الحركة القومية : بين الواقع والدورالمطلوب ..
( 1 ) .
الشعور القومي هو
الاصل في أي أمة من الامم ، وعند كل الشعوب في مرحلة النقاء والصفاء القومي الذي
لم تختلط فيه مشاعر الناس بتلك الشوائب التي تظهر عادة في فترات الانكسار
القومي ، والضعف والهزائم والتخلف الذي
يمكن أن تعيشه الشعوب بسبب التجزئة والهيمنة والاستبداد ، وتفشي الفساد ، وغياب
الارادة الوطنية والقومية للنهوض بالمجتمع
، وغيرها من العوامل التي تقزم الشعور القومي ، وتجعل الانسان يشعر بالدونية ،
والنقص أمام الآخر المتقدم ، والمتحرر ، والمتطور .. فيصبح ميالا لمحاكاته في
سلوكه وعاداته ولغته ، متخليا شيئا فشيئا عن هويته وثوابته وخصوصياته القومية نتيجة
لحالة الاحباط والهزيمة النفسية التي
يعيشها الانسان في فترة من الفترات ..
وقد كانت حالة
التجزئة في الوطن العربي من اكثر العوامل اضعافا للشعور القومي ، اضافة الى وجود
تلك الأنظمة المتخلفة القبلية والعشائرية ، التي عملت على مدى عقود طويلة ، لطمس
الهوية القومية بكل الطرق ، الفنية ، والتعليمية ، والرياضية ، والاعلامية ..
مغذية تلك النزعة الشعوبية المعادية
للوحدة حتى لا يرتقي ذلك الشعور في المستقبل لبناء وحدة قومية تزيل كل العروش التي
تم تنصيبها قبل انسحاب المستعمرين ، التي تم من خلالها استبدال الاستعمار المباشر ، بنوع آخر من
الاستعمار المقنع ، لتمكين تلك الجهات من
المحافظة على مصالحها دون عناء أو خسائر .. وهكذا تظافرت كل الجهود وتحالفت كل القوى
التي لها مصلحة في تجزئة الامة ونهب ثرواتها للابقاء على الوضع الحالي من خلال اضعاف الشعور القومي لدى عامة
الناس ، والهائهم بصراعات ومشاكل جانبية تحيد بهم عن أي توجه يعيد لهم وحدتهم التي
تتناقض موضوعيا مع مصالح الانظمة والقوى المتكالبة على الامة ..
غير أن مثل هذه الحالة عاشتها شعوب كثيرة مرت بحالات مماثلة من الانهيار
والهزائم والانكسارات مثل الامة الالمانية التي خرجت من هزائم متتالية خلال الحرب
العالمية الاولى والثانية ، ادت الى فرض العقوبات عليها وتقسيمها واخضاعها لارادة
الدول المنتصرة في المعسكرين الشرقي والغربي ، وهي التي كانت أكثر سوءا خلال
القرنين الثامن والتاسع عشر .. يقول الدكتور صفوت حاتم في هذا الصدد في دراسة
مقارنة خاصة بموضوع الوحدة العربية
والالمانية : " كانت ألمانيا المثال الكلاسيكي للتعصب المحلي
والصراعات الأقليمية ( كما هو الحال في الأمة العربية ) ففي العصور القديمة كانت
هناك عداءات متوارثة بين القبائل الألمانية وبخاصة بين السكسون والفرانك .. وكان
ألمان الشمال وألمان الجنوب لا يكادون يفهمون بعضهم البعض .. وكانوا يلجئون الى
اللاتينية إذا أرادوا التواصل والإتصال ببعضهم البعض .. وحتى الإمارات الألمانية الصغيرة
جدا كانت تدعي أنها أمم منفصلة ( كإمارات ودول الخليج العربي .. !! ) .. وكان التطرف في المشاعر المحلية
( والإقليمية ) سببا في قدر كبير من المهانة للأمة الألمانية وتفتتها وانقسامها ..
وصار الصراع بين الحكام والعائلات الحاكمة سببا من اسباب ضعف وتشتت الالمان
وهزيمتهم في الحرب أمام نابليون .." ..
ولعل
التجربة الألمانية وتجارب كثيرة غيرها
تؤكد بما لا يدع مجالا للشك بان ارادة الشعوب لا تقهر .. وأن
الروح النضالية للحركة القومية العربية هو الذي سيحقق في النهاية طموحات الامة في
الوحدة ، والتقدم ، والرخاء لكل ابنائها ..
( 2 ) .
اذا كان التفاعل
لدى الافراد مع القضايا القومية هو التعبير الخاص عن الولاء القومي ، وهو بالتالي
السلوك الطبيعي المعبر عن الحس القومي
المتيقض في اي أمة .. فان التفاعل مع واقع الامة ومناصرة قضاياها المصيرية على
المستوى الجماعي من طرف الاحزاب والجمعيات ومنظمات المجتمع المدني ، هو التعبير
الحي عن الانتماء الذي يجمع كل الناس بواقعهم القومي ..
وهكذا فان الاصل
في الاشياء هو أن يكون مجال التفاعل مع القضايا القومية مجالا مشتركا تلتقي حوله
كل التيارات السياسية وكل الفعاليات داخل المجتمع بقطع النظر عن خلفياتها
وايديولوجياتها وأطروحاتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وكل المضامين المتعلقة بالحكم ، فلا يكون السعي الى تحقيق الوحدة االقومية وسلامة الامن القومي هدفا تختلف عليه القوى السياسية في المجتمع او تعاديه أو
تتحالف ضده مع أي جهة تتناقض مصالحها مع
المصلحة القومية العليا ، وهو ما يحصل تقريبا في كل الامم حيث لا تحيد عن
هذا النهج كل الأحزاب بكل خلفياتها السياسية اليمينية واليسارية .. الليبرالية منها والاشتراكية .. وحتى الاحزاب
المعروفة بخلفياتها الاسلامية في المجتمعات المسلمة كايران وتركيا واندونيسيا ، أو
الاحزاب الدينية المسيحية في مجتمعات أخرى ، تعمل جميعا في ظل اختلافاتها
الايديولوجية المعروفة من أجل المصلحة القومية في تلك الأمم ، لانها واعية
تماما بأن الواقع القومي حقيقة لا وهم ،
وأن نصرة القضايا القومية في تلك المجتمعات هي أرقى وأسمى غاية يمكن ان يطمح
اليها أي مواطن .. فذلك الهدف زيادة على كونه واقع فعلي يتعامل معه الناس دون تفرقة او تمييز ، فهو أيضا واجب قومي على كل انسان في المجتمع .. لذلك نجد عندهم أن أهم المعايير التي يتم على اساسها اختيار الاحزاب للحكم في المجتمع القومي ثم محاسبتها ، هو مدى صدقها ونجاحها في العمل على تجسيد الولاء القومي بكل ما تعنيه الكلمة من مضامين وطنية واجتماعية واقتصادية تعود بالنفع على الامة باكملها ، وليس مستغربا في تلك المجتمعات أن نرى الحزب المسيحي الالماني فائزا في اول انتخابات تقع في المانيا الموحدة .. فأين نحن من هذا في الوطن العربي اليوم ..؟؟
وماذا يعني
القول بأن الدعوة الى الوحدة العربية بدعة
، أودعوة الى الجاهلية ، أو منافية للاسلام .. ؟
وماذا يعني التهجم على كل ما هو قومي ، وكل ما له علاقة بفكرة الوحدة في
مجتمع مجزأ الى 23 دولة كانت بالامس القريب أمة واحدة ، وكيان واحد مثل كل الامم
..؟؟
فهل من الممكن اذن
مراجعة فكرة الوحدة في الوطن العربي ، وجعلها فكرة جامعة ينتصر فيها الشعور القومي
والمصلحة القومية ، على كل الخلافات ... ؟
اذا نظرنا الى الامور من زاوية انسانية ، بمعنى أن
الانسان هو القائد ، وهو الفاعل ، وهو المغير للظروف والمطوّر للواقع .. وهو الذي يستطيع تحقيق ما
يريد ، فان هذا الأمر غير مستحيل .. وحتى من زاوية النظر التاريخية هو ممكن ايضا ،
حيث ان القوى التي قادت الوحدة الالمانية
بقيادة بسمارك لم تكن اشتراكية ديمقراطية ، ولم يكن روادها يعرفون أو يؤمنون بكل المفاهيم والأفكار التي تؤمن بها الحركة
القومية التقدمية في الوطن العربي حاليا .. ولا كان يؤمن بذلك رواد الحركة القومية الايطالية .. ولا قادة
الحركة القومية في أمريكا خلال حرب
الاستقلال..وبعدها
بقيادة ابراهام لنكولن ، وحتى قادة الحركات الماركسية في روسيا والصين
، قد وحدت أممها وشعوبها وقادتها الى المراتب الأولى في العالم وهي رافضة للفكرة
القومية من أساسها ، فكان صراعها مع واقعها القومي سببا مباشرا في مراجعة الكثير
من المسلمات الفكرية لدى الحركة الماركسية على المستوى العالمي وفي الوطن العربي
بشكل خاص .. وكذاك بالنسبة للحركة القومية في تركيا وإيران سواء في مراحلها
العلمانية السابقة أو في وقتها الحالي
بخلفيتها الإسلامية التي تعمل على تحقيق مصالح شعوبها وأوطانها وأممها حتى
على حساب مصالح شعوب أخرى مسلمة .. !!
ثم في جنوب إفريقيا التي قادت حرب التحرير ضد
نظام الميز العنصري ، وفي كل أمم أوروبا التي غزت العالم بأكمله عملا على تحقيق
مصالحها الخاصة حتى وهي تكتب ـ في زمن الثورات ـ أرقى النصوص العالمية لحقوق
الإنسان .. الخ ..
فما المشكل إذن .. ؟؟
المشكل ليس في المبدأ ، حينما يبادر أي إنسان
، أو أي جهة كانت وهي تؤمن بمصلحة الأمة ،
فتلزم نفسها بتحقيق هدف الوحدة مثلما تحقق
في كل الأمم ..
لكن من المؤكد في هذا الجانب حتى بالنظر إلى النواحي التاريخية ، أن هذا المبدأ محكوم بالدرجة الأولى بوعي الناس بالمصلحة القومية من
أي موقع يوجد فيه الإنسان ، ثم بما يترتب عن ذلك من أفكار وأسلوب عملي لمواجهة
الظروف قصد تغيير الواقع بما يساعد على
تحقيق الوحدة .. أي أن المسألة لا تقف عند
حدود العواطف والأمنيات مثلما يعتقد الكثيرون
في نظرتهم للعروبة التي لا تتعدّى حدود المشاعر والأحاسيس ، وهم في المقابل
يعتقدون بأن فكرة الوحدة القومية غير
واقعية ، وغير ممكنة ، وأحيانا يرفضونها ويتصدّون لها بطرق شتى ..
هي اذن مسألة تتعلق بتغيير نظرة الناس الى الأشياء والظواهر ، من خلال
الوعي بارتباط المصلحة الخاصة بالمصلحة القومية ، ومن خلال التجاوز الواعي لحدود
الوطنية الضيقة بمفهومها الإقليمي المحدود ، حينما يتم الإضافة إليها ـ دون أي
انتقاص من مضامينها وتوهّجها العاطفي ـ مساحات أخرى تتعزز من خلالها فكرة الانتماء
والولاء حينما تتسع للكل العربي الذي يحتوي بالضرورة على الأجزاء ، وهو يعتبر أن
كل شبر منها جميعا هو تماما بمثابة الكل .. وهكذا نعرف ونتعلم أن القومية العربية
ـ بالدرجة الأولى ـ هي تجاوز لحالة العروبة بمفاهيمها ومضامينها وتعبيراتها
السلبية التي لا يترتب عنها أي التزام في الواقع ، والتي لا تتوقف حركتها على التوصيف والاقرار بما هو موجود فعلا
، بل تتعدّاه خطوات وأشواطا دون توقف نحو التغيير العملي على ارض الواقع
المرتبط دائما بتحقيق المصلحة القومية .. كما يفترض أن لا تتوقف فكرة الوحدة على مضمون سياسي معين ، حيث يمكن
لاي انسان أن يتصور وطنه العربي موحدا ، تحكمه قوانين المنافسة الحرة على غرار
المثال الامريكي أو الاوروبي ، كما يمكن لغيره أن يحلم بالوحدة في وطن يحكمه
حزب ذو خلفية اسلامية كما يراها في أمم أخرى ، الخ ..
قد يكون هذا طرحا مثاليا بالنظر الى الواقع الراهن ، لكنه يظل حلما جميلا ومفيدا بالنسبة للحركة القومية .. اذ لا وجود بشكل عام لما هو أسمى من تحويل
فكرة الوحدة الى شعور حي في وجدان الناس ، وهدفا شعبيا يؤمن به كل انسان عربي
مهما كانت رؤيته السياسية في مجالات الحكم وتطبيقاته المطروحة في عصرنا دون اللجوء
الى كثرة التفاصيل ، وهو مدخل حقيقي وموضوعي لوحدة الحركة القومية قبل كل شء ..
ويكفي بالمناسبة ان نتذكر كيف جعل الزعيم الراحل جمال عبد الناصر من فكرة الوحدة واقعا حيا وملموسا من خلال ممارسة الدور
النضالي على جميع مستوياته المطلوبة ، سواء من خلال التوعوية أوالتضحية ، فهو في نفس الوقت القائد المعلم
والمقاتل الميداني في آن واحد .. وهو دور ايجابي يحوّل الحركة القومية الى
مدرسة نضالية بكل ما في العبارة من معنى ..
( القدس عدد 222 ـ 223 ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق