لا إكراه
في الدين .
الدكتور محمد
شحرور .
طردت إحدى الشركات في بلد عربي موظفاً لديها لعدم أدائه الصلاة مع زملائه
أثناء العمل ، ثم أعادته بعد أن أثار طرده ضجة في الأوساط المحيطة ، ولا يخفى على
أحد أن القوانين في معظم بلداننا العربية تعاقب من يأكل في نهار رمضان ، فالحكومات
لدينا لم تكتف بتأمين العيش الكريم لمواطنيها في الدنيا ، بل تريد ضمان دخولهم
الجنة في الآخرة أيضاً ، حتى لو لم يريدوا ذلك ، في مزيج واضح من النفاق والإكراه
والتناقض ، يكاد يعصف بكل نواحي المجتمع ، وإذا كانت العقوبات لدى داعش في مثل هذه
الحالات تصل إلى القتل ، فإن " الإسلام المعتدل " لا يقل تطرفاً من حيث
المبدأ ، إنما تبقى عقوباته في حدود اعتادها الناس وتقبلوها .
وفي حين أن المجتمع العربي يتراخى أمام الغش والسرقة وشهادة الزور
ونقض العهد وحتى قتل النفس في أحيان كثيرة ، وما يحصل من تغاضي عن قتل المدنيين في
سوريا دليل على ذلك، يتشدد في موضوع إقامة الشعائر ، بل على العكس يتعلم الأطفال في
البيت والمدرسة كيف يكذبون في موضوع إقامة الصلاة وصوم رمضان ، درءاً لما قد يسببه
صدقهم من إحراج هم بغنى عنه .
ورغم أهمية
الشعائر في أي دين أو ملة ، فالمفروض إدراك أمور أساسية :
1 - الدين بشكل عام علاقة بين الإنسان وربه ، يأتيه طواعية، دون إكراه { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ
الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ } (البقرة 256) ، والدافع
فيه ذاتي نابع من الضمير ، وكوننا
عباد الله في الدنيا يعني قبولنا بالانقياد لدينه بملء إرادتنا
، وفعل "عبد " في اللغة من أفعال الأضداد ( ابن فارس) فهو يحمل ، إلى جانب معنى الطاعة ، معنى الرفض
والعصيان { قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ
وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} (الزخرف 81) وعبد الرق طاعته لا عصيان فيها
، أما عبد الله فهو الإنسان المخير
بين طاعة الأوامروعصيانها ، وهو يملك زمام أمره في الدنيا ، ولا يملكه في الآخرة ولذلك يتحول
الخطاب من "عبادي" في الدنيا { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ } (الزمر 53) ، إلى "العبيد" في الآخرة { ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ
بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (آل عمران 182) ، وكون عباد الله قد أسرفوا على أنفسهم فهم ليسوا مؤمنين {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ
أَصْحَابُ النَّارِ} (غافر 43) ومع ذلك وجه لهم الخطاب بصفتهم عباده ، فالعبادة هي ممارسة حرية الطاعة والمعصية في كل أمور الحياة الدنيا { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}
(الذاريات 56) ومنها ينشأ الاختلاف بين الناس { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ
يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ --}
(هود 118) وفي الآخرة يحاسبهم وفق اختياراتهم ، فلا
ثواب ولا عقاب دون حرية .
2 -
يتجلى الإيمان بالله بالاستعانة به والتوجه له وحده دون غيره بالدعاء { إِيَّاكَ
نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ( الفاتحة 5) دون وسيط ودون إمام أو شيخ ،
وبالطريقة التي تختارها ، غير ملزم بصيغ معينة ، ودون إشراك أحد غيره لتطلب منه ،
راجياً منه المغفرة عند ارتكاب ذنب ما ، كذلك باحترام حاكميته أي الالتزام بصراطه
المستقيم { اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ } (الفاتحة 6) بكل طواعية ، والصراط
المستقيم هو مجموعة القيم الإنسانية التي فطر عليها الإنسان مهما كان جنسه ولونه
وعرقه { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي
فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (الروم 30) .
3 - ثمة
فرق بين الصلاة كصلة للعبد بربه من الجانب الوجداني وبين الصلاة كشعيرة ، فهذه
العلاقة الوجدانية تجسدها إقامة الصلاة ، ضمن حاجة الإنسان لتحويل المجرد إلى مشخص ،
وهذا ما يدلنا عليه قوله تعالى : { إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ
يَتَسَاءلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا
لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا
نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} (المدثر 39 –
46) وسياق الآيات يدل أن المصلين ليسوا مقيمي الصلاة كشعيرة ، فتاركوها ليسوا
مجرمين ، وترك شعيرة الصلاة لا علاقة له بالإيمان باليوم الآخر، حيث التكذيب باليوم
الآخر يخرج الإنسان من دائرة الإسلام ، ويؤكد تعريف المصلين في سورة المعارج فهمنا
هذا : { إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ
* وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ
* وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ
رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ
هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ
رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى
صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (المعارج 22 - 34) فالصلاة كشعيرة وردت في الآيات ، لكن
المصلين هم من صلتهم بالله جعلتهم يلتزمون بأمور عدة ، وبالتالي ترك هذه العلاقة
يستحق الويل ، لا السهو عن إقامة الصلاة { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ *
الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ *
وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (الماعون 4 - 7 ) وإلا لما تناسب هذا الوعيد مع رحمة رب
العالمين ، والله تعالى خاطب موسى بقوله { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ
إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (طه 14) فهدف إقامة
الصلاة هو ذكر الله .
4 -
التكاليف ضد الفطرة الإنسانية ، لذلك نثاب عليها خير ثواب ، والالتزام بها فرضه الله
علينا في إقامة الصلاة وأداء الزكاة { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا
وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *---
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}( النور 1 و 56 ) ، وفي الصيام خيرنا بين أن نفرضه على
أنفسنا ، أو نستبدله بفدية مع تفضيل الصيام ، كذلك في الوصية فقد كتبها علينا
{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً
الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى
الْمُتَّقِينَ} (البقرة 180) وأعطاها الأولوية لكن ترك لنا تقسيم الإرث في حال عدم
وجودها ، وفي الحج ترك لنا أن فرضه على أنفسنا { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ
فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ --} (البقرة 197) ، أي
أن إقامة الصلاة وأداء الزكاة لم يعطينا بديلاً عنهما ، وجعلهما من صفات المتقين
{ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنفِقُونَ * والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن
قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} ( البقرة 2 - 4 ) لكنه في الوقت ذاته
قال { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } ( التغابن 16) فتقوى الإيمان وفق
الاستطاعة و { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } (البقرة 286 ) .
5 - كل
الشعائر فيما عدا الزكاة هي عبارة عن ممارسة شخصية بين الإنسان وربه ، في
إطارالعلاقة الخاصة معه ، دون مبررات كأن نقول أن الصيام له فوائد وأن الركوع
والسجود رياضة وما إلى ذلك ، فمن يريد الصلة مع الله وذكره لا يحتاج إلى فائدة
عملية بل هي فائدة نفسية بحتة ، ولا يمكنك إلزام أحد بها ، فالله يعلم ما في قلوبنا ،
ولا ينفع معه أن تجبر ابنك على الصيام كي يعتاد ذلك ، أو أن تدعي الصيام خوفاً من
زملائك في العمل ، فالله غني عن صومك هذا .
6 -
العلاقة مع الله شأن خاص، لا علاقة لأحد به ، وكل إنسان مسؤول عن نفسه فيها
{ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } ( المدثر 38 ) ، وعلاقتك بالآخرين من
خلال أخلاقك وأخلاقهم لا من خلال صلاتهم وصيامهم، ومفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر مختلف عن ذلك تماماً ، فإذا كان الرسول الأعظم غير مسؤول عن إيمان من حوله
{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً
أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} ( يونس 99 ) فمن
أنت لتأخذ هذه المسؤولية وتتدخل في أدق خصوصيات غيرك ؟ ثم أن الرسول لم يذكر عنه
أنه عاقب أحد على ترك إقامة الصلاة أو عدم الصيام، لكنه عاقب سارقاً وزان وقاطع طريق
.
مساجد
دمشق وغيرها ، كانت وما زالت تعم بمقيمي الصلاة في أيام الجمعة وليالي رمضان ولكن
للأسف لم نر أثر ذلك على أخلاق المجتمع ، ولو أن الموظف المذكور أعلاه كذب
بشأن إقامته للصلاة لارتاح أصدقاؤه وصاحب عمله ، فمجتمعاتنا يهمها الشكل لا
المضمون ، تريدنا كاذبين منافقين ، وتجبر أفرادها أحياناً كثيرة على ذلك ، وإلا قطعت
رؤوسهم حين تسنح لها الظروف وتمتلك سلطة ما، وما ترتكبه داعش إلا دليلاً على ذلك،
ولا يغرنكم الاستهجان لأفعالها ، فمن يجبر ابنه على الصيام أو إقامة الصلاة يحمل
المبادىء ذاتها دون اختلاف .
فلنعبد الله مخلصين حنفاء ونلتزم بأوامره امتثالاً لقوله { وَمَا
أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء
وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة}
(البينة 5) ، آخذين بالاعتبار نصيحته سبحانه لنبيه { وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ
الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } (آل عمران 159) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق