. يعزينا.. بعض الشئ أنك إلى جنة الخلد تمضى.. وسيسعدنى أكثر أن تجعلوا من دنياكم.. جنة.. إن عشرات التماثيل لن تجعلك في خلود الذكرى.. لا تنسوا تمثالين أقمتهما بيدك وهما «الميثاق» و«بيان 30 مارس».. وراءك فراغ لن يملأه الشعب الذي حررته.. سيبقى ذووك في صميم الأفئدة.. أبنائي هم الفلاحون والعمال والفقراء.. وجدت قرة عيني في توديع الكرة الأرضية لك.. أما قرة عيني ففي استقلال الوطن العربي والحل العادل لأرضه الشهيدة.. سيكون أحب الطريق إلى نفسى الطريق إلى مسجدك.. طريق الحق هو الطريق إلى العلم والاشتراكية.. نستودعك الله يا أكرم من ذهب.. كلنا ماضون ومصر هي الباقية.
بكائيات انيس منصور:
إن من يقرأ بكائيات أنيس منصور المسلسلة في جريدة الأخبار عقب رحيل عبد الناصر لا يتصور أبدا أن هذا القلم يمكن أن يتحول إلى النقيض بسهولة.. وأن صاحب المواقف يمكن أن يغيرها بسهولة.
ولكن ذلك ما فعله أنيس منصور، مثلما وضع العديد من الكتب تشريحًا للمجتمع الإسرائيلي ورفضًا لوجوده في جسم الأمة العربية، ثم أصبح في عهد السادات أحد دعاة الصلح المنفرد وأبرز أدوات تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وأصبح مكتبه في مجلة أكتوبر مقر كل الوافدين من إسرائيل لمصر.. وقال إننا لم نفهم إسرائيل، مع أننا نتصور أننا فهمناها من خلال كتاباته على الأقل..
وسوف نكتفي بمرثية واحدة مما كتبه الشديد البكاء على عبد الناصر أنيس منصور في جريدة الأخبار، تحت عنوان مواقف وقد جاء فيها:
«
إن مثل عبد الناصر لا يتحدد عمره بيوم مولده ويوم دفنه في أرض وطنه، أنه يلقى ضوءه على الحاضر والمستقبل، ويلقي ظلاله عبر الأجيال، ومثل جمال عبد الناصر له عمران، عمره هو، وعمر الأمة التي عاش من أجلها، وعمر: المبادئ التى مات في سبيلها.
وسوف تجف الدموع على جمال عبد الناصر، ولكن لن نشعر بخسارة هذا الرجل إلا فيما بعد، عندما تتلبد السحب ونبحث عن الشمس، عندما تظلم السماء ونبحث عن الضياء، عندما نبحث عن الذي يواجه، فإذا واجه أقنع، فقد أعطاه الله صفات الشخصية صفات لا تورث. ولا تُنقل بالعشرة وكانت خليطًا من الذكاء والشجاعة وحد النظر والوطنية ولذلك فخسارته لا يمكن تقديرها.
وكانت هو الذي اختار الطريق جنازته. فسوف يهبط من السماء على مجلس قيادة الثورة حيث كان شابًا يُفكر ويدير، وحيث كانت عينه لا تُرفع عن ثكنات الاحتلال البريطاني على الجانب الآخر من النيل. وسوف يمر جثمانه أمام تمثال سعد زغلول. وقد كان يحترم سعد زغلول ذلك الزعيم الشعبي، يوم كانت مصر دولة صغيرة. وآمالها مثلها صغيرة أيضًا. ولكن مصر جمال عبد الناصر دولة كبرى. وقضاياها صعبة. وتحدياتها جليلة.
وتمضي الجنازة الى مبنى الاتحاد الاشتراكي - وهنا تجسدت أفكاره الثورية. وتطلعاته الاشتراكية وصراعاته من أجل العدالة الاجتماعية والكرامة الوطنية، والعزة القومية ومعه على بحر من الدموع. وفي ضوء العيون.. وفي العيون إلى مقره الأخير. حيث يستريح الجسم المكدود والعقل المرهق، والقلب الكليل. وكأنها حكمته الأخيرة - ألا يسمع ما يقول لها وألا يرى ما يصنعون وألا يلمس ما يخافون.. فهو يعلم أن الدموع ستجف. والصرخات ستتلاشى وعلى الناس أن يعاودوا حياة العمل والدفاع عن الأرض والعرض. فإذا كان الذي تعانيه في مصر هو مأتما، فليس مأتمًا في إسرائيل ولا في غيرها. العدو وراعنا، وبيننا، والمصاب الجليل أمامنا.. والله معنا.. يعوضنا من هذا المشعل الذي أضاء  كثيرا وبشدة فانطفأ فجأة وبسرعة.. فاللهم ارحم جمال عبد الناصر، وارحمنا من بعده.. 
تمثال لجمال عبد الناصر:
وإذا كانت الحملة على جمال عبد الناصر قد بدأت بكتيب صغير كتبه توفيق الحكيم عندما فقد وعيه أثناء حكم عبد الناصر، فإننا لابد أن نقرر أن الحكيم قد تراجع عن كتابه في الهجوم على عبد الناصر وحاول تبرير موقفه، وامتدح عبد الناصر من جديد وحاول الاعتذار في مقالاته، وفي أحاديثه الصحفية، وإبراز ندمه على ما فعله..
وقد لا يكون هذا الندم قد وصل القراء بشكل مباشر، لأنه متناثر في أحاديث صحفية في مجلات عديدة، ولكنه بالقين فإن لتوفيق الحكيم مقال شهير نشره بجريدة الأهرام عقب وفاة عبد الناصر يطالب فيه بإقامة تمثال لجمال عبد الناصر ويفتح باب التبرع لإنشاء هذا التمثال بخمسين جنيهًا دفعها من جيبه، رغم ما هو معروف عنه من بخل شديد، وفي هذا المقال كتب يقول:
أعذرني يا جمال.. القلم يرتعش في يدي وليس من عادتي الكتابة والألم يلجم العقل ويذهل الفكر.
لن أستطيع الإطالة.. لقد دخل الحزن كل بيت تفجعًا عليك لأن كل بيت فيه قطعة منك. لأن كل فرد قد وضع في قلبه لبنة في صرح بناءك. فأنت لم تكن بالزعيم المصنوع سلفًا في مصنع السياسة تربصًا للفرص. بل كنت بضعة من جوهر شعبك النفيس صاغها بيده في دأب وحدب بعد طول معاناة وانتظار على مدى أحقاب.
فإن بفقدك اليوم يفقد فيك نفسه وثمرة أمله. لذلك كان هذا الرشد الذي طاش من الرؤوس ساعة سماع نعيك. أنه ليس مجرد حب لشخصك إنما هو الحرص على معنى يعيش به بلدك. لقد وجد فيك الشعب صورة حريته.. لقد جعل منك حيًا تمثال الحرية لنا.
فاسمح لنا وقد فارقتنا أن نقيم لك تمثالًا عاليًا في ميدان التحرير ليشرف على الأجيال ويكون دائمًا رمز الآمال، وما ينبغي أن تقيم هذا التمثال سلطة أو دولة لكنه الشعب نفسه من ماله القليل يُقيمه، وأنا من بين هذا الشعب أتقدم اليوم بما أستطيع تقديمه.
هذه الخمسون من الجنيهات. أسهم بها افتتاحًا لقائمة الاكتتاب وما أرخص المال إلى جانب فضلك يا جمال، وخاصة في - أعياد العلم - على الأدباء والعلماء والمفكرين والفنانين ستبقى دائمًا في ذاكرتنا وأنت في عليين.
نزار قبانی.. موقف مختف:
كان عبد الناصر زعيمًا عربيًا، وعندما اشتدت الحملة عليه في مصر، وأوصدت الأبواب في وجوه كل من يحاول إنصافه وإنصاف الحقيقة في الصحافة القومية، وُجِد بين الكتاب والشعراء والمفكرين العرب، من تصدى لهذه الحملة خارج مصر.
فطوال السبعينات وفي ظل الديمقراطية التي كانوا يتغنون بها اعتقلت كل الأقلام التي تكشف الحقيقة داخل مصر.. ولكن ذلك لم يمنع أقلاما مصرية كثيرة من أن تتحايل وتكتب. وكان من بين الذين تصدوا للحملة على جمال عبد الناصر الشاعر نزار قباني، الذي كان قد كتب قصيدة «هوامش على دفتر النكسة» عقب هزيمة 1967 هاجم فيها جمال عبد الناصر.. ونشر قصيدته في عدد من الصحف العربية تم طبعها في كتاب يحمل نفس عنوان القصيدة.. ومنعت الصحف التي نشرتها من دخول مصر صودر الكتاب..
وقاد عدد من الكتاب، والنقاد في مصر حملة ضارية وشرسة ضد نزار قباني، لأنه هاجم جمال عبد الناصر.
والغريب أن الذين قادوا هذه الحملة دفاعًا عن عبد الناصر ضد نزار قبانى كانوا أول من هاجم عبد الناصر بعد وفاته.. بينما اتخذ نزار قباني الموقف الصحيح سياسيًا واخلاقيًا.
وعندما اشتدت الحملة على نزار قبانى بعد مصادرة كتبه.. وشعره وأغانيه بعد قصيدته الأولي «هوامش على دفتر النكسة» استجابة للحملة التي شنها بعض كتاب مصر عليه. أمسك نزار بالقلم وكتب رسالة إلى جمال عبد الناصر.
ومن هنا بدأت قصته مع عبد الناصر.. ولنترك نزار يردد بنفسه في قصته مع الشعر حكاية قصيدته «هوامش على دفتر النكسة» مع عبد الناصر، يقول:
«
أجد أن الأمانة التاريخية تقتضيني أن أسجل للرئيس الراحل جمال عبد الناصر موقفًا لا يقفه عادة إلا عظماء النفوس، واللماحون والموهوبون الذين انكشفت بصيرتهم، وشفت رؤيتهم، فارتفعوا بقيادتهم وتصرفاتهم إلي أعلى مراتب الإنسانية، والسمو الروحي، فلقد وقف الرئيس جمال عبد الناصر إلى جانبی، يوم كانت الدنيا ترعد، وكسر الحصار الرسمي الذي كان يحاول أن يعزلنى عن مصر بتحريض وإيحاء من بعض الزملاء الذين كانوا غير سُعداء لاتساع قاعدتي - الشعبية في مصر، فرأوا أن أفضل طريقة لإيقاف مدى شعري وقطع جسوري مع شعب مصر.. استعداء السلطة على، حتى أن أحدهم طالب وزارة الإعلام بمقال نشره في إحدى المجلات القاهرية بحرق كتبي، والامتناع عن إذاعة قصائدي المغناة من إذاعات القاهرة، ووضع اسمي على قائمة الممنوعين من دخول مصر..
وحين شعرت أن الحملة خرجت من نطاق النقد، والحوار الحضاری، ودخلت نطاق الوشاية الرسمية، قررت أن أتوجه مباشرة إلى الرئيس جمال عبد الناصر وكتبت إليه هذه الرسالة:
في هذه الأيام التي أصبحت فيها أعصابنا رمادًا، وطوقتنا الأحزان من كل مكان، يكتب إليك شاعر عربي يتعرض اليوم من قبل السلطات الرسمية في الجمهورية العربية المتحدة لنوع من الظلم لا مثيل له في تاريخ الظلم.
وتفصيل القصة أننى نشرت في اعقاب نكسة الخامس من حزيران قصيدة عنوانها «هوامش على دفتر النكسة» أودعتها خلاصة ألمي وتمزقي، وكشفت لها عن مناطق الوجع في جسد أمتي العربية، لاقتناعي أن ما انتهينا إليه لا يُعالج بالتوارى والهروب وإنما بالمواجهة الكاملة لعيوبنا وسيئاتنا.
وإذا كانت الصرخة حادة وجارحة، وانا أعترف سلفًا بأنها كذلك، فلأن الصرخة تكون بحجم الطعنة، ولأن النزيف يكون بمساحة الجرح، من منا يا سيادة الرئيس لم يصرُخ بعد 5 حزيران ومن منا لم يخدش السماء بأظافره؟ من منا لسم يكره نفسه وثيابه وظله على الأرض؟
إن قصيدتي كانت محاولة لإعادة تقويم أنفسنا كما نحن بعيدًا عن التبجح والمغالاة والانفعال، بالتالي كانت محاولة لبناء فكر عربي جديد يختلف بملامحه وتكوينه عن فكر ما قبل 5 حزيران.
إنني لم أقل أكثر مما قاله غيري ولم أغضب أكثر مما غضب غيرى، وكل ما فعتله أنني صنعت بأسلوب شعرى ما صاغه غيرى بأسلوب سياسي أو صحفي.
وإذا سمحت لي يا سيادة الرئيس أن أكون أكثر وضوحًا وصراحة، قلت أني لم أتجاوز في قصيدتي نطاق أفكارك في النقد الذاتي، يوم وقفت بعد النكسة تكشف بشرف وأمانة حساب المعركة وتعطي ما لقيصر لقيصر، وما لله لله.
انني لم أخترع شيئا من عندى، فأخطاء العرب النفسية والسياسية والسلوكية - مكشوفة كالكتاب المفتوح.
وماذا تكون قيمة الأديب يوم يجبُن عن مواجهة الحياة بوجهها الأبيض، ووجهها الأسود معًا؟ ومن يكون الشاعر يوم يتحول إلى مُهرِج يمسح أذيال المجتمع وينافق له.
لذلك أوجعني يا سيادة الرئيس أن تمنع قصيدتي من دخول مصر، وأن يُفرض حصار رسمي على إسمي وشعري في إذاعة الجمهورية العربية المتحدة وصحافتها.
«
وليست القضية قضية مصادرة قصيدة أو مصادرة شاعر لكن القضية أعمق وأبعد.
القضية هي أن نحدد موقفنا من الفكر العربي، كيف تريده..؟ حرًا أم نصف حر، شجاعًا أم جبانًا..؟
القضية هي أن يسقط أي شاعر تحت حوافر المفكر الغوغائي لأنه تفوه بالحقيقة.
قصيدتي أمامك يا سيادة الرئيس، أرجو أن تقرأها بكل ما عرفناه عنك من سعة أفق، وبُعد رؤية ولسوف تقنع برغم ملوحة الكلمات ومرارتها، بأنني كنت أنقل عن الواقع بأمانة وصدق، وأرسم صورة طبق الأصل لوجوهنا الشاحبة والمرهقة، لم يكن بإمكاني وبلادى تحترق، الوقوف على الحياد.. فحياد الأديب موت له.
ولم يكن بوسعي أن أقف أمام جسد أمتي المريض أعالجه بالأدعية والحجابات والصراعات فالذي يحب أمته يا سيادة الرئيس، يُطهر جراحها بالكحول، يكوى - إذا لزم الأمر - المناطق المصابة بالنار.
سيادة الرئيسي.. إنني أشكو لك الموقف العدائي الذي تقفه من السلطات الرسمية في مصر، متأثرة بأقوال بعض مرتزقة الكلمة والمتاجرين.. وأنا لا أطلب شيئًا أكثر من سماع صوتي.. فمن أبسط قواعد العدالة أن يسمح للكاتب أن يفسر ما كتبه، وللمصلوب أن يسأل.
ولا أحد يعرف لماذا أُشتم.. وأن أطعن بوطنيتي وكرامتي لأنني كتبت قصيدة، ولا أحد قرأ حرفًا من هذه القصيدة.
لقد دخلت قصيدتي كل مدينة عربية، وأثارت جدلًا كبيرًا بين المثقفين العرب إيجابًا وسلبًا، فلماذا أُحرم من هذا الحق في مصر وحدها، ومتى كانت مصر تغلق أبوابها في وجه الكلمة وتضيق بها.
يا سيدي الرئيس.. لا أريد أن أصدق أن مثلك يعاقب النازف على نزيفه، والمجروح على جراحه، ويسمح باضطهاد شاعر عربي أراد أن يكون شريفًا وشجاعًا في مواجهة نفسه وأمته، فدفع ثمن صدقه وشجاعته.
يا سيدي الرئيس.. لا أصدق أن هذا يحدث في عصرك.
قرارات عبد الناصر
طوى نزار قباني رسالته وسلمها إلى الكاتب أحمد بهاء الدين، الذي حملها من بيروت حيث كان يقيم نزار قباني إلى الرئيس جمال عبد الناصر في القاهرة.
ويواصل نزار قبانى روايته لقصة هذه القصيدة قائلًا أنه:
«
لم يطل صمت عبد الناصر، ولم تمنعه مشاكله الكبيرة، وهمومه التي تجاورت هموم البشر من الاهتمام برسالتى، فقد روى لي أحد المقربين منه أنه وضع خطوطًا تحت أكثر مقاطع الرسالة، وكتب بخط يده التعليمات الحاسمة التالية:
1-
لم أقرا قصيدة نزار قباني إلا في النسخة التي أرسلها إلى، وأنا لا أجد أى وجه من وجوه الاعتراض عليها.
2-
تُلغي كل التدابير التي قد تكون اتخذت خطأ بحض الشاعر ومؤلفاته، ويطلب إلى وزارة الإعلام السماح بتداول القصيدة.
3-
يدخل الشاعر نزار قباني إلى الجمهورية العربية المتحدة متى أراد، ويكرم فيها كما كان في السابق.
يواصل نزار روايته قائلًا «بعد كلمات جمال عبد الناصر،»، «تغير الطقس، وتغير اتجاه الرياح، وتفرق المشاغبون، وانكسرت، طبولهم ودخلت «الهوامش» إلى مصر بحماية عبد الناصر، ورجعت أنا إلى القاهرة مرة، لأجد شمس مصر أشد بريقًا، ونيلها أكثر اتساعا ونجومها أكثر عددًا.
إننى أروى هذه القصة التي لا يعرفها إلا القلة من أصدقائي، لأنها تتجاوز دائرة أسرار الخصوصية لتأخد شكل القضية العامة.
فقضيتى مع الرئيس عبد الناصر ليست قضية شخصية.. أي علاقة بين قصيدة ممنوعة ورقيب يمنعها، إنها تتخطي هذا المفهوم الضيق، لتناقش من أساس متابعة العلاقة بين من يكتب ومن يحكم بين الفكر وبين السلطة»..
«
لقد كسر الرئيس عبد الناصر بموقفه الكبير جدار الخوف القائم بين الفن وبين السلطة... بين الإبداع وبين الثورة واستطاع أن يكلف بها أوتي من حدس وشمول في الرؤية أن الفن توأمان ملتصقان وحصانان يجران عربة واحدة أو أن كل محاولة لفصلهما سيحطم العربة، ويقتل الحصان.
قتلناك يا آخر الأنبياء:
كان نزار قباني شجاعًا في نقد عبد الناصر في حياته، وكان أيضا شجاعًا في رثائه..
وكتب نزار أول قصائده عن عبد الناصر بعد وفاته بعنوان «قتلناك يا آخر الأنبياء».
بعدها كتب نزار عن عبد الناصر قصيدة عنوانها «الهرم الرابع».
مظاهرة ضد رمسيس
وقاد نزار في الخارج حملة الدفاع عن عبد الناصر، وكان موقفه من توفيق الحكيم أبرز دليل على ذلك، فقد كتب ردًا على توفيق الحكيم بعنوان «مظاهرة.. ضد رمسيس الأول» جاء فيه:
هل يسامحني استاذنا الفنان توفيق الحكيم إذا قلت له أن كتابه الأخير (عودة الوعي) ردئ جدًا، وخفيف ومتأخر.. ثم هل يسامحني أن كتابه الذي قُدِم للناس علي أنه عمل من أعمال التحدي لا يتحدى أحدًا، لأن التحدي يفترض وجود الخصم، والخصم ينام الآن تحت رخام قبر في ضاحية منشية البكري في القاهرة.
«
الكتاب.. رديء جدًا لأنه لا يضيف شيئًا إلى ما كان يُقال في الشارع، والمقهى وعلى لسان العوام فهو ريبورتاج صحفي خفيف ليس فيه من توفيق الحكيم القديم شئ، ولا من ذهنه شئ، ولا من فنه شئ، إنه مجرد «ثرثرة على النيل» تجرى داخل عوامة مغلقة بين مجموعة من العديمين الذين يعتبرون الثقافة نوعًا من الفنتازيا..
«
والكتاب خفيف جدًا لأن 75 صفحة من القطع الصغير لا تعطى أخبار مظاهرة، فكيف تخطى أخبار ثورة من أهم ثورات هذا القرن.
«
والكتاب متأخر جدًا لأن الأستاذ توفيق الحكيم فكر فى أداء فريضة الحج بعد عودة الناس من الديار المقدسة، لذلك فهو لا يستحق الثواب.
«
لقد تصرف توفيق الحكيم كما يتصرف العاشق حين يحتفظ بمكاتيب عشقه عشرين عامًا ثم يخطر له فجأة أن يبيع رسائل حبيبته في المزاد العلني..
«
إن النقطة الفضيحة، في كتاب «عودة الوعي» هي محاولة توفيق الحكيم اقناعنا أنه كان خلال أعوام الثورة واقعًا تحت تأثير السحر، ومنومًا تنويما مغناطيسيًا فكيف يمكن لكاتب كبير أن ينزلق إلى هذا المنطق الطفولي ويقول بكل بساطة.. لا تؤاخذونى.. فقد كنت مسطولًا ومهبولًا، ومجذوبًا، وواقعًا تحت تأثير السحر والمنجمين عشرين عامًا..
«
وإذا كان توفيق الحكيم المعلم والرائد والكاتب العظيم يقول هذا الكلام العامى الغيبي الخرافي الانكشارى، فماذا يقول ملايين البسطاء الذين لا يعرفون تفكيك حروف أسمائهم في العالم العربي.
«
إن المواقف المُعلنة بعد عشرين عامًا لا قيمة لها لأن الناس ينتظرون من الأديب أن يضئ حاضرهم، ويضئ إدراكهم السياسي في فترة وقوع الحدث، لا أن يكتب قصيدة مديح او قصيدة هجاء برمسيس الأول بعد مرور خمسة آلاف سنة على وفاته.
«
المهم أن نملك الشجاعة كی نقول لفرعون خلال فترة حكمه أنه ملك ظالم وأن نقول لجمال عبد الناصر خلال فترة رئاسته أنه ديكتاتور، وبهلوان يحترف البلف والتهويش، وطبعًا سيكون ثمن هذه الشجاعة غاليًا.. فالشجاعة دائما غالية الثمن، لكن الأديب الحقيقي لا يساوم، ولا يختبئ تحت اللحاف، أثناء البرد والظلام، ولا ينتظر رحيل العاصفة حتى يخرج إلى البحر ليصطاد السمك.. الأديب الحقيقي لا ينزل إلى المخبأ عند انطلاق صفارة الإنذار، ولا يكتفي برؤية روما وهي تحترق ولكنه يفعل شيئًا ما لإنقاذ روما.
«
قد يقول «توفيق الحكيم» أن العمر قد تقدم به وأن الشيخوخة لا تسمح بمواجهة السلطان، وسجون السلطان، وزبانية السلطان، وهذا قول مردود لأنه ليس من المعقول أن يشيخ توفيق الحكيم في الفترة الواشمة بين 22/7/1952 وتاريخ 22/7/1972، ثم يعود شابًا بعد هذه الفترة يلعب اليوجا، ويصارع الثيران، ويطلق الرصاص.
وإذا كان توفيق الحكيم معارضًا لسياسة فرعون وأسلوبه في الحكم فلماذا بقي في منصبه الكبير في جريدة الأهرام، ولماذا لم يرفض وسلم فرعون، ويعلن سبب رفضه أمام الرأى العام، كما يفعل بعض الذين منحوا جائزة نوبل من الكتاب والعالميين: كباسترناك مثلًا ولو أن هذا حدث كان هذا الرفض أول علامة احتجاج من مفكر عربي، علي حاكم عربي، ولكن الوسام ظل على صدر الأستاذ الحكيم، ولم ينتبه إليه إلا عندما كشف الله عن بصيرته وعاد إليه وعيه.
مصر يا أم الصابرين.. إنني أعتذر إليك باسم كل الكتاب الذين خرجوا بعد عشرين عامًا من غرفة التخدير، وقرروا أن يسيروا في مظاهرة ضد المغفور له الملك «رمسيس الأول»..
هذه هي «مواقف» بعض الكتاب الذين يهاجمون الآن.. ترى هل نصدقهم.. ونحترم كلماتهم أو نناقشها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق