بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة

بوصلة لا تشير الى القدس مشبوهة
مدونة الفكر القومي التقدمي

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 6 يوليو 2016

نظرة على تاريخ الشعوب ومسيرتها ..

                نظرة على تاريخ الشعوب ومسيرتها ..

أغلب الامم المتقدمة عاشت واقعا مأساويا مفزعا ، وعانت من الصراعات والحروب والدمار  والتخلف والاحتلال والهيمنة والاذلال .. لكنها استطاعت ـ جميعا ـ الخروج من محنتها ومعاناتها حينما آمنت بامكانياتها ، وعوّلت على قدراتها ، فقامت بالمراجعات الجذرية لتراثها الانساني ، وخرجت الى فضاء العقل الرحب ، لتعيد النظر في جميع المسلمات ، ولو اقتضى بها الأمر الى ازاحة اللثام عن " المقدس " الذي صنعه الانسان نفسه خلال القرون الوسطى وجعل له سياجا محكما يشل به قدرته على التفكير والخلق والابداع .. وهكذا شهدت المجتمعات الاوروبية منذ القرن الثامن عشر حركة فكرية نشيطة ، وتغييرا اجتماعيا شاملا  صادف  قيام الحركات القومية بكل خصوصياتها ، وتناقضاتها في تلك المرحلة ، حيث كانت مدافعة على حق شعوبها في الداخل ، وحاملة في نفس الوقت لتلك النزعات الاستعمارية الجارفة في الخارج .. وهو ما أفرز ـ في المقابل ـ ظهور الحركات القومية المقاومة للهيمنة الاستعمارية في الدول المستعمرة ..
وبقطع النظر عن التفاصيل ، والأساليب ، والشوائب التي صاحبت مسيرة الشعوب الاوروبية  بسبب الصراعات السياسية ، والسباق المحموم نحو السيطرة وبسط النفوذ التي تقودها قوى مهيمنة في تلك الدول ، فان الحركات القومية تبقى دوما صانعة التقدم في أي أمة ، وهي صاحبة الدور الرّيادي والقيادي للنهوض بها نحو أهدافها المشروعة  في الاستقرار والوحدة التي يكتمل بها وجودها ، ويستمر بها تطوّرها ..
هكذا نهضت الامم المتخلفة في اوروبا وآسيا وأمريكا ، رغم العصور المظلمة التي عاشت فيها طويلا ، ورغم التخلف الذي شمل  فيها كل نواحي الحياة ، ورغم الأخطاء الكبرى ، والنكبات العارضة التي صاحبت مسيرتها .. الا انها في النهاية قد تحرّرت من عقدة الذنب والخوف وواجهت أخطاءها بشجاعة ، واعتمدت على التفكير العلمي بعيدا عن الأوهام والخرافات التي سادت مجتمعاتها قرونا طويلة ..
ثم نهضت أيضا حينما افرزت حركات قومية قادت مسيرتها ومعاركها ـ اولا ـ نحو الوحدة القومية ، وثانيا نحو البناء والتغيير  ..
ورغم هذا الانجاز المهم في تاريخ الحركات القومية عامة ، فانها  تبقى جميعا وليدة عصرها وظروفها .. أي انها تحمل جينات العصر الذي ولدت فيه .. فضلا عن بصمات القادة التاريخيين لتلك الحركات زمن نشأتها .
ففي الولايات المتحد الامريكية بدأت الحركة القومية نضالها ضد الاستعمارالبريطاني والفرنسي والاسباني ، حيث كانت الدول الاروبية تسيطر على مواقع مختلفة من القارة الجديدة .. ومع حلول النصف الثاني من القرن التاسع عشر وجدت الولايات الامريكية نفسها على وشك الدخول في حرب اهلية ، لم يجد الرئيس الجديد ابراهام لينكون بدا من خوضها ضد الانفصاليين ، ثم انهاء حالة الانقسام بتعليق قوانين الرق واعادة الوحدة بالقوة سنة 1865 .. وفي المانيا كما في ايطاليا كانت حالة التشتت والضعف تهيمن على شعوبهما ، بسبب الهيمنة الخارجية من طرف الامبراطورية النمساوية المجرية من جهة ، ومن طرف الامبراطورية الفرنسية من جهة ثانية  ، الا ان الحملات النابليونية التي داهمتهما معا ، كان لها الاثر الايجابي في ايقاض الشعور القومي في نفوس الايطاليين والالمان مما أدى الى بروز الحركات القومية التي قادت مسيرة كل منهما نحو الاستقلال والوحدة التي تحققت فعليا في المانيا اثر هزيمة نابليون سنة 1813 ، غير ان ايطاليا التي تخلصت من الهيمنة الفرنسية اثر الهزيمة ، بقيت تعاني من الهيمنة النمساوية ، حيث قال مستشارها في مؤتمر فيانا : " ان كلمة ايطاليا ما هي الا مصطلح يعبر عن مكان جغرافي فقط " .. فتأخرت الوحدة الايطالية الى سنة 1871 .. 
وحتى الحركات الماركسية في روسيا والصين المعادية ايديولوجيا للقومية كانت قومية بالممارسة حينما سعى كل طرف منها لتوحيد أمته ، وقيادة مسيرتها نحو التقدم العلمي والتكتولوجي الذي كانا يزاحمان فيه أمما اخرى مثل الولايات المتحدة .. بل أن هاتين الدولتين وصلتا الى حد النزاع المسلح بينهما ، حينما وقف كل نظام بجيش دولته الشيوعية مدافعا عن حدود ومصالح دولته القومية في مناسبتين ، الأولى سنة 1929 والثانية سنة 1969 وهي من أكثر الاحداث طرافة في تاريخ الماركسيين الذين وقفوا عاجزين امام النزعة القومية التي تحركهم وهم يهاجمونها .. وهو ما أدى في النهاية الى تطوير المفاهيم الماركسية للقومية ، ومراجعة مواقفها من الحركات القومية الصاعدة خلال النصف الاول من القرن العشرين وبعده حتى اصبحت بعض الاحزاب الماركسية في الوطن العربي أحزابا قومية بامتياز ..
وكذلك الشأن بالنسبة للحركة القومية التركية التي انطلقت بخلفية علمانية في عهد اتاتورك ، وأصبحت دينية اسلامية في العقدين الاخيرين ، ونفس الشئ تقريبا حدث بالنسبة للحركة القومية الايرانية التي بدأت علمانية  مطلع القرن الماضي  لتتحول الى الخلفية الدينية  بعد الثورة الاسلامية سنة 1979 .. وقد عملت ولا تزال تلك القوى في الأمتين التركية والايرانية ، في جميع مراحلها ، وبجميع هوياتها السياسية ، على تثبيت وحدة شعوبها وخدمة مصالحها حتى وان كان ذلك على حساب مصالح شعوب وأمم أخرى ، وأبرزها في الحاتلتين الامة العربية التي تعرضت الى التتريك والتفريس ، ومحاولات الهيمنة ونهب الثروات ، والاحتلال الذي ادى الى سيطرة تركيا على لواء اسكندرون في شمال سوريا سنة 1939 بطواطئ فرنسي  .. وسيطرة ايران على الاحواز العربية سنة 1925 بطواطئ بريطاني  ، ولا يزال التدخل متواصلا من الجهتين الى اليوم ...
وهكذا ، مهما كانت الشوائب التي تلحق بالحركات القومية ـ والحركة القومية العربية واحدة منها ـ  فان القومية رابطة انسانية راقية ، ستبقى دائما هي الحجة على القوميين أينما كانوا ، وليس هم حجة عليها على الاطلاق ..
ومثلما تبقى للاديان مضامين انسانية نبيلة ، ومبادئ ومثل ، لا يغير منها ذلك التشويه الذي شهدته الديانة المسيحية على أيدي رجال الدين في اوروبا خلال القرون الوسطى ، أو الذي يشهده الاسلام اليوم على أيدي قوى متسترة بالدين في الوطن العربي  ، فان للحركات القومية بشكل عام سيرورة واتجاه ومضامين انسانية تتأثر بمن يحملها لكنها تتغير باستمرار للتخلص من تلك الشوائب والادران التي تتعلق بها خلال مسيرتها ، وترتقي تدريجيا في كل عصر ـ والحركة القومية العربية في المقدمة منها ـ الى المراتب العليا وهي تقود شعوبها ، نحو التقدم والرخاء والتعاون والاستقرار والمحبة والسلام ، مسترشدة بكل المضامين الانسانية التي نادت بها الاديان السماوية جمعاء ، وبكل التجارب الانسانية ، والتراث الانساني الزاخر يالأفكار والقيم النبيلة .. متجهة نحو الفضاء الرحب للانسانية جمعاء ، الذي يتجاوز كل الحدود والقيود .. والحركة القومية  فوق هذا ، ووفق منطق العصر ، عصر القوميات ،هي الحركة التقدمية ، وما سواها أو مادونها رجعية فاشلة ..

( القدس ) .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق