الوحدة العربية بين دعاتها وأعدائها .. (27) .
وثالثا : الحقائق
...
هل هناك ما يبرر الهروب
من مواجهة الفشل بالنسبة الى حركة مهمّتها تغيير الواقع ..؟
وهل هناك من القوميين
من يقبل بالتخلي عن آداة الثورة العربية ويبقى منتسبا الى صف الطليعة العربية ..؟
قد يكون الجواب
جازما بالنفي .. لو لا وجود ظاهرة صوتية ، تثير لغطا شديدا ، وتعمل على تحويل
الانظار من المهام الرئيسية المطروحة على الحركة القومية من خلال مراكمة النضال
الوحدوي لصالح المشروع القومي ، الى المهمّات الفرعية التي يتحول من خلالها القوميون
الى مجرد قوى احتجاجية فاقدة للهوية القومية ، تراكم من خلال الممارسة النضالية
لصالح القوى الرجعية .. !!
أليس هذا هو جوهر
العمل المواطني الديمقراطي اللاّ ايديولوجي ..؟
ولماذا يشترط في
النضال الحقوقي والمواطني التخلص من الايديولوجيا ، والايديولوجيا القومية تحديدا ..؟
الا يمكن للحركة
القومية ان تخوض كل هذه النضالات بهويتها القومية ..؟
فلماذ اذن يقبل التعامل مع القوى الاخرى كما هي بهوياتها
الفكرية والايديولوجية المختلفة ، بينما تعتبر الحركة القومية استثناء في التعامل على تلك الخلفية ..؟
هناك اذن محاولات واضحة لاستدراج الحركة القومية بعيدا
عن طبيعتها ومهمّاتها ودورها القومي داخل المجتمع قد يكون وراءها ـ في ظل حسن
النية ـ غياب الفهم الموضوعي للعديد من الظواهر والاحداث والعلاقات بينها جميعا ،
لا تلبث أن تتحول الى مواقف تدين ـ دون استثناء ـ كل ما يفرزه الواقع القومي ، فلا
تعرف كيف تتعامل معه تعاملا صحيحا ، وهي
لا تعترف بكثير من مميزاته وخصوصياته ، مما يجعلها تتخبط في مواقف متناقضة ..
* وبعض هذه
المواقف ترتكز في تعاطيها مع قضايا الصراع الاجتماعي والديمقراطية وحقوق الانسان
بشكل خاص في الأقطار العربية ، بالقياس على وضع الدول الغربية ، وهو أمر مشروع
ومطلوب ، غير أنه يغفل علاقة مهمّة تأثر
سلبا على الواقع العربي وايجابا على
الواقع الاوروبي ، ألا وهي علاقة الاستبداد بالتجزئة عندنا ، وعلاقة الديمقراطية
بالوحدة عندهم ..
ففي الواقع الاوروبي لعبت الوحدة القومية دورا هاما في
فرض سيادة الدول ، واستقراها الداخلي مما جعلها تتفرغ لمواجهة ظروفها ومشاكلها
الخاصة لتبني من خلالها اسس تقدّمها ونهضتها القومية ، وهو ما جعل تلك الجوانب
الايجابية تنعكس ايجابيا على أوضاعها السياسية والاجتماعية ، ومنها جوانب
الديمقراطية وحقوق الانسان .. في حين أن تحقيق مثل هذا الامر في كثير من الاقطار
العربية غير ممكن التحقق بنفس الدرجة بحكم قلة امكانياتها وعجزها عن مسايرة التقدم
بكل جوانبه العلمية والصناعية والانتاجية الكبرى التي أصبحت سمة من سمات هذا العصر
في جميع مجالات الحياة ، في الصحة والتعليم ، والنقل ، والاستهلاك الغذائي ، وفي
الاعلام و في وسائل الدفاع في المجال العسكري ... وحتى في الثقافة والترفيه الخ ..
حيث لا حرية بدون استقلالية في كل هذه الاحتياجات والضروريات .. وبالتالي لا
ديمقراطية ولا حرية ، ولا حقوق ، الا بقدرما تكون ـ تلك الدول العاجزة ـ تابعة
للجهات التي توفرلها كل هذه المستلزمات ..
فلا ديمقراطية اذن بدون نظرة ايجابية للواقع القومي ، التي تضع في حسابها علاقة
الديمقراطية وحقوق الانسان والاستقلال والتقدم والرخاء بالوحدة ..
طبعا اذا كان هذا صحيحا ، لا بد من النظر الى الحركة
القومية ، نظرة ايجابية أيضا .. باعتبارها ضرورة تاريخية في حياة الشعوب والامم المجزأة
، حيث ترتبط تطلعات الناس الى الحرية والديمقراطية في أي قطر من أقطارها ، بالحلول
النهائية لمشكلات الواقع ، فلا تعود بعدها الى الاستبداد ، أو الى تزييف الارادة
الشعبية وغيرها من الانتكاسات باهضة الثمن دائما ، التي لا يمكن تجنبها الا بتوفر أهم
شرط من شروط الاستقلال الحقيقي متمثلا في الوحدة
القومية ، وهو هدف يفترض أن تعمل كل الأطراف داخل المجتمع على تحقيقه باعتبار ما
تضيفه الوحدة من امكانيات لا تعود فقط على الحركة القومية وحدها بل على كل فئات
المجتمع ، وفي جميع مستويات الحياة : الاقتصادية والاجتماعية والامنية والثقافية
والعلمية والتكنولوجية وغيرها ..
فما المشكل اذن ؟؟
المشكل أن بعض الحقوقيين والسياسيين والمثقفين في الوطن
العربي يتجالهلون الظاهرة القومية فيتعاملون مع الحركة القومية كأنها حالة مصطنعة
، أونزوة عابرة ، أو نزعة الى التطرف والتعصب والانغلاق ، لا لزوم لها جميعا في عصر العولمة والانفتاح .. متجاهلين قوانين
الظاهرة القومية وصيرورتها في عالم ، لا تجوز فيه المقارنة الجارية بين الموحد والمجزأ
..
* بعض المواقف الأخرى ترتكز على ردة الفعل تجاه
الحالة " الثورية التي ظهرت في الوطن العربي منذ ثورتي تونس ومصر ، وهو ما سمّي
في ذلك الوقت بثورات الربيع العربي .. وقد كان مثل هذا الفعل مطلبا اساسيا وحاجة ماسة داخل
كل قطر بعد حالة الضعف والتخلف والاستبداد التي عاشتها الامة العربية من المحيط
الى الخليج ، فلم يعد ينفع للمستقبل غير التغيير الجذري عن طريق الثورات .. وقد
كانت القوى القومية بالفعل في الصفوف الأمامية منذ انطلاق الثورة الأم يوم 17
ديسمبر 2010 في سيدي بوزيد ، حتى أن العديد من التسجيلات التي وقع تداولها خلال تلك الفترة كان يظهر فيها المناضلون
القوميون بامتياز ..
وهكذا كان دور
القوميين وحضورهم اساسيا في كل الأحداث سواء في ساحة تونس أو في ساحة مصر ، وهو ما
يؤكد وقوفهم المبدئي في وجه الاستبداد مهما كان نوعه .. غير أن الأحداث منذ أن
انتقلت الى مصر ، التقطتها القوى الرجعية المتربصة والقوى الخارجية التي شعرت
بالخطر في تهديد مصالحها فكان مشهد العسكرة الذي انتقل من ليبيا الى سوريا ، أمرا لا علاقة له بالثورات
بقدر ما هو مبرّرا للتدخل الخارجي الذي يعمل على انهاء الثورات من اساسها .. ومن هنا
تغيرت أغلب المواقف على اسس واضحة ومسلمات تتلخص في مقولتين :
المقولة الاولى تقوم على أساس مسلمة بسيطة ومعروفة مفادها أن : الوجود شرط التطوّر .. ومعناه ببساطة ، أن
لا وجود لثورة تكون نتائجها اندثار المجتمع ، بتفكيك روابطه وانحلال نسيجه
الاجتماعي ، الذي يعود به مئات السنين الى الخلف
..
والمقولة الثانية تقوم على التسليم بأن الثورة فعل ايجابي لا يلبث حين ينتهي أن يُحدث تغييرا الى الافضل
. لذلك يتخذ العمل الثوري الحقيقي - طوال مسيرته - نسقا تصاعديا يراكم لاحداث ذلك
التغيير .. وعليه فان ما لا يجب تصديقه دائما ، هو القول بان كل من يستعمل العنف
ويدعي أنه يقاوم الديكتاتورية هو بصدد انجاز ثورة ..
فالثورة لها ملامحها وأسسها وأساليبها .. ولها أيضا منطلقاتها وغاياتها التي يتحدّد
بها شكلها ومضمونها مهما كان عاما وبسيطا مختزلا في شعارات .. ولهذا ، فالثورة يجب أن تكون شعـبية قـبـل كل شيئ ،
تـنـظمها وتؤطرها القوى الوطنية الثورية المعـروفة عادة برموزها ونضالها الطويل على
الساحة السياسية والنقابية والحقوقـية ، فلا يمكن مثلا ان يكون رموز الثورة غـرباء
عن الشعب ، ملثمون ، يحملون أسماء مستعارة ، قادمين كالجراد من ساحات بعيدة عن
ساحة الثورة ، جاهلين بواقع المجتمع وظروفه ومعاناته وتطلعاته .. كما يجب ان
يعـبّـر الثوار عن هموم الناس ومشاكلهم الحقيقية ليكونوا قادرين فعلا على قيادة
الثورة وتوجـيهها نحو أهداف معـلنة ومعـروفة .. وفوق هذا يُفـتـرض أن تـنأى تلك القيادات الثورية بنفسها - بحكم
نقائها الثوري وعقيدتها الثورية وأهدافها النبيلة الواضحة ومثـلها العـليا
ومشروعها التحرّري الانساني - عن كل الشبهات في التعامل مع الأطراف المعادية ، من
خلال الرفض المبدئي سواء للاتصال أوالتـنسـيـق أو التعاون مع القوى الرجعية
المحلية ، ومع الاعداء التاريخـيـيـن للأمة لانها تدرك انها ستـتـصادم معهم في
المستـقـبل .. ثم ترفض التمويل المشبـوه الذي يجـرّها الى التبعـية والتـنازل عن
أهدافها ، فلا تعتمد الا على قواها الذاتية متمثلة في أبناء الشعب وحدهم .. وكل
هذا كان غائبا ـ منذ البداية ـ في ساحتي
ليبيا وسوريا تحديدا ..
ثم ان الثورة الحقيقية لا يمكن أن تستهدف كيان الدولة
ومؤسساتها الامنية والعسكرية ، لكي لا تقود المجتمع الى نفس الفوضى التي عرفها العراق
بعد الغزو الامريكي ، بل تتجنب تلك الاساليب ـ عن وعي ـ لتحافظ على وحدة المجتمع وأمنه واستقراره على المدى القريب والبعيد
..
* وهناك مواقف ثالثة ترتكز في الظاهر على ما
ذكرناه سابقا مما كتبه الدكتور عصمت سيف الدولة في حديثه عن علاقة الديمقراطية
بالوحدة العربية حين قال : " الحل القومي بسيط ، فرض الديمقراطية في الدول
الاقليمية وحراستها وترك الشعب يكتشف بنفسه من خلال الممارسة أن مشكلات تطوّره
وتقدمه قومية موضوعيا .. " وقلنا أنه موقف يؤكد على دور الديمقراطية في
اكتشاف الحلول الملائمة لتطور المجتمع وعلى راسها قضية الوحدة ، ولا يُقصد به ـ
بالمرة ـ التخلي عن الاسلوب القومي ، والانخراط
عشوائيا في النضال القطري ، كأي طرف اقليمي ، تعويلا على وعي الجماهير في المستقبل
حينما تمارس الديمقراطية .. فمن قال ان الممارسة الديمقراطية السليمة لا تتاخر
قرنين أو أكثر في مجتمع متخلف ، ومحاصر بكل القوى المعادية للديمقراطية والوحدة
..؟؟
ثم ان الدراسة المذكورة
تتكون من 21 صفحة تغطي 18 صفحة منها حديثا خالصا عن الديمقراطية ، نشأة وتطورا ومفاهيم
.. يذكر فيها الدكتور جوانب عديدة ، ومنها
الديمقراطية في علاقتها بمفهوم الدولة من ناحية ، وبمفهوم الامة من ناحية ثانية ..
فالامة التي هي مسرح الاحداث
والمشكلات في الواقع ، تتحول كل مشكلاتها الى مشكلات قومية ، وهذا يصدق حتى
على حالة التجزئة التي تعتبر انتكاسة وحالة طارئة على الوجود القومي ، اذ أن الامم
لم تتكون اعتباطا ، بل ان وراء تلك الغاية
المتحققة ، نشاط انساني يتجه الى غاية
محدّدة هي البحث عن حياة أفضل .. وهكذا لا يمكن بعد استنفاذ كل المراحل السابقة على الوجود القومي ،
الرجوع الى الوراء .. فيكون واقع التجزئة عاملا مضادا لامكانية تحقيق تلك الغاية
التي اتجه اليها التطور ، بعد ان تعطلت في مرحلة من المراحل حينما طرأت عليها هذه
المشكلة ..
وينتقل الدكتور عصمت سيف
الدولة في نهاية الدراسة ، وفي الصفحتين الاخيرتين 19 و20 تحديدا ، الى الحديث عن
العلاقة بين الوحدة العربية والديمقراطية كعلاقة ذات اتجاهين يؤثر كل اتجاه منهما
في الآخر سلبا أو ايجابا ، بقدر ما تكون الواحدة منهما ( الوحدة والديمقراطية ) ملازمة للأخرى أو العكس ..
وهو ما يعني أن تطور المجتمع القومي ، مشروط بتوفر القوانين المساعدة على تطوّره
والمتمثلة اساسا في قوانين الجدل الاجتماعي ، أي الديمقراطية .. والديمقراطية التي هي اسلوب تطور المجتمع حينما
تتحقق في الدولة الاقليمية ، يمكن أن تكون الآداة المناسبة لتحقيق الوحدة بالطرق
السلمية .. الا أن عدم امتثال الحكام الى قوانين الديمقراطية حينما يكون المطلب هو
الغاء الدولة الاقليمية نفسها ، يعطي المبرر للثورة عليهم ، من أجل استرداد
الديمقراطية أولا ثم من أجل تحقيق كل المطالب الشعبية ثانيا ..
ولعل الاسئلة التي تطرح
نفسها هي : هل النضال من أجل تحقيق الديمقراطية في الاقطار معناه الانخراط بشكل
فردي في العمل الجماهيري ، أم الانظمام الى التنظيمات الاقليمية بدلا من الانتماء
الى أي فصيل قومي ؟؟ وهل النضال في الاحزاب القومية أصبح عائقا أمام تحقيق
الديمقراطية في كل قطر من الاقطار الخاضعة لهيمنة الأنظمة الاقليمة ؟؟ وكيف ستؤدي
الحركة القومية دورها المطلوب في ظل هذا الطرح ؟؟ هل يتخلى ابناؤها عن هويتهم
القومية ليتحوّلوا الى قوى احتجاجية تحت عناوين فضفاضة باسم المواطنة والديمقراطية
وحقوق الانسان وغيرها ؟؟
كل هذه الاسئلة نجد لها
جوابا واضحا عند الدكتور عصمت سيف الدولة في آخر الدراسة المذكورة ، ينفي تلك التأويلات
الخاطئة من اساسها حين يقول : " أخيرا ، كيف يقدم القوميون المناضلون من أجل
الوحدة الى الشعب العربي ما يثبت صدق وعدهم بأن دولة الوحدة العربية ستكون
ديمقراطية ؟ " .. ثم يجيب :" ليس بالوعود والايمان المغلظة ، ولكن
بالممارسة الفعلية ، بأن يكونوا هم انفسهم ومنظماتهم ديمقراطيين منذ البداية وخلال
المسيرة ، حتى النهاية . ديمقراطيين فيما بينهم ومناضلين من أجل الديمقراطية
وحراسا لها ، ومدافعين عن الشعب العربي ضد الاستبداد الاقليمي في كل دولة ...
"
هكذا يساهم القوميون في
تغيير واقع مجتمعهم اينما كانوا ، وهم بهويتهم القومية الواضحة ، التي تقود خطاهم
عبر مراحل النضال من محطة الى اخرى ، برؤية شاملة ، واهداف واضحة ، يراكمون بنضالهم
لصالح المشروع القومي الديمقراطي ، التحرري ، الوحدوي ، الاشتراكي ، دون أن يغيروا
بوصلتهم .. ولكن ماذا لو تعرضت الأقطار التي يناضلون فيها من أجل الديمقراطية الى
ما يعرّض سلامة وجودها الى الخطر ؟؟
هنا يجيب الدكتور عصمت
سيف الدولة بكل وضوح في الفقرة الأخيرة الواردة في الصفحة 21 فيقول : " نريد
أن نختم هذا الحديث بكلمة مختصرة عن علاقة كل ما تقدم بأزمة الديمقراطية في الوطن
العربي ، نضيف بها سببا لم يرد في عناوين البحوث المقدمة أو المنتظر تقديمها . ان
الدولة والديمقراطية من حيث هما نظام ادارة وتطوير المجتمع المشترك ، يفترضان
ابتداءا ، ان هذا المجتمع ، بامكاناته كلها ، متاحة لكل الشعب فيه حتى تبدأ عملية
التنظيم والتطور ، أما اذا لم تكن امكانات المجتمع متاحة للشعب بأن كانت محتلة أو
مغتصبة أو مستغلة أو تابعة لدول اخرى ، فان المشكلة التي تثور أولا تكون مشكلة
تحرر قومي . وهي قابلة للحل ديمقراطيا مثل كل المشكلات ولكنها حينئذ ستكون
ديمقراطية الثورة التحررية التي يلتزمها الثوار فيما بينهم ، فيعرفون أفضل السبل
الثورية لتحرير مجتمعهم ، أما رفع رايات الديمقراطية عالية وعريضة لتخفي مشكلة
الاستيطان والاستعمار الظاهر والتخفي والتبعية المفروضة أو المطلوبة فهو تواطئ ضد الشعب ، وضد الديمقراطية ، وضد الوحدة ، مع أعدائهم
جميعا "..
وفوق هذا فان المرحوم عصمت سيف الدولة يقطع الشك في كثير من الحالات بالتأكيد على أولوية واحدة لتحقيق كل أهداف النضال العربي : " بناء آداة الثورة العربية " ، فيقول بصريح العبارة وبشكل قاطع واضح الدلالات بعد هذا التاريخ الذي صدرت فيه الدراسة ردا على السؤال الذي طرحه عليه محاوره من مجلة الموقف العربي : " لو أردتم أن تحددوا للشباب العربي في كل أرض عربية أولويات عمله ونضاله في هذه المرحلة ؛ فكيف ترتبون تلك الأولويات ؟ فيجيب : " ألف باء النضال ؛ بل الألف التي تسبق الباء هو أن يملك المناضل أداة نضاله . والشباب العربي في كل أرض عربية لم يملك أداة النضال القومي { التنظيم القومي } . وبالتالي فان الأولوية المطلقة بالنسبة لأي شاب عربي قومي وبالنسبة للشباب العربي القومي جميعا أن يلتحموا في تنظيم واحد . بغير هذا وقبل هذا ستصب جهودهم النضالية كلها أو أغلبها في الحقول الإقليمية أرادوا أم لم يريدوا " .
وفوق هذا فان المرحوم عصمت سيف الدولة يقطع الشك في كثير من الحالات بالتأكيد على أولوية واحدة لتحقيق كل أهداف النضال العربي : " بناء آداة الثورة العربية " ، فيقول بصريح العبارة وبشكل قاطع واضح الدلالات بعد هذا التاريخ الذي صدرت فيه الدراسة ردا على السؤال الذي طرحه عليه محاوره من مجلة الموقف العربي : " لو أردتم أن تحددوا للشباب العربي في كل أرض عربية أولويات عمله ونضاله في هذه المرحلة ؛ فكيف ترتبون تلك الأولويات ؟ فيجيب : " ألف باء النضال ؛ بل الألف التي تسبق الباء هو أن يملك المناضل أداة نضاله . والشباب العربي في كل أرض عربية لم يملك أداة النضال القومي { التنظيم القومي } . وبالتالي فان الأولوية المطلقة بالنسبة لأي شاب عربي قومي وبالنسبة للشباب العربي القومي جميعا أن يلتحموا في تنظيم واحد . بغير هذا وقبل هذا ستصب جهودهم النضالية كلها أو أغلبها في الحقول الإقليمية أرادوا أم لم يريدوا " .
ثم ان المرحوم عصمت سيف
الدولة ـ من ناحية أخرى ـ لم يكف عن التاكيد في كتابته اللاحقة ، على ضرورة قيام
التنظيم القومي .. وليس كتابه عن الناصريين واليهم ، الا خطوة في هذا الاتجاه الجدي
الذي لم يتخل عنه طوال حياته .. وهذا نموذج مما قاله سنة 1991 في حوار صحفي مع الاستاذ
رياض الصيداوي متحدثا عن قضيتي الديمقراطية والوحدة يقول : " فالديمقراطية
لازمة كضرورة قومية لتطور الامة العربية من التجزئة الى الوحدة ومن الاستعمار الى
التحرّر ومن فوضى الاقتصاد الذي يسمونه راسمالية الى الاشتراكية .. " وهذا عن
جدواها ودورها بالنسبة لتطور المجتمع ، أما في علاقتها بالوحدة فيقول جازما :
" تنحصر قضية الديمقراطية قوميا كالآتي : أولا ، لا ديمقراطية بالنسبة
للانسان العربي دون ان تقود خطاه الى عمل قومي ، والتي نسميها دائما التنظيم
القومي .." ، وبعد أن يتحدث عن دور الديمقراطية في البناء الهيكلي لهذا
التنظيم والمحفاظة على استمراريته ، يتحدث أيضا عن دوره في مواجهة الدولة
الاقليمية دفاعا عن الحرية والديمقراطية لفائدة الجماهير العربية ، اذ أن هذه
الدولة من حيث طبيعتها الاقليمية لا يمكن ان تكون ديمقراطية طالما تجعلها تلك
الطبيعة معادية للوحدة فيقول بكل وضوح : " ان كل دولة اقليمية من حيث هي سجن
كبير أو صغير لجزء من الأمة العربية تفصله عن بقية الشعب وتمارس عليه التحكم
مرجعها بمرجع استبدادي ، ويصبح من العبث توقع أن تكون دولة اقليمية وديمقراطية في
نفس الوقت ." ..
والديمقراطية بالنسبة
للدكتور عصمت سيف الدولة ليست اسلوبا لادارة الاختلاف بين المختلفين داخل المجتمع
فحسب ، بل هي ايضا ، وبالتحديد في مجتمع مجزأ مثل المجتمع العربي ، تعدّ اسلوبا لتحقيق الوحدة القومية ، فلا بد ان يكون
القوميون اول المحتكمين الى أحكامها سواء كانوا على رأس السلطة أو في المعارضة ،
ولا يجب عليهم مخالفة تلك الأحكام الا حينما تقوم قوى من داخل أجهزة الدولة أو من
خارجها بتعطيل قواعد اللعبة الديمقراطية ، ومنع الشعب من تحقيق ارادته .. حيث يقول في هذا الصدد في نفس الدراسة متحدثا عن الحزب القومي الذي : " يقود الشعب الوحدوي في
كل الأقطار في مواجهة كل الدول الى أن " يلغي " دولتين على الأقل فيقيم
دولة الوحدة النواة ثم ـ وهذا على أكبر قدر من الأهمية ـ يزحف وحدويا ولا يتوقف
مهما طال الزمن الى أن تتحقق الوحدة العربية الديمقراطية .. " ثم يتساءل :
" ديمقراطيا ..؟ " ويجيب بعد ذلك : " نعم ديمقراطيا اذ الديمقراطية
اسلوب الشعب وغير متوقفة على الدولة ومؤسساتها .. أما الغاء الدولة الاقليمية
لحساب دولة الوحدة النواة أو الشاملة فهذا متروك لحكامها وما اذا كانوا سيخضعون
لارادة الشعب أم يقاومونه . ان خضعوا فلا مشكلة ، وان قاوموا فهي الثورة
من أجل استرداد الديمقراطية طريقا الى الوحدة العربية .. " ( الديمقراطية و
الوحدة العربية ـ مرجع سابق ) .
هذا يؤكد سطحية الفهم وسذاجة
الفكرة القائلة بان دور القوميين في المرحلة الراهنة يقتصر على تحقيق الديمقراطية
من أي موقع ، وبأي طريقة ، متخلين عن أحزابهم وهويتهم القومية ، مكتفين بالتحوّل
الى حالة احتجاجية لا ايديولوجية ، هدفها تحقيق الديمقراطية التي ستتيح الفرصة
للشعب لاختيار ما يريد .. !!
فالديمقراطية
بالنسبة للفكر القومي التقدمي لم تعد مجرّد موضوع للمبارزة الفكرية بين السياسيين
، الذين يعطونها بظهورهم بمجرد الوصول الى السلطة ، بل هي ـ بالنسبة له ـ اسلوبا
لتطور المجتمع من خلال تفعيل مبدأ الجدل الاجتماعي عن طريق التشريعات التي يفترض
أن تؤدي الى المشاركة الواسعة داخل المجتمع لمراقبة الدولة وتسييرها في نفس الوقت ،
لذلك لا يمكن للحركة القومية أن تختار غير الأسلوب الديمقراطي لكي تكون الوحدة ـ ايضا ـ خيارا شعبيا ديمقراطيا
، يهتدي اليه الناس بفضل العمل الريادي الذي يؤديه الطليعيون بين صفوف الجماهير وهم
يعملون على استرداد الديمقراطية الى الشعب حسب الظروف المتاحة في واقعهم :
ـ
أولا من خلال العمل الثوري داخل الاقطار التي يحكمها الاستبداد وتغيب فيها الاساليب الديمقراطية ..
وثانيا
من خلال دفاعهم عنها وحمايتها داخل الاقطار التي يوجد فيها هامش ديمقراطي وتسعى فيها الرجعية لتزييفها وافراغها
من مضامينها السياسية والاجتماعية ..
وثالثا
من خلال التوعية والدعاية والمشاركة السياسية داخل الاقطار التي يتوفر فيها قدر
هام من الديمقراطية الحقيقية ..
وهكذا
تصبح قضية الوحدة مشكلة ديمقراطية فعلا ، وهي الاضافة العميقة التي قدّمها الدكتور
عصمت سيف الدولة في ترسيخ دور الحزب القومي في خوض النضالات التي يخوضها القوميون
داخله في كل المراحل ، وفي كل الحالات التي يمكن أن يعيشها المجتمع ، وليس
بتحوّلهم الى حالة مائعة لا لون لها ولا رائحة
..
ثم
هل هناك في العالم عمل عفوي ، تلقائي تتحكم فيه النوايا الحسنة ، ولا تحكمه
اللوبيات ومراكز البحوث الاستراتيجية حتى نتهم الحركة القومية بالايديولوجيا
وكأنها الاستثناء في هذا العالم الملائكي ..؟؟
فماذا
نسمّي الفكر الصهيوني الذي يستهدف الوجود القومي اذن ؟؟ وماذا نسمّي الفكر
الليبرالي ، والفكر الوهابي ، والفكر الاخواني .. ؟؟
وماذا
تفعل الدول المدافعة عن مصالحها في العالم غير نشر افكارها وثقافتها وايديولوجياتها
الخاصة ؟؟
فهل
نقاوم كل هذه القوى والاستراتيجيات بالفوضوية الجديدة التي اصبح لها رواد ودعاة وقادة
في الوطن العربي بعد ثورتي تونس ومصر .. ؟؟
نحن
لا نشك في حقيقة ناصعة لا غبار عليها تحدث منذ أكثر من نصف قرن ، وتقود السياسات
في العالم لو تأملناها لتبينت
لنا جملة من المعطيات المهمّة المؤثرة في حياتنا وظروفنا ومستقبلنا جميعا ، بعضها
وقع اعداده في مخططات سابقة منذ الخمسينات كما تقول بعض التقاريرالواردة عن الجامعات
ومعاهد الدراسات ومراكز البحوث الاستراتيجية في واشنطن ولندن وتل أبيب وغيرها ..
بكل ما فيها من باحثين وأكادميين وأساتذة مختصين في جميع مجالات الحياة من أول
العلوم السياسية والاقتصادية والاحصاء .. وعلماء الآثار والانتروبولوجيا والمؤرخين
والفلاسفة وعلماء الاجتماع .. والاخصائيين في علم النفس وتاريخ الاديان والحضارات
... وكل مجالات العلوم الحديثة .. الى آخر مجالات الاسطورة والسحر والشعوذة
المنتشرة في بعض المجتمعات التي تستهدفها اطماع تلك الدول ، وهم منكبون من أجل وضع
المخططات التي تقود خطاهم على المستوى الاستراتيجي ، فضلا عن دورها في توجيه الرأي
العام العالمي الى حيث تتجه أهدافهم ومصالحهم ..
لذلك نرى غير بعيد عن
هذا ، اتجاه التنظير العالمي حول الصراع باعتباره قاعدة أو أصل يحكم
العلاقات داخل المجتمعات الانسانية كما تقول تلك المقولة البسيطة ( عـندما
يوجد فـرد يسود السلام وعـند وجود اثـنيـن ينشأ الصراع وعـند وجود أكثـر تبدأ
التحالفات ) ، وعلى هذا الاساس فنحن علينا ان نقبل بوجودهم بيننا ، لان صراعنا
معهم ليس باختيارنا او باختيارهم فهو كما تقول تلك النظريات (ان قانون الصراع هو
الذي يحكم الكون ) ، ومن هنا تبدأ المغالطة ، اذ سيكون أمامنا غير حل من اثنين :
اما أن نقبل لعبة الصراع الطبيعي الذي ستميل نتائجه الى الاقوى كما حصل داخل الوطن
العربي في مناطق عديدة مثل العراق وليبيا ، واما أن نقبل التفاوض على قاعدة قبول
شروطهم المجحفة كما جرى في السودان ودول الخليج العربي ، وعدة دول عربية اخرى
بدرجات متفاوتة ..
ولعل الملفت للنظر في
هذا الجانب ، أن ما يتجه اليه التنظير في مراكز البحوث المتقدمة في العالم ، نجده
يتحقق في الواقع ، وهو ما يؤكد أن ما يصدر من تنظير عالمي في مجالات الصراع الدولي
والعلاقات بين البشر تتحكم فيها غالبا مراكز بحثية متقدمة تعمل على توجيه الرأي
العام من أجل تمهيد الأرضية التي تساعد الدول الكبرى على تنفيذ مخططاتها بالوسائل
المناسبة .. وهكذا نجد ان ما يحدث في واقعنا من احداث وتطورات يبدو فيها "
الآخر " على جاهزية تامة ، انما سببه ما يسبق ذلك الفعل من أبحاث ودراسات
وجمع معلومات وتخطيط وموازنات داخل المراكز المتخصصة قبل وقوع الأحداث بعقود ، لكي
يتم التحكم في اتجاهها من قبل الاجهزة المشرفة على ذلك التخطيط لتحقيق النتائج
المرسومة على ارض الواقع ، وهو ما يجعل المشهد برمته أشبه بتلك الاضواء القادمة
الينا من الفضاء الواسع ، وبعضها لم يعد موجودا رغم ما يحدثه بيننا من انبهار
.. وذلك راجع لطول المسافة التي يقطعها الضوء والتي قد تستغـرق وقتا أطول من العمر
المتبقي للمصدر الذي انبعث منه .. ونحن اذا اطلعنا على ما يقع تسريبه من خطط وأهداف
استراتيجية للدول الكبرى نجد أن ما يحدث الآن لم يكن وليد الدراسة الآنية بقدر ما
هي عملية التقاط للحظات التاريخية التي تقع في سياق المتغيرات ، بحيث يتم توظيفها
بالاساليب الحالية في اطار الخطط الاستراتيجية المدروسة والجاهزة منذ عقود .. وفي
هذا السياق يمكن ان نعود الى دراسة نشرها مركز الكاشف للمتابعة والدراسات سنة 2011
، حول الاطماع الدولية في الوطن العربي بعنوان " خطط تفتيت المنطقة هل ستأخذ
طريقها الى التنفيذ " ، فنقرأ فيها لابراهيم علوش " خطة تقسيم العراق "
بما فـيها الدور الامريكي والايراني والاحزاب العراقية التي تدور في فلك هذا وذاك
، وحيث يعود الكاتب الى جذور المشروع الذي هو بالاساس كما يقول : ( مشروع يهودي
قديم ، ولعل اقدم وثيقة صهيونية تتحدث رسميا عن تفكيك العراق والوطن العربي هي تلك
المعروفة باسم وثيقة كارينجا ، الصحفي الهندي الذي اعطاه جمال عبد الناصر وثيقة
" هيئة الاركان الاسرائيلية " حول تفكيك المنطقة ، فنشرها في كتاب يحمل
عنوان "خنجر اسرائيل " عام 1957 .. ) . كما نقرا للكاتب ممدوح اسماعيل
تحت عنوان " تقسيم العراق كابوس على الجميع " يذكر فيه سعي المخطط
الصهيوني والامريكي للتركيزعلى التناقضات داخل المجتمع العربي لتحقيق مشروع
التقسيم الذي هو كما يقول " مخطط قديم للولايات المتحدة مارسته مع
الاتحاد السوفياتي ويوغزلافيا وتشيكزلوفاكيا حيث عمدت الى اشعال وتغذية النعـرات
العرقية وتقويتها للانفصال بحيث لا يبقى كيان قوي متحد ، فتفككت تلك الدول الى
دويلات وهي خطة وُضعت مسبقا للعراق ولبعض الدول العربية لتفتيت المنطقة العربية " .. كما يذكر امثلة حية لذلك على غرار ما حصل في السودان والعراق ( السنة
والشيعة والاكراد ، ودارفور .. ) الخ .. وفيها ايضا خطة تقسيم مصر في وثيقة منشورة
منذ الثمانينات للدكتور حامد ربيع ، التي اشار اليها ايضا الدكتور محمد عمارة نقلا
عن مجلة البنتاغون في كتابه " المسألة القبطية ".. وفيها كذلك خطة
اسرائيل الاستراتيجية للثمانينات التي نشرتها مجلة كيفونيم سنة 1982 واعتمدها
الدكتور عصمت سيف الدولة في دفاعه عن تنظيم ثورة مصر سنة 1988 .. كما نجد تصورات
الصهيوني برنارد لويس لكيفية تفتيت الوطن العربي الى ما لا يقل عن 33 دويلة طائفية
وعرقية ، الى جانب الندوات التي نظمتها مراكز الابحاث الصهيونية في تل أبيب في 1990 و 1992
وكلها تبحث في اساليب تفتيت الوطن العربي على اساس مكوناته الطائفية والعرقية التي
لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات الانسانية ..
ولذلك فان السؤال
المطروح لا يتعلق بـ : هل نحن مع الديمقراطية أم ضدها .. ؟ السؤال اليوم كيف نحمي أمتنا من
مخططات التفتيت التي تداهمها ونحن نعمل في نفس الوقت على تحقيق الديمقراطية
والحرية ومقاومة الاستبداد ؟
في
الجانب الآخر ، نجد المشروع الاخواني عامة والمشروع الوهابي بشكل خاص اللذان
استفادا من وضع الاديان والحريات في اوروبا ، حيث لا تتدخل الدولة في المؤسسة
الدينية (المسجد) ، فوجدت تلك الجماعات فرصتها في تحويل المساجد ـ منذ الخمسينات
كما تبين الوقائع والتقارير ـ من مؤسسة دينية لممارسة التدين وآداء الفرائض
والمناسك المفروضة ، الى مؤسسات دعوية مزدوجة ذات اهداف سياسية تستغل الدين في نشر
الافكار التي تقف وراءها أطراف سياسية معينة ، لها مصلحة في ترويجها ، ليكون حاملي
ذلك الفكر ذراعها الذي يحمي وجودها
ومصالحها في الوطن العربي بشكل خاص .. وبالفعل فقد أصبحت تلك البؤر التي تأسست في
دول كثيرة مثل الشيشان وافغانستان وغيرها من دول البلقان ـ التي كانت تستقطب
اهتمام المسلمين وتعاطفهم ـ مواقع يرتد
منها الارهاب حاليا الى الوطن العربي مستهدفا
نسيجه الاجتماعي الذي يقوم عليه الوجود الفعلي للمجتمع .. وهذا فضلا عن المشاريع الاخرى الاممية والاقليمية
والشعوبية وغيرها ..
لا مجال اذن
للتشكيك في جدوى العمل القومي الممنهج فكريا والمنتظم جماهيريا والمفرز سياسيا على
الساحة ، في أي صورة كانت ، اقليمية او قومية ، غير أن الحالة الطبيعية هي ان تكون
الحركة القومية منسجمة كليا مع طبيعتها تلك ، أي أن تتحوّل من حالة التشتت والتعدّد
الى حالة الوحدة .. والمطلوب هو قطع الامتداد التلقائي للماضي في المستقبل ، من
خلال التدخل الواعي الذي يمكن أن يؤثر على سير الاحداث لكي تكون ـ بعد فترة زمنية محدّدة
ـ في اتجاه الأهداف المرسومة .. فان كان القوميون غير مؤهلين موضوعيا وهم في
أحزابهم الاقليمية لبناء الحركة العربية الواحدة على المستوى القومي " فلا
يكلف الله نفسا الا وسعها " ، ولكن هل هناك ما يمنعهم من التوحد داخل كل قطر
على اساس ثوابت العمل القومي ، ثم يحكّموا الديمقراطية بينهم ، ويجعلوا المصلحة
القومية هي العليا ، بحيث لا ينفصلون بعد ذلك مهما كانت الاختلافات الفرعية ..؟؟
وهل هناك ما
يمنعهم من التشاور ، والتقارب ، والتنسيق ، وبناء التحالفات ، وتبادل الخبرات ، وتقريب وجهات
النظر ، وطرح محاور نضالية مشتركة .... وغيرها من المهام في المرحلة الحالية ..؟؟
واذا لم تكن هذه
المهام من مشمولاتهم فما هي مهمة الأحزاب القومية اذن خلال هذه المرحلة ..؟؟
هنا نجد توضيحا يسوقه الدكتور عصمت سيف الدولة في هذا
السياق فيقول : " مهمة الحزب القطري أنه يدرب نفسه على كراهية وعداء كل ما هو
اقليمي .. فمهمّته الكبرى هي تسهيل عملية الوحدة عندما يأتي أوانها ، وعليهم
اذابته ، ( يقصد هذا الحزب ) .."
في الواقع الراهن
للاحزاب القومية ، قد تكون هذه المهمات مهمّات جماهيرية بامتياز ، حين تتولى القواعد
المؤمنة بالوحدة العمل على تغيير الواقع من داخل الاحزاب القومية ذاتها على المدى
القريب ( العاجل ) والبعيد (طويل المدى) ، وذلك بالاعلان صراحة عن رفض الانقسام وتجريمه وادانته ، وفتح
نقاشات داخلية حول هذا الموضوع ، ومد جسور التواصل مع الأحزاب القومية الاخرى في
القطر وخارجه ، وفتح نقاشات جدية معها لخلق حالة مماثلة داخلها ، مع تجنب التصادم
مع الحالات الشاذة المنفلتة ، ومحاصرة الخلافات وعدم تضخيمها في وسائل الاعلام .. ثم
التنسيق قاعديا لانجاز مهمات نضالية مشتركة في المناسبات القومية أو غيرها داخل
الأقطار ، وحضور التضاهرات التي يدعو لها اي حزب قومي آخر .. الى ما لا نهاية من المهام التي من شأنها ان
تؤدي الى كسر الحواجز والعزلة ، وتغيير العقليات ، واشاعة روح الوحدة ، بين
القوميين ، التي من شأنها أن تدفعهم للوحدة التنظيمية الفعلية الخ .. ثم عليهم ان
يتبيّنوا درجة الاختلاف الموجودة بينهم ، ان كانوا يختلفون في القضايا الجوهرية
التي تمسّ من ثوابت الامة ، والتي يستحيل دونها اللقاء ، ام في التفاصيل والفروع
الخاضعة بطبيعتها لتغير الظروف والاجتهادات التي لا ينتهي الخلاف حولها ، والتي لا
يقدر على حسمها الا الجدل بين المختلفين .. !!
فهل هناك قوميين
مثلا لا يعتبرون وجود الانظمة الاقليمية عقبة أمام تطور الامة حتى وان كانت أنظمة
ديمقراطية .. ؟؟
وهل يوجد بين
صفوفهم مناضل قومي واحد يسلم بشرعية الوجود الصهيوني ، أو باي نوع من الاحتلال
الاجنبي .. ؟؟
وهل يمكن ان نعثر
على واحدا فقط من القوميين التقدميين يقبل ببقاء التجزئة ، أو بالظلم والاستبداد
والاستغلال والفقر دون اجتثاث لكل هذه الأمراض من الوطن العربي باكمله .. ؟؟
أبدا ..
وهو ما يعني أن
القوميين ـ مهما بلغوا من الاختلاف ـ فهم لا يختلفون في مواقفهم الاستراتيجية التي
تمثل ثوابت المشروع القومي ، سواء المتعلقة بقوى العدوان ، أو بالأنظمة الاقليمية
، أوبالصراع العربي الصهيوني ، أو بقضايا الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وغيرها
..
أي أنهم يختلفون ـ
في الغالب ـ في ترتيب الاولويات ..
وتحديد الآليات ..
طبعا مثل هذا
الاستنتاج يشجع على القول بأن امكانية البناء على أرضية الثوابت في ظل المناخ الديمقراطي
أمر ممكن ، وهو لا يحتاج الا الى المبادرة الصادقة التي يجب أن تتوفر لها عدة مقدّمات
منها ..
ـ أولا : التخفيض من الانا ، وفائض الرضا عن النفس في
ظل ما يقدّمه كل مناضل قومي في موقعه ، وهو يرى التنظيمات القومية تشترك ـ كل على
حدة ـ في مضمون الممارسة المناقض لمنطلقاتها جميعا ..
ـ ثانيا
: ضغط قاعدي جماعي داخل كل فصيل تعبيرا
عن الرغبة الفعلية في الخروج من الازمة ..
ثالثا : فتح نقاشات بناءة بين الفصائل القومية للخروج
بحلول عملية تنهي حالة الانقسام داخل كل قطر ..
رابعا : طرح مبادرات جدية على مستوى عربي غير مقتصرة
على التنظيمات تتجاوز فكرة المؤتمر القومي النخبوية ، الفاشلة .. وتحديد ميثاق
للعمل القومي يضم قراءة شاملة لطبيعة المرحلة ، ويحدّد آليات ومهام للعمل على
المستوى القومي في ظل الوضع الراهن .. من اجل تحقيق الحرية والديمقراطية والعدالة
الاجتماعية ، مع المحافظة على وحدة الوجود القومي ، وهي القضايا الرئيسية التي
تمثل ثوابت العمل القومي في هذه المرحلة كحد أدنى للالتقاء والنضال المشترك في
غياب الوحدة التنظيمية .. بكل ما يترتب عن ذلك من تفاعل ايجابي وتنسيق متواصل على
المستوى القومي والاقليمي ، من خلال اطر دائمة ومدروسة تساهم بشكل جدي في اشاعة
روح التضامن والاخوة الحقيقية ، كخطوة أولى على طريق الهدف المنشود ، الذي يستحيل
تحقيقه دون خطوات تمهيدية تتم على مراحل ، قد تساهم فيها اجيال متعاقبة تحتاج الى
تجارب وحدوية ولو بسيطة ، بدل التشرذم والتشتت الذي لا يزيدها الا يأسا وإحباطا ..
وهو ما يمكن التعبير عنه باختصار " فك العزلة " بين الفصائل القومية
التي تتصرف ـ في بعض الأحيان ـ كأحزاب
متناقضة ايديولوجيا وهي حقائق قائمة في الغالب على وهم " الوحدة الفكرية
" الشاملة ، والتطابق الكلي في الافكار ، والتي تحوّلت تدريجيا الى أمراض
مستفحلة بسبب التركيز المفرط على "
المتشابه " بدل " المحكم " .. !!
ـ خامسا
: تسمية كل خطوة بمسمياتها حتى تتبين الجماهير العربية الخيط الابيض من
الخيط الاسود .. فالتنسيق ، والتكامل والالتقاء على مهمات نضالية غير التحالف ، والتحالفات المرحلية غير الجبهات
، ووضع المواثيق والاتزام بثوابت مشتركة غير الوحدة التنظيمية الفعلية بين فصيلين
أو أكثر .. كما أن التنظيم القومي غير هذا
كله الخ ..
ولعلنا في هذا
الصدد نستفيد مما كتبه الدكتور عبد الله عبد الدايم في دراسة بعنوان " فشل
العمل الوحدوي ولم يفشل مشروع الوحدة " يقول في هذا الصدد عن الالف التي تسبق
الباء في مجال العمل الوحدوي : " مهمة الحركة القومية أن تحوّل الامة الموحدة
من حال الوجود بالقوة ، على حد تعبير ارسطو ، الى حال الوجود بالفعل ، والامة
العربية بحكم مقومات الوحدة الموضوعية الراسخة فيها ، موجودة بالفعل ، وقائمة هناك
في أعماق المشاعر لدى ابناء الشعب العربي ومتجلية في حتمية التكامل الاقتصادي
والاجتماعي والثقافي والسياسي الذي تفرضه بنية الوطن العربي وطبيعته وحاجته . وليس
من جديد القول أن نؤكد حقيقة بديهية وهي انه ما اجتمع لأمة مثل ما اجتمع للامة
العربية من مقومات الوحدة . سوى ان هذا الوجود الموحد بالقوة ، بحكم تلك المقومات
وبحكم حاجات مستقبل الوطن العربي كله ومستلزمات تقدم كل قطر من اقطاره ، لا ينقلب
الى وجود بالفعل سهوا رهوا أو بعصا ساحر ، أو بقرار سياسي عاجل .. "
وبعد أن يعدّد
الصعوبات في الواقع ، يقول متحدثا عن مهمات الحركة القومية في تهيئة الأرضية وتوفيرالمناخ
الوحدوي الملائم لمثل تلك المهمات الصعبة ، معوّلا على نشر الوعي ، ومراكمة النضال
الوحدوي : " مهمة النظرية القومية والحركة القومية أن تظيف الى المشاعر
الانفعالية والعاطفية المستقرّة في نفوس الكثرة الكاثرة من ابناء الشعب العربي
والتي تشعرهم بوحدة وجودهم ومصيرهم ، وعيا عقليا وعمليا محركا من جانب ، ونضالا
فكريا سياسيا مستمرا من جانب آخر . أما الوعي العقلي العملي، فسلاحه بالدرجة
الأولى أفكار وانظار ودراسات تظهر عمق وجذور الوحدة بين أبناء الشعب العربي ،
وتكشف عن تكامل الوجود العربي ووحدة مصيره ، وتضع بوجه خاص أمام ابناء الشعب
العربي الصورتين الممكنتين لذلك الوجود : صورة الوجود العربي في حال استمرار
التجزئة ( وهي صورة مظلمة قاتمة تكاد تكون عين الصورة التي يريدها الاستعمار و
تريدها اسرائيل ) ، وصورة الوجود العربي في حال التكامل والتضامن والوحدة ( وهي
وحدها القادرة على التغلب على الطريق المسدود الذي كادت تصل اليه الدول القطرية ...)
"
كما يظيف الدكتور
عبد الدايم الى ذلك عدة نواحي اخرى منها العوامل النفسية فيقول : " ولعل ابرز
وسائل النضال المتصل من اجل بناء الوحدة ، اقتلاع عوامل الياس من نفوس الجماهير
العربية ، ويتم ذلك بوجه خاص عن طريق التاكيد على أن العمل من اجل الوحدة عمل طويل
النفس ، عمل يغالب عوامل موضوعية قائمة ، وأن فشل تجارب الوحدة لا يعني فشل مبدأ
الوحدة ، بل يؤكد أهمية العمل العقلاني الطويل في سبيل التغلب على العوامل التي
ادت الى فشل التجارب السابقة ... " لان التاريخ كما قال : " لا يعرف أمة
لم تعرف الفشل .. " الخ .. ثم يضرب لنا مثلا عن النجاح ، كيف استطاعت الحركة
الصهيونية تحقيق اهدافها وهي مجرد حركة متكونة من الشتات ...
( القدس ) .
( القدس ) .
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق