الوحدة العربية بين دعاتها وأعدائها .. (25) .
عاشرا
: المهمة القادمة ..
أولا
: العوائق ...
قد يقول البعض ما
هي الاضافة التي ستتحقق بالتقارب والتنسيق والتشاور وعقد المواثيق بين
الاحزاب القومية ، اذا كانت لا تؤدي في النهاية الى وحدة حقيقية ، دائمة وملموسة ،
يجسدها اطار هيكلي وتنظيمي الخ ..
وقد يقول آخرون ،
ما مدى فاعلية مثل هذا الشكل من العمل القومي ، محليا وقوميا ، والحال أننا
شاهدنا العديد من المبادرات الحماسية
المصحوبة بالشعارات والتفاؤل ، والمشاعر الجياشة .. لعل آخرها ما وقع في تونس سنة
2012 حين تم توحيد حزبين ناصريين حديثي النشأة ، ثم في مصر بعد ثورة 25 يناير ،
حينما أعلن عن توحيد أربعة أحزاب ناصرية في 28 سبتمبر 2012 تزامنا مع
ذكرى رحيل الزعيم الراحل جمال عبد الناصر ... الا أن الأمر سرعان ما ينتهي بالفشل
بعدما تنطفئ كل الشحنات العاطفية المحركة للمشهد
، لتعود الأمور الى ما كانت عليه أو أسوء بكثير ، بسبب الفتور ، واليأس
الذي يدب في صفوف المناضلين بعد كل نوبة من نوبات الفشل ..
والواقع أن أشياء
كثيرة مما يذكر صحيحة ، وهو ما يجعل الجماهير العربية في غنى تام عن الدعوات الى
المشاريع الفاشلة التي لا تزيدها الا سلبية وإحباطا ، يؤدي بها عادة الى الهروب من مواجهة الواقع ..
وهذا فضلا ـ كما
يمكن أن يقول غيرهم ـ عن عدم وجود الارضية الملائمة ليس على المستوى القومى الذي
يشهد حالة من التمزق والتشتت والضعف داخل الحركة القومية فحسب ، بل وحتى على
المستوى القطري ، بسبب التنافس على المواقع والزعامات مثلما هو حاصل في بعض
الأقطار الخ ..
ان كان هناك جوانب
معقولة في هذا الكلام ، فهو بسبب ما يتضمنه من وقائع ملموسة ، لا يستطيع أحد
انكارها أو تجاهلها ، الا انه لا يعني أبدا عدم التفكير في أي مشروع وحدوي يخرج
الأحزاب القومية من الوحل الاقليمي الذي تردّت فيه ، فلا تكاد تظهر ـ وهي فرادى ـ
من عتمة المشهد القطري الذي تسيطر عليه الرجعية بكل الوانها ، وأصنافها .. خاصة وان
قتامة المشهد على المستوى الاقليمي ، لم
تثن أي فصيل من الفصائل القومية الموجودة
في أغلب الاقطار العربية عن النشاط ، والتنافس مع القوى المحلية بما فيها
الاحزاب المعروفة بتغولها المالي والعددي .. كما أنها لم تتخل عن عقد الندوات ، أو
عن اقامة المهرجنات الخطابية ، ولا عن التنسيق والتشاور ، وعقد اللقاءات مع قوى
المعارضة ألخ .. سعيا منها وحرصا على
تحقيق اهدافها في الوصول الى السلطة في الدولة القطرية .. فلماذا اذن ، لا تذكر
الصعوبات والعوائق الا حينما يتم التذكير بالمهام القومية لأحزاب يفترض ان تكون
تلك مهمتها الأساسية طول الوقت ..
ثم من قال ان
الأحزاب القومية لا تستطيع ان تقوم بمهامها الا مشتتة ؟؟
ومن قال أيضا أن
تلك الأحزاب لا تستطيع في المرحلة الحالية الا التفرغ للمهام الاقليمية ، وباسلوب
اقليمي صرف ؟؟ ومن قال ايضا أن مهمة القوى القومية في المرحلة الحالية هي الانغماس
كليا في المشاكل القطرية .. ومن قال كذلك أن مجرّد الحديث عن المهام القومية يعيق
تحقيق الاهداف القطرية الخ ..؟؟
نستطيع أن نطرح عشرات الاسئلة المماثلة في وجه كل من
يحيل المشكلة الى طبيعة الواقع القومي والاقليمي المتردّي في المرحلة الراهنة ..
والواقع ان كل المشاكل المعقدة التي تعيشها الامة العربية حاليا لا تكاد تنبّه الا
الى ضرورة اضطلاع الحركة القومية بمهامها التي لا يمكن تحقيقها دفعة واحدة ، ولا بشكل منفرد أو معزول كما تفعل الاحزاب
القومية اليوم .. اذ ان حتى المهام القطرية تتطلب فهما مشتركا للواقع وتنسيقا على
اعلى مستوى ، وهذا ليس من أجل الممارسة الموحدة التي لا تسمح بها حدود وقوانين
الدول الاقليمية في الوقت الراهن ، ولكن حتى من أجل وحدة شكلية ، تبدو مهمة
وضرورية في العديد من القضايا المطروحة على الساحة القومية والقطرية على حد السواء
، مثلما تؤكد الأمثلة الحية في الواقع ..
المثال الاول
يتعلق بالاختلاف الحاد بين موقفين متصلين بالأحداث في سوريا .. أحدهما تمثله نخبة
لا بأس بها من القوميين الذين يرفضون بشدة كل سياسات النظام ’ ويعتبرون كل ممارساته قمعية خلال العقود الماضية سواء في فترة حكم الأب أو الابن
.. ولعل عملية انتقال السلطة بتلك الصورة
الهزلية ـ كما يقولون ـ أكبر دليل على تخلف النظام ، وطبيعة الحكم المطلق للفرد والعائلة
في عصر الحرية والديمقراطية .. وهو ما يدعو ـ في نظرهم ـ الى مساندة " الثورة
" مثلما يسمونها ..
والآخر تمثله نخبة
أخرى من الأحزاب والمثقفين والسياسيين داخل العائلة القومية التي تعتبر هجوم
الجماعات الارهابية المسلحة المدعومة من جهات أجنبية استعمارية ، ومن طرف الانظمة
العربية الرجعية ، انما هو هجوم على سوريا وليس على النظام ، وهو عمل جبان يختفي
أحيانا وراء شعارات الاسلام ، وأحيانا أخرى وراء الشعارات البراقة للديمقراطية
وحقوق الانسان وغيرها ، في حين أنه مخطط يهدف الى تفتيت سوريا ، ولا يتوقف عندها ،
بل يتعداها الى كل الاقطار من أجل خلق حالة دائمة من الصراعات تؤدي في النهاية الى
بلقنة الوطن العربي لصالح الاستعمار والرجعية والصهيونية لا غير ، وهو ما يقتضي في
نظرهم تأجيل الصراعات الداخلية مع النظام ، واعطاء الاولوية لدحر العدوان المسلح
الذي باتت خيوطه وأهدافه ووسائله واضحة للعيان .. وهذا فضلا عن مثالية الموقف الذي
يدّعي مواجهة الكل في سوريا : التكفيريين والنظام .. !! بينما نجد أن أصحاب
هذا الموقف لا يمثلون شيئا على أرض الواقع .. وهو ما يعني ـ بالنسبة لاصحاب الرأي الثاني ـ
ان كل هذه المواقف تراكم في نهاية المطاف ، ضد مصلحة سوريا ، ومستقبلها ووحدتها ، التي
تتحكم فيها المعارك الطاحنة على الارض ، حيث بات المشروع التكفيري يعبث بالأمن ،
وبوحدة النسيج الاجتماعي الذي يقوم عليه الوجود القومي قبل أي شئ آخر ..
والواقع أن مثل
هذا الاختلاف تترتب عليه العديد من الاختلافات الفرعية مثل الموقف من القوى
المتدخلة في الحرب الدائرة في سوريا كإيران
، وتركيا ، وحزب الله ، وروسيا الخ ..
المثال الثاني
يتمثل في قراءة المرحلة ، والموقف من الثورات في الاقطار العربية ، والتحالفات ،
واسلوب التعامل مع القضايا القومية ..
فمن قائل بأن دور
الحركة القومية في المرحلة الراهنة هو تخليص الجماهير العربية من الاستبداد في كل
قطر ، وبناء الديمقراطية السليمة التي ستمكنها من اكتشاف محدودية الحلول الاقليمية
في بناء التقدم الحقيقي ، ووقتها ستهتدي بنفسها لاختيار المشروع القومي ( ... ) ومثل
هذا الموقف يشكك اصلا في امكانية قيام أي مشروع وحدوي في الوقت الراهن ، سواء على
قاعدة الاعداد أو على قاعدة الصفوة ، باعتبار ما افرزته المرحلة من ترسبات اقليمية
يصعب تجاوزها في ظل الانظمة الحالية ، وباعتبار استحالة امتداد فترة الاعداد الى
اجل غير مسمّى ، وهو ما يفتح الباب على مصراعية لخوض جميع النضالات على قاعدة
المواطنة ، مع جميع القوى التي تقبل بقوانين اللعبة دون اعتبار لمواقفها السلبية
ذات الصلة بالواقع القومي والاقليمي ..
الى قائل بأن خوض
المعارك الاقليمية لا يمنع من بناء جسور قومية في المرحلة الراهنة ، ولا يؤدى الى
الغائها .. كما أن الديمقراطية الحقيقية لا يمكن تحقيقها من خلال التحالف مع القوى
الرجعية المتورطة في التآمرعلى الامة بدعمها للفوضى والارهاب ، مثل حركة الاخوان
المسلمين والحركات الدينية في الوطن العربي عامة ، وكافة الاحزاب المرتبطة
بالأنظمة الاقليمية العميلة والقوى الاستعمارية ، مما يستوجب فضحها جميعا وكشف
مشاريعها المشبوهة باستمرار ، بدل التعامل معها كشريك في المستقبل ، وهي التي تملك
كل الامكانيات التي تمكنها من السيطرة على الامة بمفردها لترهن مصيرها ومستقبلها كاملا
لما تفضي اليه اطروحاتها الظلامية ومشاريعها الرجعية ، وهي الاكثر استبدادا وتخلفا
من تلك الأنظمة الشمولية التي تدعي محاربتها
..
فماذا يعني كل هذا
؟؟
هذا يعني أولا أن
الواقع القومي بالغ التعقيد والتخلف بسبب عدة عوامل معروفة للجميع منها :
ـ المشاكل
المتراكمة على مدى اكثر من قرن في ظل الاستعمار والتجزئة .
ـ ممارسات الانظمة
الحالية بكل ما تملكه من آلة اعلامية لقصف عقول الناس وتضليلهم .
ـ تكالب أطراف عديدة داخلية وخارجية طمعا في ثروات
الامة .
ـ عجز الشعب العربي
وقواه الثورية عن ايجاد الحلول لمقاومة كل هذه العوامل مجتمعة ، وهو ما جعل هذه
التراكمات تتحول الى تخلف حقيقي يشمل جميع مجالات الحياة في الواقع العربي ، لا
يلبث بدوره أن يسبب العجز التام عن فهم الواقع فضلا عن ايجاد الحلول ..
ويعني ثانيا أن
الاختلاف الذي هو ظاهرة اجتماعية لا تخلو منها جماعة بشرية متفاعلة في الواقع ،
سواء كانت شعبا أو حزبا أو جمعية ... ، سيبقى يعيق الحركة القومية وهي مشتتة ،
طالما انها لا تمتلك الآليات التي تمكنها ـ في وضعها الراهن ـ من حسم اختلافها ... وتلك الآليات هي بالتحديد : الوحدة التنطيمية ، والاسلوب
الديمقراطي ..
ثم يعني ثالثا أنه
اذا كان يستحيل على القوى القومية أن تنجح في تغيير الواقع بمفردها ، بسبب
امكانياتها الحالية ولو كانت مجتمعة ، فانه يستحيل عليها تحقيق المطلوب وهي مشتتة ،
حتى ولو بقيت تلوك الكلمات الثورية مائتي عام .. !!
ولكن ـ وهذا لا يمكن أن ننساه ما دمنا نتحدث عن العوائق ـ وهو تعدد التصورات للوصول الى بناء آداة الثورة العربية في المرحلة الراهنة ، بما في ذلك الحديث عن الحركة العربية الواحدة كما هي مطروحة في كتابات الدكتور عصمت سيف الدولة ، والتي تحوّل الجدل في بعض الأحيان الى عاصفة هوجاء تكاد تعصف بكل الأسس التي يرتكز عليها القوميون .. وهنا نقول ونسلم ـ اختصارا للطريق ـ بأن أسلوب بناء الحركة العربية الواحدة كما ورد في الكتاب الخامس من نظرية الثورة العربية ، وكما ورد تفصيله في الفرضية الأخيرة من بيان طارق ، يظل الأسلوب العلمي الوحيد الذي يضمن كل سبل النجاح أمام المشروع القومي ، الا أن التوفيق في انجاز هذا البناء يتطلب أولا وقبل كل شيء فهما خاصا يقوم على ربط الآداة بالأهداف والغايات المرحلية والاستراتيجية ، ثم ربط مراحل الإنجاز بالواقع في الكل العربي ، وفي كل موقع .. بما يعنيه الفهم من دراية بالمرحلة ، وما يتطلبه الإنجاز من أرضية صلبة وظروف موضوعية وذاتية مواتية تتعلق بالواقع العربي الراهن الذي غرق في الإقليمية والطائفية والشعوبية وغيرها .. بسبب الاستهداف المتواصل من الداخل والخارج ( انظمة رجعية ، استبداد ، قوى ظلامية ، مخططات استعمارية ...) زادت كلها في تشرذمه وتشتته من جهة ، وبواقع الحركة القومية التي أوغلت في التشظي والتشتت والصراعات ( اختلافات فكرية وسياسية ، زعامتية ، ... ) من جهة ثانية ، فضلا عن العوائق المعنوية والمادية التي تحيط بالمواطن العربي ( فقر ، بطالة ، عزوف سياسي ..) بسبب كل هذه الظروف مجتمعة ... وهو ما يعني أن التشبث بهذا الأسلوب دون قراءة موضوعية للواقع كما هو موجود ، يحوّل المجهود البشري الصادق الى عبث مثالي لا يزيد الفشل فيه الا يأسا وهروبا واحباطا لأصحاب المشروع قبل غيرهم ، وهو تقريبا ما عشناه في الواقع منذ خمسة عقود على الأقل .. اذ أن ارتقاء ذلك الأسلوب الى المرتبة العلمية لا يعني بالضرورة نجاحه في كل الظروف ، وهو أسلوب علمي ليس بمعنى أنه يستوجب التوقف عن الحركة النضالية خارج فكرة الأعداد وفي أي اتجاه آخر ( حزبية قطرية ، نقابية ، عمل جبهوي ..) ، بل بمعنى أنه يتفق مع طبيعة الواقع العربي المجزئ الى أقطار لها وجود " قانوني " أمام المجتمع الدولي يمنع ظمها بالقوة ، ولها دساتير قائمة تمنع حكامها ـ حتى القوميين منهم ـ من مخالفتها ، ولها شعوب تتجاذبها مشاريع مختلفة أغلبها يعمل على تضليلها وتشكيكها في جدوى الحديث عن المشروع القومي .. وكل هذه المعوقات تمنع من تحقيق الوحدة بالأساليب الإقليمية ، حيث سيعود كل حزب قومي يصل الى السلطة الى نقطة الصفر التي انطلق منها حينما يجد نفسه داخل تلك المنظومة الإقليمية التي عمل على اسقاطها ولو ديمقراطيا .. وهذا في أحسن الأحوال اذا كان حزبا إقليميا جماهيريا أغلبيا الخ .. لانه سيتحول بعد ذلك الى ظاهرة صوتية عاجزة عن تحقيق الوحدة ولو كسب كل القاعدة الجماهيرية في اقليمه طالما ان الوحدة مرفوضة من خارجه ..
ماذا يعني هذا ..؟
انه يعني قبل كل شيء ان صفة العلمية مرتبطة أساسا بتامين ظروف النجاح للمشروع القومي وهو مواجهة الواقع القومي الذي يزداد يوما بعد يوم تنوعا وتعقيدا ، بآداة قومية لها خصوصيات محددة متصلة أساسا بواقع الحركة القومية المطالبة بتحقيق مشروعها في كل الظروف التي تمر بها الامة .. لكنه لا يعني على الاطلاق الوقوف عند تلك المسلمات دون استجابة للواقع الذي يعيشه القوميون في كل الأقطار وهو التعدد والانقسام والتشرذم .. ولا يعني ابدا العودة الى الصفر للفرز من جديد والاعداد المعزول عن هموم الناس ومشاغلهم والاقتصار على العمل النخبوي تاركين الساحات للقوى الرجعية التي تعمل على جميع الجبهات لتفتك كل المواقع وبعضها الآن قد تجاوز العمل السياسي الى العمل المسلح .. !!
صفة العلمية اذن ، لا يمكن فهمها الا في اطار فهم العلاقة بين متطلبات العمل التنظيمي الاستراتيجي وهو بناء الحركة العربية الواحدة ومتطلبات الواقع ، وهي في الوقت الراهن لا يمكن أن تتحقق الا بوضع خطة شاملة تصل البدايات بالنهايات على مراحل تراعي واقع الحركة القومية كما نراها اليوم ، لا كما نتصورها .. وان كان لا بد من الفرز ـ وهو ضروري ـ فلا بد ان يكون على أسس موضوعية تقيس الحلول بما يمكن إنجازه على المدى القريب ، وتقيس الجدوى بالمصلحة الاستراتيجية البعيدة .. ولعل من أوكد المهامات الحالية هو استرجاع قاعدة النضال القومي التي اختفت باختفاء الزعيم الراحل جمال عبد الناصر والتي بدونها لن يجد القوميون سندا معنويا وماديا لمجابهة تحديات النضال القومي التي تنتظرهم ..
ففي الواقع الحالي الحركة القومية موجودة كما هي بسلبياتها الكثيرة وايجابياتها القليلة ، البعض منها يتحفظ على البعض ، والكل ينتقد الكل ، ولكن الجميع يتمنون لو تتوحد دون اهتداء للإجابة على السؤال الجوهري : كيف ؟؟
الكثيرون يقولون لا بد من الفرز ، ثم لا يجيبون على نفس السؤال : كيف ؟
فان كان المقصود أن يبدأ الفرز خارج التنظيمات والفصائل الموجودة ، كأن يختار البعض بعضهم الآخر ويبدأون في البناء من الأسفل الى الأعلى حتى يصلوا الى التأسيس ، فهذا فصيل آخر يضاف الى الفصائل الموجودة .. !!
وان كان عن طريق أسلوب الاعداد التقليدي كما يحدث في الجامعات دون سقف زمني ، فان المناضلين سيجدون أنفسهم في الفراغ بعد التخرج ، وليس أمامهم ـ وهم يعيشون في مجتمع متحرك ـ سوى الانعزال والوقوف على الربوة ، أو الانضمام الى أحد الفصائل الموجودة في أقطارهم ، أو تشكيل فصيل إقليمي جديد .. !!
أما اذا كان المقصود هو الفرز داخل الفصائل الموجودة فانها مفرزة على أساس ما اتفق عليه داخل كل فصيل من قراءة للواقع وأهداف مرحلية ، ولا يؤدي المزيد من الفرز داخلها الا الى مزيد من الانقسام والتشظي .. !! وكل هذه الحلول لا تخدم الهدف الاستراتيجي في شيء ..
لا يبقى اذن ، الا الفرز من خلال الممارسة الموحدة التي يلتقي فيها العمل السياسي بالاعداد ، والتي يلتقي من خلالها القوميون في الواقع على مهام نضالية يحددون لها غايات وأهداف مرحلية واضحة ، متمكسكين بالثوابت القومية ـ وهم يحتكمون الى الديمقراطية والمصلحة القومية العليا ـ للتقليص من مساحات الاختلاف فيما بينهم حول المتغيرات ولو في مهمات ظرفية كالانتخابات ، والتحركات الشعبية ، ومساندة القضايا القومية ، وفي مجال الاعلام كإنشاء مراكز بحثية وتوثيق ودراسات وموسوعات فكرية ، ودوريات وقنوات فضائية ...الخ .. وصولا الى صيغ تنظيمية ارقى ولو الوحدة بين فصيلين في كل قطر ، من أجل خلق مناخ وحدوي يستحيل بدونه بناء حركة عربية واحدة على المدى القريب والبعيد .. هكذا استطاعت الحالة الوحدوية الجماهيرية التلقائية توحيد قطرين وشعبين متباعدين عام 1958 التفت حولهما الجماهير العربية من المحيط الى الخليج ولم تحدث بدونها بعد ذلك حين تغيرت الظروف ...
ثم لا بد من القول بأن هناك قاعدة كبيرة داخل كل فصيل قومي تؤمن بهذا الأسلوب اضطرتها اكراهات الواقع والصعوبات للانخراط في الأدوات الإقليمية ، فلا يجوز التشكيك في صدق ولائها أو تخوينها ، لما اختاره مناضلوها خلال هذه المرحلة الدقيقة بما تراكم فيها من معوقات في الواقع العربي وبما تشابه فيها من قول وعمل .. فلا يمكن بأي حال من الأحوال جعلها بمرتبة تشابه ألوان البقر على قوم موسى .. !!
فالانتهازيون والتحريفيون والرماديون الذين تنعتونهم ـ أيها القوميون ـ بهذه النعوت أو غيرها ، لن تتمكنوا من عزلهم ولن تستطيعوا حشرهم في الزاوية الا بمشاريع وتحديات اكبر منهم وبعمل يفضح تلك الصفات والطباع المتحكمة في ممارستهم .. أما أن يكون أقصى ما في مشروعكم أن تنافسوهم على نفس الارضية في نفس اللعبة محتكمين الى نفس القوانين ، فلن تستطيعوا أن تتفوقوا عليهم بالشعارات وحدها ، ولا بالتخوين ، ولا بالإدانة ، ولا بالدعوة للانسلاخ ، ولا بالهروب من مواجهة الواقع .. وقد كان الدكتور عصمت سيف الدولة نفسه ضد ممارسة هذا الأسلوب مع كل الفصائل القومية والعروبية حينما دعا في بيان طارق الى استثمار عملها في مرحلة الاعداد للحركة العربية الواحدة وذلك كما قال مؤكدا على هذه الناحية : " بينما تبقى المنظمات قائمة في مرحلة إعداد الطليعة العربية تكون قواعدها قد تهيأت فكرياً ، ونضالياً للتحول إلى قواعد للطليعة العربية ، بمجرد مولدها دون أن يحدث فراغ تنظيمي ، أو نضالي ، ويساعد على هذا ، أن كل تلك المنظمات ، أو أغلبها ، يعاني من فراغ فكري ، وعقائدي مروع ، بحيث أن الفكر الطليعي لن يجد صعوبة كبيرة في كسب القواعد ، والكوادر، حتى القيادات التي ستدعي أنه فكرها الخاص ، وشيء من هذا يحدث الآن حتى بدون تنظيم ، أي أن الأسس الفكرية لا تجد أية مقاومة داخل أغلب تلك التنظيمات ، ومع أن هذا يشكل خطراً على الفكر الطليعي ذاته عندما يتردد على ألسنة منظمات لا تلتزم به ، ولكن تدعيه وتنتحله تغطية لعجزها العقائدي ، إلا أن هذا يسهل مهمة التنظيم الإعدادي المؤقت ، إذ يسمح له القبول العام للفكر الطليعي ، كسب القواعد كسباً منظماً لحساب الإعداد للطليعة العربية ، فلن تستطيع القيادات التي رحبت بالفكر الطليعي ، ونشرته في منظماتها أن تقف ضد قواعدها إذا تحركت ، أو انتظمت تجسيداً للبناء الفكري الذي روجت له ، وبمولد ” الطليعة العربية ” سيكون الأمر بالنسبة إلى القواعد مجرد تغيير للإطار الشكلي للتنظيم والقيادة بدون أي فترة فراغ ، أما بالنسبة إلى القيادات فستكون مجرد عزلة عن القواعد التي تم تحولها بمساهمة منها ، وإن كانت غير مقصودة ، وعلى هذا لن يكون مولد ” الطليعة العربية ” في نهاية فترة الإعداد سوى طوراً تجاوزت به القواعد المنظمة مواقفها الفاشلة " .
ولكن هذا يحيلنا الى موضوع أكثر أهمية وأكثر تعقيدا عن مفهوم الاعداد وشروطه وظروفه وسقفه الزمني كما جاء اقتراحه في بيان طارق .. وهو بالتأكيد ليس نفس المفوم الذي يجري الحديث عنه في الوقت الحالي .. بحيث قد لا تكون محاولة اسقاطه في واقعنا تعسفا على البيان وحده ـ وقد جاء أسلوبه الخامس تحديدا متضمنا مقترحا عمليا يتلاءم مع المرحلة في مصر تحت قيادة عبد الناصر ـ بل تعسفا على الواقع الراهن ، اذ بالتأكيد أن الظروف غير الظروف .. وهذا واضح فيما جاء على لسان عصمت سيف الدولة نفسه بعد سبع سنوات من صدور بيان طارق حينما كان يعرض تفنيده لاتهام النيابة سنة 1972 بانشاء تنظيم سري باسم " أنصار الطليعة " بهدف اثبات مشروعية الدعوة لقيام التنظيم بقطع النظر عن صاحبه موضحا من ناحية أولى ماهية وطبيعة الوثيقة ـ التهمة فيقول : " ما هي طبيعة بيان طارق ؟ هل هو كتاب ، أم مقال ، أم نشرة ، أم منشور ، أم نداء ، أم رسالة ؟ هل هو علني ، أم سري ؟
لقد كتبت بيان طارق ، كدراسة ، وكثيراً ما كتبت دراسات مثله ، إما لكي تتحول بعد ذلك إلى مقال ، أو إلى جزء من كتاب ، أو أن تبقى معي .. وقد كتبت دراسات مثله لغيري ، ومنها الدراسة التي كتبتها عن البرجوازية الصغيرة بناء على طلب التنظيم الناصري في لبنان ( إتحاد قوى الشعب العاملة ) ، وهو من بين المضبوطات في صيغة خطاب … كذلك الأمر بالنسبة للرد المطول على بيان المؤتمر القومي لحزب البعث السوري الذي انعقد سنة 1968 ، لقد أعددت الرد ، وقام بطباعته ، وقام بتوزيعه في سورية ، الاتحاد الاشتراكي السوري ، ويشهد بذلك السيد “جاسم علوان” الأمين السابق للإتحاد الاشتراكي العربي في سورية ، الذي أخذ الدراسة مني ، وقد كان “ بيان طارق”، قبل أن يسمى بيان طارق ، دراسة من هذا النوع ، أعددتها بناء على طلب أمين عام حركة “الوحدويين الاشتراكيين في سورية” ـ المحامي محمد الخير ـ الذي قام بطباعته ، وأعطاني نسختين منه . وفي صيغة البيان تأكيد لطبيعته الدراسية ، فهو لا يتضمن ، أي نداء إلى أحد ، ولا يطلب من أحد أن يفعل شيئاً ، باختصار: إنه دراسة تقريرية ، وعندما انتشر في سورية ، ثم انتقل إلى الأردن ، حيث أطلقوا عليه اسم “بيان طارق” ثم إلى أقطار عربية كثيرة ، تحول عن طريق الاقتناع به إلى نوع من الوحدة الفكرية بين عديد من الشباب العربي المنتشرين في الكثير من الأقطار العربية ، كل ما يجمع بينهم أنهم قرأوه ، واقتنعوا بصحة مضمونه فاعتبروا أنفسهم ” أنصاراً ” للطليعة العربية ، بدون أن يعرفوا من الذي وضعه ... "
ومن ناحية ثانية مدى تطابق الدعوة للاعداد في مصر مع ظروفها في ظل قيادة عبد الناصر صاحب الدعوة الأولى لقيام الحركة العربية الواحدة مؤكدا وجود نسختين مختلفتين الأولى لسوريا والثانية لمصر نظرا لاختلاف الواقع في كل منهما فيقول : " كتب “ بيان طارق” في سنة 1966 ،في ذلك الوقت ، ولم تكن في الوطن العربي كله دولة تدعو وتحمي الدعوة إلى “الحركة العربية الواحدة” إلا ج.ع.م بقيادة عبد الناصر .. كانت ليبيا تحت حكم ملكي ، وكان السودان تحت حكم الأزهري ، وكانت سورية تحت حكم الذين يعتقدون أنهم وحدهم الحزب القومي القائد .. إلخ ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى، كان “بيان طارق” دراسة لمشكلة قومية ، لأن “الحركة العربية الواحدة” حركة قومية غير مقصورة على أي بلد عربي ، ولا حتى على ج.ع.م ، فلم يكن من الممكن أن يتضمن “ بيان طارق” طريقة واحدة للإعداد الفكري والبشري الذي يمهد ويسبق قيام التنظيم القومي . كان القدر المشترك الذي يستهدفه هو : أن يتحول الشباب العربي في كل مكان ، وفي أية منظمة ، إلى أنصار للطليعة العربية ، بدون أن يغادروا أماكنهم ، أو يخرجوا على منظماتهم . أما كيف يتحولون ؟ وماذا تكون العلاقة فيما بينهم ؟ وماذا تكون مواقفهم من السلطات في الدول التي يقيمون فيها ؟ فإن تلك المواقف متباينة تباين النظم التي يعيشون في ظلها .. وكل هذا لم يكن من الممكن تحديده مقدماً . وهكذا جاء “بيان طارق” لينص نصاً صريحاً على أن طريقة ممارسة الدعوة في كل قطر عربي ، متروكة للأنصار يختارونها بما يناسب ظروفهم . إلى هنا ، لا يكون “ بيان طارق” مسؤولاً عن أية طريقة يختارها “ الأنصار” في أي قطر، بمعنى أنه من وجهة النظر القانونية ، يتحمل “الأنصار” في كل قطر، مسؤولية الطريقة التي يختارونها ، ولم تكن هذه القاعدة تمنع أن يتضمن “بيان طارق” نماذج للممارسة من واقع الأقطار العربية أو بعضها .. ولما كان “ بيان طارق” وليد مساهمة “أثنين”، أحدهما عالم بظروف سورية في ذلك الوقت ، والآخر ” أنا ” عالم بظروف ج.ع.م، فقد تضمنت النسخة المعدة لسورية هيكلاً تنظيمياً للممارسة ، أما في ج.ع.م فقد نص “ بيان طارق”، نصاً صريحاً ، قاطعاً ، على أن أسلوب الممارسة فيها ، هو الدعوة الفكرية ، وأضاف البيان : لأنها مشروعه ـ إذن فلا شبهة في أنه ـ طبقاً ، “ لبيان طارق”، يكون أسلوب دعوة “الأنصار”، في الجمهورية العربية المتحدة ، هو الدعوة الفكرية ( الكتب ـ المقالات ـ المحاضرات ـ الدراسات ـ الحوار، والمناقشات )، ولا شبهة ، في أن مبرر اقتصارها على هذه الطريقة ، هو الحفاظ على شرعيتها ، حتى ـ وكما جاء في بيان طارق ـ لا تقع الدعوة القومية في تناقض صريح أو ضمني مع قيادة ناصر .."
صحيح أن الدكتور عصمت سيف الدولة رفض على مدى حياته الانخراط في أي أداة إقليمية باعتباره صاحب الدعوة للمشروع القومي الذي يجب ان تتلاءم منطلقاته وغاياته مع أسلوبه ، بحيث لا يصبح ـ بالنسبة له ـ الانخراط في تحقيق الغايات القومية في الواقع العربي بالوسائل الإقليمية دعوة فاشلة فحسب ، بل مناقضا للمبدأ الذي سخر حياته من أجله وهو يحرض الناس لالتزام به .. كما كان يدين ـ من واقع المسؤولية الأخلاقية ـ أي عمل يثير الالتباس في أذهان الناس بين الاسلوبين حينما يصبح ممكنا أن يكون أحدهما بديلا عن الآخر بدعوات قومية مضللة .. لكنه لم يتنكرا مطلقا للواقع كما هو موجود .. ولم يكن يدعو الناس الى السلبية ، والفراغ ، والقفز على الواقع ، بل نجده يقف مواقف إيجابية أمام كل خطوة تؤدي الى التكتل والوحدة ، فشجع في مناسبات عديدة على أي تقارب ليس بين الفصائل القومية فحسب بل وحتى بين الفصائل القومية والماركسية والعروبية من أجل تحقيق غايات مرحلية .. بل انه ذهب أكثر من ذلك مشجعا أي مبادرة صادقة بين الأنظمة الإقليمية الخ .. بشرط أن لا تتوقف تلك المبادرات عند تحقيق المصالح الإقليمية .. وأن لا تكون مطروحة كصيغ بديلة للحركة العربية الواحدة ، فكان يباركها من جهة ، ويفضح أهدافها حينما تكون منحرفة من جهة أخرى .. كما انه كان ـ قطعا ـ يميز بين المبادرات التي تأتي ـ صدقا ـ من جانب القوميين وبها شبهات إقليمية عارضة ، ومثيلاتها التي يقترحها الاقليميون ـ تضليلا وخذلانا ـ للمشروع القومي .. والأمثلة على هذا التعاطي الإيجابي كثيرة .. والا كيف نفسر تفاعله مع قادة الثورة في ليبيا التي تقود مؤسسة إقليمية حينما زارها في أكتوبر سنة 1970 وقبل مقترح تكليفه بكتابة وثيقة تنص على كيفية الاعداد لمشروع تنظيم قومي يبدأ من هناك كما جاء شرحه مفصلا في كتابه عن الناصريين واليهم ؟
وكيف نفسر تفاعله الإيجابي مع وثيقة بني غازي ودستور الجمهوريات العربية بين مصر وسوريا وليبيا كما جاء متضمنا لـ " ضرورة تهيئة المناخ لقيام الحركة العربية الواحدة ، بالدعوة لقيامها ، وبالحوار الفكري لإنضاج نظريتها ، وبالإعداد البشري في إطار المنظمات القائمة لتجهيز كوادرها . إن هذا الأسلوب كأي حل صحيح ، لمشكلة واقعية يصل إليه الناس ، إما عن طريق الوعي والدراسة العلمية ، وإما عن طريق التجربة ـ لا يهم ـ المهم ، أنه بعد وفاة الرئيس عبد الناصر ، أصبحت دولة اتحاد الجمهوريات العربية الناشئة ، بكل رؤسائها ، وحكوماتها ، ومؤسساتها السياسية ، وجماهيرها ، من “ الأنصار”، لأنهم جمعياً قد التزموا في مباحثات بني غازي بأمرين ، الأول : تأجيل إنشاء الحركة العربية ، والثاني : الإعداد لإنشائها في الوقت ذاته .. إن كلاً من الاتحاد الاشتراكي في مصر العربية ، وفي ليبيا ، وحزب البعث والأحزاب المشتركة معه في الجبهة في سورية ، كل هذه المؤسسات قد أصبحت تنشط في خطوط محددة :
أ ) أن ليس أي منها هو الحركة العربية الواحدة ، ولا البديل عنها ، وبالتالي كما نص ، في”إعلان بني غازي” لا ينبغي لأي منها أن تنشط خارج حدود دولتها . لقد اعترفت كل منها بحقيقة ماهيتها الإقليمية.
ب ) أن تكون معاً “جبهة” إلى أن تقوم الحركة العربية الواحدة ، وهو ما يعني أن الجبهة ، صيغة مؤقتة ، وأنها ليست البديل عن الحركة العربية الواحدة .
جـ ) أن تعمل جميع تلك المؤسسات “من حزبية ومؤسسات دولة في الدول الثلاث” على تهيئة المناخ لإنشاء الحركة العربية الواحدة ، وهو ما يعني أنها هي كمؤسسات ، وأحزاب ، وجبهة ، ليست الجهة التي تقيم الحركة العربية الواحدة . إنهم جميعاً قد اهتدوا إلى “بيان طارق” ، والتزمو به ، بدون أن يعرفوه ـ اهتدوا إليه عن طريق البحث عن الحل الصحيح لمشكلة قومية قائمة ، وتبنوا أسلوبه .." . ( عصمت سيف الدولة / ملاحظات للدفاع في الجناية 37 لسنة 1972 ـ عرض أ ـ حبيب عيسى ) .
ثم كيف نفسر تفاعله الإيجابي أيضا مع مبادرة نظام عبد الناصر ومؤسساته الإقليمية ممثلة في المؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي الذي ربط فيه مناسبة اتخاذه لقرار اعادة النظر في تطوير مشروع الميثاق الوطني بإمكانية تحويله الى ميثاق قومي ، وتطوير الاتحاد الاشتراكي إلى فرع لتنظيم قومي تحت قيادة عبد الناصر ، بحيث تصبح عملية التحضير لقيام الأنصار منذ 1966 ،عملا تمهيديا لقيام القاعدة الجماهيرية للتنظيم القومي حين يحدث التطوير سنة 1970 فقال موضحا الفكرة في فقرة مطولة من نفس المرجع : " كتب بيان طارق في منتصف 1966 ليحل المشكلة الآتية على وجه التحديد ، فالحركة العربية الواحدة ضرورة تاريخية ، إذن يجب أن تقوم وجمال عبد الناصر القائد القومي لأعرض الجماهير العربية يعلن ويكرر، أنه لن يقيمها ” حتى لا يزج بدولته في صراعات مع الأحزاب خارج حدودها ، إذن يجب أن تتولى الجماهير العربية نفسها إقامة حركتها العربية الواحدة ، ولكن النظام القائم في ج.ع.م لا يسمح بإنشاء منظمات سياسية … فلا يتبقى إلا أحد أمرين : إما أن تقوم الحركة العربية الواحدة بصرف النظر عن موقف النظام في الجمهورية العربية المتحدة ، وبالتالي تنشأ متعارضة معه ، وهو ما يعني أن تقع تلقائياً في صفوف القوى المعادية لقيادة حركة التحرر العربي ، وإما أن يتبع في قيامها أسلوب خاص يستجيب لضرورتها التاريخية ، ولا يتناقض مع قيادة جمال عبد الناصر بالذات .. هذا الأسلوب ، أو حل هذه المشكلة القومية هو ما جاء به بيان طارق .. وفي البيان ذاته استعراض لكل تلك العقبات ، وفيه تركيز واضح وقاطع ، على أن أعرض العقبات هي أنه بينما تقوم ضرورة قومية تاريخية لإنشاء الحركة العربية الواحدة ، فإن ج.ع.م تمنع الشعب العربي فيها ، الذي هو ثلث الأمة العربية ، من المساهمة في إنشائها من ناحية ، بينما تقتضي المصالح القومية عدم التناقض ، لا صراحة ، ولا ضمناً مع قيادة جمال عبد الناصر … هذا وارد بأوضح ما يكون في بيان طارق وهو دليل غير قابل للنقض على أن وراء بيان طارق إرادة واعية لضرورة الحفاظ على الشرعية في ج.ع.م ...وكان الحل (حل التناقض بين التنظيم القومي وقيادة ناصر..) الذي أورده “بيان طارق” بعد دراسة مطولة لعناصر المشكلة ، حلاً ذا شقين ، الشق الأول : تأجيل إنشاء التنظيم القومي حتى سنة 1970، وهي السنة التي كانت محددة ، ليعيد المؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي العربي في مصر النظر في ميثاق العمل الوطني ، ويقيّم تجربته ، ويطوره ، كما أن “بيان طارق” أورد مبرراً محدداً لاختيار تلك المناسبة .. هذا المبرر هو أنه ، لو استطاع الشباب العربي أن ينجز كل ما جاء في بيان طارق ، فإنه سيكون من الممكن بمناسبة أعادة النظر في الميثاق ، أن يجد مناسبة لتطوير ميثاق الاتحاد الاشتراكي إلى ميثاق قومي ، وتطوير الاتحاد الاشتراكي إلى فرع لتنظيم قومي تحت قيادة عبد الناصر، وهو دليل آخر من “ بيان طارق” ذاته ، على الحرص ، على ألا تنشأ الحركة العربية الواحدة بعيداً عن مساهمة الشعب العربي في مصر، أو من موقع التناقض مع قيادة عبد الناصر . الشق الثاني : الانتفاع بالفترة الزمنية من 1966 إلى 1970 في أن يعّد الشباب العربي نفسه فكرياً ، وسياسياً ليسهم في إنشاء الطليعة العربية ، عندما يجيء الوقت المناسب لإنشائها . وبهذا الإعداد الفكري، والسياسي ، المقصود به تأهيل الشباب العربي لعضوية الطليعة العربية ، يكون الذين يعدون أنفسهم “ أنصاراً للطليعة العربية”، وتكون حركة الإعداد ذاتها ، هي “حركة أنصار الطليعة العربية” .. " . ( عصمت سيف الدولة / المرجع السابق ) .
للحديث بقية ..
( القدس ) .
( القدس ) .
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق